بورخيس خَلَفًا للمعرّي

يحلو لي تصوُّر المعري متكئاً على جدار بيته، الذي لُقّب بمحبسه، وأحسبه كان جنة غفرانه، وهو يمرح مع الكلمات. قد زهدت عيناه في رؤية ألوان الدنيا، وغاصَتا في عقله تتفحصان ظلال الكلمات، لقّب الناسُ عماه بمحبسه، وأغناه هو عن كلّ ما لا يحب مرآه. وها هو، متكئاً، مرحاً، يناوش رهطًا من الكلمات، فكيف أجرؤ على وصف الشاعر والمُفكِّر المُتشائِم، الذي اعتقد بأن وجوده في الحياة جناية أبيه عليه، وأن عدمه النسل هو تحرير لآخرين من جنايته بالمرح؟

إنه يمرح فعلاً مع الكلمات، يلاعبها، يقلّبها على وجوهها، يتأمَّل الكلمات قليلة النظير في ثقافتنا ويسبر غورها، يضيف اللواحق والسوابق على الكلمة لينظر كيف تبدو، ثمَّ ينزعها عنها، لكأني به يُجري تصاريف الكلمات على لسانه، وازنًا إياها، لمجرَّد تذوق طعومَها بالأوزان المُختلفة، وتبيّن كم من شهد وكم من سم في «حَمَاطة» و«حَضب»، وكيف تتجلى كلمة «أسود»: ثعبانًا مرّة، ولونًا مرّة أخرى، وعَلمًا لعدد من شخصيات التاريخ، وكيف تتشكَّل الأباريق أوانيَ وجواريَ وسيوفًا والتماعًا، وكأن عصا المعري السحرية تلمس الكلمة فتتدفَّق له مكنوناتها، وتسرح معه، فيوسّع دلالاتها، ويعبث بها، عبث العالم، ليكشف لنا خطرها، وجديّتها في لعبها!

ومرَّت القرون والمعري متكئ في عماه على جنّته، جنّة وعيه الثاقب، وإذا بخلفٍ له تُنبته أرض أخرى، لم يعلم المعري حتى بوجودها على وجه الأرض، كما لم يعلم بوجود نسله الثقافي حين تفادى نسله البيولوجي، وتثقَّف هذا الخلف ثقافات شتّى، وحذق لغات عدداً، فها هو بورخيس، متكئاً على جدار مكتبته العظيمة، التي تصوَّر الفردوس على شاكلتها -كما تصوَّر المعري الجنة على شكل منتدى أدبي هائل- مُلاحقًا آخر ظلال الدنيا ببصره الكليل، الذي سيتلاشى من بعد مُلقيًا إياه كليًا في غياهب عوالمه الداخلية، وردهات مكتباته السريَّة المدهشة، ها هو بورخيس يمرح مع الكلمات. يُلاحقها في المعاجم، ويُطاردها في الموسوعات، ويمزح معها في نصوصه العجيبة، يُحمِّلها الدلالات ويفتح آفاقها، يغوص في أصولها كما يُفتَن بالمبتكر منها، يُطلق على بطل قصته اسم «ريد شارلاخ»، لأنه ببساطة قاتل! «ريد» الأحمر بالإنجليزية، و«شارلاخ» الأحمر بالألمانية، فكأن على القاتل أن يكون مضاعف الحمرة بلغتين اثنتين، أو لكأن معنى اسمه «الأحمر القرمزي»، باعتباره القاتل، وباعتبار الأحمر لون الدم، والسفك.

جوخة الحارثي

إذا كان المعري وسّع نافذة لغته العربيّة، وسمح للمزيد من نورها أن يضيئه في محبسيه، فإنّ بورخيس فتح نوافذ اللغات المُتعدِّدة، وسمح لأنوارها كلها أن تهديه أو تُضلّه في متاهاته. اللاتينية كانت من هذه اللّغات، فإذا علمنا أنّ خيوطًا من آثار المعري قد انتقلت إليها، وأن بورخيس المُتشرِّب باللاتينية كان معجباً بالثقافة العربية حتى حاول تعلم لغتها في أُخرةٍ من عمره، وكان مُلّمًا بالثقافة المشرقية عمومًا، فإننا نرى كيف توارث بورخيس المعري، حتى لو لم يكشف لنا موقفه منه مباشرةً، أوَليس هو المؤمن بأن أفكارنا ومشاعرنا قد تكيّفت على آثار أسلافنا، وأننا إذا أردنا أن نعرف حقيقتنا الراهنة فعلينا أن نعرف أسلافنا؟ لقد تفنَّن الخلف الأرجنتيني الأصل، الكوني الثقافة، مثل سلفه العربي في السخرية، والإمساك بقبضة عارية بالـمُفردة لمساءلتها، وتجليتها، والعبث معها.

لقد غيَّر المعري أفكارنا القارّة بشأن السجع والجناس، أرانا بمرحه مع الكلمات كيف أنها ليست مُحسّنات، ولا مجرّد تزيين، بل أفق في النظر، وتوسيع لدلالات الكلمات؛ بتقليب الكلمة على وجوهها، وسبر جذورها، يعلمنا المعري أن الجناس إمكانات للمُفردة، لا زينة لها، تأمَّل كيف يعبث ببيت النمر بن تولب متخيّلًا له قوافي شتى، على عدد حروف الأبجدية، مُكيّفاً إياه مع هذه القوافي، متلاعبًا بالمح والبح والرح والسح والجح، قائلًا في الختام: «وهذا فصل يتّسع، وإنما عرض في قول تام، كخيال طرق في المنام». وانظر كيف يصنع المسافات بين أسماء الأعلام كطلحة وعكرمة وسلمة، والمعاني الواقعية لهذه الأسماء من أشجار الظل والشوك والبشام، وبوقوفه الطويل على ما عُرف بالغريب في الثقافة العربية، يمزح مع الغريب ليكون أليفًا، ويسخر منه ليُقصيه إلى وكر غربته وغرابته، وبورخيس، بالمثل، ينقّب أبدًا عن أصل الكلمات ومآلاتها، ويلعب أبدًا بالاحتمالات التي تنفتح عليها الألفاظ، ويتتبَّع مسارات رحلتها في الاغتراب من ثقافةٍ إلى أخرى، ومن لغة أصل إلى أخرى فرع. بل لا يتورَّع بورخيس عن اختراع كلمات جديدة، كما فعل مع كلمة «الهرون» التي قال بأنه اخترعها لأشياءٍ متخيّلة، ثمَّ اكتشف بتتبُّع الإنجليزية القديمة أن لها أصلًا شبيهًا، وقد فسّر ذلك بأن الكلمة تسلّلت إليه من أسلاف له عبر عشرة قرون!

الكلمة هي البدء، وكلا الأديبين الكفيفيْن متشبث بهذا الأصل، متعلّقٌ بالجذور، ليس على هيأة اللغة وحسب، وإنما الجذور البشرية كذلك، وأي تجلٍ لها أعظم من الأم؟ هل هي محض مصادفة أن عُرف بورخيس كما عُرف المعري قبله بتعلقه الشديد بأمه؟ الأم عصا الكفيف، وهداية التائه في ظلمات العالم، هي الجذر، ومنبع الكلمة الأصل. ثمَّ إن فاجعة موت الأم ردَّت المعري إلى الرحم البديل: البيت، فلزمه وهو الشاب، وزهد في الدنيا وهو الواصف لملذَّات الجنان الحسيَّة، كأنما ليسخر من تصوُّرات الناس الشعبية لها، في حين زهد بورخيس في الزواج وذُعِر من الإنجاب، قاصًّا فروعه الـمُحتمَلة، مُكتفيا بجذوره، متكئًا على أمه في عمق شيخوخته، حتى أن قصة زواجه قبل وفاته تبدو أقرب للدعابة منها للجدّ.

هذا النحت اللُّغويّ عند الضريرَيْن، قد نجد له نظائر أخرى في الثقافة العالمية، مادام كلّ كاتب عدّته اللّغة، ولكن الخيط الواصل بين المعري وبورخيس، خيط متين في تصوُّري، يمسك كلٌ منهما بأحد طرفيه، متحسِّسًا إياه في عماه وهازًّا له، وما على القُرَّاء إلّا التأرجح في أرجوحتهما.

وهذا اللعب –لعبهما- في منتهى الجدية، وهذا المرح –مرحهما- في منتهى الصرامة.

رحلة باريس الثانية وسنوات الغليان في صالون توفيق الحكيم

كُنت في تلك السنواتِ أبقى كثيراً في مكتب الحكيم، حتى ينصرف الجميع، ويصعد إليه عادةً الرسَّام صلاح طاهر من مكتبه/ مرسمه كي يوصله في طريق عودته إلى منزله، وفي بعض الأحيان يوسف إدريس في الأيام التي لا يحضر فيها صلاح طاهر إلى مبنى الأهرام. ولأنني كُنت أسكن أيضاً على مسار رحلة صلاح طاهر في العودة إلى مسكنه في الجيزة أو بداية شارع الهرم على ما أذكر(1)، كنت أصحبهما في تلك الرحلة، وأنزل أنا بعدما ينزل توفيق الحكيم على كورنيش النيل، عند «كوبري الجامعة».

بعد أنْ تناولت علاقة توفيق الحكيم الإشكالية مع حركة الضباط التي استولت على الحكم عام 1952 وهو في أَوْجِ العطاء، ورغبته في أن يبقي بينه وبينها مسافة، برغم حرص عبدالناصر على الاقتراب منه، أحاول هنا إماطة اللثام عن فصلٍ آخر من فصولها. وأبدأ هنا بما كتبه محمد حسنين هيكل عن هذه المسألة من وجهة نظر هي أقرب ما يكون إلى وجهة نظر عبدالناصر، وهو يتناول علاقة الحكيم به كما شهدها: «توفيق الحكيم في مقابلته الأولى مع عبدالناصر عندما سلَّمه قلادة النيل، حاول عبدالناصر أن يتكلَّم معه، ولكنه كان قليل الكلام. كنّا قبل السويس، ولم تكن الأسطورة قد ترسَّخت بعد، وبالتالي فأنا أظن أن هذا اللقاء كان في أجواء مقابلة بين أديبٍ كبير والرجل القوي على قمة الدولة. في اللقاء الثاني اختلفت الصورة، لأن اللقاء جرى بعد السويس وجوِّها الأسطوريّ، وعند سفر الحكيم مندوباً لمصر في اليونسكو، وكان توفيق الحكيم يريد هذا المنصب بشدّة، وكان يتصوَّر أن عودته إلى باريس أديباً كبيراً هذه المرّة، سوف تحدث عنده انبثاقاً متجدِّداً في الفكر، يفوق ما أحدثه لقاؤه الأول مع باريس عندما ذهب إليها طالب بعثة لدراسة الحقوق. في هذه المُقابلة لم يتكلَّم الحكيم، ولم يقل شيئاً سوى كلمة شكر على تعيينه، وتصوُّره أنه يتوقَّع كثيراً من ذهابه إلى باريس. وكان من بين ما قاله له عبد الناصر إنه سيكون متشوِّقاً لقراءة ما يكتبه. ونصحه بأن يترك الأعمال الروتينيّة لمندوب مصر في اليونسكو لأحد مساعديه، وأن ينتدب مَنْ يشاء لمكتبه من سفارة مصر في باريس، حتى يتفرَّغ هو لما يتمنَّاه من تأمُّل وتفكير وكتابة. وعندما عاد الحكيم من باريس لم يطلب مقابلة جمال عبدالناصر، مع أن عدداً من أصدقائه -ومن ضمنهم الدكتور حسين فوزي كما قال لي- نصحه بأن يدوِّن اسمه في دفتر التشريفات في الرئاسة تعبيراً عن شكره بعد عودته من مهمَّته. سألني توفيق الحكيم إنْ كان ذلك ضرورياً؛ لأنه يشعر بخجل فهو لا يعتقد أنه نجح في اليونسكو، وأن باريس لم تهمّه هذه المرّة، وأنها «صدّت نفسه»، وأن قرينته ضحكت عليه كثيراً، لأنه تصوَّر أن في استطاعته بعد الستين استعادة أجواء كان فيها تحت الثلاثين»(2).

د. صبري حافظ

هذا المُقتطف، ممّا قاله محمد حسنين هيكل عن تلك العودة لباريس، ينطوي على تعبيرٍ دال وهو أن باريس «صدّت نفسه»، وأنه إنْ كان يعترف بأنه لم ينجح في اليونسكو، فهو لم ينجح أيضاً في أن يعود لنفسه الحرّة التي أبدعت ما أبدعت في باريس في المرّة الأولى. وعلى غير ما توهَّم هيكل فإنَّ الأمر كان من ناحية الحكيم كان محاولة للهرب من المناخ الثقيل الذي كان يشهد تخلُّق آليات الاستبداد فيه، والعصف بكثير من المُثقَّفين، علّه يسترد فيها حرّيته. وليته ذهب إليها دون أن يلتقي بعبد الناصر كي يشكره، وهو الأمر الذي ألح الكثيرون من أصدقائه وعلى رأسهم هيكل نفسه للقيام به، لأن لقاءه هذا مع عبدالناصر كشف له فيما يبدو أنه لن يستطيع الهرب ممّا أراد تجنُّبه، وأيقظ قرون الاستشعار لديه، وهي التي نغَّصت عليه إقامته في باريس. ففي هذه المرّة أحسّ أنه مُراقب، وأن عبدالناصر ينتظر منه شيئاً -وهو يقول إنه «سيكون متشوِّقاً لقراءة ما يكتبه»- لم يكن في طاقته أن يفعله.

فلم يكن غائباً عنه أن تلك السفرة التي طلبها قبل عام 1959، لم تتحقّق إلّا بعده، وبعد أكبر حملة اعتقالات للمُثقَّفين في مصر، وفي طليعتهم جُلُّ مثقَّفيّ اليسار الذين كان يعرف الكثيرين منهم، وله بينهم عددٌ من الأصدقاء، كما لم يغب عنه أيضاً أن مَنْ معه من المُعاونين من مصر، قد يكونون عيوناً عليه، فلم يكن الحكيم غافلاً عن منطق الحكم الناصري في تسليط العيون على الجميع، وانتشار كتبة التقارير الذين ألمح إليهم في (بنك القلق). وهو الأمر الذي «صدّ نفسه» وليست باريس، التي تصوَّر أنه قد يهرب إليها ممّا يضيق به في مصر، حتى ولو كان سعيداً بأن أغلاله كانت من حرير كما ذكرت، لأن باريس لديها القدرة دائماً على أن «تفتح النفس» المصدودة، وتستثير أفضل ما في الإنسان من طاقاتٍ خلّاقة.

ونحن نعرف كم كانت رحلات طه حسين إلى فرنسا تثمر دائماً إنتاجاً ثرياً، وكيف كانت واحدة منها حينما التقيا معاً فيها، هو وتوفيق الحكيم، قد أثمرت هذا العمل المُشترك (القصر المسحور)، لكن ذلك كلّه كان في زمنٍ سابق على زمن الاستبداد وحكم العسكر. أمّا تفسير زوجته الذي ينقله لنا هيكل وإحالتها الأمر كلّه إلى عمر توفيق الحكيم، فهذا يفتح الباب على جرح آخر في حياة الحكيم، وهو زواجه غير المُوفَّق، والذي عانى منه طويلاً، على العكس من طه حسين الذي أنعم اللهُ عليه بزوجةٍ حَفِيّة ورائعة، وهو أمرٌ أعرفه، وأعرف شيئاً عن طريقة توفيق الحكيم المُراوغة في التعامل معه، ولكني لا أتصوَّر أن من اللائق أن أكتب عنه شيئاً هنا في هذه الذكريات عن الحكيم الكاتِب والمُبدع الكبير.

