نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا

| 10 نوفمبر 2022 |
على بُعد أيامٍ قليلة، وعلى أرض الثقافة العريقة والتعدُّد الثقافي والعادات والتقاليد التي تمتزج بالابتكار والشغف بكرة القدم سترحِّب قطر بكلِّ حفاوة بالجماهير من مختلف بقاع العَالَم لحضور نسخة استثنائية من بطولة كأس العَالَم.
إعداد نسخة لم يسبق لها مثيل من كأس العَالَم يعني بالنسبة لدولة قطر المضي قدماً في تحقيق رؤية قطر – 2030، والاستراتيجيات التنموية المُرتبطة بها، والتي، من بين ما ترتكز عليه، العمل على الإثراء الثقافي والتميُّز الرياضي، ضمن سياسة تنموية وتوجيهات حكيمة تعتبر: أنّ الثقة بالهويّة الوطنيّة والتمسُّك بالقيم الأخلاقيّة والدين الإسلامي الحنيف، ينسجمان مع العقلانيّة في التخطيط الاجتماعي والاقتصادي، والانفتاح على العَالَم، والنظرة الكونيّة الإنسانيّة في قضايا العدالة وحقوق الإنسان. وهذا يعني أيضاً التسامح مع العقائد الأخرى، وقبول التعدُّدية والتنوُّع في عالمنا بوصفه سُنّةَ اللهِ في خلقه.
وإنّ مرجعَ هذه القيم مترسخٌ في تقاليد الحكم وفي شيم القطريين المطبوعين منذ القديم بحُسن أخلاقهم وكرمهم وتواضعهم واحترامهم للآخرين… وليس من هدف للتنشئة والتربية أسمى من الأخلاق، التي ما فتئ حضرة صاحب السمو الشّيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، يحرص على التذكير بها في خطاباته، حرصاً من سموه على أن يجد الشاب معنى لحياته في ظروف الحضارة الاستهلاكية؛ مذكِّراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء في الميزان أثقل من حُسن الخُلق».
وإنّ تقديم نسخة استثنائية من كأس العَالَم هو أيضاً واجهة لإبراز مقوِّمات الدولة الحديثة التي تستجيب لمُتطلّبات العصر من جهة، ومن جهةٍ ثانية للتأكيد على أن هذه الاستجابة واقع نموذجي في ظلِّ الانتماء العربي الأصيل والعقيدة الإسلامية السمحاء، وهي بذلك استجابة واعية بضرورة أن يواكب التنمية الشاملة للوطن والمُواطن تطوُّر قيمي وثقافي من جهةٍ ثالثة.
لقد تشكَّلت صورة التنوُّع الثقافي عبْر التاريخ لتضع سياق كل زمن ضمن رهانات تدبير الثراء الإنساني في مناخ يسوده السِّلْم، والاحترام المُتبادل بين الثقافات في أفق استثمار هذا الثراء في عمليات التنمية المنشودة. وقد أدركت دولة قطر أهمية التوازن المطلوب في تدبير زمن التعدُّد في إطار خصوصيتها وتفاعلاتها مع العَالَم على جميع الأصعدة. فوضعت لتطلعاتها الثقافية واجهتين؛ تتمثَّل الأولى في التشبث بالتقاليد وجعلها قاطرةً لتنمية وجدان الشخصية القطرية، ووضعه بِقيَمِه وهويّته، في قلب التنمية الشاملة. والثانية في الانفتاح على الثقافة الإنسانية بما يحقِّق للجسر الرابط بين الوجهتين الأولى والثانية التوازن المطلوب بين الأصالة والحداثة. ومن هذه المُنطلقات شكَّل التحديث -مع المُحافظة على التقاليد- واحداً من التحدّيات الخمسة في الرؤية الوطنية (قطر – 2030)، ومن بين ما يترجمه هذا التحدّي حرص دولة قطر على ترسيخ الهويّة الوطنية من خلال إبراز خصوصيتها الثقافية. كما يترجم في الرؤية العامة، سمة ثقافية وذهنية ملموسة وفعَّالة في كافة المجالات والقنوات التي من شأنها أن تشكِّل جسراً مع بقية دول وشعوب العَالَم، وذلك من منطلق اعتبار الحفاظ على الهويّة يتأتى بالاستثمار في المُقدرات الوطنية؛ (الثقافية والتراثية والسياحية والبيئية والرياضية…).
