هاروكي موراكامي: الأدب وحده لن يكون كافيا

| 24 فبراير 2021 |
ليس من عادة الروائي الياباني ذي الشهرة العالمية، أن يتحدَّث كثيراً عمّا لا يتعلَّق بأعماله، لكنه -مع ذلك- قَبِلَ الحديث إلينا، والخوض في مواضيع شتّى خارج إطار الكتابة مثل الجائحة، والنظام العالمي، ومواقع التواصل الاجتماعي، إلى غير ذلك.
يبدو أن «هاروكي موراكامي»، الروائي الياباني المعاصر، الذي تحظى أعماله بأكبر قدر من القرّاء عبر العالم، قد بدأ يتغيَّر بعد أن شارف على عامه الثاني والسبعين. فبعدما عرفناه، في ما مضى، عاشقاً للموسيقى، منعزلاً ومتكتِّماً، ها نحن نكتشفه، الآن، منشِّطاً إذاعياً في أوقات فراغه، خلف مشغِّلة الموسيقى وأقراص الفينيل. إنه يبدو أكثر جرأةً على الكلام، وأقلّ تحفُّظاً؛ ما يُبهج «الهاروكيين»، متابعيه الذين يدينون له بإعجاب غير مشروط، ويسارعون إلى تحليل أعماله وكلّ ما يقوله. «موراكامي» الذي كان، حتى وقت قريب، لا يحبِّذ التحدُّث عن شيء آخر غير رواياته وأدبه، والذي كان يغلِّف معانيه وهواجسه في شكل قصص ليست، دائماً، متجذِّرة في الواقع، أصبح، الآن، لا يخشى من التحليل وجهاً لوجه؛ فبعد أن أجبرته أزمة «كوفيد- 19» على المكوث في اليابان، بدأ ينظر إلى مجتمعه بكثير من التمعُّن؛ وهو ما زاد من قلقه إزاء النظام الذي يسير وفقه العالم، وتتطوَّر وفقه اللّغة والكلمات.
نادرا ما نشاهدك أو نسمعك تتحدَّث، وقد أصدرت -للتوّ- مجموعة قصصية في اليابان، إلّا أنها كانت مكتوبة قبل بداية عام (2020). كيف حالك؟، وكيف عشت هذه السنة؟
– كلّ شيء على ما يرام. (ألفان وعشرون) هي سنة «كورونا»، بالنسبة إليَّ أيضاً، وهذا هو كلّ ما يتبادر إلى ذهني. أنا روائي، لذلك أعمل بمفردي، في المنزل، ولم تتغيَّر حياتي كثيراً. صحيح أن الأجواء من حولي اختلفت كلّ الاختلاف، أحسَّ بذلك بَدنيّاً، إلّا أن ذلك لم يجعل عملي أكثر تعقيداً، بل العكس. وأنا أعرف، مع ذلك، أن الأمر كان بالغ الصعوبة على الناس الذين أُجبروا، فجأةً، على العيش بمفردهم. أمّا أنا فقد اعتدت على ذلك، وهذا ليس مؤلماً بالنسبة إليّ.
لم يكن هذا الوباء أمراً متوقَّعاً، وقد أفسد حياة الناس على الكوكب. كيف تحلِّل هذه الفترة؟
– أنا لا أعتبر أن جائحة «كورونا» قد ظهرت، فجأةً، من لا شيء؛ فهذا الوضع الوبائي يأتي لينضاف إلى سلسلة من التغييرات التي حدثت مؤخَّراً، وهو ليس سوى جزء من مجموعة وقائع مثل ثورة الإنترنت والشبكات الاجتماعية، والعولمة أو الشعبوية؛ لذلك لا أعتقد أن هذا الفيروس التاجي يجب أن يُنظر إليه كظاهرة منفصلة.
هل تعني أن الأمر مرتبط بحالة عالمية سياسية، واجتماعية، واقتصادية؛ أي أن السياق العالمي الحالي بما فيه من حركة سريعة للناس والمعلومات والأيديولوجيات القومية والقادة الشعبويين، كان مؤاتياً لانتشار الفيروس؟
– نعم. لذا، عوض معالجة «فيروس كورونا» بشكل منفصل، أعتقد أن علينا -بالأحرى- أن نتساءل عن كيفية تعاملنا مع هذه السلسلة من التغيُّرات الظرفية. وفي ما يتعلَّق باليابان، إن الحكومة اليابانية والسياسيين قد اتَّخذوا قرارات تتوافق مع أغراضهم الخاصّة، وقد فشلوا. من الطبيعي أن يخطئوا في مثل هذه الظروف، لكنهم لو اعترفوا بذلك، فقط، لكان المواطنون قد تفهموا الوضع. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يسترشد بطريقة تفكيره الخاصّة، ومن السهل فهمه، و-مع ذلك- هناك من يتَّفق معه، ويدعمه حقّاً، وهناك من لا يتَّفق معه، ويرفضه حقّاً. ولكن في اليابان، لا يوجد قرار شخصي وفردي من هذا النوع. إنها مسألة مجموعة رائدة تتصرَّف بدوافع خفيّة تجعل من الصعب جدّاً، على المواطنين، فهم هذا النظام. أعتقد أن دور المختصّين والباحثين والعلماء هو أن يتدخَّلوا ويعارضوا آراء السياسيين القطعية، ثم يوضِّحوا لماذا لا ينبغي لنا أن نذهب في اتِّجاه معيَّن.
