نشأة الفَنّ التشكيلي في قطر

| 10 نوفمبر 2022 |
حصيلةالفَنّ التشكيلي في قطر غنيّة ومتنوّعة بما يجعلها بارزة في المشهد التشكيلي داخلياً وخارجياً، ومثيرةً لفضول المتـتبـع والنـاقــد. لكن في المقابل تُعاني التجربة التشكيليّة في قطر من نقص المُواكبة النقديّة والجماليّة، ومن ثم عدم انتباه الجمهور العربي إلـيـها والاهتمام بخصوصيتها الجماليّة والثّقافيّة. في هذا السياق يحمل هذا الملف، في جزئه الأول، عنواناً مرجعيّاً: (الفَنّ التشكيلي في قطر.. من النشأة إلى الآن) وقد حصرنا مجمل محاوره في الجانب التوثيقي بالتركيز على جيل الروّاد، نفتح معهم أرشيف البدايات بغية الوقوف على أهم المراحل والفترات التي شيّدت التجارب التشكيلية القطريّة من النشأة وإلى الآن. ونتتبع المسارات المُتعدّدة التي اختارها مجموعة من الفنانين في توجّهاتهم الأكاديمية والفنّيّة، كما نستعرض دور المؤسّسات الرسميّة والمراكز والبنى التحتيّة في تشجيع الحركة التشكيليّة داخل قطر وجعلها ممثلة في محافل الفَنّ العالميّة.
(1)
حيوية «الجسرة»
لا يحسن الدارس التعرّف إلى تجارب الفنّ الحديث الأولى في قطر، وعلى مسارات فنانيها الخصوصية، من دون الحديث عن «الجسرة» كمنطقة، وعن ناديها كمنتدى للحيوية القطرية، على اختلافاتها.
كانت الدوحة تتوزّع على أحياء معروفة: البدع والجسرة وسوق واقف ومنطقة شرق. بين الجسرة والبدع يقع قصر الحاكم، كما يروي الدكتور يوسف عبيدان*، وتقع في منطقة السوق الميناءُ والمحكمة الشرعية والسوق نفسه: «كانت هذه المناطق تعجُّ بأهل البادية الذين يأتون لتصريف منتجاتهم من الألبان ومشتقاتها وخيرات المطر، فتكون سوقاً رائجة. في الجسرة عاشت عائلات كبيرة، وكانت تربطها بحكام البلد وبالقبائل الأخرى علاقات وثيقة.
تقع الجسرة، في وسط الدوحة، على مقربة من «سوق واقف» الشهير، وهي منطقة شكلت التقاء عدد من الفنانين، مثل: جاسم الزيني ويوسف أحمد وحسن الملا وعلي حسن، وسلمان المالك، ومحمد الجيدة، وغيرهم. ولقد جمعتْ بينهم قصص الطفولة، بطبيعة الحال، بل أعمق منها، وهو الولع بالفنّ، ما سيكون له أثره الحاسم في توطيد الصلات بينهم. هذا ما ساعدَهم، من دون شكّ، على تأسيس أول «جماعة فنيّة» في قطر («الأصدقاء الثلاثة»)، أو على تأسيس «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية»، وغيرها من الإنجازات التي جعلت من الجسرة البيئة الأولى للفنون التشكيلية في قطر. ولقد وجدتْ هذه الحيويةُ في «نادي الجسرة» إطاراً جامعاً ومنشطاً، بل محفزاً لها: جمعتْ بين هواة الفنّ أنشطةُ النادي المختلفة، من كرة القدم، التي مارسها غالبيتهم (حتى إن أحدهم، علي حسن، بلغ حدود الاحتراف، في «نادي الوحدة» من الدرجة الثانية)، إلى تنظيم أنشطة مسرحية وثقافية، فضلاً عن تنظيم معارض فنيّة مختلفة. كما تولى جاسم الزيني، بمجرد عودته من بغداد إلى الدوحة، مسؤولية التنشيط الثقافي في هذا النادي.
منذ خمسينيات القرن الماضي ظهر عدد من النوادي، مثل: «نادي العروبة»، و«نادي النصر» وغيرهما. أما «نادي الجسرة» فتميّز منذ منتصف السبعينيات بوصفه «نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي»، وأخذ على عاتقه بث رسالة ثقافية واجتماعية، وقام بجهود بيّنة لتعريف العالم الخارجي بالتراث القطري من أدب وفنون عن طريق المحاضرات وعروض الفرق الفنيّة الفلكلورية.
كان للزيني دور أول في جميع خطوات الفنّ في قطر: إلى دوره المذكور في النادي، عيّنتْه الحكومة في العام 1968، بعد عودته من الدراسة في بغداد، مساعد مفتش للتربية الفنيّة؛ ثم انتدبته للعمل في «متحف قطر الوطني» لتجهيزه، فعمل مع رئيس اللجنة يوسف جاسم الدرويش على تجميع مقتنيات المتحف الأولى، من ذهب وملابس وسفن وغيرها: «كنا ننتقل أينما كان في قطر، إلى بيوت الناس، ونفحص الموجودات ونقيِّمها». كما كان له دور أساس في تأسيس «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية» … وكانت حياة الفنّ، حينها، تقتصر، حسب الزيني، على معارض قليلة تنتظم في «فندق الخليج»، أو في «متحف قطر الوطني»، أو في مقرّ «الجمعية»، أو في ناديَي «الجسرة» و«الغرافة»، من دون أي صالة عرض خاصة.
كان بيعُ الأعمال الفنيّة محدوداً، ولا يتجاوز سعر اللوحة الواحدة خمسة آلاف ريال (وهو السعر الذي دفعته الحكومة للزيني لقاء إحدى اللوحات). باع الزيني عمله الأول بعد تكليفه من وزارة الإعلام إعداد لوحة للشيخ زايد آل نهيان، في مناسبة انعقاد اجتماع «مجلس التعاون» في الدوحة. كما كلّّفته وزارة التربية بمجموعة من الجداريات، عدا شراء الحكومة لعدد من أعماله في هيئة «هدايا حكومية» خاصة بزيارات الأمير الرسمية إلى عدد من الدول العربية..
(2)
تجارب أولى
كان تأسيس جمعية للفنانين فكرة طبيعية، خاصةً بعد مثيلات لها في الكويت (1968)، والبحرين (1971) وغيرهما. وبانت الحاجة إلى وجودها عند عدد من الفنانين، بعد أن كانت قطر تتمثل في المعارض التشكيلية العربية والمؤتمرات الفنيّة في هيئة «مراقب». كان اجتماع الفنانين التأسيسي في قاعة المعرض الدائم في «نادي الجسرة»، وحصلت «الجمعية» على الترخيص القانوني في العام 1974 مع تواقيع الفنانين: يوسف أحمد، محمد علي الكواري، سلطان السليطي (من مواليد العام 1945)، سلطان الغانم (من مواليد العام 1949)، حسن الملا، وفيقة سلطان، عيسى الغانم (من مواليد العام 1954)، يوسف الشريف (من مواليد العام 1958)، أحمد السبيعي، محمد علي عبد الله، عبد الله دسمال، سلمان المالك، محمد جاسم الجيده، ماجد المسلماني، علي شريف، سيف الكواري وفرج دهام.
تتابعَ، بعد ذلك، إنشاء المؤسسات الرسمية المعنية بالفنّ، مثل: «المركز الثّقافي» في العام 1976، الذي تولّاه محمد المناعي، ثم «إدارة الثّقافة والفنون» (قبل «المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث»، ثم «مركز الفنون البصرية»)، التي تولّاها ناصر محمد العثمان، بعد نقله إليها من وزارة التربية، بتكليف من وزير الإعلام د. عيسى الكواري: «جمعتُ حولي مجموعة من الفنانين الموهوبين، مثل يوسف أحمد وحسن الملا ومحمد علي عبد الله وغيرهم؛ وكنا نأتي بخبراء في المسرح والفنون الشعبية وغيرهما… كما بدأنا ننظّم عروضاً، ونشارك في معارض خارجية، وندعو فنانين للعرض في الدوحة. ثم أسسنا «المرسم الحر» بإشراف الفنان المصري الدكتور جمال قطب، واهتممنا بالنشر الأدبي وغيره»، على ما يروي العثمان.
وهي سياسات وجدت أيضاً في تنظيم معارض دولية في قطر فرصة لتحسين الذائقة الجمالية والفنيّة العامة، ليس للفنانين والموهوبين وحسب، وإنما لسائر السكان. ويمكن في هذا السياق ذكر المعارض التالية: «معرض اليونسكو لفنّ الرسم»، العائد إلى فنانين أوروبيين بين العام 1900 والعام 1925؛ و«معرض مخطوطات ليوناردو دافنشي» في فبراير/شباط من سنة 1972؛ و«معرض الألوان المائية» في العام 1976 في قاعة المدرسة الثانوية؛ و«معرض الفنون اللاتينية» و«الصور الفارسية» في العام 1980؛ و«معرض الفنون الإسلامية الجوال» في العام 1986 وغيرها.

