هل يمكن أن تكون كاتباً ومحبّاً لكرة القدم؟

كرة القدم لعبة رائعة وجميلة، وهي الرياضة الأكثر شعبية في العَالَم. للوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطاً للغاية. على الميدان، فريقان بأحد عشر لاعباً، وحكم، وكرة، ومرمى، والفائز هو الذي يسجِّل أكبر عدد من الأهداف. لكن بعيداً عن هذه البساطة الظاهرة، تكتسي كرة القدم أهمية بالغة في حياتنا ومعظم فئات المُجتمع، من العامل البسيط حتّى المُثقَّف والفيلسوف.

ذات مرّة سُئل الفيلسوف والكاتِب الفرنسي ألبير كامو: أي شيء أحب إليك، كرة القدم أو المسرح؟ ردّ «كامو» «كرة القدم، دون تردُّد». فهل كان «كامو» استثناءً؟

في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1957، بينما كان ألبير كامو يتناول الغداء في مطعم وسط الحي اللاتيني في باريس، اندفع شاب من مكتب ناشره ليبلغه بما سمعه للتّو في الإذاعة: لقد فاز «كامو» بجائزة نوبل في الأدب.

في ذلك العام، أصبح ألبير كامو ثاني أصغر فائز بجائزة نوبل في الأدب. وبعد أسبوع واحد، أجرى مقابلةً على التليفزيون الفرنسي. ومع ذلك، لم يجلس «كامو» ومحاوره في أستوديو مريح كما جرت العادة. لقد جلسا في ملعب بارك دي برينس، وسط حشد من 35 ألف متفرِّج، يشاهدون مباراة نادي راسينغ باريس وفريق موناكو. على الميدان قام حارس المرمى بحركة خاطئة، وظلّ يتابع تمريرة عرضية منحرفة، حتى أفلت الكرة التي اهتزت داخل شباكه. على الفور قطع المُحاور حديثه، وأراد معرفة رأي «كامو» في خطأ الحارس الفادح. طلب منه ألّا يكون قاسياً في الحُكم عليه: «لا تلومه. إذا كنت في مكانه، فستدرك مدى صعوبة المُهمَّة». ثمَّ أومأ برأسه، وكأنه يقول «وهذا ما يجب أن أدركه بدوري».

لقد كانت المرّة الوحيدة التي تتمُّ فيها مقابَلة فائز بجائزة نوبل في إحدى مباريات كرة القدم. بفضل اقتباس انتشر على نطاقٍ واسع، «كل ما أعرفه عن الأخلاق والالتزامات أنا مدين به لكرة القدم»، لم يعد ولع «كامو» باللعبة خافياً على أحد. ولم يكن ذلك مجرد شغف عابِر. في عام 1959، قبل أقلّ من عام من وفاته، أخبر «كامو» محاوراً آخر بأن المسرح وملعب كرة القدم هما أفضل «جامعتين حقيقيتين». في عالَم كرة القدم، وجد أحد أعظم المُؤلِّفين الفرنسيين في القرن العشرين أكثر أشكال الوعي قوةً وقيمة.

قبل وقتٍ طويل من كتابته عن «سيزيف»، وقع «كامو» في حبِّ اللعبة. ومثل العديد من أعظم اللاعبين، اكتشف حبَّه لكرة القدم مبكِّراً في طفولته البائسة. كان «كامو» يتيم حرب، نشأ في حيٍّ فقير بالجزائر العاصمة وربّته أم أميّة. كانت جدته تمنعه باستمرار من لعب كرة القدم، لأنها كانت تخشى تمزيق حذائه المدرسي، الذي كان يمثِّل نفقةً كبيرة على الأسرة. لكن «كامو» لم يردعه ذلك. في «الرجل الأول» -رواية السيرة الذاتية التي كان يعمل عليها وقت وفاته- نقرأ عن صبي صغير يُدعَى «جاك». في مرحلة الطفولة، كانت كرة القدم «مملكة» جاك، وخلال فترة المُراهَقة تطوَّر شغفه حتى أصبح «مهووساً» باللعبة. في ملاعب جزائرية خشنة و«كرة مصنوعة من الخرق» طوَّر جاك تجربته المُبكِّرة في كرة القدم.

في عام 1959، عندما كان يروِّج لعمله المسرحي المُقتبَس من رواية «الشياطين» لـ«فيودور دوستويفسكي»، بدا أكثر عزماً وتصميماً، ومنح كرة القدم شرفاً خاصاً. صوَّرته الكاميرا واقفاً خلف الكواليس مُتكئاً بيده اليمنى على عمود ضوء كشاف وأخفى يده اليسرى خلف ظهره، وهو يقول لمُخاطبه: «عندما كنت شاباً ألعب مع فريقي، أحسست بهذا الشعور القوي بالأمل والسعادة، والذي كان لا يفارقني في أيام التدريب الطويلة قبل المُباراة. وفي الحقيقة، بعض المُثل العليا التي تعلَّمتها، في المسرح، أو في ملعب كرة القدم – كلاهما يمثلان جامعتي الحقيقية».

في عام 1928 ظهر «كامو» لأول مرّة في حراسة مرمى فريقه الأول نادي مونبنسير. وكان قد تعرَّف على صديق يلعب كرة الماء. هناك في المرفأ، في ساحة المُناورات غير المحروس والذي لا يمكن التنبؤ بتقلباته، تعلّم «كامو» أول درس له في الحياة الواقعية: الحياة، مثل الكرة، لا تأتي أبداً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها – وانتظار شيء لا يحدث هو العبث بعينه. لذلك اختار ألبير كامو حلاً عبثياً لمُشكلة عبثية، اختار من بين 11 مركزاً في الميدان، المركز الذي صُمِّمت كرة القدم خصيصاً من أجل اختراقه وانتهاكه: حراسة المرمى.

ولكرة القدم أيضاً حضورٌ بارز في الروايات الثلاث التي نشرها في حياته. في «الغريب» (1942) يظهر المُناهض للبطل مورسو وهو يشاهد عربات الترام في المساء الباكر مليئة باللاعبين والمُشجِّعين العائدين من الأرض المحلية؛ وفي «الطاعون» (1947)، يتمُّ الاستيلاء على ملعب الفريق المحلي وتحويله إلى ساحة عزل. أما جونزاليس، اللاعب السابق، فيتأسَّف من هذا الوباء الذي حرمه من يومٍ مثالي للعب؛ وفي «السقطة» (1956)، الرواية التي اعتبرها ابنه «جان» الأكثر تمثيلاً لصوته، يعترف كلامانس: «حتى اليوم، مباريات كرة القدم في ملعب مزدحم، والمسرح الذي أحببته بشغفٍ فريد، هما المكانان الوحيدان اللذان أشعر فيهما بالبراءة».

وفي كتاب «كرة القدم بين الشمسِ والظلّ»، كتب الأورغوياني «إدواردو غاليانو» (1940 – 2015) عن الأديب الفرنسي الجزائري: «في 1930 كان ألبير كامو هو القديس بطرس الذي يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته (…) وخلال سنوات ممارسته لحراسة المرمى تعلَّم «كامو» أشياء كثيرة (…) أن يكسب دون أن يشعر بأنه خارق، وأن يخسر دون أن يشعر أنه قمامة، وهذه حكمة شاقة. كما تعلَّم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلاتٍ خطرة على امتداد كتبه».

قبل عامين من وفاته، اشترى «كامو» منزلاً في لورمارين، وهي قرية جبلية نائمة على بعد خمسين ميلاً شمال مرسيليا. هناك تعرَّف على لاعبي فريق كرة القدم المحلي، وكان يدفع ثمن المُعدات ويشرب معهم القهوة بعد المُباريات. ربما كان سيستمر على هذا النحو لسنواتٍ. ولكن في يوم رأس السنة الجديدة عام 1960، عرض ميشيل غاليمار، صديق «كامو» والناشر منذ فترةٍ طويلة، أنْ يصطحبه من جنوب فرنسا إلى باريس. كان «كامو» قد اقتنى تذكرة قطار، لكنه قرَّر في اللحظة الأخيرة العودة مع صديقه في السيارة. وفي طريقهما انحرفت السيارة عن مسارها واصطدمت بشجرة ومات «كامو» على الفور.

في صندوق السيارة المُحطَّمة عُثِرَ على المخطوطة غير المُكتملة لروايته «الرجل الأول». قبل ذلك بعام، أخبر «كامو» صديقاً له أنه لم يكتب سوى ثلث أعماله الكاملة، وأنه شعر أنه بدأ للتو. في السابق، قال لأصدقائه لا شيء يمكن أن يكون أكثر سخافة من الموت في حادث سيارة. بعد وفاته، دُفِنَ في تلال لورمارين. وفي جنازته، حمل اللاعبون المحليون نعشه.

في «رجل كرة القدم» (1968) كتب آرثر هوبكرافت أن لعبة كرة القدم «تخلق صراعاً وجمالاً، وعندما تتواجد هاتان الصفتان معاً في شيء يُعرَض للتقييم العام، فإنهما يمثِّلان الكثير مما اعتبره فنّاً». يشكِّل الفنُّ أقدم طريقة للإنسان العاقل لاستنتاج المعاني والسموّ بالذات، وفي كرة القدم أدرك «كامو» شكلاً من أشكال الفن. بالنسبة له، كانت اللعبة عبارة عن قطعة مسرحية. دراما لعملٍ جسدي استبدلت زخارف العقل بواقع المُجسّدين. «كامو» اعتبر أنه لا توجد مواساة نهائية وشيكة، وبالتالي لا مفرّ من مأزقنا العبثي. حياتنا الآن، هذه اللحظة الراهنة، هي كل رصيدنا. فلا نضيعها. فالتعاليم الخام للجسد، والحب بلا خجل للعبة لاعقلانية، وأصداء شفقات الشباب البريئة؛ إنما هي لحظاتٌ صغيرة نتجاوز بها سجننا المادي. تلك هي لعبة «كامو» الجميلة.

إم إم أوين

المصدر:

https://www.mmowen.me/camus-absurd-love-of-football

فنّ لعب كرة القدم

إنّ اقتفاء أثر تاريخ لعبة كرة القدم من خلال البحث عن الجوانب الإنسانية بعيداً عن النتيجة الرياضية، هو سردٌ لقصص الأفكار والمُثل العليا، والأفراد الذين جسَّدوها. هل يمكن الحديث عن كرة قدم مختلفة؟ ما هو حاصل ذكاء كرة القدم؟ من قتل الكاتيناتشيو الإيطالي؟ هل الهجوم حقّاً أفضل من الدفاع؟ هل يصنع اللاعبون العظماء مدرِّبين عظماء؟ ما هي الحركة التكتيكية؟ وهل من الأفضل الخسارة مع اللعب الجيّد أم الفوز رغم الأداء المُتواضع؟ وقبل كل شيء، لمَنْ تعود الأفكار الخاصة بكرة القدم ومَنْ يدفعنا للتفكير في كيفية اللعب منذ عقود؟ في كتابه «التكتيكات ومدارس اللعب والمبادئ والأصول»، يحاول ماركوس كوفمان الإجابة عن عددٍ كبير من هذه الأسئلة.

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت كرةُ القدم فترةً تعرَّضت فيها المساعي الرامية لتطوير فنون اللعب والمجد الرياضي في الملاعب إلى الخطر بسبب طغيان الطابع التسويقي وصناعة النجومية. ورغم أن التكتيكات، فن صناعة اللعب، كانت دائماً في قلب معركة مفتوحة بين الأفكار والإحصاءات والحالمين والبراغماتيين والفلاسفة والفيزيائيين، إلّا أن خطاب اللعبة كان خافتاً بسبب سطوة الأرقام، والاقتصاد والنتيجة. بعد أن هيمن الخبراء العلميون على الخطاب التكتيكي. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان الموهوبون يمارسون بمُفردهم، وأحياناً في أزواج، رياضة كرة القدم مدفوعين بقوة العضلات وألعاب القوى التي تتطلَّب مستوى بدنيّاً عالياً للغاية. ومع ذلك، في خضم كل تلك التحوُّلات، لا يزال هناك الكثير من القصص التي يمكن سردها بعيداً عن النتيجة التي تطغى في الأخير، وتظلّ التكتيكات اجتهاداتٍ بشرية أيضاً، والفوز لا يكون دائماً حليف الجدارة.

قبل وقتٍ طويل من ظهور أنظمة اللعب والأزياء المثلّثة، يستهل المُؤلِّف كتابه «تكتيكات» بفهم طبيعة المُهمَّة الثقافية، وهو نموذج مطلق تمَّ تأسيسه بناء على قيم محلية تحدّد معنى النجاح لكل فريق. برشلونة، على سبيل المثال، أكبر من مجرّد فريق رياضي، يهدف إلى نشر القيم الكاتالونية وجعلها تتألق خارج الحدود. يوفنتوس لا يقترن وجوده إلّا بالفوز: «أن تفوز ليس مهمّاً فحسب، إنه الشيء الوحيد المُهمّ». أو كذلك السلطة الملكية الراسخة في أسلوب لعب ريال مدريد، وبيع مشروبات الطاقة التي تحمل اسم نادي كرة قدم ألماني «RB Leipzig»، أو كذلك الانتصار المُتناغم لنادي أرسنال الإنجليزي تحت شعار «النصر يتحقّق في انسجام». أما نادي باريس سان جرمان فقد اتخذ شعاراً طموحاً بشكلٍ استثنائي: «حلمنا أكبر من الجميع»، في مقابل الشعار الواقعي «إذا بحثت عن مشكلة فستجدها» لفريق رابطة نانسي لورين الرياضية. وبعيداً عن الأداء الرياضي، فإنّ لكرة القدم سحرها الخاص فهي تعني الكثير للجماهير والمُتابعين.

من هذه المُهمّة الثقافية تنبع فلسفة اللعب واختيار المدرب ومشروعه في اللعب، ومن هذا المنظور أيضاً تصبح التكتيكات ترجمة للهويّة الثقافية إلى أنماط وحركات ولعب، وعواطف ومآثر وكوارث. ماذا لو تخيّلنا ملاعب مليئة بالمُشجعين المُخلصين الذين يأتون لمُشاهدة مقابلة تنافسية بين اللحم الإيطالي واللحم الإسباني، أو بين لحم البقر الفرنسي واللحم الأرجنتيني. من المُؤكَّد أن الحشد لن يناقش التنظيمات أو الإحصائيات، بل الأذواق والنكهات. مباراة كرة القدم لا تختلف عن ذلك. فالمشهد الكروي الإنجليزي لا يُثير حماسة الإسبانيين. والهولنديون يعتبرون رمية التماس تعطيلاً لنسق اللعب، بينما تصبح في نظر الإسكندنافيين فرصةً لتسجيل الأهداف. أما الإيطاليون فهم يلعبون كرة القدم دون لمس الكرة في منطقة الجزاء الخاصة بهم بنفس المُتعة لدى البرازيليين في اختراع المُراوغات على طول خط التماس. والفكرة المُشتركة لكل هذه الخصوصيات: التعبير الجماعي عن فكرة تعكس كرة القدم، وأحياناً الحياة بشكلٍ عام.

وعلى غرار الطهي، يمكن التعبير عن كرة القدم ومشاركتها من منظور القيم الثقافية المحلية التي تختلف من بلدٍ إلى آخر، ومن قريةٍ إلى أخرى. لكن بينما تعلَّم الإنسان الاستفادة من جميع المأكولات، فإنّ التكتيك لا يمكنه التطوُّر بمعزل عن إمتاع براعم التذوُّق لدى المُؤيدين. مباراة كرة القدم هي لقاء بين خطتين تكتيكيتين. إنه توازن قوى: يمكن تنفيذ تكتيك على أكمل وجه مع الفشل في النتيجة، أو اللعب بتكتيكات متواضعة وتحقيق الانتصار. إنّ تاريخ كرة القدم المُمتد لقرونٍ قد حفَّز جميع أنواع مشاريع الألعاب، والتكتيكات تفتح الأبواب لناقشات أبدية مثل الفنّ والفلسفة. وفي حين أن العمل الفنيّ يكون قائماً بذاته، فإنّ التكتيك الرابح دائماً ما يكون نسبياً ويتغيَّر بتغيُّر المُنافس والعصر، وبالأخص طبيعة اللاعبين على الميدان. ومنذ القدم كان يتمُّ التعبير عن التكتيكات وشرحها في شكل بيادق أو مكوِّنات أو نقاط مطيعة على لوحة «فيليدا»، ومع ذلك فإنّ تاريخها يشمل كل شيء من رقعة الشطرنج إلى مهارات اللاعبين وغرف ملابسهم.

في جميع القارات، وفي جميع الأحياء، تبدأ كرة القدم في الشوارع والمُتنزهات. كل ما يتطلَّبه الأمر موهبة وكرة مستديرة، ولعب خلال فترات ما بعد الظهر الطويلة. ثمَّ تتقاذف الأرجل الكرة وترقص على إيقاع التمريرات والمُراوغات والتسديدات ومهارات التحكّم والترويض… ولكن منذ لقاءاتنا الأولى، سواء اثنان ضد اثنين، أو فريق مكوَّن من أحد عشر لاعباً، سرقت الكرة منّا أوقاتنا وتفكيرنا. على أرضية الميدان يتدرَّب اللاعب الشاب على التكتيكات. مَنْ يلعب أولاً وأين الوجهة؟ عندما أهاجم، هل يجب أن أبتعد لأطلب الكرة أم أقترب من حامل الكرة؟ عندما أدافع، هل يجب أن أضغط أم أتراجع؟ وقد يشكِّل الاكتشاف مفاجأة: كرة القدم تُلعب بالفعل حول الكرة، ودون الحاجة إلى لمسها. عليك أن تعرف كيف تبرز، وتغطي، وتضغط، وتغادر لتقتحم الأسوار وتشقّ منفذاً إلى زميلك في الفريق… ورغم أن التكتيكات كانت ترسم دائماً على السبورة المُثبتة في الجزء الخلفي من غرف تغيير الملابس الباردة، إلّا أنها كانت دائماً هناك تتطوَّر وتختفي وتعود من جديد في دفء أقدام ورؤوس اللاعبين الصغار والكبار.

على عكس الرياضات في أميركا الشمالية، حيث يستغل المُدرِّب فتراتِ اللعب المُتقطعة وتوقُّف اللعب للتذكير بالتكتيكات وتعديلها، ويجتمع باللاعبين و«يطالبهم» باعتماد هذا الأسلوب أو ذاك، فإنّ كرة القدم الشعبية كانت دائمة سلسة تتطوَّر منحنياتها وهندستها بمرور الزمن. تسلسل غير متقطع من العمليات، الفردية والجماعية. العمل التكتيكي، الذي يُعرَّف بأنه التنفيذ الفنيّ لقرارٍ ما، هو ثمرة الفهم الفردي الذكي لهذه السلاسة والتناسق الجماعي. مدافع مركزي يلعب في العُمق لضرب دفاع الخصم أو يستحوذ على الكرة ليدفع بالخصم للتحرُّك والضغط عليه وإفساح المجال للاعب خط الوسط، الظهير الذي يتحرَّك إلى الداخل أو يلتصق بالخط الجانبي بالتزامن مع لعب الكرة على الجناح المُقابل، ولاعب خط وسط مبدع يراوغ باللعب باتجاه أحد الأجنحة لعكس الهجوم على الجانب الآخر… التكتيك، أو عِلم حلّ مشكلة ضيق الوقت والمساحة الذي لطالما ميَّز كرة القدم، هو بمثابة التزاوج بين المهارة ومعرفة اتخاذ القرار.

في ملاعبنا، تعمل الانسيابية في اللعب على تشتيت التكتيكات: التحفة التكتيكية ليست مسألة تعديلات على إعدادات معيَّنة مسبقاً، كما هو الحال في وحدة التحكُّم، ولا النسب المئوية أو المواقع السحرية. تظلّ التكتيكات علماً بشرياً يعتمد نجاحها على صحة مبادئ اللعب لدى المُدرِّب بقدر ما يعتمد على نقل قناعاته وتنفيذها في مواجهة الصعوبات. وستظلّ التكتيكات دائماً، حتى بعد أن أصبحت مجالاً مفضلاً للدراسة لدى محللي البيانات في جميع أنحاء العَالَم، علماً متناغماً مع الفيزياء والإحصائيات والتخطيط، وكذلك مع مبادئ الإيمان والمُشاركة والإبداع.

إنَّ اقتفاء أثر تاريخ لعبة كرة القدم من خلال البحث عن الجوانب الإنسانية بعيداً عن النتيجة الرياضية، هو سرد لقصة الأفكار والمُثل العليا، وأولئك الذين جسَّدوها. قصة تروي فصول تقابل النظام والحرّيّة، والدرع والسيف، وصراع بيلاردو ومينوتي، وأحلام باتو وهيدالغو. لذلك كانت التكتيكات ملكاً للجميع على مرّ الأزمنة؛ من المُشجِّعين الذين يسعون إلى تحقيق هويّتهم من خلالها، إلى اللاعبين الذين يتفنَّنون في تجسيدها أو المُدرِّبين الذين يسعون إلى تطبيقها على الميدان.