نعود إلى صالون الحكيم المفتوح في مبنى (الأهرام) الجديد، والذي كنت أتردَّد عليه بشكلٍ شبه يوميّ طوال أكثر من عامين حينما عملت في ملحق الطليعة(3)، من 1971 – 1973، وحتى غادرت مصر إلى إنجلترا في أواخر مارس/آذار 1973 (4)، وهي الفترة التي تحوَّل فيها الصالون إلى ساحةٍ مفتوحة للنقاش والجدل في الشأن العام، وصولاً إلى كتابة بيان الأدباء الشهير في غرفته تلك، وكان اسمه في صدارة المُوقِّعين عليه، وهي أيضاً الفترة التي كتبَ فيها كُتيّبه المشهور (عودة الوعي).

كنت في تلك السنواتِ أبقى كثيراً في مكتب الحكيم، حتى ينصرف الجميع، ويصعد إليه عادةً الرسّام صلاح طاهر من مكتبه/ مرسمه كي يوصله في طريق عودته إلى منزله، وفي بعض الأحيان يوسف إدريس في الأيام التي لا يحضر فيها صلاح طاهر إلى مبنى الأهرام. ولأنني كنت أسكن أيضاً على مسار رحلة صلاح طاهر في العودة إلى مسكنه في الجيزة أو بداية شارع الهرم على ما أذكر، كنت أصحبهما في تلك الرحلة، وأنزل أنا بعدما ينزل توفيق الحكيم على كورنيش النيل، عند «كوبري الجامعة». وكان الحكيم يحرص على أن ينزل من السيارة على كورنيش النيل في جاردن سيتي، وفي مكان لا بيوت أمامه، وإنما أمام سور السفارة البريطانيّة المُطلة على هذا الجزء من كورنيش النيل. ومع أننا نعرف الآن أنه كان يسكن على بُعد أكثر من مئتي متر من المكان الذي كان يطلب إنزاله من السيارة فيه؛ إلّا أنه كان يريد أن يراه الجيران وبواب العمارة معاً، عائداً إلى بيته، ماشياً على قدميه بعصاه التقليديّة والبيريه الشهير. هذا وقد سمعت أكثر من تأويلٍ لهذا الإصرار الذي عاصرته لعامين تقريباً وبشكلٍ شبه منتظم. كان أسوأها ناجماً عن علاقته غير السعيدة، إنْ لم نقل الإشكالية مع زوجته، وهو الأمر الذي لا أريد حتى أن أذكره. أمّا تأويلي الشخصيّ لهذا فهو أنه ابن حرص الحكيم على ترويج صورة خاصّة وشخصيّة عن نفسه، لايزال يحرص فيها على أن يبدو في صورة ابن البلد الشعبيّ الذي يذهب لعمله ماشياً، كما يذهب لمقهاه ماشياً في أيام الجمعة، وقد ذكرت أنه اختار مقهى فندق (سميراميس) القديم، الذي لا يبعد عن هذا العنوان بأكثر من خمسمئة متر.

وكان صالون الحكيم في تلك الفترة العاصفة من تاريخ مصر -وما شهدته من تغيُّرات جلبها حكم السادات بعد انتهاء عصر عبدالناصر، بما له وما عليه- يعجُّ بالجدل المفتوح حول مستقبل مصر، وقد عاد عبء التخلص من الاحتلال -الإسرائيليّ المدعوم أميركيّاً هذه المرّة وليس البريطانيّ- يقض مضاجع الجميع ويشغلهم. وكانت هذه السنوات الأولى من السبعينيات مشحونة بالكثير من الأحداث، من تخلص السادات من كلِّ مناوئيه مِمّنْ كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر منه ناصرية في مراكز السلطة السياسيّة، إلى سعيه للتخلّص من أنصار فكرهم في وسائل الإعلام المُختلفة.

ولم يكن هذا كلّه -رغم إحاطته بأجواءٍ من السرية- بغائب عن الواقع الثقافيّ، ولا عن الجدل المُستمر حول ما يدور في مصر في صالون الحكيم. وقد بدأ في هذا الوقت مثقَّفون يمينيّون من نوع ثروت أباظة يُكثِّفون من تردُّدهم على صالون الحكيم، وقد اكتسب أباظة، خاصّةً، جرأة في طرح أفكاره اليمينيّة ما كان يحلم بالتعبير عنها قبل عامين. وأخذ الحكيم -وقد صدّق ما أشاعه السادات من إطلاق الحرّيّات، وإلغاء الرقابة- يفصح عن كثيرٍ من آرائه الناقِدة للنظام بشكلٍ أوضح، بما فيها من نقدٍ حاد لتلكؤ السادات في العمل على تحرير الأرض المُحتلة. وكانت قضية التحرير تلك، ورفض حالة اللاسلم واللاحرب التي سادت منذ موت عبد الناصر، مجالَ جدلٍ مستمر بين مختلف التيارات الثقافيّة المصريّة والتي كانت تتجمَّع في كثيرٍ من الأحيان في غرفته تلك، كما كانت بالقطع موضوع الحركة الطلابية الأثير، منذ اندلاع أول مظاهرات في الجامعة بعد هزيمة 1967، وتنامي الاستقطاب بين تياراتها المُختلفة.

وما أن انتهى العام التالي لتولي السادات الحكم، وهو عام 1971 -وكان قد جعل شعاره في هذا العام، أنه عام الحسم وتحقيق الديموقراطيّة وتحرير الأرض أو تصفية آثار العدوان- دون حسم، حتى أخذت الحركة الطلابية في الغليان، وفي 13 يناير/كانون الثاني، وبمُناسبة الاحتفال بالمُولد النبويّ، خطب السادات «خطبة الضباب» المشهورة، وما أعقبها من نكاتٍ لم تنقطع(5). وفجَّر هذا الخطاب ثورةَ الطلاب في كلِّ الجامعات، وأصبح خطاب الضباب خطابَ استفزاز بدلاً من أن يكون خطابَ تبرير. فقد قال فيه إن ضباب الحرب الهنديّة – الباكستانيّة قد أعاق تنفيذ وعده بعام الحسم، لأنَّ العَالَم لم يكن فيه متسعٌ لاندلاع حربين كُبريين في آنٍ واحد. وكنت دائماً ما أتطلع إلى الوصول إلى غرفة الحكيم في تلك الفترة كي أبلغه بأحدث ما سمعت من نكات «الضباب»، وكان مولعاً بسماعها ككلّ المصريّين، أو أسمع منه خيراً من تلك التي جئت له بها. والواقع أن أحد المجالات التي لم تأخذ حقّها من الدرس والجمع والتحليل هو حقل «النكتة المصريّة»، والسياسيّة منها بشكلٍ خاص. وكانت موجة النكات المُضادة للعسكر، وانسحابهم من سيناء بعد هزيمة 1967، قد دفعت عبدالناصر إلى أن يرجو الشعب في خطابٍ علني بالكفِّ عن تلك النكات.

أمّا النكاتُ التي صاحبت السادات منذ توليه السلطة، وصولاً إلى أغنية الشيخ إمام الشهيرة «شحاتة المعسل»، فقد كانت من نوعٍ آخر. أعتقد أنه أخذ ينخر في هيبة الدولة المُرعبة التي بنتها مرحلة عبدالناصر، وجعلتها كياناً مخيفاً لا يجرؤ أحد على السخرية منه، ناهيك عن التطاول عليه، إلّا همساً ولمَنْ يثق بهم. لكن سحابة الخوف الثقيلة التي تكوَّنت في زمن عبدالناصر بدأت تتبدَّد، منذ أن كسرتها صدمة الهزيمة في عام 1967، وإنْ لم تنقشع كليةً إلّا بعد رحيله، وإعلان السادات الإجهاز على مراكز القوى والتنصُّت على الشعب، وأخذَ الكثير من الكُتَّاب يحلون ضيوفاً على المُؤتمرات الطلابية التي أخذت تتنامى في الجامعة، ويطرحون فيها آراءهم الناقِدة لما يدور بجرأةٍ غير مسبوقة. وكانت تلك أيضاً هي الفترة التي ازدهرت فيها الأغنية السياسيّة الساخرة التي تزعَّمها «الشيخ إمام عيسى»، ثمَّ «عدلي فخري»، وغيرهما.

وهي أيضاً الفترة التي بدا فيها أن مصر قد أزالت عن روحها عبء الخوف الثقيل الذي رانَ على روحها وعقلها في مرحلة عبد الناصر، واستعادت شيئاً من الحرّيّة التي عاشتها قبل استيلاء العسكر على السلطة. وحسب الدكتور أحمد عبد الله رزة تركَّزت مطالب الطلبة على ثلاث قضايا رئيسة هي: إنهاء حالة اللاسلم واللاحرب واتخاذ قرار حاسم ونهائي بالحرب، وتحرير الأراضي المصريّة المُحتلة، وقضية الديموقراطيّة والنظام السياسيّ في مصر، بما في ذلك حرّيّة الصحافة؛ وكانت ثالث القضايا هي البنية الاجتماعيّة الاقتصاديّة للبلاد، حيث نادى الطلبة بضرورة قيام ما سمّوه «اقتصاد حرب»، والإجهاز على الفساد. وكانت أكثر المطالب راديكاليّة في تلك القضية هي المُطالبة بألّا يتجاوز الحدّ الأعلى للأجور في البلاد عشرة أمثال الحدّ الأدنى، مع رفض سياسة ربط الاقتصاد المصريّ بالمصالح الإمبرياليّة عبر مناطق التجارة الحرّة، وطالبوا بالإفراج عن العُمَّال المُعتقلين وإعادة الاعتبار للجان النقابية العُمَّاليّة التي تعرَّضت للتشهير من قِبل الحكومة نتيجة إضراب العُمَّال عام 1971 (6).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – كان مسكني في أول حيّ المنيل وبالقرب من «كوبري الجامعة»، الذي كان لابد أن يعبره في طريقه إلى الجيزة، وكنت أنزل من سيارته قبل أن يعبر الجسر مباشرةً.

2 – (محمد حسنين هيكل يتذكَّر: عبدالناصر والمُثقَّفون والثقافة)، ص 251 – 252.

3 – ما أن بدأ المُلحق بهيئة تحريره الكاملة لعدّة شهور، حتى أخذ المناخ الطارد وقتها، يعصف تدريجيّاً بأعضاء لجنة تحريره، فيغادرون مصر واحداً بعد الآخر. حتى لم يبقَ منهم سواي. ممّا جعلني أتردَّد على مبنى الأهرام بشكلٍ شبه يومي.

4 – جاءتني فرصة للسفر إلى إنجلترا في ذلك الوقت، وطلب مني لطفي الخولي أن أرشِّح له مَنْ يحلّ مكاني في هذا المُلحق، وفاتحت فاروق عبدالقادر في الأمر فرحَّب به، ورشّحته للطفي الخولي. واستلم فاروق العمل مني في ملحق الطليعة الأدبيّ في مارس/آذار عام 1973، وهو الشهر الذي غادرت مصر في نهايته.

5 – الواقع أن النكات الساخرة من السادات والمُستهزئة به لم تنقطع أبداً منذ تولي السادات السلطة. فلم تأخذه مصر مأخذ الجد، ولم تعترف له بأي شرعيّة حتى اندلاع حرب 6 أكتوبر، وهي الشرعيّة التي سرعان ما تبدَّدت بعد فترةٍ قصيرة. وخرجت المُظاهرات العارمة في 18 و 19 يناير/كانون الثاني عام 1977 من شواطئ المُتوسط حتى شواطئ بحيرة ناصر تنزع عنه كلّ شرعيّة. فتوجَّه فاقداً للشرعيّة إلى العدو الإسرائيليّ علّه يسبغ عليه شيئاً ممّا فقده، فضيَّع مصر معه.

6 – راجع كتاب أحمد عبد الله الشهير: Ahmed Abdalla, The Student Movement and the National Politics in Egypt: 1923-1973 (London, Saqi Books, 1985)، وخاصّة الفصل التاسع عن انتفاضة الطلاب عام 1972 – 73، ص 176 – 211.

إدغار موران.. مئة سنة من التوازُن بين العقلِ والشغف

احتفل الفيلسوف «إدغار موران» يوم 8 يوليو/تموز 2021 بعيد ميلاده المئة، ومعه احتفل أصدقاؤه والأوساط الثقافيّة ورئاسة الجمهورية الفرنسيّة، لأن هذا العُمر المديد يحمله شخص عاش تجربة شخصيّة مُتفرِّدة، وعاصَر أحداثاً وازنة وحرص طوال رحلته على أنْ يَستقرئ ويتأمَّل ويُحلِّل ما عاشه في حياته الخاصّة بتماسٍّ وتفاعلٍ مع ما حبَلتْ به تلك المئة سنة الزاخرة بالتحوُّلات والصراعات والحروب والاكتشافات المُذهلة في العلوم والتكنولوجيا والفنون…

أنْ يعيش المَرءُ قرناً من الزمن، وأن يكون ذكيّاً، طلعة، مُحبّاً لاكتشاف أسرار الحياة، معناهُ أنه سيجد نفسه مُعاشراً للتاريخ، مُتابعاً لأسئلته وتقلُّباته، مُضطراً إلى استيعاب الصيْرورة ونسبية الأحداث والتحوُّلات، وضرورة البحث عن فلسفةٍ ومنهج يُتيحان له السباحة في عالَم ينتقل من فترة الإيمان المُطلق بالتقدُّم وصلاحية القيم الكونية إلى مرحلة الشكّ وسيادة المصالح الذاتية، وتعاظم المطامع الليبراليّة المُتوحشة…

لكنْ، قبل أن يواجه «إدغار» أسئلة القرن الذي عاصره وما يزال، كان عليه أن يتآلفَ مع وضعه العائلي الصعب، إذْ إنه فقَدَ أمه وهو في الحادية عشرة من عمره، وعلاقته بالأب ينقصها التفاهُم والتواطؤ، ومُناخ باريس في ثلاثينيات القرن الماضي يقتضي الجهد والمرونة والشجاعة لاجتياز المِحن والمآسي، خاصّة خلال احتلال ألمانيا النازية لفرنسا. وإذا كان المناخ الثقافيّ والفنّي آنذاك قد أسعفه على معرفة إيقاع العصر من خلال ازدهار السرياليّة والفكر الماركسي فإنّ الاحتلال ومحنة تصفية اليهود قاداهُ إلى الانخراط في المُقاومة، حيث التقى مثقَّفين بارزين وهو في مطلع الشباب. وكان من الطبيعي أيضاً أن ينضمَّ إلى الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ الذي كان يجسِّد بعضاً من مطامحه إلى التغيير. غير أن التكوين الجامعي لإدغار (فلسفة، علم اجتماع، علم نفس، تاريخ…) شحذ لديْه حاسّة النقد الذاتي وجعله منفتحاً في تفكيره على المناهج والمقولات الحريصة على فهْم المُجتمع والتاريخ وأسئلة الذات المُعقَّدة. وهذا ما تجلّى أولاً في انسحابه من الحزب الشيوعي عندما تبيَّن أنه ليس حزباً ثورياً إذْ كان تابعاً للاتحاد السوفياتيّ ويستعمل اللُّغة المُتخشِّبة التي تظلّ أبعد ما تكون عن النفاذ إلى صلب الواقع وعلائق الصراع الاجتماعيّ. هذا التحوُّل الفكريّ السياسيّ هو ما جعله يؤلِّف كتاباً بعنوان «نقدٌ ذاتي» (1959) شرح فيه مواقفه المُوفقة والبعيدة عن الصواب، مؤكِّداً على أن هذا المبدأ ضروري لاكتشاف «الطريق» وسط عالَم بالغ التعقيد، بل أكثر من ذلك، نشر كتاباًَ بعنوان «مع وضدّ ماركس» (2010). وحين بدأ «إدغار» يصوغُ تصوُّراته النظريّة عن العَالَم ومنهج تحليله، لم يبتعد عن الواقع في تجلّيّاته الملموسة، النابضة بالحقائق الشعوريّة والوجوديّة؛ كما يتجلّى ذلك من إنجازه لفيلم سينمائيّ وثائقيّ مشترك مع «جانْ روش»، يحمل عنوان «وقائع صيْف»، 1961، ويدور حول سؤالٍ جوهري يُوجَّه للناس في الشارع: ما هي السعادة في نظرك؟ وهذا الولع بالسينما سيجعله طوال حياته مُداوماً على مشاهَدة الأفلام ومناقشتها، لأنها نافذة تطلّ مباشرةً على الحياة في تجلِّياتها المُتباينة. على هذا النحو، استطاع أن يبلور «منهجه المُركَّب» للاقتراب من «الفكر المُعقَّد»… ولأن كلّ شيء في الطبيعة والعلاقات البشريّة والمعارف والعلوم يتسِمُ بالتعقيد والتداخل فإنه لا يمكن أن نحلِّل أو نفهم أن العطَب لا يأتي فقط من الهشاشة البشريّة (المصائب، الموت، اللامُتوقّع)، بل أيضاً من العواقب المُحطمة الناجمة عن كلّ قوة هائلة علميّة وتقنية واقتصاديّة، تكون هي نفسها مُسخرة من لدُن شططٍ في إرادة ترمي إلى فرض العنف والاستئثار بالربْح «(جريدة لوموند، 8 يوليو، من مقال لإدغار). وهذا المنهج المُركَّب هو ما سيقوده منذ عقود إلى إدراك أهمِّيّة البيئة وضرورة النضال لتحقيق الشروط التي تحمي الإنسان من عواقب التلوث والكوارث والأوبئة، «لأن الإنسان هو داخل الطبيعة وليس خارجها».

