محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة

بعودة صدورها في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 إلى غاية فبراير/شباط 2016 كانت مجلة «الدوحة» قد أتمَّت العدد المئة. كانت المُناسبة بنكهة احتفالية، وفرصة لتنشيط ذاكرة المجلة وإرسال تحية إلى كُتَّابها ومحرّريها ورؤساء تحريرها الأوائل. وتحيتنا إلى هذه الذاكرة؛ تمثلت في إحيائها ضمن سلسلة كتاب «الدوحة» المجاني تحت عنوان «ظِلّ الذّاكرة»، الذي ضمَّ حوارات ونصوصاً من أرشيف المجلة منذ تأسيسها عام 1969، إلى غاية توقُّفها عن الصدور في يوليو/تموز 1986.
في هذا السياق المهني الذي تطلّب نفض غبار المُجلدات وتقليب صفحاتها، أدركت بدايات مجلة «الدوحة» عن كثب. كانت النية هي انتقاء ما نُشر للأسماء البارزة في تلك المرحلة، ولكن الأهم من هذه العملية المُضنية، أنني كنت بصدد التعرُّف على الراحل محمد إبراهيم الشوش من خلال الأرشيف، فقد كانت بصمته، كرئيس تحرير، واضحة الخطوط شكلاً ومضموناً، الأمر الذي جعل البحث عن كل شيء منذ البداية، يتجاوز عملية فنيّة وتحريرية اعتيادية، إلى غوصٍ تلقائي داخل شخصية الشوش، وتأملٍ في حرفته وطرق معرفته بالقصة التي يجب أن تجذب القارئ. وهي معرفة، تحقّقت منفعتها بمُكافحة الابتذال المُسلي لأنصاف المُتعلّمين وأصحاب العقول الكسلى، مقتفياً في ذلك الناقِد البريطاني «فرانك ريموند ليفيز»، أحد نقاده المُفضّلين، وقد كتب عنه كمَنْ ينظر في مرآته. بمزيد من الدقة والصدق، استنتجت درساً مفاده أن بداية اللعب مع قرَّاء لديهم رغبة مستمرة في إرضائهم، ما هي إلّا بداية النهاية.
صدر «ظِلّ الذّاكرة» وانتهى أمر حفظ دُرر هذا الأرشيف في كتاب، وبقي طيف الشوش بين سجلات النفس. مَنْ يكون هذا الرجل المنسي؟ هل هو حيٌّ يرزق؟ كان الظِلّ في الحقيقة، ظِلّ الشوش بالدرجة الأولى، يظهر ويختفي، يمتد بامتداد غيابه الطويل ولا يتوقف رغم الفتور الإرادي لسيرة بإهمال كتابتها تركت فراغات كثيرة، مادامت الشخصية السودانية ميّالة إلى حالة من نكران الذات وعدم الحديث عنها. ومادام الإنسان يبقى بتعريف الشوش نفسه: مُخزِّناً للأسرار والخبايا في أعمق أعماقه، مهما بدا بسيطاً وواضحاً، نراه كل يوم ونتحدَّث إليه ونتعرَّف إلى أفكاره ونقرأ له. استمر الفضول، الذي لم يكن في الوسع تفاديه إلّا بإعادة قراءة كتابات الشوش أثناء الإعداد لكتاب «ظِلّ الذّاكرة»، وكنت قد احتفظت بكل ما وقع بيدي من مقالات، بنية جمعها في كتاب ينشر تحية له ضمن سلسلة كتاب «الدوحة»، لكن الفكرة بقيت مؤجّلة دون أن نتمكّن من انتهاز الفرص التي كانت أمامنا.
كشأن غالبية السودانيين كان غياب الشوش عن وطنه اضطرارياً ومريراً. فقد كانت الغربة وهي «حارة جدّاً» بتعبير أحد الرواة، «في وقتٍ غير ملائم، في وقتٍ كان فيه السودان ينمو ويزدهر، وفي حاجة إلى طاقاته. لكن إغراءات الهجرة كانت قد جذبت الناس. لكن الشوش فيما يشبه حالة من التقييم الذاتي كان مقتنعاً بأن الغربة طالما رُبطت بالوجود والهوية فإنها تصبح مصدر غِنى للسيرة وللحياة.
كانت بداية الرحلة بترك الشوش عطبرة، مدينة الحديد والنار وحاضنة تاريخ نضالي ونقابي مجيد. عطبرة التي يستحضرها متألماً من ضياع مدينة كانت بصدد تشكيل نموذج لسودان المُستقبل. ترك مسقط الرأس في جوٍ من الفقد لدراسة الأدب في جامعة الخرطوم التابعة لجامعة لندن في ذلك الوقت، وفيها تعرَّف على رفيق دربه الطيب صالح، وأخذ الأدب العربيّ عن شيخ المُحقّقين والنُقَّاد العرب الفلسطينيّ إحسان عباس. إلى أن هاجر، وهو في العشرينات من عمره إلى عاصمة الضباب، حيث سيحصل على الدكتوراه التي أهلته للالتحاق بهيئة التدريس بجامعة الخرطوم (أم نخيل)، وليشغل لاحقاً منصب عميد كلية الآداب فيها.
مغادراً السودان مرةً أخرى، وباقتراح من الطيب صالح، سيصل الشوش إلى قطر، متسلِّماً رئاسة تحرير مجلة «الدوحة»، وفي يناير/كانون الثاني 1976، صدر العدد الأول بخطٍ تحريري جديد تخطَّى حدود الخليج ليصافح أيدي القُرَّاء مشرقاً ومغرباً. وكان التوجُّه منذ العدد الأول يضع المجلة في: فلك الرأي العام العربيّ بمُختلف الاتجاهات والمدارس والقوى الاجتماعية المُتعطّشة إلى الوحدة والتقدُّم واستعادة الأراضي المُحتلّة.
لقد كان الشوش، وهو بصدد تحديد الخطوط العامة في افتتاحياته، يرسم ملامح مجلة سيكون لها الأثر الباقي في إثراء الفكر العربيّ، وتنمية المدارك، وتربية الذوق الفنيّ والأدبيّ الرفيع. ولكي تصبح كما أراد لها منشئوها، مساهمة ثقافية جادة وحاسمة، تقدُّمها دولة قطر من فوق ضفاف الخليج إلى العَالَم العربيّ، خدمةً للثقافة العربية، ومنبراً لكل الأدباء العرب من الخليج إلى المُحيط.
كان الشوش مدركاً لصعوبة المُهمّة، وأنه لتغذية مجلة تعكس هذا الامتداد الشاسع والتعدُّد الغني في زمن عسير مسألة ليس بالهينة. ناهيك عن إحياء ملهاة نيرون وحمل قيثارته والغناء في محراب الأدب والفنّ بعيداً عن النيران وعن بحر السياسة المُتلاطم وصداع الصحف الذي اختبره منذ زاويته بجريدة الصحافة السودانية في ستينيات القرن الماضي. وسواء تعلّق الأمر بثقافة الخليج، تحديداً، أو بالثقافة العربية بشكلٍ عام، سلك الشوش درب الموضوعية والجدية، عن: تفهُّم واعٍ وليس عن ملقٍ أجوف، أو رياءٍ كاذب. وقد عبَّر صراحةً عن مبدأ هذه القناعة، في إحدى افتتاحياته قائلا: «الملق والرياء ينطويان على قدرٍ كبير من الاستخفاف بالموضع. فضلاً عن تحقير أولئك الذين تتضمَّن رسالتنا الاهتمام بهم وبنتاج عقولهم وخبراتهم. وهكذا فإننا لا نرى أن الاهتمام بثقافة الخليج، يكمن في نشر كل ما يُكتب أو يصدر عنه. ذلك أن نشر الغث والتافه، لا يخدم قضايا الفكر والثقافة في الخليج، بل هو يسيء إليه كذلك. وفي ضوء هذا الفهم لن نبرز غير الجيد من الأعمال الأدبية والفكرية».
وإيماناً منه بأن: تقدُّم البلدان العربية وتضامنها يقوم أساساً على تنمية وحدة الثقافة، كان الشوش طيلة توليه رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» يرفع شعار كسر العُزلة الثقافيّة العربيّة عالياً. فهل استطاع تحقيق ذلك؟ في زمنٍ لاحق سيصرح إجابةً عن سؤال يخصّ هذه التجربة: «ينسى العرب أن لكل زمان شخصيته وطبيعته، وأن الزمن الذي ظهرت فيه مجلة «الدوحة» كان زمناً ملائماً، خصيباً، لذلك تحقّق نجاحها. كان الظِلّ الكبير لمصر، لطه حسين والعقاد… قِيل إن الشوش والنقاش اتجها بالدوحة إلى ثقافة وادي النيل، وأن الشوش حوَّلها مجلة محلية ولبعض السودانيين والمصريين، وهذه حقيقة لم تكن مقصودة. كنت حريصاً على وجود كاتب من كل البلدان».

محمد ابراهيم الشوش

تحت عنوان «الشهر الذي مضى» كتب الشوش زاويته الشهرية في مجلة الدوحة، تصدَّت بتنوُّعها ومرجعياتها الفكرية والثقافيّة لقضايا الإعلام، والشؤون الإفريقية والقضية الفلسطينية… فيما عكست قراءاته النقدية في الأدب والموضوعات الإنسانية، وكذلك ترجماته الشعرية لقسطنطين، وليم وردزورث، وليم بتلر ييتس، جون بتجمان وغيرهم ذائقته الأدبية الرفيعة وأسلوبه السلس والعميق الذي ميَّز كذلك مؤلَّفاته القليلة: «الشعر.. كيف نفهمه ونتذوّقه»، «الشعر الحديث في السودان»، «أدب وأدباء»، «نوادر هذا الزمان»، ومجموعة قصصية بعنوان: «وجوه وأقنعة».
لم يكن الشوش متردِّداً في الردِّ على مَنْ يعكِّر صفاء ذائقته. في إحدى مقالاته يسرد مستملحة يردُّ بها على أحدهم قائلاً: «كاتب لا يعرفنا ولا نعرفه أرسل إلينا مقالاً لم نرَ فيه -وقد يكون العيب فينا- ما يستوجب النشر.. وغضب. وكان يمكن أن يكتب مقالاً يلعن ذوقنا وجهلنا وتقصيرنا عن إدراك عبقريته أو حاجته المادية. لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل سطر -جهلاً بقدر مَنْ يكتب لهم- رسالة مسمومة يستعدي فيها السلطة علينا ويتهمنا بما يضعنا والمجلة ومحرّريها ومراسليها تحت طائلة القانون. تصوَّروا! هذا الرجل يريد أن يغلق مجلة «الدوحة» بمَنْ فيها وما فيها، لا لأننا قتلنا أباه أو أخاه، بل لأننا بكل بساطة لم ننشر له مقالاً!».
في مطلع الثمانينيات ترك الشوش قبعة رئاسة تحرير مجلة «الدوحة»، ليلتحق مجدداً بالعمل الأكاديمي، وهذه المرة أستاذاً للغة العربية وآدابها، ثمَّ رئيساً للمعهد الدولي للدراسات العربية والإسلامية بجامعة «ألبرتي» بكندا. وبعيداً عن الخطابية المُباشرة الجوفاء التي ملّتها الجماهير من كثرة ما ردّدتها حناجر غير جادة، ترك الشوش خلفه مسيرة صحافية حافلة بطرح الأسئلة الصعبة، ومواكبة المصير العربيّ الذي لا يلتئم له جرح حتى ينكأ له جرح آخر! فكان من المُردّدين بضرورة: تجميع الإرادة العربية حول قضاياها المصيرية، وأهمية مواكبة الإعلام العربيّ لهذه القضايا، ليكون قادراً على إلهاب الخيال وتنشيط الوجدان العربيّ. وهي مواكبة تتحقق جدواها عند الشوش بإفساح المجال للباحثين والمُثقّفين ودعم المجلات الثقافية القادرة على رأب الصدع وإزالة ما علق بالأذهان من مفاهيم تاريخية واجتماعية وفكرية خاطئة، وتعميق فكرة الوحدة والتضامن والإخاء..
ما أشبه الليلة بالبارحة. ونحن اليوم بقدر حاجتنا المُستمرّة إلى أقلام تتصدَّى للمفاهيم الخاطئة التي تعيق النظر إلى المُستقبل، فإننا نردّد مع الشوش تلك الحاجة الملحة للانتماء إلى الزمن المعرفي، وقد كان الشوش منشغلاً بزمنه، مدافعاً عن المجلات الثقافية، ومؤمناً بأهمية انتشارها في أنحاء العَالَم العربيّ. وإذا كان قد واجه أجهزة التليفزيون التي كانت بصدد إقفال وتهديد مستقبل العديد من الصحف والمجلات الورقية منذ مطلع الستينيات، فإنه كان يفعل ذلك من منطلق أن تكون المجلات الثقافية جسراً يربط القارئ العربيّ بزمنه المعرفي في أفق تحقيق آمال الأمة العربية وتطلعاتها، لا مجرد أن تكون المجلات: «خرائب تلقى فيها الأفكار المُحنطة المُكرّرة لفظاً ومعنى، ومقالات الفصول الدراسية التي لا تتفاعل مع الأحداث، أو متاحف لعرض الأزياء اللفظية والمهارات الكلامية الخالية من كل مضمون أو منافذ لمُقتطفات من الرسائل العلمية الجامعية الجاهزة التي لا تجد لها مكاناً عند مصادر التمويل الأخرى، أو واجهة مزدانة ليس في داخلها شيء»(1).
في غياب سيرة مُدونة، لا شكّ أن الراحل محمد إبراهيم الشوش، كما هو شأن العديد من كتَّاب الظِلّ، قد أخفى إشارات عن نفسه في هذا النص أو ذاك. بصورةٍ ما ترسم قصة «ظلال المغيب» المنشورة في مجلة «الأديب اللبنانية» في خمسينيات القرن الماضي، ملمحاً داخلياً من شخصية الرجل؛ يروي الشوش على لسان قرينه: «وقال كأنما يحدِّث نفسه: إنها قصة من قصص القدر، هذا العملاق الجبّار الذي ينسج حياتنا نسجاً محكماً، فيه شيء من الغموض أحياناً ومن القسوة والظلم في أكثر الأحايين». ومنذ كتابة هذه القصة، وصولاً إلى حضوره الأخير، لم يتحدَّث الشوش عن ذاته كثيراً، كان يتجنَّب أسئلة السيرة ويترك زهوره تتفتح في الظِلّ، ومقابل ذلك يستعيد بحنين وحسرة في نفسه ذاكرة السودان الجماعية. كانت سيرته تتبعه ولا يتبعها، وبتواضعه الشديد لم يقطع الشجرة التي منحته هذا الظِلّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الثقافة في خدمة التضامن العربيّ، مجلة «الدوحة»، العدد 4، أبريل 1976.

 

 

رحلة باريس الثانية وسنوات الغليان في صالون توفيق الحكيم

كُنت في تلك السنواتِ أبقى كثيراً في مكتب الحكيم، حتى ينصرف الجميع، ويصعد إليه عادةً الرسَّام صلاح طاهر من مكتبه/ مرسمه كي يوصله في طريق عودته إلى منزله، وفي بعض الأحيان يوسف إدريس في الأيام التي لا يحضر فيها صلاح طاهر إلى مبنى الأهرام. ولأنني كُنت أسكن أيضاً على مسار رحلة صلاح طاهر في العودة إلى مسكنه في الجيزة أو بداية شارع الهرم على ما أذكر(1)، كنت أصحبهما في تلك الرحلة، وأنزل أنا بعدما ينزل توفيق الحكيم على كورنيش النيل، عند «كوبري الجامعة».

بعد أنْ تناولت علاقة توفيق الحكيم الإشكالية مع حركة الضباط التي استولت على الحكم عام 1952 وهو في أَوْجِ العطاء، ورغبته في أن يبقي بينه وبينها مسافة، برغم حرص عبدالناصر على الاقتراب منه، أحاول هنا إماطة اللثام عن فصلٍ آخر من فصولها. وأبدأ هنا بما كتبه محمد حسنين هيكل عن هذه المسألة من وجهة نظر هي أقرب ما يكون إلى وجهة نظر عبدالناصر، وهو يتناول علاقة الحكيم به كما شهدها: «توفيق الحكيم في مقابلته الأولى مع عبدالناصر عندما سلَّمه قلادة النيل، حاول عبدالناصر أن يتكلَّم معه، ولكنه كان قليل الكلام. كنّا قبل السويس، ولم تكن الأسطورة قد ترسَّخت بعد، وبالتالي فأنا أظن أن هذا اللقاء كان في أجواء مقابلة بين أديبٍ كبير والرجل القوي على قمة الدولة. في اللقاء الثاني اختلفت الصورة، لأن اللقاء جرى بعد السويس وجوِّها الأسطوريّ، وعند سفر الحكيم مندوباً لمصر في اليونسكو، وكان توفيق الحكيم يريد هذا المنصب بشدّة، وكان يتصوَّر أن عودته إلى باريس أديباً كبيراً هذه المرّة، سوف تحدث عنده انبثاقاً متجدِّداً في الفكر، يفوق ما أحدثه لقاؤه الأول مع باريس عندما ذهب إليها طالب بعثة لدراسة الحقوق. في هذه المُقابلة لم يتكلَّم الحكيم، ولم يقل شيئاً سوى كلمة شكر على تعيينه، وتصوُّره أنه يتوقَّع كثيراً من ذهابه إلى باريس. وكان من بين ما قاله له عبد الناصر إنه سيكون متشوِّقاً لقراءة ما يكتبه. ونصحه بأن يترك الأعمال الروتينيّة لمندوب مصر في اليونسكو لأحد مساعديه، وأن ينتدب مَنْ يشاء لمكتبه من سفارة مصر في باريس، حتى يتفرَّغ هو لما يتمنَّاه من تأمُّل وتفكير وكتابة. وعندما عاد الحكيم من باريس لم يطلب مقابلة جمال عبدالناصر، مع أن عدداً من أصدقائه -ومن ضمنهم الدكتور حسين فوزي كما قال لي- نصحه بأن يدوِّن اسمه في دفتر التشريفات في الرئاسة تعبيراً عن شكره بعد عودته من مهمَّته. سألني توفيق الحكيم إنْ كان ذلك ضرورياً؛ لأنه يشعر بخجل فهو لا يعتقد أنه نجح في اليونسكو، وأن باريس لم تهمّه هذه المرّة، وأنها «صدّت نفسه»، وأن قرينته ضحكت عليه كثيراً، لأنه تصوَّر أن في استطاعته بعد الستين استعادة أجواء كان فيها تحت الثلاثين»(2).