هذا التعرّف إلى المسارات الفنيّة لا يكتسب مضامينه الفعلية من دون الاقتراب من تجارب أعداد من هؤلاء الفنانين الأوائل، حيث إن كل تجربة اتسمت بعلامات ودلالات، ما يشير إلى التجربة نفسها، وإلى الحركة ككل.
جاسم الزيني انتقل، كما سبق القول، إلى القاهرة، وبعدها إلى بغداد، من دون أن يقوى حينها على تخيُّل المصاعب التي تنتظره: «ما كنتُ قد اعتدت بعد على قراءة كتاب من 300 صفحة…». إلّا أن ما خبره في الصف، مع أساتذته، من مهارات، وما اطلعَ عليه من تجارب فنيّة في الكلية أو في صالات العرض، كانت تعوض، بل تختصر قروناً وقروناً من الانعزال عن عالم الفنّ في العالم، بما فيه عن العالم العربي. عرف الزيني بين أساتذته الفنان العراقي الرائد، فائق حسن، وهو أستاذ أجيال من الفنانين العراقيين والعرب، بعد عودته من باريس، ومن «مدرسة الفنون الجميلة» فيها: «تعلمتُ منه خصوصاً العلاقات بين الألوان، والتدرج بينها. كما أحتفظُ بلوحة، عملتُ عليها في بغداد تحت إشرافه، وفيها لمساته و«تصحيحاته»، التي أبقيتُها مثل أثر لا يفنى». كما عرف الزيني فوق مقاعد الدراسة طلاباً عراقيين سيكون لهم شأن في الفنّ، مثل: سلمان عيسى وخالد النائب وغيرهما.
هذا ما خبره حسن الملا، في بغداد نفسها، بعد أن نصحه محمد عيسى الجارو، الذي كان يدرس علم الاجتماع في بغداد، بالذهاب إليها لاستكمال دراسته… وكانت قد تكشّفت له موهبة الملا الفنيّة بعد أن رآه يرسم في أحد المقاهي في الدوحة. كان الملا قد أنهى دراسته في «التربية الفنيّة»، وأصبح مدرِّساً لها في الخور منذ العام 1971، قبل أن يعمل بنصيحة الجارو، ويلتحق في السنة التالية بـ«أكاديمية الفنون الجميلة». تتلمذ الملا على أساتذة مبرزين في الفنون كما في تعليمها، من أمثال: حافظ الدروبي، وعطا صبري، وفائق حسن، الذي تعلّم منه فنون اللون خصوصاً، حسب قوله. ومن أهم ما تعلّمه الملا من فائق حسن هو التصوير في الهواء الطلق، الذي كان الفنان العراقي قد تعلّمه في باريس، اقتداءً بالمدرسة الانطباعية التي استساغ روّادها الذهاب إلى «باربيزون» (Barbizon) أو «أوفير-سير-واز» (Auvers-sur-oise) وغيرهما من المدن الفرنسية، أو إلى ضواحيها، للتصوير ابتداء من لحظة معاشة، ضوئية وانفعالية، في مكان بعينه.
هذا ما سيبادر إليه في قطر «الأصدقاء الثلاثة»، أي: يوسف أحمد ومحمد علي عبد الله، فضلاً عن الملا الذي يتحدّث عن تجربتهم: «كنا نرسم أمام الناس، وكانوا يتفاعلون معنا. كنا نأمل أكثر من التصوير الحي، وهو إيصال فكرة الفنّ إلى الناس. ثم كنا نقوم بعرض أعمالنا على الجمهور، ونفرح بالدهشة التي تظهر على وجوههم، إذ يرون واقعهم بعيون الفنّ، بعيون مختلفة».
اشترى الفنانون الثلاثة، لهذا الغرض، باصاً صغيراً، كانوا ينتقلون به من الدوحة (حيث عرضوا أعمالهم في «سوق واقف»)، إلى الوكرة والخور وغيرهما، حيث صوروا وعرضوا أعمالهم أيضاً. وكان الثلاثة قد التقوا، إلى جانب ذلك، في إطار العمل الوظيفي، إذ عملوا معاً في «إدارة الثّقافة والفنون»، فتكلّف أحمد بالفنون التشكيلية، والملا بالمعارض، وعبد الله بالحرف الشعبية.
هذا ما يذكره يوسف أحمد بدوره، من دون أن يغفل عن مشاهد باكرة، تعود إلى بيته، إلى الفحم المستخرج من موقد النار، الذي كان يأتي بحطبه إلى أمه، لكي تعد مأكولات العائلة. كان الفحم قلمَه الفني الأول، خطاً ورسماً، فوق الجدران، قبل أن يتعرّف إلى علبة الألوان المائية الأولى (12 لوناً، وهي من ماركة- Pelikan -، بيليكان، الألمانية). كما يتذكر الصور الفاتنة، الغريبة عن بيئته، التي وقع عليها في روزنامة بريطانية تصوّر طيوراً وزهوراً؛ أو صوراً قريبة منه وقع عليها في مجلات: «صباح الخير» و«آخر ساعة» المصريتين، و«الصياد» اللبنانية وغيرها، في «مكتبة العروبة»، التي افتتحها عبد الله حسين نعمة، وكانت أول مكتبة تجارية في الدوحة. كما لا ينسى خصوصاً الميكروفون، الذي اشتراه له والده، بناءً على طلبه، والخطب والتمثيليات التي كان يقوم بها مع رفاقه، في «الفريج»، أو في «نادي الجسرة»، بعد وقت.
كما يحفظ يوسف أحمد كذلك للقاهرة مكانة خاصة في إعداده الثّقافي أو الفنّي، بعد أن وصل إليها في العام 1972، إذ كانت المدينة غنيّة وعامرة بحيويتها المتعدّدة والمتنوّعة، وتعرَّف فيها إلى أكثر من فنان، مثل حسين بيكار، وخصوصاً الفنانَين يوسف سيده وجاذبية سري، اللذين كان لهما أثر بالغ في تكوينه الفني. وهو ما يمكن قوله في تأثره بمناخات ومناقشات «أتيليه القاهرة»، وبعروض «قاعة أخناتون» وغيرهما.
لا ينظر، اليوم، يوسف أحمد بعين السوء أو الامتعاض لدخوله إلى كلية «تربية فنيّة»، لا إلى كلية «فنون جميلة» في القاهرة، بينما كان شعوره مختلفاً عند فوزه بالبعثة الدراسية: كان تمنى وقتها دراسة الفنون الجميلة، إلّا أن المتاح في بعثات الدولة كان التخصّص في التربية الفنيّة، لإعداد مدرسين فنيين للتعليم في قطر؛ بل هددوه بسحب المنحة (135 جنيهاً في الشهر، فيما كان معاش والده لا يتعدى 150 جنيهاً) إن غيّر اختصاصه.
ينظر أحمد بعين الرضا، اليوم، إلى ما حصَّله في كلية التربية الفنيّة، إذ أتاحت له درس خامات متنوّعة، غير فنّ القماشة الأساسي في تكوين طلبة الفنون الجميلة، فتعلّمَ مهارات الخزف والنحت والحفر، فضلاً عن التصوير الزيتي. وهو ما بلغ، في دراساته العالية في كاليفورنيا، نقلة أخرى، كانت أقرب إلى تأكيد هويّة الفنان، لا إلى تمرينات الطالب ودروسه، بعد أن جرَّب استعمال الخط العربي في العمل الفني (10 أعمال)، بالقلم الأسود، وفي مقاسات كبيرة.