إلّا أن هذا المسار العلميّ، السياسيّ، لم يكن السّنَد الوحيد لـ«مُورانْ» وهو يبلور منظومته الحياتية طوال قرنٍ من الزمن؛ ذلك أن الركيزة الثانية التي دعّمتْ بنيانه الشامخ، الجاذب والمُثير للإعجاب، تتمثَّلُ في شغفه العارم بالحياة وبكلّ ما يُضفي عليها تلك المُسحة التي تجعلنا نُسبِّح بالحمد، ونراهن على استدامتها غير مُبالين بالأخطار التي تترصَّدُنا من المهد إلى اللحد. أدرك فيلسوفنا، منذ نعومة أظفاره أن العقل وحده لا يكفي لحماية خطواتنا ونحن نتدحرج عبْر المسالك الوعرة بحثاً عن مَضاءاتٍ نستهدي بنُورها. لأجل ذلك، فتَحَ قلبَه على مِصْراعيْه لكي يجرِّب ويعيش في كنَفِ الحبّ ودفء العواطف. أحبّ أكثر من مرّة، وتزوَّج أربع مرَّات، مُتحدّياً الموتَ والمرض. ذلك أن «إدغار» يمتلك قلباً دائم الخفق، مُتجاوباً مع الجمال والعواطف التي تُغني الوجود. وهذا ما جعل مساره مفتوحاً على المُغامرة والمُبادرة ومساندة قوى الإبداع عند الشباب. ومن تجربته الحياتية الزاخرة استمدَّ ضرورة الأخذ في الاعتبار لما يُسمّيه: ما لا نتوقَّع حُدوثَه (اللامُتوقع) l’inattendu. ذلك أنه على رغم انغلاق آفاق المُستقبل وتراكُم المُعضلات الطبيعيّة والسياسيّة التي تبعث على اليأس، تظلّ هناك إمكانيات مُحتملة تنبثق من صلب الأزمة لتمْنحنا بصيصاً من الضوء نستهدي به…

محمد برادة

لقد أتيح لي أن أعايش «إدغار» عن قرب لمدة أسبوعيْن خلال شهر مايو/أيار 2020، عندما استضفناه في بيتنا أثناء سفر زوجته السيدة صباح خارج فرنسا، فتعرَّفتُ على طقوس حياته اليوميّة وعلى طيبته وشغفه بالحياة. يستيقظ حوالي التاسعة صباحاً ويبدأ بشُرب عصير الليمون مع ماءٍ ساخن، ثمَّ يتناول بعض الفيتامينات ومعها كوبٌ من الشاي الأسود وبيضة مسلوقة سَلْقاً خفيفاً؛ وبعد مهلة يتناول شرائح خبز مدهونة بالزُبْدة والعسل. في الأثناء، نتبادل الحديث حول أنباء العَالَم وعن كورونا (19) وامتدادات الحَجْر. بعد ذلك، يبدأ وقت القراءة ليمتدّ إلى موعد الغداء. ولأنه مُتعلِّق بالمعرفة والحوار، فإنه يستغني عن القيلولة ليشارك في ندوات وحوارات عبْر الشاشة الصغيرة (الزومْ). وهو يجد في ذلك مسرّة وارتياحاً لأن الحوار المعرفيّ والاجتماعيّ يجعله حاضراً في ساحة الثقافة الواسعة التي عاش فيها خلال أيام الشباب والتدريس والنضال. اتّضح لي أن «إدغارْ» يُؤمن بأن المعرفة والثقافة والصداقة والقرْب من الناس هي كلّها عناصر ضرورية لجعْل الحياة حاضرة وملموسة في السلوك والعلائق والمواقف؛ ذلك أن الحياة كلٌّ لا يتجزأ. ومن ثَمَّ، تعدّدُ اهتماماته بكلّ ما يُضفي على العيش حياة حقيقيّة، لا «حياة غائبة». وفي هذا الإطار وجدتُه يهتم بكرة القدم فشاهدنا معاً مباراة فرنسا/كَروَاتيا التي كانت ذات جودة عالية. وكانت هناك مناسبة أكَّدتْ لي إعجابه بروايات «دوستويفسكي»، عندما شاهدنا سلسلة أفلام عن حياة الكاتِب الروسي التي لا تقلّ في كثافتها ومأسويتها عن رواياته. كلّ صباح، يستيقظ «إدغارْ» مُفعما بحُبّ الحياة، حريصاً على إضافة لمسةٍ مضيئة إلى مناطق الظلمة فيها؛ فهو حريص على أن تكون المعرفة والذاكرة والتجربة في حالة عِناق من أجل إعادة ابتكار الحياة يوميّاً. هو يُدرك، منذ نَشرَ كتابه «الإنسانُ والموت»، 1951، أن حياة الفرد مؤقَّتة، لكنه يتذكَّر أن المئة سنة التي عاشها كانت مُشعّة باللحظات المُشرقات التي سطّرتْ ملاحم البطولات وثورات الشعوب المُستضعفة، وعبقريات الإبداع والفنون، وكشوفات العلم والمعرفة؛ ومن ثَمَّ ضرورة المُراهنة على حماية تلك القيم الكونيّة التي حقَّقتْ، ولو في فتراتٍ قصيرة، الصورة الأكثر اكتمالاً وصدقيةً للحياة. على هذا النحو، يتابع «إدغارْ مورانْ» رحلته الحياتيّة، مُسلَّحاً بالمعرفة والحبّ والصداقة والرأي الشجاع. تلك الشجاعة التي قادتْهُ منذ بضع سنوات إلى محاكمة كان فيها مُتهماً، بأنه مُعادٍ للسامية، إذْ كتبَ مقالاً ينتقد فيه الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين ويفضح أسلوب هَدْم المنازل واعتقال الشباب… لقد كان واضحاً، وهو يصرِّح قبل أيام لجريدة «ليبراسيون» الفرنسيّة: «علينا أن نعترف بأولئك الذين لا يحظوْن بالاعتراف: المُحتَقرين، والمُهانين. ليكنْ لديْكم حسُّ الأخوة تجاهَ جميع الذين يتألَّمون!».

تحدّيات الثقافة عن بُعد

لم يجف مِداد جدل طويل وعقيم، في الغالب، يخصُّ الكِتاب الإلكترونيّ الذي يحلّ محلّ الورقيّ، حتى اجتاح وباء «كوفيد – 19» العَالَم. ولاحتواء انتشاره تمَّ إغلاق مرافق الحياة العامة، وانتقلت جلّ الأنشطة الخارجيّة إلى المنزل بصورةٍ معزولة عن تقاليد الحياة الاجتماعيّة، فأصبحنا أمام تجارب وممارسات ثقافيّة جديدة، بقدر اعتمادها على الإنترنت والفصول الافتراضيّة ومؤتمرات الفيديو، فإنها قد أجبرت العديد من القطاعات والمُؤسَّسات الثقافيّة على إعادة تأسيس نفسها، وتعديل العلاقة التواصُليّة مع جمهور الثقافة بتكثيف الجهد الرَّقميّ من منطلق فعاليته الكمّيّة في الانتظام الثقافيّ.
طالما اقتصر دور الوسائط الإلكترونيّة على المُساعدة والدعم الفنّي، والإخبار بتنظيم الأنشطة الثقافيّة، وإلى وقتٍ قريب لم يكن من ضمن الاحتمالات تنظيم مهرجان ثقافيّ في نسخة إلكترونيّة، على سبيل المثال، أو حتى تصوُّر فعالية ناجحة من دون توفُّر ارتباط واقعيّ بين حدث ثقافيّ وجمهوره. كما أدَّى الحَجْر المنزليّ إلى تقييد الوصول إلى السلع الثقافيّة الماديّة بسبب إغلاق المكتبات ودُور السينما ومتاجر التسجيلات وما إلى ذلك… لكن ما شهدناه على المُستويين العربيّ والعَالميّ يؤكِّد أن الثقافة في الأوقات الصعبة بلسم للكثيرين، وقد حقَّقت الوساطة الرَّقميّة بالتأكيد فرصةً عظيمة للمُحافظة عليها، وأثبتت بأنها قناة فعَّالة لربط الجماهير بالمنتوج الثقافيّ والفنّي وإرضاء تعطّش الجمهور؛ حيث زادت العديد من المُؤسَّسات الثقافيّة التي أُجبرت على الإغلاق، كالمتاحف والمسارح والمعارض الفنِّيّة وغيرها، من عروضها ومواردها المُختلفة عبر الإنترنت.
لا شكّ في أن هذا التحوُّل الرَّقميّ الشامل، وإنْ كان طارئاً، يواصل اختباره لطبيعة علاقتنا بالثقافة التي تبدو في صورتها الظرفيّة على الأَقلّ، قد تحوَّلت من علاقة اجتماعيّة، إلى علاقة تقنيّة تطرح عدّة شكوك وأسئلة تتعلَّق بالتكيُّف مع واقع جديد ابتدع عادات ثقافيّة غير مألوفة لا نعرف إنْ كانت ستستمر بعد أداء وظيفتها الطارئة. ففي سياق استثنائيّ لم يعد بوسعنا أن نلتقي فيه داخل فضاء ثقافيّ عام، نحن في حاجة ليس فقط إلى التكيُّف المُجتمعيّ، وإنما إلى اختبار علميّ ونقديّ للمتاحف والمسارح ودُور السينما والمعارض الفنِّيّة في إطار العرض الافتراضيّ، حتى لا يترك العمل الثقافيّ رهين التقييمات الكمّيّة للتقنية. كما لا فائدة من عرض ثقافيّ يراهن في نجاحه على زيادة الوفرة في المُحتوى أو بتوسيع مدى انتشاره، وإنما تعمُّ الفائدة والفاعليّة أكثر حينما يكون الفعل الثقافيّ مَعنيَّاً بالدرجة الأولى، سواء بوساطة واقعيّة أم افتراضيّة، بضمان الاستقلاليّة النقديّة للجماهير.
وفي سياق هذا الاختبار لطبيعة علاقتنا الجديدة بالعرض الثقافيّ، تبدو آثار الحَجْر المنزليّ على مخرجات المُمارسات الثقافيّة مناقضة لما يمكن توقُّعه بطريقة تلقائيّة من ثورة الشاشات وتضاعف جماهير الوسائط الرَّقميّة أو حتى توحيد السلوك الثقافيّ. فإذا كان الحَجْر المنزليّ قد ضاعف مستويات الاستهلاك السمعيّ- البصريّ ومشاهَدة العروض الحيّة على الإنترنت، وممارسة الألعاب الإلكترونيّة. فإنه في مقابل ظهور سلوكيات جديدة تمَّ إهمال عادات أخرى، من قبيل الترفيه التقليديّ الذي يتطلَّب قدراً مُعيَّناً من التواصُل الاجتماعيّ. كما تُشير بعض الإحصاءات إلى أن بعض المُمارسات الإبداعيّة قلّت في فترة الحَجْر المنزليّ، وأن معدَّلات القراءة عرفت بدورها انخفاضاً بسبب إغلاق المكتبات الذي يفسِّر جزئياً هذه النتيجة. كما انخفضت نسبة قرَّاء الصحافة الورقيّة بشكلٍ كبير… ومرد ذلك -حسب التفسيرات الاجتماعيّة- إلى غياب الاستعداد النفسيّ بسبب العبء العاطفيّ والمعلوماتيّ الناجم عن الأزمة الصحّيّة والحَجْر المنزليّ.
وإذا كانت المُبادرات الافتراضيّة قد سمحت باستمرار العروض الثقافيّة، على قاعدة تأكيد الحضور من غرفتك، فإنّ ذلك لا يعني ألّا نأخذ بمحمل الجد المُلاحظات التي يتمُّ رصدها، من قبيل قِلّة التفاعُل التي كثيراً ما تنجم عن الشعور بالعُزلة الذي يخلِّف الشكل الفرديّ لهذا النوع من الحضور، ممّا يضعف الدافع لحضور فعالية ثقافيّة افتراضيّة أو الالتزام بإكمال حضورها، إلى جانب افتقار الفضاء الافتراضيّ حتى الآن إلى التفاصيل المُقترنة بالفضاء الواقعيّ والتي تدلّ على أن الحدث يسير بشكلٍ جيّد، كالانضباط في التفاعُل وعمليات التواصل، دون أن نغفل الفجوة الرَّقميّة التي تقف عقبة رئيسيّة أمام الجمهور المُستهدَف من كافة الشرائح والأعمار.
من المُؤكَّد أن التواصُل الاجتماعيّ يُلقي الضوء على تطوُّر وتنوُّع المُمارسات الثقافيّة، وأشكال المُشاركة الثقافيّة، وإذا كانت تجربة الحَجْر المنزليّ قد أزالت جزءاً كاملاً من الثقافة المُرتبطة بزيارات المتاحف ودُور السينما والمعارض الفنِّيّة، فقد ساهمت أيضاً في تعديل علاقة الأفراد بالثقافة من خلال خلق سلوكيات واستخدامات جديدة. لقد أعادت الشاشات تنظيم الاستهلاك الثقافيّ وأنماط المُمارسة داخل المجال الخاص، بالصورة التي تجعل الحاجة إلى دراسة آثار عمليات إعادة التشكيل المُؤقَّتة هاته ضروريّة في السنوات القادمة، للتحقّق ممّا إذا كانت علامة على التكيُّف مع سياق معيَّن وغير مسبوق أو على تغييرات عميقة في الوصول إلى الثقافة.

