واسيني الأعرج: «ليليّات رمادة» محاولة لتجاوز الواقع

| 07 يوليو 2021 |
هناك عقول تغرس نطفة الحياة في رحم الموت كي تتحدَّى الفناء، وتبارز الرحيل. هؤلاء هُم مَن يكتبون تراتيل النجاة بأحبار الأمل.. هكذا، اتَّكأت رواية «ليليّات رمادة»، للكاتب والروائي الجزائري الكبير «واسيني الأعرج»، على بريق أمل وسط ظلمة الواقع، حيث تُعَدّ الرواية من بواكير الأعمال الأدبية التي كُتبَت عن جائحة «كورونا»، وقد صدرت عن دار «الأداب» اللبنانية في يناير (2021)، وتُوَزَّع حالياً في الأسواق العربيّة، بجزأيها؛ «تراتيل ملائكة كوفيلاند»، و«رقصة شياطين كوفيلاند».
«ليليّات رمادة».. رواية لمن أراد التأمُّل في زمن الوباء، وأبى أن تنقضي التجربة دون بصمة وجدانية عميقة توثِّق رؤى البشرية فيما ألَمَّ بالأرض في صُحبة «طاعون» القرن الواحد والعشرين. يدور السؤال الأهمّ، في الرواية، حول كيفية القبض على الغاية من الحياة ذاتها، وإدراك كمّ المفارقات التي تمتلىء بها، وسط حالة من التأمُّل وإعادة قراءة العديد من التفاصيل والأمور، وفهم المسألة الوجودية ذاتها.. في هذا الحوار، يتحدَّث «واسيني الأعرج» عن كواليس كتابة الرواية، والأطوار التي مرَّت بها منذ بداية نشرها، افتراضياً، وحتى صدور نسختها الورقية، وكذلك الرسائل التي ساقها للقرّاء؛ وكيف يمكن للأمل أن يُزهِر بين الشقوق.
«ليليّات رمادة»، هي العمل الأدبي الأوَّل المستوحى من أزمة الجائحة، حيث تنتمي إلى ما يُعرف بـ«أدب الأزمات».. ما الكواليس التي أحاطت بميلاد الرواية؟ وفي رأيك، هل يجنح الأدب إلى ما يشبه محاولات التعافي، سواء بالتصالح مع الواقع أو رفضه؟
– كُتبَت هذه الرواية في ظرفٍ خاصّ، حيث راودتني الفكرة وأنا في حالة حَجْر؛ مثلي مثل ملايين من البشر المحاصرين في ظلّ الموجة الأولى من الجائحة. في بداية فترة الحَجْر، فكَّرت في إنهاء روايتي التي سبقت «ليليّات رمادة»، وكانت عن قصّة حبّ عاشتها شخصية تاريخية حقيقية تسمّى «حيزية» تحوَّلت، فيما بعد، إلى أسطورة غنّاها الفنّانون والكثير من الغنائيين بأشكال مختلفة. كنت قد بدأت، بالفعل، في كتابة الرواية، وجمعت عنها الكثير من الوثائق. لكنني، رغم اتِّساع الوقت مع ظروف الحَجْر، لم أستطع إكمالها.. فكرة «الموت» كانت تهيمن على عقلي، وتأسر كلّ حواسي. رحت أفكِّر في شيء أخر، بعد أن توقَّفت كلّ الممارسات الحياتية المعتادة. لا أعرف كيف جاءتني فكرة «ليليّات رمادة»، لكنها جاءتني كمن يختار رفيقه الأنسب في رحلة مجهولة. قلت لنفسي: «لماذا لا أكتب شيئاً عن هذه الأحاسيس المضطربة؟»، وبدأ يتشكَّل في رأسي الإطار العامّ للرواية. السؤال الذي داهمني: «ماذا يساوي الإنسان، الذي يعتبر نفسه قويّاً، أمام فيروس مجهريّ يدمِّر البشرية بمنتهي الأريحيّة؟». لأوَّل مرّة – على الأقلّ، في وعيي الشخصي- تتساوى البشرية، بشكل مطلق، أمام الآلام والموت والأحزان،وغيرها من المشاعر الصعبة.ولكن، تُرى هل نتعلَّم ممّا يحدث؟
بدأت بالبحث في الجائحات السابقة التي ضربت البشرية، على مرّ التاريخ، التي تفشَّت -تحديداً- في العالم العربي. كانت هناك جائحة الطاعون التي حلَّت ببلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب، وسُمِّيت بـ «عام الرمادة». من هنا، جاءتني فكرة تسمية الرواية بـ «ليليّات رمادة» واستيحاء اسم البطلة، كأحد أشكال الإحالة إلى الجائحة. وبدأت في نشر فصول الرواية عبر صفحتي على (فيسبوك)، حيث وجدت تفاعلاً، لم أكن أتصوَّره، من القرّاء، وكأننا نبحث معاً عن صيغة مشتركة للبوح ذاته؛ فالأدب يُعَدّ أحد الأدوات شديدة الحساسية للتعاطي مع الواقع، هو بمنزلة خيار داخلي مرتبط بحالة وجدانية تفرض نفسها، بقوّة، على المبدع.. ومع بداية الجائحة، خالجتني مشاعر، كان عليّ أن أواجهها، وأن يكون لي رأي بها، بنبش الواقع الجاثي على صدورنا. لقد اكتسبت الجائحة طابع العموم الذي يمسّ كلّ الناس، ويدفع الجميع للتفكير في كيفية المقاومة عبر وسائطه الخاصّة. في مثل هذه اللحظة، وجدت العالم من حولي وكأنه قد انتقل إلى داخلي، وأصبح جزءاً مني، أكتب من معينه، لا عنه. أكتب عن عالم يسكنني، لا عن عالم أراقبه. راودتني، أيضاً، فكرة «الشراكة» مع القرّاء، والسكينة التي يمكن أن يولِّدها وجودنا المشترك داخل خندق شعوري واحد. والواقع أن «ليليّات رمادة» لم تكن تجربة روائية تحمل الكثير من الخصوصية، بالنسبة إليَّ، بقدر ما اعتبرتها تجربة في «تَعلُّم الحياة» من جديد، كطفل يحبو على قارعة الطريق الطويل، حيث أفقدتنا الجائحة كلّ مبادرة.