(3)
المرسم الحر
أربعة طلاب فقط (جاسم الزيني، وحسن الملا، وسلمان المير، ووضحه آل ثاني)، من بين الفنانين الأوائل، درسوا الفنون الجميلة حصراً، بينما درس غالبهم التربية الفنيّة، كما بلغَ غيرهم الفنّ عبر سبل دراسية متعرّجة (إدارة أعمال، ديكور مسرحي، تاريخ ومكتبات…)، فضلاً عن طلبة «عصاميين». كما احتاج هذا الطالب أو ذاك إلى السفر إلى بغداد والقاهرة والرياض لمتابعة تحصيله الفنّي…
هذا ما سيتغير بعد تأسيس جامعة قطر، وتأسيس كلية التربية للبنين وللبنات، وبعد قيام قسم فيها لـ«التربية الفنيّة». وهو ما تعينَ في أجيال متتابعة من الخريجين، مثل: وفاء الحمد (من مواليد العام 1964)، وبدرية الكبيسي (من مواليد العام 1964)، وخولة المناعي (من مواليد العام 1964)، وجميلة آل شريم (من مواليد العام 1965)، وموزة جابر الكواري (التي تخرجت في العام 1994)، ونوال الكواري، وابتسام الصفار، وناهد السليطي، وسلوى آل شريم (من مواليد العام 1967)، وسيف راشد العرابيد (من مواليد العام 1973)، وأحمد الحمر (من مواليد العام 1974)، وأمل العاثم، وناصر علي السعدي (من مواليد العام 1975)، وصالح العبيدلي (من مواليد العام 1975)، ومحمد جنيد (من مواليد العام 1975)، وحصة أحمد المفتاح، وخلود محمد المهندي (التي تخرجت في العام 2001)، وعيسى الدوسري، وسعاد السالم، وفاطمة الشيباني، وآسيا القحطاني (من مواليد العام 1977)، وهنادي الدرويش وهدى عبد الله السعدي وغيرهم.
وهو ما ترافق أيضاً مع نشوء مؤسسة تدريبية للفنّ، بدت مثل بوابة تمهيدية لطلبة الجامعة، وهي «المرسم الحُرّ». وقد اتبعت قطر في ذلك- على ما يبدو- ما سبق أن شرعت به دولة الكويت، التي احتضنت ورعت مواهب كويتية عديدة، من دون أن تَخرج سياسة «المرسم» عن ضوابط كانت تريدها هذه الحكومة الخليجية أو تلك، وتحت إشراف عربي تحديداً.
انطلقت الفكرة من وزارة التربية والتعليم في نهاية الستينيات، وأبصرت النور في مطلع الثمانينيات. وتوزّعت أيام الدراسة في «المرسم الحُرّ» بين يومين للبنات (الأحد والثلاثاء)، وثلاثة للذكور (السبت، الاثنين والأربعاء)، بين الرابعة والسادسة مساء، على مدى السنة، في مبنى استأجرته وزارة الإعلام لهذا الغرض.
كان للخبير الفنّي في الوزارة، الفنان المصري الدكتور جمال قطب، دور أساس في إخراج الفكرة إلى حيّز النور، وإعداد البرامج التدريبية المناسبة لموهوبي الفنّ. كتبَ قطب حينها: «كان لزاماً علينا أن نعرف كيف نخاطب جمهورنا بلغة التشكيل. لا ننسلخ عنه، ولا نتعالى عليه من أبراجنا العاجية، ولا نهبط في الوقت نفسه إلى درجات الإسفاف والابتذال. وكانت هذه هي الأسس التي أقمنا عليها «المرسم الحُرّ» بالدوحة. نستقبل الشباب ذوي المواهب المتفاوتة، ثم نحاول جاهدين صقل موهبتهم في مساراتها الخاصة، دون تطرُّف أو افتعال أو هدم للمقومات القائمة الكائنة عندهم» (1).
كما كان للفنانة العراقية نجاح المدني دورها كمشرفة على المنتسبات إلى «المرسم»، وكتبت بدورها: «في 6 يونيو/حزيران 1980 كانت البداية النسائية في «المرسم الحُرّ»، والتي فتحت الآفاق لعدد كبير من الموهوبات (…). لا يعتمد «المرسم الحُرّ» على منهج دراسي مُعيّن مع المنتسبين، بل يشجعهم على المطالعة والتعرُّف إلى أصول فنّ الرسم، والمدارس الفنيّة، والأساليب المتعدّدة التي اتبعها الفنانون العالميون. كما أن للمحاضرات أثراً فعالاً في تنمية الناحية الثّقافية للمنتسبة في طرح الأسئلة» (م. ن.، الصفحة نفسها).
بلغَ من تشجيع الدولة لدور هذا «المرسم»، وللالتحاق به، أنها خصّصت رواتب مجزية للطلبة المنتسبين، فضلاً عن تأمين مدرِّسين أكفاء، وتأمين مشاركات الطلاب في معارض كانت تنظمها «إدارة الثّقافة والفنون». كما جرت استضافة فنانين قديرين لإجراء دورات تدريبية لمنتسبي «المرسم»، مثل الخطاط الأميركي محمد زكريا وغيره.
الدكتورة وفاء الحمد كانت في عِداد الدفعة الأولى التي تقدّمت إلى المؤسسة الناشئة، في العام 1982، وهي في المرحلة الثانوية، بعد أن شجعتها أمها على ذلك: كانت حصة الرسم في الثانوية تقتصر على ساعة واحدة فقط، ما لم يكن يكفي توثبها الفنّي، خاصة بعد أن شاركت في العام 1981 في معرض فنّي في «نادي الجسرة»، وقدّمت عملاً جمعَ بين الرسم والخط العربي، واستثار اهتمام الزوار.
تابعتْ الحمد في «المرسم» عِدّة دورات في: الرسم بالقلم الرصاص وألوان الباستيل والتصوير الزيتي، وأخرى في الخط العربي والخزف والزخرفة الإسلامية، بين العام 1981 والعام 1985. ثم انتسبتْ في السنة التالية: مريم عبد الله (من مواليد العام 1961)، وجميلة آل شريم وغيرهما. وممن انتسبن إلى «المرسم» أيضاً، ومارسن الفنّ بعد تحصيلهن هذا: حصة المريخي (من مواليد العام 1960)، التي ما لبثت أن أصبحت مشرفة على قسم النساء فيه… ولقد كان لقطب- على ما أفادت الحمد – دور كبير في تعليم المنتسبين أساسيات التصوير، فضلاً عن أنواعه من رسم بالرصاص، و«طبيعة صامتة»، و«موديل حي»، وتقليد الأعمال الزيتية لفنانين مشهورين…
الفنانة الحمد، التي كانت في عِداد الدفعة الأولى لـ«المرسم الحر»، كانت أيضاً، بعد سنة، في عِداد الدفعة الأولى في قسم التربية الفنيّة المفتتَح حديثاً في جامعة قطر: طالبتان في الدفعة الأولى (1986)، ثم ثمان طالبات في الدفعة الثانية، إلى أن بلغ العدد العشرين في دفعات تالية. وشمل التدريس مواد مختلفة، بين نظرية (تتصل بالتربية وتاريخ الفنّ ونقده)، وتطبيقية خاصة بممارسات الفنون المختلفة (رسم، تصوير، خزف، تصميم…).
غير أن الانتقال من «المرسم الحُرّ» إلى الدراسة الجامعية لم يكنْ سهلاً، على ما اعترفت الحمد: أشرف على تدريبهن في التصوير الدكتور جمال قطب، الذي كانت له نظرة كلاسيكية في الفنّ، بينما تولّى الإشراف الجامعي عليهن الدكتور الفنان محمود البسيوني، الذي كانت له آراء مُتجدّدة في الفنّ، قريبة من السوريالية والتجريد. هذا ما صدم الطالبات في البداية، لكن هذا التنوّع ما لبث أن أغنى تجربتهن. كما ساهم في التدريس الجامعي الأول: الدكتور الفنان نبيل الحسيني، والدكتور الفنان محمود كامل والدكتور علي المليجي وغيرهم.

(4)
سياسات وبعثات فنيّة
ما يمكن التعرُّف إليه في سِير العديد من آباء الفنانين الأوائل، ممن سيشجعون أولادهم على ممارسة الرسم، عندما ظهرت مواهب أولادهم في: شهادات مدرِّسيهم، أو في عرض أعمالهم الفنيّة الأولى في معارض، التي لم يكنْ وزير التربية والتعليم يتأخر عن افتتاحها. هذا ما كان يبدو- في حسابهم- مثل علامة مبكّرة ولامعة عن بلوغ الترقي الاجتماعي الأكيد. ولهذا بدت اللوحة، منذ طفولة هؤلاء الهواة-الفنانين، نافذةً مفتوحة على العالم، قبل أن تكون مفتوحة على عالم الفنّ نفسه.