تقديم نسخة استثنائية من كأس العَالَم معناه أيضاً عرض صورة بانورامية لنموذج تنموي عربي خطط لمجالاته الحيوية استراتيجيات شاملة ووضعها على السكة الصحيحة، بما في ذلك مجال الثقافة، الذي أولته الرؤية الوطنية أهمية واضحة من حيث، الدعم والتوجيه، بحفظ العادات والتقاليد الموروثة، وإبراز طابع التسامح والتضامن وعمل الخير في الأخلاق القطرية النابعة من القيم الإسلامية، وفي الوقت نفسه تسخير هذه القيم للتفاعل مع المُجتمعات والثقافات الأخرى.
واستناداً إلى جاذبية هذا النموذج القائم على الاتزان والعقلانية والواقعية، تتمتع دولة قطر بعلاقاتٍ وثيقة مع باقي دول وشعوب العَالَم، وهي علاقات قائمة على الثقة والصداقة والاحترام المُتبادل. وهي المبادئ التي ما فتئت تساهم في اختيار قطر مقراً لاستضافة مُؤتمرات دولية وأحداث وفعاليات مهمَّة في مختلف المجالات، ويشكِّل حدث استضافة بطولة كأس العَالَم تتويجاً لهذا المسار الطويل في تكريس ملامح السمة الوطنية القطرية، والتي تنعكس بوضوح في مختلف الواجهات سواء كانت ثقافية، مدنية، إنسانية، أو سياحية ورياضية، مقدِّمة نموذجاً فريداً على المُستوى العَالَمي بالاستثمار في المجالات الأكاديمية والتعليمية وفي تطوير البنى التحتية الثقافية التي تضطلع بالاستثمار في المعرفة وفي قدرات الإنسان بقدر ما توفِّر كذلك مناخاً لتبادل التجارب والخبرات بين طيفٍ فريد من الطلاب ذوي الجنسيات والانتماءات الثقافية والاجتماعية المُختلفة.
وإنها لنسخة استثنائية في عيون العَالَم، وهي جديرة بالاستثناء بالنسبة لبلد أضحى، بحكم تعدُّد الثقافات الوافدة إليه، مرآة عاكسة لجميع الهويّات، وبذلك تكون هذه النسخة على أرض الثقافات؛ ثقافة قطرية تركها الأجداد جذوراً حضارية تتأصّل بها الأجيال اللاحقة، لتصبح بدورها مغذياً أساسياً لتلك الحركة المُستمرة في رغبة الانتماء الحضاري إلى العَالَم. وفي هذا المسار تبرز غاية جوهرية من نسخة استثنائية لا شكّ أنها ستلهم العَالَم لكي يبقى الإنصات العميق لثقافة الآخر جسراً ممتداً لا حدود له.
***
في تناغُم بين الأصالة والحداثة، يبقى المَلمحُ الفريد والمُبهر في كافة استادات كأس العَالَم (FIFA) قطر 2022، هو البُعد الثقافي لتصاميمها المُستوحاة من عراقة الثقافة القطرية والعربية، فمن بيت الشعر الذي سكنه أهل البادية الذين عاشوا مرتحلين في صحراء قطر، اتخذ استاد البيت شكله المثالي مجسِّداً خيمة مزيَّنة بنقوش السدو النابضة بالحياة لتعكس حفاوة الترحاب والكرم، وتُعيد إلى الأذهان تراث الأجداد. ومن الخطوط الرشيقة والمُنحنيات السلسة التي ميَّزت أشرعة المراكب التقليدية، يعود بنا استاد الجنوب إلى الماضي البحري الذي عُرفت به مدينة الوكرة. أما استاد الثمامة فيحاكي تصميمه الدائري، الذي أبدعه المُهندس القطري إبراهيم محمد الجيدة، شكل القحفية، وهي القبعة التقليدية التي يُعَدُّ ارتداؤها قاسماً تراثياً مشتركاً بين جميع بلدان الوطن العربي. كما نجد في واجهة استاد أحمد بن علي المُتجدِّد أشكالاً هندسية متوهِّجة من الزخارف البديعة التي اشتهر بها فنُّ العمارة الإسلامي عبر العصور، ومنحنيات من الكثبان الرملية تصوِّر جوانب من الثقافة والجمال الخالص للصحراء القطرية. وعلى غرار ذلك يحتفي استاد المدينة التعليمية بتراثٍ حضاري بديع يروي فصلاً من تاريخ الفنّ المعماري الإسلامي. فيما يقدِّم استاد لوسيل فكرة نوعية متمثلة في تصميم يستوحي أوعية الطعام والآنية التقليدية وغيرها من القطع الفنيّة التي استُخدمت على مدى قرون في الوطن العربي. بينما نجد استاد 974، بأسلوبه المُعاصِر والمُبهر يستوحي تصميمه من الإرث البحري والتجاري العريق لدولة قطر.