قُمت بنشر الرواية في نسخة افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم جرت طباعتها في نسختها الورقية في يناير، هذا العام.. هل كان صدور النسخة الورقية قراراً لم يكن في الحسبان؛ نظراً لظروف الجائحة؟
– هناك لحظتان في هذه الرواية؛ اللحظة الأولى عندما قرَّرت نشرها، افتراضياً، على (فيسبوك)، في حلقات استمرَّت قرابة أربعة أشهر، وهو قرار به الكثير من المغامرة، لكنه حمل، أيضاً، الكثير من الصدق، لأنه وثَّق مشاعر حقيقية عن أزمة واقعية لاافتراضية، تحصد الأرواح وتنفث الموت في وجه الآلاف، يوميّاً. كان من الصعب التفكير في شيء آخر سوى الموت، و-من ثَمَّ- كانت الوسيلة الأقرب والأسرع للتواصل مع القرّاء عبر النشر الإلكتروني. ردّ الفعل القويّ للقرّاء، والسجال اليومي الذي أحدثته الفصول الأولى للرواية، دفعاني إلى مواصلة النشر. كنت بصدد كتابة فصول الرواية، ونشرها في الوقت نفسه؛ لذلك لم أكن أعلم إلى أيّ شيء يمكن أن ينتهي إليه النصّ أو حتى تفاصيل الأحداث والوقائع. كان الإطار العامّ للرواية حاضراً في ذهني، أنسج داخله ما يتولَّد في عقلي لحظة بلحظة، وأضعه بين يديّ القرّاء..حاولت أن ألتزم بهذا الإطار، لكنه كثيراً ما كان ينكسر بسبب ديناميكية السرد التي تفرض، أحياناً، نمطاً آخر وأحداثاً أخرى. الرواية، كانت أشبه بـ «لحظة توالد فكري» يصعب محاصرتها، لأن الجمهور شاركني ميلاد الأحداث، أوَّلاً بأوَّل.
أمّا اللحظة الثانية؛ فجاءت بعد أن صارت الرواية واقعاً رقمياً، لكنه غير ملموس، حيث اعتبرت النشر الإلكتروني بمقام الصورة الأوَّليّة للرواية، والتي توجب عليَّ الانتقال منها إلى المرحلة الثانية؛ وهي التفكير في إصدار نسخة ورقية، لأن الذي يبقى، في النهاية، هو «الورق». بدأت أدقّق العمل، وأعيد قراءته وترتيب أحداثه، حيث استغرق ذلك قرابة ثمانية أشهر.. إذن، نحن بين أولويَّتَيْن؛ أهمِّيّة النصّ الورقي بوصفه «ضرورة» حضارية وثقافية، لكي يتمّ تداول الكتاب، ويدخل البيوت، ويصبح بين الأيدي، وأهمِّيّة اللقاء السريع مع الجماهير، من خلال نصّ روائي سَرَّع وتيرتَه الخوفُ من الموت، وثقل الجائحة في ذلك الوقت؛ لذلك تأتيني اللحظة التي أقول فيها بقناعة : «شكراً للجائحة، لأنها منحتنا الفرصة كي نكتب في مرحلة أولى، برغبة إنجاز نصّ يُحرِّرنا من الخوف داخليّاً، ويحاول، في الوقت نفسه، أن يؤرِّخ لهذه اللحظة التاريخية في نفوس البشر».
