لا شيء يُشبه ما نعيشه الآن على صعيد الذاتِ والعَالَم؛ الفردِ والمجتمع؛ الكياناتِ السياسيّة ممثّلةً في الدولةِ القوميّة والمجتمعِ الدوليّ الأوسع الذي تُقيم معه هذه الدولةُ علاقاتٍ سياسيّة وتجاريّة وثقافيّة ورياضيّة. فالكوكب كلّه يجد نفسه يتجه من الخارج إلى الداخل، من المساحات المفتوحة إلى الأماكن المُغلقة، من صخب القرية الكونيّة التي تتخذ من الاتصال والتشبيك والحركة، والسياسة والاقتصاد المُعولمين، والسفر الدائم، والهجرة، واختيار المنفى كحالة وجودية، وزوال الحدود، وضعف الدولة القوميّة وحلول أشكال معولمة من العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلى العودة إلى الحدود القوميّة وانغلاق الدول والمجتمعات على نفسها. لقد حلَّ الشكُّ والحذر والتحسُّب من الاتصال بالآخرين، ومَنْ هم خارج الحدود (حتى المدن داخل الكيان الواحد أصبحت معزولة عن بعضها بعضاً، كما القرى والأطراف عن مراكزها المدينيَّة)، محلَّ التواصل والانفتاح والتبادُل والقرب، في عزلةٍ إجباريّة تفرضها البشريّة على نفسها خوفاً من المرض والموت، الفرديّ والجماعيّ. هكذا، وبمعنى من المعاني، انهارت العولمة بضربةٍ واحدة من فيروس كورونا الذي فرض على البشريّة نمطاً من العيش المُتوحِّد، المنعزل، الذي يلوذ بذاته خائفاً من الآخرين الذين صاروا همّ الجحيمَ بالمعنى الحرفيّ لا الوجوديّ الرمزيّ، كما قال فيلسوف الوجوديّة الأشهر جان بول سارتر.

بعد شهورٍ عِدّة من حظر التجوُّل الكامل، أو الجزئي؛ من طلب الحكومات من مواطنيها أن يلزموا بيوتهم فلا يغادرونها إلّا للضرورة القصوى؛ وبعد أن دخل تعبير «التباعُد الاجتماعيّ – social distancing» قواميس اللّغات المختلفة، وصار البشرُ يتجنَّبون بعضهم بعضاً، ويُصابون بالهلع إذا اصطدم واحدهم بالآخر في المتجر أو في الشارع، فإنّ علينا أن نفكِّر مليّاً بالمنحنى الذي سيُشكِّل حياتنا في الشهورِ أو السنواتِ المقبلة. لا مقاهي، لا مطاعم، لا دور سينما أو مسرح، لا مهرجانات أو احتفالات أو مدرجات محتشدة بمَنْ يريدون أن يحضروا عرضاً موسيقيّاً في الهواء الطلق، أو مباراة رياضيّة يشاهدها عشرات الآلاف من البشر الذين يتدافعون بالمناكب، ويحتضنون بعضهم بعضاً إذا ما هزَّ الشباك هدفٌ لناديهم الذي يحبون. كلّ هذه الأنواع من النشاط والاجتماع الإنسانيين متوقّفة، الآن على الأقلّ، أو يجري التعامل معها بحذر، وضمن استراتيجيّات التباعُد وعدم التجمهر. لقد فُرضت علينا عزلة إجباريّة مفتوحة، قد تطول أو تقصر، وقد يتغيَّر معها شكل الاجتماع الإنسانيّ، وأشكال التجارة والاقتصاد والمعرفة، والعلاقات السياسيّة، والتعاون في مجالات الصحّة والغذاء واحتياجات البشر الضروريّة الأخرى. نحن مقبلون، إذاً، على تغيير في طبيعة العلاقات والتحالفات، التي سوف يرسم فيروس كورونا حدودها، كما حصل بعد الحروب الكبرى، وانتشار الأوبئة التي قوَّضت حضارات وإمبراطوريّات وأحلَّت محلها أخرى.
في هذا السياق من العُزلة، والعودة إلى ألفة البيت (أو ربَّما وحشته وجدرانه التي تفصلنا عن العَالَم الخارجيّ وأفراد المجتمع الآخرين، بمَنْ فيهم آباؤنا وأمهاتنا وإخوتنا وأبناؤنا وأصدقاؤنا الأقربون)، والعائلة الصغيرة، أو البقاء وحيدين لا نتصل أو نتواصل مع الآخرين إلّا من خلال الشبكة العنكبوتيّة أو الهواتف النقَّالة، تبدو العُزلة حالةً كونيّة مُعمَّمة. فلا فضل للدول المُتقدِّمة فيها على الدول غير المُتقدِّمة، أو للغني على الفقير. ملايين من البشر مضطرون للتباعُد عن بعضهم البعض والانسحاب إلى الداخل، إلى حيِّز ضيق مهما بدا، في زمن التكنولوجيا فائقة التقدُّم، رحيباً.