د. صبري حافظ

هذا المُقتطف، ممّا قاله محمد حسنين هيكل عن تلك العودة لباريس، ينطوي على تعبيرٍ دال وهو أن باريس «صدّت نفسه»، وأنه إنْ كان يعترف بأنه لم ينجح في اليونسكو، فهو لم ينجح أيضاً في أن يعود لنفسه الحرّة التي أبدعت ما أبدعت في باريس في المرّة الأولى. وعلى غير ما توهَّم هيكل فإنَّ الأمر كان من ناحية الحكيم كان محاولة للهرب من المناخ الثقيل الذي كان يشهد تخلُّق آليات الاستبداد فيه، والعصف بكثير من المُثقَّفين، علّه يسترد فيها حرّيته. وليته ذهب إليها دون أن يلتقي بعبد الناصر كي يشكره، وهو الأمر الذي ألح الكثيرون من أصدقائه وعلى رأسهم هيكل نفسه للقيام به، لأن لقاءه هذا مع عبدالناصر كشف له فيما يبدو أنه لن يستطيع الهرب ممّا أراد تجنُّبه، وأيقظ قرون الاستشعار لديه، وهي التي نغَّصت عليه إقامته في باريس. ففي هذه المرّة أحسّ أنه مُراقب، وأن عبدالناصر ينتظر منه شيئاً -وهو يقول إنه «سيكون متشوِّقاً لقراءة ما يكتبه»- لم يكن في طاقته أن يفعله.

فلم يكن غائباً عنه أن تلك السفرة التي طلبها قبل عام 1959، لم تتحقّق إلّا بعده، وبعد أكبر حملة اعتقالات للمُثقَّفين في مصر، وفي طليعتهم جُلُّ مثقَّفيّ اليسار الذين كان يعرف الكثيرين منهم، وله بينهم عددٌ من الأصدقاء، كما لم يغب عنه أيضاً أن مَنْ معه من المُعاونين من مصر، قد يكونون عيوناً عليه، فلم يكن الحكيم غافلاً عن منطق الحكم الناصري في تسليط العيون على الجميع، وانتشار كتبة التقارير الذين ألمح إليهم في (بنك القلق). وهو الأمر الذي «صدّ نفسه» وليست باريس، التي تصوَّر أنه قد يهرب إليها ممّا يضيق به في مصر، حتى ولو كان سعيداً بأن أغلاله كانت من حرير كما ذكرت، لأن باريس لديها القدرة دائماً على أن «تفتح النفس» المصدودة، وتستثير أفضل ما في الإنسان من طاقاتٍ خلّاقة.

ونحن نعرف كم كانت رحلات طه حسين إلى فرنسا تثمر دائماً إنتاجاً ثرياً، وكيف كانت واحدة منها حينما التقيا معاً فيها، هو وتوفيق الحكيم، قد أثمرت هذا العمل المُشترك (القصر المسحور)، لكن ذلك كلّه كان في زمنٍ سابق على زمن الاستبداد وحكم العسكر. أمّا تفسير زوجته الذي ينقله لنا هيكل وإحالتها الأمر كلّه إلى عمر توفيق الحكيم، فهذا يفتح الباب على جرح آخر في حياة الحكيم، وهو زواجه غير المُوفَّق، والذي عانى منه طويلاً، على العكس من طه حسين الذي أنعم اللهُ عليه بزوجةٍ حَفِيّة ورائعة، وهو أمرٌ أعرفه، وأعرف شيئاً عن طريقة توفيق الحكيم المُراوغة في التعامل معه، ولكني لا أتصوَّر أن من اللائق أن أكتب عنه شيئاً هنا في هذه الذكريات عن الحكيم الكاتِب والمُبدع الكبير.

نعود إلى صالون الحكيم المفتوح في مبنى (الأهرام) الجديد، والذي كنت أتردَّد عليه بشكلٍ شبه يوميّ طوال أكثر من عامين حينما عملت في ملحق الطليعة(3)، من 1971 – 1973، وحتى غادرت مصر إلى إنجلترا في أواخر مارس/آذار 1973 (4)، وهي الفترة التي تحوَّل فيها الصالون إلى ساحةٍ مفتوحة للنقاش والجدل في الشأن العام، وصولاً إلى كتابة بيان الأدباء الشهير في غرفته تلك، وكان اسمه في صدارة المُوقِّعين عليه، وهي أيضاً الفترة التي كتبَ فيها كُتيّبه المشهور (عودة الوعي).

كنت في تلك السنواتِ أبقى كثيراً في مكتب الحكيم، حتى ينصرف الجميع، ويصعد إليه عادةً الرسّام صلاح طاهر من مكتبه/ مرسمه كي يوصله في طريق عودته إلى منزله، وفي بعض الأحيان يوسف إدريس في الأيام التي لا يحضر فيها صلاح طاهر إلى مبنى الأهرام. ولأنني كنت أسكن أيضاً على مسار رحلة صلاح طاهر في العودة إلى مسكنه في الجيزة أو بداية شارع الهرم على ما أذكر، كنت أصحبهما في تلك الرحلة، وأنزل أنا بعدما ينزل توفيق الحكيم على كورنيش النيل، عند «كوبري الجامعة». وكان الحكيم يحرص على أن ينزل من السيارة على كورنيش النيل في جاردن سيتي، وفي مكان لا بيوت أمامه، وإنما أمام سور السفارة البريطانيّة المُطلة على هذا الجزء من كورنيش النيل. ومع أننا نعرف الآن أنه كان يسكن على بُعد أكثر من مئتي متر من المكان الذي كان يطلب إنزاله من السيارة فيه؛ إلّا أنه كان يريد أن يراه الجيران وبواب العمارة معاً، عائداً إلى بيته، ماشياً على قدميه بعصاه التقليديّة والبيريه الشهير. هذا وقد سمعت أكثر من تأويلٍ لهذا الإصرار الذي عاصرته لعامين تقريباً وبشكلٍ شبه منتظم. كان أسوأها ناجماً عن علاقته غير السعيدة، إنْ لم نقل الإشكالية مع زوجته، وهو الأمر الذي لا أريد حتى أن أذكره. أمّا تأويلي الشخصيّ لهذا فهو أنه ابن حرص الحكيم على ترويج صورة خاصّة وشخصيّة عن نفسه، لايزال يحرص فيها على أن يبدو في صورة ابن البلد الشعبيّ الذي يذهب لعمله ماشياً، كما يذهب لمقهاه ماشياً في أيام الجمعة، وقد ذكرت أنه اختار مقهى فندق (سميراميس) القديم، الذي لا يبعد عن هذا العنوان بأكثر من خمسمئة متر.

وكان صالون الحكيم في تلك الفترة العاصفة من تاريخ مصر -وما شهدته من تغيُّرات جلبها حكم السادات بعد انتهاء عصر عبدالناصر، بما له وما عليه- يعجُّ بالجدل المفتوح حول مستقبل مصر، وقد عاد عبء التخلص من الاحتلال -الإسرائيليّ المدعوم أميركيّاً هذه المرّة وليس البريطانيّ- يقض مضاجع الجميع ويشغلهم. وكانت هذه السنوات الأولى من السبعينيات مشحونة بالكثير من الأحداث، من تخلص السادات من كلِّ مناوئيه مِمّنْ كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر منه ناصرية في مراكز السلطة السياسيّة، إلى سعيه للتخلّص من أنصار فكرهم في وسائل الإعلام المُختلفة.

ولم يكن هذا كلّه -رغم إحاطته بأجواءٍ من السرية- بغائب عن الواقع الثقافيّ، ولا عن الجدل المُستمر حول ما يدور في مصر في صالون الحكيم. وقد بدأ في هذا الوقت مثقَّفون يمينيّون من نوع ثروت أباظة يُكثِّفون من تردُّدهم على صالون الحكيم، وقد اكتسب أباظة، خاصّةً، جرأة في طرح أفكاره اليمينيّة ما كان يحلم بالتعبير عنها قبل عامين. وأخذ الحكيم -وقد صدّق ما أشاعه السادات من إطلاق الحرّيّات، وإلغاء الرقابة- يفصح عن كثيرٍ من آرائه الناقِدة للنظام بشكلٍ أوضح، بما فيها من نقدٍ حاد لتلكؤ السادات في العمل على تحرير الأرض المُحتلة. وكانت قضية التحرير تلك، ورفض حالة اللاسلم واللاحرب التي سادت منذ موت عبد الناصر، مجالَ جدلٍ مستمر بين مختلف التيارات الثقافيّة المصريّة والتي كانت تتجمَّع في كثيرٍ من الأحيان في غرفته تلك، كما كانت بالقطع موضوع الحركة الطلابية الأثير، منذ اندلاع أول مظاهرات في الجامعة بعد هزيمة 1967، وتنامي الاستقطاب بين تياراتها المُختلفة.

وما أن انتهى العام التالي لتولي السادات الحكم، وهو عام 1971 -وكان قد جعل شعاره في هذا العام، أنه عام الحسم وتحقيق الديموقراطيّة وتحرير الأرض أو تصفية آثار العدوان- دون حسم، حتى أخذت الحركة الطلابية في الغليان، وفي 13 يناير/كانون الثاني، وبمُناسبة الاحتفال بالمُولد النبويّ، خطب السادات «خطبة الضباب» المشهورة، وما أعقبها من نكاتٍ لم تنقطع(5). وفجَّر هذا الخطاب ثورةَ الطلاب في كلِّ الجامعات، وأصبح خطاب الضباب خطابَ استفزاز بدلاً من أن يكون خطابَ تبرير. فقد قال فيه إن ضباب الحرب الهنديّة – الباكستانيّة قد أعاق تنفيذ وعده بعام الحسم، لأنَّ العَالَم لم يكن فيه متسعٌ لاندلاع حربين كُبريين في آنٍ واحد. وكنت دائماً ما أتطلع إلى الوصول إلى غرفة الحكيم في تلك الفترة كي أبلغه بأحدث ما سمعت من نكات «الضباب»، وكان مولعاً بسماعها ككلّ المصريّين، أو أسمع منه خيراً من تلك التي جئت له بها. والواقع أن أحد المجالات التي لم تأخذ حقّها من الدرس والجمع والتحليل هو حقل «النكتة المصريّة»، والسياسيّة منها بشكلٍ خاص. وكانت موجة النكات المُضادة للعسكر، وانسحابهم من سيناء بعد هزيمة 1967، قد دفعت عبدالناصر إلى أن يرجو الشعب في خطابٍ علني بالكفِّ عن تلك النكات.

أمّا النكاتُ التي صاحبت السادات منذ توليه السلطة، وصولاً إلى أغنية الشيخ إمام الشهيرة «شحاتة المعسل»، فقد كانت من نوعٍ آخر. أعتقد أنه أخذ ينخر في هيبة الدولة المُرعبة التي بنتها مرحلة عبدالناصر، وجعلتها كياناً مخيفاً لا يجرؤ أحد على السخرية منه، ناهيك عن التطاول عليه، إلّا همساً ولمَنْ يثق بهم. لكن سحابة الخوف الثقيلة التي تكوَّنت في زمن عبدالناصر بدأت تتبدَّد، منذ أن كسرتها صدمة الهزيمة في عام 1967، وإنْ لم تنقشع كليةً إلّا بعد رحيله، وإعلان السادات الإجهاز على مراكز القوى والتنصُّت على الشعب، وأخذَ الكثير من الكُتَّاب يحلون ضيوفاً على المُؤتمرات الطلابية التي أخذت تتنامى في الجامعة، ويطرحون فيها آراءهم الناقِدة لما يدور بجرأةٍ غير مسبوقة. وكانت تلك أيضاً هي الفترة التي ازدهرت فيها الأغنية السياسيّة الساخرة التي تزعَّمها «الشيخ إمام عيسى»، ثمَّ «عدلي فخري»، وغيرهما.

وهي أيضاً الفترة التي بدا فيها أن مصر قد أزالت عن روحها عبء الخوف الثقيل الذي رانَ على روحها وعقلها في مرحلة عبد الناصر، واستعادت شيئاً من الحرّيّة التي عاشتها قبل استيلاء العسكر على السلطة. وحسب الدكتور أحمد عبد الله رزة تركَّزت مطالب الطلبة على ثلاث قضايا رئيسة هي: إنهاء حالة اللاسلم واللاحرب واتخاذ قرار حاسم ونهائي بالحرب، وتحرير الأراضي المصريّة المُحتلة، وقضية الديموقراطيّة والنظام السياسيّ في مصر، بما في ذلك حرّيّة الصحافة؛ وكانت ثالث القضايا هي البنية الاجتماعيّة الاقتصاديّة للبلاد، حيث نادى الطلبة بضرورة قيام ما سمّوه «اقتصاد حرب»، والإجهاز على الفساد. وكانت أكثر المطالب راديكاليّة في تلك القضية هي المُطالبة بألّا يتجاوز الحدّ الأعلى للأجور في البلاد عشرة أمثال الحدّ الأدنى، مع رفض سياسة ربط الاقتصاد المصريّ بالمصالح الإمبرياليّة عبر مناطق التجارة الحرّة، وطالبوا بالإفراج عن العُمَّال المُعتقلين وإعادة الاعتبار للجان النقابية العُمَّاليّة التي تعرَّضت للتشهير من قِبل الحكومة نتيجة إضراب العُمَّال عام 1971 (6).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – كان مسكني في أول حيّ المنيل وبالقرب من «كوبري الجامعة»، الذي كان لابد أن يعبره في طريقه إلى الجيزة، وكنت أنزل من سيارته قبل أن يعبر الجسر مباشرةً.

2 – (محمد حسنين هيكل يتذكَّر: عبدالناصر والمُثقَّفون والثقافة)، ص 251 – 252.

3 – ما أن بدأ المُلحق بهيئة تحريره الكاملة لعدّة شهور، حتى أخذ المناخ الطارد وقتها، يعصف تدريجيّاً بأعضاء لجنة تحريره، فيغادرون مصر واحداً بعد الآخر. حتى لم يبقَ منهم سواي. ممّا جعلني أتردَّد على مبنى الأهرام بشكلٍ شبه يومي.

4 – جاءتني فرصة للسفر إلى إنجلترا في ذلك الوقت، وطلب مني لطفي الخولي أن أرشِّح له مَنْ يحلّ مكاني في هذا المُلحق، وفاتحت فاروق عبدالقادر في الأمر فرحَّب به، ورشّحته للطفي الخولي. واستلم فاروق العمل مني في ملحق الطليعة الأدبيّ في مارس/آذار عام 1973، وهو الشهر الذي غادرت مصر في نهايته.

5 – الواقع أن النكات الساخرة من السادات والمُستهزئة به لم تنقطع أبداً منذ تولي السادات السلطة. فلم تأخذه مصر مأخذ الجد، ولم تعترف له بأي شرعيّة حتى اندلاع حرب 6 أكتوبر، وهي الشرعيّة التي سرعان ما تبدَّدت بعد فترةٍ قصيرة. وخرجت المُظاهرات العارمة في 18 و 19 يناير/كانون الثاني عام 1977 من شواطئ المُتوسط حتى شواطئ بحيرة ناصر تنزع عنه كلّ شرعيّة. فتوجَّه فاقداً للشرعيّة إلى العدو الإسرائيليّ علّه يسبغ عليه شيئاً ممّا فقده، فضيَّع مصر معه.

6 – راجع كتاب أحمد عبد الله الشهير: Ahmed Abdalla, The Student Movement and the National Politics in Egypt: 1923-1973 (London, Saqi Books, 1985)، وخاصّة الفصل التاسع عن انتفاضة الطلاب عام 1972 – 73، ص 176 – 211.