«ليليّات رمادة»، رواية تفاعلية، كان للقرّاء دور في نسج أحداثها ونسيجها الدرامي؛ نظراً لمشاركتك أجزاءها عبر «فيسبوك» خلال الأشهر الأولى من الجائحة.. ترى، ما هو الخطّ الفاصل بين ما يولد في عقل الكاتب، وما ينتظره القرّاء ويعبِّرون عنه، مسبقاً، في تعليقاتهم؟
– عندما قرَّرت أن أشرك القرّاء معي في أجزاء الرواية، أخذت أنشر فصلَيْن من الرواية، يومَيّ الخميس والأحد من كلّ أسبوع، على صفحتي على (فيسبوك). ومع نشر الفصل الأوَّل ومشاركته مع القرّاء، وجدت في المساء تفاعلاً لم أتصوَّره. رَّدة الفعل هذه أعطتني إحساساً بأنني لست الوحيد؛ وهو ما فتَّت داخلي مشاعر الوحدة. لم تكن فصول الرواية منجَزة بعد، فقد كان زمن كتابتها هو زمن نشرها؛ الأمر الذي كان يشبة «اللعبة». لكنها «لعبة جادّة»، وليست سهلة، بها كثير من الالتزام الأخلاقي تجاة القرّاء، ومزيد من الإثارة في أثناء ممارسة الكتابة تحت الضغط. نصحني بعض الأصدقاء والروائيِّين بألّا أضحّي بالرواية بنشرها على (فيسبوك)، لكنني كنت بحاجة ماسّة إلى هذه الشراكة الشعورية؛ بحاجة إلى أن أسمع أراءهم، وأشعر بأن هذا المرض غير موجود، وبأننا نتكلَّم على شيء وُلِد في الماضي، وبأننا في لحظة سلام آنيّة.
بدأت أفكّر في أن يتحوَّل الأمر إلى ورشة كتابة، حيث سبق لي أن دشَّنت العديد من ورش الكتابة في العالم العربي. وبالفعل، استمرَّت هذه الورشة طوال فترة نشري لأجزاء الرواية. والواقع أنها كانت واحدة من أفضل الورشات التي دشَّنتها، لأنها شملت الآلاف من الناس بدون قيد أو شرط، حيث وضعت على عاتقي التزاماً بأن أردّ على كافّة التعليقات، دون استثناء. وعندما اقتربت من نهاية الرواية، طلبت من الجمهور أن يشترك معي فيها، حيث أنجزت، أنا -أيضاً- نهايتي، لكنني لم أنشرها. أخذت أتجوَّل بين الألوان والتشكيلات التي أتى بها القرّاء كاقتراحات لنهاية الرواية. والواقع أنها كانت تجربة كتابية من أجمل ما يكون. طبعاً، تقاطعت نهايتي مع بعض النهايات، لأن مسار الرواية هو الذي حدَّد، بالنسبة إليَّ، هذه النهاية؛ فأنا صاحب النصّ وهذا خياري، لكنني أشركت معي القرّاء في التعبير عن وجهات النظر. وكلَّما كانت تصلني «نهاية» مقترحة، أضعها على صفحتي، ونتناقش حولها، حتى تحوَّلت المسألة إلى «ديناميكية» سردية. والواقع أننا صنعنا، خلال هذه القراءات الأسبوعية، عالماً من المودّة والمحبّة والتجاوز للواقع، وهو الشيء الذي بحثت عنه، بالأساس، من وراء النشر الافتراضي.
طرحت الرواية تساؤلاً حول وضعية المبدع داخل دائرة الأحداث الآنيّة، والأزمات على أرض الواقع، وإذا ما كان عليه أن يكتب بعين المعايشة اللحظية، أم ينتظر ليأخذ مسافته من الأحداث لفهم الملابسات؛ فهل تراود المبدع فكرة إعادة ما كتبه بغرض الإضافة أو الحذف، في ظلّ حدث معيش، لا تتوقَّف تطوُّراته بين عشيَّة وضحاها؟
– المبدع هو العين الكاشفة، التي تتجلّى تحت وهجها الحقائق، ولا تتقيد بزمن مثالي لالتقاط هذه الحقائق. كما أنه لا ينبغي الجمع بين الكتابة الآنيّة والكتابة بعد أخد مسافة من الحدث؛ فهناك من يكتب مع اللحظة المعيشة رغم تحوُّلها الزمني، وهناك من يأخذ مسافته لفهم الصراعات والتفاصيل؛ وهما مستويان مختلفان من الكتابة، خاصّةً أن النظام التاريخي له منطقه وفلسفته بما لا يتعارض مع المساحة الإبداعية الخاصّة بكلّ مبدع، لأن المبدع هو سيِّد هذه المساحة، لا الحدث أو الزمن. فها هي الجائحة شكَّلت لحظة مشتركة بين الجميع، ولكن كلّ منّا يعيش مساحته من الخوف والقلق، وما دون ذلك من مشاعر، على طريقته.
لا تتعجَّبي إذا ما قلت لكِ إن المبدع إذا أعاد قراءة نصوصه، بعد كتابتها، فسيشعر أنه بحاجة إلى إعادة صياغتها من جديد، خاصّة أن ظاهرة «الإغواء» كثيراً ما تلازم المبدعين، وتجعلهم يتدلّون بطرف فكرة جديدة أو زاوية جديدة أو معالجة مثيرة، وهو أمر يفرض عليهم الكثير من عمليّات التنقيح والتطوير للنصّ المكتوب، ولكن هذا نعتبره، في الأدب، أثراً جانبيّاً لفعل الكتابة لا تأكيداً على وجود رغبة حقيقية في إعادة كتابة النصّ أو تعديله.. إنه فعل «الإغواء» الأدبي، فحسب.