 

ماركوس كوفمان

المصدر:

https://www.sofoot.com/l-art-du-comment-jouer-au-foot-499029.html

نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا

على بُعد أيامٍ قليلة، وعلى أرض الثقافة العريقة والتعدُّد الثقافي والعادات والتقاليد التي تمتزج بالابتكار والشغف بكرة القدم سترحِّب قطر بكلِّ حفاوة بالجماهير من مختلف بقاع العَالَم لحضور نسخة استثنائية من بطولة كأس العَالَم.
إعداد نسخة لم يسبق لها مثيل من كأس العَالَم يعني بالنسبة لدولة قطر المضي قدماً في تحقيق رؤية قطر – 2030، والاستراتيجيات التنموية المُرتبطة بها، والتي، من بين ما ترتكز عليه، العمل على الإثراء الثقافي والتميُّز الرياضي، ضمن سياسة تنموية وتوجيهات حكيمة تعتبر: أنّ الثقة بالهويّة الوطنيّة والتمسُّك بالقيم الأخلاقيّة والدين الإسلامي الحنيف، ينسجمان مع العقلانيّة في التخطيط الاجتماعي والاقتصادي، والانفتاح على العَالَم، والنظرة الكونيّة الإنسانيّة في قضايا العدالة وحقوق الإنسان. وهذا يعني أيضاً التسامح مع العقائد الأخرى، وقبول التعدُّدية والتنوُّع في عالمنا بوصفه سُنّةَ اللهِ في خلقه.
وإنّ مرجعَ هذه القيم مترسخٌ في تقاليد الحكم وفي شيم القطريين المطبوعين منذ القديم بحُسن أخلاقهم وكرمهم وتواضعهم واحترامهم للآخرين… وليس من هدف للتنشئة والتربية أسمى من الأخلاق، التي ما فتئ حضرة صاحب السمو الشّيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، يحرص على التذكير بها في خطاباته، حرصاً من سموه على أن يجد الشاب معنى لحياته في ظروف الحضارة الاستهلاكية؛ مذكِّراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء في الميزان أثقل من حُسن الخُلق».
وإنّ تقديم نسخة استثنائية من كأس العَالَم هو أيضاً واجهة لإبراز مقوِّمات الدولة الحديثة التي تستجيب لمُتطلّبات العصر من جهة، ومن جهةٍ ثانية للتأكيد على أن هذه الاستجابة واقع نموذجي في ظلِّ الانتماء العربي الأصيل والعقيدة الإسلامية السمحاء، وهي بذلك استجابة واعية بضرورة أن يواكب التنمية الشاملة للوطن والمُواطن تطوُّر قيمي وثقافي من جهةٍ ثالثة.
لقد تشكَّلت صورة التنوُّع الثقافي عبْر التاريخ لتضع سياق كل زمن ضمن رهانات تدبير الثراء الإنساني في مناخ يسوده السِّلْم، والاحترام المُتبادل بين الثقافات في أفق استثمار هذا الثراء في عمليات التنمية المنشودة. وقد أدركت دولة قطر أهمية التوازن المطلوب في تدبير زمن التعدُّد في إطار خصوصيتها وتفاعلاتها مع العَالَم على جميع الأصعدة. فوضعت لتطلعاتها الثقافية واجهتين؛ تتمثَّل الأولى في التشبث بالتقاليد وجعلها قاطرةً لتنمية وجدان الشخصية القطرية، ووضعه بِقيَمِه وهويّته، في قلب التنمية الشاملة. والثانية في الانفتاح على الثقافة الإنسانية بما يحقِّق للجسر الرابط بين الوجهتين الأولى والثانية التوازن المطلوب بين الأصالة والحداثة. ومن هذه المُنطلقات شكَّل التحديث -مع المُحافظة على التقاليد- واحداً من التحدّيات الخمسة في الرؤية الوطنية (قطر – 2030)، ومن بين ما يترجمه هذا التحدّي حرص دولة قطر على ترسيخ الهويّة الوطنية من خلال إبراز خصوصيتها الثقافية. كما يترجم في الرؤية العامة، سمة ثقافية وذهنية ملموسة وفعَّالة في كافة المجالات والقنوات التي من شأنها أن تشكِّل جسراً مع بقية دول وشعوب العَالَم، وذلك من منطلق اعتبار الحفاظ على الهويّة يتأتى بالاستثمار في المُقدرات الوطنية؛ (الثقافية والتراثية والسياحية والبيئية والرياضية…).
تقديم نسخة استثنائية من كأس العَالَم معناه أيضاً عرض صورة بانورامية لنموذج تنموي عربي خطط لمجالاته الحيوية استراتيجيات شاملة ووضعها على السكة الصحيحة، بما في ذلك مجال الثقافة، الذي أولته الرؤية الوطنية أهمية واضحة من حيث، الدعم والتوجيه، بحفظ العادات والتقاليد الموروثة، وإبراز طابع التسامح والتضامن وعمل الخير في الأخلاق القطرية النابعة من القيم الإسلامية، وفي الوقت نفسه تسخير هذه القيم للتفاعل مع المُجتمعات والثقافات الأخرى.
واستناداً إلى جاذبية هذا النموذج القائم على الاتزان والعقلانية والواقعية، تتمتع دولة قطر بعلاقاتٍ وثيقة مع باقي دول وشعوب العَالَم، وهي علاقات قائمة على الثقة والصداقة والاحترام المُتبادل. وهي المبادئ التي ما فتئت تساهم في اختيار قطر مقراً لاستضافة مُؤتمرات دولية وأحداث وفعاليات مهمَّة في مختلف المجالات، ويشكِّل حدث استضافة بطولة كأس العَالَم تتويجاً لهذا المسار الطويل في تكريس ملامح السمة الوطنية القطرية، والتي تنعكس بوضوح في مختلف الواجهات سواء كانت ثقافية، مدنية، إنسانية، أو سياحية ورياضية، مقدِّمة نموذجاً فريداً على المُستوى العَالَمي بالاستثمار في المجالات الأكاديمية والتعليمية وفي تطوير البنى التحتية الثقافية التي تضطلع بالاستثمار في المعرفة وفي قدرات الإنسان بقدر ما توفِّر كذلك مناخاً لتبادل التجارب والخبرات بين طيفٍ فريد من الطلاب ذوي الجنسيات والانتماءات الثقافية والاجتماعية المُختلفة.
وإنها لنسخة استثنائية في عيون العَالَم، وهي جديرة بالاستثناء بالنسبة لبلد أضحى، بحكم تعدُّد الثقافات الوافدة إليه، مرآة عاكسة لجميع الهويّات، وبذلك تكون هذه النسخة على أرض الثقافات؛ ثقافة قطرية تركها الأجداد جذوراً حضارية تتأصّل بها الأجيال اللاحقة، لتصبح بدورها مغذياً أساسياً لتلك الحركة المُستمرة في رغبة الانتماء الحضاري إلى العَالَم. وفي هذا المسار تبرز غاية جوهرية من نسخة استثنائية لا شكّ أنها ستلهم العَالَم لكي يبقى الإنصات العميق لثقافة الآخر جسراً ممتداً لا حدود له.

***

في تناغُم بين الأصالة والحداثة، يبقى المَلمحُ الفريد والمُبهر في كافة استادات كأس العَالَم (FIFA) قطر 2022، هو البُعد الثقافي لتصاميمها المُستوحاة من عراقة الثقافة القطرية والعربية، فمن بيت الشعر الذي سكنه أهل البادية الذين عاشوا مرتحلين في صحراء قطر، اتخذ استاد البيت شكله المثالي مجسِّداً خيمة مزيَّنة بنقوش السدو النابضة بالحياة لتعكس حفاوة الترحاب والكرم، وتُعيد إلى الأذهان تراث الأجداد. ومن الخطوط الرشيقة والمُنحنيات السلسة التي ميَّزت أشرعة المراكب التقليدية، يعود بنا استاد الجنوب إلى الماضي البحري الذي عُرفت به مدينة الوكرة. أما استاد الثمامة فيحاكي تصميمه الدائري، الذي أبدعه المُهندس القطري إبراهيم محمد الجيدة، شكل القحفية، وهي القبعة التقليدية التي يُعَدُّ ارتداؤها قاسماً تراثياً مشتركاً بين جميع بلدان الوطن العربي. كما نجد في واجهة استاد أحمد بن علي المُتجدِّد أشكالاً هندسية متوهِّجة من الزخارف البديعة التي اشتهر بها فنُّ العمارة الإسلامي عبر العصور، ومنحنيات من الكثبان الرملية تصوِّر جوانب من الثقافة والجمال الخالص للصحراء القطرية. وعلى غرار ذلك يحتفي استاد المدينة التعليمية بتراثٍ حضاري بديع يروي فصلاً من تاريخ الفنّ المعماري الإسلامي. فيما يقدِّم استاد لوسيل فكرة نوعية متمثلة في تصميم يستوحي أوعية الطعام والآنية التقليدية وغيرها من القطع الفنيّة التي استُخدمت على مدى قرون في الوطن العربي. بينما نجد استاد 974، بأسلوبه المُعاصِر والمُبهر يستوحي تصميمه من الإرث البحري والتجاري العريق لدولة قطر.
هكذا، وعلى أرض الثقافة العريقة والتعدُّد الثقافي والعادات والتقاليد التي تمتزج بالابتكار والشغف بكرة القدم سترحِّب قطر بكل حفاوة بالجماهير من مختلف بقاع العَالَم لحضور نسخة استثنائية لم يسبق لها مثيل من كأس العَالَم؛ فهدف دولة قطر كمُستضيفة لبطولة كأس العَالَم 2022، لن يقتصر على نشر هذه اللعبة الجميلة في مختلف أنحاء العَالَم، من خلال الإرث الذي ستخلفه هذه الاستضافة، ذلك أن الدافع الرئيسي وراء تقدُّم قطر بملف استضافة كأس العَالَم، تمثل في جعل الرياضة أداة للتنمية المُستدامة تماشياً مع رؤية قطر الوطنية 2030، خاصة فيما يتعلَّق بالاعتماد على التقنية الخضراء، وتعزيز فرص السياحة والأعمال، من خلال مشاريع تحفِّز التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والبشرية، والبيئية، وتقدِّم شكلاً استثنائياً من المُنشآت الرياضية المُستدامة.
وتشكِّل الاستدامة علامة بارزة في كلّ استاد من استادات بطولة كأس العَالَم (FIFA) قطر 2022، فقد وضعت قطر التزامها الثابت باستضافة بطولة صديقة للبيئة ومتوافقة مع أحدث معايير كفاءة الطاقة، حيث من المُتوقع أن تكون البصمة الكربونية لبطولة كأس العَالَم (FIFA) قطر 2022، أقلّ بكثير من معظم النسخ السابقة. وفي هذا الصدد حصل استاد الجنوب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، على تصنيف الاستدامة من الفئة (أ) من المنظومة العَالَمية لتقييم الاستدامة (جي ساس)، وهي شهادة تعكس الجهود المبذولة في انتهاج تقنيات صديقة للبيئة، سواء بإعادة تدوير المواد أو بانتقاء مواد بناء تراعي الحفاظ على البيئة، وتصاميم ديناميكية تتحكَّم بدرجات الحرارة لتخفيف العبء عن أنظمة التبريد المُتطوِّرة في الاستاد، بالإضافة إلى تخصيص مساحات خضراء واسعة كجزءٍ أساسي من خطة تصميم المناطق المُحيطة بالمُنشآت الرياضية المُخصَّصة لهذا الحدث العَالَمي.
بهذه الرؤية تتطلع قطر للترحيب بضيوفها من كافة أنحاء العَالَم لاستكشاف ثقافة أصيلة سعت دولة قطر إلى تجسيدها في عمارة منشآتها الرياضية والبُنى التحتية المُخصَّصة لاستضافة هذا الحدث المُهمّ، في سياق رؤية شاملة تهدف إلى صون الثقافة القطرية بعاداتها وتقاليدها المُتوارثة، وإلى إبراز الهوية القطرية والطابع المُتسامح للمُجتمع القطري، وقيمه الإسلامية المُتمثلة في العدالة والتضامن الإنساني.

دموع الفوتبول

سنة 1930 كان ألبير كامو حارس مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. وقد أمكن له بعد ذلك بسنواتٍ أن ينتقل من ملاعب الكرة إلى ساحات الثقافة، وأن يحصل على جائزة نوبل للآداب عوضًا عن كأس العَالَم. كما أمكن له أن يكتب عمّا تعلَّمه من لعبة الفوتبول مؤكِّدًا لمَنْ يريد أن يسمع: «لقد تعلَّمت أنّ الكرة لا تأتي إلى أحدنا من الجهة المُتوقّعة. وقد ساعدني ذلك كثيرًا في الحياة داخل المدن الكبيرة تحديدًا، حيث الناس عادةً غير مستقيمين».
كان ألبير كامو محظوظًا دون شكّ حين عاش مع كرةٍ من هذا «الطراز». كان الفوتبول «عاقلاً» في ذلك الوقت بما يكفي كي يعتقد مُمارِسوه أنّ «العقل السليم في الجسم السليم». لكن ماذا في وسعه أن يعلّمنا اليوم؟ وأيّ فوتبولٍ نعني؟
***
تغيّر كلّ شيء في الفوتبول اليوم. لا شكّ في ذلك. ولعلّنا نستطيع أن نقول إنّ كلّ شيء تغيّر فينا أيضًا. خاصّة إذا تناولنا الموضوع من جهة التصنيع وما يتطلّبه من تسويق. فإذا نحن أمام فرجة محسوبة في فيترينة برَّاقة كلُّ شيءٍ فيها فاقدُ العفويّة: اللعب والجدّ والمناهج والغايات، وحتى اللاعبون والمُتفرِّجون الذين أصبحت ردود فعلهم أشبه بمُفرداتِ سيناريو مُحْكَم.
***
حرص والدي على إغرامي بالمُطالعة والشطرنج ونجح في ذلك. إلّا أنّه فشل في صرفي عن كرة القدم. ولعلّي ازددت افتتانًا بها نتيجةً لذلك. كان مدير مدرسة ابتدائيّة وكان عليه من ثَمّ أن ينتقل بنا في البلاد حسب حركة رجال التعليم. وقد أمضيتُ معظمَ طفولتي وجانبًا من مراهقتي في إحدى القرى الصغيرة الرابضة على كتف الوطن القبليّ التونسيّ.
كانت ألعابنا الفرديّة والجماعيّة تنويعًا على ما سنسمّيه فيما بعد «ألعاب القوى». منافسات في المُصارعة والعدو أو القفز أو رمي الأثقال وغيرها من الألعاب التي لم تكن تتطلّب منّا غير ما تجود به الطبيعة من حولنا. أمّا الألعاب التي تتطلّب «عتادًا» خاصًّا فلم تكن تتجاوز ما سهل الوصول إليه ورخص ثمنه: ثمار الأشجار. بعض العصي نقتطعها من الأغصان ونصنع منها المقلاع والخذروف. أنواع من الحجارة المصقولة نتّخذ منها «قِطَعًا» للعب الدامة أو الخربقة، وهي نوع من الشطرنج الشعبي. كرات زجاجيّة في حجم حبّات الزيتون نشتريها في الأعياد. إلخ.
لكن أهمّ ألعابنا كانت لعبة كرة القدم. كان لكلّ أسرة قريبٌ مهاجر إلى أوروبا كثيرًا ما يهدينا كرة جلديّة عند زياراته الصيفيّة. وإذا لم يتوفّر ذلك تدبّرنا أمرنا للحصول على كرة بلاستيكيّة بهذه الطريقة أو تلك. أو صنعنا كرةً من القماش وبقايا الكراتين أو من أيّ مادّة تصلح لصُنع الحلم. لذلك نستطيع أن نقول إنّ أبناء جيلنا كانوا يولدون بِكُرةٍ في أقدامهم. ولعلّ الكرة تظلّ الأقرب حتى لدى جيل اليوم: جيل «البلاي ستايشن» وأبناء «السمارتفون».
***
شيئًا فشيئًا أخذت هذه الكرة «تنتفخ» وتكبر حتى سكنت رؤوسنا وحلّت أحيانًا محلّ أكبر أحلامنا وزحفت على العقول والوجدان مثل «التسونامي» الذي لم يسلم منه شيءٌ حتّى الدموع. وشيئًا فشيئًا أصبحت دموعُنا تلك عنصر وحْدَتِنا جمهورًا ولاعبين عند الهزيمة أو الانتصار. كما أصبحت جزءًا من سيناريو «الفرجة». وبات علينا قبل أن نذرف دموعنا بكلّ احتراف أن نتثبَّت من أنّنا داخل «الكادر»، أي أمام عين الكاميرا!
***

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي

هكذا تحوَّلت الدموع في علاقتها بالفوتبول إلى مفهوم واستعارة. وقد انتبهت إلى ذلك عدّة مرّات في حياتي. أذكر من بينها مرّتين تحديدًا: مرّة في بداية الشباب، ومرّة في منتصف الكهولة.
كنت في العشرينات من العُمر على عتبة الجامعة، وقد بدأتُ أشارك في المُظاهرات الطلابيّة وأحضر الأمسيات الشعريّة دون أن أكفّ عن ممارسة لعبتي المُفضَّلة. خاصّة في نهايات الأسبوع. لا أذكر المكان تحديدًا ولا أذكر الأشخاص المُشاركين. لكنّي أذكر أنّنا كنّا في ذروة المُقابلة. وصلتني الكرة فراوغت لاعِبَيْنِ أو ثلاثة متقدّمًا نحو مرمى المُنافس. أرسلتُ النظر لأرى إنْ كانت الفرصة سانحة للتهديف. بلغني من أقاصي الملعب تشجيع البعض فأحسست للحظات بنشوة قريبة من الإغماء. تخيّلت أنّي في «الكامب نو» أو «السنتياغو برنابيو»، وأنّ الآلاف تنظر إليّ وتلهج باسمي. أذكر ذلك جيّدًا وبأدقّ التفاصيل إلى اليوم. قرَّرت أن أتقدَّم بمفردي وأحاول التسجيل. فجأة امتدَّت ساقُ أحد لاعبي الفريق المُنافس وحصدتني حصدًا من على ساحة اللعب. وقعتُ أرضًا واحتكَّت مرفقي اليمنى بالأرضيّة طويلاً، ولم أستطع منع أنفي من الارتطام العنيف بالأرض.
لم تكن تلك أوّل مخالفة تُرتكَب ضدّي، فاللعبة توأم للمُخالفات. لكنّها كانت مخالفة خاصّة تآلفت في ذهني مع أحساسٍ خاصّ سبقها، وخاصّة مع تعليق خاصّ لم يفارق ذاكرتي من يومها حتّى الآن. نهضت مترنّحًا وفي ذهني أنّ الحَكَمَ لا شكّ قد صفَّر، لكنّ اللعب تواصل. اقتربت من غريمي صارخًا مهدِّدًا فإذا هو يحدِّق فيَّ بدهشة ويقول لي: «لماذا أنت غاضب؟ أنا لم أرتكب خطأ مادام الحَكَمُ لم يتفطّن إلى ذلك».
لقد ربّاني والداي وربّاني المُعلِّمون وربّاني الأدب والفكر وربّتني الحياة حتى تلك اللحظة على اجتناب الخطأ عن اقتناع لا خوفًا من أن يتفطّن إليه «الرقيب». لكن تلك الكلمات أطاحت بكلّ ذلك. وبات يقينًا لديَّ أنّي لا يمكن أن أمارس هذه اللعبة التي يكفي أن يغفل عنه «الحَكَمُ» ليصبح الخطأ أمرًا طبيعيًّا.
كانت تلك لحظة فارقة في تحوُّل الدموع عندي إلى مفهوم. لقد بكيت طويلاً وبحرقة لحظتها لا بسبب الألم المُنجرّ عن الضربة، بل بسبب تلك الكلمات المعدودة المُلقاة بنبرة البداهات «المُرعبة». كانت تلك الكلمات كافية كي يتحطّم طموحي الكرويّ كلّه وكي يُضاء أُفقي في الحياة بنوع من الشمس المُعتمة.
***
بعد ذلك بسنين طويلة بكيت بالحرقة نفسها وأنا أشاهد مارادونا يسجِّل هدفًا بيده في غفلة عن الحكم التونسيّ. فجأةً عادت بي الذاكرة إلى تلك اللحظة: ها هو أحد أكبر لاعبي العَالَم يؤكِّد الشيء نفسه. عندئذ تأكّدت من الحقيقة المُرّة: أنا واحِدٌ من مجانين الفوتبول لا شكّ في ذلك. لكن هذه اللعبة ليست لأمثالي. كانت تلك خلاصة الدروس التي تعلَّمتها من الكرة: إنّها اللعبة التي يكفي أن تغفل فيها عين الرقيب حتّى تتحوَّل اليدُ السارقة إلى يدٍ مقدَّسة.
***
مرّةً أخرى يذكّرني ذلك بألبير كامو وولعه بكرة القدم وكيف أنّه تعلَّم من تجربته الرياضيّة «أن يكسب دون أن يشعر بأنّه إله وأنّ يخسر دون أن يحسّ بأنّه قمامة».
مرّةً أخرى أقول إنّ ألبير كامو كان محظوظا جدًّا. ولو عاش بيننا اليوم لأرعبه أن يرى مضمون الحكمة الكرويّة يتلخّص في هذا السؤال: ما فائدة أن تكسب نفسك في الحياة إذا أنت خسرت البطولة في الفوتبول؟!
سؤال مؤرِّق حقًّا حين يُطرَح على مجانين كرة القدم تحديدًا، وأنا منهم، فإذا كأنّهم بين يدي أبي الهول.
لقد اعتدنا أن نجعل للبكاء «طقوسًا» كي نختفي خلفها وأن نجعل للضحك «أسبابًا» كي نمارسه على الملأ. حتى سهل علينا أن نمارس الضحك بنوع من «الرقاعة» في بعض الأحيان.
بينما ظللنا نحتشم بالدموع إذا اضطرّنا إليها الألم. أو إذا ذرفناها حزنًا في المآتم وعند الكوارث والإخفاقات. أو إذا غصصنا بها ونحن نتوجَّع على أحبّة رحلوا أو ونحن نشيّع شهداءنا في حرب أو نودِّع ضحايانا في جائِحة.
نحن اليوم نبكي فرادى ونضحك مجتمعين. ولا نبكي «جماعةً» إلّا حين يتعلَّق الأمر باستعارة دموع التماسيح. أمّا فيما عدا ذلك فلا شيء يوحّدنا اليوم في فرحٍ أو حزنٍ مثل دموع الفوتبول!

جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر

سؤالان يلخِّصان إشكالية مركزية ومنهجية في الخطاب العربي المعاصر: كيف يتحقَّق الوعي بالعلاقة بين «الأنا» المنتمية والمنحازة إلى زمنها، وبين التراث الذي ينبغي أن يكفّ عن كونه مادّة محايدة؟، وإلى أيِّ مدى يمكن الزجّ بالتراث والتراث النقدي في حمأة الاختلاف النقدي الذي يعبِّر، في عمقه، عن اختلاف حول الرؤية إلى الحاضر؟

حول هذه الإشكالية، نستعيد في هذا الملفّ الخاصّ منجز المفكِّر المصري الراحل جابر عصفور (1944 – 2021)، الذي برهن، منذ وقت مبكِّر، عن إدراك واضح لأهمِّيّة المنهج في قراءة التراث النقدي؛ فهو يُعَدّ من أبرز النقّاد العرب المعاصرين الذين كرَّسوا أهمّ إنجازاتهم في مجال الدراسات النقدية لمساءلة التراث النقدي، من منظور يتَّسم بالشمولية في الرؤية، وبالدقّة في المنهج…

 

(1)

نما الاهتمام بمسألة المنهج في قراءة التراث النقدي، حينما بدأ النظر إلى «النقد العربي القديم» في إطار ما أصبح يُعرَف، في الخطاب العربي المعاصر، بإشكالية التراث، التي خُصِّصت لها مشاريع فكرية، وتخصَّص فيها باحثون ومفكِّرون كرَّسوا جهودهم لدراسة الجوانب المتعدِّدة لهذه الإشكالية، في أبعادها المختلفة.

ورغم أن الدارس لا يعدم، في مقدِّمات كتب الأدب، وكتب تاريخ الأدب، بشكل خاصّ، إشارات إلى أهمِّيّة المنهج في معالجة الظاهرة الأدبية في العصور العربية القديمة، لم تكن المقاربات التي كانت تقرأ النقد العربي القديم، تهتمّ، إلّا لماماً، بصقل المفاهيم التي تستعملها.

وإذا كان الوعي بالمنهج، في الدراسات الأدبية العربية، قد أعلن عن نفسه منذ عشرينيات القرن العشرين، على أقلّ تقدير، حينما بسط طه حسين وجهة نظره في الطريقة التي رأى أنها أكثر نجاعةً من غيرها في سبيل تأريخ الشعر الجاهلي(1)، فإن ما تَمَّ تبنِّيه من أدوات قرائية لا ينمّ عن حضور فاعل للهاجس المنهجي لدى روّاد مؤرِّخي ودارسي النقد العربي القديم في العصور الحديثة.

ولعلّ أوضح مثال على تغييب مسألة المنهج في مقاربة النقد العربي القديم، كتاب «النقد المنهجي عند العرب»؛ ذلك أن محمَّد مندور أكَّد، في ذلك الكتاب، أهمّية المنهج في دراسة الأدب، بوجه عامّ، والنقد، بوجه خاصّ، حين جعل النقد والمنهج متلازمَيْن، وهو ما يفصح عنه عنوان كتابه، ويكشف عنه، أيضاً، تركيزه على تعريف المنهج في النقد حين عرف النقد المنهجي بقوله: «… والذي نقصده بعبارة النقد المنهجي هو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامّة، ويتناول، بالدرس، مدارس أدبية، أو شعراء، أو خصومات، يفصل القول فيها، ويبسط عناصرها، ويبصِّر بمواضع الجمال والقبح فيها»(2). لكنه لم يخصِّص أيَّ حيِّز من كتابه لحصر الآليّات المنهجية التي تناول بها النقد العربي القديم.

