هل يمكن أن تكون كاتباً ومحبّاً لكرة القدم؟

| 10 نوفمبر 2022 |
كرة القدم لعبة رائعة وجميلة، وهي الرياضة الأكثر شعبية في العَالَم. للوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطاً للغاية. على الميدان، فريقان بأحد عشر لاعباً، وحكم، وكرة، ومرمى، والفائز هو الذي يسجِّل أكبر عدد من الأهداف. لكن بعيداً عن هذه البساطة الظاهرة، تكتسي كرة القدم أهمية بالغة في حياتنا ومعظم فئات المُجتمع، من العامل البسيط حتّى المُثقَّف والفيلسوف.
ذات مرّة سُئل الفيلسوف والكاتِب الفرنسي ألبير كامو: أي شيء أحب إليك، كرة القدم أو المسرح؟ ردّ «كامو» «كرة القدم، دون تردُّد». فهل كان «كامو» استثناءً؟
في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1957، بينما كان ألبير كامو يتناول الغداء في مطعم وسط الحي اللاتيني في باريس، اندفع شاب من مكتب ناشره ليبلغه بما سمعه للتّو في الإذاعة: لقد فاز «كامو» بجائزة نوبل في الأدب.
في ذلك العام، أصبح ألبير كامو ثاني أصغر فائز بجائزة نوبل في الأدب. وبعد أسبوع واحد، أجرى مقابلةً على التليفزيون الفرنسي. ومع ذلك، لم يجلس «كامو» ومحاوره في أستوديو مريح كما جرت العادة. لقد جلسا في ملعب بارك دي برينس، وسط حشد من 35 ألف متفرِّج، يشاهدون مباراة نادي راسينغ باريس وفريق موناكو. على الميدان قام حارس المرمى بحركة خاطئة، وظلّ يتابع تمريرة عرضية منحرفة، حتى أفلت الكرة التي اهتزت داخل شباكه. على الفور قطع المُحاور حديثه، وأراد معرفة رأي «كامو» في خطأ الحارس الفادح. طلب منه ألّا يكون قاسياً في الحُكم عليه: «لا تلومه. إذا كنت في مكانه، فستدرك مدى صعوبة المُهمَّة». ثمَّ أومأ برأسه، وكأنه يقول «وهذا ما يجب أن أدركه بدوري».
لقد كانت المرّة الوحيدة التي تتمُّ فيها مقابَلة فائز بجائزة نوبل في إحدى مباريات كرة القدم. بفضل اقتباس انتشر على نطاقٍ واسع، «كل ما أعرفه عن الأخلاق والالتزامات أنا مدين به لكرة القدم»، لم يعد ولع «كامو» باللعبة خافياً على أحد. ولم يكن ذلك مجرد شغف عابِر. في عام 1959، قبل أقلّ من عام من وفاته، أخبر «كامو» محاوراً آخر بأن المسرح وملعب كرة القدم هما أفضل «جامعتين حقيقيتين». في عالَم كرة القدم، وجد أحد أعظم المُؤلِّفين الفرنسيين في القرن العشرين أكثر أشكال الوعي قوةً وقيمة.
قبل وقتٍ طويل من كتابته عن «سيزيف»، وقع «كامو» في حبِّ اللعبة. ومثل العديد من أعظم اللاعبين، اكتشف حبَّه لكرة القدم مبكِّراً في طفولته البائسة. كان «كامو» يتيم حرب، نشأ في حيٍّ فقير بالجزائر العاصمة وربّته أم أميّة. كانت جدته تمنعه باستمرار من لعب كرة القدم، لأنها كانت تخشى تمزيق حذائه المدرسي، الذي كان يمثِّل نفقةً كبيرة على الأسرة. لكن «كامو» لم يردعه ذلك. في «الرجل الأول» -رواية السيرة الذاتية التي كان يعمل عليها وقت وفاته- نقرأ عن صبي صغير يُدعَى «جاك». في مرحلة الطفولة، كانت كرة القدم «مملكة» جاك، وخلال فترة المُراهَقة تطوَّر شغفه حتى أصبح «مهووساً» باللعبة. في ملاعب جزائرية خشنة و«كرة مصنوعة من الخرق» طوَّر جاك تجربته المُبكِّرة في كرة القدم.
في عام 1959، عندما كان يروِّج لعمله المسرحي المُقتبَس من رواية «الشياطين» لـ«فيودور دوستويفسكي»، بدا أكثر عزماً وتصميماً، ومنح كرة القدم شرفاً خاصاً. صوَّرته الكاميرا واقفاً خلف الكواليس مُتكئاً بيده اليمنى على عمود ضوء كشاف وأخفى يده اليسرى خلف ظهره، وهو يقول لمُخاطبه: «عندما كنت شاباً ألعب مع فريقي، أحسست بهذا الشعور القوي بالأمل والسعادة، والذي كان لا يفارقني في أيام التدريب الطويلة قبل المُباراة. وفي الحقيقة، بعض المُثل العليا التي تعلَّمتها، في المسرح، أو في ملعب كرة القدم – كلاهما يمثلان جامعتي الحقيقية».