مع «ليليّات رمادة»، حوّلت مشاعري وأحاسيسي الشخصية بالخطر إلى حالة قابلة للتفاوض الشعوري، خاصّة أن الكتابة مسؤولية فردية، وجماعية، أيضاً، تجاه المجتمع. كلتا المسؤوليتَيْن تحتِّمان على معشر الكُتّاب القيام بعمل بحثي عميق. ففي النهاية، سيختفي الوباء، ويظهر غيره بعد عقود، ولكن لابدّ، هنا، من رصد الأوبئة المجتمعية اللصيقة بالأزمة. مثل هذه الثنائية بين الحقيقة وما وراءها، تخلق مساحة من التوازن في النصّ الإبداعي، بصرف النظر عن عنصر الزمن.
لقد كانت لك عبارة نافذة تقول: «الفيروسات رحيمة، والأوبئة فرصة لتأمُّل الذات والحياة».. كيف كانت تجربتك الشخصية في ظلّ الوباء؟ وهل كانت «ليليّات رمادة» جولة تأمُّلية شخصية لـ «واسيني الأعرج»؟
– الوباء، بالفعل، منحنا فرصة لتأمُّل الذات؛ ففي الأوضاع الخطيرة جدّاً، يواجه الإنسان المصائر القدرية الكبرى التي تتجاوز إرادته.. ومهما كانت إرادته الشخصية، فهو إمّا أن يسقط في حالة هيستريا غير مسبوقة، أو حالة «رُهاب» كلِّيّة، وإمّا أن يتعامل مع الأزمة بشيء من التعقُّل، مؤمناً، من داخله، بأن المسألة الوجودية لا يتحكَّم هو فيها، وأن الموت والحياة أكبر منه.. فالحياة حالة مؤقَّتة، وليست دائمة، وعلينا أن نملأ هذا الفراغ الزمني المتاح لنا بقوّة وجمال وكثافة أيضاً. بالنسبة إلى تجربتي الشخصية مع الجائحة، هي لا تختلف كثيراً عمّا عاشه الجميع.. كنت أخضع لقوانين العزل والحَجْر الصحّي، والتزمت بالبيت كالملايين. ولكن، في الوقت نفسه، كان الأمر قاسياً بالنسبة إلى شخص مثلي اعتاد السفر الدائم، فكنت أسافر، تقريباً، بشكل أسبوعي، لإلقاء المحاضرات، وكانت تنقُّلاتي كثيرة جدّاً، لكنّ «كوفيد» وقيوده كسَرا الكثير من عاداتي الحياتية، غير أنه يوجد، دائماً، ما يُعرف بـ «الحلول القصوى». فكَّرت أن أكتب يوميّاتي، لكني وجدت أنني، في اليومية الثانية أو الثالثة، على الأكثر، سأكرِّر ما كتبته. فالجميع عايش الحياة، خلال هذه الفترة، مثل «يوم طويل» لا ينتهي؛ من هنا شعرت أنه لا جدوى من كتابة اليوميّات. قرَّرت أن أختبر شيئاُ آخر، فبدأت أخطِّط لرواية «ليليّات رمادة».. واكتشفت أنه، في كنف العزلة، تتوهَّج الكثير من الحقائق، فالحديث، مع الأخرين، حول الأزمات والانشغالات المشتركة يمنحنا الفرصة لفهم ذواتنا والقدرة على الاستمرار. والواقع أن ما نكتبه، أحياناً، في الحالات السلميّة، يمكن إنجازه، في الظروف الاضطرارية، في وقت أقلّ بكثير.. ووفقاً لهذا المرتكز، تحوَّلت الرواية إلى محاورة موسَّعة وكثيفة.