هذا لا يعني أن الكتاب يخلو من الحسّ المنهجي، بل إن (مندور) الذي كان بصدد إنجاز تأسيسي، ربَّما، لم يكن يمتلك الرؤية المنهجية الواضحة التي تسمح له بدراسة التراث النقدي، بوصفه جزءاً لا يتجزَّأ من التراث، عامّةً، لأن إشكالية التراث لم تتبلور، بشكل واضح، في العالم العربي، إلّا بعد هزيمة (1967)، التي لعبت دوراً بارزاً في صياغة الأسئلة الكبرى والإشكالية للفكر العربي الحديث(3).

والواقع أن «النقد المنهجي عند العرب»، إذا ما قورِنَ بغيره، ووُضِع في سياقه الثقافي، كان متقدِّماً، في هذا الباب على كثير من المؤلَّفات التي تناولت «النقد العربي القديم»، ومنها ما صدر بعده بسنوات، بل بعقود.

إن (محمَّد مندور) اكتفى بملامسة إشكالية قراءة التراث النقدي، وإن لم يعمِّق البحث فيها، حين ألمح إلى التقاطع بين ثنائية التراث/الغرب: «وفي الحقّ إن في الكتب العربية القديمة كنوزاً، نستطيع، إذا عدنا إليها، وتناولناها بعقولنا المثقّفة ثقافة أوربية حديثة، أن نستخرج منها الكثير من الحقائق التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وإن كنّا حريصين على ألّا يُستَفاد من الدعوة إلى تناول التراث القديم بعقولنا الحديثة، أيّ إسراف بإقحام ما لم يخطر على عقول أولئك المؤلِّفين القدماء من نظريّات أو آراء. كما أننا حريصون على ألّا نجهل (أو نتجاهل) الفروق الأساسية الموجودة بين الأدب العربي وغيره من الآداب الأوربية، بما يستتبعه ذلك من تفاوت كبير في مناهج النقد، وموضوعاته، ووسائله»(4).

من هنا، يمكن الاطمئنان إلى أن القراءات العربية المعاصرة للنقد العربي القديم، لم ترقَ إلى درجة القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي، بالمفهوم الحديث للقراءة، إلّا عندما صاغ الخطاب العربي المعاصر إشكالية التراث، كما تبدَّت في مشاريع حسين مروة، والطيب تيزيني، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وتلامذتهم.

ولعلّ الدافع إلى هذا الربط بين قراءة التراث، بوجه عامّ، وقراءة التراث النقدي، بوجه خاصّ، كما سنرى في سياق هذه الدراسة، نابع من التقاطع الذي يطبع مكونِّات التراث العربي الإسلامي المكتوب؛ إذ لا يمكن -بأيّ حال من الأحوال- أن يُدرَس الفقه وأصوله خارج المجالات الواسعة للعلوم اللغوية، والبلاغية، وخارج ما أصبح يعرف، اليوم، بعلم الدلالة(5).

وهذا ما حدا بالمفكِّرين العرب، من أصحاب المشاريع الذين سبقت الإشارة إلى بعضهم، إلى ملامسة قضايا تُعَدّ من صميم البلاغة والنقد الأدبي، وهو ما أدّى إلى أن المراجع الأساسية التي تمثِّل التراث النقدي كانت (وما تزال) تشكِّل، في الوقت نفسه، إطارات مرجعية لا غنى عنها لدارس علم الكلام، وأصول الفقه، وغيرهما(6).

ومن هنا، يمكن القول إن القراءات العربية المعاصرة للتراث قد وجّهت -بشكل مباشر، أو غير مباشر- الدارسين العرب للنقد العربي القديم، إلى ضرورة الوعي بأهمِّيّة المنهج في قراءة التراث النقدي، بالدرجة نفسها التي أحاط بها منظّرو التراث مسألة المنهج من عناية.

كما أن القضايا التي واجهت النقد العربي الحديث والمعاصر، حتَّمت عليه البحث في التراث النقدي، وخاصّةً عندما أصبح يواجَه، من لدن ذوي النزعات السلفية، بتهمة التغريب من كثرة اعتماده على المرجعيّات الغربية التي أمدَّته بمفاهيمه؛ النظرية، والإجرائية على السواء(7).

وكما سيتبيَّن لاحقاً، إن وطأة المناهج النقدية الغربية كانت شديدة على النقد العربي الحديث، وإن تلك المناهج لعبت دوراً مزدوجاً في بناء الأداة المنهجية لقراءة التراث النقدي.

ولا بدَّ من الإشارة، قبل الدخول في المفاهيم العامّة للمسألة المنهجية في قراءة التراث النقدي، إلى أن دارسي هذا التراث قد انتبهوا إلى أهمِّيّة المنهج في وقت متأخِّر، نسبياً، ويرجع هذا، بالأساس، إلى تقدُّم الأبحاث في التراث العربي المكتوب، الذي وفَّر تراكماً كمِّيّاً، أدّى، في مرحلة لاحقة، إلى محاولات الخروج من القراءات الاستنساخية التي نتجت، في مجملها، عن الدرس الأكاديمي في الجامعات العربية، الذي تميَّز، لمدّة طويلة، بروحه المحافظة. وقد تَمَّ التخلّي عن تلك القراءات الحرفية عندما شرع الدارسون العرب في تأسيس قراءات للتراث النقدي تندرج في ما سيسمّى، فيما بعد، نقد النقد.

ورغم أن النقّاد العرب مارسوا، بشكل أو بآخر، نقد النقد بمفهومه الواسع منذ وقت مبكِّر، لم يعرف الحديث عن هذا المجال من الممارسة النقدية طريقه، بشكل واعٍ إلّا في بداية الثمانينيات. وكانت الصيغة الغربية لهذا النوع من الدراسة، قد شاعت قبل ذلك بسنوات، تحت ما يُعرَف، في اللّغة الفرنسية، بـ«Critique de la critique»، ووجدت انتشاراً في العالم العربي، بعد ذلك، وخاصّةً بعدما أصدر «تزفنتان تودوروف – T. Todorov» كتاباً يحمل العنوان نفسه «نقد النقد – Critique de la critique»، تُرجِم إلى العربية سنة (1986)(8).

ويبدو أن مفهوم «نقد النقد» قد بدأ تداوله، في البلاد العربية، منذ بداية الثمانينيات، وهو تاريخ ظهور الكتاب المذكور بلغته الأصليّة؛ فقد صدر، للناقد العربي نبيل سليمان، كتاب تحت عنوان «مساهمة في نقد النقد العربي»(9)، تضمَّن إشارة إلى «الثغرة المتمثّلة في ضعف نقد النقد»(10) في الوطن العربي، التي يبدو أن كتابه كان يطمح إلى المساهمة في ملئها، من خلال معالجة النتاج النقدي الذي ظهر في الستينيات والسبعينيات.

ومن الإنصاف أن نقرّر أن الإحساس بأهمِّيّة نقد النقد قد تَمَّ التعبير عنه بصيغ مختلفة، قبل هذا التاريخ، تحت إلحاح التشبُّع بالمناهج النقدية الغربية، فلا غرابة في أن تخصِّص مجلّة «فصول»، التي ظلَّت تشكّل علامة بارزة في مسار النقد العربي الحديث لسنوات عدّة، مجالاً واسعاً لقراءة المقاربات النقدية، إلى حَدّ الدعوة إلى ممارسة نقد النقد في أحد أعدادها المبكِّرة: «يبدو أننا في حاجة ماسّة إلى نشاط من نوع آخر، وهو ما يمكن أن يسمّى بنقد النقد، أو ما بعد النقد. وكما أن الأعمال الأدبية تحتاج إلى دارس يبحث لها عن أنظمة، يحتاج النشاط النقدي، أيضاً، إلى دارس متميِّز لم تفرزه الحياة النقدية حتى الآن، يبحث عن أنظمة داخل الكتابات النقدية. وسيكون عمله على جانب كبير من الأهمِّيّة والخطورة؛ لأنه سيرشد أو -على الأقلّ- سيضع حَدّاً لما يسمّى بفوضى اللغات النقدية»(11).

ويتَّضح، من خلال هذا التوصيف، أن نقد النقد هو، في المقام الأوَّل، وجه آخر من وجوه الممارسة النقدية، وهو -رغم أن الحديث عنه بدأ بهذه الصورة الواعية، منذ أوائل الثمانينيات- ما زال مغمط الحقّ في الدراسات النقدية العربية الحديث، إلى اليوم.

صحيح أنه يمارَس بأشكال مختلفة ومتفاوتة، سواء بالنسبة إلى التراث النقدي أو بالنسبة إلى النقد العربي الحديث نفسه، لكنه لم يصبح، بعد، مجالاً ذا معالم محدَّدة ومضبوطة من الناحيتَيْن؛ المنهجية، والموضوعاتية.

وتُعَدّ محاولة جابر عصفور، التي قُدِّمت، في إحدى الندوات العلمية، عملاً متقدِّماً على درب الإضاءة المنهجية لما يمكن أن نسمِّيه نقد التراث النقدي(12).

 

(2)

لقد برهن جابر عصفور، منذ وقت مبكّر، عن إدراك واضح لأهمِّيّة المنهج في قراءة التراث النقدي؛ فهو يُعَدّ من أبرز النقّاد العرب المعاصرين الذين كرَّسوا أهمّ إنجازاتهم في مجال الدراسات النقدية، لمساءلة التراث النقدي من منظور يتَّسم بالشمولية في الرؤية، وبالدقّة في المنهج.

بدأ اهتمام جابر عصفور بالتراث النقدي، منذ بداية عهده، بمجال الكتابة النقدية والنشر، قبل ما يقرب من خمسين سنة، عندما أصدر كتابه عن «الصورة الفنّيّة في التراث النقدي والبلاغي عند العرب»(13)، الذي عرف النور، لأوَّل مرّة، سنة (1974). ويبدو أن هذا العمل فتح عينيه على مجال من مجالات الدراسة النقدية التي تذكي شهيّة البحث؛ إذ ما لبث أن أصدر، سنة (1978)، كتاباً آخر هو «مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي»(14)، عُدَّ خطوة متقدِّمة، مقارنةً بكتابه الأوَّل. وفي عام (1991)، ظهر له كتاب «قراءة التراث النقدي».

والمتتبِّع للإنتاج الغزير، الذي شَكَّل محصِّلة عمل جابر عصفور، يلاحظ أن الناقد لم ينقطع عن التأمُّل في التراث النقدي، والاجتهاد في قراءته؛ وهو ما تدلّ عليه، أيضاً، الدراسات الكثيرة التي نشرها في المجلّات المختصّة، في الفترات التي تفصل بين صدور كتبه، وهي دراسات يربطها بالتراث النقدي أكثر من سبب، من أمثال «محمد مندور والتراث النقدي»(15)، و»نظرية الفنّ عند الفارابي»(16)، و«قراءة محدثة في ناقد قديم»(17)، وغيرها.

كما أن تتبُّع هذه الدراسات، وتتابعها، يكشفان عن تطوُّر كبير في الأداة القرائية لدى جابر عصفور، وهو تطوُّر أملاه التراكم الكمّيّ الذي وفَّره في هذا المجال، كما أنه يعكس تطوُّر حركة النقد العربي طيلة خمسة عقود أو أكثر من حياة عصفور النقدية، لكن ذلك يعبِّر، أيضاً، وبشكل أساسي، عن تطوُّر في منظور الناقد العربي المعاصر للتراث النقدي، استجابةً لحاجات نقدية فرضَتها ثقافة العصر.

ففي كتابه الأوَّل، بدا جابر عصفور مهووساً بما يمكن أن نسمِّيه النقد المقارن ذا المنهج التكاملي، الذي يشحذ كلّ المعارف من أجل شرح الظاهرة، وبيان أبعادها. وقد كلَّفه ذلك المزاوجة بين مبضعيَنْ نقديَّيْن مختلفَيْن في طبيعتهما وأهدافهما: يتمثَّل الأوَّل في التعامل مع التراث النقدي، والبلاغي «على أساس من علاقته المتفاعلة بغيره من العلوم والمعارف التي ساهمت في إثرائه أو توجيه مسار قضاياه الأساسية المرتبطة بمبحث الصورة، مثل الفلسفة، وعلم الكلام، واللّغة، والتفسير»(18).

ويتجلّى الثاني في النظر إلى التراث من خلال ما يسمّيه «فهماً معاصراً»(19)، لأن تقديرنا للظروف التاريخية للتراث، «لا ينبغي أن يمنعنا من اتِّخاذ موقف نقدي منه في ضوء وعينا المعاصر، وما يؤرِّقه من مشاكل وقضايا. ولا بأس في أن يتغيَّر هذا الموقف مع تغيُّر العصر، وتطوُّر قِيَمه. فالمهمّ هو أن يكون لنا، باستمرار، موقف واضح من التراث، ليكون هذا التراث متفاعلاً مع حاضرنا، لا مجرَّد صفحات موجودة في كتب مطبوعة أو محفوظة، نكتفي بالإشارة إليها».(20)

ويعبِّر هذا الموقف، الذي يعلن عنه جابر عصفور إزاء التراث، عن إحساس طافح بأن دراسة التراث تعترضها صعوبات منهجية نابعة من طبيعة الرؤية التي نحملها عنه؛ ما يؤدّي، حتماً، إلى طرح العلاقة بين «الأنا» المنتمية والمنحازة إلى زمنها، وبين التراث الذي ينبغي أن يكفّ عن كونه مادّة محايدة، ويصبح مادّة حيّة فاعلة ومنفعلة، باختراقها الزمان. وهذا ينمّ، بالدرجة الأولى، عن رغبة في الزجّ بالتراث والتراث النقدي في حمأة الاختلاف النقدي الذي يعبِّر، في عمقه، عن اختلاف حول الرؤية إلى الحاضر.

 

(3)

إن الوعي بالتراث، باعتباره إشكالية من صلب الخطاب العربي المعاصر، بالمفهوم الذي بَلْوَرَه محمَّد عابد الجابري في مشروعه حول «نقد العقل العربي»(21)، لم يعلن عن نفسه، بعد، لدى جابر عصفور، إلّا من خلال تعرُّضه لـ«مفهوم الشعر» في التراث النقدي، حيث سيتشكَّل هذا الوعي في صيغة إرهاص أوَّلي، في المقدّمة التي استهلَّ بها الكتاب. وحيث يتقدَّم جابر عصفور خطوة أخرى نحو بناء رؤيته الخاصّة للتراث النقدي، إذ سينطلق من أن المشكلة الأساسية ليست في قلّة هذا التراث أو كثرته، بل «في وجهة النظر التي نتعامل بها مع هذا التراث، وفي المنهج الذي نعرض التراث من خلاله. إن وجهة النظر المصاحبة للمنهج تفرض طبيعة المعالجة، كما تفرض زوايا الاختيار، وتحدِّد، في النهاية، نقاطاً للحوار، يتمّ فيها الجدل بين الماضي والحاضر، دعماً للحاضر الذي هو نقطة البدء والمعاد».(22)

إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا التحليل قد توصَّل إليه جابر عصفور منذ سنة (1977)، في وقت كان فيه المنهج التاريخي الموسوم بنزعة مدرسية صارمة، هو السائد في دراسة «النقد العربي القديم»، أدركنا مدى خطورة ما كتبه ذلك الناقد الشابّ، آنذاك، على الدراسة التي ستتناول التراث النقدي بعده.

وتنبني هذه الخطورة على نظرة متجدِّدة لذلك التراث، تجعله يسهم في بناء «الحاضر النقدي» العربي. فالنقد العربي القديم ليس مجرَّد معلومات وتواريخ وأفكار، فحسب، بل هو  -بالأساس- طريقة في النظر والتأمُّل ترمي إلى خدمة النقد العربي المعاصر؛ من هنا لا ينبغي النظر إليه باعتباره ماضياً فقط، بل ماضياً، وحاضراً في الوقت نفسه. وما يجعل منه حاضراً هو المنهج الجديد الذي نقاربه به، والذي يفصح، بدوره، عن رؤية واضحة للحاضر الذي ليس، في نهاية الأمر، سوى الواقع بمعناه الواسع.

وبناءً على هذه العلاقة المتجدِّدة، يوجّه جابر عصفور نقداً لاذعاً للدراسات التي تتناول التراث النقدي خارج إطار الزمن، مجرَّداً عن حمولته المعرفية التي يمنحه إيّاها العصر، بدءًا بكتب تاريخ النقد التي «تؤرِّخ لتراثنا النقدي في الشعر وغيره؛ بدءًا من الجاهلية الجَهْلاء حتى مشارف العصر الحديث، دون أن يكون لها منهج واضح، ودون أن يتوفَّر لها القدر الدقيق من استقصاء المادّة، وتتبّعها في منحنياتها المتعرِّجة..».(23)

إن هذا الإلحاح على المنهج في تناول التراث النقدي، كان يبدو، في سبعينيات القرن الماضي، جديداً، ذلك أن محاولات كثيرة قد سبقت (جابر عصفور) إلى إثارة مسألة المنهج في قراءة الأدب العربي القديم؛ شعراً ونثراً، كما تمَّت الإشارة إلى ذلك، ولكن قلَّما كان الدارس يعثر على إحالات منهجية فيما يخصّ قراءة «النقد العربي القديم»، التي كان يغلب عليها الطابع التاريخي.

إن هذا الاهتمام بأداة القراءة، لدى جابر عصفور، قد تكوّن تحت تأثير عاملَيْن؛ سبقت الإشارة إلى واحد منهما، وهو ما يتمثَّل في نشوء حركة فكرية قويّة تدرس التراث العربي من زاوية إسهامه في صياغة «الحاضر» العربي. أمّا الثاني فإنه يتلخَّص في أن النقد العربي الحديث كان مشغولاً، في جزء كبير منه، في تلك المرحلة، بالبحث عن هويته الخاصة، التي كان منظّروه يلخِّصونها في البحث عن «نظرية نقدية عربية».

وكان من الطبيعي أن ينشأ عن هذا البحث اهتمام بالتراث النقدي، باعتباره رافداً من روافد الأصالة النقدية؛ ومن أجل هذا كان لا بدّ من قراءة تتناغم مع هذا الهدف الذي كان يتَّخذ طابعاً استراتيجياً عند أغلب النقّاد العرب، في ذلك الوقت.

لقد كان هذا الهدف يشكِّل، بالنسبة إلى جابر عصفور، موجِّهاً أساسياً في قراءة التراث النقدي، لكنه لم يتبلور لديه إلّا عبر مراحل، كان كتابه «مفهوم الشعر» يعبِّر عن أُولاها، ويتبيَّن هذا من خلال التصنيف الذي لجأ إليه الكاتب حينما تحدَّث عن الذين سبقوه إلى قراءة التراث، وهو تصنيف يقوم على وجود تصوُّرَيْن عن التراث: «تصوُّر يتعامل مع التراث باعتباره كتلة من الأحداث والمفاهيم والقيم، مستقلّة عن وعينا وعن وجودنا تماماً، ويمكن أن تعالج معالجة محايدة تحاول الوصول إلى الكينونة المتعالية لهذه الكتلة (…)، ومن المستحيل، عمليّاً، أن نتعامل مع التراث على هذا النحو؛ لسبب بسيط مؤدّاه أن التراث موجود بنا وفينا في الوقت نفسه. فضلاً عن أن وجوده الموضوعي لا يعني انفصاله المطلق عنا، بل يعني أنه، رغم بعده التاريخي، ما زال يؤثِّر فينا بالقدر الذي نؤثِّر فيه، كأنه يشكِّلنا بقدر ما نشكِّله».(24)

ومن المعلوم أن هذا التصوُّر يقترب من الكتابات الاستشراقية عن التراث النقدي، التي تأثَّر بها الدارسون العرب، والتي كانت الجامعات العربية مرتعاً لها، لسنين طويلة، فهي تلجأ إلى عزل التراث عن سياق قراءته، تحت ادِّعاء الموضوعية والعلمية، متجاهلةً أن زمن القراءة يُعَدّ جزءاً لا يتجزَّأ من المقروء.

أما التصور الثاني، وهو الذي ينحاز إليه جابر عصفور، فيتعامل «مع التراث من منظور الوعي بالحاضر، والإدراك للوجود الآني»؛(25) وهذا ما يؤدِّي، بالضرورة، إلى اختلاف الرؤى حول التراث، وهو اختلاف ناتج عن اختيارات وقناعات تتكوَّن تجاه الواقع. فإذا كان التراث محصِّلة لصراع إنساني، عبر مراحل تاريخية مطبوعة بأبعاد اجتماعية وفكرية متباينة ومتعارضة، فإن تلك الأبعاد يمكن أن تتجاوب مع «أبعاد الحاضر ومستوياته المتباينة المتعارضة. وفي داخل كلّ مستوى عناصر يمكن أن تتَّجه، أو تُوَجَّه صوب اتِّجاهات متباينة. وذلك طبيعي؛ لأن التراث، في النهاية، محصِّلة لصراع إنساني، عبر مراحل تاريخية ذات أبعاد اجتماعية، وأخرى فكرية متباينة ومتعارضة، يمكن أن تتجاوب مع أبعاد الحاضر ومستوياته المتعارضة والمتباينة في آن معاً».(26)

 

(4)

يبدو هذا الاقتباس ملخّصاً وجامعاً لرؤية جابر عصفور إلى التراث، بشكل عامّ، وإلى التراث النقدي، بشكل خاصّ. وإذا كان، في عمقه، صياغة أخرى أضيفت إلى صياغات التعامل مع التراث التي انتشرت منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، فإنه يحمل، في طيّاته، زاوية أخرى للنظر إلى التراث النقدي.

من ثمّة، إن الحديث بهذه الطريقة عن التراث النقدي، كان يحمل -بالنظر إلى سياقه- جرأة كبيرة، وتعبِّر هذه الجرأة عن نفسها من خلال إثارة مفاهيم كانت تعتبر، آنذاك، جديدة في مقاربة التراث النقدي.

وأوَّل هذه المفاهيم مفهوم «التاريخية» الذي أضفى نوعاً من الواقعية على التراث، وجعله نسبيّاً في أحكامه ومناهجه، وهو مفهوم جوهري ترتَّب عنه إرجاع «التراث» إلى الأرض بعدما كان يتمتَّع بسموّ، وتعالٍ جعلا أيّ نقد له من باب المسّ بالمحرَّمات.

وفي التراث الأدبي العربي، كما نعرف، محَرَّمات كثيرة، جعلت العديد من الشعراء والنقّاد يتعرَّضون للاضطهاد؛ لأنهم ثاروا على الأنموذج الذي يُعَدّ، في نهاية المطاف، شكلاً من أشكال التعبير الاجتماعي التي قُنِّنت بموجب محاربة الرأي والرأي الآخر، وهو ما سيخصِّص له جابر عصفور نفسه دراسةً وافية.

إن تجريد التراث النقدي من صبغته المتعالية، التي كادت تجعل منه نصّاً مقدَّساً لدى بعض مؤرِّخي الأدب العربي، والتعامل معه من منطلق أنه نصّ «واقعي»، كان محكوماً -كغيره من النصوص- بشرطه التاريخي، أدّى إلى استحضار الصراع الإيديولوجي الذي كان قائماً حول قضاياه المختلفة، وهو صراع تكشَّفت عنه الخلافات العميقة التي كانت تتوزَّع النقّاد القدامى بشأن القديم والحديث، واللفظ والمعنى، وغيرهما من القضايا التي لا تخفى على المتتبّع امتداداتها المذهبية في النشاط الفكري العربي الإسلامي، وهذا، بالضبط، ما يمنح إمكاناً لتعدُّد القراءات التي تصبح، في هذه الحالة، أمراً طبيعياً ومطلوباً.