تحدّيات الثقافة عن بُعد

لم يجف مِداد جدل طويل وعقيم، في الغالب، يخصُّ الكِتاب الإلكترونيّ الذي يحلّ محلّ الورقيّ، حتى اجتاح وباء «كوفيد – 19» العَالَم. ولاحتواء انتشاره تمَّ إغلاق مرافق الحياة العامة، وانتقلت جلّ الأنشطة الخارجيّة إلى المنزل بصورةٍ معزولة عن تقاليد الحياة الاجتماعيّة، فأصبحنا أمام تجارب وممارسات ثقافيّة جديدة، بقدر اعتمادها على الإنترنت والفصول الافتراضيّة ومؤتمرات الفيديو، فإنها قد أجبرت العديد من القطاعات والمُؤسَّسات الثقافيّة على إعادة تأسيس نفسها، وتعديل العلاقة التواصُليّة مع جمهور الثقافة بتكثيف الجهد الرَّقميّ من منطلق فعاليته الكمّيّة في الانتظام الثقافيّ.
طالما اقتصر دور الوسائط الإلكترونيّة على المُساعدة والدعم الفنّي، والإخبار بتنظيم الأنشطة الثقافيّة، وإلى وقتٍ قريب لم يكن من ضمن الاحتمالات تنظيم مهرجان ثقافيّ في نسخة إلكترونيّة، على سبيل المثال، أو حتى تصوُّر فعالية ناجحة من دون توفُّر ارتباط واقعيّ بين حدث ثقافيّ وجمهوره. كما أدَّى الحَجْر المنزليّ إلى تقييد الوصول إلى السلع الثقافيّة الماديّة بسبب إغلاق المكتبات ودُور السينما ومتاجر التسجيلات وما إلى ذلك… لكن ما شهدناه على المُستويين العربيّ والعَالميّ يؤكِّد أن الثقافة في الأوقات الصعبة بلسم للكثيرين، وقد حقَّقت الوساطة الرَّقميّة بالتأكيد فرصةً عظيمة للمُحافظة عليها، وأثبتت بأنها قناة فعَّالة لربط الجماهير بالمنتوج الثقافيّ والفنّي وإرضاء تعطّش الجمهور؛ حيث زادت العديد من المُؤسَّسات الثقافيّة التي أُجبرت على الإغلاق، كالمتاحف والمسارح والمعارض الفنِّيّة وغيرها، من عروضها ومواردها المُختلفة عبر الإنترنت.
لا شكّ في أن هذا التحوُّل الرَّقميّ الشامل، وإنْ كان طارئاً، يواصل اختباره لطبيعة علاقتنا بالثقافة التي تبدو في صورتها الظرفيّة على الأَقلّ، قد تحوَّلت من علاقة اجتماعيّة، إلى علاقة تقنيّة تطرح عدّة شكوك وأسئلة تتعلَّق بالتكيُّف مع واقع جديد ابتدع عادات ثقافيّة غير مألوفة لا نعرف إنْ كانت ستستمر بعد أداء وظيفتها الطارئة. ففي سياق استثنائيّ لم يعد بوسعنا أن نلتقي فيه داخل فضاء ثقافيّ عام، نحن في حاجة ليس فقط إلى التكيُّف المُجتمعيّ، وإنما إلى اختبار علميّ ونقديّ للمتاحف والمسارح ودُور السينما والمعارض الفنِّيّة في إطار العرض الافتراضيّ، حتى لا يترك العمل الثقافيّ رهين التقييمات الكمّيّة للتقنية. كما لا فائدة من عرض ثقافيّ يراهن في نجاحه على زيادة الوفرة في المُحتوى أو بتوسيع مدى انتشاره، وإنما تعمُّ الفائدة والفاعليّة أكثر حينما يكون الفعل الثقافيّ مَعنيَّاً بالدرجة الأولى، سواء بوساطة واقعيّة أم افتراضيّة، بضمان الاستقلاليّة النقديّة للجماهير.
وفي سياق هذا الاختبار لطبيعة علاقتنا الجديدة بالعرض الثقافيّ، تبدو آثار الحَجْر المنزليّ على مخرجات المُمارسات الثقافيّة مناقضة لما يمكن توقُّعه بطريقة تلقائيّة من ثورة الشاشات وتضاعف جماهير الوسائط الرَّقميّة أو حتى توحيد السلوك الثقافيّ. فإذا كان الحَجْر المنزليّ قد ضاعف مستويات الاستهلاك السمعيّ- البصريّ ومشاهَدة العروض الحيّة على الإنترنت، وممارسة الألعاب الإلكترونيّة. فإنه في مقابل ظهور سلوكيات جديدة تمَّ إهمال عادات أخرى، من قبيل الترفيه التقليديّ الذي يتطلَّب قدراً مُعيَّناً من التواصُل الاجتماعيّ. كما تُشير بعض الإحصاءات إلى أن بعض المُمارسات الإبداعيّة قلّت في فترة الحَجْر المنزليّ، وأن معدَّلات القراءة عرفت بدورها انخفاضاً بسبب إغلاق المكتبات الذي يفسِّر جزئياً هذه النتيجة. كما انخفضت نسبة قرَّاء الصحافة الورقيّة بشكلٍ كبير… ومرد ذلك -حسب التفسيرات الاجتماعيّة- إلى غياب الاستعداد النفسيّ بسبب العبء العاطفيّ والمعلوماتيّ الناجم عن الأزمة الصحّيّة والحَجْر المنزليّ.
وإذا كانت المُبادرات الافتراضيّة قد سمحت باستمرار العروض الثقافيّة، على قاعدة تأكيد الحضور من غرفتك، فإنّ ذلك لا يعني ألّا نأخذ بمحمل الجد المُلاحظات التي يتمُّ رصدها، من قبيل قِلّة التفاعُل التي كثيراً ما تنجم عن الشعور بالعُزلة الذي يخلِّف الشكل الفرديّ لهذا النوع من الحضور، ممّا يضعف الدافع لحضور فعالية ثقافيّة افتراضيّة أو الالتزام بإكمال حضورها، إلى جانب افتقار الفضاء الافتراضيّ حتى الآن إلى التفاصيل المُقترنة بالفضاء الواقعيّ والتي تدلّ على أن الحدث يسير بشكلٍ جيّد، كالانضباط في التفاعُل وعمليات التواصل، دون أن نغفل الفجوة الرَّقميّة التي تقف عقبة رئيسيّة أمام الجمهور المُستهدَف من كافة الشرائح والأعمار.
من المُؤكَّد أن التواصُل الاجتماعيّ يُلقي الضوء على تطوُّر وتنوُّع المُمارسات الثقافيّة، وأشكال المُشاركة الثقافيّة، وإذا كانت تجربة الحَجْر المنزليّ قد أزالت جزءاً كاملاً من الثقافة المُرتبطة بزيارات المتاحف ودُور السينما والمعارض الفنِّيّة، فقد ساهمت أيضاً في تعديل علاقة الأفراد بالثقافة من خلال خلق سلوكيات واستخدامات جديدة. لقد أعادت الشاشات تنظيم الاستهلاك الثقافيّ وأنماط المُمارسة داخل المجال الخاص، بالصورة التي تجعل الحاجة إلى دراسة آثار عمليات إعادة التشكيل المُؤقَّتة هاته ضروريّة في السنوات القادمة، للتحقّق ممّا إذا كانت علامة على التكيُّف مع سياق معيَّن وغير مسبوق أو على تغييرات عميقة في الوصول إلى الثقافة.

غيابُ الكِتاب في الإذَاعة والتليفزيون

قَلَّ حُضورُ الكِتاب والثقافة في الإذاعةِ والتليفزيون، وباتَ عبئاً يتمُّ النهوضُ به من باب جبر الخواطر ورفع العتب، حتى إذا سأل أحدُهم عن الكِتاب دمغوه بقائمةٍ من الحصص والبرامج طويلةٍ عريضة، تسمح بإيجاد نسبةٍ مئويّة في الشبكة يتبجَّح بها الإداريّون عند المُحاسَبة أو المُساءَلة.

قد يكون من المُفيد هنا أن نفصّل الحديث في هويّة المُنشّطين المُكلّفين بالبرامج القليلة المعنيّة بالكتب والثقافة عموماً. فهم واحد من اثنين: إمّا منسوب إلى عالَم الثقافة والكِتابة، وإمّا ابن الإذاعة والتليفزيون، أي منسوب إلى مجالِ الإعلام.

نحن في الحالتين نتيجة وضعٍ كارثيّ: في الحالة الأولى: نحن أمام كاتِب لا يكتب ولا يقرأ، وميزته الأساسيّة قدرٌ كبير من الوقاحة والشراسة، وينتقي ضيوفه اعتماداً على الشّلليّة. في الحالة الثانية: نحن أمام (أنا) متضخِّمة، وهو في أفضل الحالات شخصٌ يقرأ الصحف ليُتابِعَ أخبار الفَنَّانين والفَنَّانات.

في الحالتين، دون تعميم ومع حفظ المقامات واحترام الاستثناءات، يتبجَّح هذا المُنشّط بأنّه محترف، وأنّ هذه الحرفيّة تسمح له بأن يستضيف مثقَّفين، هو في كثيرٍ من الأحيان لا يعرف عنوان كتابهم الجديد الذي استضافهم من أجله.

وأيّاً كان مدارُ الاستظافة فهو لن يكون الجدل، لأنّ الجدل تبادلٌ علنيّ صريح للآراء وصراعٌ بين الأفكار تقوله الكلمات، ومقارعة الحُجَّة بالحُجَّة دون طهرانية زائفة ولا ملائكيّة كاذبة، قد يغضب فيه المُتجادلان كلّ لقناعته، لكن كلاً منهما يدخل الجدل وهو مستعد لتغيير رأي الآخر وإقناعه برجاحة رأيه.

في مثل هذه الحالة يكفُّ الجدل عن كونه جدلاً، أي اختلافاً للفكر يؤدِّي إلى إنتاج فكر جديد، ويُصبِحُ مَأتَماً للمُحادَثَة، بل يصبح مجرَّد اقتتال وحشيّ لا نتيجة له إلّا تطبيع ثقافة العنف والإرهاب. وتبدو ضجّة الإذاعة والتليفزيون حاجزاً صوتيّاً ملائماً ليرتكب المُجرم جريمته دون أن ينتبه إليه أحد.

ذاك هو الدور المنوط بعهدة البرنامج الثقافيّ المعنيّ بالكِتاب تحديداً. ولذلك هو مثار احتراز المُبرمجين من ذوي المصالح الإذاعيّة والتليفزيونيّة المشبوهة. إنّ معاداة الكِتاب والثقافة في الإذاعة والتليفزيون تعني الرغبة في إنتاج مواطن ميت لا أسئلة له ولا عقل ولا مخيّلة ولا مقاومة، أي جثّةً هامدة تكتفي بالتصفيق والرقص أحياناً وتأكل لتروث في باقي الأحيان.

إنّ الإداريّين المُعادين للكِتاب في الإذاعة والتليفزيون هُم إداريّون لا يرون المُواطن الصالح إلّا في هيئة المُواطن الميت. لذلك همّ حريصون على جرِّ كلّ البرامج، بما فيها الميِّتة ثقافيّاً تحديداً، إلى منطقة الصراخ والضجّة بدعوى أنّ الجمهور عاوز كده، وأن شروط تليفزيون العصر الحديث هي كده.

وشيئاً فشيئاً يتحوَّل التليفزيون وتتحوَّل الإذاعة إلى ملعب رياضيّ مرئي أو مسموع نهاراً وإلى علبة ليليّة ليلاً. شيئاً فشيئاً يتحوَّل المُنشّطون إلى نوعٍ من «الدي جي» ويهبط الكُتَّاب المدفوعون إلى مثل هذه البرامج إلى المُستنقع نفسه، كي يشاركوا في العياط والزياط، أو في ثرثرة مختصين في أواخر الليل، وهو عياط وزياط من نوعٍ سالب، يختلف الأسلوب لكن النتيجة واحدة: قتل المعنى، وتعطيل التواصل، وإحالة الدماغ على التقاعد.

هكذا يُصبِحُ التليفزيون والإذاعة شيئاً فشيئاً مصنعاً لإنتاج العنف الذهنيّ والعاطفيّ والجسديّ، منصّةً لانطلاق الترويج للعنف اللفظيّ والأخلاقيّ في البرامج التي تدَّعي الحوار والجدل، حلبةً يتصارع فيها عبيدٌ جُدد، تتجلَّى فيها حماسة استعراضيّة فرجويّة تعتمد التخوين وكتم صوت المُنافس، ومونولوغات لا مجال فيها للإنصات إلى الآخر، وملاسنات يقاطع فيها الجميع الجميع.

ثمّة في المُحادثة شيءٌ ضروريّ للحياة. حتى لكأنّ الإنسان كائن محادِث من زاوية ما. وفي المُحادثة المسموعة المرئيّة أو المُباشرة (المعيشة) مُتَع وفوائد يحصل عليها الكُتَّاب والقُرَّاء (الجمهور عموماً) تتجاوز ما يمكن أن تتيحه القراءة والكتابة.

ولعَلّ مادام «دو ستايل» عَبَّرتْ عن ذلك في كتابها «في ألمانيا»، حيث قالت: «إنها طريقةٌ أفضل لتلتحم لديهم لحظة التعبير بلحظة التفكير، وليعبِّروا عن ذكائهم وألمعيّتهم بكلّ لطائف النبرة والحركة والنظرة، وأخيراً لينتجوا بسخاء ما يجوز اعتباره نوعاً من الكهرباء التي ينبثق منها شرر، يخلِّص البعض من حيويّته المُفرطة، بينما يوقظ البعض الآخر من خدره المُضني».

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي (تونس)

كلّ هذه الأمور لا مجال لظهورها من خلال الكتابة والقراءة. وحده الحديث عن الكتابة والقراءة في الصالون أو في الإذاعة والتليفزيون، وهما صالون العصر، يمكن أن يجعلنا نستمتع بهما وبغنائمهما. وهذا ما يحرمنا منه غياب برامج الثقافة، وبرامج الكتاب تحديداً، عن الإذاعة والتليفزيون. إنّ تشجيع الكتابة في الإذاعة والتليفزيون هو إعادة الصلح بين القراءة الصائتة والقراءة الصامتة. إنّ تشجيع الكتاب هو تشجيع للقراءة بما هي تشجيع للتفكير. فالقراءة رياضة لمجموعة من الملكات والعضلات الذهنيّة والروحيّة والجسديّة لا تنمو ولا تتفاعل بغيرها.

والحقيقة أنّ العلاقة بينهما علاقة تكامل تامّ. فلا معنى للشراكة لولا الانفراد، ولا قيمة لانفراد لا يفتح على الشراكة. وهو ما يعنيه حضور الكِتاب من خلال الإذاعة والتليفزيون. فهو حضورٌ يعني قراءة انفراديّة صامتة لتذوُّق العمل أدّت إلى قراءة مسموعة لتقاسمه مع المُستمعين. هنا حتى المقولة القديمة المأثورة، كما قال مينغويل في كتابه، أمّا ما يُكتب فيبقى وأمّا ما يُقال فتذروه الرياح، حتى هذه المقولة يمكن تأويلها في اتجاه التكامل.

المكتوب يبقى أي يخلد، والمقول تذروه الرياح أي يُنسى، والمكتوب يبقى أي يتجمَّد، والمقول تذروه الرياح أي يحلّق كاللقاح من مكانٍ إلى آخر ويُخصب الأرض. ومن شأن وسائل الإعلام الحديثة أن تحمل الكلمات المكتوبة من مكانٍ إلى آخر في اللحظة نفسها لتصبح لقاحاً منقطع النظير.

وحتى من الناحية السياسيّة فالأمر متعادل. كان أغسطينوس يخشى أن تدفع القراءة الجهريّة إلى طرح المُستمع المُنصت أسئلةً محرجة، تستدعي تفسيراً أو دخولاً في جدل معقَّد. بينما ذهب آخرون إلى أنّ القراءة الصامتة هي أيضاً مريبة سياسيّاً، إذ ينعدم شهود العيان بين القارئ والكتاب وتنعدم إمكانيّة الرقابة على ما يقرأ وعلى ما تثيره القراءة من أسئلةٍ أو أفكار. والخلاصة أنّ الديموقراطيّات الحديثة تجاوزت هذا الحرج وفهمت منافع التكامل بين القراءتين.

كم أخطأ «سقراط» في حواره مع «فيدروس» حين قال: «هل تعرف يا فيدروس أن العجيب في الكتابة أنّها تشبه الرسم إلى حدٍّ كبير. إنّ عمل الرسّام يطالعنا وكأنّ اللوحات حيّة تنطق… ينطبق هذا على الكلمات المكتوبة. تبدو أنّها تتحدَّث إليك وكأنّها شديدة الذكاء، إلّا أنّك عندما تسألها والرغبة تحدوك في معرفة المزيد، فإنّها تستمرّ في ترديد نفس الشيء دون انقطاع».

ظلم «سقراط» الرسم والكتابة معاً، وكأنّ الانفتاح على ما تتيحه اللوحة من تأويل هو من شأن مشاهدها وحده ولا علاقة له بمفرداتها التشكيليّة. وكأنّ مجازات النصّ ومعانيه هي نتاج مخيّلة القارئ وحده وليست نتيجة لحركة كلمات النصّ نفسه. ربّما لانطلاقه من ظروف عصره، وربّما لأنّه كان محكوماً بسياق رؤيته الفكريّة…

في الحياة، في كتاب الحياة، لا يمكنك أن تعود إلى الصفحة السابقة أو إلى الصفحة الأولى كي تبدأ القراءة أو الرحلة من جديد، إلّا أنّك عندما تمسك كتاباً بيدك، كما يقول أورهان باموك في الحصن الأبيض، «فإنّك تستطيع بعد الفراغ منه أن تعود إلى البداية إنْ أردت، وأن تقرأه من جديد، كي تفهم ما هو صعب فيه، وبالتالي، أن تفهم ما هو صعب في الحياة أيضاً».