وبصرف النظر عن العواقب النفسيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي سيخلفها هذا العزل الإجباري للبشر، من أجل الحفاظ على صحتهم الجسديّة ومنع انتشار الوباء القاتل، فإن تأمُّل معنى العُزلة، في الأدب والثقافة، في نصوص من الأدب العالميّ والعربيّ، التي انشغلت بتصوير عودة الفرد إلى مساحته الشخصيّة؛ ذاته أو بيته، وتحصُّنه بعيداً عن الجموع الحاشدة في الخارج، والركون إلى الصمت للتأمُّل أو التعبُّد أو الإبداع، يُشير في بعض منه إلى لحظاتٍ فارقة في تاريخ البشر، على رأسها الأوبئة التي حصدت أرواح الملايين عبر التاريخ. وما يفعله أهل القرن الحادي والعشرين، في مواجهة جائِحة كورونا، هو الشيء نفسه الذي فعله البشر عندما تفشت الأنفلونزا الإسبانيّة عامي 1918 – 1919 وحصدت منهم ما يقترب من مئة مليون إنسان، كما أنه لا يختلف عمّا فعلوه أثناء تفشي الطاعون، وأوبئة عديدة أخرى في عصورٍ سابقة تركت أثرها على حيواتهم، كما على منجزهم الأدبيّ أو الفكريّ أو الفَنّيّ. لقد طبعت الأوبئة، كما الحروب، بطابعها شكلَ الحياة التي صمدت بعد أن وضعت الحرب أوزارها، واختفت الأوبئة أو تغلَّب عليها العِلمُ والطبُ.
تختلف هذه العُزلة الإجباريّة، التي تفرضها أحكام وظروف قاهرة، عن العُزلة المُختارة التي يلجأ فيها الأنبياء والرسل والقديسون إلى الابتعاد عن الجموع للتأمُّل والعبادة؛ أو يلجأ فيها المُبدعون من شعراء وكُتَّاب وفنَّانين وباحثين إلى الابتعاد عن صحبة الآخرين لكي يستطيعوا التأمُّل والكتابة والإبداع. فالنوع الأخير يفتح الآفاق، ويوسِّع الخيال، ويطل على بئر الأعماق، ويهدي إلى حكمة العيش والوجود. فيما النوع الأول يفتح النفس على هاوية عميقة، ويجعل البشر يتصوَّرون اقتراب نهاياتهم والموت يترصدهم في زوايا الطرقات.
تمثيلاً للعُزلة المُختارة يمكن أن نشير إلى تجربة الرومانسيّين الإنجليز الذين تطوَّرت تصوُّراتُهم النظريّة لمعنى الشعر والإبداع، وكذلك منجزُهم الشعري، انطلاقاً من التأمُّل والعُزلة، بوصف الإبداع الشعريّ نتاجاً لتواصل الشاعر مع الطبيعة، التي تمثل البراءة ومصدر الخلق، وانفصاله عن جموع البشر. هكذا يهيم الشاعر الإنجليزيّ «وليم ووردسوورث» (1770 – 1850) على وجهه «مثل غيمة تطفو فوق الوديان والتلال»، كما يقول في قصيدته الشهيرة، مستعيضاً عن صحبة البشر بصحبة «أجمات النرجس البري الذهبيّة قرب البحيرة وتحت الأشجار، وهي ترقص في مهب النسيم». وقد كان «ووردسوورث» يمشي وحيداً في ربوع الريف الإنجليزيّ، مفكِّراً بالقصائد التي يرغب في تأليفها، وبنعيم العُزلة التي عدَّها رحم الخلق الفَنيّ. ويُقال إنه مشى في حياته ما يزيد على مئة وثمانين ألف ميل.
في السياق نفسه تعرِّف الفيلسوفة الألمانيّة حنة آرندت في كتابها «أصول التوتاليتاريّة» (1951) الإنسان المُنعزل solitary بأنه ذلك الكائن الوحيد «الذي يستطيع أن يكون مع نفسه»، لأن لدى البشر «القدرة على الحديث مع أنفسهم». فحسب أرندت، فأنا كإنسان «أستطيع أن أكون مع نفسي»، و«بنفسي»، وفي هذه الحالة «أكون اثنين في واحد».
أمّا القاموس العربيّ فيعرف العُزلة بأنها: الميل إلى الانزواء، والابتعاد عن الآخرين، والتنحي، والانقطاع، والمجانبة، والانفصال، والبقاء وحيداً، والتخلّي، والانصراف، والانفراد عن الجماعة وتجنُّبها. (وقد اعتزل واصل بن عطاء (700م – 748م) حلقة الحسن البصري، لخلافهما حول مرتكب الكبيرة، فقال البصري: اعتزلنا واصل، فنشأ بذلك مذهب المُعتزلة في علم الكلام الإسلاميّ). وهي معانٍ في معظمها سلبيّة، على عكس ما هو في اللّغة الإنجليزيّة مثلاً، حيث يتسم تعريف كلمة solitude بالإيجابيّة، لأن العُزلة طريق الحكمة، والقرب من الله، والتأمُّل والخلق والابتكار والإبداع، على عكس كلمة loneliness التي يضفي عليها القاموس معنى سلبيّاً.
انطلاقاً من هذه التأمُّلات، سوف أسعى، في مقالاتٍ لاحقة، إلى محاولة تبصُّر معنى العُزلة في أعمالٍ أدبيّة عالميّة وعربيّة كبيرة، وتفسير العلاقة التي تربط هذه الأعمال بسياقاتها التاريخيّة وشروط إنتاجها والمعاني الكامنة للعزلة في هذه النصوص، في زمن تبدو فيه العُزلة والانفراد عن الآخرين قدراً يصعب تجنُّبه، ولو كان مؤقَّتاً ونسبيّاً.