هكذا، وعلى أرض الثقافة العريقة والتعدُّد الثقافي والعادات والتقاليد التي تمتزج بالابتكار والشغف بكرة القدم سترحِّب قطر بكل حفاوة بالجماهير من مختلف بقاع العَالَم لحضور نسخة استثنائية لم يسبق لها مثيل من كأس العَالَم؛ فهدف دولة قطر كمُستضيفة لبطولة كأس العَالَم 2022، لن يقتصر على نشر هذه اللعبة الجميلة في مختلف أنحاء العَالَم، من خلال الإرث الذي ستخلفه هذه الاستضافة، ذلك أن الدافع الرئيسي وراء تقدُّم قطر بملف استضافة كأس العَالَم، تمثل في جعل الرياضة أداة للتنمية المُستدامة تماشياً مع رؤية قطر الوطنية 2030، خاصة فيما يتعلَّق بالاعتماد على التقنية الخضراء، وتعزيز فرص السياحة والأعمال، من خلال مشاريع تحفِّز التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والبشرية، والبيئية، وتقدِّم شكلاً استثنائياً من المُنشآت الرياضية المُستدامة.
وتشكِّل الاستدامة علامة بارزة في كلّ استاد من استادات بطولة كأس العَالَم (FIFA) قطر 2022، فقد وضعت قطر التزامها الثابت باستضافة بطولة صديقة للبيئة ومتوافقة مع أحدث معايير كفاءة الطاقة، حيث من المُتوقع أن تكون البصمة الكربونية لبطولة كأس العَالَم (FIFA) قطر 2022، أقلّ بكثير من معظم النسخ السابقة. وفي هذا الصدد حصل استاد الجنوب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، على تصنيف الاستدامة من الفئة (أ) من المنظومة العَالَمية لتقييم الاستدامة (جي ساس)، وهي شهادة تعكس الجهود المبذولة في انتهاج تقنيات صديقة للبيئة، سواء بإعادة تدوير المواد أو بانتقاء مواد بناء تراعي الحفاظ على البيئة، وتصاميم ديناميكية تتحكَّم بدرجات الحرارة لتخفيف العبء عن أنظمة التبريد المُتطوِّرة في الاستاد، بالإضافة إلى تخصيص مساحات خضراء واسعة كجزءٍ أساسي من خطة تصميم المناطق المُحيطة بالمُنشآت الرياضية المُخصَّصة لهذا الحدث العَالَمي.
بهذه الرؤية تتطلع قطر للترحيب بضيوفها من كافة أنحاء العَالَم لاستكشاف ثقافة أصيلة سعت دولة قطر إلى تجسيدها في عمارة منشآتها الرياضية والبُنى التحتية المُخصَّصة لاستضافة هذا الحدث المُهمّ، في سياق رؤية شاملة تهدف إلى صون الثقافة القطرية بعاداتها وتقاليدها المُتوارثة، وإلى إبراز الهوية القطرية والطابع المُتسامح للمُجتمع القطري، وقيمه الإسلامية المُتمثلة في العدالة والتضامن الإنساني.