الحياة بوَصفها حُلماً

تناولَ «بورخيس» في المُحاضَرة الثانية، ضِمن ما ألقاهُ من مُحاضَرات عامَي 1967 و1968، بجامعة «هارفارد» الأميركيّة، الأنماطَ الأصليّة أو النموذجيّة للاستعارة، وتوقَّفَ، وهو يَعرضُ هذه الأنماط، على النمطِ الأصليّ لاستعارةِ «عدِّ الحياة حُلماً». وفي سياق تأمُّل هذا النمط، استحضرَ «بورخيس» قول شكسبير: «إنّنا مصنوعون، كما الأحلام، من المادّة نفسها». قولٌ رأى فيه «بورخيس» مُفارقةً بين المعنى وطريقة الصَّوغ، حتى وإنْ كان مُنجذباً إلى المَعنى المُتضمَّن في القول. فبقدر ما اِنجذبَ «بورخيس»، على امتداد مَساره الكتابيّ، إلى الحمولة الدلاليّة للنمط الأصليّ لهذه الاستعارة واقتنعَ بعُمقها وأسْهمَ في ترسيخها، لم يَستَسِغ صَوْغَ معناها عند شكسبير بنبرةِ تأكيد تنمُّ عن يَقينٍ ما، لأنّ حقيقة هذا النمط البعيدة تنهضُ، من بين ما تنهضُ عليه، على غُموضٍ لا يرتفعُ أبداً. فقد رأى «بورخيس» أنّ صَوْغَ شكسبير لهذه الاستعارة اعتماداً على التأكيد لا يَنسجمُ مع معناها القائم أساساً على الارتياب. فالمعنى الارتيابيّ، الذي يُرسِّخهُ النمط الأصليّ لهذه الاستعارة، يقتضي صَوْغاً ارتيابيّاً يُؤمِّنُ للحَيرة وللَّبْس حصّتَهُما في التركيب اللغويّ وفي المعنى. لذلك انحازَ «بورخيس» إلى قول الشاعر الألمانيّ «والتر فون دير فوجيلويد- walter von der vogelwide» الذي انطوَى على المعنى ذاته ولكن بنبرة ارتيابيّة صاغها على النحو التالي: «تراني حلمتُ حياتي، أم أنّها كانت حُلماً؟»، وانحازَ أيضاً إلى قول الشاعر الأميركيّ كامينغز- commings الذي شبَّهَ حياتَهُ بشَيء لم يحدُث. إنّها النبرة الارتيابيّة التي إليها انجذبَ «بورخيس» بكُلّه وهي تتحقّقُ بصيغة عالية، مُنذ زَمن سحيق، لدَى الفيلسوف الصينيّ تشوانغ تزو، إذ لم يكُف «بورخيس» عن الاستشهاد بالصّورةِ الشعريّة التي بها صاغ تشوانغ تزو النمط الأصليّ لاستعارة «عدِّ الحياة حُلماً»، بل، أبْعَد من ذلك، لم يكُن «بورخيس» يَنوي أبداً أنْ يكُفَّ مدى حياته عن الاستشهاد بهذه الصورة، التي جاء فيها أنّ تشوانغ تزو «حَلَمَ أنّه فراشة، وحين استيقظ، لمْ يَدْر إذا ما كان بَشراً حَلَمَ أنّه فراشة، أو أنّه فراشة تحلُمُ الآن أنّها إنسان». لقد أُعجِبَ «بورخيس» بهذا القول لا فقط لأنّهُ صيغَ بنبرةٍ تنطوي على الحيرة واللّبس، بل أيضاً لأنّ حمولة الحُلم ظلّت سارية حتى بَعد اليقظة، ولأنّ تشوانغ تزو اختارَ، في نظر «بورخيس»، الحيوانَ المُناسب؛ اختارَ كائناً في غايةِ الهشاشة، انسجاماً مع الحُلم. فالفراشة، التي اعتمدَها تشوانغ تزو في صَوغ الصورة، مِثلُ الحُلم، ولو كان اختارَ نَمراً أو حوتاً لكان، حسب «بورخيس»، سطحيّاً ولَما نجحَ في تبليغ ما قصدَه من قوله.

لا غرابة إطلاقاً أنْ ينجذبَ «بورخيس» إلى قول تشوانغ تزو، لأنّ رُؤيتَهُ هو أيضاً إلى الزّمن والحياة تتجاوَبُ مع ذلك، وتُغذّي، بروح ارتيابيّة عالية، التشابُكَ القائم بين ما يُعَدُّ حُلماً وما يُعَدُّ واقعاً. يكفي التمثيل لهذا الأمر بنصّ «بورخيس» الحامل لعُنوان «الآخَر»، الذي يَنطوي على رُعبِ أنْ تكونَ حياةُ المَرءِ حُلماً رَآهُ الآخَر. فضلاً عن ذلك، حرصَ «بورخيس» على أنْ يعيشَ الحياةَ في الحُلم أو الحياةَ بوَصفها حُلماً، إذ ظلّت رُؤيتُه مُنطويةً على عَدِّ الحياة حُلماً، وعلى عَدِّ ذلك تجلّياً سامياً للحياة، وتصوُّراً عميقاً لمعناها. وهو ما هيّأتْهُ لهُ أيضاً، بمعنى ما، صِلتُه الخاصّة بالأدب الذي تماهَى عنده بالحياة بما هي حُلم، إذ لمْ يكُن «بورخيس» يتصوَّرُها خارجَ الأدب وخارج الحُلم. فالمُتتبِّعُ لأعمال «بورخيس» يلمسُ أنّ الأدبَ، في منظوره، رافدٌ رَئيس للحياة لا العكس، فـ«بورخيس» واحدٌ مِمّنْ رَسّخوا حقيقةَ أنّ الأدبَ مَرجعُ الوَقائع وليسَت هي مرجعَه، حتى لتَبْدو الوقائعُ، في نظره، تجسيداً لِما يَختزنُهُ الأدب، لا بالمعنى البسيط الذي يَنهضُ عليه مفهوم التنبّؤ المُبتذَل، بل بمَعنى شديدِ التعقيد، فيه يبدو الحلمُ، الذي يُحقّقُهُ الأدب، مُلامسةً للمنطقة التي تُشكِّلُ مَصدرَ الأشياء والوقائع؛ المنطقة التي فيها يَستعيدُ الغموضُ عُمقَهُ المَنسيّ، أي يستعيدُ معنى كوْنه حقيقةَ الأشياء وحقيقة كلِّ ما يُرى، بعيداً عن حجاب الوُضوح المُعتم.

لرُبّما يُتيحُ تمديدُ النبرة الارتيابيّة، التي شدَّدَ عليها «بورخيس»، إمكاناتٍ عديدةً للاقتراب من عُمق الغُموض الذي يَسِمُ العلاقة بين الحُلم وما يُسمَّى بالواقع. تمديدٌ يُعيدُ النظرَ حتى في علاقة الاستعارة بالحقيقة، على نحوٍ يُكسّرُ الحُدودَ بينهما ويُحرِّرُ هذه العلاقة من الأحكام الجاهزة ومن ثبات الرّؤية. قد يكون هذا التمديدُ مُضمَراً، بوَجه ما، في نُصوص «بورخيس» أو سارياً بصيَغ أدبيّة في حكاياته التي تَبْني العجائبيَّ فيها من هِباتِ هذه المنطقة بالذات؛ منطقة تلاشي الحُدود بين الحُلم والواقع، وهو السّريان الذي جعلَ «بورخيس» نفسَهُ غامضاً. إذا كان هذا الأديب يُحدِّدُ مفهومَ الاستعارة، الذي خصّهُ بأكثر من مقال، بأنّه جمْعٌ بين النقيضيْن، فإنّ التمديدَ المُشارَ إليه يُتيحُ عدَّ الجْمع بين النقيضيْن ليس استعارةً، بل لرُبّما هو أساساً حقيقةُ الحياة أو على الأقلّ وَجهٌ من وُجوه حقيقتها، بحيث لا تغدو فكرةُ «عدِّ الحياة حُلماً» نمطاً من أنماط الاستعارة، بل تصيرُ حقيقةً من الحقائق الغامضة الخفيّة. وفي ضَوء ذلك، يكفُّ كلُّ تناوُل للحياة بوَصفها حُلماً عن أنْ يستقيمَ من زاوية الاستعارة بالمعنى الذي يُحدِّدُها اعتماداً على تقابُلها مع الحقيقة، بما يُمكِّنُ من تفكيك ثنائيّة الحقيقيّ والاستعاريّ. إنّه التفكيك الذي نهضَت به، مُنذ زمنٍ بعيد، التوجُّهات المعرفيّة ذات المَنحى الشعريّ والصوفيّ، بالمعنى الواسع والخَصيب لكِليْهما.

وهكذا، فإنّ «عدَّ الحياة حُلماً» تصوُّرٌ يَستندُ، من بين ما يَستندُ إليه، إلى الرّؤية الخَصيبة التي بها أعادَتْ بَعضُ التوجُّهاتُ المعرفيّة، مُنذ القديم، صَوغَ مفهوم الخيال، وتحريرَه من الفَصْل الذي أبْعدَهُ عن الحقيقة واختزَلهُ في مُجرّد مُقابل لها، حتى لقد غدَت ثنائيّة الخياليّ والحقيقيّ، أو الخياليّ والواقعيّ مُثقلةً، في هذا الاختزال، بالأفكار الجاهزة التي لا تنفكّ تَخضعُ للتفكيك في التصوُّرات التي لامَسَت عُمقَ الخيال وعُمق المعرفة التي يُنتجُها، ولا تنفكّ تخضعُ أيضاً للتفكيك، بصورةٍ أبْعد، في المُمارَسات النّصيّة الإبداعيّة التي لا يَستقيمُ وُجودُها إلّا بالإقامة في منطقة الخيال وتلقّي هِباته في بناءِ المعنى. من ثمَّ، يُمْكنُ الزعم أنّ النّمط الأصليّ لاستعارة «عدِّ الحياة حُلماً» ليْسَ خيالاً إلّا إذا نُظِرَ للخَيال بوَصفه «حقيقةَ» الأشياء، أي بتغيير التصوُّر عنه، أمّا النظرة التي ظلَّت تعتبرُه درجةً أدنى مِمّا يُسمَّى، على نحوٍ فجّ وجاهز، بالواقع، فليس في مُكْنتها إطلاقاً أنْ تُدركَ المعنى البَعيد لهذه الرّؤية للخيال وللحياة.

إنّ بذورَ هذه الرّؤية، التي تَنظرُ إلى الحياة بوَصفها حُلماً، مُتعدِّدةُ المصادر ومُختلفةٌ حتى في تفاصيلها وفُروعها، إذ يَصعبُ تطويقُ المُوَجِّهات التي تَسندُ هذه الرّؤية والامتدادات والتلوُّنات التي شهدَتْها. وهذا أيضاً عُنصُرٌ من عناصر غُموضها الذي سبقَت الإشارة إلى أنّه لا يَرتفع أبداً. تجلّياتُ هذه الرّؤية عديدة، تبدَّى أحدُها، بعُمْقٍ لافت في خطاب الصوفيّة، وفي تصوُّرهم للحُلم ولطرائق عُبوره. يُمكنُ، في سياق استحضار هذا الخطاب للتمثيل، عدُّ ابن عربي واحداً ممَّنْ جسَّدوا هذه الرّؤية على مُستوى التصوُّر الوُجوديّ والمعرفيّ، وممَّنْ حرَصوا على إضاءَتها انطلاقاً من إعادةِ تأمُّل ما يَجري في حُلم المنام، وفي الحُلم الذي يتحصَّلُ في الحياة أو فيما يَجري في الحياة بوَصفها أصْلاً حُلماً. بهذا التأمّل، الذي يُعيدُ ترتيبَ العلاقات والوَشائج بين المعاني ويُزعزعُ المُعتاد في التأويل، يغدو الحُلمُ في المنام صيغةً أخرى للحُلم المُتماهي بما يَجري في الحياة؛ يغدو حُلماً مُضاعَفاً، لأنّه لا يُقابلُ وقائعَ وأحداثاً مادامت الحياةُ نفسُها، في هذا المنظور، حُلماً. ما يتمُّ في الحُلم المُعتاد؛ حُلمِ المنام، ليس، في تصوُّر مَن رَسَّخوا نَسَب الحياة إلى الحُلم، سوى «منامٍ في منام» وَفق تأويل ابن عربي لحديث نبويّ يَستحضرهُ في خطابه مرّات عديدة من مواقعَ مُتباينة كما هو دأبُه في التأويل؛ يتعلّقُ الأمر بالحديث الذي جاء فيه: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا». أكثر من ذلك، فترسيخُ نَسب الحياة إلى الحُلم عند ابن عربي مشدودٌ إلى تصوُّره للوُجود، ولعلاقة الواحد بالكثرة فيه، ولحقيقة الصّوَر في التجليّات، وغيرها من المفهومات التي تُسيِّج هذا التصوُّر. لذلك كلّه، لا يتردَّد ابنُ عربي، وَفق موقعٍ من مواقعِ تأويله العديدة، في التصريح بأنّ ما يُرَى في الحياة هو مِنْ قبيل ما يُرَى في المَنام. وبذلك يَغدو الحُلمُ في المنام مُضاعَفاً، منه يتمُّ العُبور، في التأويل، لا إلى وقائع، بل إلى حُلمٍ آخَر، على نحوٍ يَجعلُ ما يُرَى؛ سواء في حُلمِ المنام أو في صُوَر الحياة؛ ذا وَضعٍ إشكاليٍّ شديدِ التعقيد، بما يَمنعُ كلَّ حديث عمَّا يُرَى في الحياة من ادّعاء اليقين والوُضوح اللذيْن لا حجّة عليهما.

مثلما تسنَّى الحديث عن حُلم مُضاعَف يُقرّبُ المسافة بين ما يُرَى في المنام وما يُرَى في الحياة، حتى لا نقول يُرَى في اليَقظة التي تغدو في هذا التصوُّر مَوضوعَ ارتياب، يتسنَّى أيضاً الحديث عن عِلم تعبير مُضاعَف؛ علمٍ لا يتكلَّفُ بعُبور ما يُرَى في المنام وحسب، بل أيضاً بعُبور ما يُرَى في الحياة وبتأويله. وهي مُضاعفةٌ شدَّدَ عليها ابنُ عربي وظلَّت سارية في تآويله. فعلمُ التعبير، الذي ينهضُ على عبُور ما رآه النائمُ من صُوَر إلى أمْر آخَر، لا يَنطلِقُ، في جانب من تصوُّر ابن عربي، مِن مَنام إلى أمْر في «الواقع» وحسب، بل يتمُّ من مَنامٍ إلى منام آخر، لأنّ ما يَجري في الحياة هو أصْلاً حُلم، بناءً على ما يُستفادُ من تأويل ابن عربي. فتحقُّقُ الحُلم، الذي يُرَى في المنام، حسب علم التعبير غير المُضاعَف، تُجسِّدُه «وقائع»، فيما علمُ التعبير المُضاعَف يَذهبُ إلى أنّ ما عُدّ «وقائع» في عُبور الحُلم هو في ذاته حُلم، بما يجعلُ الانتقالَ في العُبور، أي في التأويل، حركةً لا تتمُّ مِنْ مَنامٍ إلى «واقع»، بل مِن مَنامٍ إلى منامٍ آخَر، وهو ما أضاءهُ ابنُ عربي في الفصّ المُعنون «فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة» ضمن كتابه «فصوص الحكم». في هذا الفصّ، ذهبَ ابنُ عربي إلى أنّ ما يتحصَّلُ بوَصفه تأويلاً لِما يُرَى في الحُلم ليس هو أيضاً سوى حُلمٍ، بمعنى أنّ الحُلم سارٍ في كلّ ما يُرى ويُعاش. لا يتعلَّقُ الأمرُ باستعارة، في نظره، بل برُؤية مشدودة إلى تصوُّره إلى الوُجود الذي قال عنه إنّه كلّه «خيال في خيال».

بالجُملة، إنّ ما له دلالة، في سياق تأمُّل فكرة «عدِّ الحياة حُلماً»، هو النّفَسُ الارتيابيّ الساري في المعنى الذي تَبنيه هذه الفكرة، بغضّ النظر عن مُوجِّهات مَنْ صدرَت عنه، وفي اللغة التي يَتعيّنُ، في نظر «بورخيس»، أن يُبنى بها هذا المعنى، على النحو الذي يَخلقُ تجاوباً، على مُستوى الارتياب، بين المعنى وصَوْغه. فأهمّيّةُ النّفس الارتيابيّ بوَجْهيْه يَمنعُ مِنْ عدِّ هذه الفكرة حقيقةً تُقابلُ ما هو سائدٌ بشأنها، لأنّها في هذه الحالة تتنكّرُ لمنطقة الغموض التي مكّنتْ من ظهور الحياة بوَصفها حُلماً، وتنسى أيضاً أنّها بناءٌ بالتأويل. ذلك أنّ النّفَس الارتيابيّ، الذي شدَّدَ عليه «بورخيس»، لا يَنطلقُ من حقيقة ما، بل يرومُ أساساً زعزعة ما يُعَدُّ حقائقَ وبدهيات؛ وفي مقدِّمتها حُجُبُ الأزواج والثنائيّات التي تخلقُ الحُدودَ بين ما يقومُ أصلاً على التداخل، وتُمكّنُ هذه الحُدود، أبْعَد من ذلك، من سُلطة إنتاجِ المعنى. النّفَسُ الارتيابيّ يمنعُ الاحتمالَ من أن يتحوَّلَ إلى مُسلَّمة ويُتيحُ للأزواج أن تتحرَّرَ من التقابل. واللافت في التفكيك، الذي تنهضُ به فكرة «عدّ الحياة حُلماً» هو مصدرُه الذي قلّما تمّ الإنصاتُ إلى طاقته التفكيكيّة؛ إنّه المصدرُ الشعريّ والصوفيّ وهُما يتقاطعان، من منطقتهما الخاصّة، مع المصدر الفكريّ، على نحوٍ يدعو إلى التنبُّه للمعرفة التي يُنتجُها الشعريّ والصوفيّ، ولِعُمق المناطق البعيدة التي منها يستقيَان رُؤيتَهُما إلى الأشياء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشواهد الخاصّة بـ«بورخيس»، في هذا المقال، مصوغة بترجمة صالح علماني لمُحاضَرة «الاستعارة»، ضمن ترجمته للمُحاضَرات التي ألقاها «بورخيس» بجامعة «هارفارد». وهي الترجمة التي صدرت في كتاب «صنعة الشعر»، دار المدى، سورية، ط1، 2007.

السنة البطيئة!!

لعَلّ أفضل ما نتمنَّاه لنا وللقادمين، أن تكون سنة 2021 سنة «يقظة الوعي الجماعيّ»، ودرساً كافياً للبشريّة كي نفهم جميعاً أنّ مصيرنا مشترك أو لا يكون، وأنّ مُستقبلَنا رهينُ تضامننا، وأنّ إهدار الثروات والاعتداء على المناخ وتلويث البيئة طريقٌ إلى تدمير الإنسان وكوكبِه، وأنّ الثروةَ الحقيقيّة ليست الاقتصاد أو الطاقة أو المال أو المصانع والأسواق أو المطارات والطرق السيّارة والتكنولوجيا الرقميّة، بل هي التربية والصحَّة والبحث العلميّ والإبداع. أي أن مستقبلَنا ثقافيّ تحديداً، وثقافيٌّ أو لا يكون.