هذا الانفتاح نفسه سيلقاه الدارس في عدد من سياسات الحكومة القطرية، بل هي التي سبَّبته في أحوال عديدة: قامت «إدارة رعاية الشباب»، على سبيل المثال، بإنشاء عدد من الأندية الرياضية، منها «نادي الجسرة» (الشهير حتى أيامنا هذه)، الذي لن يكتفي بنشاطه الرياضي، وإنما سينظم أيضاً عروضاً فنيّة ومحاضرات أدبية وغيرها. ويتضح من سِيَر العديد من الفنانين (جاسم الزيني، يوسف أحمد، حسن الملا، علي حسن، سلمان المالك، وفاء الحمد…) ما كان لهذا النادي- بالتحديد- من أثر عليهم، في رياضة كرة القدم عند بعضهم (مثل علي حسن وسلمان المالك)، وفي أنشطة الفنون عندهم كلهم. في هذا النادي أُقيمت المعارض الأولى، كما نُظّمت ندوات ثقافية شديدة الأهمية في تنمية ذائقتهم الثّقافية وصقلها. ثم تكفّل بهم، بعد العام 1976، «المركز الثّقافي»، الذي عُرف فيما بعد تحت اسم «إدارة الثّقافة والفنون»، وقام عمله على إقامة المعارض الفنيّة، وعلى تنمية المواهب وتشجيعها.
هذه المواهب نمت في المدرسة، قبل البيت والشارع والنادي. وهو ما يحتاج إلى نظرة قريبة من واقع التعليم الجديد والنظامي في قطر. وما أصاب قطر لا يختلف عما عرفته بلدان خليجية أخرى من نصيب في الفنّ، في النظام التعليمي الجديد. اشتمل هذا التعليم- بتأثر ظاهر بالمناهج التعليمية الأوروبية – على حصتَي «الرسم» و«الأشغال اليدوية». وهو الحديث الذي يبدأ به أي فنان قطري سيرته الخاصة، إذ تأكد في هذه الحصص من ظهور ولعه بالتخيل والتخطيط وعمل الأيدي وغيرها من المهارات الأولية. وكانت هذه الحصص محببة إلى هؤلاء التلاميذ بعد أن اقترح عليهم الأساتذة – وهم مصريون وفلسطينيون ولبنانيون وسوريون في الغالب – مواضيع مأخوذة من البيئة القطرية نفسها، مثل صيد السمك، والغوص على اللؤلؤ، والبيوت القديمة، وصيد الحباري، وحياة البدو وغيرها: «حتى إنهم أتوا بدجاج وبط إلى الصف لتمريننا على دقِةّ التصوير الحي»، على ما يقول يوسف أحمد؛ وهي الموضوعات التي سنجدها بعد وقت في أعمال أعداد من المصورين القطريين.
كما أعانت حصة «الأشغال اليدوية» الطلاب على تجريب مهاراتهم في تطويع المواد والخامات الطبيعية، من أسلاك وطين وورق وخشب وغيرها، ما سيكون له تأثيره عند بعضهم، ولا سيما ممن سيُقبلون على فنون الخزف والنحت وغيرها.
كانت التربية الفنيّة، في المنهج العام للتربية والتعليم في قطر، قد أقرّت بلزوم هاتين الحصتين في التدريس، بل نَشَطت الإدارة الحكومية في ما هو أبعد من ذلك، في ما كانت تتوخاه أو تسعى إليه، وهو تنظيم معارض لأعمال الطلاب الفنيّة، منذ العام 1961.
هذا ما كان يجتمع في معرض كبير يضمُّ نتائج جميع طلبة مدارس قطر، في «مدرسة قطر النموذجية للبنين»: خُصصتْ في هذا المعرض غرفة لكل مدرسة، وتكشفتْ فيها إبداعات الطلبة، ما جعل المعرض حديثَ المجتمع القطري في تلك الفترة، وما أوجد التفاعل بين ما أنتجه الطالب وبين أسرته: «كان الأب والأم بجانب العمل الفني الذي أنتجه ابنهما يناقشانه فيه ويتحاوران معه»، على ما تفيد إحدى الشهادات.
مَنْ يتابع أخبار هذه المعارض يتحقّق من أن بعض هؤلاء العارضين سيكون لهم شأن في الفنّ لاحقاً، مثل جاسم الزيني، الذي واظب على المشاركة؛ أو مثل سلمان المالك، الذي شارك وهو في الصف الرابع الابتدائي في معرض للطلبة أُقيم في صالة «قسم التغذية» بلوحة مائية: «المسحَّراتي»… إلّا أن طلبة آخرين شاركوا في المعارض من دون أن يستمروا في الفنّ، مثل: أحمد الخال، وعبد الواحد مولوي وغيرهما.
هكذا كشفتْ هذه الحصص الدراسية مواهب بعض الطلبة، أو شكّلت حافزاً لهم في هواياتهم. وإذا كان جاسم الزيني قد نسي اسم أحد أساتذته من المصريين، فإنه يتذكّر الخطاط محمد علي المحمود، الذي أتى به الحاكم الشيخ علي والوزير جاسم الدرويش من الشارقة. ويذكر يوسف أحمد المدرس الفلسطيني حسن فلفل، الذي تعرّف في صفه إلى أوليات التصوير… ويذكر فرج دهام المدرس الفلسطيني خالد نصر، في «مدرسة الخليج العربي الابتدائية»، الذي أخذ منه «أسرار» الفنّ الأولى… كما وجدت وفيقة سلطان (على ما تقول) في تشجيع مدرساتها لها الدافع الأكيد الذي قادها صوب دراسة الفنون…
لم تكنْ هذه الحصص سوى تدبير حكومي، يماشي أُسس التعليم السائد في العالم، بعد أن جرى الانتقال في قطر من عهد «الكتاتيب» إلى عهد المدرسة النظامية. وقد يكون جاسم الزيني هو الوحيد بين أقرانه الذي عايش الانتقالة بين العهدين: بدأ الدراسة في «الكتاتيب» قبل أن ينتقل إلى «مدرسة الدوحة الابتدائية»، فيتم إعفاؤه من بعض الصفوف، وإلحاقُه بالإعدادية، ثم الثانوية، التي أنهى دراستها في العام 1958.
تكفّل مدرسون فلسطينيون ومصريون خصوصاً بهذه الحصص، قبل أن تقرّر الحكومة القطرية إعداد مدرسين قطريين لها في عهد لاحق. ومَنْ يتابع سِيَر الفنانين القطريين (حتى السنوات الأخيرة)، ممن أوفدتهم الحكومة للدراسة في الخارج، سيجد بأنها ابتعثتهم لدراسة البكالوريوس أو الماستر، بل حتى الدكتوراه (مع الفنانة وفاء الحمد)، في التربية الفنيّة، وفي أقسام مختلفة منها.
باشر جاسم الزيني دراسة الفنّ في بغداد (بعد أن فشل في دراسة القانون في القاهرة، التي أمضى فيها سنتين)، وكان في عِداد الدفعة الأولى التي انتسبت إلى «أكاديمية الفنون الجميلة»، التي افتتحت أبوابها، سواء للعراقيين أم لغيرهم، وتخرج فيها العام 1968. وهو السبيل الذي سيسلكه بعده قريبه حسن الملا، فيلتحق بالأكاديمية عينها في العام 1972 (بعد أن حصَّل شهادة في «التربية الفنيّة»)، بينما التحق سلمان المير في العام 1971 بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ثم وضحة آل ثاني بالكلية نفسها…
غير أن غيرهم من الطلاب تمرّسوا بالفنّ بعد أن حصَّلوا دراساتهم في «التربية الفنيّة». هذا ما عرفه يوسف أحمد بعد أن انتقل إلى «كلية التربية الفنيّة» في جامعة حلوان (مصر)، في العام 1972، ثم في العام 1979 إلى جامعة أوكلند (في كاليفورنيا) لتحصيل شهادة الـماستر في الفنون الجميلة (M F A). كما أرسلت وزارة التربية والتعليم ماجد المسلماني (من مواليد العام 1953) لدراسة التربية الفنيّة في القاهرة، وفرج في العام 1976. وهو ما فعله محمد الكواري (من مواليد العام 1955) من تلقاء نفسه، إذ انتقل، وهو في الخامسة عشرة من عمره، إلى المملكة العربية السعودية، والتحق بمعهد التربية الفنيّة المتوسط في مدينة الرياض.
كما انتسب جاسم المالكي وماجد المالكي إلى كلية الفنون التطبيقية، في القاهرة، وتخصصا في الأثاث المعدني، وتخرجا فيها العام 1976. ودرس أحمد زيني في «مدرسة أحمد ماهر الصناعية»، في القاهرة، لمدة ثلاث سنوات (وهي مدرسة ثانوية صناعية)، قبل أن يلتحق بكلية الفنون التطبيقية، ويتخرج فيها العام 1980. وهو ما فعله سيف الكواري (من مواليد العام 1958)، إذ انتقل، بعد دراسة ثلاث سنوات في الرياض، إلى القاهرة لدراسة «التربية الفنيّة»، ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث انصرف إلى ممارسة النحت، ولا سيما الخشبي منه. كما انتسب إلى «كلية التربية الفنيّة» إبراهيم السيد وعبد الله فضل الأنصاري، وتخرجا في العام 1981. إلّا أن غيرهم من الفنانين الأوائل انتهوا إلى ممارسة الفنّ، بعد طرق مُتعرّجة في الدرس، فقادتهم إلى المسرح أو إدارة الأعمال أو التاريخ والمكتبات وغيرها:
– علي الشريف سافر، بعد دراسة التجارة في قطر، إلى كمبردج وأكسفورد لتحصيل دراسات عالية في إدارة الأعمال، التي أنهاها في العام 1979، قبل أن ينصرف تماماً للفنّ بعد تحصيله العالي.