وهكذا، إن كلّ قراءة للتراث النقدي، هي قراءة «متحيِّزة بالضرورة. وعلينا أن لا نؤِّرق أنفسنا بذلك كثيراً، أو نخجل منه، لأننا لا نستطيع أن نفهم القدماء فهماً محايداً تماماً. إنما نحن نفهمهم في ضوء ما يؤِّرقنا من مفاهيم معاصرة، ونبحث لديهم عن إجابات أو حلول لمشاكل تحيط بنا».(27)

من هنا، يقرِّر جابر عصفور أن التراث النقدي لا ينبغي أن يُدَرس لذاته، بل إن لكلّ قراءة له بعدين رئيسين: أوَّلهما يصبّ في التراث نفسه من أجل إدراك منطقه الداخلي، وثانيهما يرمي إلى ربطه بالنقد العربي الحديث، كي يساهم في تطويره. ولا شكَّ في أن القبض على هذَيْن البعدَيْن يطرح إشكالات منهجية لم يتأتَّ لعصفور حلَّها، وتقديم مقترحات بشأنها إلّا بعد مضي أكثر من عشرين عاماً على إعلان هذه الأهداف.

ومع ذلك، يمكن القول إن الجانب النظري لديه كان يتَّسم، منذ ذلك الوقت، بالوضوح؛ ما جعل الطموح يتجاوز واقع الحال المنهجي، إذا صحَّ هذا التعبير. فحين يقرِّر جابر عصفور أن فهمنا للتراث النقدي يجب أن يتَّسم -رغم التداخلات المشار إليها سابقاً- «بأكبر قدر من الموضوعية، باعتبارها شرطاً ملازماً لإدراك المنطق الداخلي للمؤلَّفات القديمة، وأن يؤدّي بنا ذلك الفهم إلى إثراء التراث نفسه، باعتباره جانباً أصيلاً في تكويننا، وعاملاً فعالاً في حياتنا المعاصرة»(28)،وأن هذا النوع من الفهم الموضوعي يقود إلى إغناء النقد الحديث؛ لأنه يضفي عليه طابع الأصالة، فإن هذا الطرح ذا الطابع المثالي، الذي لا نعدم أمثالاً له في الأدبيّات العربية المعاصرة حول التراث، يحتاج إلى نضج كبير كي يصير مستساغاً من الناحية العملية.

ولعلّ أسطع دليل على ذلك أن الكاتب، عندما جُوبِه بنماذج حيّة من التراث النقدي، من خلال دراسته لكتب كلٍّ من قدامة بن جعفر، وابن طباطبا العلوي، وحازم القرطاجني، لم يحقّق أهدافه المعلنة إلّا بشكل جزئي. فقد صرَّح بأن إحدى المشكلات التي «تؤرِّق حياتنا النقدية المعاصرة مرتبطة بمفهوم الشعر، خاصّةً بعد التحوُّلات الجذرية التي طرأت على القصيدة العربية، منذ ما يزيد على ربع قرن، وقد فرض هذا التغيُّر طرح قضيّة الشعر بأسرها، على المستوى النظري»؛(29) وهو ما يوحي بأن الدراسة ستنصبّ على البحث عن وشائج تربط القديم بالجديد.

ولكن القارئ، عندما ينتهي من قراءة «مفهوم الشعر»، يخرج بنتيجة، مفادها أن (جابر عصفور) نجح، فعلاً، في أن يقرِّب هذه النصوص النقدية إليه، ولكنه لم يوفَّق كلّ التوفيق في تجسيد ما بشَّرَ به في مقدِّمة الكتاب، بإيجاد علاقة ما بين مفهوم الشعر كما بَلْوَرَه أولئك النقّاد، وبين هذا المفهوم كما تعبِّر عنه القصيدة العربية الحديثة. بل إن المرء ينتابه انطباع بأن المؤلِّف قد نسي التزامه المعلَن تماماً، ولذلك لم يتعرَّض بالذكر لهذه الغاية التي تحرِّك العمل كلّه؛ ألا وهي تقديم قراءة تتميَّز بالقّوة الاقتراحية الكافية التي ترمي إلى وضع مسافة بين «من يعود إلى الماضي ليثبت أو يؤكِّد وضعاً متخلِّفاً في الحاضر، ومن يعود إلى الماضي ليؤصّل وضعاً جديداً قد يطوِّر الحاضر نفسه، وينفي بعض ما فيه من تخلُّف».(30)

ويظهر أن (جابر عصفور) قد كتب ما كتبه عن وجوب تقديم قراءة للتراث النقدي، تتجاوز التقوقع في الماضي، وتتطلَّع إلى المستقبل، تحت تأثير القراءات التي انتشرت في السبعينيات للتراث، والتي لعب فيها الماركسيون العرب، أنذاك، الدور الطليعي، وهي -في أعمِّها- قراءات تمنح الأولوية للإيديولوجي على حساب المعرفي، انطلاقاً من القول إن «ثورية الموقف من قضايا الحاضر، تستلزم الانطلاق من هذا الموقف نفسه لرؤية التراث، أي لمعرفته معرفة ثورية، من أجل بناء هذه المعرفة على أساس من إيديولوجيا القوى الثورية نفسها في الحاضر، أي القوى التي لها علاقة تاريخية موضوعية بالأساس الاجتماعي لإنتاج التراث الفكري في الماضي؛ نعني بها القوى الاجتماعية السابقة المنتجة للأسس المادِّيّة التي انعكست في أشكال الوعي الاجتماعي (الفلسفة، والعلم، والأدب، والفنّ) المكوِّنة لهذا التراث».(31)

هذا هو الأنموذج العامّ الذي كان سائداً في قراءة التراث، إبّان الربع الأخير من القرن الماضي، وهو أنموذج، إن قيس بما سواه، آنذاك، فإنه كان يشكِّل قراءة متقدِّمة في قراءة التراث، والتراث النقدي.

ينبغي أن نسجِّل، هنا، أن القراءات الراهنة، التي تدَّعي لنفسها السبق في أيَّامنا هذه، ما زالت تحت تأثير هذا النوع من القراءة، وأنها مجرَّد تنويع أكسَبها التراكم الكمّي، والتراكم الكيفي طابعاً آنيّاً؛ لذلك ينبغي التنويه إلى أن ما قدَّمَه حسين مروة، والطيب تيزيني، وحسن حنفي، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، بالإضافة إلى الملاحظات الثاقبة التي ضمَّنها عبد الله العروي كتبه المتعدِّدة، كلّ هذا ما يزال شاهداً على روح الاجتهاد التي طبعت أعمال هؤلاء، سواء فيما يخصّ «إشكالية التراث»، أو بعض مظاهره الخاصّة، كالتراث النقدي. لقد أعادت هذه الدراسات التراث العربي إلى التاريخ، بعدما لم يعد هناك تمييز بين زمن كتابته وزمن قراءته، وأصبح كتلة من الأفكار والمعارف تُدرس معزولة عن كلّ سياق.

كما لاحظ حسين مروة أنه، منذ «العصر الحديث الذي صدر عنه تراثنا بمختلف أشكاله، حتى الحقبة الراهنة في عصرنا، ظلتَّ دراسة هذا التراث رهن النظرات والمواقف المثالية الميتافيزيقية التي تتَّفق جميعها، بمختلف مذاهبها وتيّاراتها، على خطّ عامّ مشترك تحكمه رؤية أحادية الجانب للمنجزات الفكرية في العصر العربي الإسلامي الوسيط، أي رؤية هذه المنجزات في استقلالية مطلقة عن تاريخيَّتها؛ بمعنى أن هذه الرؤية ظلَّت قاصرة عن كشف العلاقة الواقعية الموضوعية غير المباشرة بين القوانين الداخلية العملية للإنجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي؛ لذا بقي تاريخ الفكر العربي الإسلامي تاريخاً ذاتيّاً سكونيّاً، أو «لا تاريخيّاً» لقطع صلته بجذوره الاجتماعية، أي بتاريخه الموضوع».(32)

وقد شكَّلت هذه الملاحظة التي تلخِّص، بصيغة حازمة، استراتيجية قراءة التراث لدى الرعيل الأوَّل ممَّن يمكن أن نسمِّيهم (إبستمولوجيِّي) التراث العربي، على اختلافهم، انطلاقةً جديدة للتعامل مع التراث، وغدت لحظة قراءته بالطرق التي يقترحها هؤلاء، تكتسي الأهمية نفسها التي تكتسيها لحظة اكتشافه مع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ذلك أن المنطلقات التي اعتمدوها في قراءة التراث، رغم أنها تبدو، الآن، متجاوزة ، قد فتحت الطريق أمام جيل من الباحثين الذين استفادوا من ثمار تجربة أولئك الروّاد، وأضافوا إليها من تجاربهم الخاصّة.

ولعلّ من مظاهر هذه الجهود، المحاولات الجادّة التي واجهت التراث النقدي بمفاهيم جديدة، وجعلت «قراءته» جزءاً من خطاب نقدي عربي، يمتح من التراث؛ بحثاً عن المناعة والتماسك.

وبما أن المكان لا يتَّسع لاستعراض كلّ النماذج التي سارت على هذه الخطى، سيواصل البحث الرحلة مع جابر عصفور بوصفه أحد المتخصِّصين القلائل في البحث عن منهج لمقاربة التراث النقدي، متوقّفاً عند باحثين آخرين، متى اقتضت الضرورة ذلك.

 

(5)

يأخذ جابر عصفور على القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي، أنها تعمد إلى الفصل التامّ المتعسِّف بين التراث والتراث النقدي، و-كما سبقت الإشارة إلى ذلك- لم يكن هذا الفصل،لدى دارسي النقد العربي القديم من المعاصرين، فصلاً منهجياً، فحسب، بل كان فصلاً موضوعياً أدَّى إلى عزل النقد العربي القديم عن سياقه، أيضاً. وكانت النتيجة أن أغلب القراءات التي مورست عليه كانت أفقية؛ ولذلك غلب عليها الطابع التأريخي بالمفهوم التعاقبي، لا بالمفهوم الشمولي الذي يأخذ بعين الاعتبار كلّ الأبعاد والظلال المكوِّنة للظاهرة النقدية، لأن «تاريخية التراث النقدي لا تنفصل عن تاريخية التراث العربي، بعامَّة. من ثَمَّ، تصبح قراءة التراث النقدي وشيجة الصلة بقراءة التراث في مجمله».(33)

إن هذه الصلة، التي ركزّ عزّ الدين إسماعيل على بعدها التاريخي، هي التي فرضت، من الناحية المنهجية، النظر إلى النقد العربي القديم باعتباره جزءاً لا يتجزَّأ من التراث العربي، عامّةً. وهذا ما يفرض على الدارس البحث عن مفاهيم إجرائية لمقاربة النقد القديم، تمكِّنه، من جهة، من التركيز على البعد التاريخاني لهذا النقد، برَدِّه إلى سياقه الفكري العامّ، وتسمح له، من جهة أخرى، بإبراز خصوصية الخطاب النقدي القديم، بطريقة تجعل النقد العربي المعاصر يستفيد منه.

وعلى الرغم من أن هذه الفكرة مثَّلت لدى كثير من النقّاد العرب، طموحاً، أثار عند بعضهم مسألة تأصيل النقد العربي المعاصر، بشكل جعلهم يتكلَّمون عن «نظرية نقدية عربية معاصرة»، إلّا أنها أدَّت إلى تداعيات جوهرية على طريقة النظر إلى النقد العربي القديم، من الناحية المنهجية؛ ومن هنا، ركَّز الدارسون العرب، في السنوات الأخيرة، خاصّةً، اهتمامهم على مبدأ مؤدّاه أن وحدة الخطاب تفرض، بالضرورة، وحدة القراءة.

ويقوم هذا المبدأ، عند جابر عصفور، على أن «فعل قراءة التراث، بوجه عامّ، فعل واحد، لا ينفصم من حيث المنظور المنهجي، ولا يختلف، في آليّاته أو إجراءاته، من حقل معرفي إلى حقل آخر من حقول التراث، فهو فعل متَّحد متكرّر الكيفية والتوظيف والأداء في كلّ الحقول التراثية؛ من هنا يظلّ الإشكال المعرفي للقراءة إشكالاً واحداً في قراءات متعدِّدة متباينة بتعدُّد حقول التراث وتباينها، أدبية أو نقدية أو فلسفية أو علمية، ما ظلَّت علاقة الذات القارئة بموضوعها المقروء واحدة على مستوى الإدراك»(34).

والواقع أن هذه الوحدة المنهجية، التي ينادي بها عصفور، ما هي إلّا تأكيد لما سبق للنقّاد الإحيائيِّين أن توصَّلوا إليه في دراساتهم للأدب العربي القديم، من أن هناك تقاطعاً بين شتّى المعارف والفنون، وأن هذا التقاطع يؤدِّي، بالضرورة، إلى تداخل بين الأنشطة الفكرية، والإبداعية، يصعب على الدارس تجاهلها. فقد أشار طه حسين إلى أن قراءة قصيدة لأبي نواس تحتِّم الاطِّلاع على الفكر الاعتزالي، وعلى فكر النَّظّام، بصفة خاصّة، وأن الحاجة ماسّة إلى الفلسفة، بكلّ فروعها، لقراءة المتنبِّي وأبي العلاء المعرِّي.(35)

وهذه هي الخلاصة نفسها التي توصَّلت إليها مدارس التأويل، بمختلف مشاربها، فقد بات معروفاً أن التفكيكية، على سبيل المثال، ترفض التصوُّر القاضي بالتمييز بين الأدوات القرائية التي تأخذ النصّ الفلسفي موضوعاً لها، وبين تلك التي يعالَج بها النصّ الأدبي، على الرغم من توصُّل بعض الهرمنوطيقيِّين إلى أن تأويل النصّ الفلسفي والنصّ النظري، بعامّة، يكون أكثر قابليّةً للتقعيد بالمقارنة مع النصّ الأدبي(36)؛ لذلك خلص بعض الدارسين إلى أن كلّ نصّ مكتوب هو، عند جاك داريدا، نصّ أدبي بالمعنى الحديث للمفهوم(37)، وهو ما استقرَّ عليه رأي أصحاب مدرسة «يال» التفكيكية الأنجلو أميركية حين أشاروا إلى اعتماد الاستعارة في النصّ الأدبي كما في الفلسفة، والقانون، والسياسة، وغيرها.(38)

وإذا كانت كلّ قراءة تنطوي على نوع من التأويل بالضرورة، فإن جابر عصفور يقترح مفاهيم إجرائية لقراءة/تأويل التراث النقدي، تشكِّل، بالنسبة إليه، قواعد للتأويل.

وأوَّل هذه المفاهيم مفهوم وحدة المنهج. فقد لاحظ أن أهمّ ما يميزِّ الدراسات الحديثة للتراث النقدي، أنها تعتبر ذلك التراث جزراً متقطّعة، لا علاقة بينها، توحي بأن النصّ النقدي له «دلالة ساكنة»(39).

ويهدف جابر عصفور، وهو ينطلق من وحدة المنهج، إلى إقامة علاقة عضوية تعيد بناء التراث النقدي بطريقة تجعل منه خطاباً نقدياً، خضع للتطوُّر وفق منطق التسلسل التاريخي الذي يجعل السابق يؤدِّي إلى اللاحق.

وقد قاده توظيف هذا المفهوم إلى اعتبار الموقف النقدي القديم موقفاً ذا امتدادات سوسيو ثقافية، من منطلق أنه تعبير جمعي وليس فردياً؛(40) وهذا هو ما يدعم المبدأ العامّ الذي انطلق منه في مقاربة التراث النقدي بارتباط كامل مع التراث عامّة، اعتماداً على ما يسمّيه وحدة المقروء التي «تعني، على المستوى الجزئي، إدراك النصّ أو الكتاب المقروء في علاقته المتباينة من حيث ما يشبهه أو ما يناقضه في المجال المعرفي، أوَّلاً، أو التيّار الفكري للتراث، ثانياً. وعلى مستوى كلِّيّ، تغني وحدة المقروء إدراك التراث، بوصفه وحدة كلِّيَّة تنطوي على التنوُّع، أو تقوم به (أو عليه) على نحو يكشف عن ثوابت لا يمكن فهمها إلّا في علاقتها بالمتغيِّرات، وفي الوقت نفسه، فهم المتغيِّرات في علاقتها بالثوابت»(41).

إن هذا الطرح الذي يدعو إليه جابر عصفور في قراءة التراث والتراث النقدي، والذي يعتريه غموض، قد يعود إلى أنه، في أصله، جاء في تصريح شفوي، يضع -رغم ذلك- قراءة التراث النقدي في سياق أعمّ وأشمل، يصفه عزّ الدين إسماعيل بالتاريخية، حين ذهب إلى أن الإشكالات المعرفية والمنهجية التي يواجهها قارئ التراث، في حقوله المختلفة، هي «الإشكالات نفسها التي يواجهها قارئ التراث النقدي، وكلّ هذا يؤكّد الوحدة المنهجية لحدث القراءة».(42)

بمعنى آخر، إن وحدة المنهج تؤدِّي إلى وحدة الرؤية من خلال تصوُّر علائقي يجعل «كلّ نمط من أنماط قراءة التراث النقدي يندرج في سياق أوسع، سواء من حيث النظرية الأدبية، أو النقدية التي يتغذّى منها هذا النمط، ويغذّيها، أو من حيث النظرية الفكرية الكبرى أو النسق المعرفي الذي يتحرَّك فيه، وبه، كلّ من النظرية الأدبية النقدية، ونمطها القرائي».(43) ويقوم ذلك التصوُّر على ركيزتَيْن: أولاهما النظر إلى التراث النقدي في إطار الإشكالية العامّة للتراث؛ لأن «الإشكال المعرفي للقراءة يظلّ إشكالاً واحداً في قراءات متعدّدة ومتباينة بتعدُّد حقول التراث وتباينها (أدبية أو نقدية أو فلسفية أو فكرية أو اجتماعية أو علمية)، ما ظلَّت علاقة الذات القارئة بموضوعها المقروء واحدة، على مستوى الإدراك».(44)

أمّا الركيزة الثانية فتتلخَّص في ما يسمِّيه محمد مفتاح «المنهجية البنيوية النسقية» التي تستمدّ بنيويَّتها من اعتمادها على تحليل بنيات الخطاب الكبرى وبنياته الصغرى، وتعتمد، في نسقيَّتها، على إيجاد علاقات وظيفية بين أنواع مختلفة من الخطاب. وتكون هذه الأنواع الخطابية «مستقلَّة في المنهاجية البنيوية، ومتداخلة البنيات والوظائف في المنهاجية النسقية».(45)

ولكن هذا التداخل بين مجالات التراث قد يجهز على خصوصية كلّ خطاب واستقلاليَّته ومميزاته، بجعله يذوب في التراث بمعناه العامّ. فمن المعروف أننا، ونحن نتكلَّم على التراث النقدي، نكون إزاء متن مكتوب، يشكِّل نوعاً خاصّاً من الكتابة التي لها مفاهيمها الخاصّة؛ لذلك فإن السؤال الذي يبرز ههنا هو: كيف يوظف الدارس المبادئ العامّة في قراءة التراث، وفي الوقت نفسه يبرز الخصوصية التي يتمتَّع بها التراث النقدي؟

فإذا كانت قراءة التراث النقدي معزولاً عن محيطه العامّ، الذي هو التراث، تؤدِّي إلى «غياب هذا المبدأ الأساسي في تناول الحقول المعرفية للتراث، حيث يؤدّي عزل الحقل إلى نظرة جزئية تعكِّر سلامة رؤية الحقل نفسه»(46)، فإن الإغراق في هذا الربط غير القابل للجدل، يحمل، في طيّاته، خطورة من نوع ما.

فعندما نربط إعادة قراءة التراث النقدي بمجمل قراءة التراث، فثمّة خشية من «تعويم المسألة أو المشكلة النقدية في إطار أعمّ، وهو إعادة قراءة التراث التاريخي، الفلسفي، الفكري..».(47)

أمّا الثاني فإنه ينهض على أساس التطوُّر الخطّي الذي عرفه التراث النقدي نفسه، والذي يرمي إلى إعادة بناء «النقد العربي القديم»، بشكل يجعل منه نسقاً يربط السابق باللاحق كما تمَّت الإشارة إلى ذلك سابقاً. ولا يعني هذا الربط، بالضرورة، السقوط في ما يسمّيه جابر عصفور «النزعة التاريخية» التي طغت، لمدّة طويلة، على مقاربات التراث النقدي. فقد حوَّلت هذه النزعة تاريخَ النقد العربي إلى «تاريخ ظواهر طبيعية. تبدأ وليدة من أدنى نقاط التطوُّر في العصر الجاهلي، وتتحرَّك فتيّةً صاعدة سُلَّم التطوُّر، حتى تصل ذروته ما بين القرنَيْن؛ الرابع، والخامس، ثم يحلّ بها ما يحلّ بالكائنات أو الأعضاء من شيخوخة، وتحلُّل».(48)

هذا المفهوم للتاريخ يجعل التطوُّر الذي عرفه التراث النقدي أفقيّاً، يتَّسم بالسطحية والاختزال، والركون إلى الوثوقية التي تفرضها القراءة من زاوية واحدة؛ وهو ما يجعله يتنكَّر للمنهج التاريخي نفسه، لأنه «يقضي على وحدة الظاهرة واستقلالها، ويرجعها إلى عناصر مادِّيّة، وإلى عوامل تاريخية، مع أن هذه العناصر المادِّيّة إن هي إلّا عوامل للفكر، وليست مصدراً لموضوعاته. فالطبيعة لا تنتج فكراً، بل هي محرِّرة للفكر».(49)

أمّا المنهج التاريخي، بمفهومه العلمي الدقيق، فهو الذي يتلخَّص في البحث عن «الوقائع التاريخية أو الاجتماعية، ووضعها متجاورة، وترتيبها، ثم الإخبار عنها أو التعريف بها، باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها».(50) وبهذا التحديد، الذي يلخِّص ما يسمِّيه محمد أركون (المنهجية التراجعية)، يصبح الركون إلى التاريخ من أجل إضاءة نصوص التراث النقدي، وسيلة للتوصُّل إلى «الآليّات التاريخية العميقة، والعوامل التاريخية التي أنتجت هذه النصوص، وحدَّدت لها وظائف معيَّنة»(51)

إن نسقيّة التراث النقدي، وفق هذه الرؤية، تكمن في أن «كلّ نصّ من نصوص التراث النقدي، لا يمكن أن نقرأه في عزلة عن غيره من النصوص؛ فالتراث النقدي وحدة سياقية واحدة، داخل وحدة سياقية أوسع، هي التراث كلّه».(52) وهي النتيجة التي توصَّل إليها جابر عصفور بعد تقويم قاسٍ للمقاربات التي ظلَّت تهيمن على دراسة النقد العربي القديم، التي «تكاد تتحرَّك في منطقة واحدة محدودة من مناطق التراث النقدي، وتنظر في مادَّتها نظرة جزئيّة تفصل الظواهر عن سياقها، وتعالج المعطيات معالجة نقلية اتِّباعية، تقصر حتى عن الوصول إلى الآفاق الرائدة التي وصل إليها أمين الخولي، أو طه حسين أو طه إبراهيم في ثلاثينيات القرن الماضي».(53)

إن الأهمِّيّة القصوى لهذا المنظور القرائي، الذي يدافع عنه عصفور، تكمن في الوصول إلى توضيح مفهوم لا يقلّ أهمِّيّةً عن المفاهيم الإجرائية التي تشكِّل آليّة القراءة عنده، وهو مفهوم الموضوعية.

يتحدَّد مفهوم الموضوعية في التصوُّر الذي يقترحه جابر عصفور، من أجل قراءة التراث النقدي، من خلال استدعاء عدد من المفاهيم الأخرى، القريبة في معناها من «الموضوعية»، وعلى رأسها «الحياد»، يحيل على العلاقة بين أطراف القراءة لفحص هذا المفهوم، لأن الموضوعية رهينة بإقامة علاقة متوازنة مع هذه الأطراف؛ من هنا كانت الدعوة إلى «الحضور الفاعل لهذه العناصر في علاقتها المتكاملة (54)»، أمراً ضرورياً قبل الحديث عن أيّة «موضوعية».