«ليليّات رمادة».. هي تعشيق بين أدب الرسائل والسرد القصصي.. الرسائل الثلاثون، كانت بمقام استهلال روحي، تصوغه البطلة في كلّ نوبة بوح، وكأنها تدثِّر، بذلك البوح، غياب المرسَل إليه.. من أين جاءتك فكرة هذا الدمج الأدبي؟
– فكرة الرسائل ودخولها في البناء السردي للرواية، ليست أمراً جديداً بالنسبة إليَّ، وإنما ممارسة تقليدية في أغلب ما كتبت من روايات؛ وذلك من باب قناعتي بأن «الرسالة» هي لحظة تعبيرية صادقة؛ بمعنى أن المنتظَر من وراء هذه الرسالة الموجودة داخل النصّ الروائي، هو التعبير عن لحظة وجدانية إنسانية في مواجهة مخاطر الموت التي كانت متسيّدة (وما تزال) بسبب الجائحة، حيث تأتي الرسالة بغرض كسر النمطية السردية، التي كثيراً ما تكون جافّة، وهي -في الوقت نفسه- كاشفة عن أعماق الإنسان وما يعتمل في داخله. هذه التوليفة مهمّة جداً، بالنسبة إليّ، في هذه الرواية، تحديداً. كما أن الرسالة تتوازى مع مكوّن أخر لا يقلّ أهمِّيّةً في الرواية، هو الموسيقى الكلاسيكية، ومقطوعات تُسمّى، باللّغة الفرنسية، «ليليّات». «الليليّات»، هي مقطوعات للموسيقي الفرنسي الشهير «فريدريك شوبان»، تحتوي على ثلاث حركات موسيقية داخلية؛ الحركة الأولى «خفيفة» تمثِّل المقدِّمة، والحركة الثانية «قويّة» تمثِّل الذروة والصعود الشعوري. أمّا الحركة الثالثة فتمثِّل الهبوط والسكينة. وجدت، في مثل هذه الحركات الموسيقية الثلاث علاقة متماهية مع حركة الزمن داخل نسيج الرواية؛ حيث الزمن الافتتاحي الذي يمثِّل خلفية الأحداث، ثم زمن الخوف والعنف ورفض الواقع، ثم زمن السكينة والاستسلام للأمر الواقع، وعدم طرح مزيد من الأسئلة.
كان «رهاني»، في الرواية، أن تصبح هذه الليليّات «متعابدة» بين اللحظة السردية واللحظة الرسالية الغنائية، فالموسيقى هي المعبر الذي نصل معه إلى هدأة الروح والسكينة. كذلك كانت بطلة الرواية، «امرأة» عانت قسوة الأب وظلم الزوج وجفوة الحياة، لكنها -مع ذلك- تشبَّثت بـ «نبتة» الحبّ، ورفضت الاستسلام للموت. كلّ هذه العناصر، التي تضافرت في نسيج الرواية، جسَّدت أبواباً وفجوات لغرس الأمل داخل كتلة سردية تعجّ بالموت والخوف؛ من هنا لم تكن البطلة تستعيد أنفاسها، وتأخذ فسحة من ضغوطات الواقع إلّا عندما تستمع إلى الليليّات، فتعطيها فرصة للخروج من الضائقة اليوميّة وقهر مشاعر الفقد والبعد والاشتياق والحنين.. هذه العناصر -مُجتمِعةً- تكاتفت، لتجعل النصّ الروائي نصّاً ثلاثيّ الأبعاد، من حيث البنية اللّغوية، والتكوينية. ومثل هذه الخيارات الرسالية والموسيقية، لم تكن عبثية، بل صمَّمتها برغبة أكيدة لتقزيم مشاعرنا السلبية، قدرَ المستطاع.
«رمادة».. «راما».. «أفين». لكلّ اسم دلالته، وهو مُتَكأ في ماضي بطلتك، وحاضرها، ومستقبلها.. كلّ اسم، على حدة، يُفجِّر قصّة مختلفة ومعاني راسخة في ذاكرة الطفولة المكبَّلة والحبّ الذي أبى البقاء، والأمنيّات التي ظلَّت في قواريرها بانتظار انفراجة.. الأسماء الثلاثة عكست ظلالاً نفسية، وانطباعية متباينة للبطلة.. هل كان هناك ترميز أدبي مقصود خلف الأسماء الثلاثة؟
– بالطبع، كان هناك رمزية مُسبَّبة خلف الأسماء الثلاثة، يمكن اختبارها من خلال مجريات النصّ: «رمادة»، هو الاسم الى الذي اختاره لها والدها، حيث كان ينتمي، في مرحلة مبكّرة من حياته، للتيّارت الإسلاموية، إذ تعاملت هذه التيّارات مع كلّ الرموز التاريخية، وأعادت بعثها في الحياة العامّة؛ سواء مع أسماء الشوارع والأسواق والمحلّات، وكذلك أسماء الأشخاص.. كانوا يستخدمون كلّ ما يحيل إلى العنصر الديني في سبيل مكافحة ما سمّوه بـ «التغريب».. من هنا، اختار الأب لابنته اسم «رمادة» تبرُّكاً بعام «الرمادة» الذي جاء في عهد سيِّدنا عمر بن الخطاب، لكنه كان عام الأوبئة، حيث انتشر الطاعون، وحصد آلاف الأرواح، وعندما وضعت زوجته فتاةً، لا صبيّاً، سمّاها باسم هذا العام «الرمادي» القاحل. والواقع أنه لم يكرمها بهذا الاسم، بل دمَّرها؛ لرمزيَّته السلبية.
على النقيض، تماماً، كان اسم «أفين» الذي اختارته لها والدتها، وهو يعني، في اللّغة التركية، «الربيع والجمال»، حيث كانت الأمّ مرتبطة بالثّقافة التركية لأصول أجدادها التركية. كما أن الحبّ الأوَّل في حياتها كان لشابّ تركيّ، لكن علاقتهما لم تتطوَّر بصورة حاسمة، ثم تزوَّجت «والد رمادة» الذي لم تكن تحبّه بالدرجة الكافية. جاء اختيار الأمّ اسم «أفين» كدليل على المقاومة الأنثوية في وجهة الغطرسة الذكورية، وتعبيراً عن رفضها اسم «رمادة» الذي فرضه عليها زوجها فرضاً، دون مناقشة.