«كلّ عام وأنتم ومَنْ تحبّون كما تحبّون». بمثل هذه العبارة اعتدنا أن نختتمَ سنةً ونفتتحَ أُخرى، متمنّين لأحبّتنا الصحَّةَ والنجاح والسّعةَ والسعادةَ والوقت الطيّب… مسارعين في أثناء ذلك، كلٌّ على طريقته، إلى تقييم السنة المُنصرمة في نوعٍ من «جرْد الحساب». واليومَ وقد حزمت سنة 2020 حقائبها ودخلت التاريخ، شأنها في ذلك شأن السنوات التي سبقتها، نستطيع أنْ نسأل: أيّ سنةٍ كانت؟ وبأيّ عبارةٍ يمكننا اختزالُها لأنفُسنا وللأجيال القادمة؟

تحدَّث أسلافُنا عن عام الجراد كلّما اجتاحهم الجراد، وعن عام الحزن كُلّما اختطف منهم العامُ «بُدوراً» تُفتَقَدُ في الليلة الظلماء. تحدَّثوا عن عام الرّمادة حين أصاب الناسَ قحطٌ حتى صارت وجوههم في لون الرماد من الجوع. وقِيل: كانت الريح تسفي تراباً كالرّماد لشدّة يبس الأرض. كما تحدَّثوا عن عام الرّعاف وسُمِّيَ بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرّعاف، وعام الجحاف حين وقع بمكّة سيل عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول.
تسميات أُطلِقت على سنوات معيَّنة، لكنّها ظلّت صالحة للتعبير عمّا تلاها من «محطّات». ولعلّها تصلح كلّها لوصف بعض أبعاد السنة المُنصرمة دون أن تلمَّ بكافّة وجوهها. والحقّ أنّ سنة 2020 لم تترك أحداً في مأمن. وليس من شكّ في أنّ أغلبنا يرغب في القفز عليها بذاكرته ويتمنَّى نسيانَها أصْلاً.

أذكُرُ هنا (والشيء بالشيء يُذكَر) أنّي كنتُ حاولتُ قبل أكثر من عشرة أعوام النسج على منوال «السنة الكبيسة»، فاقترحتُ إطلاق عبارة «السنة النسيئة» على البعض من سنواتِنا العصيبة، على الرغم من أنّ أسلافنا لم يتحدَّثوا عن النسيء إلّا نسبةً إلى الشهور التي كانوا يُنسئونها في الجاهليّة، إذ كانوا يعظِّمون الأشهر الحُرم الأربعة ويتحرَّجون فيها من القتال، فإذا قاتلوا في شهرٍ حرام، حرَّموا مكانه شهراً من أشهر الحلّ…

وقد حكى ابن إسحاق صاحب «السيرة» أنّ أوّل من نسأ الشهور على العرب وأحلّ منها ما أحلّ وحرّم ما حرّم القلمس، ثمّ قام بعده نسله وصولاً إلى أبي ثمامة. فكانت العرب إذا فرغت من حجّها اجتمعت عليه بمنى، فقام فيها على جمل وقال بأعلى صوته: «اللّهمّ إني أحللتُ شهر كذا (ويذكر شهراً من الأشهر الحرم وقع اتّفاقهم على شنّ الغارات فيه) وأنسأتُه إلى العام القابل (أي أخّرتُ تحريمه) وحرَّمتُ مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي…». وفي ذلك يقول عمرو بن قيس بن جذل الطعّان مفتخراً:
لقد علِمَتْ مَعَدٌّ أنَّ قومِي كـِرامُ الناس إن لهم كراما
وأيّ الناس فاتُونا بِوَقْرٍ وأيّ الناس لم يعلك لِجاما
ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ شهورَ الحلّ، نجعلها حراما؟

وكنتُ حاولتُ أن أنسب «النَسَأَة الجدد» إلى النسيان لا الإرجاء. بانياً اقتراحي على رغبةٍ «بعيدة المنال» في أن نعمد إلى بعض السنوات المُثقلة أوجاعاً وخيبات، فننسِئها إلى أجَلٍ غير مُسَمَّى، وننفيها بعيداً عن الذاكرة، وننساها إلى الأبد كأنّها لم تكن.

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي (تونس)

والأرجح أنّ أغلبنا يرغب بشدّة في نسيان سنة 2020 مرّةً واحدةً وإلى الأبد. وليس من شكٍّ في أنّنا ما كنّا لنتردّد لحظةً لو سألتنا عنها الأجيالُ القادمة، في القول إنّها كانت سنة ثقيلة الظِلّ والوطأة، أخذت معها الكثير من أعلامنا نساءً ورجالاً، وشهدت خلالها القارّات الخمس ما شهدته من انفجارات وحرائق ومجاعات وحروب، وتجلّت في منعطفاتها مآزق الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة الدوليّة، وبلغت فيها «الشعبويّة» ذروةً غير مسبوقة، وتراجعت معها الثقافة والإيطيقا أمام نوعٍ من «السينيزم المُتوحِّش»، ومرَّت خلالها «الديموقراطيّة العالميّة» بامتحاناتٍ عسيرة بلغت أشُدّها مع طريقة خروج ترامب من الحكم، وأطاحت بالكثير من أوهامنا، ووَضَعَتْنَا أمام حقيقة «هشاشة» الإنسان وكوكَبِه.

إلّا أنّها كانت قبل كلّ ذلك وبعدَه سنة «الكوفيد – 19» بامتياز. وليس من شكٍّ في أنّ جائِحة «الكوفيد» اكتسبت بعضاً من وقْعِها غير المسبوق من «الانفجار الإعلاميّ» الغالب على المرحلة. وهو ما ألمحتُ إليه في مقالةٍ سابقة حين أشرتُ إلى نجاح «الوسائط الجديدة» في إرغام «أصحاب القرار» العالميّ على التصرُّف «مكشوفين» أمام الرأي العامّ وكأنّهم في أكواريوم، فإذا كُلٌّ يخشى أن يُتّهَمَ بتغليبِ دواعي الاقتصاد على مصالح العباد. إلّا أنّ الجانب الآخر من وقعِ هذه الجَائِحة راجعٌ إلى طابعها المُلغَّز، وإلى سهولة عبورها كلّ الحواجز، فإذا هي قادرة على إصابة الجميع، لا فرق في ذلك بين غنيٍّ وفقير أو بين «متقدِّم» و«متخلِّف».
لقد وضعتنا هذه الجَائِحة، جميعاً، أمام الخوف من المجهول. وكشفت فينا عن الشيء ونقيضه. ولعلّها تبدو في نظر البعض «السنة المنعرج» بين زمن الانفتاح المُعَوْلَم وزمن «الانكفاء على الذات» والعودة إلى نوع من «الحمائيّة» الهيستيريّة.

تغيَّرت نظرتُنا إلى المكان في 2020 أكثر من أيّ وقتٍ مضى. أصبحت «المسافة» ضروريّة لحماية الآخر وحماية الذات. أغلقت الأماكن دونَنا وعلينا. فضاءات العمل. فضاءات التَّعَلُّم. الشوارع. المطارات. المحطّات. الموانئ. دور الثقافة. المكتبات. المسارح. قاعات السينما. المقاهي. المطاعم. الملاعب. أصبحت كلّها موضعَ ريبة: المكانُ هو العدوّ! فما بالُك بالآخَر؟!

تغيَّرت المقاييس والإحداثيّات تبعاً لذلك. بدَا البُعدُ أبعدَ والطُّولُ أطوَلَ. تعطّلت الحركة وثقلت الخطوة. أصبح السفرُ أمنيةً والتنقُّلُ إنجازاً يُحسَب له ألفُ حِساب. استمرأ البعضُ التواصُلَ عن بُعد والمُحادثة عن طريق الفيديو. لم نعد نجرؤ على المُصافحة فضلاْ عن العناق، وخرجت «القُبلة من خلف زُجاج» من حيِّز الاستعارة إلى حيِّز الواقع. بتنا حريصين على المسافات بعد أن كُنّا نطويها طيّاً، وأصبح «التباعُدُ» غايةً بعد أن كان عيباً.

كما تغيَّر إحساسنا بالزمن. ضاقت علينا جنبات الشوارع حين أرغمتنا على العودة إلى البيوت. ضاقت علينا جدران البيوت حين أصبح الخروج إلى الشوارع «فردوساً منشوداً». لم نعد واثقين من «الغد» بعد أن أصبح «الفيروس» قادراً على الضرب في أيّ لحظة. شيئاً فشيئاً صعُبَ علينا التخطيط لأيّ مستقبل واضح. أصبحنا نعيش يوماً بيوم لائذين بالانتظار: ننتظر انحسار الجَائِحة. ظهور اللقاح. النهوض من النوم دون أعراض. مرور اليوم دون سماع خبر سيّئ عن إصابة حبيب أو وقوع صديق. استئناف العجلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة دورانها المعهود. وباختصار: عودة الحياة.

وازدهرت إلى جانب ذلك عقليّة التآمر و«نظريّة المُؤامَرة». بدايةً من إرجاع أسباب ظهور الجَائِحة إلى هذا الطرف أو ذاك، مروراً باعتبارها «جزءاً من خطّةٍ يائسة» لتغيير فلسفة العمل والخروج من مأزق المنظومة الاقتصاديّة المُوشكة على الانهيار، وصولاً إلى «الاحتراز» من «اللقاحات» المُقتَرحَة، مرّةً بدعوى أنّها لم تستكمل مواصفاتها العلميّة، ومرّات بدعوى أنّها جزءٌ من خطّةٍ أُخرَى لتعقيم البشر أو تسميمهم أو التخلّص من عددٍ منهم!!

وما كان لذهنيّة المُؤامَرة أن تتفشَّى بهذا الشكل لولا طريقة مُعالَجة الجَائِحة التي اتّبعتها الدول الكبرى جارّةً معها أغلب شعوب العَالَم. لقد أفرطت تلك الأنظمة في تخويف مواطنيها من الجَائِحة حتى لم يعد أمامهم بُدٌّ من التهوُّر! من ثَمَّ ازداد تمرُّدهم على مقتضيات «التباعد» وازداد ضيقهم ذرعاً بإغلاق شتّى فضاءات العمل والثقافة والتسلية، فإذا هم يرفضون لزوم البيوت والانضباطَ للتوجيهات الحمائيّة، بدعوى تفضيل الموت رفقة الآخرين على الخيار بين أن يموتوا فرادى وأن يموتوا جماعات.

هكذا مرَّت سنة 2020. ولعَلّها كانت من تلك السنوات «الجامِعة» التي تضمَّنت شيئاً من «ويلات» السنوات التي سبقتها، إضافةً إلى «تميُّزها» بتأثيرٍ ذي طابعٍ جماعيّ كونيّ. وإذا كان لابدّ لها من تسمية خاصّة بها فلنقُل إنّها كانت «السنة البطيئة» بامتياز. لقد «طالت» علينا حتى كدنا نتوسَّل إليها أن ترحل. ومرَّت ثقيلةً أكثر من أيّ سنةٍ أخرى. انكفأ خلالها المكان على الزمان، وثقلت علينا وطأة الانتظار، فإذا لعقارب الساعة إيقاع السلحفاة والنملة، حتى لكأنّ الثانيةَ دقيقةٌ والدقيقةَ ساعةٌ والساعةَ يومٌ واليومَ شهرٌ والشهرَ سنةٌ.

ولعَلّ أفضل ما نتمنَّاه لنا وللقادمين، أن تكون سنة 2021 سنة «يقظة الوعي الجماعيّ»، ودرساً كافياً للبشريّة كي نفهم جميعاً أنّ مصيرنا مشترك أو لا يكون، وأنّ مُستقبلَنا رهينُ تضامننا، وأنّ إهدار الثروات والاعتداء على المناخ وتلويث البيئة طريقٌ إلى تدمير الإنسان وكوكبِه، وأنّ الثروةَ الحقيقيّة ليست الاقتصاد أو الطاقة أو المال أو المصانع والأسواق أو المطارات والطرق السيّارة والتكنولوجيا الرقميّة، بل هي التربية والصحَّة والبحث العلميّ والإبداع. أي أن مستقبلَنا ثقافيّ تحديداً، وثقافيٌّ أو لا يكون.

تغريبةُ الإنسان المحتار

ليس من شكٍّ في أنّ ثلاثةَ أرباع حياتنا انتظار. أمّا الربع الباقي فلعلّه مُوزّعٌ بين الاستسلامِ للانتظار والاستعدادِ لهُ والضِّيقِ بهِ ومساءلةِ الإنسان نفسَهُ في المرآة:
ماذا تنتظر؟: نتيجةً؟ مفاجَأةً؟ نجاحاً؟ خيبةً؟ معجزةً؟ محنةً؟ خلاصاً؟، ومن تنتظر؟: ليلاك؟ قيسَك؟ بطلَكَ الضرورة؟ قائدَكَ المُلهَم؟ فردوسَكَ المفقود أو المنشود، أم كُلَّ ذلك وأكثر، بلا يقينٍ يُذكَر؛ لأنّ الانتظار موعدٌ مع ما قد يجيء وقد لا يجيء، مع ما قد يَفِي وقد يخون، سطوعٌ بين شهيق الرجاء وزفير اليأس، شبيهٌ بسطوع البرق بين شهيق العاصفة وزفيرها؟
وكيف تنتظر؟ تنتظر وحيداً، أم تنتظر كثيراً؟ مُختاراً أم مُرغَماً؟ لا مُبالياً أم متعجّلاً؟ ثبْتَ الجنان أم متلفّتاً مذعوراً؟ متصالحاً مع إيقاع الزمن أم في خصومةٍ معه؟ محروساً أم شبيهاً بعوليس في كفّ الإعصار، مُحاطاً بسيرينات اللهفة والرغبة؟ على قلقٍ، كأنّ الريح تحتكَ، أم مطمئنّاً كأنّك ترى المستقبل؟ مُؤجّلاً للفعل أم فاعلاً منفعلاً، كالصيّاد الذي لا يعرف بماذا تعود إليه شباكه؟
وأين تنتظر؟ في كلّ لحظة. في كلّ مكان. في كلّ هاجس. «لو أتيح لنا أن نبني للسعادة بيتاً لكانت أكبر غُرَفِه قاعة الانتظار». هكذا، كتب «جول رونار». لم ينتبه إلى أنّ الانتظار ترحالٌ، تحديداً، وليس محضَ إقامة. الانتظارُ يعني أن تسافر بعيداً، في كلّ اتّجاه، مستقلًّا خيالك، وقد يستنفد ذلك السفر الافتراضي قُواك، فإذا بك لا تملك القدرة على عملِ شيءٍ آخرَ بَعْدَه.
لو كان الزمنُ «عُمْلةً» لكانَ الانتظارُ طريقةً من طُرُقِ تصريفه في المكان، وجهاً من وجوه إنفاقه مقابل جرعةٍ من الوهم أو الأمل، شكلاً من أشكال إهداره عجزاً عن استثماره. في الحالة الأولى، أنتَ تحاول أن «تُلْغِيَ» به المسافة. في الحالة الثانية، أنت تعتقد أنّكَ «تشتري» به ما تريد أو ما تتوقّع. في الحالة الثالثة أنت «تقتله» لأنّك تراهُ شهوةً بلا أُفُق، وأُفُقاً لا يُطال.
هل نقترب، هنا، من الانتظار في «طبْعَتِه العربيّة»، نحن الذين كدنا نحترفه ونبدع فيه.. نحن الذين كدنا نخصّه بثلاثة أرباع الزمن الفاصل بين ابن خلدون، آخرِ عقلٍ كونيٍّ اقترحناه على العالم، ومعظم علامات تاريخنا الحديث؟ أيّ نوع من الانتظار هو انتظارنا؟ وفي أيّ النماذج «الانتظاريّة» الواقعيّة أو المُتَخيّلة نعثر لانتظارنا على شبيه؟
ثمّة الانتظار البنّاء، الذي يتيح لك أن تعمّق معارفك وتشحذ مواهبك. تعرف أنّكَ مخلوقٌ فانٍ أو أنّكَ لا تستطيع أن تلغي قانون الجاذبيّة. تعرف أنّك ذائق الموت أو عائدٌ إلى الأرض بعد كلّ قفزة، إلاّ أنّك لا تكتفي بانتظار الموت، ولا تكتفي بانتظار السقوط بعد القفز، بل تغتنم تلك الفسحة الزمنيّة لتقاوم الموت بالحياة، فتبدع ما يجوز معه قولُ درويش: «هَزمَتْكَ، يا موتُ، الفنون جميعُها»، أو تحلم ببساط الريح، ثمّ تترجم ذلك الحلم إلى معرفةٍ وإبداعٍ قادِرَيْنِ على ترويض الجاذبيّة بالمركبات الفضائيّة.
وثمّة الانتظار الهدّام الذي ينتجه فكرُ الهزيمة، ولا يُنتِجُ، بدوره، إلاّ فكرَ الهزيمة؛ انتظارٌ لا ينفكُّ يؤجّل عمَلَ اليوم إلى الغد، ثمّ إلى ما بعدَ الغد، انتظارٌ مُفْرَغ من كلّ معنًى، مُعادٍ لكلّ رغبة في التغيير ولكلّ اعتقادٍ في إمكانيّة التغيير، انتظارٌ يُؤلّفه فقرُ الجيب والروح، وتُراجِعُهُ النقمة، ويطبَعُه الجهل والضجر والعدميّة، ويوزّعه الاحتقان واليأس والقنوط والإحساس بالقهر، يغلب عليك فإذا أنتَ جسد بلا روح، أو «عبوّة ناسفة» سرعان ما تنفجر بعنفٍ أعمى لتدمّر صاحبَها والعالَمَ.
وثمّة الانتظار الفعّال: مزيج من «الانتظارين» السابِقَيْنِ، أنت فيه سهمٌ يطلقه الماضي في اتّجاه المستقبل. لا يكفيكَ أن تَرغبَ في عدم السقوط قبل أن تُصيب المرمى، بل عليك، في انتظار بلوغ الهدف، أن تُؤثّث الانتظارَ بالعمل، وأن تُنصت- بمقدارٍ- إلى الجانب الهدّام فيه، بما يكفي كي تُسيطر على وساوسه، وكي لا تستسلم لها، وكي تُحوّلها إلى طاقةٍ محفّزة على الاستمرار.
الانتظارُ الفَعّال يعني تخصيص الوقت الضروريّ لبلوغ الغاية وتحقيق الرغبة أو لتكوين الذات وتمكينها من شروط الكفاءة والجدارة والاستحقاق؛ وهذا يعني الصبر على «المسافة» صبراً فاعلاً لا منفعلاً، صبراً لا يكتفي بتدخين عشبةٍ سحريّة والظهر مستند إلى جدار. لا يكتفي بالبحث عن مهرب وهميّ على متن أحد زوارق الموت. لا يكتفي بتدميرٍ عشوائيّ لمكتسبات خاصّة أو عموميّة. لا يكتفي بالنظر من ثقْب الباب إلى نهايةِ حَرْبٍ أو انزياح جائحة، بل يعمل ما عليه، يساهم بما يستطيع، ويواجه الآفاق المسدودة، ويظلّ يناطحها حتى تنفتح أمامه. الصبر هو الاسم الحركيّ لهذا الانتظار.
إنّ من شأن التنكّر لقيمة الانتظار (بهذا المعنى) أن يمهّد لترسيخ ذهنيّتين: ذهنيّة التسوّل أو التواكل، وذهنيّة الاستسلام أو الهزيمة. وهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، لا يمكن تصريفها إلاّ في بَنْكِ الانتظار الفاسد. ومن مفسدات الانتظار التعويل على «الأسرة» أو «الدولة» والتعويل على «الحَرْقة» أو «الهجرة» وصولاً إلى التعويل على «الصُّدْفَة» أو الغِشّ و«تدبير الرأس».
وضعٌ لا يُنتِجُ إلاّ مجتمعاتٍ «عالةً» وشعوباً «قاصرة» وأفراداً عاجزين عن «الفطام»، قد يبلغون سنّ الشباب والكهولة وحتى الشيخوخة، لكنّهم يظلّون رُضَّعاً مُزمنين، يستنفدون «وقتهم» في انتظار «الحلول السحريّة»، أو في إنتاج «الردود الانفعاليّة»، أو في ممارسة التحيّل والمُضاربات اللا أخلاقيّة، بحثاً عن خلاصٍ فرديّ أو جماعيٍّ موهوم؛ من ثمَّ يسهلُ «استغفالهم» وتنشئتهم على إدمان الفساد والتأبّد في مربّعه، عن طريق الوصفات المسمومة التي يتقن الترويج لها أحفادُ «بُوجَادْ».
أين نعثر على شقيقِ انتظارنا أو «قرينِه»، في مجاهيل هذا البحر المتلاطم من «الانتظارات»؟
لدى «بيكيت» في «في انتظار غودو» الذي لن يجيء؟ لدى «بوتزاتي» في «صحراء التتار» حيث انتظارُ المستقبل ستارٌ يحجب الحاضر؟ لدى غيلان المسعدي الذي عاش حياتَه بين قوسين من الانتظار: انتظار بناء «السدّ» وانتظار انهياره؟ لدى نجيب محفوظ في «الحرافيش» حيث نقرأ: «الانتظار محنة… في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موتَه»؟ في رواية كمال الزغباني، حيث نرى اليوميَّ يتجرّد من أقنعته وزيفه، فإذا الناس يعيشون ضُروباً من الموت المؤجّل «في انتظار الحياة»؟ في سُباتِ المجموعة التي هربت من الاضطهاد في قصّة «أهل الكهف» كأنّها نامت (أو أنِيمَت) في انتظار أن يتغيّر العالم؟ هل كان سُباتُ أهل الكهف انتظاراً أم إنظاراً؟ وهَبْ أنّه كان انتظاراً، هل ظلّت أمامنا مبرّرات معقولة بعد كلّ هذه القرون من المراوحة في المكان والزمان، كي نرضَى بالانتظار «مهرَّباً»؟
في وسعنا، من ناحيةٍ أخرى، أن ننظر إلى «الموقف من الانتظار» بوصفه علامةً محوريّة، فاصلة، تشير إلى انتقالنا، نظريّاً وعمَليّاً، من زمنٍ إلى آخر: من زمن البطء إلى زمن السرعة. من زمن التأمُّل إلى زمن التعجُّل. من زمن العمق إلى زمن السطح. من زمن التحصيل إلى زمن الخَطْف. من زمن الحرص على مواكبة «الخطوة الموسيقيّة» إلى زمن «الجري أسرع من الموسيقى»، حتى لو آل ذلك إلى نَشاز.