 

(6)

وبناءً على الفاعليّة والتكامل، في العلاقة بين القارئ والمقروء والسياق، راح يتفحَّص التجارب القرائية التي سبقت، انطلاقاً من مقياس مراعاة التوازن في تلك العلاقة؛ ومن أجل ذلك توجَّه بالنقد اللاذع إلى الدراسات التي تناولت تاريخ «النقد العربي القديم».

وعلى الرغم من أن جابر عصفور يعترف بالدور الريادي الذي قامت به القراءة التاريخية للتراث النقدي، من خلال الإشادة ببعض نماذجها البارزة(55)، فإنه يرى أن القراءة التاريخية تهتمّ بإقامة «تاريخ صرف» للنقد؛ ويعني بذلك أنها تفتقر إلى البعد الشمولي الذي يدعو إليه في قراءة التراث، لأن «التاريخ يُعَدّ عملاً بلا جدوى في غياب الاستقصاء الدقيق للمعطيات التاريخية، وفي غياب المنهج المتكامل في المعالجة. ومع ذلك، ما أكثر الكتب التي تؤرِّخ لتراثنا النقدي، في الشعر وغيره، ابتداءً من الجاهلية الجهلاء حتى مشارف العصر الحديث، دون أن يكون لها منهج واضح، ودون أن يتوفّر لها القدر الدقيق من استقصاء المادة وتتبُّعها في منحنياتها المتعرِّجة، ومخطوطاتها المتناثرة، ومجالاتها المتنوِّعة تنوُّع التراث القديم كلّه!».(56)

ويبدو أن (جابر عصفور)، بإعلانه هذا الموقف من «تاريخ النقد»، يتمثَّل موقفَ بعض النقّاد الذين يذهبون إلى أن «التاريخية تؤدِّي إلى العلمنة، والمبالغة في التفاصيل، والاستخفاف بقيم العمل الفنّي، وافتقاد كامل لمعايير التقويم، وتؤدّي إلى الانتقائية التعسُّفية».(58) ولذلك لم يتأخَّر في اتِّهام كتب «تاريخ النقد» بأنها تُوهِم «القارئ أنه قد عرف كلّ شيء عن التراث النقدي، مع أن هذا القارئ لم يعرف شيئاً ذا بال، في حقيقة الأمر. فضلاً عن أن هذه الكتب تسطِّح الأشياء، فلا تعالج شيئاً رغم ادِّعائها أنها تعالج كلّ شيء».(58)

والواقع أن تلك الدراسات قد طغت على قراءة التراث النقدي العربي لسنين عديدة. وكان الدرس الأكاديمي، في الجامعات العربية، قد كرَّسها طريقةً مثلى للنظر في «النقد العربي القديم»؛ درساً وتحليلاً وتقييماً. ولم يكن هذا المنهج ليهيمن على الباحثين العرب لولا تأثُّرهم البالغ بالمناهج الفيلولوجية التي انتشرت في الغرب، طيلة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وليس من باب الصدفة أن نجد (محمد مندور) يصدر كتابه عن «النقد المنهجي عند العرب»، متبوعاً بترجمة بحث يتناول موضوع «منهج البحث في تاريخ الآداب» لـ«لانسون».(59)

على أن النظر إلى النزعة التاريخية بالمعنى الضيِّق الذي طبَّقه الدارسون العرب على «النقد العربي القديم» لا يلغي أهمِّيَّة التاريخ في قراءة التراث النقدي. وعندما يعلِّق عليه جابر عصفور هذه الأهمِّيّة القصوى، فإنه يحرص على تحديد مفهومه الخاصّ لما يسميّه «البعد التاريخي» لتلك القراءة، التي يعتبرها «عملية تاريخية متكرِّرة ومتغيِّرة، وذلك من حيث ارتباطها بطرح متجدِّد لأسئلة أساسية ثابتة في كلّ مرحلة أدبية أو مدرسة نقدية. ومن حيث ارتباطها، في الوقت نفسه، بإجابات متغيِّرة بتغيُّر هذه المراحل والمدارس».(60)

وبما أن الأمر يتعلَّق بعلاقة القراءة بالتاريخ، يجنح إلى الدارس معنى معيَّن يجرّد المنهج التاريخي من مضمونه التطوُّري الخطّي الذي ظلَّت الدراسات العربية المعاصرة للنقد القديم تخلص له، ليبني أفقاً آخر للتاريخ يقوم على أن البعد التاريخي هو الذي يجعل الدارس ينتقل من «التأريخ» إلى «القراءة»، وبذلك يؤكِّد «أن تعدُّد القراءة محكوم بتعدُّد الشروط التاريخية وتغيُّرها من عصر إلى عصر، ومن ثَمَّ صفة النسبية التي ليس من الضروري أن تتناقض والموضوعية في القراءة».(61)

وبما أن أوَّل شرط لتحقيق الموضوعية لأيّ خطاب يتمثَّل في إخضاعه للسياق التاريخي، شكَّل البعد التاريخي لقراءة التراث النقدي، الركيزة المنهجية الثالثة في تصوُّر جابر عصفور المنهجي، وهذا يستدعي وعياً عميقاً بالتاريخ.

إذا كان مؤرِّخو النقد العربي القديم قد أنتجوا، من خلال أبحاثهم، دراسات لا تستجيب لشروط مفهوم القراءة، كما تحدِّده الهرمنوطيقا الحديثة، بمختلف مشاربها واتِّجاهاتها، فإن ذلك راجع إلى أن تلك الدراسات «تخلو من أيِّ وعي نظري بموضوعها، خلوّها من أيّ تأمُّل نقدي لمنهجها».(62) وبما أن الوعي بالموضوع وبالمنهج هو، في نهاية المطاف، وعي بالتاريخ بمعناه الجدلي، فإن إحدى نقط ضعف تلك الدراسات تكمن، بالضبط، في افتقارها إلى العمق التاريخي.

ويتَّخذ التاريخ، بالمعنى الذي يستعمله جابر عصفور وغيره من الذين حاولوا تقديم قراءة للتراث، شكل خطٍّ يضرب في أعماق الماضي، ويمتدّ ليلامس آفاق المستقبل، باحتكامه إلى أسئلة الحاضر وهمومه.

فكلّ قراءة محكومة بظروف معيَّنة لظرفية تاريخية معيَّنة؛ وبهذا المعنى نحن، دوماً، ندشِّن «قطيعة مع القراءة للتراث، إلّا إذا استطعنا أن نتنازل، تماماً، عن ظرفيَّتنا الحالية لكي نتقمَّص ذلك التراث في إطاره المعرفي، وإطاره التاريخي».(63)

وإذا كانت «القطيعة»، هنا، تحمل مضمون التجديد والتغيير في النظرة إلى التراث، من مرحلة إلى أخرى، فإن الرجوع إلى مسألة التوازن بين أطراف القراءة، التي سبق للبحث أن ألمح إليها، تبدو في غاية الأهمِّيّة؛ ذلك أن القبض على هذا التوازن هو الذي يعطي للسؤالين: كيف نقرأ التراث النقدي؟، ولماذا نقرأه؟ شرعيَّتهما المعرفية.

من هنا، كان لا بدَّ من التذكير ببعض الدوافع التي جعلت مسألة التراث والتراث النقدي تحظى بكلّ هذا الاهتمام في الدراسات العربية المعاصرة، خاصّةً أن التراث الذي يدعو إليه الخطاب العربي المعاصر ظلَّ يشكِّل سلاحاً «من أسلحة إيديولوجية الكفاح أكثر منه مفهوماً ثقافياً ذا أبعاد تاريخية معرفية».(64)

ويفسِّر عبد الله العروي هذه الظاهرة بالتصدُّع الذي هَزَّ الهويّة العربية في العصور الحديثة، فحين «لا يمكن الإمساك بالأنا، بصورة مباشرة، يلجأ الناس إلى الماضي لضمان هويَّتهم. وحين لا تبقى الأصالة سوى بحث قائم على الحنين، تتمّ مماثلتها باستمرارية تاريخية مطروحة».(65)

من هنا، ظلَّت تلك الكتابات، برجوعها إلى الماضي،  متأثِّرةً بمناخ النضال ضدّ المستعمر وضدّ الهيمنة، أكثر ممّا هي حريصة على إعادة تفحُّص ودراسة الموضوعات الأكثر عرضة للخلاف والجدل في المجال العربي والإسلامي، دون تقديم أيّة تنازلات، سواء على المستوى القومي أو الديني».(66)

إن مسألة الهويّة التي يعبِّر عنها مفهوم «الخصوصية» في كتابات كثيرة، احتلَّت مكانة بارزة في السجال حول ما يسمّيه بعض النقّاد «نظرية نقدية عربية». والواقع أن القول بمثل تلك النظرية النقدية، أَمْلته رؤية مزدوجة الأبعاد إلى ذلك التراث:

– البعد الأوَّل يقتضي النظر إلى التراث النقدي من خلال طبيعته التاريخية ذاتها؛ ونعني بذلك السياق التاريخي الذي أنتجه، والذي يمتدّ على مساحة زمنية ومساحة مكانية شاسعتَيْن، تجعلان من المستحيل النظر إليه باعتباره نصّاً، أو مجموعة نصوص متجانسة. فعندما «ننظر في تراثنا النقدي العربي، نجده تراثاً ضخماً يمتدّ على مساحة عشرة قرون. عرف، خلالها، عصوراً من القوّة والضعف، فعكَسَ التاريخ العربي في حركة مدّه وجزره، وتردُّده بين حركة التجديد والعقلانية وحركة المحافظة والنصِّيّة».(67)

ومن الواضح أن تغييب هذا البعد في قراءة التراث النقدي، لدى بعض دارسي النقد العربي القديم، قد أدّى إلى إصدار أحكام لم تكن في صالح التراث. فقد اعتاد هؤلاء أن يقدِّموا أعمال النقّاد العرب القدامى في صورة نصوص تتضمَّن حقائق لا غبار عليها. والحال أن أهمَّ الأعمال النقدية العربية القديمة قد أُنجِزت ضمن شروط الصراع الفكري الذي كان محتدماً بين الفرق والمذاهب الإسلامية.

– أمّا البعد الثاني فإنه يزج بالقارئ في أتون عمليّة التأويل. وإذا أردنا استحضار مفاهيم القراءة، فإن القارئ العربي «المعاصر» يلج باب التراث النقدي، وهو مسلَّح بوجهة نظر مسبقة، يريد إثباتها من خلال قراءته؛ وهذا يجعل التراث النقدي شاهداً على عصره، أي عصر إنتاجه، وشاهداً على العصور اللاحقة، أي عصر قراءته.

وكما أن للتراث النقدي بعداً تاريخياً هو الذي حدَّد شروط إنتاجه، فإن لقراءته بعداً تاريخياً يتجسَّد في استجابته لـ«هموم» القارئ الذي لا يألو جهداً من أجل أن يصبح التراث النقدي ناطقاً بما ينضح به من أفكار، ورؤى. وهذا البعد يؤكِّد أن «تعدُّد القراءات محكوم بتعدُّد الشروط التاريخية، وتغيُّرها من عصر إلى عصر؛ و-من ثَمَّ- صفة النسبية التي ليس من الضروري أن تتناقض والموضوعية في القراءة».(68)

وهذا يؤدّي إلى أن التراث النقدي ينتمي إلى الحاضر بقدر ما ينتمي إلى الماضي، فأن أقرأ «كتاباً ينتمي إلى الموروث النقدي، معناه أن أسعى إلى إقامة حوار معه، انطلاقاً من الحاضر كما أتمثَّله، وأستوعبه، ومن خلال الأدوات المتاحة لاستعادة الماضي وإدماجه في أسئلة الحاضر».(69)

إن أخذ البعدَيْن السابقَيْن بعين الاعتبار، يضع مسألة «الحياد» في قراءة التراث النقدي موضع تساؤل؛ ذلك أن التراث النقدي جزء لا يتجزَّأ من التراث بحساسياته المختلفة وتشعُّباته، التي تتجاوز كونه ماضياً، إلى اعتباره أحد مكوِّنات الحاضر. وإذا كان الحياد يعني الفصل بين الذات وموضوعها، فإن مثل ذلك الفصل يغدو، عند قراءة التراث، مستحيلاً، لأننا عندما نقرأه «ننطلق من مواقف فكرية محدَّدة، لا سبيل إلى تجاهلها. ونفتِّش، في التراث، عن عناصر للقيمة الموجبة أو السالبة، بالمعنى الذي يتحدَّد إطاره المرجعي بالمواقف الفكرية التي ننطلق منها».(70)

هكذا، كانت قراءة التراث النقدي حدثاً معرفياً، ولكنه ينتج معرفة نسبيّة، و»نسبيَّته تاريخيَّته، وتاريخيَّته قرينة شرط إنتاج معرفته في عصر القارئ. ولا مجال، والأمر كذلك، للحديث عن حياد موهوم، وانفصال زائف بين الذات والموضوع. فعندما يكون القارئ بعض المقروء، والموضوع بعض أزمة الذات، فإن القراءة لن تكون بريئة أو محايدة».(71)

ولكن غياب «الحياد» لا يعني، بالضرورة، غياب الموضوعية، فدراسة التراث النقدي، هنا، ليست سوى مقدِّمة لاستلهامه من أجل بناء نقد عربي حديث. ومن أجل هذا، أيّة قراءة «لا تستطيع أن تدَّعي لنفسها الحياد أو الانفصال عن المقروء؛ أي انفصال الذات عن موضوعها. لأن الذات القارئة أصبحت جزءاً من المقروء، كما يشكِّل المقروء جانباً من أزمة الذات القارئة، خصوصاً إذا تذكَّرنا تاريخية هذه الذات».(72)

إن الإلحاح على العلاقة بين التراث النقدي (المقروء)، وبين الناقد العربي المعاصر (الذات القارئة)، يجعل سؤال قراءة التراث النقدي يحيل على سؤال أكبر وأوسع؛ هو سؤال النقد العربي الحديث في علاقته بالتراث النقدي؛ وهذا هو التوجُّه العامّ الذي حَكَم (جابر عصفور) في قراءته للتراث النقدي.

___________________

الهوامش:

1 - طه حسين، في الشعر الجاهلي، تقديم د. عبد المنعم تليمة، دار النهر للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى، القاهرة (بدون تاريخ). وقد أعيد توزيع الطبعة نفسها التي صودرت سنة (1926)، كما يذكر تليمة في المقدِّمة، سنة 1997.

2 - محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الفجالة القاهرة (دون تاريخ الطبع، ولا رقم الطبعة)، ص 5.

3 - للاطّلاع على نماذج من الربط بين التراث والهزيمة، يُنظر -على سبيل المثال- في كتابات جورج طرابيشي في الموضوع، وخاصّةً كتابَيْه، «مذبحة التراث في الثّقافة العربية»، الصادر عن دار الساقي بلبنان، سنة (1993)، و«المثقَّفون العرب والتراث»، الصادر عن دار نجيب الريس في لندن، سنة (1991). حيث يرى طرابيشي أن هزيمة (1967) شكَّلت، للذات العربية، جرحاً نرجسيّاً عصيّاً على الالتئام، نجم عنه (خصي) بالمعنى الفرويدي، وأدَّى إلى قتل الأب (جمال عبد الناصر)، والبحث عن أب جديد من خلال الاحتماء بالتراث. كما يمكن الرجوع إلى كتاب جابر عصفور «هوامش على دفتر التنوير» الصادر عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء وبيروت سنة (1995)، حيث يشير الكاتب إلى تحوُّل التراث من دعامة للتقدُّم، إبّان الخمسينيات، إلى فضاء للعزاء بعد كارثة السابع والستين، التي سيصبح التراث معها تعويضا نفسيّاً عن انكسارات الحاضر.

4 - محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب (مرجع سابق)، ص 6 .

5 - يراجع كتاب محمد عابد الجابري: «بنية العقل العربي»، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثّقافة العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، يناير (1986). حيث يدرس الجابري قضايا لها علاقة مباشرة بالنقد العربي، ويبيِّن تقاطع «العلوم»، وتمفصلها في التراث العربي، ويخصِّص قسماً كاملاً، من الكتاب، لدراسة «البيان»، بوصفه أحد النظم المعرفية الثلاثة التي تحكم ذلك التراث.

6 - يقول محمد عابد الجابري في «بنية العقل العربي» السالف الذكر: «... ولا شكّ أن الباحث سيرتكب خطاً كبيراً إذا هو اعتقد أن الاهتمام بـ«البيان»، بأساليبه وآليّاته وأصنافه، كان من اختصاص علماء البلاغة وحدهم، (...)، فالبلاغيون الذين اتَّجهوا هذا الاتِّجاه كانوا آخر من ظهر على مسرح الدراسات البيانية»، ص 9.

7 - هذا اتِّهام شائع من طرف نقّاد «السلفية الجديدة»، وقد كان -كما سيتبيَّن لاحقاً- وراء نوع من الدراسات أضرَّت بالتراث النقدي العربي، وبالنقد العربي الحديث، على وجه الخصوص.

8 - تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ترجمة: سامي سويدان، منشورات مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، بيروت (1986).

9 - نبيل سليمان، مساهمة في نقد النقد العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت (1983).

10 - نبيل سليمان، المرجع السابق نفسه، ص 5.

11 - جماعة من النقّاد، مشكلة المنهج في النقد العربي المعاصر (ندوة). مجلّة «فصول»، القاهرة، المجلَّد الأوَّل، العدد الثالث، أبريل (1981)، ص 256.

12 - تقدَّم جابر عصفور بهذا العمل إلى ندوة «قراءة جديدة لتراثنا النقدي» التي أقامها «نادي جدَّة الأدبي الثقافي»، بالمملكة العربية السعودية، في الفترة: من 19 إلى 24 نوفمبر، (1988)، والتي شارك فيها نقّاد عرب من مختلف الاتِّجاهات والأجيال. ويمكن القول إن أعمال هذه الندوة تعبِّر عن تمثيلية في استقصاء نظرة النقّاد العرب المعاصرين إلى التراث النقدي؛ ليس لأنها احتضنت أهمّ الحساسيات النقدية التي تشتغل على النقد في العالم العربي، فحسب، بل لأنها، أيضاً، ضمَّت عدداً كبيراً من النقّاد العرب، قلَّما يتاح لهم الاجتماع في محفل واحد، وغطَّت أهمّ المواضيع المتعلِّقة بقراءة التراث النقدي. وقد صدرت أعمال هذه الندوة المهمّة في مجلَّدَيْن كبيرَيْن عن «النادي الأدبي الثقافي» بجدّة، بتاريخ: 12/7/ 1990. أمّا مساهمة جابر عصفور المشار إليها، فقد نَشرت، أوَّلاً، ضمن أعمال الندوة، ثم ظهرت في كتاب مستقلّ إلى جانب مجموعة من الدراسات الأخرى، تحمل عنوان «قراءة التراث النقدي»، في طبعات متعدِّدة، كانت أولاها طبعة (دار سعاد الصباح) التي ظهرت سنة (1992)، وعليها يعتمد هذا البحث.

13 - جابر عصفور، الصورة الفنّيّة في التراث النقدي والبلاغي عند العرب. ظهر الكتاب أوَّل مرّة سنة (1974)، عن (دار الثّقافة) بالقاهرة، وأعيد طبعه عدّة طبعات، يعتمد البحث الحالي الطبعة الثانية منها، التي صدرت عن (دار التنوير للطباعة والنشر) ببيروت، سنة (1983).

14 - صدرت الطبعة الأولى من كتاب جابر عصفور «مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي» عن (دار الثّقافة) بالقاهرة، سنة (1978). وأعيد طبع الكتاب عدّة طبعات، نعتمد منها، في هذا البحث، على الطبعة الخامسة التي صدرت عن (الهيئة المصرية العامّة للكتاب) بالقاهرة، سنة (1995).

15 - جابر عصفور، محمَّد مندور والتراث النقدي، مجلّة الطليعة، (القاهرة)، يونيو (1975).

16 - جابر عصفور. نظرية الفنّ عند الفارابي، مجلّة الكاتب، (القاهرة)، ديسمبر (1975).

17 - جابر عصفور، قراءة محدثة عن ناقد قديم، مجلّة فصول، القاهرة، (1986).

18 - جابر عصفور، الصورة الفنّيّة في التراث البلاغي والنقدي (مرجع سابق)، ص 11.

19 - جابر عصفور. المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

20 - جابر عصفور، المرجع نفسه، ص 12.

21 - يراجع محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت (1982). يوضح الجابري، في هذا الكتاب الذي يُعَدّ مقدِّمة لمشروعه الفكري حول «نقد العقل العربي»، كيف أن ما يسمِّيه إشكالية التراث، هي إشكالية وُلِدت وتطوَّرت مع ميلاد وتطوُّر الخطاب العربي المعاصر، وهي، من هنا، إشكالية خاصّة به، ولا نجد مقابلاً لها في الفكر الأوربي أو غيره.

22 - جابر عصفور، مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي (مرجع سابق)، ص 7.

23 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.

24 - جابر عصفور، مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي (مرجع سابق) ص: 7 و8.

25 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه، ص 8.

26 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.

27 - جابر عصفور، مفهوم الشعر (مرجع سابق)، ص 9.

28 - جابر عصفور، مفهوم الشعر (مرجع سابق)، ص9.

29 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه. ص 10.

30 - جابر عصفور، المرجع نفسه، ص 9.

31 - حسين مروة، النزعات المادِّيّة في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي/المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، بيروت/الدار البيضاء (1981)، ص 16.

32 - حسين مروة، النزعات المادّيّة (مرجع سابق)، ص:  5 و6.

33 - عزّ الدين إسماعيل، قراءة جديدة لتراثنا النقدي (المقدِّمة)، المجلَّد الأول. (مرجع سابق) ، ص21.

34 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، ص 28.

35 - طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة التاسعة (بلا تاريخ)، ص 29 .

36 - كريستوفر نورس. التفكيكية: النظرية والتطبيق، ترجمة: رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار، الطبعة الأولى،‍‍‍ سوريا (1997)، ص 25.

37 - G. Greisch . Herméneutique et gramatologie . C.N.R.S. Paris 1977. P 185

38 - T.Egleton. Critique et théorie littéraire. Trad. M.Souchard. PUF. Paris 1994. P 144.

39 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي (مرجع سابق)، ص 37.

40 - من أجل توضيح أكثر لهذه الفكرة، يمكن الرجوع إلى جابر عصفور: بلاغة المقموعين. دوريّة «ألف»، الجامعة الأميركية، سبتمبر (1992)، حيث يتتبَّع الباحث تطوُّر البلاغة من منظور الصراع بين القوى المحافظة والقوى «المقموعة»، بطريقة تؤكِّد سير التراث النقدي والبلاغي وفق شكل خطي ملتحم الأجزاء.

41 - جابر عصفور. مناقشة عرض الدكتور محمد الكتاني في ندوة «قراءة جديدة لتراثنا النقدي» (مرجع سابق)، المجلد الأوَّل، ص 471.

42 - عزّ الدين إسماعيل، قراءة جديدة لتراثنا النقدي (مرجع سابق) المقدِّمة. المجلَّد الأوَّل. ص 21

43 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، (مرجع سابق)، ص 49.

44 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه، ص 52.

45 - محمَّد مفتاح، التلقّي والتأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت/الدار البيضاء (1994)، ص 223.

46 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي (مرجع سابق)، ص 57.