أمّا «راما»، فهو -في الحقيقة- تصغير اسم «رمادة» كما أن إيقاعه أكثر سلاسة وموسيقية، وكان اسم التدليل الذي اعتاد حبيبها «شادي» مناداتها به، وكذلك أخوها الذي كان يحبُّها حبّاً جماً. الاسم يشبه، أيضاً، في إيقاعه الصوتي كلمة «رحمة»، وهي -بالفعل- كانت شخصية رحيمة، ودودة، ومحبّة للآخرين. إذاً، نجد أن بطلة الرواية قد جمعت بين الاسم المرفوض «رمادة» والاسم المحبَّب «أفين»، واسم التدليل المختزل الذي يحيل إلى الرحمة، وهي -بالفعل- الصورة الثلاثية المتكاملة التي تعطينا جوهر شخصية البطلة، فهي متقاطبة بين حالة الرماد التي كانت تعيشها، يوميّاً، في بلد يواجه الموت والوباء، لكنها -في الوقت نفسه- حالمة بالحبّ، متشبّثة به كرشفة النجاة الأخيرة، ثم إن كلّ ما فيها هو «رحمة»، فهي محبّة للناس ومتسامحة، حتى مع زوجها أبيها التي ألحقت الضرر البالغ بالعائلة.
(رسائل رمادة)، كانت أشبه بخيط حريري شفّاف يتراكم عليه رماد الواقع وعوادم الصراعات الكائنة في ظلّ الأزمة، داخل أحداث الرواية.. لماذا اخترت «الحبّ» مسرحاً يدور، على خشبته، هذا الزخم من الصراعات؟ هل أردت إعطاء مسكِّن للألام يمنح القارىء القدرة على استقبال الفواجع؟ وكيف للحبّ أن يهزم مشاعر الفقد والرهبة، من وجهة نظرك الأدبية، والإنسانية ؟
– «الحبّ»، «الرسائل»، «الموسيقى».. هي الأعمدة الثلاثة التي تأسَّس عليها بنيان الرواية، حيث إن ديناميكية الكتابة وصيرورة النصّ، أحياناً، تفرضان على الكاتب أشكالاً معيَّنة، وهي -بالطبع- جزء من الفعل الكتابي، لأن «رمادة»، عندما كتبت رسائلها، كانت تنطلق من معطيات، مخطَّط لها سلفاً.. نجد -مثلاً- أن الرسائل شكَّلت جزءاً مهمّاً من البنية العامّة للنصّ، فهي بمنزلة «أيقونة تواصُل» بين «رمادة» وحبيبها «شادي» الموجود خارج البلاد، في حالة مرضية قاسية. ففي اللحظة التي انفتحت الأبواب أمام هذا الحبّ المعلَّق، انغلقت، في اللحظة ذاتها، بفعل الوباء؛ لهذا لم يكن هذا الحبّ مجرَّد «لحظة عابرة» في حياة رمادة، إنما كان «حقيقة و«لحظة حياتية» اختبرها عامل الوقت والظروف القاسية؛ لذلك كان من الصعب لهذا الحبّ أن ينطفئ. لقد جسَّدت هذه الرسائل طرف الأمل الذي تشبَّثت به البطلة، حتى وإن لم تتلقَّ ردوداً على مكنوناتها المفرَّغة عبر السطور.
في رأيي، لقد خسر الإنسان الكثير عندما تراجع هذا اللون من التواصل الخطّي بين البشر؛ ذلك حاولت أن أعيد إحياء هذا الشكل من التواصل في كثير من رواياتي. ولكن، في «ليليّات رمادة»، اكتسبت «الرسائل» زخماً شعورياً أكثر تكثيفاً، لكونها حافظت على جذوة العاطفة متَّقدة بين البطلَيْن الرئيسيَّيْن، ولعبت دوراً روائياً ليس ثانوياً، بل جوهرياً. وعندما انتقيت «الرسائل» لتصبح خلفية أدبية، واستهلالاً مشحوناً لبداية كلّ فصل من فصول الرواية، كنت أعرف أن هذا العنصر سيكون مهمّاً في بناء الرواية، وسيخلق التعبئة النفسية، والشعورية المرجوّة لدى القرّاء؛ من هنا، عبَّرت بداية كلّ رسالة عن أمل وليد يفتح ذراعيه لاحتضان الحياة من جديد، ليقول للبشرية العالقة بين الموت والحياة: «يجب ألّا نعيش موتى قبل الموت».