في عام 1928 ظهر «كامو» لأول مرّة في حراسة مرمى فريقه الأول نادي مونبنسير. وكان قد تعرَّف على صديق يلعب كرة الماء. هناك في المرفأ، في ساحة المُناورات غير المحروس والذي لا يمكن التنبؤ بتقلباته، تعلّم «كامو» أول درس له في الحياة الواقعية: الحياة، مثل الكرة، لا تأتي أبداً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها – وانتظار شيء لا يحدث هو العبث بعينه. لذلك اختار ألبير كامو حلاً عبثياً لمُشكلة عبثية، اختار من بين 11 مركزاً في الميدان، المركز الذي صُمِّمت كرة القدم خصيصاً من أجل اختراقه وانتهاكه: حراسة المرمى.
ولكرة القدم أيضاً حضورٌ بارز في الروايات الثلاث التي نشرها في حياته. في «الغريب» (1942) يظهر المُناهض للبطل مورسو وهو يشاهد عربات الترام في المساء الباكر مليئة باللاعبين والمُشجِّعين العائدين من الأرض المحلية؛ وفي «الطاعون» (1947)، يتمُّ الاستيلاء على ملعب الفريق المحلي وتحويله إلى ساحة عزل. أما جونزاليس، اللاعب السابق، فيتأسَّف من هذا الوباء الذي حرمه من يومٍ مثالي للعب؛ وفي «السقطة» (1956)، الرواية التي اعتبرها ابنه «جان» الأكثر تمثيلاً لصوته، يعترف كلامانس: «حتى اليوم، مباريات كرة القدم في ملعب مزدحم، والمسرح الذي أحببته بشغفٍ فريد، هما المكانان الوحيدان اللذان أشعر فيهما بالبراءة».
وفي كتاب «كرة القدم بين الشمسِ والظلّ»، كتب الأورغوياني «إدواردو غاليانو» (1940 – 2015) عن الأديب الفرنسي الجزائري: «في 1930 كان ألبير كامو هو القديس بطرس الذي يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته (…) وخلال سنوات ممارسته لحراسة المرمى تعلَّم «كامو» أشياء كثيرة (…) أن يكسب دون أن يشعر بأنه خارق، وأن يخسر دون أن يشعر أنه قمامة، وهذه حكمة شاقة. كما تعلَّم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلاتٍ خطرة على امتداد كتبه».
قبل عامين من وفاته، اشترى «كامو» منزلاً في لورمارين، وهي قرية جبلية نائمة على بعد خمسين ميلاً شمال مرسيليا. هناك تعرَّف على لاعبي فريق كرة القدم المحلي، وكان يدفع ثمن المُعدات ويشرب معهم القهوة بعد المُباريات. ربما كان سيستمر على هذا النحو لسنواتٍ. ولكن في يوم رأس السنة الجديدة عام 1960، عرض ميشيل غاليمار، صديق «كامو» والناشر منذ فترةٍ طويلة، أنْ يصطحبه من جنوب فرنسا إلى باريس. كان «كامو» قد اقتنى تذكرة قطار، لكنه قرَّر في اللحظة الأخيرة العودة مع صديقه في السيارة. وفي طريقهما انحرفت السيارة عن مسارها واصطدمت بشجرة ومات «كامو» على الفور.
في صندوق السيارة المُحطَّمة عُثِرَ على المخطوطة غير المُكتملة لروايته «الرجل الأول». قبل ذلك بعام، أخبر «كامو» صديقاً له أنه لم يكتب سوى ثلث أعماله الكاملة، وأنه شعر أنه بدأ للتو. في السابق، قال لأصدقائه لا شيء يمكن أن يكون أكثر سخافة من الموت في حادث سيارة. بعد وفاته، دُفِنَ في تلال لورمارين. وفي جنازته، حمل اللاعبون المحليون نعشه.
في «رجل كرة القدم» (1968) كتب آرثر هوبكرافت أن لعبة كرة القدم «تخلق صراعاً وجمالاً، وعندما تتواجد هاتان الصفتان معاً في شيء يُعرَض للتقييم العام، فإنهما يمثِّلان الكثير مما اعتبره فنّاً». يشكِّل الفنُّ أقدم طريقة للإنسان العاقل لاستنتاج المعاني والسموّ بالذات، وفي كرة القدم أدرك «كامو» شكلاً من أشكال الفن. بالنسبة له، كانت اللعبة عبارة عن قطعة مسرحية. دراما لعملٍ جسدي استبدلت زخارف العقل بواقع المُجسّدين. «كامو» اعتبر أنه لا توجد مواساة نهائية وشيكة، وبالتالي لا مفرّ من مأزقنا العبثي. حياتنا الآن، هذه اللحظة الراهنة، هي كل رصيدنا. فلا نضيعها. فالتعاليم الخام للجسد، والحب بلا خجل للعبة لاعقلانية، وأصداء شفقات الشباب البريئة؛ إنما هي لحظاتٌ صغيرة نتجاوز بها سجننا المادي. تلك هي لعبة «كامو» الجميلة.
إم إم أوين
المصدر:
https://www.mmowen.me/camus-absurd-love-of-football