برنار نويل.. رحيل كاتب مُلتَزِم

عن سنٍّ يناهز التِّسعين سنة، رحل في أبريل الماضي، الشاعر والكاتب الفرنسي «برنار نويل»، مُخلِّفاً أزيد من أربعين عملاً أدبيّاً، كان آخرها «لَمْسَة هوائيَّة». كان «برنار نويل» أحد المدافعين عن القضيَّة الفلسطينيَّة، كما كان شديد الحساسيَّة تجاه قضايا عصره، وقد اصطدم بالواقع المرير حتى توقَّف عن الكتابة، لكنَّه سرعان ما عاد لممارستها، فأصدر، عام (1967)، ديوانه «وجه الصَّمت» ليُواجه بسلاح الكتابة شراسة الواقع.

وُلد «برنار نويل – Bernard Noel» عام (1930)، في سان «جينيفييف سور أرجانس». ترعرع في بيت جدِّه وجدَّته. بعد تخرُّجه في المدرسة الثانويَّة في «روديز – Rodez»، ذهب إلى «باريس» والتحق بكُلِّية الدراسات العليا للصحافة، لكنه سرعان ما تخلَّى عن هذا المسار. حوالي عام (1953)، كان أحد الأعضاء النَّشطين في حلقة الدّراسات الميتافيزيقيَّة، واقترب من فِكْر «ريموند أبيليو – Rymond Abllio». يُعدُّ من أَهَمِّ الكُتَّاب الفرنسيّين في النصف الثاني من القرن العشرين؛ لهذا خَصَّتْه الأكاديميَّة الفرنسيَّة بالجائزة الكبرى للشعر عام (2016). توزَّعت أعماله بين الشِّعر، والرّواية، والنقد الأدبي، والنقد التشكيلي. صدر ديوانه الأوَّل «مستخلصات الجسد» سنة (1956)، وانتصر فيه للجسد من خلال تأثُّره بالعنف الذي عايشه في الحرب العالميَّة الثانية، والمعسكرات، والقنبلة الذريَّة، وحرب الجزائر، وحرب الهند الصينيَّة. هذا وقد عُرِف بدفاعه عن القضيَّة الفلسطينيَّة، ولم يشعر بالحرج وهو يعلن ذلك في حوار صحافي. وُصف شعره بأنَّه تأمُّلٌ فلسفي في معنى الوجود الإنساني في العالَم.

حديث «برنار نويل» عن كتاباته

في حوار، أجرته «صوفي نولو – Sophie Naulleau»، من مجلّة «ثقافة فرنسا – France culture»، بتاريخ العاشر من فبراير/شباط (2013)، يناقش «برنار نويل» علاقته بالأجيال القادمة، والقصيدة التي كان يعمل عليها لعدّة سنوات، فقال: «لقد تأثَّرتُ كثيراً عندما كرَّست لي مجلّة «أوروبا – Europe» عدداً خاصّاً، في يناير/كانون الثاني (2011)، فقد كانت الأبراج العاجيَّة تزعجني. العمل لا ينتهي حتى نموت. نقطة النهاية هي موت مَنْ كَتَب. لا توجد كلمة أخرى «نهاية». لمدّة خمس سنوات أو سِتّ، كنتُ أكتب قصيدة ليس لها نهاية أخرى غير نهايتي… بعد ذلك، أحببْتُ فكرة أنَّ كلماتي لم تعد بحاجة إِليَّ. إنها نوع من المناطق المكوَّنة من الكُتُب التي أتمنّى أنْ يُكمّل بعضها الآخر. كلّ واحد منَّا يصنع بلداً ثم، في يوم من الأيّام، في مرحلة معيَّنة، سيُصبح هذا البلد غير صالح للسَّكن بالنسبَة إلى الَّذي صنَعه. وكثيراً ما تساءلتُ عمّا إذا كانت أفضل نهاية هي الدُّخول في الصَّمت والتَّأمُّل».

وبمناسبة نشر كتابه «كتاب النسيان – Livre de l’oubli»، يستحضر «برنار نويل» الطريقة التي يتصوَّر بها وظيفة النسيان التي يضعها في صميم عمليَّته الإبداعيَّة، فيقول: «النسيان هو الذاكرة الحقيقيَّة بالنسبة إليَّ؛ إنَّه يشكّل هذا النَّوع من الذاكرة العالميَّة التي تتجسَّد في اللغات، لا في الأذهان…» وبربطه بين الإبداع والنسيان رسم «برنار نويل» مقاربته بشاعريَّة خاصَّة، تتراءى مُرصَّعة باليأس والأمل، في الآن ذاته، لهذا، يستحضر كتابه «كتاب النسيان» اللّغة والذكريات، أو الوعي بنسيانها. وفي ذلك الكتاب، يؤرِّخ «برنار نويل» للنسيان، ويُقرُّ أنَّ ما نعتقد نسيانه، هو، في الحقيقة، ما نتذكَّره، والذكريات تعود لتطفو في الكتابة، وتصبح «كلاماً لكُلِّ ما تمَّ فقدانه».

التَّفاعل العربي مع كِتابات «برنار نويل»

اهتم الكُتَّاب العَرب بكتابات «برنار نويل»، وعملوا على ترجمتها. وكان الشاعر المغربي «محمَّد بنيس» أهمّ الذين نقلوا كتابات «برنار» إلى القارئ العربي. هكذا، بعد أن تبادل «بنيس» الزيارات مع هذا الكاتب الفرنسي؛ ما أسهم في تقوية الروابط بينهما؛ فقد كانت النتيجة هي ترجمة «بنيس» لأربعة كتب هي: «هسيس الهواء» عام (1998)، و«كتاب النسيان» عام (2013)، و«موجز الإهانة» عام (2017)، وكلُّها صادرة عن «دار توبقال»، بالمغرب. أمّا الكتاب الرابع «طريق المداد»، فقد صدر عن دار نشر فرنسيَّة، وهو عمل مُميَّز جمع بين نصوص «نويل» ولوحات الفنَّان «فرانسوا رووان»؛ ما جعل منه عملاً شعريّاً وتشكيليّاً ذا طابع خاصّ.

تفاعل «برنار» مع الاحتفاء بترجمته إلى اللسان العربي، فصار عضواً شرفيّاً في «بيت الشعر في المغرب»، وشارك في إقامة فنّيَّة بمدينة مراكش مع الشاعر «محمَّد بنيس» والفنَّان التشكيلي «محمَّد مرابطي» سنة (2017)، إلى جانب مشاركته في المهرجان العالمي للشعر بالدار البيضاء سنة (2002). هذا التفاعل الثقافي مع المشهد الإبداعي والفنّي العربي، من قِبَل «نويل»، أنتج ترجمات عربيَّة أخرى مثل: «لسان آنَّا»، ترجمة بشير السباعي، و«تناذر غرامشي»، ترجمة ميساء سيوفي.

«برنار نويل» في «مرآة» الكشف

وَرَدَ عن الكاتبة «شانتال كولومب غيوم – Chantal Colomb-Guillaume»، في العدد الخاصّ بـ«برنار نويل»، من مجلّة «Europe»، في مقدِّمة المجلّة قولها: «برنار نويل»، كاتب ذو أهميّة كبرى، وعددُ قُرَّائه يزداد، ليس في فرنسا، فقط، بل في الخارج أيضاً، من خلال قصائده وقصصه ومسرحيَّاته وكتبه التاريخيَّة، والسياسيَّة، ونصوصه عن الرَّسم. تعدُّ الكِتابة حياتَه (…)؛ فعطاؤه فيها لا ينضُب. وإذا كان إنتاجه يقع «خارج الأنواع»، وظلَّ غير قابل للتصنيف، فإنَّ أصالته تجعل كلّ صفحة من صفحاته موقَّعة، ويمكن التَّعرف إليها وتمييزها عن طريق الكتابة أو الصَّوت أو اللّغة.« برنار نويل» هو كذلك روح الثَّورة، وهو مستعدٌّ، دائماً، للوقوف في وجه الظّلم أو حين انتهاك السّلطة لحرِّيَّتنا. بدأ كلّ شيء في أعلى الطريق من قلعة العشاء الأخير (Château de Cène) عندما شارك الكاتب الشَّاب في مقاومة التعذيب في الجزائر. بعد أن خضع للرَّقابة، أدرك أنَّ هناك نوعاً غير ملحوظ من انتهاك الحرّيّة، يُمارَس دون علمنا. وأنشأ لفظة «sensure» (خلافاً للكلمة الأصل «censure»، حيث أبدل c بـ s) للإشارة إلى هذا الحرمان من المعنى الذي تحاول السلطة السياسيَّة حبس المواطن فيه. لايزال «برنار نويل» يُطالب باللّغة، التي تعني الجسد، والـمَلَكة اللُّغويَّة، والنَّظرة، التي تحيل على الجسد والإدراك، بوصفهما الأداتين اللَّتين يمكن -بواسطتهما – تحقيق علاقة أصيلة مع العالم ومع الآخرين ومع الذَّات. كتاباته لا تتوقَّف عن مساءلتنا، وصمتُه يمنعنا من التَّوقف عن التفكير، ويدعونا لمشاركة ما يُقال، وما لا يُوصَف».

وتستمرّ الكاتبة «شانتال كولومب غيوم» في مقال لها، بالمجلَّة نفسها، في تعداد ميزات هذا الكاتب: «يدحض «برنار نويل» صفة النَّاقد الفنّي، ومع ذلك تكشف النصوص المصاحِبَة لكتب الرَّسم أو الرُّسومات التي شارك فيها عن معرفة عميقة بالفنون الجميلة (…)، ومع ذلك، يجد «برنار نويل» في الرَّسم تعبيراً مكمِّلاً للكتابة؛ لذلك هو يعرف إيماءات الفنَّان أو الرّسَّام؛ ولهذا، يستطيع الكتابة -بسهولة – عن «ماغريت – Magritte»، وكذا عن أصدقائه؛ «أوليفيي – ديبري Olivier Debré»، و«جان فوس – Jan Voss»، وحتى عن تقنيَّة الرَّسم الصيني «لـِزاو-وُو-كي – Zao wou- ki». هو في مكانه الطَّبيعي، سواء في الرَّسم أم في الشِّعر».

من بين ما كُتب في رحيل «برنار نويل»؛ مقال نشرته جريدة «Le Monde»، في 14 أبريل/نيسان (2021)، حيث يستحضر «بتريك كيششيان – Patrick Kechichian»: ما كتب عنه صديقه «جورج بيروس – Georges Perros» في عام (1977): «كان برنار نويل الذي أعرفه يكتنفه صمتٌ يُقطع بسكّين». وستنشر مراسلاتهما في عام (1998)، (منشورات Unes). بهذه الصورة القويَّة، يسلّط «بيروس» الضوء على مفارقة تأسيسيَّة: العملُ الوفير، الـمُلهِم والمدروس على حدٍّ سواء، الذي قام به «برنار نويل» في إطار هذه العلاقة العنيفة مع السَّريرة الصامتة. العنفُ الذي تشكِّل اللغةُ أداتَه وسلاحَه. ففي حوار مع «كلود أوليير – Claude Ollier» عام (1995)، أعلن: «لم يكن هناك شيء خارج اللّغة بالنسبة إليَّ. فليس هناك شيء غير قابل للوَصْف إلَّا لوجود ما هو موصوف». تشير هذه الملاحظة إلى الإنسان الذي عاش زمانه مثلما تشير إلى الكاتب والشاعر الذي كان عليه).

كما كتب أستاذ الأدب في جامعة «بال – Bâle»، «هوغز مارشال – Hugues Marchal»، في مجلّة «France culture» عدد (15) أبريل/نيسان (2021)، يستعرض عمل «برنار نويل»، ومحاولته إعادة القوّة النشطة إلى الكلمات، فقال: «إن تطوُّر التفكير في الرقابة كان مبكّراً جدّاً في عمل «برنار نويل»، خاصّة أنَّ الشاعر كان جزءاً من جيل تميَّز بالحرب الجزائريَّة، وآثار تشويه وسائل الإعلام، وسيطرتها التي- ربَّما- كانت موجودة خلال هذه الفترة. بالإضافة إلى ذلك، كان من آخر الـكُتَّاب الذين حُكم عليهم بإهانة الأخلاق؛ وذلك بسبب روايته «قلعة العشاء الأخير/ Le château de Cène»، التي نُشرت باسم مجهول عام (1969)، وقد اعتبر «برنار نويل» هذا النصّ شكلاً من أشكال الانتحار لأسلوبه وكتابته الخاصَّيْن».

تستحضر هذه الأقوال خصائص كتابة «برنار نويل»، وتقف عند سماتها الدَّقيقة؛ وبذلك تحقَّقت نبوءة هذا الشّاعر الفرنسي، حينما كتب في قصيدة «الاسم نفسه»: «حلمتُ أنّي كنتُ ميّتاً. أناسٌ كانوا ينطقون باسمي. حركة شفاهِهم كنتُ أشاهدُ. واسمي من شفة لأخرى كان يطير. لم يكن اسمي يعرفُ من أنا، لم يكن يعرف أنَّه اسمي. بيضاء كانت الشِّفاه». هكذا، رحل «برنار»، وترك إرثاً ثقافيّاً غنيّاً سيجعل كلَّ الشِّفاه تتناقل اسمه، على مرِّ العصور، لأنَّه كاتِبٌ استثنائي؛ كاتبٌ قد حمل همَّ قضايا عصره، والتزم بالكتابة عنها.

«البرفورمانس» والنصّ المتحرّك

هل أصبح الكَاتِب والشاعِر والمُفكِّر منشّطين تليفزيونيّين؟ ذاك هو السؤال المطروح منذ غلبةِ التليفزيون على الساحة الثقافيّة العالميّة، ومنذ توليّ فضاءات التواصل الاجتماعيّ إسناد التليفزيون في صناعة النجوميّة، قبل منافسته في صناعة القيمة.

كان مجتمعُ الفرجة يَبْرِي مخالبَهُ أيّامَ «غي ديبور وبورديو» في القرن العشرين، أمّا في بداية القرن الموالي، وخاصّة مع استعداد العالم للانخراط في «مرحلة ما بعد الكوفيد»، فقد باتت الفرجة «التباعديّة» هي القاعدة. وعليك أن تصنع الفرجة بنفسك إذا أردت أن «تصل».

من ثَمَّ ظلَّ لكُتَّابٍ كثيرين حضورٌ في الفضائيّات وعلى صفحات التواصل الاجتماعيّ، إلّا أن «حضورهم» كان في الغالب على حساب كُتبهم. وماذا يفعلون بالكتاب؟ «ليس في وسع كتابٍ في الطبخ أن يطفئ جوعك» هكذا يقول لك يوشيكاوا في «الحجر والسيف».

المُهمّ في نظر المسؤولين عن المشهد قدرة الكاتِب على صناعة الحدث وليس كتابه. «الاهتمام بكاتبٍ لِإعجابِنا بكتابِه كالاهتمام بحياة وَزّةٍ لإعجابنا بكبِدِها المُسَمّن»، هكذا يقول لك «غيّوم ميسو» في «طفلة الورق».

من مقتضيات الفرجة أن يتوفّر قدرٌ متصاعد من التشويق والإثارة والخصومات الدمويّة. بتلك الطريقة تمّت التضحية بالكثير من ألعاب القوى وتربّع الفوتبول على المشهد، وتفانى «المُعلّقون» في تعميم مُعجَم حربيّ ترتعد له الفرائص: أجهزوا عليهم أيّها الأبطال! نريد مقاتلين! يا لها من هزيمة شنيعة! لابدّ من الثأر!