بحسب ما تقوله، إذن، لا يمكن أن يتحقَّق التغلُّب على هذه الأزمة بالعلوم، فقط. ولكن، ما هي رؤيتك للعلوم، إجمالاً؟
– لا أعرف الكثير عن العلوم، ولكن آمل، حقّاً، أن يتمكَّن الأدب والعلم من التقدُّم بخطًى متوازية. نحن نعيش في نظام عالمي معيَّن الآن، وأعتقد أن هذا النظام ليس أبديّاً بل مؤقتاً، ولا أعرف متى سيتمّ تقويضه. يمكن لـ«فيروس كورونا»، مثلاً، أن يقلبه رأساً على عقب، وعندما يتحقَّق ذلك، ولإنشاء نظام جديد، حتى ولو كان مؤقَّتاً هو الآخر، لن يكون الأدب وحده كافياً، ولا العلم وحده كافياً كذلك. أعتقد أن الأمر لن يتحقَّق إلّا من خلال التوليف بين القوَّتَيْن. أؤكِّد، مرّة أخرى، أنني لا أعرف الكثير عن العلوم، ولكن آمل أن نتمكَّن من العمل بشكل جيِّد معاً.
ما الذي يقلقك، بشكل خاصّ، في مجتمع اليوم؟
– هو أمر ألاحظه في اليابان، وأعتقد أنه يهمّ، أيضاً، باقي دول العالم: شبكات التواصل الاجتماعي تتطوَّر في كلّ مكان، وتتطوَّر معها لغة غريبة عن لغتي، مع عبارات كتلك التي تستعمل في شبكات التواصل الاجتماعي، وطريقة للتواصل خاصّة بهذه الشبكات، أيضاً، إلّا أن صداها يتردَّد في كلّ مكان. أنا قلق بشأن هذا المعجم الجديد. هذه ليست اللّغة التي أكتب بها القصص. أنا لا أقول إنني سأتغلَّب على هذه الظاهرة، لكني أعتقد أنني يجب أن أبيِّن أن هناك قدرة مختلفة وأقوى للكتابة. هذا ما أشعر به حقّاً.
هل تعتقد أن اللّغة تزداد فقراً، وأن مساحة الحوار تصبح أصغر؟
– نعم. ونحن لم يعد بعضنا يجابه بعضاً بالحجج. حالياً، عندما يتلقّى شخص ما انتقاداً، يردّ بانتقاد آخر. أعتقد أنه أمر مخزٍ حقّاً، حتى رئيس الوزراء الياباني يتصرَّف بهذه الطريقة. إن هذا عكس ما أريد القيام به. لا يمكنك الاقتصار على الردّ بشيء ما، فقط، بل عليك أن تعبر -بوضوح- عمّا يختلج في صدرك. هذا أمر ضروري في أيّ عالم كان، مع «كورونا» أو بدونها.
ما تعريفك لحرّيّة التعبير؟
– حرّيّة التعبير هي، أوَّلاً، وقبل كلّ شيء، القدرة على قول ما تريد قوله دون قيود، وإذا حدث أن أخطأت، يجب أن يتقبَّل المجتمع ذلك، ويغفره. برأيي، إن هذين الأمرين هما ما يشكِّل حريّة التعبير. مع ذلك، وبسبب الشبكات الاجتماعية، يمكن لأيّ تعليق أن يضرم فتيل النار على الإنترنت. أعتقد أن لدى الكثير من الناس وعياً كبيراً ومستمرّاً بهذا الخطر؛ لذلك فهم يمارسون الرقابة الذاتية. أنا، شخصيّاً، حرّ في قول ما أريد، لا أهتمّ لشيء، وليس لديَّ -على الإطلاق- أيّ حساب على الشبكات الاجتماعية، لذلك إن كان هناك حريق ما، فأنا لا أشعر به، وبذلك أنعم بهدوء كبير. (يبتسم)
في هذه الآونة، هل تزداد أهمِّيّة الكتب، وخاصّةً الروايات؟
– كل الفنون مطلوبة في مثل هذه الآونة. ومن الرائع أن نقرأ إذا توفَّر لنا الوقت لذلك. ربَّما ما يهمّ أكثر هو قراءة السرد والقصص العميقة. الأخبار لا تتحدّث إلّا عن «كورونا»، وأعتقد أن الجميع ضاقوا ذرعاً بذلك، ويريدون عالماً مختلفاً، وعالماً أعمق. إذن، الفنون تبقى ضرورية.