47 - محمّد برادة، مناقشة عرض جابر عصفور، قراءة جديدة في تراثنا النقدي (مرجع سابق)، المجلَّد الأوَّل، ص 193.

48 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، ص 88.

49 - حسن حنفي، التراث والتجديد، ص 94.

50 - حسن حنفي، المرجع السابق نفسه، ص 84.

51 - محمد أركون، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي/المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، بيروت/الدار البيضاء (1996)، ص 164.

52 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، ص 12.

53 - جابر عصفور، المرجع السابق، ص: 27 و28.

54 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي (مرجع سابق)، ص 41.

55 - يراجع الحوار الذي أجراه معه جهاد فاضل، وضمّنه هذا الأخير كتابه: «أسئلة النقد: حوارات مع النقّاد العرب». الدار العربية للكتاب، الطبعة الأولى، بيروت (بلا تاريخ)، ص 96، حيث يشيد بمجهودات المرحوم إحسان عباس في ميدان تاريخ النقد العربي.

56 - جابر عصفور، مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي (مرجع سابق)، ص 7.

57 - رينه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة: محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت (1987)، ص 19.

58 - جابر عصفور، مفهوم الشعر، (مرجع سابق)، ص 7.

59 - يراجع كتاب محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب» (مرجع سابق) ص: 390 و426.

60 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي (مرجع سابق)، ص 49.

61 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه، ص 49.

62 - جابر عصفور، المرجع نفسه. ص 28.

63 - محمَّد الكتاني، مناقشة عرض جابر عصفور في ندوة: قراءة جديدة في تراثنا النقدي، الجزء الأوَّل، (مرجع سابق)، ص 194.

64 - محمد أركون، التراث محتواه وهويَّته، إيجابياته وسلبياته. ضمن: التراث وتحدِّيات العصر في الوطن العربي (الأصالة والمعاصرة). بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظَّمها (مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الأولى، بيروت (1985)، ص 157.

65 - عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، ص 74.

66 - محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، بيروت (1989)، ص 248.

67 - محمَّد الكتاني، تراثنا النقدي بين الرؤية والإعجاز، ضمن: قراءة جديدة لتراثنا النقدي. (مرجع سابق)، المجلَّد الأوَّل، ص 426.

68 - جابر عصفور. قراءة التراث النقدي  (مرجع سابق)، ص 49.

 69 - محمَّد برادة. تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب، ضمن: قراءة جديدة لتراثنا النقدي (مرجع سابق) المجلَّد الثاني، ص 544.

70 - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، (مرجع سابق)، ص11.

71 - جابر عصفور، المرجع السابق نفسه، ص 65.

72 - عزّ الدين إسماعيل، قراءة جديدة لتراثنا النقدي، (مرجع سابق)، المقدمة، ص22.

القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة

يحدث، أحياناً، أن تتَّسم العلاقة بين الكاتب المبدع والنقّاد، بكثير من التوتُّر، خاصّةً حين يكون مصدره سوءَ فهم شنيعاً، أو تحيُّزاً مسبقاً للقناعات الشخصية. ويعتبر أحمد الصفريوي، وهو أديب مغربي يكتب بالفرنسية (1915 – 2004)، مثالاً دالّاً على هذا الوضع؛ فقد انبرى معظم النقّاد لشخصه الوديع، باللوم والتأنيب، بدعوى «هروبيَّته» و«استقالته من الواقع»، و«الانشداه بالماضي»، وكذا لمحكيّاته الجميلة بالقدح والتثريب، بزعم أنها أدب « إثنوغرافي» و«فولكلوري» و«إغرابي».

وبالبداهة، كان لهذا التأويل المغرض أثر الجرح في وجدان أحمد الصفريوي الذي أبى، مع ذلك، إلّا أن يظلّ، في نصوصه، وفيّاً لعقيدته الأدبية، والجمالية، وهي أن ينذر نفسه، بتفانٍ وإخلاص، لتصوير المجتمع المغربي من جهة تشبُّثه، خاصّة، بالتقاليد المحلِّيّة، والطقوس الاحتفالية العريقة، وتعلُّقه بالقيم الأخلاقية السلفية؛ وهوما يجعله، في نظري، منتمياً لفصيلة أولئك الكُتّاب (الآيلين إلى الانقراض، هذا إذا لم يكونوا قد انقرضوا فعلاً) ذوي النزعة الإنسية (humaniste) بالمعنى القويّ للكلمة؛ أعني تلك التي تقوم على الاعتراف المبدئي والمطلق بإنسانية الإنسان، أي بما هو أصلي وأصيل فيه؛ فمحكيّاته كلّها تتغنّى بقيم المودّة والوفاء ونكران الذات ومحبّة الآخر والتكافل والتسامح والكفاف والبساطة والتلقائية والإيمان بالقدر والتديُّن غير المتطرِّف والتفاؤل ورؤية جوانب الخير والجمال في الأشياء؛ وذلك على خلفية كلّ ما هو عتيق ونبيل وشاعري في مدينة فاس التاريخية، مسقط قلبه.

قلتُ له، ذات زيارة له في بيته، بعد أن عبّرَ لي عن تبرُّمه من التلقّي النقدي لنصوصه:

اتَّهمك النقّاد ظلماً بالرؤية الإثنوغرافية للواقع المغربي، والحال أننا لانعدم روائيِّين مغاربة، يكتبون بالعربية، وبالفرنسية، تناولوا، في نصوصهم، ما يتفرَّد به المجتمع الفاسي، والمغربي، من عادات وتقاليد تتعلَّق بالشعائر الدينية، وبطقوس الولادة والختان والزواج ودفن الموتى، وبطرق الأكل واللباس، وبحكايات النساء الحميمة على سطوح المنازل، وفي الحمّامات التقليدية..، وغيرها. ومع ذلك….

فقاطعني بنبرة استياء واحتجاج:

«ومع ذلك، لا توصف نصوصهم بالإثنوغرافية؛ لأنها، بكلّ بساطة، لا ترقى إلى مستوى هذه القيمة السامية. اسمع: إذا كانت الإثنوغرافية تعني تصوير عادات الناس البسطاء الطيِّبين، والاهتمام بالتقاليد المحلِّيّة، وتأبيد آثار الماضي المشعّة في الحاضر، فأنا أجهر بعقيدتي الإثنوغرافية، ولا أخجل، إطلاقاً، من كون نصوصي إثنوغرافية».

أمّا أنا، فأقول إن أحمد الصفريوي يكفيه فخراً أنه أسهم في صيانة جزء من التاريخ المغربي، ومن المخيال المحلّي، وفي حفظ الذاكرة الشعبية من الامّحاء، حتى ولو كان فَعَل هذا بلغة أجنبية.

كم يغريني أن أشبّه كاتبنا بذلك الشاعر المتصوّف الحكيم، المتشرِّد والملغِز، الذي خصّه بحكاية جميلة تُلمّح أكثر ممّا تصرّح، وهي الحكاية التي قمتُ، شخصياً، بترجمتها بمتعة فائقة. في ما يلي نصّ الترجمة:

 

القاضي والمتشرِّد

 

«القاضي الحاجّ حمّاد يتذكَّر هذا جيّداً : حين جاءت الخادمة التي عنده لتخبره بأن متشرِّداً أشعث الشعر ورثيث الثياب ينتظره بالباب، كانت دادا مسعودة عاكفة على تحضير قصعة «العصيدة» احتفاءً بذكرى مولد النبي.

كان اليوم، إذن، يوم عيد المولد، وكانت العادة، في مثل هذا اليوم، أن يفطر الناس في الصباح الباكر، فيحتسون «العصيدة» بواسطة ملاعق خشبية يغمسونها في صحن من الخزف الصيني يطفح بـ «السميدة» المخلوطة بعسل داكن عَطِرِ الرائحة.

وقد خاطب الحاج حمّاد خادمته الزهرة، قائلاً لها إنه لا يعرف أيّ متشرِّد، ولا يرغب في معرفة واحد من فصيلة الناس هؤلاء، لكنها أجابته بأن مَنْ ينتظره بالباب لا شبه له، إطلاقاً، بأولئك المتسوِّلين المألوفين، وبأن النور يسطع من وجهه.

لكِ خيال جيّاش، قال لها.

ثم توجَّه نحو الباب، يحدوه في ذلك بعض الفضول، وخاصّةً رغبته، في يوم العيد هذا، في عدم معاكسة خادمته الصغيرة التي كان يعاملها معاملة ابنته، فوجد الرجل واقفاً مستنداً إلى الحائط المبنيّ بالآجر. كان طويل القامة، تشعّ عيناه بجمال فتّان، وتوحي هيأته، على رغم أسماله وآثار التعب في وجهه، بعزّة النفس والوقار. فإذا بالقاضي يتساءل مبهوتاً: هل هو في حضرة سلطان خرافيّ متنكِّر في هيئة متسوِّل انبعث، فجأةً، من أعماق زمان غابر، وأقبل إليه لينعم عليه بالمال والجاه؟

وقبل أن يفتح المتشرِّد فمه، بادره الحاجّ حمّاد القول :

– مولاي، الدار دارك، هلّا تفضَّلت بالدخول. ستأكل إذا كنت جوعان، وستشرب إذا كنت عطشان. نزِّلْني منزلة أخيك، ولا تتصرَّف في داري تصرُّف الغريب.

– إذا كنتُ طرقتُ بابك، فلأن يداً خيِّرة اقتادتني إليك. أشعر بأن ما قلتَه، قبل حين، لا لياقة فيه، ولا مجاملة. أجل، سأدخل، أ الحاجّ حمّاد، هيّا بنا، قدّم لنا «العصيدة» بالعسل حتى نحتفل معاً بالحدث الأعظم؛ مولدِ خير البشر، وأجمل نور في الكون.

ثم اتَّجه الرجلان نحو قاعة الاستقبال، وجلسا على أريكتَيْن فاخرتَيْن مكسوّتَيْن بالحرير، وتبادلا، في أثناء الأكل، أطراف الحديث على ضوء نور خافت، كرفيقَيْن متوادَّيْن عركتهما تصاريف الدهر، وخبِرا بني آدم، وأفراحهم وأتراحهم. ولمّا أنهيا الأكل، اقترح القاضي على ضيفه، بلين وتأدُّب، أن يقيم في غرفة بمؤخَّر الحديقة، حيث يمكنه، بحرّية، وبدون كلفة، أن يصلّي أو يستريح، وهو ما وافقه عليه، دونما اعتراض أو تحفُّظ.

في إثر ذلك، خرج الحاجّ حمّاد لملاقاة أصحابه وأصدقائه الاعتياديِّين، لكنه لم يخبرهم بما حدث. وفي المساء، وبعد صلاة العشاء، عاد إلى داره، حيث استفسر خدّامه عن أحوال ضيفه، فأخبروه بأنه لم يغادر الغرفة طيلة اليوم، ولم يطلب طعاماً أو شراباً. فظنّ الحاجّ حمّاد أن ضيفه، ربّما يكون آثر أن ينام ليستريح، ويستعيد عافيته، فقصد غرفة الحديقة ليوقظه، ويعرض عليه أن يشاركه طعام العشاء؛ عسى ذلك أن يخفِّف تعبه، فوجد الرجل متمدِّداً فوق الفراش، متسربلاً بقميص أبيض، طويل ومرقَّع، لكنه نظيف، فبادر في عتبة الباب إلى تحيَّته بما يقتضيه الأدب:

السلام عليكم. فردَّ عليه:

وعليكم السلام. أنا عاجز عن القيام لاستقبالك، أيُّها الأخ الكريم، فمعذرة. لقد مشيت مدّة طويلة لأجل ملاقاتك، لكنني لم أكن أتصوَّر أن موتي مقدّر عليّ في ضيافتك. أنا، الآن، موقن بذلك. أترجّاك، إذن، أن تلبّي لي رغبة أخيرة: أحضِرْ لي أوراقاً بيضاء ومداداً وريشات للكتابة،فأنا حريص على أن أترك لك تذكاراً يكون بمنزلة تعبير مني عن سعادتي بالتعرُّف إليك..

فقاطعه الحاج حمّاد:

ماذا تقول، يا مولاي؟ دعك من الكلام عن الموت، لعلَّ برد الليالي، في أثناء ترحالك، قد جمَّد الدم في عروقك، وهذا يوجعك الآن، أو لعلَّ جسدك في حاجة إلى الراحة وإلى أطعمة مقوِّية. سأطلب إحضار طبيب ليلطِّف آلامك.

لا داعي لذلك أ الحاج حمّاد، فأنا لا أتألَّم. لست مريضاً. كلّ ما في الأمر أن أجَلي قد حان. أحْضِر لي الأوراق والمداد والريشات، وستعرف سبب رحلتي إليك، ومعناها، والغاية منها. هيّا، أ الحاج حمّاد، نفِّذ طلبي بسرعة. أحسُّ أن جسدي سيسلم روحه لبارئها.

أرخى القاضي عينيه في استسلام، ينظر إلى الأرض متنهِّداً، ثم قصد دولاباً أخرج منه حزمة أوراق، ودواة، وريشات من قصب، ثم وضعها بين يدي الرجل المحتضر، وقبل أن ينصرف، سأله إن كان يريد أن يأكل أو يشرب، فأجابه بالرفض، راغباً، فقط، في كمِّية كبيرة من الشموع، وبعد أن زوَّده بها، ودّعه، والتحق بأهله.

وفي صباح الغد، زار الحاج حمّاد ضيفه باكراً، متمنِّياً له يوماً سعيداً ومستفسراً عن حاله. وبكثير من الجهد، أجابه بطيف ابتسامة، مؤكِّداً له أن ما بقي له من قوّة سيكفيه، بعون الله، لإنهاء ما تعاهد مع نفسه على إنجازه. كان مظهره يوحي بالدعة والهدوء وهو منهمك في الكتابة، رافعاً ركبته، مسنداً ظهره إلى مخدّات، وبجانبه كانت أوراق كثيرة متراكمة مكتوبة بخطّ أنيق. ومرّةً أخرى، امتنع عن الأكل والشرب.

وفي المساء، عاد القاضي إلى زيارته. كانت الأوراق تتكدَّس فوق الأوراق من غير أن يبارح الرجل فراشه.

وفي اليوم الثالث، وقبل أن يلتحق الحاجّ حمّاد بأهله، عرّج جهة الحديقة، فكان أن لفت انتباهه استغراق الغرفة في ظلام مطبق. حيَّره الأمر، ثم بدأ ينادي، مرّةً تلو الأخرى: مولاي! يا مولاي! لكن الصمت كان وحده ما يجيب، فأسرع لإحضار فانوس، واقتحم الغرفة. كانت آخر شمعة قد انطفأت، بعد أن انقضت ذبالتها في مشكاة نحاسية، وأكداس الأوراق متناثرة على الأرض، غير بعيد عن الفراش، حيث كان الرجل مضطجعاً على ظهره، فاغر العينين، مرتخية قسمات وجهه. فاقترب منه، وحقَّق النظر فيه مليّاً قبل أن يطبق جفنيه بحركة في منتهى الرقّة واللطف، ثم تربَّع مباشرةً على الأرض، وشرع في تلاوة سورة من القرآن».

***

قل لنا، أ الحاجّ حمّاد: ما اسم هذا الرجل؟، وما مصير مخطوطه؟، وهل هو صالح للنشر؟

أبداً، لم أسأل ضيف الأيّام الثلاثة عن اسمه. أمّا المخطوط الذي ملّكني إيّاه، فمعظمه أضرمتُ فيه النار في لحظة تهوّر واستخفاف، حيث لم أحتفظ منه إلا بهذا النزر اليسير. هاؤم، اقرأوا أوراقه:

يا صِحابي..

أضع بين أيديكم عصارة تجربتي الطويلة والمؤلمة في الحياة، فلا تتخذنّها هزؤاً. انظروا إليها نظرة رفق ورأفة. تعرفون كم أنا فقير، ومع ذلك أمنحكم الكثير. فهلاّ تتقبّلون هبّة قلبٍ بسيط رهيف، قلب مفعم بالمحبّة والإخاء، فلا تُعرضوا عنه بابتسامة سخرية.

مأوايَ الطيني البارد يتَّسع لاستقبالكم، أدعوكم ليلاً إلى الروابي، لتشاركوني رؤاي وهَلْوساتي. تعالوا أنّى شئتم لنتسكَّع معاً في دروبي العتيقة، ولا تنسوا أن تأخذوا ملء أيديكم، باقات صور. إذا كنتم يائسين أو مكتئبين، فسأعلّمكم أناشيد تحبّب الحياة إليكم، وتشيع البهجة في أنفسكم.

يا صِحابي..

نحن نتكلَّم اللّغة نفسها، أليس كذلك؟ فلننسَ أرذل العمر، ولنعد إلى لهونا ومرحنا. أوصيكم بإدمان الضحك. ليس في نيَّتي أن أعِظكم. حسبي أني أستعذب مخاطبتكم. فما أحلى أن يتكلَّم المرء مع أصدقائه في أوقات الشدّة والوحدة. قولوا عني إني ثرثار، قولوا عني إني كسلان، انعتوني بالبلَه أو بالهبل، فلن يهمَّني كلّ هذا. أمّا أنا، فلن أفصح عن رأيي فيكم. لن أدينكم. أنا، كما أنتم، غير معصوم من التناقض والخطأ. خليط أنا من الغرور والأنانية… ألم يُخلق الإنسان ضعيفاً؟ لكني، كما أنتم، أتطلَّع إلى الحقيقة، وأصبو، كما أنتم، إلى المحبّة والتسامح. نحن جميعاً مدعوّون إلى الوليمة نفسها. لنأكل من الصحن نفسه، ولنشرب من القدح نفسه. لا تبعدوني عنكم كما لو كنت مصاباً بالطاعون.

إن من لا يخدم عشيرته لا يمكنه إلّا أن يسيء إليها. لكن، مَن يخدم مَن؟ بل ما معنى أن تخدم أحداً؟ لماذا إكراه الشاعر على أن يهتمّ بعالم يرفضه؟ إن تمجيد الغباوة ليس، أبداً، ديدنه.

كثيراً ما تقولون لنا، نحن -زمرة الشعراء-: تكلَّموا بلغة نستطيع فهمها، أو أمسكوا عن الكلام ! أمّا أنا، فأقول لكم : مهما تحاولوا عن الكلام ردعي، فما أنا بصامت! افهموا بأنفسكم، إن كنتم ترغبون في ذلك، وإلّا فلديكم ما شاء الله من فقهاء اللّغة والأساتذة والمنظّرين والجغرافيِّين والمؤرِّخين والعلماء ليساعدوكم على الفهم.

لا شيء عندي أعلّمكم إيّاه. أنا نفسي لا أعرف شيئاً. تتحدَّثون عن الحرّيّة ! كونوا معي أسخياء، وامنحوني حرّيّة أن أحلم، وأن أغنّي في أوقات فراغي. امنحوني حرّيّة أن أتدبَّر ذاتي كما أشاء، لأكون كما أشاء. امنحوني -باختصار- حرّيّة أن أحقِّق فرحي الأسمى.

لن أحكي لكم ما رأيته بأمّ عيني، وأنتم لم تبوحوا لي بأيّة أسرار. إن عالم الكلمات هو عالمي، فالكلمات أدوات عملي. إنها موادّ حيّة، جواهر جوهرية. حاجتي ماسّة إلى كلمات تطفح بالشمس والألوان. تارةً، أنا موسيقيّ، وتارةً رسّام، لكن العالم الذي أترنَّم به، وأرسمه ليس عالمكم. بحثتُ عنه في الواقع، فوجدته في أحلامي.

كيف يمكن لي أن أسيء إلى عشيرتي؟ هي تملك السلطة… دمغتْ جسدي بالنار… قيَّدتْ اسمي في سجلّاتها الكبيرة… أمرتني بالطاعة… فانبطحتُ أمام أعيانها من أجل قسط من الراحة.. وكلّ يوم أقتل بعضاً من كياني؛ تلبيةً لنداء الواجب المقيت. فليكن. أنا راض بما يمليه عليّ قانون العشيرة. لا أتمرَّد، ولا أصرخ. إذا كنت لا أستحقّ أن آكل من الكعكة، فلن أمدّ إليها يدي، وإذا كان ماء هذه العين محبّساً على حلقوم ما، محظوظ، فلن يتطاول عليه فمي.

كلوا واشربوا -يا أصحابي- هنيئاً مريئاً، فخيرات الدنيا كلّها ملككم. عندكم شعراء ليخلّدوا مناقبكم، ويتغنّوا بلوعات الشوق في قلوبكم، ويُثنوا على آلهتكم. لديكم بهاليل يُنسُونكم ملل الاحتفالات الرسمية وقساوة الطقوس الدينية. تتفرَّجون على هرجهم الذي يستثير الضحك، وعلى مرجهم الذي يستدرّ الشفقة.

أيا صِحابي..

نهبتموني، ولمّا ينضب جشعكم. ماذا يهمّني أن أكون فقيراً؟ دعوني أخفِّف أحزاني. دعوني أغنِّ على مقام الألحان الذي يعجبني. اتركوا لي حرّيّة أن أختار موضوعات قصائدي. لا تنصتوا إلى أهازيجي، إن كانت لا تطربكم. وإذا شنَّفت إحداها آذانكم، فأنا أعرف ما ستقولونه، ستقولون: « إنه صوت شاعر آخر يدّعيه لنفسه». لا، صدِّقوني. فالصوت الذي تكونون قد استمعتم إليه، هو ما حباني الله -تعالى- إيّاه، فشكراً على نعمه.

كنت أصبحت غصناً ميِّتاً تذروه ريح الخريف، فشكراً لك، يا مولاي، على أن أرجعت لي غنائي. أحسّ برياح لواقح تسري في عروقي. يُخيَّل إليّ أن براعم تنبت، ببطء، في جسدي، وتوشك أن تتفتَّح عن أزاهير. ها قد عادت الشمس بعد طول انكساف عن كياني، طوال سباتي. هي ذي أشعَّتها تنعشني، كالسهام تخترقني، الدفء تبثّه في أعضائي، فترقص لها فرحاً روحي. فيا لروعة الفتنة التي تنبعث من هذا الضياء!

إلهي، كم يخيفني البرد والليل! ملكوتك يدعوني، الآن، إليه. لا وقت لي للحقد، ولا اقتدار لي على الخصام».

***

أخبِرنا، أ الحاج حمّاد، بما تلمّح إليه هذه الأوراق…

لا أعرف، لا أعرف، ثم ماذا عساها أن تلمّح إليه من معانٍ؟ حسْبُها أنها رسالة من صديق ائتمنني عليها.

فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟

ما كانت الغاية من الكلام؟ للإجابة عن هذا السؤال الغامض والرائع على حدٍّ سواء، يقترح عالِم اللُّغويّات «فيليب باربو» سيناريو خاصاً ومبتكراً في كتابه «غريزة المعنى: مقال عن عصور ما قَبل التاريخ للكلام» (2021).

في ردهة ساكنة بأحد الفنادق في بوليفارد سان جيرمان التقينا بـ«فيليب باربو». قَدِمَ هذا اللُّغويّ من كيبيك، وهو يعرف باريس جيّداً بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة، التي كانت صرحاً مرموقاً في علم اللّغة في السبعينيّات. كان مهتمَّاً بما يجعل الإنسان إنساناً: اللّغة. لقد شكَّلت أصول اللّغة لغزاً كبيراً خاض فيه الباحثون باعتماد العلم الذي سمح لهم بالتكهن والتخمين وافتراض لماذا وكيف، هذه الأسئلة المركزية التي تغذِّي بحثنا عن المعنى. وهذا الموضوع تحديداً شغل «فيليب باربو» في كتابه الأخير من ثلاثة فصول، وطرح افتراضاً غير مسبوق: هل اللّغة غريزة بشرية طوَّرتها حاجتنا للمعنى؟.. في هذه المُقابلة نستطلع أفكاره حول هذا الموضوع.