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي (تونس)

نحن، في هذا الزمن الجديد، محكومون بشروط الواقع الافتراضي وإيقاعه السيبراني. أوْهَمَتْنَا سماتُ هذا التحوّل بامِّحاء الفوارق بين الفضاء الواقعيّ ومخلوقاته، والفضاء الرقميّ وكائناته، حتى كاد يُخَيّلُ إلينا ألاَّ أحد يتحرّك، اليوم، إلاّ وفق «خوارزميّات»، وبات من الجائز الزعم، مع حفظ المقامات واحترام الاستثناءات، أنّنا انتقلنا من ثقافة الحفر في المعرفة والخبرة، إلى ثقافة النقر السطحيّ على العناوين أو الشذرات.
تأسّس «الزمن الأوّل» على منظومة قيميّة قريبةٍ من دعوةِ «سبينوزا» إلى أن «نحبّ الضرورة». منظومة محورُها «الإنتاج»، والإنتاج محكومٌ بمسافةٍ ضروريّة من الانتظار، ريثما يحصل ما لابدّ منه: هطول المطر بعد غياب. هدوء البحر بعد غضب. وفرة الحصاد بعد البذر. ثمرة التعلّم والعمل. تجلّي أمارات النضج واكتساب الخبرة. تأكيد ضمان الكفاءة والاستحقاق…
ثمّ انخرط «الزمن الثاني» في عقيدة «الاستهلاك السريع»، فلم يعد الانتظار قيمة، بل صار «حَجَرَ عثْرة» وعلامةً دالّة على «القدامة» وعلى (has been). شيئاً فشيئاً، تمّ تدمير قِيَم العمل، والتعلّم، والكفاءة، وحلّت محلّها «ذهنيّةُ الغنيمة» وشعاراتُ «الوثوب» و«الركوب» و«اغتنام الفرصة» و«الإغارة» و«حرْق المراحل» و«تَعلُّم الحِجامة في رؤوس اليتامى»!!.
تمّ إيهام الشباب بأنّ كلّ شيء ممكنٌ فوراً و«توّاً» في تأويل رديء لقول الشاعر: «وفاز باللذّة الجسور»!
ولماذا تنتظرُ أن تَعْلَمَ أو أن تتعلّمَ، ما دامت «المعلومة» متاحةً سهلة المنال؟! لماذا تنتظر أن تعرف أو أن تفكّر، ما دمتَ تستطيع- بفضل «نقرة واحدة» على لوح المفاتيح- أن تعثر على من يفكّرُ لكَ أو يعرف عوضاً عنك؟! لِمَ الانتظار، ما دام في وسعك أن «تفتح صندوقاً» في برنامج تلفزيونيّ كي «تغنم» سيّارةً أو منزلاً، و كي «تربح المليون»؟! ولماذا تنتظر، وفي وسعك- بمجرّد الصراخ و«الديغاجيزم» والعنف- أن تحصل، بسرعة، على كلّ ما ترغب في ابتزازه: الثروة، والشهرة، والمنصب، والاعتراف؟!
ليس من شكٍّ، طبْعاً، في أنّ للكثير ممّا تحقّق في هذا الزمن الجديد منافع حقيقيّة وجوانب إيجابيّة. لقد أتاحت لنا التكنولوجيا الحديثة الكثير من أدوات اختزال المكان واختصار الزمن، وبات في وسعنا تسريع الإيقاع والتقليص من «مدّة الانتظار» في كلّ الاتّجاهات: عند السفر. عند التواصل. عند التعبير. عند البحث والتنقيب في مكتبات «بابل» المفتوحة.
لكن ليس من الهيّن إلغاء الانتظار من حياتنا، بشكل كامل، و- تحديداً- ذلك «الانتظار الفعّال» الذي لا تنضج من دونه ثمرة. ولعلّنا لا نبالغ حين نزعم أنّ كلّ محاولةٍ للالتفاف على هذا النوع من الانتظار، هي محاولة لإلغاء جزء جوهريّ من إنسانيّتنا، من خلال الرغبة في إرغام الحياة على «الاستجابة الفوريّة» لكلّ شهوة أو رغبة طارئة، وتلك سمة الأطفال الذين أفسدهم أولياؤهم، وأنشؤوهم على وضعيّة «العالَة المُدَلّل».
إنّ من شأن هذا النوع من الاستجابة أن يخرج بنا (غافلين أو متغافلين) من دائرة الوعي النقديّ والعقل المبدع إلى نوع من «الذهنيّة السحريّة» التي هي تنويعٌ على فكرة «عفريت المصباح» الذي يحقّق لك ما تتمنّى، ما إن تفرك نحاسه، بينما الزمن متجمّدٌ في المكان، فارغ مهما امتلأ، خالٍ في انتظار أن يعمّره «الشيء» أو «الشخص» أو «العفريت» المُنتَظر.
إنّ من شأن إلغاء الانتظار (بهذا المعنى) أن يقتُل فينا ما يُسمّيه برغسون «الديمومة الخلاّقة» (la durée créatrice)، تلك التي لا مناصَ منها إذا أردْنَا الإبداع. الانتظار هنا ليس «تأجيلاً»، بل هو عمل وإعداد، لابدّ منهما لتحقيق النجاح في كلّ مجال. نحن هنا أمام معادلةٍ خيميائيّة شديدة الدقّة، لأنّ من شأن كلّ انتظارٍ أطوَلَ ممّا يجب، وكلّ انتظارٍ أقلّ ممّا يجب، أن يؤدّيا إلى النتيجة نفسها: الفشل الذريع. وليس في وسعنا (أفراداً وجماعات) أن نصنع أيّ تغيير حقيقيّ على إثْر «ضغطة زرّ» أو وثبة خاطفة. علينا أن نتغيّر كي نغيّر. وهذا يتطلّب «إنضاجاً للذات» بالتوازي مع نضوج الظروف الموضوعيّة. ذاك هو «الانتظار الفعّال» الذي لا يحدثُ شيءٌ في غيابه، إلاّ كان «انفعالاً» غير محسوب العواقب، أو فقاعةً تاريخيّة، أي حدَثاً سطحيّاً عابراً سريعَ الزوال يسهلُ الانقلابُ عليه وتحويلُه إلى نقيضه.
لا نعدمُ صدًى لمثل هذا الإدراك في الوجدان الشعبيّ العامّ. تقول الحكمة الشعبيةُ التونسيّة، على سبيل المثال: «اللي يستنَّى خِيرْ من اللّي يتمنَّى»، في إشارة إلى تفضيل الانتظار على التمنّي. عبارةٌ دالّةٌ على أنّ العقل والوجدان «الشعبيَّيْن» يدركانِ أنّ الانتظار بناءً على جهْدٍ أو وَعْدٍ معلومٍ، خيرٌ من الانتظار بناءً على احتمالٍ مجهول، وأنّ المعلوم الممكن أقرب من المجهول المحتمل. إلاّ أنّ هذا «الإدراك» لم يتحوّل، بعدُ، إلى «براكسيس».
لقد جرّبنا، طويلاً وعبثاً، تأجيل عمل اليوم إلى ما بعد الغد، وانتظار ضربة الحظّ والفرَج بعد الشدّة، وانتظار عودة الابن الضالّ وانبعاث الفينيق من رماده، وانتظار المخلّص المُختار، وعبّرنا، مِراراً وتكراراً، في مختلف مراحل تاريخنا، عن إدراكِنَا ضرورةَ تأثيث الانتظار بالعمل. فماذا ننتظر، حتّى الآن، لكي نترجم ذاك الإدراك إلى قولٍ وفِعْل، وكي ننهض، حقّاً، وكي نجرّب الانتظار الفعّال؛ أي كي نضع حدّاً لرحلة «إنساننا» المحتار، بين غواية حَرْق المراحل وغواية تأثيث الانتظار بالانتظار؟

المِسْترال والحَجْر

إحساس غريب، مثير، يملؤني ويستحوذ على مشاعري وأنا أشاهد وألمس هوْجة المِسترال، تلك الريح الشمالية العنيفة الباردة، الجافّة، التي تهبّ على مناطق فرنسا القريبة من البحر الأبيض المتوسط. حين تهبّ، أجدني أتابع ما تفعله بالأشجار، إذْ تخضّها خضّاً وتنفضها من جذورها فتسري الرعشة في عروقها وأغصانها مُحدثةً ما يُشبهُ كورالاً يَعزفه حفيفُ الأشجار على اختلاف قاماتها وألوانها. هل تلك اللحظات التي يعصف خلالها المِسترال هي بمثابة تجذير لها في أعماق التربة ليجعلها تقاوم كلّ اقتلاع؟ آهٍ من الاقتلاع الذي يُلاحقني شبحُه في لحظاتِ الملالة والخمود فأتمنَّى، وأنا أسترجع مشهد الأشجار وهي ترجفُ في قبضة المِسترال، أنْ أغدوَ مثلها: تخضُّني الريح العاتية فتُشعل دواخلي وتُعرّيني من كلّ لبوس كي أقدر على التواصل مع ما يجعلني «حقيقياً» وسط هذا الكون المُلتبس، المُضطرب. لديّ إحساسٌ غامض، كلّما زار المِسترالُ هذا الفضاء المُحاط بالأشجار، الذي أسكنُه، أن النفض الذي يُمارسه على الأشجار هو في الآن نفسه نفْضٌ لجسدي وأفكاري وأحلامي المكرورة… عندئذ أبادر إلى إغماض العيْنيْن واستنشاق الريح الشمالية العنيفة بكُلّ جوارحي، مُستسلماً لِهُبوبها علّهُ ينقلني إلى تلك المنطقة المُتمنِّعة، حيث تكون الحياةُ أكثر من حياةٍ واحدة، أكثر من أحداثٍ ووقائع وطقوسٍ مُعتادة: حياة تشمل الجسد والنفس والذاكرة وتُحصنُ الكيان البشريّ من كلِّ تجزيء…

مع الأيام، غدوتُ أترقَّب زيارات المِسترال الذي يطردُ المطر والغمام والدّكنة التي ترينُ على الخاطر وتنشر الكآبة والخمولَ. والجميل في هذا اللقاء مع الريح الشمالية هو أن زمن نفْض الأشجار وتحريك العُشب يدوم ساعاتٍ وساعات فيغدو هذا الجزءُ من الطبيعة مكسُواً بدينامية تنفث الحركة وتنشر عالياً صوت الرياح وهي تخترق الأغصانَ والفجوات وتنفذ إلى كلِّ فضاءٍ غير مُحصّن. وعندما يتعب المِسترال أو يعود إلى مستقرّ لهُ مجهول لديّ، تكتسي الطبيعة، أرضاً وسماءً، حُلة الصّحو والإشراق والنصاعة الناطقة. عندئذٍ أغوص في النصاعة المُطمئِنة وأجدِّد تدريجاً، ما ينقصني من أوْهامٍ وتطلّعاتٍ لمُتابعة الأيام والليالي في انتظار ذلك المُستقبل الغامض علّهُ يُبدِّد الفسولة والكوابيس والقنوطَ… لكنْ، سرعان ما أجدُني تحت شجرة التوت الوارفة مُتطلِّعاً إلى هبوب المِسترال لينفضَ عني ما تراكمَ على الجسد والعقل والنفس من أدرانٍ ومن تساؤلاتٍ عن الصدفة الكامنة وراء وجودي نطفة حائرة أخذتْ تنمو وتواجه لُغزيّة الحياة من دون أن تدري شيئاً عن مآلِ صيرورتها.