وهل كنت لتحتجّ لو تَمَّ إغلاق المكتبات؟
– لعلَّه من المجدي، أحياناً، للمرء، أن يشعر بالجوع للقراءة دون أن يتمكَّن من إشباع ذلك الجوع على الفور. أليس كذلك؟ نحن نعيش في عالم نحصل فيه، دائماً، على ما نريد، في الحال. وربَّما ساعد حرماننا من الكتب، بين الفينة والأخرى، في استعادتنا الشعور بأهمِّيَّتها وقيمتها الكبرى.
هل سيكون لهذه الأزمة الصحِّيّة تأثير على محتوى رواياتك القادمة؟
– لن أعرف ذلك حتى أنتهي من كتابة عمل ما. لنفترض أنني أكتب رواية، وأعيد قراءتها في وقت لاحق. فقط، في ذلك الوقت، قد يتسنّى لي الاعتقاد بأنها أثَّرت كثيراً فيما كتبته في زمن «كورونا». توجد طريقتان يمكن، من خلالهما، أن نرى ذلك: طريقة مباشرة، ماديًة واقعيًة، وطريقة مجازية رمزية. وأنا أعتقد أن التأثُّر بالأزمة سيخرج في شكل مختلف عن الوصف المباشر والملموس، شكل أكثر ارتباطاً بالمجاز. إنها عملية تتمّ بشكل طبيعي، ولا يتمّ اختيارها. يستغرق الأمر وقتاً. الشعور بالأشياء يستقرّ في الوعي، ويغوص عميقاً قبل أن يخرج في شكل مغاير. أقصد أن هذا يحدث، فقط، لدى الروائيِّين، ومن يكتبون القصص. لهذا الغوص عميقاً في الوعي، وللطريقة التي تطفو، من خلالها، الأشياء على السطح، من جديد، أهمِّيّة بالغة بالنسبة إليّ.
لا تسافر إلى الخارج، حاليّاً، أليس كذلك؟
– كان ذلك مستحيلاً هذا العام.
لقد عشت طويلاً خارج الأرخبيل، و-مع ذلك- معظم رواياتك تدور أحداثها في اليابان…
– في الواقع، لست متأكِّداً من السبب. كان بإمكاني أن أكتب أكثر عن الخارج. ولكني، في واقع الأمر، كلَّما خرجت من الأرخبيل، عرفت أنني كاتب ياباني. أحياناً، أشعر بالسوء هنا، وبالملل، فتعتريني الرغبة في الذهاب إلى الخارج. وعندما أكون هناك، وأعيش هناك، أدرك أنني روائي ياباني قبل كلّ شيء؛ لذلك، تصبح الطريقة التي يعيش بها الناس في اليابان مسألة مهمّة جدّاً بالنسبة إليَّ؛. لهذا السبب أعتقد أنني أكتب روايات، تدور أحداثها في اليابان.
وماذا تعني لك الموسيقى؟
– لا غنى عنها. هي لغة عالمية، وستبقى كذلك.
أنت مولع بالموسيقى، لكنك من عشّاق الإذاعة، أيضاً، إذ تقوم بمهمّة التنشيط على أمواج إذاعة «طوكيو FM» برفقة «ميو ساكاموتو – Miyu Sakamoto»، ابنة الملحِّن «ريويتشي ساكاموتو – Ryuichi Sakamoto». كان يفترض أن تقوم بذلك لمرّة واحدة، لكن الأمر تحوَّل إلى عادة. هل للإذاعة، إذن، سرّ يغري بالعودة إليها دائماً، بعد المرّة الأولى؟
– عندما كنت طفلاً، نشأت وأنا أستمع إلى الموسيقى عبر الراديو، وأستمع إلى برامج مثل «hit-parade» طوال الوقت، لكني، في الآونة الأخيرة، بدلاً من الاستماع إلى الإذاعة، أصبحت أشارك في العمل بها، وأجدها -حقّاً- وسيلة إعلامية مهمّة، وأنا أحبَّ ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: كارين نيشيمورا
المصدر:
https://bit.ly/3pQAgpA