حتى سباق الدرّاجات في تجلّياته الكبرى (طواف فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا) باتَ مسارُهُ مُحدّداً ومرسوماً بالشكل الذي يتيح انزلاقات بشعة وحوادث قاتلة أحياناً. كلّ ذلك طبعاً في سياق خطاب منافق مُضمّخ بعبارات أفرغت من كلّ معنى مثل الروح الرياضيّة وغيرها من الشعارات التي لم يعد يصدّقها أحد.

أصبح المُستثمرون في الإعلام والنشر يحدّدون «الرياضة» أو «الفن» الناجح والذي يستحق الحضور في الإعلام: ولا يمكن إفساح المجال طبعاً لخطاب «عميق» أو «نكديّ»، بل لابدّ من لعبة «مشهّية» ولاعبين ماهرين في الفضيحة والإثارة المبنيّة على مخاطبة الغرائز.

لقد أتيح لي على مرّ السنوات أن أشارك في العديد من التظاهرات الثقافيّة، خاصّةً في أوروبا وفي أميركا الجنوبيّة، ولاحظتُ أنّ الوضع لم يعد حكراً على لاعبي الفوتبول أو نجوم «الشوبيز»، بل صار ينطبق على الكُتَّاب وطال حتى المُفكِّرين والشعراء.

لقد سرت هذه العدوى الفرجويّة والمشهديّة والمنبريّة إلى الشعر العالميّ بسبب إغراءات «الميديا» وبسبب بحث الناشرين عن «رواج» منشوراتهم من خلال رواج كُتّابهم. بتحفيز من هؤلاء الناشرين انخرط شعراء كثيرون في البحث عن «الضجّة» أو الـ Buzz.

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي (تونس)

لقد لاحظت من خلال مشاركاتي في هذه المهرجانات حرصاً كبيراً على صناعةِ نجوميّة نوع جديد من الشعراء بتحفيز من الناشرين وإقبال من الجمهور، أُطلِقَ عليهم اسم «شعراء البرفورمانس»، فهذا يقرأ نصّه من «قرطاس»، والآخر يلقي قصيدته لاعباً بثعبان، والثالث يخلط بين الإلقاء والغناء والصراخ الهستيريّ!!

ليس من شكّ في أنّنا نعيش مرحلة «الميديا» و«الملتي ميديا» والرقميّات و«الحقيقة المُدمَجة». ولا ضير في أن ينفتح الشاعر على تقنيات زمانه، بل لعَلّ من واجبه ذلك. شرْط أن يكون كلّ ذلك خدمةً للنصّ الشعريّ لا «تمويهاً» وشعوذة للتستّر على ضعف النصّ أو رداءته.

استجابت «الميديا» فإذا هي تُشرع أبوابها أمام ظواهر مثل الـ Slam الذي اكتشفه الغرب في ثمانينيّات القرن العشرين بينما عرفناه نحن قبل قرون في هيئة «القوّال» أو «آلأديب» أو «الغنّاي»، والمُعارضات الشعريّة حامية الوطيس التي كانت تحفل بها الأعراس في بوادينا وأريافنا والتي تُرجمت اليوم إلى «مبارزات شعريّة».

لقد اعتدنا أن نرى الشعراء يختفون وراء قصائدهم لأنّهم يعتبرونها وحدَها الجديرة بالحضور، ولا يريدون التشويش على حضورها بحركة أو مظهر يغلب عليهم. إلّا أنّ الأمر تغيّر، وبتنا أمام قصائد تختفي وراء شعرائها لأنّها تحتاج إليهم كي تقف على قدميها.

ثمَّة أكثر فأكثر شعراء يعوّضون عن ضعف النصّ بحضورهم الإعلاميّ أو المنبريّ. يصنعون الحدث بأشياء من «خارج الشعر» فإذا قصائدهم تُقرأ من باب الفضول. أو ينخرطون في حقل شبيه بحقل «الستاند آب» وأحياناً «مسرح الممثّل الواحد».

هكذا أصبح الشأن بالنسبة إلى حضور الشعراء في فضاءات الإعلام. فالغلبة، مع احترام الاستثناءات، للشعراء الذين «يُمسرحون» حضورهم ويفتعلون المعارك ويتصنَّعون الضحك والتهريج ويعوّلون على أشياء من خارج القصيدة للمُشاركة في «البلاتوهات» كي يعتبرهم التليفزيون «زبائن» جيّدين.

هؤلاء هم شعراء الميديا و«البرفورمانس»، وهؤلاء هم المعنيّون بسؤالنا حين نراهم «يسكنون» بلاتوهات التليفزيون، محوّلين الكتابة والجدل الفكري والمُغامرة الفنّية إلى نوع من «التنشيط» التليفزيونيّ أو الإعلامي المحكوم بقواعد التسلية والترفيه.

علينا أن نشيد طبْعاً بشعراء «النصّ» الذين يشتغلون على نصوصهم، ثمّ لا يضيرهم بعد ذلك أن يشتغلوا على إلقائها أو «أدائها الركحيّ» الذي يدخل على النصّ «حركة» أو يعيد المُصالحة مع «الشفهيّ» أو يرتقي بالنصّ إلى مرتبة الكوريغرافيا أو «الفرجة الشاملة».

هؤلاء لا يفسدون للشعر قضيّة، بل يسندون المُغامرة ويَمُدّون الإبداع بجمهور جديد.

لقد تابعتُ بإعجاب كبير بعض التجارب في هذا السياق، وأتيح لي أن أرى نماذج من هؤلاء الشعراء الجدد، في فرنسا تحديداً، مثل «سيسيل كولون» و«روبي كور» اللتين قرأتا أشعارهما في عشرات المكتبات والفضاءات الثقافيّة وكسبتا بذلك الكثيرين إلى الشعر والكتاب والبحث.

إنّهما تكتبان شعراً متحرّراً، مُحرّراً، في لغة الحياة اليوميّة البسيطة، بسرديّة محسوبة، متخلّصة من إكراهات الوزن والبلاغة، نابعة من سيرة الشاعر الذاتيّة، بما تعنيه من تجارب وخبرات ولقاءات ومعرفة، عن طريق لوحات ومشاهد تعبّر عن المعيش، وتعيد تفكيكه وتركيبه لإنتاج أحاسيس وانفعالات، قريباً من أجواء الشعراء الأميركيين «شارل بوكوفسكي» و«ريمون كارفر».

لكن ماذا عن الشعر العربيّ.

الشعر إقامة في العالم. وليس من السهل أن تقيم في عالم اليوم من دون أن يؤثِّر فيك هذا العالم. لذلك يمكن الانتباه إلى وجود متزايد لشعر «البوفورمانس»، دون أن يكون ذلك بالضرورة على حسابِ شعرِ «النصّ المتحرّك» أو النصّ «الكوريغرافي».

لقد عرف الشعر العربيّ في مراحله القديمة الكثير من هذه الظواهر. وقد يكون من طبيعة الإبداع أن يُجدّد بعضَ قديمه ويذهب به إلى حيث لم يذهب، بعيداً عن التكرار والاتّباع. إلّا أنّ في هذه الظواهر ما أحسنّا فعلاً بتجاوزه، ومن ذلك ما يُصاحبها من صنعة وافتعال وتستُّر على هشاشة النصّ بنوع من البهارات الفرجويّة والشعوذة المنبريّة.

لقد صالحت هذه التقنيات الحديثة من جديد بين الجسد والنصّ وأعادت الشاعر أو الكاتب إلى مقدّمة المشهد بعد أن تراجعت به ثقافة العين إلى ما وراء الصورة، كما ردمت هذه التقنيات الفجوة الفاغرة بين المقروء والمسموع. ولعلّها في الطريق إلى المزيد من ذلك.

لماذا تخجل هوليوود من تاريخها؟

«هذا البرنامج يحتوي على صورةٍ سلبية وتناول خاطئ تجاه بعض الجماعات أو الثقافات. ذلك التنميط كان خطأً في الماضي، ومازال خطأً إلى الآن. وبدلاً من أن نحذف هذا المُحتوى أردنا الإقرار بأثره الضار، والتعلُّم منه، وإشعال نقاش يهدف لخلق مستقبل أكثر تسامحاً». بهذا البيان التحذيريّ اختارت منصّة (ديزني+) أن تستهل عدداً من أشهر العناوين في مكتبتها الفيلميّة الضخمة المُكوَّنة من إنتاجات الشركة المُمتدَّة عبر تاريخ صناعة السينما، أفلام اعتدنا مشاهدتها في الماضي والاستمتاع بها.

أفلام مثل: (Dumbo, Peter Pan, Jungle Book, The Muppet Show) وغيرها. أصبحت إشكالية، «Dumbo» بنسخته القديمة مثلاً، يبدو مجرَّد فيلم كارتوني رقيق يدور في عالَم الغابة والحيوانات، لكن بعض الأصوات النقديّة المُعاصِرة وجدت فيه مقارَبة بين الطيور ذات اللون الأسود في الفيلم وبين المُواطنين أصحاب البشرة السوداء في المُجتمع الأميركيّ، كتب ترافيس أندرسون في مقال نشرته واشنطن بوست في مارس/آذار 2019، أن الفيلم يبالغ في جعل تلك الطيور تتماهى مع العرق الإفريقيّ، في لكنتهم، وفي مصاحبة موسيقى الجاز لمشاهدهم وهي موسيقى مرتبطة بالسود، كما أن هناك ممثِّلاً أبيض «كليف إدواردز» يقوم بالأداء الصوتيّ لأحد تلك الطيور السوداء ويحاول بصوته مُحاكاة ما سمّاه «أصوات الأفارقة»! ووجد ترافيس أنها تفاصيل إشكالية تنمُّ عن رؤية عنصريّة لصُنَّاع الفيلم.

وجدت «ديزني» تلك الانتقادات سبباً كافياً لحجب بعض تلك الأعمال عن مستخدمي المنصّة من الأطفال، والذين كانت توجَّه تلك النوعية من الأعمال لهم بالأساس، واكتفت بعرضها على المُستخدمين البالغين يسبقها ذلك التحذير، مع إضافة رابط لمقطع فيديو توعوي ضدّ الانحياز اللاواعي للذكور البيض، وعن ضرورة توازن التمثيل العرقيّ للأعمال الفنِّيّة، والحذر من تمرير أية تفاصيل قد تجرح مشاعر الأقليّات والجماعات البشريّة الأقَلّ تمثيلاً.

ما تفعله منصّة «ديزني»، سبقتها إليه منصّة «HBO Max» في يونيو/حزيران من العام الماضي، حيث قامت بحذف الفيلم الكلاسيكيّ «Gone with the Wind – ذهب مع الريح» (1939)، بعد ساعات من نشر مقال مضاد للفيلم بواسطة الكاتِب والسيناريست «جون ريدلي» بجريدة «لوس أنجلوس تايمز»، كتبه «ريدلي» انفعالاً مع حملة «حياة السود مهمّة» ردّاً على أحداث مقتل المُواطن الأميركيّ «جورج فلويد» بدمٍ بارد على يد الشرطة. وطالب «ريدلي» في مقاله برفع هذا الفيلم المُصنَّف بين روائع السينما الكلاسيكيّة والأنجح من حيث تحصيل الإيرادات تاريخيّاً، بزعم أنه يجمِّل العبوديّة، وينحاز لولايات الجنوب الكونفدراليّة في الحرب الأهليّة، وهي التي كانت ترفض تحرير العبيد، إضافة لأنه «يعرض أصحاب البشرة المُلوَّنة بصورة نمطيّة مؤلمة».

قرار «HBO» برفع الفيلم قُوبِل بهجومٍ مضاد هذه المرّة، باعتباره شكلاً من الرقابة التي تجاوزها الغرب، ومحاولة لدفن صفحة من التاريخ القومي للولايات المُتحدة، فضلاً عن كونها صفحة شديدة الأهمِّيّة في تاريخ فن السينما، ما أدَّى بعشَّاق الفيلم وأصحاب الفضول من الأجيال الجديدة ليسارعوا بشراء نسخة الديفيدي للفيلم كردِّ فعل، وتصدر الفيلم قائمة الأسطوانات الأعلى مبيعاً في ذلك الشهر رغم مرور (81) عاماً على إنتاجه.

الهجوم المُضاد على مقال «ريدلي» شمل عرض وجهات نظر مختلفة عن الفيلم، ومطالبات بعدم تحميله ما يفوق سياقه التاريخيّ، فهو فيلم يتناول حقبة حساسة في تاريخ الولايات المُتحدة، ويتعامل مع معطياتها بشكلٍ واقعي دون تعمُّد بالإساءة لأي فئة، والحرب الأهلية التي تدور داخل أحداث الفيلم لم تكن موضوعاً رئيسيّاً، مثلها مثل قضية العبيد وحصر أصحاب البشرة المُلوَّنة في مهن الخدم، فكلّها بمثابة ديكور هامشي للفيلم، ولم ينحز الفيلم لقضية الجنوب الفيدراليّ ضد حلفاء الشمال بقدر ما كان مهتمَّاً بسيرة شخصيّات تعيش أصلاً في الجنوب بولاية جورجيا، بل يقدِّمهم في بداية الفيلم كمجموعة من المُتغطرسين والموهومين بالكبرياء والشوفينيّة التي تكون سبباً في هزيمتهم بالحرب، وينحاز الفيلم للأصوات العاقلة منهم مثل شخصيّة «آشلي» (ليزلي هوارد) أحد القادة العسكريّين في الجنوب، وهو فارس نبيل كان يرفض فكرة الحرب ويودُّ لو تمَّ حلّ النزاع سلميّاً، ونسمعه يقول في أحد المشاهد -بعد خسارة الحرب- إنه كان يخطِّط لتحرير العبيد على أي حال، وبغض النظر عن نتيجة الحرب.

لكن «ذهب مع الريح» هو بالأساس قصّة إنسانيّة عن الحبّ والغيرة والفرص الضائعة وكيف يتطوَّر المرءُ تكيُّفاً مع الظروف. وهو فيلم يتمتَّع بحيثيّة فنِّيّة بالغة الأهمِّية، حيث كان من أوائل الأفلام التي اختارتها مكتبة الكونغرس الأميركيّة للحفظ باعتباره وثيقةً ثقافيّة، ويحتلّ المرتبة الرابعة في قائمة معهد الفيلم الأميركيّ لأفضل (100)فيلم في التاريخ. وتسبَّب الفيلم في أول جائزة أوسكار في التاريخ تذهب لمُمثِّلة من أصحاب البشرة السمراء، وهي «هاتي ماكدانيل» التي جسَّدت شخصيّة المُربية «مامي». وهناك عشرات الدلائل على تأثيره الإيجابيّ في تاريخ فنّ السينما.

الناقِد والمُؤرِّخ الفنّي «بين مانكويتس» اعترف بأن بعض تفاصيل الفيلم التاريخيّة قد تُشعر بعض الفئات بعدم الراحة أثناء المُشاهَدة، لكنه شدَّد على تبنِّي الفيلم لرؤية تقدُّميّة سابقة لزمنه، تتعلَّق بعرض نموذج قوي عن المرأة في المُجتمع الأميركيّ بوقت كانت النساء على الهامش، ويرى أن تلك هي الطريقة الأمثل لتلقي فيلم كهذا، الاندماج مع البطلة «سكارليت أوهارا» التي تمثِّل جانباً نسويّاً مدهشاً، في كلّ مرّة تخسر هذه المرأة كلّ شيء، تتدارك خسائرها سريعاً، وتعاود الوقوف على قدميها لتكون أقوى ممّا كانت عليه، مدعومة بالأداء الفريد من المُمثِّلة «فيفيان لي» التي فازت بجائزة الأوسكار عن دورها.