مجرَّد مواصلة البطلة فعلَ الكتابة (رغم كلّ الصعاب التي تعترضها)، وإنصاتها لأنينها الداخلي، أعطى الرواية روحاً داخلية تتعلَّق بالحبّ، لتجعل منه «رشفة النجاة» المنتظَرة.. صحيح أننا لا نستطيع أن نخوض حروب القسوة والظلم بالحبّ، فقط، لكن إذا خسر الإنسان هذه القيمة الشعورية المتعاظمة، فسيصبح حيواناً شرساً، لا لجام له. وليس هناك قوّة تهذِّبه إلّا ما يحيكه من قِيَم ثقافية وحضارية. لذلك، أقول أن الحبّ لا يتنَزَّل كـ «الوحي»، إنما يُربّى داخل الإنسان، لكونه استعداداً فطريّاً يحتاج إلى رعاية، وفي الوقت نفسه، الحبّ هو الذي يقودنا إلى التضحية والتسامح والاعتراف بالآخر، ولا يمكن اختزاله في الجانب العاطفي البسيط بين الرجل والمراة، بل يتعدّاه إلى الجوهر الوجودي للإنسان، فلا وجود للإنسانية دون حبّ. كلمات الحبّ، يمكنها أن تعيد اتِّقاد الحياة من جديد؛ لذا لم يكن «الحبّ» مجرَّد مكمِّلات روائية، بل جوهر الرواية ذاتها.
«رمادة».. هي صوت البوح الذي يجترّ ذكريات الماضي، ويناجي الأمل الوليد في عتمة المستقبل المجهول.. أهي رمز تتوحَّد معه البشرية قاطبةً، في زمن «الانكفاء» كما سمَّيْته في روايتك؟
– شخصية «رمادة» لها امتدادات رمزية عديدة، لكنها -مبدئيّاً- شخصية أدبية، بُنِيَ النصّ حولها لتصوير حالة مجتمعية شديدة القسوة. لقد كانت مركزاً لشبكة العلاقات الموجودة داخل الرواية، بأكملها؛ ما أعطاها حظوة التسيُّد في نصّ الرواية. لم تكن الرواية تتحدَّث عن المرض والوباء المستشري، فحسب، بل رصدت الأوبئة الاجتماعية التي تنتعش، أيضاً، في ظلّ هذه الأزمات. صحيح أن شخصية «رمادة» عبَّرت عن اللحظة الشخصية الواقعية، لكن يوجد، أيضاً، في الخلفية الكبرى للأحداث، أوبئة اجتماعية لا تقلّ ضراوةً عن الجائحة؛ من هنا، أصبحت «رمادة» أداةً للتعبير عن لحظة جماعية، فكانت تعيش وسط ألوان شتّى من الأمراض الاجتماعية، حيث تدنَّت قيمة الإنسان تحت وطأة الوباء في المجتمعات الفقيرة والمنهكة، ومن هنا كان هناك دلالة سردية تجسِّدها شخصية «البطلة» من خلال التعبير الأدبي، والفنّي عن مشكلات اجتماعية نعيشها، بالفعل.
يمكن، أيضاً، فهم مدلول الشخصية من خلال الترميز، إذ تتحوَّل «رمادة» إلى أداة للكشف عن هذه الآفات الاجتماعية. فكانت مثل «النصل» الذي ينبش الواقع، ويَّتكىء عليه القارىء لتتبُّع المنحنى المجتمعي المتهاوي تحت وطأة الأزمة. كذلك لم تكن «رمادة» شخصية فاضحة لآليّة هذه الآفات، بقدر ما كانت شخصية تستبطن الأمل؛ فعلى الرغم من كلّ الويلات التي ألمَّت بها، كانت تذهب إلى عملها، وتُحاضِر طُلّابها، وتُطالِع اللوحات الفنِّيّة وتتذوَّق الجمال حولها مهما بلغ تواضعه. هذا العالم الروائي الترميزي، كان يكرِّس لمزيد من القوّة في طعن الواقع، ومبارزته بسيف الإرادة والأمل لا الاستسلام والانكسار.