– وفيقة سلطان (من مواليد العام 1952) درست هندسة الديكور في «كلية الفنون التطبيقية» في جامعة حلوان (مصر)، بين العام 1970 والعام 1974، وحصَّلت شهادة منها، قبل أن تمارس المهنتين معاً، وحتى اليوم.
– عيسى الغانم (من مواليد العام 1954) «عصامي» آخر، إذ إنه اعتمد اعتماداً كلياً على موهبته الفنيّة، بعد انقطاعه عن الدراسة لظروف خاصة، وعمله في إحدى الوزارات. وكذلك هي حال العصامي الآخر محمد الجيدة (من مواليد العام 1956)، الذي حصَّل بكالوريوس تاريخ وتربية في جامعة قطر في العام 1978، في الدفعة الثانية إثر تأسيسها.
– علي حسن (من مواليد العام 1956) حصَّل شهادة جامعية في التاريخ والمكتبات، من جامعة قطر، غير أنه تولّع بفنّ الخط ومارسه منذ عمر مُبكّر، قبل أن ينصرف إلى التصوير تماماً.
– فرج دهام تابع دراسات جامعية مختلفة، بَحْرية ومسرحية، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية في العام 1985 لتحصيل الشهادة العالية: (M F A) في النحت والتصوير.
(5)
بروز المرأة الفنانة
شهد العقد الأول من الألفية الثالثة ظهور مواهب نسائية عديدة. منهن مَنْ تسلمت مسؤوليات قيادية في أكثر من «مركز» فنّي، ولا سيما الفنانات: ناديا المضيحكي، أمل العاثم، هنادي درويش، كما عملت الفنانة وضحى السليطي في تأسيس أحد المراكز مع الفنان علي حسن.
الفنانة هنادي درويش شغلت منصب رئيسة مجلس إدارة أحد هذه المراكز، «مركز إبداع الفتاة»، التابع لوزارة الشباب، بعد أن تخرّجت في قسم التربية الفنيّة. وتنتسب إلى جيل لم يواجه الصعوبات نفسها التي واجهها جيل وفيقة سلطان وبعده: تعرّفتْ إلى الفنّ في أعمال أختها التي تكبرها، من دون أن يواجهها، لا هي ولا أختها، أي مانع عائلي. أقدمَ والدها، في أكثر من مّرة، على منحها هدايا موصولة بفنّ التصوير، عدا أن زيارات المتاحف والمعارض كانت تشغل قسماً كبيراً من برامج رحلات العائلة إلى الخارج. أخت هنادي لم تتابع مسيرتها في الفنّ، أما هنادي فاستمرت فيها، جامعة بين فنّ التصوير وإدارة الأنشطة الفنيّة.
من يتوقّف عند «صالون الشباب الأول» في العام 2005 يلحظ أن عدداً من المنتسبات إلى «المركز»، وممن عرضن لأول مرة في هذا «الصالون»، بِتن اليوم فنانات معروفات، مثل: عائشة المسند، وهنادي درويش، وحصة المفتاح في التصوير، ووضحى السليطي في الحفر وغيرهن. بل يلاحظ أكثر من ذلك، وهو أن عدد المشاركات (اللواتي فُزن بالمشاركة في المعرض، بعد فرز الأعمال من قِبَلِ لجنة تحكيم خارجية)، يفقن بكثير عدد الشبان (وقد عُرف بعضهم باحترافهم الفنّي بعد وقت، مثل: أحمد الحمر في التصوير، وعبد الرحمن المطاوعة في الحفر، وطلال نايف القاسمي ومبارك المالك في الخزف).
مَنْ يَعُدْ إلى نشاطات «المركز» الحالية، مثل معرض «إبداعات 2009»، يتحقّقْ من أنه بات يشتمل على أقسام مختلفة للتمرُّس بالفنون، مثل: قسم الخزف (الذي تديره وصفي الحديدي)، وشملت معروضات المنتسبات ما يزيد على عشر مشاركات؛ وقسم الرسم للمبتدئين (بإدارة هالة السيد) معروضات اثنتي عشرة مشاركة؛ وقسم التصوير الزيتي للمتقدمين (بإدارة مزاحم الناصري) أكثر من ثماني عشرة مشاركة؛ وقسم الخط العربي (بإدارة حميد السعدي) اثنتي عشرة مشاركة.
توقّفت خولة محمد عبد العزيز المناعي عند هذه الظاهرة، ودرست مسارات الفنانات القطريات العشر الأوليات (2) وهن: وفيقة سلطان، أمينة الكاظم، بدرية الكبيسي، المؤلفة نفسها، حصة المريخي، وفاء الحمد، مريم عبد الله، ناهد السليطي (من مواليد العام 1965)، سلوى آل شريم وجميلة آل شريم. إلّا أن مسيرتهن لم تكنْ بالهينة، بدليل أن أمينة الكاظم لم تنجح في درس الفنّ، لممانعة الأهل، على الرغم من مواهبها الفنيّة الأكيدة، التي تجلّت منذ دراستها الابتدائية في «مدرسة خديجة بنت خويلد»، وعلى يد أستاذة الرسم السيدة رقية قدور، وعلى الرغم من نشاطها الفنّي البارز في «المرسم الحر»، ولا سيما مع مدربة الرسم الفنانة نجاح المدني. وهو ما واجهته خولة المناعي من مصاعب، عندما طلبت التخصُّص في الهندسة المعمارية، «إلّا أن ذلك كان صعباً، لعدم تقبُّل ذلك من المجتمع»، على ما تقول بنفسها في كتابها المذكور (م. ن.، ص 78). غير أن ذلك لم يمنعها من تطوير ممارساتها المختلفة في قسم «التربية الفنيّة»، أو في الدورة الاختصاصية التي خاضتها مع الفنانة هنادي درويش في بريطانيا، بدعم مشترك من السفارة البريطانية في قطر ومن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث.
استفاد أصحاب المواهب في تدريسهم بخبرات فنانين عراقيين ومصريين وغيرهم، وتمرّسوا على أيديهم بفنون مختلفة، ويمكن ذكر عدد منهم مثل: إسماعيل عزام، وسالم مذكور في فنّ التصوير، ووليد وراق السوداني، ووليد رشيد العراقي في الخزف (بينما درس أحمد الحداد على محسن التيتون الخزّاف المعروف في البحرين).
إلّا أن من هواة الفنّ مَنْ تابع «دراسة حرة»، في «غاليري الميزان» (لسيف الهاجري) على أيدي فنانين عراقيين، مثل: عائشة المسند، ووضحى السليطي وغيرهما. كما تمرس غيرهم بأساسيات الفنون في ورشات في «مركز شباب الدوحة»، أو في «مركز دوحة الفنون» (الذي أسّسه وأداره الفنان أحمد الأسدي في العام 2000).
عائشة المسند انتسبت جامعياً إلى قسم الفيزياء في كلية العلوم في جامعة قطر، وتمرّست في أساليب الفنّ في الغاليري المذكورة، بعد أن وجدت في بيئتها ما شجعها على الفنّ، حتى إن أمها كانت تتباهي برسومها أمام أهلها.