منصّة «HBO» استجابت للانتقادات وأعادت الفيلم للعرض على منصّتها بعد أيامٍ من رفعه، ولكن سبقته بشاشة سوداء بها تحذير بأن الرؤية «العنصريّة» للفيلم كانت خطأ في الماضي، وهي خطأ الآن، وأضافت «لقد شعرنا بأنه من عدم المسؤوليّة لو أبقينا عرض هذا الفيلم بدون شرح وإدانة لمُحتواه». وأرفقت المنصّة مقطعين خارجيين لنُقَّاد يشرحون الفيلم بوضعه في سياقه التاريخيّ، كي تتقبَّله الأجيال الجديدة التي تربَّت في عصر «الصحوة».

وعمَّمت المنصّة تلك الوسيلة على عددٍ من أفلامها ومسلسلاتها المعروضة، فامتدَّت التحذيرات لكلاسيكيّات أخرى مثل «Blazing Saddles» (1974) وهو فيلم كوميدي شهير للمُخرج «ميل بروكس» يسخر من الأنماط الشائعة بأفلام رعاة البقر، ويقدِّم شخصيّات تمارس العنصريّة على المُلوّنين من باب الفكاهة، وأرفقت المنصّة مع التحذير مقطع فيديو للمُؤرِّخة «جاكلين ستيوارت»، أستاذة السينما بجامعة شيكاغو، توضح فيه أن المُمارسات العنصريّة تُقدَّم في إطار ساخر، وينتقدها الفيلم بإظهار أبطالها جهلة وضيقي الأفق، وهُم بذلك ليسوا نماذج عليا، بل نماذج مُدانة.

سياسة التحذيرات وصلت لفيلم «علاء الدين» بالنسخة الكارتونيّة (1992)، وبالنسخة الحيّة (2019)، حيث تعرضه منصّة «Sky» لمُشتركيها مسبوقاً بعبارة «هذا الفيلم يحتوي على طباع ولغة وتمثيل ثقافيّ عفَّى عليها الزمن، وقد يجرح البعض الآن».

الأمر لم يقتصر على المنصّات، وامتدَّ لقنوات الكابل التليفزيونيّة، وأبرزها قناة «TCM» بنسختها الأميركيّة، وهي قناة شهيرة في معظم مناطق العالَم، ومتخصِّصة في عرض كلاسيكيّات السينما من العصر الذهبيّ لهوليوود. فمنذ أسابيع قرَّرت القناة اتّباع سياسة التحذيرات، إذ يتمُّ تقديم فيلم «ذهب مع الريح» بهذه الطريقة: «نعرض الفيلم بالحالة الأصلية التي عُرِضَ بها عام 1939. وتحتوي على تيمات وتمثيل إشكالي، وربّما يجرح المُتفرّج المُعاصِر».

وقرَّرت القناة إنتاج برنامج حواري جديد بعنوان «Classics Reframed» ليتمَّ بثه قبل عرض الأفلام «الإشكالية» بدقائق، وهو عبارة عن مائدة تجمع عدداً من النُقَّاد ومؤرِّخي السينما بهدف وضع الأفلام في سياقها التاريخيّ، والكشف عن العناصر المُسيئة ثقافيّاً بها.

ومن أبرز الأفلام الكلاسيكيّة التي تتعرَّض للتنقيح الثقافيّ رائعة ألفريد هيتشكوك  «Psycho» (1960)، إذ يرى البعض أن الفيلم يسيء لفئة المُتحوِّلين جنسيّاً، ويربطهم بالمرض العقليّ. وهو ادّعاء مردود عليه، إذ إن شخصيّة المعتوه التي يجسّدها «أنطوني بيركنز» في الفيلم لم يكن يرتدي ملابس النساء لأنه متحوِّل، بل لأنه متأثر بأمّه لدرجة مهووسة، وحين يفعلها لا يستهدف التشبُّه بالنساء بصفةٍ عامة، لكن بأمه تحديداً، ويستخدمها هيتشكوك كأداةٍ بديهيّة لإحداث الفزع نظراً لغرائبيّة أفعال الشخصيّة وعدم تناسق هيئتها، وليس بغرض الإساءة لأي فئة.

أيضاً، تستهدف الرسائل التحذيريّة وبرنامج التنقيح بعض الروائع الكلاسيكيّة الأخرى مثل الفيلم الرومانسيّ «Breakfast at Tiffany’s» (1961)، إذ كان يفترض أن يجسِّد دور البطل ممثِّل بملامح آسيويّة مثلما جاء بالرواية، في حين قدَّمها جورج بيبارد بملامحه الشقراء، واعتبر المُنتقدون هذا نوعاً من التبييض المرفوض بمنطق عصرنا.

في البرنامج يشرح المُؤرِّخون سبب اختيار ممثِّل أبيض لأداء شخصيّة آسيويّة كقرار إنتاجيّ؛ خوفاً من ترسُّبات سلبية عند المُجتمع الأميركيّ منذ الحرب العالمية الثانية جرّاء المُواجهات ضد اليابان.

الفيلم الملحميّ الشهير لـ«جون فورد» «The Searchers» (1956) متهم من القناة بتقديم السكّان الأصليّين للولايات المُتحدة بصورةٍ مسيئة وعنصريّة، وكذلك في «Guess Who’s Coming to Dinner» (1967) رغم أنه كان يهدف بوقته لبث رسالة مضادة للعنصريّة بشكلٍ مباشر، لكنه متهم الآن بتقديم صورة عفَّى عليها الزمن عن المُلوَّنين. وفيلم «Seven Brides for Seven Brothers» (1954) متهم بالترويج للذكوريّة الكريهة. والقائمة تطول…

مقدِّمو البرنامج يؤكِّدون في كلِّ لحظة أنهم لم يأتوا بغرض منع الأفلام أو دفنها أو ممارسة نوع من الرقابة، بل لإتاحتها للعرض في سياق يناسب العصر، مدعوماً بالشرح. لكن أي شرح؟ وهل تحتاج البديهيات لشرح؟!

لديّ شكوك بأن هذه الطريقة الأمثل للتعامل مع الكلاسيكيّات، فهناك شبهة وصاية على إرادة المُتلقي وعقله وضميره، وافتراض بغباء هذا المُتلقي وعجزه عن التمييز والاستيعاب بأن ما يشاهده منتجات ثقافيّة تنتمي لعصرها.

لا مشكلة من دراسة تلك الأفلام تاريخيّاً وتنقيحها اجتماعيّاً بفتح مناقشات حول محتواها، هذا كان يحدث بالفعل في السلك الأكاديميّ والصحافيّ، ولم يتوقَّف يوماً، بينما سياسة التحذيرات والحجب وإرفاق الشروحات التي تسبق العرض، هذا كلّه لا يعمل على فتح نقاش ثقافيّ بقدر ما يعمل على بث سمعة شعبويّة سيئة عن تلك الأفلام، وهو نوعٌ من التوجيه السلبي للمُتفرِّج المُحايد، إذ تقوم تلك التحذيرات المُبهمَة بشحنه بانطباعات مسبقة عمّا يراه مما قد يؤثِّر في حكمه.

كما أنها تنزع حُسن نوايا المُتلقي لاستخلاص المُتعة الفنِّيّة والقيمة الأدبيّة، وتحوّله لمُتفرِّج مرتاب، متشكك، مدقّق في كلّ تفصيلة هامشية بوتيرة مهووسة، يملؤه شعور بالذنب لمجرَّد الإقبال على عملٍ فنّي يعتبره البعض إشكاليّاً. وإن لم يعثر على شيء مسيء فسيقوم باختراعه.

نعم، تلك المُمارسات لا يمكن تصنيفها كرقابة بالمفهوم الكلاسيكيّ، لكنها على الأقلّ تسميم للبئر، أو كما تذهب مقولة راي برادبري الشهيرة: «ليس عليك بحرق الكتب لتدمِّر الثقافة، فقط اجعل الناس يكفُّون عن القراءة». والحال المُقابل هنا لا تمنع الأفلام في عصر لم يعد المنع قابلاً للتطبيق، فقط املأ الدنيا بالتحذيرات وشعارات التلويح بالفضيلة والتعالي الأخلاقيّ.

موقف المثقَّف بين المتنبِّي والمعرّي وطه حسين

نستكمل، في هذا المقال، ما بدأناه في العدد الماضي من الكشف عن أن طه حسين، في كثير من دراساته التي كتبها عن الأدب القديم، كان يزن الكُتَّاب والشعراء، بميزان الجدل العقلي والنقد الموضوعي الذي يموضع الكاتب أو الشاعر في العصر الذي انبثق منه، ومارسَ فاعليَّته فيه، بالإضافة إلى حرص طه حسين، في الوقت نفسه، على استخدام هذه الدراسات كمرآة للتناظر مع الواقع أو التناقض معه، وكأنه يضرب بأعلام أدبنا القديم المَثل الذي يُحتذى -كما هو الحال مع المعرّي – أو الذي لا يريد له أن يسود في الواقع الراهن، فيكشف للقرَّاء سوءاته، كما هو الحال مع المتنبّي.

بعد أن صَحِبَنا في (مع المتنبّي) في رحلة تكوينه النفسي، والاجتماعي، والمعرفي، وكيف بدأ يكوِّن زاده الشعري، واللغوي، ثم كيف استخدم هذا الزاد في مدح ذوي الجاه والسلطان؛ يلفت نظر قارئه، بعدما مضى معه أشواطاً في مسيرة المتنبّي الحياتية، والشعرية، إلى ظاهرة مهمّة تتعلَّق بأهمَّ ما خَلَّد هذا الشاعر؛ أي براعته الشعرية وتجويده لفنّه: «أنَّ ظاهرة قد اطردت فِي حياة هَذَا الشاعر، فهو لم يستطع أنْ يرقى بفنّه إلّا فِي ظلِّ حامٍ يحميه ويعطف عليه، وهو لم يستطع أن يعيش عيشة الشَّاعِر المنتج المرتقي بفنَّه شيئاً فشيئاً، إلّا فِي كنف الأشراف والسادة والأمراء، كأنه النبت الطفيلي، لا ينمو ولا يزهر إلّا فِي ظلّ الشجر الضخام المرتفعة فِي السماء»(1).

وياله من حكم يجهز على أيّ أمل في استقلال الشاعر، أو تعهُّده الحرّ لموهبته واستقلال مواقفه. ثم يضيف إلى هذه الطفيلية: «ولنلاحظ هذه الظاهرة بالقياس إلى شخصية المتنبّي؛ فهي تقفنا على أخصّ ما يمتاز به هَذَا الرجل من التناقض الغريب بين رأيه فِي نفسه وسيرته بين الناس، فهو قد كان، فِي شبابه، لا يطمح إلّا إلى الحرّيّة، ولا يطمع إلّا فِي الاستقلال، وهو قد ألقى نفسه فِي السجن، وعرَّض نفسه للموت فِي سبيل حرّيّته واستقلاله، ولكنه لم يكد يظفر برعاية أمير من الأمراء أو سيِّد من السادة، حتى نزل عن نفسه، وضحّى فِي سبيله بهذه الحرّيّة، وذلك الاستقلال، وأغرب من هَذَا أنَّ سيف الدولة لم يشغل المتنبّي عن غيره من الأمراء والملوك، فحسب، بل شغله، أَيْضاً، عن الشعر الخالص… فهذا كلّه يدلّنا على أنَّ المتنبّي كان يتَّخذ الشعر وسيلة لا غاية، وعلى أنه كان عبداً للطمع والمال، لا للجمال والفنّ».(ص 147 – 148).

لذلك، لم يكن غريباً أن يكرّر رأيه فيه بوضوح بالغ، لمن لم يفهم مسار تناوله له حتى وصوله إلى سيِّده الأخير «كافور»: «إلى هَذَا الحال انتهى حين فارق سيف الدولة، وألقى بنفسه بين يدي سيِّده الجديد «كافور»، جَحَد ماضيه كلّه، ورفض آراءه كلَّها، ونزل حَتَّى عمّا كان خليقاً أنْ يحتفظ به من أَيْسَر الكرامة، وأهْوَن الكبرياء، ولا تقل إنه كان محتاجاً إلى هذه الذلّة، مضطرّاً إلى هَذَا الهوان، عاجزاً عن أنْ يحيا حياة كريمة مستقلّة، خالصة للفنّ، فلم يكن المتنبّي، في ذلك الوقت، بائساً ولا فقيراً، بل كان بعيداً كلّ البعد عن البؤس والفقر، أخذ من سيف الدولة مالاً كثيراً جدّاً، ولم يسرف فِي هَذَا المال، بل أسرف فِي حسن تدبيره، وشدّة القيام عليه، حَتَّى انتهى به إلى البخل القبيح. وخرج من ملك الحمداني يسوق بين يديه مالاً ضخماً، ويحيط به عدد من الرقيق، فلو شاء أنْ يعيش حُرّاً كريماً مستقلّاً لما وجد فِي ذلك مشقّة، ولا جهداً».(ص 243).

ثم ما يلبث أن يدينه أبلغ إدانة لهذا كلّه (في تعزيز لأطروحته الأساسية عنه)، ويؤكِّد ما ذهب إليه طوال تحليله لمسيرته الشعرية، والمعرفية، والحياتية: «… أنَّ المتنبّي إنما كان شاعراً كغيره من الشعراء، ورجلاً كغيره من الناس، قد رفع نفسه فوق قدرها، وزعم لها ما ليس من أخلاقها، وطمع فيما لا ينبغي لمثله أنْ يطمع فيه. ظنَّ نفسه حُرّاً، ولم يكن إلّا عبداً للمال، وظنَّ نفسه أبيّاً، ولم يكن إلّا ذليلاً للسلطان، وظنَّ نفسه صاحب رأي ومذهب، ولم يكن إلّا صاحب تهالُك على المنافع العاجلة التي كان يتهالك عليها أيسر الناس أمراً، وأهونهم شأناً».(ص244).

وكأني به يجمع، هنا، جلّ القيم التي يجب على المثقَّف أو على الشاعر الحقّ، أن يتحلَّى بها: الحرّيّة التي لا ترضى، بأيّ شكل من أشكال العبودية، سواء أكانت للمال أم كانت للسلطان، والإباء الذي يحمي به عزّة نفسه وكرامته من كلّ سوء، والوعي بضرورة أن يكون المثقَّف صاحب رأي وموقف ممّا يدور في الواقع الذي يصدر عنه، وألّا يتهالك على المنافع التي يتهالك عليها أيسر الناس. ويضعها جميعاً مرآة لمن يريد، حقّاً، أن يرى نفسه، وأن يزن الآخرين بالعدل.

صبري حافظ

لذلك، كان طبيعياً، وقد أقام تلك المرآة، أن يرينا فيها الوجه الآخر للمتنبّي. حينما يقيم تناظراً بينه وبين أبي العلاء المعرّي، من حيث الوعي والموقف واستقلال المثقَّف: «وقد جاء بعد المتنبّي رجل آخر، رفع نفسه عن الدنيا وعن شهواتها ولذّاتها ومنافعها العاجلة، واحتقر الناس وازدراهم، وأنكر الملوك والأمراء، وزهد فِي التقرُّب إليهم والدُّنوِّ منهم، وأراد لنفسه أنْ تكون نفس الرجل الحرّ الكريم، ولعقله أنْ يكون عقل الرجل الحكيم الفيلسوف، فوفى لنفسه وعقله بكلّ ما أراد، ولم يكن أَقلّ شاعريّةً من المتنبّي، ولم تسعده الأيّام كما أسعدت المتنبّي، فقد حرمته بصره، ولم تتح له من الغنى والثروة ما يكفل له لين الحياة، وخفض العَيْش، ومع ذلك عاش كريماً، ومات كريماً، ولم يتعلَّق عليه أحد بذلّة، ولم يغتمز فيه أحد هفوة».(ص244).