كان هناك ربط شعورىّ بين «ليليّات رمادة» و«ليليّات شوبان» وكأنه الإيقاع الخفي الذي تهتدي به البطلة إلى الحياة والحبّ والنجاة.. تلك الخلفية الموسيقية للرسائل، خلقت تعبئة شعورية لدى القرّاء.. من أين جاءك هذا الربط؟
– شكَّلت الليليّات لحظة فارقة في الرواية كـ «بنية» و«مدلول».. أشرح كثيراً لأصدقائي من أين جاءت ترجمة كلمة «ليليّات» لا «ليالي»: الليليّات، هي الأمسيّات الموسيقية التي تتضمَّن مقطوعات موسيقية قصيرة تتناغم مع البناء الهرمي للموسيقى، متضمِّنة ثلاث فواصل موسيقية، تجمعها هرمونيا واحدة.. وعلى الرغم من قصر هذه المقطوعات، هي قويّة من ناحية البناء، ومن لديه ثقافة موسيقية، ولو خفيفة، يستطيع معرفة ذلك.. لقد قمت باختيارها، لكونها تناسب البعد الدرامي للرواية وللشخصيات، ولأنها، أيضاً، مقطوعات تضفي السكينة، وتنفذ إلى الأعماق. وما إن تنتهي، حتى تدفع المستمع إلى لحظات تأمُّلية عميقة، وكأنها تفتح شهيّة الروح. والواقع أننا وسط مشاعر الحزن والخوف والانكسار التي احاطتنا بها الجائحة، نحتاج إلى سند روحي يمكننا الاتِّكاء عليه، لكي يستقيم الوضع، ولو قليلاً، ولهذا جاءت هذه المقطوعات الموسيقية متناغمة، تماماً، مع رسائل البطلة وكأنها «تتمّة» لهذه اللحظة التي ترتفع بها عالياً، وتهبط بها ما بين قطبَيّ اليأس والتفاؤل، لتولد، بين قطبَيّ التساؤل، تلك الأسئلة التعجيزية : ما قيمة الوجود؟ ماذا يساوي الإنسان الذي نصَّب نفسه الأقوى؟ فعلى الرغم من امتلاك الإنسان لكلّ وسائل التدمير التي دمَّر بها الطبيعة، إلا أنه عجز عن تدمير هذا الكائن المجهريّ الضئيل.. حتى ظهور مثل هذه الفيروسات والأوبئة ناجم عن تلاعب الإنسان بالطبيعة، وإخلاله بنظامها. لو تصوَّرنا، ونحن نتابع أنباء الصاروخ الصيني الشارد، أن هذا الصاروخ نوويّ، وربَّما سقط على الأرض في أيّة لحظة، فأيّة كارثة يمكن أن تلحق بالبشر وقتها؟.. إذاً، تصنع البشرية، أحياناً، أشياء خارج نطاق السيطرة، ومن بين هذه الأشياء «الفيروسات»؛ إمّا عن طريق مباشر أو عن طريق غير مباشر..
وسط هذا الصخب الطاعن، جاءت «الليليّات» في بداية كلّ فصل، كـ «مستراح» لالتقاط الأنفاس، حتى نستطيع رؤية العالم بصورة أقلّ بؤساً ممّا هو عليه، إذ جسَّدت المقطوعات الموسيقية- داخل البناء الروائي- سنداً عميقاً لاستعادة إنسانية الإنسان التي تغيب داخل الرواية، باستثناء أبطالها الإيجابيّين. فالرواية تريد أن تقول، من خلال بنيتها اللّغوية، واستخدام الوسائط الايجابية المختلفة؛ مثل الرسائل والموسيقى، أنه ما يزال في الإنسان قوّة جميلة يمكنه الاتِّكاء عليها؛ كي لا يفقد الأمل في النجاة.
– نهاية الرواية جاءت صادمة لبعض القرّاء.. لأيّ شيء انتصرت هذه النهاية؛ لـ«مَنطَقة الواقع» أم لـ«ضبابية المستقبل»، أم لـ «جمود الحاضر» الذي لا يمنحنا ما نريد في الوقت الصحيح..؟!
ربَّما كانت النهاية صادمة للأغلبية؛ لكونها مغايرة لإيقاع الأحداث، وسيمترية السرد في الرواية، حيث تفقد «رمادة» جنينها الذي جسَّد رمزية الأمل طوال الأحداث، لكنني صمَّمت النهاية بغرض الانتصار إلى صيرورة الواقع الروائي. إن المجتمع الذي تدور على أرضه أحداث الرواية، لا يقودني إلّا إلى مثل هذه اللحظة التي مثَّلت مفترق طرق بين البطلَيْن.. لكنني حرصت على أن أبقيها نهاية مفتوحة غير جازمة، رغم هالة الحزن التي خيَّمت عليها. حرصت على أن يبقى الحلم مُعلَّقاً، يقبل البعث في أيّة لحظة. ففي نهاية المطاف، يمكن للقارىء أن يضع النهاية التي يشتهيها إدراكه بصفته «متلقِّياً» بعد التشبُّع برسائل الرواية.. ربَّما كانت هناك نهايات أكثر تفاؤلاً، ولكن الأهمّ- بالنسبة إليّ- أن تُمنطِق النهاية ما سبَقها من أحداث. ما صدم القرّاء، أيضاً، «كسر الحالة» التي اعتادوا عليها، فقد تعوَّدوا على مسار معيَّن للرواية، أنساهم حالة المرض التي هيمنت عليهم. لم يكن سهلاً أن يفقدوا ذلك المسار الحالم الذي كانت تعيشه البطلة انتظاراً للقاء، هو كلّ ما تبقّى لها. وبعد كلّ هذه الفترة الزمنية التي اعتصرت طاقتها، ولم تنل من يقينها، لم تحصد سوى الخيبات، وذلك لأنها أحبَّت بصدق.. مَن يحبّون بصدق، تكون ردّة فعلهم، أحياناً، أكثر قسوة، ليس تجاة الأخرين، فحسب، بل تجاه أنفسهم أيضاً، كأحد أشكال العقوبة وجَلْد الذات. ولكن تظلّ الدلالة الإنسانية، بانتصاراتها وخيباتها، على حَدّ سواء، نتاجاً لوضعية المجتمع الذي يصعب فصله عن الأفراد.. ففي النهاية، للواقع منطقه الذي يجب وضعه في الحسبان، دون وأد الأمل أو عملقته.