(6)
طُرُق الفنّ مُتعرّجة
بدا مسار يوسف أحمد متتابعاً ومنسجماً في غالبه، ما لا يظهر بالجلاء نفسه في مسار فرج دهام (من مواليد العام 1956)، بعد أن تقلّب طويلاً قبل أن يستقرّ على حاله الفنيّة. وإذا كان قد وجد في عدد من أفراد عائلته ما حفَّزَه على الفنّ، إلّا أن حياته الدراسية عرفت تغيُّرات عديدة: كانت أمه تهوى زخرفة الوسائد، وخاله يعزف على العود، وجدَّته لوالدته تقرض الشعر، وجدُّه لوالدته يهوى الطرب، ووالده مُتيّم بالطرب الشعبي… كما أن أستاذه في المدرسة الابتدائية، الفلسطيني خالد نصر، كان يجمع المواهب هذه كلها، بين شعر وغناء وعزف عود، وكان له الدور الأساس في توجيهه صوب الرسم. غير أن دراسة دهام قادته إلى «مدرسة الصناعة»، التي تعلّم فيها طوال ست سنوات أُسسَ مهن عديدة، منها زخرفة الحديد، أي الرسم الصناعي والهندسي: كان الطالب، حسب دهام، يفتقر إلى الموجِّه التربوي المناسب له، فما نصح أحدٌ دهام بدرس الفنّ مباشرة. وهذا ما حدث له، في العام 1976، في القاهرة إذ ذهب إليها لدرس الفنّ، لكنه ما لبث أن تخلّى عنها ليلتحق بـ«أكاديمية النقل البحري»، التابعة لجامعة الدول العربية، من دون أن يكمل دراسته فيها (بعد تسريح الطلاب في العام 1979، إثر توقيع «اتفاقية كامب ديفيد»، التي أدت إلى نقل مقرّ «الجامعة العربية» من القاهرة إلى تونس، وإلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر). عاد إلى قطر من دون شهادة، ثم ذهب إلى الكويت هذه المرّة، إلى… «المعهد العالي للفنون المسرحية»، لدراسة الديكور تحديداً. وبعد حصوله على الشهادة منها (1985)، انتقل للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية لتحصيل الشهادة العالية (M F A)، في النحت والتصوير.
غير أن دهام، مثل أحمد، ينظر بعين الرضا إلى ما حصَّله في الدراسة الجامعية المتقلّبة. فهو ابتعد عن الفنّ من دون أن يفارقه أبداً. إلّا أنه يتذكر، قبل ذلك كله، مجهودات العديد من الأساتذة الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين، الذين التقاهم في «مدرسة خالد بن الوليد»، أو في «النادي الصيفي» التابع لوزارة التربية والتعليم، والذين كان لهم دور أساس في تكوينه الفنّي، ولا سيما في الجداريات الفنيّة.
كانت الطريق إلى الفنّ مُتعرّجة، بدليل أن دهام نظّم معرضه الأول، كهاوٍ طبعاً، في… خيمة، في بلدة سمار جبيل (قرب جبيل، في لبنان)، في مخيم كشفي، وهو في السادسة عشرة من عمره: عرضَ دهام ما يزيد على عشرين عملاً مما كان قد رسمه في قطر، في المعارض الصيفية و«مدرسة الصناعة» وغيرها. إلّا أنه ما لبث أن تحقّق، في الثامنة عشرة من عمره، من أن الفنّ ليس ولعاً فقط، وليس مهنة ممكنة وحسب، وإنما هو شاغلٌ، بل بحثٌ. هكذا تعلّم قيادة السيارات، واستعار سيارة أبيه، بعد أن اشترى كاميرا «مينولتا» (Minolta)، وراح يتجوّل في أنحاء قطر المختلفة، متعرّفاً إلى تكوينها وخصائصها، ولا سيما ما خلَّفه البشر من آثار فوق الجدران، دارساً تحوّلات الزمن في قطر.
لا تقلُّ تقلبات علي حسن، قبل وصوله «النهائي» إلى الفنّ، عما عايشه دهام. كان يمكن لحسن أن يكون خطاطاً محترفاً، وأن يبرع فيه، على ما يظهر من بعض استخداماته لطرز الخط العربي في أعماله الفنيّة. بدأ خطاطاً هاوياً، وانتهى إلى أن يكون مصوّراً، بعد أن أمضى سنوات وسنوات متنقلاً بين الجرائد والمجلات، كاتباً عناوينها الرئيسية. لا توجد جريدة أو مجلة في قطر لم يخط علي حسن عناوينها، من جريدة «العرب» حتى «العروبة» و«العهد» و«الخليج الجديد» و«الدوحة» وغيرها. بل عملَ كذلك في مكتب دعاية وإعلان، وفي «تليفزيون قطر»، وفي تخطيط يافطات وإعلانات في الشوارع وغيرها: كان يذهب للعمل ليلاً، بعد دوام الدرس، مطوّراً مهاراته الخطيّة بنفسه، من دون معلّم أو دروس نظامية. وهو- بخلاف الخطاطين التقليديين- لم يفز بـ«إجازة خط» من أي من أساتذة الخط المبرزين، في العالمين العربي والإسلامي، وإنما بلغتْه كراسات خط لكبير الخطاطين العراقيين، هاشم البغدادي، بواسطة أحد الأصدقاء. كما كان يطيل النظر في خطوط الصحف والمجلات المصرية واللبنانية، التي كان يعثر عليها في مصبغة، وكانت تستعمل لتغليف الثياب أو للكي.
لعلي حسن أقارب في البحرين عملوا في الخط، إلّا أنه لم يكتسب منه – عدا الريالات القليلة – صيتاً جاذباً لفتى يتدرّج في الهواية كما في الحياة: قال له أحد أقاربه يوماً: «هل تعتقد أن الصبايا يرغبن في الزواج من خطاط؟!». كانت صورة الخطاط متدنية، بل متراجعة، في عالم يتفتح على نماذج جديدة في الترقي. مع ذلك، أقبلَ حسن عليه بدافع خفي يجهل أسبابه حتى اليوم. هذا «العصامي» تمسّك بالخط مثل نصيب أو حظ في الحياة، حتى حين تكشّفتْ له «تهديدات» الحاسوب المؤكَّدة لفنّ الخط. فلقد تيقّن، بعد ظهوره، من أنه ليس لفنّ الخط «مستقبل»، وإذا به يحمل منذ العام 1979 عدة الخطاط وخبراته إلى لوحة التصوير. لم يكنْ حسن بعيداً عن أجواء المصورين، بل كان يتفاعل معهم، سواء في «نادي الجسرة»، أو في «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية»، أو في «إدارة الثّقافة والفنون» في وزارة الإعلام (حيث عمل بعد تخرجه في الجامعة مع عدد من زملائه الفنانين)، بل كان يعتبر عمله الخطي جزءاً من نهضة الفنون في قطر.
لهذا بدت علاقة علي حسن بالفنّ أشبه بمغامرة فردية، فيها مخاطرة أكيدة، وتشبهُ في بعض وجوهها الصعبة مسيرةَ الفنّ المتأخرة، ولكن الكثيفة في آن في قطر: ما كان يتردّد في الإقدام على شيء؛ ولم يكنْ في وضع يخشى فيه خسارة أي شيء. وقد تكون أجمل شهادة فاز بها علي حسن- إلى جانب جوائز فنيّة عديدة، هنا وهناك في العالم- هي تسلُّمه لرئاسة مجلس إدارة «مركز إبداع الفتاة»، بين العام 2004 والعام 2008، حيث إنه سعى فيه للتعويض عما فاته في مسيرته الخاصة من رعاية وتوجيه فنيين: لم يتأخر عن تلبية أي طلب للإشراف على عمل طلاب أو هواة… ما لم يُتحْ له، أراد أن يتاح لغيره.
يعمل علي حسن منذ العام 1989 على حرف النون، جاعلاً منه المفردة والبناء في عمله الفنّي؛ والنون هي الحرف الأخير في اسمه، من دون أن يكون الحرف الأخير في فنّه.
هذه الصلة بالصحافة، التي أدت إلى الفنّ، يمكن أن نجدها في مسار صديق علي حسن، سلمان المالك، وهما التقيا في أكثر من ميدان ثقافي وفنّي، ابتداءً من مجلة «العروبة»، المجلة الأولى في قطر.
ظهرت المجلة، بمبادرة من عبد الله حسين نعمة، في العام 1969. سلمان المالك أرسل إليها منذ العام 1970 بعض الرسوم، التي كانت تنشر إلى جانب مقطوعات أدبية؛ وكانت صلته الأولى، التي ستصبح صلة ثابتة، ويومية، بالصحافة. كان المالك أول مَنْ نشر رسوماً كاريكاتورية في الصحافة القطرية، والرسامون اللاحقون «خرجوا من عباءتي»، حسب قوله. وهو ما اجتمعَ في معرض نظّمه «نادي الجسرة» لمجموعة من رسامي الكاريكاتور: سلمان المالك، أحمد هلال، أحمد أمين، عبد العزيز صادق، علي وهيب، فكري إسماعيل، محمد الصغير، خميس الراشدي وغيرهم.
ينسب المالك صلته المُبكّرة بالصحافة، أو يُفسّرها، بما عايشه في طفولته، في مكاتب الشركة البريطانية التي كان يعمل فيها والده: عملَ والده في مكتب هندسي، وكان يصطحبه معه في أيام العطلة إلى مسيعيد، وكان قد تعلّم استنساخ بعض الصور والرسوم الهندسية. ولقد وجد في هذه الصور الأولى ما أثر به في الانتساب إلى عالم الصحافة، وجعله مولعاً باللون الأسود. الصحافة شدَّتْه منذ عمر مُبكِّر، ولا سيما للتخطيط فيها. ذلك أن للرسم الكاريكاتوري، وللتخطيط، قوة تحريضية: الدخول في مناخات حوارية مع غيره، مع مجتمعه عبر الخط.