مع الحَجْر الذي فرضه وباء كورونا، صرتُ أتوهَّمُ أن إحساسي زادَ بأنني أعيش مفصولاً عن أشياء كانت تمنحني طمأنينةَ الانتماء والانصهار والتآلف مع ما يُحيط بي. لم أعد أعرف مَنْ أنا، أو بتعبيرٍ أدقّ، العيشُ قريباً من بالوعة الجَائِحة هو ما أنساني مَنْ أكون؟

أقول مع نفسي: مَنْ يدري؟ لعَلّ المِسترال في مرّةٍ قادمة، وهو ينفض الأشجار، يتمكَّنُ من النفاذ إلى أوصالي الشائِخة، الناعسة، الخائِفة، فينفض عنها الخمول ويُحصِّنُها ضد الجَائِحة، ويزرع في جنباتها تلك البِذرة التي تجعل من حياتي أكثر من حياة؟

مارجريت ديراسْ والكتابة

أقرأ هذه الأيام كتاب «الصديقة «(L’Amie) الذي كتبتْه الراحلة «ميشيل مونسو» سنة 1997، مستفيدةً من صداقتها الحميمة مع الكاتِبة المُتميِّزة «مارجريت ديراسْ» التي كانت تسكن أيضاً بالقرب منها في بلدة «نوفل-لوشاتو». والكتاب عبارة عن حوار طويل تتناول أسئلتُه الحياة الخاصّة والتجارب الحميمة للكاتِبة وأيضاً بعض القضايا المُجتمعية. لكن المحور الجوهريّ ينصبّ على علاقة «مارجريتْ» بالأدب والكتابة. وتوضِّح «ميشيل» أنها أعطت الأسبقية في هذا الحوار لما كانت «مارجريتْ» تتفوَّهُ به خلال لقاءاتهما العديدة بحكم الجوار وألفة الصداقة. واللافت في تلك الأقوال والتعليقات أنها تشتمل على نفوذ البصيرة وسداد الرأي؛ ومن ثَمَّ حرصتْ على تسجيلها وإيرادها كما هي. وبالنسبة لي، أثار انتباهي المكانة الخاصّة التي احتلتْها الكتابة في حياة «ديراسْ» وجعلتْها تكرِّس كلَّ أوقاتها لمُمارستها؛ بلْ أصبحتْ أداةَ علاج لمُشكلات حياتها العاطفيّة. تقول «مارجريت» عن أهمِّية الكتابة بالنسبة إليها: «ميّتة، أستطيعُ بَعْدُ أن أكتب». هذا منتهى الشغف بالكتابة. وهي تشرحه على النحو التالي: «اكتشفتُ أن الكِتاب هو أنا. وموضوعُ الكِتاب هو الكِتابة، والكِتابة هي أنا». وخلال الحوار تؤكِّد «مارجريت» على أن الكِتابة هي أساس المُقارنة والتمييز بين الكُتَّاب، مُلاحظة أن «جان بولْ سارتر»، مثلاً، ليس كاتِباً في نظرها. وهذا رأي سبق أن سمعتُه من «جانْ جونيه» في الرباط حين سألتُه عن رأيه في الكتاب الضخم الذي نشره «سارتر» عن «فلوبير» بعنوان «عبيط العائلة»، فقال لي ما معناه: «سارتر» ليس كاتِباً ولذلك هو يحقد على «فلوبير» ويريد أن يحطِّمه من خلال التأويل الأيديولوجيّ! ونظراً للأهمِّية التي تُوليها «مارجريت» للكتابة، حاولتْ مؤلِّفة الكتاب/ الحوار أن تتساءل عن العنصر الذي يجعل النُقَّاد في فرنسا يعتبرون صديقتها كاتِبةً متميِّزة: هل هو استيحاؤها للذات في تقلُّباتها وحميميّتها؟ أم يعود ذلك إلى لغتها المُتدفِّقة النابعة من مشاعر دفينة وطاقة عاطفية لا تنضب؟

خلال تأمُّلي في خواطر هذا الحوار الخصب، وجدتُ بالفعل، أنه في عالمنا الضّاجّ بالمعلومات والإحصائيات المُتناسلة والأكاذيب المُجاورة للحقائق، يصبح الأهمّ بالنسبة للكاتِب والروائي والشاعر، هو أن يقدِّم شيئاً خاصّاً، حميمياً يُلامس جوانب مهملة لكنها تستثير انفعالات إنسانية تتخطَّى الظاهر لتغوص في اللامرئي، وتعبُر من الخاص إلى شيءٍ أشمل، دون أن تفرِّط في الجانب الحميمي الذي يفسح المجال لخصوصية اللّغة وفرادة صور الذاكرة… لكنْ، عندما تجعل «مارجريت» الكتابة مُعادلاً لـ«الأنا»، يحقّ لنا أن نتساءل كيف تحدِّد هي الأنا وكيف تستخلصها ممّا ليستْ هي؟ إنها تجعل المقياس هو الاحتكام إلى الإحساس الذاتي في مواجهة العَالَم الخارجيّ لالتقاطِ ما يترسَّبُ في نفوسنا وذاكرتنا من تجارب الحياة وتفاصيل العلاقات مع الآخرين.. غير أن «الأنا»، مع جميع الافتراضات، ليست كتلة منفصلة عمّا حولها ولها كيانٌ يسهل التعرُّف عليه من لدُنِ الآخرين. مع ذلك، أرى أنه عندما يقول المُبدع: الكتابة هي أنا، على غرار ما قالته «ديراس»، فإنه يكون محقّاً على رغم أن العبارة يكسوها التعميم والالتباس ولا تحيلنا على شيءٍ ملموس. ذلك أن «الأنا» هي مربط الفرَس، لأنّ الإبداع عموماً يتمايَزُ من خلال تمايُز الأنوات المُبدعة، انطلاقاً من مُكوِّناتها الجينيّة والبيئيّة ووصولاً إلى جماع تفاعلاتها مع العصر الذي عاشت فيه، والسياق الذي أثَّر في تكوين رؤية الأنا إلى نفسها وإلى الكوْن والآخرين ضمن شروط لا تخلو من جِدالٍ وصراع… لذلك، إذا قال الكاتِب: الكتابة هي أنا، علينا ألّا نسلِّم بأنّ تلك الأنا قائمة من دون امتدادات وتشابكات مع الآخر ومع المُحيط المُتشابك مع مجرى العَالَم. من الصعب أن نسلِّم بأنّ الأنا كيانٌ ذاتيُ الوجود يجسِّد العَالَم ويختصره، وكأنه يستمدّ هذه التمثيلية من سرّ ربّانيّ أو سليقة موروثة. لا مناص، إذن، من أن نتخذ ما تعبِّر عنه «أنا» الكاتب مِقفزاً يسعفنا على تبيُّنِ تفاعلاتها مع الموروث والمُكتسب، مع المعيش والمُلقن… وفي جميع الحالات، يظلّ القارئ والناقِد في حيْرة عند تقييمهما لكتابات المُبدعين، إذْ ليس من السهل تحديد دور «قواعد الفَنّ» ودور عبقرية «أنا» الكاتِب أو موهبته في احتواء الكتابة لتصبح معادلاً لأناه.

بذْلة الغوّاص

فقدانُ القدرةِ على الاختيار هو الذي يصنع القيدَ والسجنَ. وهو الذي منحَ «الحَجْرَ» بسبب الكورونا مذاقَه القياميّ. لقد أُكْرِهْنا على لزومِ البيت فكدنا نكرهُ مَا لو كنّا مُخَيَّرينَ ما غادرناه. بل إنّي كنتُ قد فقدتُ شهِيّةَ السفر وأوشكتُ على الاعتكاف في بيتي، قبل أن يضطرّني الحَجْرُ الصحيّ إلى لزوم البيت والبلد، فإذا أنا أحنُّ إلى الشوارع والمطارات من جديد، ولا أفتقدُ شيئًا كما أفتقدُ حرّيّتي في التعامُل مع المكان.

خُيِّلَ إليّ للحظةٍ أنّنا جميعًا أبطال «بذلة الغوص والفراشة» لجون دومينيك بوبي. لَوْلاَ أنّ بذلة الغوص التي نرتطم بجنباتها ليست بحجم جسد، بل هي بحجم بلد، وربّما بحجم الكرة الأرضيّة. ولَوْلاَ أنّ اشتراكنا جميعًا في الرقص الهيستيريّ داخل البذلة نفسها، لا يُلغي شيئًا من البونِ الشاسع بين الراقص على الحرير والراقص على المسامير.

لم أنتظر هذا الكِتاب كي أكتشف استعارةَ بذلة الغوص، ولم أهْتَدِ إليها بفضل «الحَجْر»، فأنا مدينٌ بها إلى طفولتي الأولى، حين كان الوالد يُطيل التعزير والتوبيخ لأقلّ خطأ، فأتمنّى أن تبتلعني الأرضُ فيما هو يوبِّخ ويعزِّر. استعصت الأرضُ فشرعتُ أتدرَّب على حياكة نوعٍ مجازيّ من «طاقيّة الإخفاء» ألوذ بها وأنا في مكاني فلا أسمع ما أكره. أطلقت عليها في البداية اسم البئر، ثمّ سمّيتها الداموس قبل أن أختار لها اسم بذْلة الغوَّاص. 

شيئًا فشيئًا أصبحت تلك البذلة سلاحي السريّ في وجه الزحمة والعزلة. أتفنّن في تأثيثها بما أريد وبمَنْ أريد، وأرتديها في كلّ فضاءاتِ الثرثرة الخرقاء والغباء المُتطاوس، كما أرتديها في لحظاتِ العُزلة، فإذا أنا في مكاني كيفما كان المكان ومهما كان الجليس. تعلّمتُ ذلك من المقاهي تحديدًا.

ليس من شكٍّ في أنّ «الحَصْرَ» مُنشِّطٌ للخيال. وليس من شكٍّ في أنّ أيّام الحَجْر كانت مؤاتيةً للسفر في الكُتب، والفضائيّات مُغرِيةً بالتواصل عبر الهواتف، والشاشات محفّزةً على السباحة في صفحات البحر الرقميّ الأزرق. لكن أين تلك الوسائط كلُّها من عَبَقِ الحقائب وهدير القطارات وأزيز الطائرات وحركة المسافرين والمارّة وروائح الأماكن الأليفة أو الجديدة، وأنت تلتقي أصدقاءك وصديقاتك وجهًا لوجه ويدًا في يدٍ وكتفًا إلى كتف ودفْئًا لدفء؟ بل أين تلك الوسائط كلّها من المقهى؟ 

لذلك لم أستسلم لإكراهات «الحَجْر» على الرغم من التزامي بها. كنت أرتدي بذلة الغوص في الوقت الذي أختار، وأقصد واحدة من مقاهيّ المُفضّلة، لا كمكانٍ، بل كحضنٍ شبيهٍ بذراعَيْ حبيبٍ، وصَدْرِ صديقٍ، ودفّتَيْ كتابٍ، وبابِ بيت. لا يهمّ أن يكون في قبلّي وقفصة، أو في باب الجديد، وباب سويقة. في قليبية، أو في المنستير. في القاهرة أو في باريس.

منذُ ثمانينيات القرن العشرين وأنا أجوب مدن تونس وقُراها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. منذ نهاية التسعينيات وأنا أسافر في القارّات الخمس ضيفًا على تظاهرات الشعر. لا أغادر مكانًا إلّا ولَدَيَّ فيه مقهى. 

لعبت المقاهي الشعبيّة في البداية دور الملاذ أو الملجأ. احتميتُ بها مع أبناء جيلي لقِلّة ذات اليد وضيق الفضاءات وتحدّيًا للرقباء. هناك كُنّا نتدرَّب على توقّي الضربات. نكتشف طبقات مجتمعنا من القمّة إلى القاع. ننصت إلى ما يحتدم في باطنه. نُلقِي الشعر ونتحاور في السياسة. نتلقّى دروسنا الابتدائيّة في علم الاجتماع والاقتصاد. نُعِدُّ للتظاهراتِ والمُظاهرات. 

ثمّ تطوَّرت علاقتنا بالمقاهي فإذا هي تلعب في حياتنا الدَّوْرَ الذي فرَّطت فيه المُؤسّسة التربويّة الرسميّة. دَوْر التربية عن طريق اللعب. صارت المقاهي ملاعِبنا المرحة ومكتباتنا المفتوحة على الجديد المُختلف. دُورَنا الثقافيّة الأكثر حيويّةً وحرّيّةً إلى جانب الفضاءات الجامعيّة والنقابيّة والحُقوقيّة. فيها عرفتُ أغلب أصدقائي. طالعتُ أجمل كُتبي. كتبتُ معظَمَ نصوصي. درَّبتُ عَضَلاتي الفكريّة الأولى على المُحادثة والجدل. خضتُ أولى معاركي النقابيّة والسياسيّة. 

ثمّ سرعان ما منحتنا المقاهي رحابةَ صدرٍ افتقدناها في البيت أو في الأسرة. فيها حظيتُ بأذنٍ صاغية ساعدتني على مواجهة همومي العاطفيّة الأولى. فيها وجدتُ المكان الذي يستر الوجه حين احتجتُ إلى دعوة ضيوف تونس. وظللتُ حتى اليوم آخذ إليها كلَّ مَنْ لا أريد له أن يتوقّف عند «البطاقة البريديّة». وفيهم مَنْ هو معروف حتى لدى غير المعنيّين بالثقافة. لكنّ زبائن المقاهي الشعبيّة يعرفون قيمة «مسافة الأمان»، ويحفظونَ للمقاهى إيطيقاها وإستطيقاها. 

شيئًا فشيئًا أصبح للمقهى دورٌ أكبر وأشمل. لم تعد مكانًا لقتل الوقت أو للبطالة. إنّها مكان للعمل أيضًا، أو لنقل إنّه مكانٌ يُعيد تعريف العمل، قريبًا ممّا ذهب إليه برتراند راسل سنة 1932 في كتابٍ نُقِلَ إلى العربيّة بعنوان «مديح البطالة» أو «مديح الفراغ»، وأُفضّل ترجمته إلى «مديح العطلة». 

نصٌّ ظللتُ أستحضره عند كلِّ «أزمةٍ اجتماعيّة» منذ اطّلعتُ عليه في طبعته الفرنسيّة سنة 2002. وتتمثّل أطروحتُه الرئيسيّة في أنّ العمل المهووس بالمردوديّة والربح طريقٌ إلى العبوديّة، لذلك لابدّ من النظرِ إلى العطلة بوصفها «عملاً» متحرِّرًا من ثقافة الربح، يُعيد الاعتبار إلى ما هو «بلا فائدة» في نظر السيستام: الإبداع، التفكير، العدل، التسامح، إنصاف المرأة، حماية الطفل، احترام البيئة…

لم أعد أجد ضيرًا في الانتساب إلى المقاهي بهذا المعنى. لا كمكانٍ «أقتل فيه الوقت»، أو أهرب إليه من الشارع، أو أنعزل فيه عن النّاس، بل ككوّةٍ مفتوحة على التفاصيل. كمنصّةِ انطلاق إلى أعماقِ البلاد والعباد. كمنفذٍ إلى أعماقي. 

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي

أمسك بمعمارها وأصواتها وروائحها كأنّي أمسك بمعصم أجسّ فيه نبض بلادي ونبضَ العَالَم. أغطس في دخانها وعرَقِها كأنّي أغتسل في موسيقى أوجاع الناس ومسرَّاتهم. مبتهجًا باكتسابي الحقّ في الاستماع يوميًّا إلى أوركستراها العفويّة. أوركسترا من كلِّ الطبقات والمشارب، تجتمع لتعزف بلا قائدٍ سولوهات، تُبدع تناغُمَها من تنافُرِها، فتصنع طربًا ساحرًا يترجم الغُربةَ إلى ألفة، والبردَ إلى دفء.

شيئًا فشيئًا تعلّمتُ فنّ «الغوص» في الضجّة والكثرة. قد يقترب منّي النادل يكاد يلصق فمه بأذني ليسأل إنْ كنتُ أريد شيئًا آخرَ بينما أنا «في عالمي» بعيدَ القرب قريبَ البُعد. وقد تشتدُّ النشوة بلاعبي الورق فيضرب أحدهم على الطاولة بقدمه، ويقابله الآخر بالشتيمة المقذعة، ويعلو الصراخ، ويمسك كلٌّ بخناقِ صاحبه، وأنا على بُعد مترٍ لا أشعر بشيء. حتّى إذا أفرغ المُتخاصمون ما في جعبتهم، وعادوا إلى اللعب وضع أحدهم يده على كتفي يعتذر، وما أكثر ما يفعلون، فإذا أنا أهتزّ للمسته، وما كنتُ قد شعرتُ بشيءٍ ممّا حدث. 

تلك السنواتُ، بل العقودُ منحت المقاهي مكانةً محوريّة في حياتي. انسلختُ من بذلة الغوص الأولى، وارتميتُ في «عجقتها» ودخانها وحكايات زبائنها وموسيقى حياتها المُثخنة بالجراح والأحلام. ألفتُ زحْمتها ولم يعد في وسعي «التركيز» بعيدًا عن صخبها. فما العمل بعد أن أصبحتُ زوجًا وأبًا «مسؤولاً»؟! ما العمل كي أزرع صخب المقهى في البيت؟! 

قد يبدو الأمر غريبًا على مَنْ يحتاج إلى الصمت والهدوء كي يكتب أو يقرأ، فهو لم يعش ما عشت، ولم يدمن ما أدمنت. أمّا أنا فالصمتُ والهدوء يصرخان في داخلي بما لا يسمح لي بالإنصات إلى العالم، وإلى نفسي، وإلى الكلمات وهي تناديني أو تستجيب إلى ندائي. 

لذلك دأبْتُ منذ سنواتٍ طويلة على فتح الراديو والتليفزيون في البيت طلبًا للضجّة. كانت تلك طريقتي الوحيدة لزراعة المقهى في البيت كي أستطيع القراءة والكتابة. فأنا في حاجةٍ إلى إعادة إنتاج وقْعِ المقاهي وإيقاعها، بعْدَ أن تحوَّلَ صخبُها إلى «سترة أمان» لا غِنًى لي عنها في حربي مع الكلمات. 

ولعَلّي لم أفتقد شيئًا خلال هذا الحَجْر مثلما افتقدتُ مقاهيّ وجلسائي. حتّى حين كنّا لا نتبادل كلمةً واحدةً، بل يجلس كلٌّ إلى كتابِه أو أوراقِه. بينما يمتلئ الهواء من حولنا بحوارٍ من نوعٍ خاصّ لا يفكُّ شفرته إلّا المُختارون. 

هكذا عرَفَتْ المقاهي نقلتها الأخيرة في حياتي. أصبحتْ هي بذلة الغوّاص التي تمكّنني من الغطس دون أن أغرَق. تفصلني عمّا حولى دون أن تقطع صلتي بأحد. تتيح لى أن أكونَ منفردًا في العدد، وحيدًا مع الجميع، منعزلاً في الزحمة. 

شيئًا فشيئًا تحوَّلتُ إلى فراشة حديقتُها المقهى، كدتُ أقولُ شَرْنَقَتُها المقهى. فأنا هناك داخل شرْنقةٍ حقًّا. شفَّافة ومتحرِّكة. تحيط بي كالقماط. كالقوقعة. كبذلة الغوّاص، بل هي بذلة غوّاصٍ بكلّ ما تملك العبارةُ من دلالةٍ بالنسبة إلى كَاتِب.

هل الكَاتِبُ إلّا غوّاصٌ؟ هل الكِتابَة إلّا فنّ الغوص في الذات بوصفها شرخًا في المكان والزمان؟

المُثقّف الحُرّ ضمير المُجتمع

أنهيت حديث الذكريات في مقال الشهر الماضي بالكشف عن أن قراءتي المُتأخرة لكتاب محمود أمين العالم (فلسفة المُصادفة) قادتني إلى تمحيص معنى تلك المُصادفة التي غيَّرت حياتي، حينما أتاحت لي السفر إلى أوروبا. ذلك لأن تعريفه للمُصادفة باعتبارها «التقاء غير متوقع بين سلسلتين مستقلتين من الظواهر، يولد حادثاً قد يبدو وكأنه مصادفة عشوائيّة»، هو الذي قادني لاكتشاف أن هذا السفر كان ابن تلك السلسلة المُستقلة، ونمط توقعاتها العقليّة النزيهة، التي أرساها طه حسين وجيل الاستنارة المصريّ الأول، في ممارسات الدولة من ناحيةٍ، وفي أفق توقعات المواطن من ناحيةٍ أخرى. 