هنا، يقيم طه حسين أمام أيّ متأمِّل لحياة المتنبّي وشعره مرآة، عليه أن يعرض عليها صورته قبل أن يصل إلى حكم نهائي عليه؛ ألا وهي صورة الشاعر المثقَّف المستقلّ. شاعر ترفع عن الصغائر كلّها، وصبّ كلّ اهتمامه العقلي على عمله، فارتقى به إلى مصافّ الحكيم الفيلسوف. بل إن هذا الموقف سرعان ما رفد شعره بالتفوُّق الفنّي، والعمق الفكري معاً.

وحينما تناول شعره في كافور، والذي يعتبره من أعذب شعره، برهن لنا، عبره، أن «كافوراً» استطاع بفطنته، أن يكشف حقيقة المتنبّي، وأن يعامله على قدر ما استشفَّه من حقيقته، فآلم ذلك المتنبّي، وما أشد ألم مواجهة النفس لمن يخادعها!، وكيف أنه بعد أن يئِس المتنبّي من أن يولِّيه كافور ما كان يطمع فيه من ولاية، فرّ منه وهجاه. فكشف، بذلك، لا عن صغر «كافور»، فحسب، بل عن صغره هو، وهو يقول عكس ما قاله فيه لسنوات، ممّا عرّى المتنبّي حقّاً: «فالمتنبّي فِي قصّته مع كافور كلّها صغير حقّاً، صغير حين مدح، وصغير حين هجا، وصغير حين رضي، وصغير حين غضب»(ص279). ثم يسقط المتنبّي، تماماً، في عينيه، حينما يقتل نفساً بغير حقّ، لمجرَّد أنها سرقت شيئاً من متاعه. ويروي علينا قصّته في أثناء فراره من كافور متوجِّهاً إلى العراق، وكيف نزل في بعض طريقه «بأعرابي من طيِّئ، يُقال له وردان بن ربيعة، فجعل هَذَا الأعرابي يُفسد عبيده، وجعل العبيد يسرقون له من متاع سيِّدهم، فلما شعر المتنبّي بذلك، وعرف أعظم عبيده حظّاً من هَذَا الشرّ، ضربه بالسيف فأصاب وجهه وجدع أنفه؛ ثم أمر غلمانه أنْ يجهزوا عليه، ففعلوا».

ويعلِّق على ذلك: «إنما الشيء الخطير حقّاً؛ هُوَ إقدام المتنبّي على القتل فِي سبيل ما كان يسرق هَذَا العبد من متاعه، فذلك لا يصوّر بخله وحرصه على المال، فحسب، بل يصوّر، كذلك، ما هُوَ شرّ من هذا؛ يصور استهانته بالحياة الإنسانية، واستباحته الدم الإنساني فِي سبيل متاع يقوَّم بالدراهم والدنانير. وأَقلّ ما يوصف به هَذَا الإثم أنه لا يصوّر نفساً شاعرة متحضّرة رقيقة الحسّ، متأثِّرة بالفلسفة، فضلاً عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس فِي مثل هذه الصغائر، ولو أنَّ حياة المتنبّي كلّها خلت من النقائص والعيب، لكانت هذه الحادثة وحدها خليقة أن تسبغ عليها لوناً أحمر قانياً يبغضها ويبغض صاحبها إلى الناس»(ص288).

ويخلص من هذا كلّه إلى تذبذب المتنبّي في مسارات تبدو متعارضة، «فقد رأينا الشاعر، بعد محنته في شبابه، يُدفع شيئاً فشيئاً إلى طريق الشعراء من قبله، ويتهاون شيئاً فشيئاً في الاحتفاظ بما كان له من مذهب ورأي. رأيناهُ يُفرط في القرمطية، وإنْ احتفظ بشيء من الحنين إليها، ثم رأيناه يمدح غير العرب حين تدعوه الضرورة إلى ذلك، ثم رأيناه يتكلَّف الشعوبية في مدح الروزباري بدمشق، ثم رأيناه يعود إلى عربيَّته حين يتصل بالحمدانيين، ثم رأيناه، بعد ذلك، يُعرض عن هذه العربية، وينقطع إلى عبد زنجي أو نوبي في الفسطاط، فيمدحه ما امتدَّت له أسباب الطمع فيه، ثم رأيناه يستردّ عربيَّته ويعود إلى العراق وقد آثر الحيدة والهدوء، ثم رأيناه، آخر الأمر، يغلب على قرمطيَّته وعلى عربيَّته معاً، فإذا هُوَ يهجو القرامطة ويقاتلهم بالسيف والرمح، من جهة، وإذا هُوَ يمدح دلِّير، ويؤثر ابن العميد وعضد الدولة على صديقه الحمداني القديم، من جهة أخرى. هُوَ يعود الآن إلى العراق، وقد ضحى في سبيل المال والمجد الشخصي، بالقرمطيّة والعربيّة معاً تحت أقدام البويهيِّين».(ص312).

وينهي كتابه، بعد اكتمال الفصل الثامن «خاتمة المطاف» من الكتاب الخامس «غنيمة الإياب»، بأن يذكر أنه أملاه في «سالنش – Sallanches» في يوليو/تموز (1936)، و«كمبلو – Combloux» في أغسطس/آب (1936)، في منطقة «السافوا العليا – Haute-Savoie» جنوب شرقي فرنسا. لكنه يضيف بعد عودته إلى القاهرة، تذييلاً أخيراً يكتبه في بيته بالزمالك، في يناير/كانون الثاني (1937)، في أثناء طباعة الكتاب، ويُعَنْوِنه بـ«بعد الفراغ». في نوع من النهاية الدائرية (إن صَحَّ التعبير)، بالعودة إلى ما بدأ به من أن الكتاب يتيح لنا معرفة ما يشغله أكثر من التعامل معه كموضوع لبحث، استثارَتْه مناسبة الاحتفال بألفيّة المتنبّي. حيث يؤكِّد، مرّة أخرى، أن هذا الكتاب يصوِّره هو أكثر ممّا يصوِّر المتنبّي: «أريد أنْ ألاحظ أنَّ هذا الكتاب إنْ صَوَّر شيئاً، فهو خليق أنْ يصوِّرني أنا في بعض لحظات الحياة، في أثناء الصيف الماضي، أكثر ممّا يصور المتنبّي، وإنه لمن الغرور أنْ يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر، حتى إذا امتلأت نفسه بما قرأ، أو بالعواطف والخواطر التي يثيرها فيها ما قرأ، فأملى هذا أو سَجَّله في كتاب، ظنَّ أنه صوَّر الشاعر كما كان، أو درسه كما ينبغي أنْ يُدرَس، على حين أنه لم يصوِّر إلّا نفسه، ولم يعرض على الناس إلّا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء»(2). ثم يضيف: «إنَّ نقد الناقد إنما يصوِّر لحظات من حياته، قد شُغل فيها بلحظات من حياة الشاعر أو الأديب الذي عُني بدرسه». وكأنه يردّنا إلى فكرة المرآة التي أشرت إليها، في بداية حديثي عن هذا الكتاب؛ وهي ضرورة أن نفهم العمل وأطروحته الأساسية حول دور الشاعر/ المثقَّف في مجتمعه، وأهمِّيّة أن يخلص لمشروعه، ويحقِّق استقلال موقفه إزاء السلطة، لا أن يكون تعبيراً عنها، أو مسجّلاً لما تريده منه، ناهيك عن أن ينحطَّ إلى التعبير عمّا لا يؤمن به من أجل المال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

1 – طه حسين (مع المتنبّي). الطبعة التي اعتمدنا عليها، هنا، هي طبعة القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، (2013)، ص 139، وسنشير بعد ذلك للمقتطفات من الكتاب؛ برقم الصفحة من تلك الطبعة.

2 – المرجع السابق، ص 315.

الدبلوماسية الثقافيّة.. ما قبْل وما بعد!

من الضروريّ إثراء صنف المُلحقين الثقافيّين بعددٍ من الأدباء والمُثقَّفين، شباب الروح والخيال، الذين تتوفَّر لديهم الرغبة والشروط. إمّا كمُلحَقين وإمّا كمُختصّين يُساعدون المُلحقين في مجال اختصاصهم. هذا الأمر معمول به من القديم. وقد رأينا سلسلةً تكاد لا تنقطع من الأدباء الدبلوماسيّين من «شاتوبريان» إلى «صلاح ستيتيّة» ومن «كارلوس فوينتوس» إلى «نزار قباني»، دون أن ننسى الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: «سان جون بيرس» و«أستورياس» و«بابلو نيرودا» و«أوكتافيو باث»، وغيرهم كثير.

قد تختلف سنواتُ ما بعْدَ (الكوفيد) في التعامُل مع الكثير من الخيارات، وخاصّة فيما يتعلَّق بالتعامُل مع المكان: المكان بوصفه ماكينة جديدة لإنتاج التقارب والتباعد على الأرض وفي اللُّغة والفكر تحديداً. ولعَلّ من السهل الانتباه في مُعظَم دُوَل العالم إن لم يكن في كلِّها، إلى ظهور تركيبةٍ ماديّة لُغويّة جديدة تبشّر بهذا «المكان الجديد»، الذي قد يضع «الحوارَ عن بُعد» جنبَ «الجوارَ عن بُعد».

في هذه التركيبة الماديّة اللُّغويّة الجديدة، المُتحالفة مع واقع متجدِّد، قد نرى وزارات الثقافة والتربية والسياحة والخارجيّة تُشكِّلُ رأسَ حَرْبة، في تحالُف مع دوائر الاقتصاد والمال والتنقّل، على أساس أنّ الخطّ الأوّل للدفاع عن الداخل يبدأ من الخارج، وأنّ النجاح داخل الحدود يبدأ من الخارج، فيما يمكن أن نسمِّيه «الدبلوماسيّة الثقافيّة».

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي (تونس)

تحرصُ الدول ذاتُ الرؤية الاستراتيجيّة على المُوازاة بين عملها الدبلوماسيّ المحض وعمل المُستشاريّات والمراكز الثقافيّة وتختار لهذه المُستشاريّات والمراكز مسؤولين من طرازٍ خاصّ، بل تنتدب لها في أحيان كثيرة مسؤولين من كبار مُثَقَّفِيها. لكنْ ماذا سيكون علينا أن نفعل قبل ظهور «الصعوبات الجديدة» وما قد تتضمَّنه من «نظرةٍ مختلفة» إلى السفر والتنقّل؟

ليس من السهل طبعاً اختزال مواصفات المُلحق الثقافيّ الناجح قبل (الكوفيد) وبعده. لقد شرع محلِّلون مختلفون في النظر إلى «مشهد الرحلة والفرجة» وهو يعيد تركيب صورته وترتيبها في ضوء ما يحدث، وما يمكن أن يحدث، حين نقف أمام ضرورة التعامُل مع المجهول. وبات واضحاً للجميع أنّ من الصعْبِ النّظر إلى المسارح، ودور السينما، وقاعات العروض، بنفس الطريقة لما قبل (الكوفيد) وما بعده.

الدبلوماسيُّ الثقافيّ الناجح لما قبْلَ (الكوفيد) هو ذاك الذي لا يكتفي بامتلاك الكاريزما والمهارات التي تجعل منه وسيطاً ناجعاً وعنصر تجميع، بل يتخطّى ذلك إلى حيثُ يقِفُ المُبدع، فإذا هو يتمثَّلُ ثقافتَه حدَّ الانفتاح على الثقافة الإنسانيّة، وإذا هو يبتكر ويتجاوز القواعد. الأمر الذي يتطلَّبُ سعةَ الخيال ومرونة الفكر وامتلاكَ اللّغة ومعرفةَ الذات حدّ الاهتمام بما هو مختلف عنهما، بما يُيسّرُ التواصُل مع الآخر ولُغتِه وثقافتِه بشكلٍ عامّ.

الدبلوماسيُّ الثقافيّ الناجح لما قَبْلَ الكوفيد هو ذاكَ المهووسُ بالشيء الثقافيّ لأسبابٍ تتعدَّى متطلَّبات المهنة، فإذا هو يتمكَّن من تفاصيل البروتوكول والتشريعات والإجراءات الإداريّة ودوائر القرار والتمويل والرعاية الثقافيّة في البلدين، ويكاد يوازنُ بين اطّلاعه على تفاصيل الحياة الثقافيّة في بلاده وفي البلاد التي يعمل بها.

لكن أين هذا ممّا نحتاج إليه اليوم وغداً: ذاكرة مفتوحة تصنع من الجذور أجنحة. صورة دقيقة عن الساحة الثقافيّة في البلاد التي يعمل بها لا تقلّ دقّةً عن الصورة التي يحملها عن الثقافة في بلاده. جسور تردم الفجوات بين تلك الساحة والساحة الثقافيّة في بلاده، بحيث تنتعش تلك الساحة وتتجدَّد بِفعل التلاقُح والتحاوُر مع الثقافات الأخرى، وتُصبح في الوقتِ نفسِه، الجبهة الأولى (أو الفيترينة) التي تكتسبُ من خلالها جاذبيّة حقيقيّة تُتيح لها الانتعاشَ ومن ثَمَّ إنعاش السياحة والاقتصاد ككلّ. مخيّلة خصبة. تكنولوجيا حديثة. إرادة على الإنجاز وقدرة على التواصل، كفيلة كلّها بإعادة النظر في مفهوم الشيء الثقافيّ ككلّ.

ليس من شكٍّ طبعاً في أنّ لدينا دبلوماسيّةً عريقة مشهوداً لها منذ عُقود وسفراء مقتدرين مقتنعين بدور الثقافة يعملون بمساعدة مُلحقين ثقافيّين مجتهدين. إلّا أنّ أغلب هؤلاء المُلحقين الثقافيّين يعمل وفق اجتهاده الشخصيّ، بلا ميزانيّة مناسبة ولا موارد بشريّة ولا خطّة عمل واضحة ولا تنسيق مع مختلف الوزارات. فضلاً عن ضرورة الاعتراف بأنّ المُلحق الثقافيّ في عددٍ من سفاراتنا اسمٌ بلا مُسمَّى. أو لا تكوين له في المجال. أو مشغولٌ بمهمَّات المُلحق الاجتماعيّ!

إنّ في الأزمة (التنظيميّة والإبداعيّة) التي عاشتها معظم الساحات الثقافيّة العالميّة خلال أزمة (الكوفيد)، ما يدلّ على ضرورة تغيير النظر إلى الثقافة والإبداع.

وإذا كانت الحلول «الأوّليّة» قد نجمتْ في الغرب عن «مبدعين» أوّلاً، استطاعوا أن يبلغوا مراكز القرار، فإنّ الموقف ظلّ مختلفاً في معظم البلدان العربيّة، حيث استمرّ المسؤولون عن مشاكل الأوضاع الثقافيّة في البحث عن حلول للمشاكل الثقافيّة.