في كتابك الأخير تتحدَّث عن الإدمان الفكري بالمعنى… هل هذا ما دفعك لأن تصبح لُغويّاً؟

– نعم… في الواقع! لكن في ذلك الوقت، لم يحظَ المعنى بأي اهتمامٍ يُذكَر. في نهاية سنوات عملي كأستاذ، بدأ الناس يفكِّرون في شيءٍ آخر غير الأشجار والعلامات وأجزاء الرموز، حينها أصبحت مهتمَّاً بجذور اللّغة. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع الاكتشافات العلمية الحديثة، ظهر العديد من الكتب حول تطوُّر اللّغة عبر العصور. كنا نبحث عن لغةٍ أصلية، وقد نشر الكثير من المجلّات هذا البحث. استأثر الموضوع بجُلّ اهتماماتي، لكن لم أجد التفسير المُناسب.

أنت تتحدَّث عن لغةٍ أصلية، أسطورة بابل الشهيرة، التي تتعارض مع نظريات الظهور المتزامن والجمعي للغة في أجزاءٍ مختلفة من العالَم. أين نحن اليوم من هذه النظريات؟

– لا يزال البعض يسعى وراء اللّغة الفريدة في أسطورة بابل، بينما البعض الآخر يبحث عن أصلها في امتداد لغة الحيوانات. قبل بضع سنوات، مرضت بشدّة وعندما نُصاب بالمرض نلازم الفراش عادةً، نتأمَّل ونقرأ، كثيراً. لمدة سبع سنوات، عملت على هذا الكتاب وانتهى بي الأمر إلى تطوير شيء لا يشبه النظرية، بل كان عبارة عن سيناريو معقول وموثَّق حول أهمّ التطوُّرات ذات الصلة في مجموعة واسعة من العلوم: الأنثروبولوجيا، وعلم الوراثة، وعلم النفس، وعلم الحفريات.

أنت تربط ظهور اللّغة المنطوقة بأنواع الرئيسيات؛ الإنسان، بعد أن بدأ في الوقوف، خضع لتغييرات تشريحية ونفسية سمحت له بإصدار أصواتٍ جديدة.

– لا يمكننا الإشارة إلى تاريخ محدَّد، فالتطوُّر يستغرق آلاف السنين. لقد بدأت عصور ما قبل التاريخ للكلام منذ حوالي 2 مليون ونصف، 3 ملايين سنة، عندما تمكَّنت أنواع من الرئيسيات من الوقوف، بعد الطفرة الجينية والتغيُّرات المناخية. لقد أحدث الوضع الدائم لنوع الإنسان تغيُّرات كبيرة: صغر حجم الأنف، وتطوّر الدماغ وتغيَّرت مواقع الحنجرة والعمود الفقري. سمح تعديل الحنجرة بإصدار أصوات جديدة لا تتناسب مع لغتهم الحيوانية: التنبيه والصيد والتزاوج. ربما بقطعة من الحجر تمكَّن أحد أعضاء المجموعة من جرح نفسه والصراخ مجدَّداً. هذه الصرخة الجديدة نبهتهم إلى قدرتهم الخطابية والمعنى المُحتمَل الذي يمكن أن تحمله الصرخة.

في كتابك تشرح أن التغييرات التشريحية سمحت بظهور الكلام، تماماً كما أن الوعي بمهارات التحدُّث قد سمح بتطوُّر الذاكرة. إذن فالنوعُ قد اختبر تأثيراً مزدوجاً للجسدي على النفسي، والنفسي على الجسدي؟

– بالضبط! المعنى تحديداً هو الذي ساهم في نمو الدماغ، وكذلك تطوُّر هذا النوع. بفضل تطوُّر النطق الصوتي، بدأ التخزين في الذاكرة على المُستوى العصبي. لم يكن دماغ الرئيسيات المُتطوِّرة متطوِّراً جدّاً، فقد كان طوله (700 مم2). ظهر تدريب للذاكرة بالتزامن مع تطوُّر النطق. تطلب الأمر ذاكرة أكبر، ثمَّ مساحة أكبر، وبالتالي زيادة سعة الدماغ.

تُرجع هشاشة المجموعات إلى الظروف المناخية القاسية. لذلك من الممكن أن طوفاناً قد جرف اللّغة مع مخترعيها. إذا كانت اللّغة قد تطوَّرت على أي حال، ألا يمكن أن نفترض أن اللّغة إمّا هي تطوُّر جيني تمَّ ترميزه في جيناتنا أثناء التطوُّر، أو أنها ظهرت في الوقت نفسه على الكرة الأرضية كتطوُّر طبيعي للغة الحيوان؟

– هذا سؤال معقَّد للغاية. لا أعتقد أن اللّغة قد تشكَّلت في مكانٍ واحد في شرق إفريقيا منذ ملايين السنين، وبالتأكيد كان هناك نمط التطوُّر نفسه في مكانٍ آخر. ومع ذلك، أعتقد أن هذه اللّغة ليست امتداداً لغريزة الحيوان. لا يوجد كائن حي واحد لا يتواصل.

النقطة المُشتركة الوحيدة بين لغة الحيوان ولغة الإنسان هي التواصل تحديداً. الآن، هل اللّغة تطوَّرت وأصبحت جزءاً من جيناتنا؟ كنا نعتقد ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي. اعتبر بعض الباحثين الكلام على أنه عضوٌ وراثي، لكن من الناحية العلمية ليست لدينا جينات لُغويّة. بينما يؤمن البعض الآخر بفطرة اللّغة مثل (تشومسكي)، لكني لا أوافقه الرأي.

وإلّا فإنّ الأطفال حديثي الولادة يمكنهم التحدُّث عن أنفسهم، أليس كذلك؟

– بالضبط، وحتى لو لم نجد اللّغة في الجينات، فهي موجودة في الطريقة التي يعمل بها الدماغ. هذا يظل لغزاً رغم أننا نعلم أن بعض الألحان القشرية تنشط فيما بينها أثناء الكلام. الطفل في الرحم قادر على التمييز بين اللّغة الفرنسية واللّغة الأجنبية، ولكن القول، من هذا المنطلق، إنه مجهَّز لهذا الغرض وراثياً، لا أوافقه. أعتقد أن هذه العملية تمثِّل جزءاً لا يتجزَّأ من مليوني ونصف عام من التطوير.

هل عَزلتنا اللّغة عن غريزتنا؟

– اللّغة ليست غريزة بحكم التعريف. نحن قادرون على تكوين عدد لا حصر له من الجمل، وترجمة عدد لا حصر له من الأفكار شفهياً. لقد عُزلنا تماماً عن عالَم الحيوان وهذا هو المعيار الحقيقي الوحيد الذي يفصلنا عن هذا الأخير، وبالنسبة لبقية الأشياء فيمكننا دائماً العثور على روابط قويّة جدّاً.

لدينا اليوم لغةٌ غنيّة جدّاً ومتطوِّرة باستمرار. هل تعتقد أنه بعد 300 عام ستكون لغتنا بعيدة كلّ البُعد عن اللّغة التي نتحدَّث بها اليوم؟

– كلّ لغة ستتطوَّر في نطقها ومفرداتها. التكنولوجيا تغيِّر اللّغة. من ناحيةٍ أخرى، سجلنا اللُّغويّ اليوم يتضمَّن مفردات إنجليزية أكثر ممّا كان قبل عشرين عاماً، وبالتأكيد سنستخدم المزيد من المُفردات في غضون عشر سنوات من الآن.

لكن اللّغة العامية لن تتأثَّر إلّا قليلاً. ستبقى الشوكة شوكة. من المُحتمل أن تتطوَّر المُفردات في قطاع الإعلان والأعمال والدراسات، وما إلى ذلك. مفردات على غرار: (coach, sale manager – مدير مبيعات، مدرب،…) متداوَلة كثيراً اليوم. في كيبيك، على سبيل المثال، يستخدم الشباب أصواتاً جديدة ويغيِّرون نغمة نطقهم. بدأت اللّغة الإنجليزية في الاختراق، وبالتالي قد تصبح القاعدة في المُستقبل. لكن إذا سألتني هل ستختفي الفرنسية بعد 300 عام؟ لا. الكلمة المكتوبة هي حصن اللّغة. طالما أن تراكيب الجملة هي نفسها، سنتحدَّث الفرنسية.

هل تعتقد، كما هو الحال مع العربيّة المنطوقة والعربيّة الأدبيّة، يمكن أن يكون لدينا هذا التمييز في الفرنسية؟

– ليس من المُستبعَد على الإطلاق أن تصبح الفرنسية المكتوبة أكثر عزلة وألّا يتمُّ التحدُّث بها كما هو الحال اليوم. لكن هل ستصبح الفرنسية التي نتحدَّث بها اليوم في باريس لهجة؟ لا، الناس يمكنهم القراءة وهم متعلِّمون. عملية محو اللّغة سوف تستغرق مئات ومئات السنين.

أم تغييرات هيكلية مهمَّة للغاية، انهيار أنظمة معيَّنة جعلت اللّغة القديمة بالية، لأنها أكثر ملاءمة؟

– نعم بالضبط. أو كذلك الغزوات التي من شأنها أن تنتج مزيجاً من اللّغات والتراكيب اللُّغويّة، ولكن مع دولنا القومية والقواعد التي تتحكَّم في السلوك الاجتماعي على نطاقٍ كوكبي، هناك فرصة ضئيلة لحدوث ذلك. ستبقى اللّغات بالتأكيد على ما هي عليه. ومع ذلك، ربما في غضون 100 عام، سيحل الصينيّون محلّ الأميركيّين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: كارلا برنيني

المصدر:

Rencontre avec Philippe Barbaud – Le langage, un instinct du sens ?

 

رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة

أصدقكَ القول بأنني لا أدرك تماماً ما الذي حدا بي إلى كتابة هذه الرسالة، خلال زيارتي إلى الوطن المغرب بعد طول غياب. لعلَّه الشعور بالغُربة ما يجعلني ألتجئ إلى ظلال الصداقة الوارفة عندك أنت الذي رحلتَ قبل الأوان، إذْ شعرتُ أن الأصدقاء الأحياء منشغلون بهموم المرحلة الجديدة التي تبذل الجهود لتوديع جائِحة «كوفيد 19»، ومعانقة التحوُّلات؟

لا يهمّ الدافع، لأنني في حاجة إلى مَنْ يقرأ رسالتي بقلبٍ متواطئ، يستوعب ما وراء الكلمات. وأنا أعرف أنك لن تردّ على رسالتي كما كنتَ تفعلُ أيامَ «وردٌ ورماد»، لكنني أتوَهّمُ أن رسالتي ستصل إليكَ حيث أنتَ. ولكيْ أحدّد دوافع الكتابة إليك، أقول إنه السياق المُجتمعي العام الذي يستعصي على الفهم ما جعلني أكتب إليك، لأنني أغبط الأصدقاء الذين «بادروا» إلى الرحيل عن الحياة الدنيا تلافياً لمرحلة الانحدار التي تجعلنا نُراقب في عجز، تدحْرُجَ المُثل والأحلام التي تشبثنا بها عند مطلع الشباب حين عانقنا أوْهامَ صوْغ العَالَم من جديد… كأنكمْ هناك، وراء الغيوم في سماوات العُلا، تنظرون إلينا في إشفاق، مُستغْربينَ استمرارنا على نفس الطريق. ولأكون صريحاً معك، لم أجسرْ على زيارة مدينة طنجة بعد رحيلك، خشية أن أفتقد ذلك المناخ السحري الذي كنتَ تعرف كيف تنسجُ خيوطه لتُلبِس الفضاءَ والناس والذكرياتِ روحاً متجدِّدة، مُتنوِّعة الألوان. طنجة، معكَ، كانت تبدو رحِماً وَلودا لا يكفّ عن ابتكار المُفاجآت ونسج المحكيات. لذلك اعتبرتُك، في جزءٍ من كيانك، صنيعة تلك المدينة الميثولوجية التي عرفَتْ أن تبتدعَ من مغارات هرقل وأمواج الأطلسي والمتوسط، كاتباً جسوراً مثلك، استطاع أن يكسّر الصمت. لذلك كان خُبزك الحافي وجبةً دسِمَة جدّدتْ شهية القُرَّاء، وأيضاً أرغمتْ الروائيين المغاربة على مُراجعة النهج الذي ظلوا يتأرجحون بين مسالكه، من رومانسية وواقعية وطلائعية مُقتبَسَة في عجالة وابتسار. كانت إطلالتك على الحقل الأدبي ناقوساً مُنبِّهاً للكُتَّاب الذين اعتبروا الكتابة وصفة جاهزة تُلقن في مدرجات الجامعة أو من خلال حفظ الأشعار وملء الذاكرة بالغث والسمين. أنت نزعت القناع، وكشفتَ تلك الجوانب الخفية التي يعيشها الفرد بكيانه كاملاً وهو يواجه حيْف المُجتمع وظلم ذوي القربى، وقلق الوحدة والتشرُّد. أدركتَ أنك، رغم كلّ شيء، تظلّ مسؤولاً عن مصيرك، مُطالباً بتحرير ذاتك…

من قبل أن تكتب، كنت تتكلَّم وسط حومة الحياة وأنت تُجابه مصيرك وتثبت وجودك. وعندما تعلَّمت القراءة والكتابة في سنٍّ متأخِّرة، أدركتَ أن عليك أن تكتب ما أهمله التاريخ الرسمي وما يتواطأ الجميع على نسيانه. إلّا أنك سرعان ما أدركتَ أن الكتابة تنطوي على مخاطر ومزالق إذا انبنتْ على الثرثرة وإعادة إنتاج ما اختزنته الذاكرة من كتابات الآخرين. وهذا ما عبّرتَ عنه في إحدى رسائلك بعد أن نشرتُ لك في مجلة «آفاق» فصلاً من «الخبز الحافي». قلتَ في تلك الرسالة: «… كم أتمنّى أن أكون بعيداً في بلدٍ لا يعرفني فيه أحدٌ، ليكون لي من جديد أوّلُ صديق، أوّلُ خصم، أوّلُ عملٍ لمْ أمارسه من قبل، إلى ما لا نهاية من الأوائل». (21 – -12 1977). وفي نفس الفترة، خلال إقامتك بمُستشفى الأمراض العصبية في مدينة تطوان، عبَّرت لي عن وطأة مسؤولية الكتابة من خلال هذه المُقارنة: «سأبقى هنا حتى آخر هذا الشهر، ثمَّ أعود إلى طنجة لاستئناف عملي مُغيِّراً نمط حياتي. بعد اليوم، سأعيش عاقلاً وأموتُ مجنوناً. أمّا «دون كيخوتي» فقد عاش مجنوناً وماتَ عاقلاً». نعم، تلك هي أكبر هزيمة تنتظرنا: أن نُدرك، في نهاية المطاف، أنْ لا شيء يتغيَّر وفق ما أمّلناه، أو يتوضّح لنا أنه يتغيَّر حسب منطقٍ وإِوَالِياتٍ تنِدّ عن فهمنا، وعن طموحات «دون كيخوتي» الحالم الساذج.

محمد برادة

تذكَّرتُكَ يا شكري أيضاً، من خلال ما قاله كاتِبك المُفضَّل، هنري ميللر: «أكتب لأستطيع أن أصمتَ في ما تبقى من الوقت». كأنما الكتابة تجدِّد قُدرتنا على الصمت لنمتلئ بما يحيط بنا ويُسائلنا ويُحاصرنا من ألغاز». لكن الضجيج واللغط والاجترار هو ما يملأ الساحة هنا، بل في كلّ أرجاء العَالَم الفاقد البوصلة أمام الجَائِحة، وأمام اختلال موازين الطبيعة وتدهور البيئة… ولعلّك كنت ستجد نفسك ضائعاً، تائهاً وسط ضوضاء الشبكات الاجتماعية والتعليقات المُتنافرة، والعدوانية المجانية، والثرثرة المُحنّطة… وما يشبه ذلك، يُطالعك في ما يُنشر من نصوص وروايات: ستتوقَّف، مِثلي، عند ما تكتبه أقلام شابّة تستوحي هذا المناخ السّديمي الذي يطمس الأفق أمام مَنْ يتطلّع إلى معانقة الحياة، وستُعرض عن الذين يُكرِّرون ما استنسخوه في عشرات الكتب التي نشروها مُضاهية ما بلغتْهُ أعمارهم المديدة من سنين. تلك سُنّة الأدب والحياة: إبداع للبهرجة والتسلية والثرثرة والقول المُعاد، وإبداع يستوحي «الجُرح السّريّ» وأسئلة الوجود ليُخاطب الروح الصّنو والوجدان المُشترك، علّه يبلغ منطقة ذلك المجهول الذي تحدَّث عنه الشاعر «ريلكه» (1875 – 1926): «كلما زادَ صمتُنا، استطاع المجهولُ النفاذَ بِفعاليةٍ إلى أعماقنا». نعم، الصمتُ يوطّد علاقتنا بذلك المجهول الذي قد يُضيف عناصر جديدة إلى حياتنا. في كتابة الإبداع، تُطالعنا صفحات يضطر فيها الكاتب إلى الصمت، ليتيح للقارئ أن يُخمِّن بدوره ذلك الذي يستعصي على التعبير واللّغة المشاع. كأنّما نقلُ عدوى الصمت إلى القارئ يُسعف على التقاطِ ما استعصى على التعبير؟ هل تذكر تلك الرواية القصيرة المُوحية التي نُشرتْ إبّان احتلال النازيين لفرنسا بعنوان «صمْتُ البحر» واسم كاتب مُستعار «فيركوس»، سنة 1942؟ في هذه الرواية تحرص الكتابة على الإشارة إلى صَمْتها الاضطراري، غير أنها تجعل القارئ يعيش لِحسابه الخاص مغامرةَ تخمين ذلك الصمت الضّاجّ، الموحي بظلال المأساة…

أريد أن أقول لك، في نهاية هذه الرسالة أيها الغائب/الحاضر، إن الصمت الذي أحاول الاقتراب منه، هو ذلك الذي يكتسي إلى جانب وظيفته الجمالية والتعبيرية، قيمة معنوية تحُولُ دون التحايُل على القُرَّاء من خلال تسويق الإبداع مصحوباً بالضجة والتفخيم، وادّعاء الريادة والعالمية وما لستُ أدري من الفتوحات. ذلك أن العمل الإبداعي لا يجد تقييمه الحقيقي إلّا في حضرة الصمت والعزلة، ليتمكَّن القارئ والناقد من أن يُجاهرا برأيهما، بعيداً عن كلّ التأثيرات المُصطنعة؛ وهذا ما أجادَ التعبير عنه بدقةٍ وذكاء، «رولان بارتْ» قائلاً: «… هنا إذنْ، يجب أن يبدأ بحثُنا. في هذه اللحظة، حيث الكُتَّاب المُحدَّدون والمُتواشِجون بالآراء التي يُعلنونها، والشعارات التي يُدافعون عنها، والبيانات التي يُوقعونها، والمُؤتمرات التي يحضرونها، والمجلّات التي يكتبون فيها، يتواروْن مع ذلك وراءَ عملهم الإبداعي، ويفرضون الصمتَ على شخصهم، فاسحين المجالَ ليظهرَ من ورائهم الأدبُ في عزلته واقفاً تحت نظرة التاريخ والحقيقة».

أعتقد أن هذا المقياس الذي عبَّر عنه «بارتْ»، هو مقياس لا يبلى بالنسبة لِمَنْ يميِّز بين الأدب الإبداعي وأدب الكيتش والتسلية واجترار الذاكرة. وهو مقياس صالح للتمييز أيضاً بين الإبداع واللاإبداع في حقلٍ أدبيّ مثل حقلنا، لا يتوفَّر على الشروط الأساس لانتظام تلك العلاقة الحرّة والضرورية بين المُبدعين والقُرَّاء والنُقَّاد؛ أيْ تلك العلاقة التي لا تخضع للمُجامَلة أو للصداقات، والتي لا تسمح باصطناع طقوس التكريم التي يسعى بعض الكُتَّاب إلى تحضيرها علانية أو من وراء ستار.

إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين

تظلُّ اللّغةُ -في أيِّ مجتمع- عاملَ بقاءٍ لهذا المُجتمع وازدهارهِ، ونقلِ مَعارفهِ إلى الأجيال القادمة. وحَصلَ أنْ تلاشت بعضُ الأمم، نتيجةَ تلاشي لُغتِها، ضمن التلاشي الناتجِ عن عدمِ العدالة، والغلو، والحروبِ والأمراض.

وللُغةِ العربيّة خصوصيةٌ واضحة، ومهمَّة، فهي لغةُ القرآن الكريم، ولغةُ الرسالة، وهي عاملٌ مُهمٌ لتوحُّدِ العرب والمُسلمين، ولقد بقيت هذه اللّغةُ صامدةً في وجهِ العديدِ من التحديّات السياسية، العسكرية، الاقتصادية، الاجتماعية والأدبية. وكانت الغزوات التي تعرَّضت لها أجزاءٌ من العالَم العربيّ، ثمَّ حقبةُ الاستعمار الحديث، والانتدابات، في مناطقَ مُحدّدةٍ من هذا العالَم؛ قد حاولت طمسَ اللّغةِ العربيّة، وإجبارَ بعضِ الشعوب العربيّة على التعلُّم بلغة المُستَعمِر أو المُنتدَب، كما حدثَ في دول شمالِ إفريقيا، وبعض الدول الإفريقية.

واليومَ تواجهُ اللّغةُ العربيّة معضلةً جديدة تشكَّلت بوجودِ أدواتِ التواصل الاجتماعي، وتهافتِ الإعلاميين على وسائل الإعلام، دونماً معرفةٍ باللّغة السليمة، أو حتى نُطق الحروف، بل وفي ضعفِ معرفةِ الطالب -في المُستوى الجامعي- للنُطقِ السليم لتلك الحروف، تماماً كما هي عدم قدرتهِ على كتابة موضوعٍ مقاليّ، ودائماً ما يُفضّل الطلبةُ الأسئلة الاختيارية (صح/خطأ). وما نقرؤهُ -عبر وسائل التواصل- يؤكِّدُ ما نذهبُ إليه.

نحن نعتقدُ أنَّ تدريسَ اللّغةِ العربيّة -خلال الخمسين سنة الماضية- قد تأثّر بالتحوُّلاتِ المُجتمعيةِ، ورغبةِ الأُسَرِ تعليمَ أبنائِها في المدارسِ الأجنبية، ذاتِ المساحةِ المحدودة في تعليم اللّغة العربيّة أو المنهج الديني، وأيضاً عدم تمكُّن بعضُ المُدرّسين من التوصيل السليم لهذه اللّغة، مقارنةً بالتدريس في الستينيات أو السبعينيات. ومن هنا، برزت مطالباتٌ بضرورةِ تطويرِ مناهجِ اللّغة العربيّة، منذ الثمانينيات، ولم يحصل أيُّ تطوُّر في هذا الاتجاه، حتى هذا اليوم، وهذا مبحثٌ طويل ومُتشعِّب، ولربّما تناولناهُ لاحقاً. وللأسف، فقد حتّمَ عدمُ إتقانِ بعض المذيعين للّغة العربيّة -في بعض المحطات- قيام المذيع بقراءة الأخبار الرسمية بلهجةٍ محلّيّة، أو استخدام التسكين (جرياً على قاعدة «سَكِّن تسلم»)، وينتجُ عن ذلك أَخطاءٌ فادحةٌ في مدلول الألفاظِ السياسية وتضميناتها!