إلّا أن هذه الصلة بالوالد لم تقتصر على الخط، وإنما تعدّته إلى تأثر الفتى سلمان بمناخات البيت: عمه، الذي كان يعيش معهم، كان يتضايق من هوايته الفنيّة، بخلاف والده الذي تأثر بعلاقته بأحد أصدقائه العرب: وضعَ والده في صدر المجلس صورة كبيرة لجمال عبد الناصر. كما اعتاد على سماع إذاعة «صوت العرب» وأغاني أم كلثوم… وقد تختصر عبارة جمال عبد الناصر الشهيرة: «ارفعْ رأسك، يا أخي العربي» مناخات النهوض هذه، بل جعلته يعتني بالحوار عبر الفنّ مع المجتمع. هذا يصح مباشرة عبر الرسوم الكاريكاتورية، وهذا يصح في اللوحة لكونها حاملاً تعبيرياً بدورها.
هذه الصلة لن تنقطع عند سلمان المالك. فقد عمل، بعد تحصيله بكالوريوس التربية الفنيّة من جامعة حلوان بين العام 1977 والعام 1982، في وزارة الإعلام، في مجلة «الدوحة»، كمشرف فنّي. ولم ينقطع كذلك عن الصحافة، عن الرسم فيها، يوماً بعد يوم، في جريدة قطرية. وهو في ذلك يقترب، في جمعه بين الكاريكاتور واللوحة، من المصري جورج البهجوري والسوري يوسف عبدلكي وغيرهما.
(7)
«مراكز» للفنّ
قسم التربية الفنيّة في جامعة قطر، وما اتصل به من اختصاصات لبعض خريجيه في جامعات أجنبية، هنا وهناك في العالم، أو تجارب الفنانين في «المرسم الحر» أو في «الجمعية القطرية»، لم تكنْ الإطار الوحيد الذي احتضن ووجَّهَ مواهب الهواة أو طالبي الدرس الفني. وإنما انتقل الأمر، خاصة مع تنامي قيمة الفن وتوسع الفئات الراغبة فيه، إلى سياسات جديدة من قِبَل الحكومة، بلغت تأسيس مجموعة من «المراكز» الفنيّة، التي شكلت المهد العملي لولادة العديد من فنّاني قطر الجدد، ولا سيما في أوساط النساء.
هذا ما عرفه الفنان عبد الرحمن المطاوعة (من مواليد العام 1971) في «نادي الغرافة»، على الرغم من أنه ينسب إقباله على الفنّ إلى سبب آخر، شخصي للغاية، بل عائلي. يتحدّث المطاوعة بسهولة وطمأنينة وثقة عن الفنّ عموماً، وعن فنّه خصوصاً. يتحدّث بثقة المنتسب إلى تاريخ أكيد، إلى قيمة ثابتة. وهو حديث يرقى إلى الطفولة، في البداية، إذ تعود صلة المطاوعة بالفنّ إلى قريبه العائلي الفنان القطري الراحل يوسف الشريف. وهو حديث الشباب والخبرة كذلك، إذ يتحدّث عن معلميه في الفنّ، الفلسطيني أو المصري، باحترام وتهيُّب. أَقبلَ المطاوعة على الفنّ كمن يدخل في جادة مفتوحة ومعبَّدة. هذا ما يَظهر في «احترامه» – البيّن حتى اليوم – في ما يقوله عن فنانين كانوا له معلمين وقدوة في الفنّ، مثل: يوسف الشريف، والفلسطيني زكي أبو بكر، والمصري فؤاد حمزة البسطاويسي وغيرهم.
انتسب المطاوعة إلى مركز «شباب الغرافة»، التابع للهيئة العامة للشباب والرياضة، وكان يشتمل على ممارسات مختلفة بين موسيقى ورسم وشعر وغيرها، ولكل قسم فيه متابعوه ومعلموه. انتسب إلى المركز في العام 1987، والتحق بقسم الرسم إلى جانب: حسن سبت بوجسوم (الذي ما لبث أن توقّف عن الرسم)، ومحمد سبت بوجسوم (المتوفى)، ومنصور الشيباني، ومحمد بدر القعاطري وغيرهم. كان المطاوعة أصغرهم سناً، وتعلّم من المنتسبين الآخرين أساسيات كل تقنية (خط، تلوين…)، كما أشرف عليه خصوصاً التشكيلي الفلسطيني زكي أبو بكر في التخطيط والرسم والتلوين، والمصري فؤاد حمزة البسطاويسي، الذي كان له أكثر من «أب»، حسب عبارته، إذ علّمه الكثير.
هناك موهوبون آخرون انتسبوا خصوصاً إلى «المركز الشبابي للإبداع الفنّي»، الذي تم إشهاره في العام 1997 وافتتحه سعادة رئيس الهيئة العامة للشباب والرياضة الشيخ محمد بن عبدالله آل ثاني، وترأس مجلس إدارته الفنان سلمان المالك وهو صاحب فكرة أول مؤسسة نوعية في قطر تهتم برعاية الموهوبين. وتوزّعت مهام المكركز في ثلاث: الأولى تعليمية، تُعنى بتدريب الموهوبين المختلفين وصقل مواهبهم في مختلف ممارسات الفنّ. وللمركز مهمة ثانية، تكوينية، تتمثل في انتقاء المواهب الأكيدة ورعايتها وتوفير فرص التقدّم لها، من خلال مشاركات محليّة وأجنبيّة في معارض وندوات وغيرها. وله مهمة ثالثة، توثيقية، إذ يُعنى «المركز» كذلك بشؤون البحث والنشر في مجالات الفنون كلها. ويشمل «المركز» الأقسام التالية: الرسم والتصوير، والخزف، والحفر والطباعة، والتصوير الضوئي، والزخرفة والخط العربي، والتصميم، والمهارات اليدوية، والنسيج (الحياكة)، والمسرح والفنون الشعبية. كما تتوافر للمنتسِب إلى «المركز» مكتبة فنيّة ومركز معلومات مجهز بأحدث المواصلات التكنولوجية، وقاعة عرض. كما يقوم «المركز» بجمع وشراء مقتنيات فنيّة، تمكيناً للمنتسب من «الألفة» مع أعمال كبار الفنّانين وأساليبهم.
الفنّانة حصة المفتاح (من مواليد العام 1975 في الوكرة) تكاد تختصر في سيرتها الفنيّة هذا المسار المتأخر. فهي تخرجت في «قسم التربية الفنيّة» عام 1997، مع فاطمة النعيمي ودعاء الحمد ومنيرة المير وغيرهن، من دون أن تكفيها المقرّرات التدريسية في الفنّ: كنَّ يحصِّلن في القسم 83 ساعة في التربية الفنيّة من أصل 183 ساعة تدريس. هكذا التحقتْ، منذ صغرها، بـ«المرسم الحر»، ثم بعدد من «المراكز» بعد تخرجها الجامعي، بـ«مركز إبداع الشباب»، ثم «مركز الفنون البصرية»، متتلمذة خصوصاً على يد الفنّانين العراقيين سالم مذكور وإسماعيل عزام.
هذا ما يرويه بدوره الفنّان مبارك عبد العزيز المالك (من مواليد العام 1987)، إذ يفيد بأنه حصل على عِدّة دورات تدريبية في «مركز إبداع الشباب»، مثل دورة في الخزف، وأخرى في الخط العربي، وغيرها في الرسم، ومثلها في التصوير وغيرها.
وهو ما قامت به الفنانة موضي الهاجري، إذ تابعت دورات في «المركز» في الطباعة اليدوية، وثانية للغرض عينه في «مركز الفنون البصرية»، وثالثة في التصوير الضوئي في «الجمعية القطرية للتصوير الضوئي»، فضلاً عن دورات أخرى.
وهو ما يمكن رصده في دراسة الفنانة منى بوجسوم (من مواليد العام 1986)، التي تابعت دورات تدريبية في أسس الرسم بالقلم الرصاص والتصوير الزيتي والنحت على الفخار والجبس في «مركز إبداع الفتاة»، وفي الحفر الطباعي والتصوير الزيتي في «المركز الشبابي للإبداع الفنّي»…
وهو ما يمكن تتبعه في سِير عدد آخر من الفنانين القطريين… بل يمكن تتبع نشاط هذه «المراكز» المختلفة في وجه آخر، وهو تمكُّن الفنانين اللاحق من أن يكونوا ذوي قدرة على المنافسة في المسابقات الفنيّة، وحصد الجوائز فيها. هذا ما حصل، على سبيل المثال، في «مهرجان الحواس»، إذ نال الجوائز الثلاث متمرنون- طلبة في «المركز الشبابي للإبداع الفنّي»، وهم: مبارك المالك، ومنى بوجسوم وطلال القاسمي.