لأن تأمُل عجائب تلك السفرة يدفعني لتأمُل العلاقة المأساوية بين تلك السلسلة العقلانية التي أسسها طه حسين وجيله، وأنتجت لنا الكثير من علامات الاستنارة، وكان هو نفسه أحد أبرز نتائجها؛ وتلك السلسلة الشائهة المُختلة التي وطد أركانها الفاسدة حكم العسكر، منذ زمن عبدالناصر، رغم أهمِّية إنجازاته في مجالاتٍ أخرى، ودمّر عبرها كلّ ما حقّقته مصر في مسيرتها مع العقل والعدل والحرّيّة.

والواقع أن حديث تلك المُصادفة التي تبدو الآن على ضوء هذا الفهم العميق للمُصادفة واقعة موضوعية تضيء لنا الكثير مما جرى من مياه تحت جسر التجربة التي عشتها في مصر. فقد كان جيل طه حسين، والجيل الذي تتلمذ على يديه- ولنسمه جيل توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ- والجيل التالي لذلك – جيل يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وعبدالرحمن الشرقاوي- وصولاً إلى جيل الخمسينيّات- جيل صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ورجاء النقاش وسليمان فياض وصبري موسى وغيرهم-؛ كانت هذه الأجيال جميعاً قد تربّت في نظام التعليم المصريّ الذي كانت تقع على رأسه جامعة القاهرة (1908) واكتمل بتأسيس جامعة الإسكندرية التي أنشأها وأدارها طه حسين عام 1942. وحينما وفد جيلنا إلى الساحة الثقافيّة مع مطالع الستينيّات، كانت القيم الثقافيّة والفكريّة والضميريّة التي أرستها هذه الأجيال المتتالية -قيم الاستقلال الوطنيّ، والاستنارة والعدل والحرّيّة- هي القيم السائدة.

وكان شعار طه حسين عن ضرورة أن يكون حقّ الإنسان في التعليم كحقّه في الماء والهواء، أمراً مُسلَّماً به. فقد وضعه بنفسه على سُلَّم التنفيذ، حينما دفع حكومة الوفد في بداية الأربعينيّات لإصدار قانون التعليم الإلزاميّ حتى عمر 12 سنة، ثم سَنَّ هو قانون مجانيّة التعليم الثانويّ، حينما أصبح وزيراً للمعارف في حكومة الوفد الأخيرة عام 1950. وكان أبناء جيلي- وخاصة الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى وما دونها من فلاحين أو عمال- من الذين استفادوا من قانون مجانية التعليم الثانويّ الذي سنَّه طه حسين عام 1951. حينما كان التعليم الثانويّ على مستوى عالٍ من الجودة والكفاءة العلميّة، ولم يكن سرطان ما يُسمَّى بـ«الدروس الخصوصيّة» قد التهم كل الخلايا السليمة في بنيته. 

والواقع أن نظام التعليم المصريّ الحديث الذي أرست قواعده النخبة التي يمثّلها جيل طه حسين هو ابن رؤية عقليّة ليبراليّة للعالم، تؤمن بحقِّ الإنسان في الحرّيّة والعدل والفرص المُتكافئة. وهي الرؤية التي رَادَت عملية التحديث المصريّة منذ الثورة العرابية 1881 وحتى ثورة 25 يناير 2011. وكان محمد عبده (1849 – 1905) وأحمد لطفي السيد (1872 – 1963) وطه حسين من بعدهما من أعمدة هذه الرؤية، خاصّة وأن لطفي السيد كان أوّل مدير حقيقيّ للجامعة المصريّة، ومن أعمدة سياستها التعليميّة التي كان الابتعاث إلى فرنسا، ثم إنجلترا من بعدها من أسس تكوين طاقمها التدريسيّ. وقد اكتسبت هذه الرؤية زخماً تاريخيّاً عبر التأكيد على الجذور الفرعونيّة لمصر كمكوِّن أساسيّ من مكوِّنات متخيَّل مصر الوطنيّ، ثم بلور طه حسين جُلَّ أبعاد تصوُّر هذا الجيل لمستقبلها في التقرير الشهير الذي كتبه عقب معاهدة 1936؛ والذي أصبح فيما بعد كتابه العلامة (مستقبل الثقافة في مصر) 1938، وهو كتاب يطرح على شباب مصر في المحلِّ الأوّل صورة هذا المستقبل، ويؤكِّد من البداية على ضرورة أن يرتبط بالانفتاح على كلّ ما جادت به ثقافات الضفة الأخرى للبحر المتوسط من اليونان وحتى فرنسا المُعاصِرة. 

ولا غرو فقد كان هو نفسه ابن الحوار الخصب بين الثقافة العربيّة الإسلاميّة من ناحيةٍ، والثقافة الغربيّة من ناحيةٍ أخرى. وكانت سلسلة التوقعات التي بنتها مسيرة ترسيخ ثقافة هذا الحوار في المُتخيَّل الوطنيّ المصريّ هي التي جعلتني في مطالع الشباب أحلم بالسفر إلى أوروبا، بل هي التي رقشت عدداً من تضاريس أوروبا وجغرافيّاها على خريطة معارفي الثقافيّة، منذ أن بدأ رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عياد الطنطاوي وأحمد فارس الشدياق كتابة تلك التضاريس في ذاكرتنا الثقافيّة في القرن التاسع عشر، واستمرّ من بعده في القرن العشرين محمد المويلحي وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس وفتحي غانم ويوسف إدريس، وصولاً إلى الطيب صالح وسليمان فياض. ولم يكن هذا الحلم حلماً فرديّاً، وإنما جزءٌ أساسيٌ من المُتخيَّل الثقافيّ السائد وقتها. فقد سبقني إلى السفر إلى أوروبا كثيرٌ من أبناء شباب جيلي من وحيد النقاش وعبدالرشيد المحمودي وجلال أمين، ولحق بي بهاء طاهر، ثم عبدالحكيم قاسم.

صبري حافظ

إذن كان سفري للغرب ابن تلك المسيرة التي كرستها في المُتخيَّل الوطنيّ والثقافيّ المصريّ أجيالُ الاستنارة المصريّة المُتتابعة، رغم أن تطوُّر السياسة المصريّة في ظلِّ حكم العسكر- الذي أمضيت فيه سنوات الصبا والشباب- كان قد أخذ مصر في طريقٍ آخر. وربّما تكون هذه المسيرة، وخاصّة في دربها اليساريّ والنقديّ، هي التي دفعت الكثيرين من أبناء جيلي- جيل الستينيّات المصريّ- للتحفُّظ مبكراً على توجُّهات حكم العسكر، والنضال ضد قمعه للحرّيّات واستبداده. وهي التي جعلتنا نفرُّ بأعمالنا للمنافي العربيّة في مطالع الشباب، حينما كان الخوف ينتشر مع الهواء في كلّ موقع، وكان كلّ شيء يخضع للرقابة العسكريّة الصارمة.

وهي نفسها القيم التي دفعت محمد مصطفى بدوي لأن يفعل ما يقرب من المُستحيل لتوفير سفرة لي لأوروبا، بعدما أخذ العبارة التي بعثت بها له في خطاب صديقه إدوار الخراط على محمل الجد، وانتهز فرصة اعتزام جامعة لندن تنظيم أول مؤتمر عن الأدب العربيّ الحديث، لدعوتي لهذا المؤتمر كممثل للجيل الجديد من النُقَّاد، فوفَّرت لي الجامعة تذكرة السفر. وقد أقنع مركز الشرق الأوسط بجامعته- جامعة أوكسفورد- بأن يستضيفني لفصلٍ دراسي، وهو ما وفَّر لي غرفة للإقامة فيها، ووجبات الطعام في الكلية، حيث لايزال النظام في تلك الجامعة، ومعها جامعة كامبريدج وحدهما، أقرب لنظام حياة الرهبان التقليديّة في العصور الوسطى؛ أو نظام الأروقة والجراية الذي كان متبعاً في الأزهر، حتى وفود حكم العسكر لمصر. كما طلب من «المجلس البريطانيّ» في مصر أن يرعى الزيارة، وأن يوفِّر لي مبلغاً رمزيّاً للنثريّات (pocket money). ووفَّر وقتها مئتين وخمسين جنيهاً للمصروفات النثريّة طوال الفصل الدراسيّ بأكمله. 

هكذا وفَّر لي محمد مصطفى بدوي، ومن ثلاثة مصادر مختلفة، تلك الدعوة التي اعتبرتها فرصةً نادرةً لن تعوَّض، وربّما لن تتكرَّر، فأخذت من عملي في مصر وقتها- وكنت أعمل في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب- إجازة للحدِّ الأقصى الذي كان متاحاً وقتها، وهي ستة أشهر- ثلاثة أشهر بأجر، وثلاثة أشهر بلا أجر- كي أمضي أكبر وقتٍ ممكن في أوروبا، وخططت لزيارة كلٍّ من ألمانيا وفرنسا عقب انتهاء الفصل الدراسيّ في أوكسفورد. 

وأثناء الشهور الثلاثة التي قضيتها في أوكسفورد ضيفاً على مركز الشرق الأوسط في «كلية سانت أنتوني» دعتني كلية الدراسات الشرقيّة والإفريقيّة بجامعة لندن لإلقاء محاضرة عن الرواية المصريّة في الستينيّات، كان لها وقعٌ طيب على دارسي المنطقة والمُهتمين بها فيها. ولما علم أحد الأساتذة- أثناء حديثنا على الغداء بعد المُحاضرة- برغبتي في الاستمرار في بريطانيا، ومواصلة الدراسة فيها، أخبرني أن هناك عدداً محدوداً من المنح الدراسيّة، تقدِّمها الكلية لطلاب ما وراء البحار، وهذا ينطبق عليَّ، لكن موعد التقدُّم لهذه المنح قد انتهى من أسبوعين. فقلت يا ليتني علمت قبل مجيئي بها، لكنت تقدَّمت لها، فقد أعددت ملفاً كاملاً للتقدُّم للدراسة للدكتوراه هنا قبل مجيئي، وكان بإمكاني أن أبعث به لكم في الموعد لو علمت. 

وكنت قد أعددت بالفعل قبل مغادرتي مصر ملفاً، لا يحتوي على مؤهلاتي الدراسيّة فحسب، ولكنه يضم أيضاً عدداً من خطابات التزكية من أساتذتي الذين درست عليهم في معهد الفنون المسرحيّة: وفي مقدِّمتهم لطيفة الزيات وشكري عياد وسامية أسعد. فسألني هل معك هذا الملف؟ فقلت نعم! فقال أعرف أن لجنة فحص الطلبات لم تبدأ عملها بعد، فتقدَّم به اليوم على الفور، وقلْ إنه نسخة من الملف الذي بعثت به من مصر قبل قدومك، ولم يصل، وسوف أرفق تأكيداً مني على رداءة البريد في مصر، وضياع الكثير من الرسائل فيه، كي يُدرَج مع غيره من الطلبات، وهو يردف ذلك بتعبير إنجليزي شهير (no harm in trying) لا ضرر من المُحاولة، صار نبراساً لحركتي في بريطانيا فيما بعد، ففعلت! وعندما انصرفت من عنده كان شاغلي الأول كيف أن كلَّ من التقيت بهم في بريطانيا لا يدَّخرون الجهد في مساعدتي على الدرس والتقدُّم، بينما كان الكثيرون في مصر يحرصون على عرقلة كلّ جهدٍ من أجل التقدُّم.

وفعلاً وأثناء إقامتي في أوكسفورد استُدعيت للقاء لجنة الاختيار، وبعد أسابيع قليلة جاءتني رسالة مفرحة بأنني حصلت على منحة مجلس إدارة الكلية، هكذا كان اسمها، للدراسة للدكتوراه لمدة ثلاث سنوات، وقيمتها تسعة وخمسون جنيهاً في الشهر، فضلاً عن إعفائي من مصاريف الدراسة بالكلية. وبدلاً من الشهور الستة التي خططت لأن تكون هي كلّ رحلتي إلى أوروبا، لم أعد لمصر إلّا بعد سنوات ست ونيف.

لذلك حينما حلَّ الخريف التالي، موعدي السنوي لزيارة بيت طه حسين، كنت لازلت في بريطانيا، أبدأ الدراسة للدكتوراه في جامعة لندن، جاء خبر رحيل طه حسين في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو الرحيل الذي يبدو أنه جاء في موعده الدقيق مع الزمن، بعد أن حقّقت الأجيال التي كرّس طه حسين حقها في التعليم معجزة العبور الضخمة في الأيام الأولى لحرب أكتوبر، وقبل أن تتكشف الثغرة عمّا تكشفت عنه من مآسٍ جرَّت مصر بعدها إلى الهوان، وتكريس الهزيمة، والتفريط، في كامب ديفيد، فيما تحقّق من استقلالها الوطنيّ. فقد كان الجنود الذين حقّقوا معجزة العبور هم خريجو الجامعات الذين تعلّموا فيها بسبب شعار طه حسين «التعليم كالماء والهواء»، ثم دخلت دفعاتهم المُتتالية الجيش عقب النكسة، وقامت على أكتافهم عملية إعادة بناء جيشٍ حقيقي بكوادر قادرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، بعدما كان عبدالحكيم عامر قد خرّبه من الداخل فانهزم في ساعاتٍ، وأضاع سيناء وبقية فلسطين. 

أقول جاء رحيل طه حسين في موعده مع القدر. وطلب مني مركز الشرق الأوسط في جامعة أوكسفورد أن أتحدَّث عنه في سيمنار الجمعة الأسبوعي الشهير. ولبيت الدعوة بسعادةٍ غامرة، وبدأتها بقولي إنه لولا طه حسين، ولولا الدور الذي لعبه في تحرير التعليم في مصر، لما كنت أنا هنا اليوم أتحدَّث إليكم عنه. واستعرضت بعد الحديث عن دوره في جعل التعليم حقاً لكلّ مصريّ، الجوانب المُختلفة لمشروعه الكبير بروافده المُتعدِّدة. فإلى جانب الرافد التعليميّ الذي تحدَّثت عنه، هناك جوانب عديدة تستحق أن تُكتَب فيها كُتبٌ، أولها مشروع تحرير الخطاب الإسلاميّ من الرؤية التقليديّة القديمة، وتناوله بطريقةٍ عقليّة نقديّة في إسلاميّاته المُختلفة من (على هامش السيرة) مروراً بـ(الفتنة الكبرى) و(مرآة الإسلام) و(الوعد الحق) وحتى (الشيخان). وثانيها: مشروع ترجمة التراث الغربيّ من عيون الأدب اليونانيّ القديم وحتى شكسبير وراسين، وثالثها: مشروعه الإبداعيّ الذي جذَّر السرد العربيّ مبكراً في ميراث شهرزاد في (القصر المسحور) و(أحلام شهرزاد)، ثم انطلق به في (دعاء الكروان) و(شجرة البؤس) وصولاً إلى تأسيس السرد الواقعيّ في (المعذبون في الأرض). ورابعها مشروعه الأدبيّ النقديّ الذي بدأ بـ(في الشعر الجاهليّ) واستمرّ في دراساته المُتعدِّدة للأدب العربيّ القديم منه والحديث. وخامسها: مشروع تأسيس مجلّة أدبيّة عصريّة من طرازٍ رفيع من خلال (الكاتب المصري) وما أصدر معها من ترجمات ومطبوعات. وغيرها من مشروعات كتأسيس السيرة الذاتية في (الأيام) أو رسم خطة للمستقبل في (مستقبل الثقافة) أو الاهتمام بوحدة الثقافة العربيّة وتقديم ما يراه مُهمَّاً في إنتاج كُتَّابها من مختلف البلدان العربيّة، وغيرها.

لكن أهمّ ما أرساه، بالإضافة إلى كلّ هذه المشروعات الضخمة التي يكفي أيٌّ منها لتوطيد مكانة أي كَاتِب أو مُثقَّف، والذي حرص على تكراره أثناء الجلسات الثلاث التي أتيحت لي عنده، هو النمط الذي قدَّمه لاستقلال المُثقَّف ونزاهته واعتصامه بما يدعوه أستاذنا الكبير يحيى حقي بالأنفة. ذلك الأمر الذي يهتدي فيه المُثقَّف ببوصلة داخليّة راقية تحرِّك سلوكه ومشاريعه الثقافيّة. ولن أذكِّر القُرَّاء هنا باستقالته من الجامعة حينما طلبت منه المُؤسَّسة السياسيّة أن يوطئ استقلالها لخدمة مصالحها السياسيّة في ثلاثينيّات القرن الماضي، لأنه كان يعي من البداية أن المُثقَّف الحُرّ ضمير مجتمعه، وأنه مَنْ يعلي مكانة القيم الأخلاقيّة والمعنويّة في شتى مناحي الحياة وفي كلّ ممارساتها اليوميّة، ويجعلها نبراساً يهتدي به المجتمع كله. وأننا كلما أوهنا دور المُثقَّف وسلطة الضمير الفكريّ المُستقل، تعثَّر المجتمع وتدنَّت مكانة القيم فيه، وهو المُقدِّمة التي تفتح أبواب الشر والفساد على مصاريعها. والواقع أن كلماته في آخر لقاءٍ لي به مازالت ترن في أذنيّ حتى الآن وهي: أن على جيلنا أن يخوض من جديد تلك المعركة التي خاضها وجيله، ولكن في ظروفٍ أصعب، فقد بلغ التردِّي والفساد حضيضاً غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث. وها هي مصر كلها تدفع ثمن الحط من قيمة المُثقَّف/ قيمة الضمير، وتتحوَّل إلى ما يقرب من جسدٍ ميت، لأنه جسدٌ بلا ضمير.