د. أحمد عبدالملك

نأتي إلى الأُدباء (الجُدد)، الذين ظهروا خلال العشرين عاماً الماضية؛ ورأوا أنَّ بإمكانِهم الولوجَ إلى بوابةِ الشُهرةِ عبر الأدب! وصار أن ظهرت أعمالٌ قصصيةٌ وروائيةٌ جدّ متواضعة، لأنَّ بعض هؤلاء غيرُ مُتمكِّنٍ من اللّغةِ العربيّة، وبعضُهم كان يكتبُ قصتهُ أو روايتهُ باللَّهجةِ المحلية، ويقومُ مُدرسُ لغةٍ عربيّة بتحويلها إلى الفصحى، مع تحَفُّظنا الشديد على هذا النوع من «خداع» القارئ، وخداع الكاتِب ذاته.

وكان من نتائج ذلك، أنْ ظهرَ أَدبٌ «خديج» أساءَ لمسيرةِ الأدبِ في منطقةِ الخليج العربيِّ عموماً. كما ساهمت بعضُ دور النشر -في المنطقة- بدورٍ سلبيٍّ، بقيامها بطبعِ مثلِ تلك الأعمال، دونما مراجعةٍ أو تصحيحٍ لبعض المفاهيم أو حتى أشكال التراث، أو الحوادث التاريخية.

ولقد لمَسنا -ضمن تلك الإصدارات- إساءاتٍ واضحةً للتُراثِ الخليجي، ومكوِّنات الحياةِ الخليجية، كما وردَ في بعض «الروايات».

إنَّ حظَّ الإعلاميين «الجُدد» ليس بأفضل من حظِّ الأدباء «الجُدد»! فلقد أفرزَ لنا هذا الانتشارُ المُثيرُ للفضائيات، ومحطات الـ(F.M) واقعاً جديداً، خالفَ كُلَّ الأعرافِ الإعلامية، خصوصاً ما تعلَّقَ بسلامةِ اللّغةِ العربيّة، والتي هي الأساسُ في الرسالةِ الإعلامية؛ فظهر علينا جيلٌ من المذيعات والمذيعين «الرُوبوتيين» الذين اعتمدوا على جهاز القراءة (Auto Queue)، والذي يحاول إلغاءَ عقولِهم وسلبَ شخصياتِهم، وأصبحت المذيعةُ والمذيعُ لا يجلسان أَمامَ الكاميرا، إلَّا بعدَ التأكُّدِ من وجود هذا الجهاز؟! فماذا كانت النتيجة؟

  • التزامُ المذيعةِ أو المذيعِ بقراءةِ أَسئلةِ الحوار من الجهاز، بل، ويقومان بتكرارِ السؤالِ المكتوبِ على الجهاز، حتى لو جاوبَ عليه الضيفُ ضِمنَ ردِّهِ على السؤال السابق.
  • التهاءُ المذيعةِ أو المذيعِ بالبحثِ عن السؤال التالي، عبرَ جهازِ القراءة، دونما تركيز أو فهم أو استيعاب ما يقوله الضيف.
  • ضياعُ فرصةِ توليدِ سؤالٍ من أَجوبةِ الضيف، قد يراهُ المُشاهدون مُهمَّاً في السياق.
  • ضياعُ عينِ المذيعة أو المذيع بين أَسطرِ الجهاز، وهذا ما تكشفهُ عينُ المُشاهِد بسهولة.
  • عدمُ تطوُّرِ أَداءِ المُذيعةِ أو المذيعِ، أو زيادةِ خبرتهما الإعلامية، في الإعداد، وهذا يُشكِّلُ أزمة لهما في المُستقبل، كون معظمِ البرامج -في بعض المحطّات التليفزيونية- لا يُعدُّها المُذيعون بأنفسِهم.
  • وينطبقُ الشيءُ ذاتهُ على بعضِ مذيعات ومذيعي محطّات الـ(F.M) التي انتشرت بسرعة في العالَم العربيّ، مع التأكيد على أنَّ (95 %) من البرامج التي تُقدَّمُ في هذه الإذاعات وأغلب التليفزيونات، تعتمدُ على اللهجةِ المحلّيّة.

إِنَّه حقَّاً مأزقٌ كبيرٌ تواجههُ اللّغةُ العربيّةُ من أَهلِها! ولعلّنا نوردُ أدناه بعضَ الوسائل التي من شأنها دعمُ الكتابة الصحيحة للأعمال الأدبية، وسلامةَ تقديمِ البرامج والحواراتِ في الإذاعة والتليفزيون:

1 – ضرورةُ أنْ تُكتبَ النصوصُ (القصَصيَّة والروائيَّة والنثريَّة) بلغةٍ عربيّةٍ سليمة، وأن يُراجعها مُراجعٌ مُتمكِّن.

2 – ضرورةُ أنْ يكونَ الكاتبُ مُلمَّاً باللّغةِ العربيّةِ الفصحى، حتى لو تطلَّب الأمرُ الاستعانةَ بمدرِّسٍ لهذه اللّغة.

3 – تكثيفُ القراءةِ لفنون المعرفة، حيثُ إنَّ القراءةَ تُمكِّنُ الكاتِبَ من زيادةِ حصيلتهِ اللّغويّة، وضبط ِإيقاعِ القواعدِ النحويّة.

4 – رفعُ سقفِ الاختبارات التي تُجرى للمُتقدِّمِ لوظيفة (مذيع)؛ بحيثُ تكونُ إِجادةُ اللّغةِ العربيّة على أولِ سلَّم الأولويات في التعيين.

5 – إِدخالُ المُذيعات والمُذيعين (في محطّات الإذاعة والتليفزيون) دوراتٍ تدريبية مُتخصِّصةٍ في النحو والصَرف؛ مع أهمّيّةِ وجودِ مُدقّقٍ يُتابعُ أخطاءَ المُذيعات والمُذيعين يومياً، ويجتمع معهم، لمُناقشة ذلك.

6 – عقدُ اجتماعٍ يومي -في قسم المُذيعين- وتداولُ ما جرى خلال اليوم السابق، من هنّاتٍ أو اختلالاتٍ بحقِّ اللّغةِ العربيّة، مع وجود المُدقِّقِ اللُّغويّ.

7 – بعضُ المُذيعين يكون موظفاً في إدارةٍ أخرى، غير الإذاعةِ والتليفزيون، وهذا يحدُّ من متابعتهِ أو ارتباطهِ بالعمل الإعلامي، أي يعملُ بطريقةِ (Part Time)، حيث يسقطُ عاملُ الشغفِ وحبِّ العمل، وبالتالي تقلُّ درجةُ الإتقانِ في الأداء، وفي تطوُّرِ شخصية المُذيع من الناحية المهنية. كما أنَّ المذيعةَ أو المُذيعَ غير المُنتَميين إدارياً للمحطّة، قد يستقيلان في أيّةِ لحظة، وبالتالي تفقدهُما المحطةُ، وإنْ كانا من المُجدّين.

ويدفعنا الواجب هنا، إلى التصريح بمُراعاة الآتي؛ لحماية لغتنا العربيّة الجميلة:

  • وضعُ مناهجَ مُبسّطةٍ للّغة العربيّة.
  • حُسنُ اختيار المُدرّسين، والتدقيقُ في مؤهلاتِهم وخبراتِهم، واستعدادِهم الذهنيّ والمَعرفيّ لمِهنةِ التدريس.
  • تنظيمُ (ورش عمل) لهواة الكتابة عبر المراكز الشبابية، والمُؤسَّساتِ الخاصة، بهدف دعمِ قُدراتِ الشباب، وتوجيهِهم نحو إجادةِ اللّغةِ العربيّة الفصحى.
  • تطعيمُ مُخطَّط برامجِ الإذاعةِ والتليفزيون ببرامجَ عن اللّغة العربيّة، بصورةٍ مُشوّقة -غيرِ مدرسية- مع إضافة التشويق والإبهار اللازمَيْن لإنجاحِ مثلِ هذه البرامج، مع تقديم فقراتٍ شِعريةٍ أو مسرحيةٍ أو غنائيةٍ، لشرح جمالياتِ هذه اللّغة.
  • تنظيمُ دوراتٍ تدريبيةٍ في -المُؤسَّسات الإعلامية والصحافية- من أجل حُسنِ استخدامِ اللّغة العربيّة في العمل الإعلامي.

وأخيراً، فإنَّ اللّغةَ العربيّةَ هي وسيلتُنا في التواصل مع الآخر، ولا يُمكنُ أنْ نَفهمَ بعضَنا دونَ أنْ نُتقنَ اللّغةَ العربيّةَ، فكيفَ يكونُ الحالُ مع الآخر؟! خصوصاً في ظلِّ وجودِ الفضائياتِ العابرة للثقافات (Intercultural Communication)، والأقمار الصناعية (Satellites)، وأدوات التواصل الاجتماعي (Social Media)، التي تُحتِّمُ أنْ يكونَ المُنتَجُ الأدبي والإعلامي خالياً من العيوب، وبما يُشكِّل رسالةً واضحةً ومتكاملةً، يفهمُها كُلُّ الناطقين بالعربيّة.

محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة

بعودة صدورها في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 إلى غاية فبراير/شباط 2016 كانت مجلة «الدوحة» قد أتمَّت العدد المئة. كانت المُناسبة بنكهة احتفالية، وفرصة لتنشيط ذاكرة المجلة وإرسال تحية إلى كُتَّابها ومحرّريها ورؤساء تحريرها الأوائل. وتحيتنا إلى هذه الذاكرة؛ تمثلت في إحيائها ضمن سلسلة كتاب «الدوحة» المجاني تحت عنوان «ظِلّ الذّاكرة»، الذي ضمَّ حوارات ونصوصاً من أرشيف المجلة منذ تأسيسها عام 1969، إلى غاية توقُّفها عن الصدور في يوليو/تموز 1986.
في هذا السياق المهني الذي تطلّب نفض غبار المُجلدات وتقليب صفحاتها، أدركت بدايات مجلة «الدوحة» عن كثب. كانت النية هي انتقاء ما نُشر للأسماء البارزة في تلك المرحلة، ولكن الأهم من هذه العملية المُضنية، أنني كنت بصدد التعرُّف على الراحل محمد إبراهيم الشوش من خلال الأرشيف، فقد كانت بصمته، كرئيس تحرير، واضحة الخطوط شكلاً ومضموناً، الأمر الذي جعل البحث عن كل شيء منذ البداية، يتجاوز عملية فنيّة وتحريرية اعتيادية، إلى غوصٍ تلقائي داخل شخصية الشوش، وتأملٍ في حرفته وطرق معرفته بالقصة التي يجب أن تجذب القارئ. وهي معرفة، تحقّقت منفعتها بمُكافحة الابتذال المُسلي لأنصاف المُتعلّمين وأصحاب العقول الكسلى، مقتفياً في ذلك الناقِد البريطاني «فرانك ريموند ليفيز»، أحد نقاده المُفضّلين، وقد كتب عنه كمَنْ ينظر في مرآته. بمزيد من الدقة والصدق، استنتجت درساً مفاده أن بداية اللعب مع قرَّاء لديهم رغبة مستمرة في إرضائهم، ما هي إلّا بداية النهاية.
صدر «ظِلّ الذّاكرة» وانتهى أمر حفظ دُرر هذا الأرشيف في كتاب، وبقي طيف الشوش بين سجلات النفس. مَنْ يكون هذا الرجل المنسي؟ هل هو حيٌّ يرزق؟ كان الظِلّ في الحقيقة، ظِلّ الشوش بالدرجة الأولى، يظهر ويختفي، يمتد بامتداد غيابه الطويل ولا يتوقف رغم الفتور الإرادي لسيرة بإهمال كتابتها تركت فراغات كثيرة، مادامت الشخصية السودانية ميّالة إلى حالة من نكران الذات وعدم الحديث عنها. ومادام الإنسان يبقى بتعريف الشوش نفسه: مُخزِّناً للأسرار والخبايا في أعمق أعماقه، مهما بدا بسيطاً وواضحاً، نراه كل يوم ونتحدَّث إليه ونتعرَّف إلى أفكاره ونقرأ له. استمر الفضول، الذي لم يكن في الوسع تفاديه إلّا بإعادة قراءة كتابات الشوش أثناء الإعداد لكتاب «ظِلّ الذّاكرة»، وكنت قد احتفظت بكل ما وقع بيدي من مقالات، بنية جمعها في كتاب ينشر تحية له ضمن سلسلة كتاب «الدوحة»، لكن الفكرة بقيت مؤجّلة دون أن نتمكّن من انتهاز الفرص التي كانت أمامنا.
كشأن غالبية السودانيين كان غياب الشوش عن وطنه اضطرارياً ومريراً. فقد كانت الغربة وهي «حارة جدّاً» بتعبير أحد الرواة، «في وقتٍ غير ملائم، في وقتٍ كان فيه السودان ينمو ويزدهر، وفي حاجة إلى طاقاته. لكن إغراءات الهجرة كانت قد جذبت الناس. لكن الشوش فيما يشبه حالة من التقييم الذاتي كان مقتنعاً بأن الغربة طالما رُبطت بالوجود والهوية فإنها تصبح مصدر غِنى للسيرة وللحياة.
كانت بداية الرحلة بترك الشوش عطبرة، مدينة الحديد والنار وحاضنة تاريخ نضالي ونقابي مجيد. عطبرة التي يستحضرها متألماً من ضياع مدينة كانت بصدد تشكيل نموذج لسودان المُستقبل. ترك مسقط الرأس في جوٍ من الفقد لدراسة الأدب في جامعة الخرطوم التابعة لجامعة لندن في ذلك الوقت، وفيها تعرَّف على رفيق دربه الطيب صالح، وأخذ الأدب العربيّ عن شيخ المُحقّقين والنُقَّاد العرب الفلسطينيّ إحسان عباس. إلى أن هاجر، وهو في العشرينات من عمره إلى عاصمة الضباب، حيث سيحصل على الدكتوراه التي أهلته للالتحاق بهيئة التدريس بجامعة الخرطوم (أم نخيل)، وليشغل لاحقاً منصب عميد كلية الآداب فيها.
مغادراً السودان مرةً أخرى، وباقتراح من الطيب صالح، سيصل الشوش إلى قطر، متسلِّماً رئاسة تحرير مجلة «الدوحة»، وفي يناير/كانون الثاني 1976، صدر العدد الأول بخطٍ تحريري جديد تخطَّى حدود الخليج ليصافح أيدي القُرَّاء مشرقاً ومغرباً. وكان التوجُّه منذ العدد الأول يضع المجلة في: فلك الرأي العام العربيّ بمُختلف الاتجاهات والمدارس والقوى الاجتماعية المُتعطّشة إلى الوحدة والتقدُّم واستعادة الأراضي المُحتلّة.
لقد كان الشوش، وهو بصدد تحديد الخطوط العامة في افتتاحياته، يرسم ملامح مجلة سيكون لها الأثر الباقي في إثراء الفكر العربيّ، وتنمية المدارك، وتربية الذوق الفنيّ والأدبيّ الرفيع. ولكي تصبح كما أراد لها منشئوها، مساهمة ثقافية جادة وحاسمة، تقدُّمها دولة قطر من فوق ضفاف الخليج إلى العَالَم العربيّ، خدمةً للثقافة العربية، ومنبراً لكل الأدباء العرب من الخليج إلى المُحيط.
كان الشوش مدركاً لصعوبة المُهمّة، وأنه لتغذية مجلة تعكس هذا الامتداد الشاسع والتعدُّد الغني في زمن عسير مسألة ليس بالهينة. ناهيك عن إحياء ملهاة نيرون وحمل قيثارته والغناء في محراب الأدب والفنّ بعيداً عن النيران وعن بحر السياسة المُتلاطم وصداع الصحف الذي اختبره منذ زاويته بجريدة الصحافة السودانية في ستينيات القرن الماضي. وسواء تعلّق الأمر بثقافة الخليج، تحديداً، أو بالثقافة العربية بشكلٍ عام، سلك الشوش درب الموضوعية والجدية، عن: تفهُّم واعٍ وليس عن ملقٍ أجوف، أو رياءٍ كاذب. وقد عبَّر صراحةً عن مبدأ هذه القناعة، في إحدى افتتاحياته قائلا: «الملق والرياء ينطويان على قدرٍ كبير من الاستخفاف بالموضع. فضلاً عن تحقير أولئك الذين تتضمَّن رسالتنا الاهتمام بهم وبنتاج عقولهم وخبراتهم. وهكذا فإننا لا نرى أن الاهتمام بثقافة الخليج، يكمن في نشر كل ما يُكتب أو يصدر عنه. ذلك أن نشر الغث والتافه، لا يخدم قضايا الفكر والثقافة في الخليج، بل هو يسيء إليه كذلك. وفي ضوء هذا الفهم لن نبرز غير الجيد من الأعمال الأدبية والفكرية».
وإيماناً منه بأن: تقدُّم البلدان العربية وتضامنها يقوم أساساً على تنمية وحدة الثقافة، كان الشوش طيلة توليه رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» يرفع شعار كسر العُزلة الثقافيّة العربيّة عالياً. فهل استطاع تحقيق ذلك؟ في زمنٍ لاحق سيصرح إجابةً عن سؤال يخصّ هذه التجربة: «ينسى العرب أن لكل زمان شخصيته وطبيعته، وأن الزمن الذي ظهرت فيه مجلة «الدوحة» كان زمناً ملائماً، خصيباً، لذلك تحقّق نجاحها. كان الظِلّ الكبير لمصر، لطه حسين والعقاد… قِيل إن الشوش والنقاش اتجها بالدوحة إلى ثقافة وادي النيل، وأن الشوش حوَّلها مجلة محلية ولبعض السودانيين والمصريين، وهذه حقيقة لم تكن مقصودة. كنت حريصاً على وجود كاتب من كل البلدان».

محمد ابراهيم الشوش

تحت عنوان «الشهر الذي مضى» كتب الشوش زاويته الشهرية في مجلة الدوحة، تصدَّت بتنوُّعها ومرجعياتها الفكرية والثقافيّة لقضايا الإعلام، والشؤون الإفريقية والقضية الفلسطينية… فيما عكست قراءاته النقدية في الأدب والموضوعات الإنسانية، وكذلك ترجماته الشعرية لقسطنطين، وليم وردزورث، وليم بتلر ييتس، جون بتجمان وغيرهم ذائقته الأدبية الرفيعة وأسلوبه السلس والعميق الذي ميَّز كذلك مؤلَّفاته القليلة: «الشعر.. كيف نفهمه ونتذوّقه»، «الشعر الحديث في السودان»، «أدب وأدباء»، «نوادر هذا الزمان»، ومجموعة قصصية بعنوان: «وجوه وأقنعة».
لم يكن الشوش متردِّداً في الردِّ على مَنْ يعكِّر صفاء ذائقته. في إحدى مقالاته يسرد مستملحة يردُّ بها على أحدهم قائلاً: «كاتب لا يعرفنا ولا نعرفه أرسل إلينا مقالاً لم نرَ فيه -وقد يكون العيب فينا- ما يستوجب النشر.. وغضب. وكان يمكن أن يكتب مقالاً يلعن ذوقنا وجهلنا وتقصيرنا عن إدراك عبقريته أو حاجته المادية. لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل سطر -جهلاً بقدر مَنْ يكتب لهم- رسالة مسمومة يستعدي فيها السلطة علينا ويتهمنا بما يضعنا والمجلة ومحرّريها ومراسليها تحت طائلة القانون. تصوَّروا! هذا الرجل يريد أن يغلق مجلة «الدوحة» بمَنْ فيها وما فيها، لا لأننا قتلنا أباه أو أخاه، بل لأننا بكل بساطة لم ننشر له مقالاً!».
في مطلع الثمانينيات ترك الشوش قبعة رئاسة تحرير مجلة «الدوحة»، ليلتحق مجدداً بالعمل الأكاديمي، وهذه المرة أستاذاً للغة العربية وآدابها، ثمَّ رئيساً للمعهد الدولي للدراسات العربية والإسلامية بجامعة «ألبرتي» بكندا. وبعيداً عن الخطابية المُباشرة الجوفاء التي ملّتها الجماهير من كثرة ما ردّدتها حناجر غير جادة، ترك الشوش خلفه مسيرة صحافية حافلة بطرح الأسئلة الصعبة، ومواكبة المصير العربيّ الذي لا يلتئم له جرح حتى ينكأ له جرح آخر! فكان من المُردّدين بضرورة: تجميع الإرادة العربية حول قضاياها المصيرية، وأهمية مواكبة الإعلام العربيّ لهذه القضايا، ليكون قادراً على إلهاب الخيال وتنشيط الوجدان العربيّ. وهي مواكبة تتحقق جدواها عند الشوش بإفساح المجال للباحثين والمُثقّفين ودعم المجلات الثقافية القادرة على رأب الصدع وإزالة ما علق بالأذهان من مفاهيم تاريخية واجتماعية وفكرية خاطئة، وتعميق فكرة الوحدة والتضامن والإخاء..
ما أشبه الليلة بالبارحة. ونحن اليوم بقدر حاجتنا المُستمرّة إلى أقلام تتصدَّى للمفاهيم الخاطئة التي تعيق النظر إلى المُستقبل، فإننا نردّد مع الشوش تلك الحاجة الملحة للانتماء إلى الزمن المعرفي، وقد كان الشوش منشغلاً بزمنه، مدافعاً عن المجلات الثقافية، ومؤمناً بأهمية انتشارها في أنحاء العَالَم العربيّ. وإذا كان قد واجه أجهزة التليفزيون التي كانت بصدد إقفال وتهديد مستقبل العديد من الصحف والمجلات الورقية منذ مطلع الستينيات، فإنه كان يفعل ذلك من منطلق أن تكون المجلات الثقافية جسراً يربط القارئ العربيّ بزمنه المعرفي في أفق تحقيق آمال الأمة العربية وتطلعاتها، لا مجرد أن تكون المجلات: «خرائب تلقى فيها الأفكار المُحنطة المُكرّرة لفظاً ومعنى، ومقالات الفصول الدراسية التي لا تتفاعل مع الأحداث، أو متاحف لعرض الأزياء اللفظية والمهارات الكلامية الخالية من كل مضمون أو منافذ لمُقتطفات من الرسائل العلمية الجامعية الجاهزة التي لا تجد لها مكاناً عند مصادر التمويل الأخرى، أو واجهة مزدانة ليس في داخلها شيء»(1).
في غياب سيرة مُدونة، لا شكّ أن الراحل محمد إبراهيم الشوش، كما هو شأن العديد من كتَّاب الظِلّ، قد أخفى إشارات عن نفسه في هذا النص أو ذاك. بصورةٍ ما ترسم قصة «ظلال المغيب» المنشورة في مجلة «الأديب اللبنانية» في خمسينيات القرن الماضي، ملمحاً داخلياً من شخصية الرجل؛ يروي الشوش على لسان قرينه: «وقال كأنما يحدِّث نفسه: إنها قصة من قصص القدر، هذا العملاق الجبّار الذي ينسج حياتنا نسجاً محكماً، فيه شيء من الغموض أحياناً ومن القسوة والظلم في أكثر الأحايين». ومنذ كتابة هذه القصة، وصولاً إلى حضوره الأخير، لم يتحدَّث الشوش عن ذاته كثيراً، كان يتجنَّب أسئلة السيرة ويترك زهوره تتفتح في الظِلّ، ومقابل ذلك يستعيد بحنين وحسرة في نفسه ذاكرة السودان الجماعية. كانت سيرته تتبعه ولا يتبعها، وبتواضعه الشديد لم يقطع الشجرة التي منحته هذا الظِلّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الثقافة في خدمة التضامن العربيّ، مجلة «الدوحة»، العدد 4، أبريل 1976.