(8)
مسارات مُتعدّدة
«توطّنَ»، تعليم الفنّ في الدوحة، عبر مسارات شديدة الخصوصية، بحيث إن هاوي الفنّ ما عاد يجد حرجاً، مثل هاوي فترة البدايات، في إيجاد السبيل الدراسي، أو التدريبي، للفنّ من دون أن يضطر إلى السفر. وهو تغيُّر أصاب قطر والقطريين أنفسهم، في أحوال مجتمعهم، حيث إن أجيالاً من هواة الفنّ ستُقبل على التعليم والتمرُّس الفنيين، ما يعكس صورة جديدة عن إنتاج الفنّ وتأهيل ممارسيه.
الفنان أحمد سلطان (من مواليد العام 1960) يتباهى بسرد أخبار أفراد عديدين من عائلته ممن تمرّسوا بالغناء والمسرح… مضى أحمد إلى القاهرة في العام 1983 لدراسة هندسة الديكور، وكان عبد الله دسمال قد انتقل بدوره إلى القاهرة للاختصاص عينه…
ذهب سلطان إلى الديكور المسرحي لكي يصل إلى اللوحة وغيرها، بينما ذهب محمد عتيق (من مواليد 1966) إلى التليفزيون، بين مونتاج وديكور، لا ليصل إلى اللوحة فقط، بل إلى خارجها. فما جمع سلطان وعتيق وغيرهما من الجيل الثاني، بعد الأوائل والروّاد، هو خروجهما على اللوحة، وتعويلهما على ممارسات تقع خارج عهد اللوحة الكلاسيكي. هذا ما ظهرَ في خروج الشيخ حسن البين على الفنّ التشبيهي، في لوحاته، صوب أشكال مختلفة من التجريد. وهو ما بان، منذ أعمال «الكولاج» الباكرة عند سلطان، التي حادت عن التصوير صوب التركيب. وهو ما تأكد في صورة أصرح عند عتيق في خروجه على اللوحة إلى أشكال تجريبية مختلفة، ومنها أعماله الفراغية خصوصاً.
إلّا أن هذا الجيل ليس بجيل واقعاً، حتى لو أضيفت إليه أسماء فنانين آخرين، مثل: سعاد المعضادي، وحصة المريخي، وخولة المناعي وأحمد الحداد وغيرهم. ذلك أن سنوات العمر، وربما الدراسة، تجمع بينهم، فيما تُفرّق بينهم تجارب الفنّ وخياراتها. فإذا كان بعضهم، مثل المذكورين، اتجهوا صوب التجريد والتجريب، فإن المعضادي توقّفت، والمريخي اتّجهت صوب صور الهيئة (البورتريه)، والمناعي صوب التكعيبية في بعض أعمالها…
هذه النقلة أكيدة، بما ترسمه من تردّد ومن وجهات مفاجئة. وهو ما يتابعه الدارس في مسار فنانين لاحقين، مثل فاطمة الشيباني، التي تبدأ الحديث عن سيرتها الفنيّة من موقف غير تقليدي، إذ تشير إلى نفسها بوصفها «طفلة الأسئلة»: «كل ما يحدث يُثير أسئلتي… كنت أبحث عن شيء مختلف، وأبتعد عن جلسات النميمة، حتى إنني كنت أقلّد الصبيان في كثير من مواقفي وأعمالي. ما كنت أحب مجالسة الأطفال، بل الكبار، وأهوى محادثتهم، وأتعلّم منهم الفصاحة في الكلام والأمثال».
لم تجد الصغيرة فاطمة (من مواليد الوكرة) ما يعيق تفتحها الثّقافي والتعليمي، إذ كانت شغوفة بقراءة مجلات «النهضة»، و«زهرة الخليج»، و«العهد» وغيرها من المجلات السياسية، لا مجلة «ماجد» للأطفال. إلّا أن تربيتها كانت تعدُّها، على ما تعترف، لأن تصير ربة بيت، لا فنانة تشكيلية: «كان عمي يحب التصوير، ولكنهم ما كانوا ينظرون بعين الرضا إلى التربية الفنيّة، إذ لا تضمن للصبية المستقبل المشرق. كانت قد أعدتني أمي، قبل بلوغي الرابعة عشرة من عمري، لدوري المقبل، أي ربة بيت. ومع هذا، كنت أشعر باختلافي عن غيري، وأسعى إلى تميزي وتفردي».
حلمتْ فاطمة بأن تصير دبلوماسية، كما كتبتْ الشعر ونشرت بعض قصائدها، إلا أنها انتهتْ فنانة بعد أن انتسبتْ إلى قسم التربية الفنيّة. تقدمتْ إلى الجامعة في العام 1989، وفي دفعتها عدد من الطالبات ممن سيحترفن الفنّ: أمل العاثم، مي جاسم الزيني، ريم الزوادي، حصة المفتاح، هنادي الدرويش، شيخة السبيعي وغيرهن. قبلوا في تلك السنة 16 من أصل 60 متقدمة. وكانت مقررات التدريس تشمل: أشغال خشب ونحاس، الخزف، التصوير الفوتوغرافي، التصوير الزيتي، التشريح، القلم الرصاص، التصميم…
هذا ما عرفتْه الفنانة أمل العاثم بدورها، إذ لم تكن دراستها للفنّ سبيلها الأول إلى الجامعة، بعد أن رغبت في أن تكون طبيبة، وبعد أن درست الديكور المسرحي في «المعهد العالي للفنون المسرحية» في الكويت، إذ إنها كانت ميّالة دوماً إلى الرسم. وهو ما انتهتْ إليه في الدوحة مع الشيباني وغيرها، بل أصبحت في العام 2010 رئيسة «مركز الفنون البصرية».
ناديا المضيحكي التحقت بـ«القسم»، وانتهت بدورها إلى أن تكون فنانة محترفة، بل رئيسة (سابقة) لـ«مركز الفنون البصرية». وهي حال هنادي درويش كذلك، الفنانة ورئيسة مجلس إدارة «مركز إبداع الفتاة» سابقاً… إلّا أن أعداداً من الخريجين والخريجات – ما يُعدّ بالمئات على توالي الدفعات – انصرفوا إلى تخصصهم تماماً، وهو أن يكونوا «مدرِّسين» للتربية الفنيّة، أو إلى ما هو أعلى من ذلك، وهو أن يكونوا «موجِّهين» لها.
كثير من الفنانين المحترفين أدوا هذه المهمة التدريسية قبل أن «يتفرّغوا» تماماً للفنّ: هذا ما فعله أولهم جاسم الزيني. وهو ما فعله كثيرون مثل الشيباني ودرويش وغيرهما. حتى إن وفاء الحمد بقيت مدرسة لسنوات، بعد تحصيلها شهادة الدكتوراه، قبل أن تفوز بمنصب جامعي.
قلّة قليلة سلكت، إذاً، سبيل الاحتراف الفني بعد الدراسة الجامعية، إلّا أن «قسم التربية الفنيّة» ليس قسماً فنيّاً خالصاً، وإنما يؤهل الطلاب للتدريس لاحقاً. هذا ما طلبتْه سياسات التعليم في قطر منذ خطواتها الأولى… مَنْ يتتبع البعثات الأولى يتحقّق من أنها توزّعت وفق اختصاصات مُتعدّدة: فنون جميلة، ديكور، نحت، أثاث معدني، وصولاً إلى… تاريخ الفنّ (مع محمد علي عبد الله).
هذه السياسة بلغت خاتمتها، إن جاز القول، في العام 2010، إذ شهدت تخرج آخر دفعة من «قسم التربية الفنيّة»، بعد أن لبتْ هذه السياسة حاجات الدولة القطرية في التعليم. وهو ما اتّخذ وجهة جامعية جديدة، من جهة، وهو ما اتّخذ سبيلاً آخر في تدريب هواة الفنّ، من جهة ثانية، مع تأسيس «المراكز الفنيّة».
هوامش:
1 – ورد في كتاب حسان عطوان: «الحياة التشكيليّة في قطر»، الدوحة، 1988، ص 157.
2 – خولة محمد عبد العزيز المناعي: «العشر الأوائل من رائدات الفنّ التشكيلي في قطر»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، الدوحة، 2008.
* تستند هذه المقالات إلى حوارات خاصة جرت في أزمنة مختلفة مع دارسين وفنّانين قطريين.