إنّ من الضروريّ (الآن الآن وليس غداً) إثراء صنف المُلحقين الثقافيّين بعددٍ من الأدباء والمُثقَّفين، شباب الروح والخيال، الذين تتوفَّر لديهم الرغبة والشروط. إمّا كمُلحَقين وإمّا كمُختصّين يُساعدون المُلحق في مجال اختصاصهم. هذا الأمر معمول به من القديم. وقد رأينا سلسلةً تكاد لا تنقطع من الأدباء الدبلوماسيّين من «شاتوبريان» إلى «صلاح ستيتيّة»، ومن «كارلوس فوينتوس» إلى «نزار قباني»، دون أن ننسى الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: «سان جون بيرس» و«أستورياس» و«بابلو نيرودا» و«أوكتافيو باث»، وغيرهم كثير. ولا أدري إنْ كنّا محتاجين حقَّاً إلى دراسات مُعمَّقة كي نبرهن على المكاسب الثقافيّة (ومن ثَمَّ الماديّة والمعنويّة) التي حقَّقها هؤلاء المُثقَّفون الدبلوماسيّون لأوطانهم، في سياق الموازنة بين متطلَّبات الوظيفة ومتطلَّبات الموهبة.

السؤال الآن: أين نحن من كلِّ هذا؟

أنطلقُ في هذا السؤال من تجربةٍ شخصيّة وعامّة جعلتني أعرفُ كَمْ يُهدر المُبدعُ من طاقةٍ كي يسدَّ غيابَ المؤسَّسات الخاصّة والعموميّة، وكَمْ يتمكَّن أحياناً من الذهاب شرقاً وغرباً، بجهده الخاصّ، فإذا بالإعلام هناك «يتَحرَّك» طيلة أسبوعٍ وأسبوعين بما لا يُقارَنُ مع ما تفعله الدبلوماسيّة طيلة سنة، دون أن يتحرَّك لسفارته ساكن! مع احترام الاستثناءات!

قد يقول قائلٌ نحن لسنا فرنسا كي نزرع أكثر من 150 مركزاً ثقافيّاً فرنسيّاً في العَالَم ولسنا معنيّين بالدفاع عن اللّغة الفرنسيّة في كندا مثلاً كي يكون لنا فيها مستشاران ثقافيّان. قد يقول قائلٌ نحن لسنا الولايات المُتّحدة الأميركيّة كي نكون مهمومين بفتح الأسواق أمام صناعاتنا الثقافيّة من كُتُب ودوريّات وإنتاج سمعي بصريّ موسيقيّ وسينمائيّ وتكنولوجيا رقميّة.

قد يقول القائلُ أكثر من هذا لكنَّ وْضْعَنا (على تواضعه وربَّما بسبب تواضعه) يُواجهنا بحقيقةٍ بسيطة، مفادها أنّنا أحوج من الجميع إلى تفعيل هذه المنظومة، لأنّ الثقافة ثروتنا الأساسيّة، ولأنّها مفتاح استقطاب المُترجم والناشر والإعلاميّ، ومن ثَمَّ السائح والمستثمر. لِنتخيَّلْ المردودَ المُمكن على الصعيدين الثقافيّ والاقتصاديّ، لو توفَّر لـ(50) سفارة من سفاراتنا في العَالَم مُلحَقُون ثقافيُّون قادرون على تنظيم نشاط جيّد كلّ شهر، ولو استضاف هذا النشاط عشرة مُثقَّفين عرب، بما يُتيح حضوراً دوليّاً لـ(6000) مُثقَّف عربيّ كلّ سنة!

ليس من شكٍّ طبعاً في أنّ النهوض بهذا الدور يتطلَّب من المُلحق الثقافيّ تكويناً خاصّاً، واطّلاعاً دقيقاً على الثقافة في بلاده، لا يقلّ دقّةً عن اطّلاعه على الثقافة في موقع عمله. أسأل هنا على سبيل الاستفسار والاستيضاح بعد حفظِ المقامات واحترام الاستثناءات، بعيداً عن كلِّ تعميم أو حكمٍ مُسبَق: هل لدينا في تقاليدنا الدبلوماسيّة ما يدلُّ على أنّنا نؤمن حقَّاً بأنّ للثقافة هذه المكانة وللمُلحَقِ الثقافيّ هذا الدور؟ وكَمْ لدينا من مُلحَقٍ ثقافيٍّ بهذه المُواصفات؟ وهل لدينا تحديداً القدر الكافي من الخيال والطاقة «الاقتراحيّة» لمُواجهة متطلَّبات «الدبلوماسيّة الثقافيّة» للمكان المُنفلت، المُغاير، المُختلف، لسنوات ما بعد الكوفيد؟

جدل التناقض بين طه حسين و المتنبي

لم يحظَ شاعرٌ عربيّ -قديماً أو حديثاً- بما حظي به المتنبي من اهتمام ومكانة. وكثرت عنه الدراسات قديماً وحديثاً. لكن ما استوقفني في كتاب طه حسين عنه، هو أطروحته المُهمَّة في هذا الكتاب، والتي جعلت العودة للتراث سبيلاً إلى تمحيص الكثير من قضايا الحاضر، واستخدامه كمرآة للتناظر أو التناقض بين الماضي والحاضر.

وقد أملى طه حسين كتابه عن المتنبي في صيف عام 1936، بعدما أمضى العام الدراسي 1935/ 1936 في تدريس نصوصه لطلابه، والحوار معهم حولها. فقد كانت مصر مشغولة به -فهو بالقطع أحد أهمّ شعراء العربيّة الكبار، وقد وافق هذا العام (وهو عام 1354هـ) مرور ألف عام على مقتله- في شهر رمضان (354هـ)(1). وقد أمضى طه حسين جلّ هذا الصيف في إملاء كتابه عن المتنبي، إلى الحَدِّ الذي كانت زوجته تلحُّ عليه كثيراً كي يأخذ قسطاً من الراحة، أو يستمتع بطبيعة جنوب فرنسا الخلّابة، فلا يأبه لإلحاحها، كي يفرغ من هذا الكتاب. ويكشف لنا طه حسين في مقدِّمة الكتاب -وإنْ بطريقة مواربة- سرَّ تفرُّغه لهذا الكتاب على حساب حقّ نفسه من الراحة عليه، حينما يؤكِّد أكثر من مرّة نفوره الطبيعيّ من المتنبي «وليس المتنبي مع هَذَا من أحب الشعراء إليَّ وآثرهم عندي، ولعلّه بعيد كلّ البعد عَنْ أن يبلغ من نفسي منزلة الحب أو الإيثار، ولقد أتى عليَّ حينٌ من الدهر لم يكن يخطر ببالي أني سأعُنَى بالمتنبي أو أطيل صحبته، أو أدُيم التفكير فيه»(2).

وكأنه يدعونا هنا إلى أن نسأل أنفسنا لماذا أجبر نفسه على ما لا تحب؟ صحيح أنه يخبرنا بما نعلمه من متابعة سيرته أنه شديد العناد، وأنه أثقل بذلك الأمر على نفسه: «وأكبر الظن أني إنما فعلت ذلك؛ لأني أحب أن أعاند نفسي وآخذها من حينٍ إلى حينٍ ببعض ما تكره من الأمر، وقد قلت فِي غير هَذَا الموضع: إني لست من المُحبين للمتنبي ولا المشغوفين بشخصه وفنّه، فلم أجد بأساً فِي أن أشقَّ على نفسي أثناء الراحة، وأثقل عليها حين تبغض الإثقال عليها… لم أجد بأساً بأن أثقل على نفسي أثناء هَذَا كلّه بالتحدُّث إلى المتنبي والتحدُّث عنه، والاستماع له، والنظر فيه، والناس يعرفون أني شديد العناد للناس، فليعرفوا أَيْضاً أني شديد العناد لنفسي كذلك» (ص 10). لكن الأمر عندي يتجاوز عناد النفس، إلى ما هو مهمّ وجوهريّ في مسيرته لتأكيد أهمِّيّة استقلال المُثقَّف ونزاهة موقفه، في زمن أصبح فيه طه حسين رمزاً لكثير من القيم الضميريّة التي يتطلَّع لها جلّ أبناء وطنه. وهو أيضاً ابن سعي طه حسين للإجابة عن السؤال المُضمر في عدم حبه للمتنبي، بالرغم من احتفاء الكثيرين به وولعهم بشعره.

هذا فضلاً عن أن تريثه عند المتنبي -وهذا ربّما ما خرجت به من قراءتي لكتابه عنه- هو نوع من العودة إلى تأكيد خياراته الأولى، منذ تمرد على ما اعتبره جموداً في الأزهر، واختار أبا العلاء المعري موضوعاً لرسالته الأولى من الجامعة الأهلية عقب إنشائها. ولأنه، وقد تماهى مع أبي العلاء وخصّه بأكثر من كتاب، أراد أن يقيم أمامنا نقيضه المرفوض: المتنبي. ويرفع به مرآة للمُثقَّف وللعالم، يرى فيها صورته أولاً قبل صورة غيره، ويُسَرِّي بها عن نفسه، بعد ما عانى من الكبت والظلم. فيسعده أنه لم يفعل مثلما فعل المتنبي، وإنما دافع عمّا يؤمن به، وتحمَّل مسؤولية رسالة المُثقَّف، وتصدَّى لاضطهاد حكومة صدقي، ومن ورائه الإنجليز والملك. ويكشف لنا عن أنه لا يكفي أن يكون المُثقَّف بارعاً في فنّه، مسيطراً على أدواته اللُّغويّة والشعريّة، وقادراً على توظيف معارفه في تجويد الشعر. وإنما لابدّ أن يصاحب هذا كلّه نزاهة الموقف ونصاعته، والصدق مع النفس، والاعتزاز بكرامته، والترفُّع عن قول ما لا يؤمن به.

ويصحبنا طه حسين في كتابه «مع المتنبي» في رحلة حياة الشاعر عبر مسارها التاريخيّ من البداية حتى النهاية. وهي رحلة نقديّة يستخدم فيها حصيلته المعرفيّة والمنهجيّة الواسعة؛ من وعي بأثر السياق التاريخيّ والثقافيّ والاجتماعيّ في تكوين الكاتب/ الشاعر/ المُثقَّف، وبتأثير العوامل النفسيّة والفرديّة والاجتماعيّة، والوضع الطبقيّ أو العرقيّ، في ثقافة كانت تتجاور فيها الأعراق وتتنافس. ويموضعه في السياق الذي انبثق عنه كرجل موهوب نشأ في القرن الرابع الهجريّ، في عصر فسدت فيه السياسة، وتخلخلت فيه قبضة الخليفة على الحكم، وتلاعب به الجند من ناحية، وما في القصور من حاشية وجوارٍ وإماء من ناحيةٍ أخرى. ومع فساد السياسة فسد الاقتصاد معها، واضطربت جباية الضرائب وانتشر الظلم والفساد، وتململ الرعية. ووسط هذا كلّه بلغت الحياة الفكريّة والعقليّة ذراها. فقد «نضجت الحضارة الإسلاميّة، وأدركت رشدها، واستكملت قوتها، وأخذت تؤتي ثمرها طيباً لذيذاً في كلِّ فرعٍ من فروع العلم والفلسفة والأدب والفَنّ» (ص25). ومع التباين بين ما يتيحه التقدُّم العقليّ من وعي، وما يكشف عنه الواقع الفاسد من تناقضات اندلعت الثورات: البابكية أو الخرمية في أول القرن الثالث، وثورة الزنج أواسط هذا القرن، وثورة القرامطة في آخره، وفي أثناء القرن الرابع. وجوهر هذه الثورات كلّها، طلب العدل الاجتماعيّ وإصلاح النظام الاقتصاديّ…

أتراه يضع هذه المرحلة المُضطربة مرآة لما تضطرب به مصر التي تركها وراءه وقت كتابته بين قوى الجمود والقصر والاحتلال وتفشي الجهل وغياب العدل الاجتماعيّ؟! أم أنه يهتمُّ بهذا السياق العام كي يكشف عبره عن أهمِّية دور المُثقَّف في أن يرود ويقود، بدلاً من أن يتاجر بمهاراته لكسب المال أو النفوذ؟ هذا فضلاً عن أنه يتناول مع هذا كلّه ما كُتب عن الشاعر الذي يدرسه، سواء ما كتبه عنه معاصروه، أو مَنْ جاءوا بعده، مؤيدوه منهم أو من ناصبوه العداء بالدرس والتمحيص. ويخبرنا من البداية بأنه لا يعبأ إنْ كان المتنبي قد انحدر من أسرة غنية أو فقيرة، ذات أصلٍ عريق أو حقير، فليست هذه غايته، وليس هذا الأمر هو مدار البحث عنده بأي حالٍ من الأحوال. فـ«أنا على أقلّ تقدير لا أسُرُّ ولا أحزن إنْ ظهر أنَّ نسب المتنبي، من جهة أبيه أو من جهة أمّه، قد كان صريحاً أو مدخولاً؛ فنحن نبحث، أو أنا على أَقلّ تقدير أبحث من أمر المتنبي عَنْ شيء أبقى وأرقى وأقومُ من نَسبِه العربيّ الصريح أو المدخول: عَنْ أدبه، وفنّه، ومكانته من الأدباء، وأصحاب الفَنّ القدماء والمُحدثين» (ص 17).

فطه حسين يهتمُّ بأثر نشأته -أو إحساسه بضعة نسبه- نفسيّاً عليه، ويهتمُّ بالسياق الأوسع الذي نشأ فيه وشهد ثلاث ثورات كان القاسم المُشترك فيها هو طلب العدل الاجتماعيّ، بصورة عظمت معها الشخصيّة الفرديّة، في هذا السياق نشأ المتنبي: «في هَذَا العصر الذي نحن بإزائه عظمت الشخصيّة الفرديّة حَتَّى انتهت من القوة إلى حدٍّ لم تبلغه قط فِي التاريخ الإسلاميّ.. ملكٌ عظيم ينقض، وسلطانٌ هائل ينهار، وقومٌ يتهالكون على فتات ذلك المُلك وأنقاض هَذَا السلطان، فإذا وُلد فِي هذه البيئة صبي ذكي القلب، مرهف الحس، رقيق المزاج حاد الشعور، ملتهب العاطفة، قوي الخيال، كان من الطبيعي أنْ يسير السيرة التي تكوِّن منه هَذَا الشخص الذي يعرف بالمتنبي» (ص26). ولا يفوته طوال مصاحبة المتنبي -في مسيرته الحياتيّة والشعريّة معاً- والتوقُّف عند أحداث حياته الخصبة، أو عند عيون قصائده المُختلفة على مرِّ رحلة حافلة بالإبداع الشعريّ، أن ينبهنا إلى تأثير هذه العوامل السياقيّة منها أو الفرديّة على ما يواجهه المتنبي أو ما يقرأه معنا من أعماله.

ويُمحّص معنا طوال الوقت الكثير ما يُروى عنه، من أقوال أو أحداث تفسّر بعض سلوكه وكثيراً من مواقفه. بدءاً من قصّة المتنبي الفتى قبل مغادرته الأولى لبغداد مع تاجر البطيخ الذي أبي أن يبيعه بطيخه بخمسة دراهم، ثم باعه لتاجر بدرهمين، ولما أظهر المتنبي عجبه لصاحب البطيخ من هذه الحماقة التي جعلته يرفض دراهمه الخمسة ويقبل درهمين من التاجر ردَّ عليه التاجر: «ويلك إنه يمتلك مئتي ألف دينار! ويزعم الرواة على المتنبي أنه أحب المال منذ ذلك الوقت وكلف بالغنى، وحرص على أن يملك مئتي ألف دينار» (ص 46). ثمَّ يعرج على سجنه في شرخ الشباب حين سُجن فِي أواخر سنة ثلاث وعشرين أو أوائل سنة أربع وعشرين، فِي جريمة خطيرة من جرائم الرأي، قوامها الرِّدة، والخروج على السلطان، والدعوة إلى تسليط السيف على المُسلمين» (ص86). وكيف أن تجربة السجن تلك قد علّمته الحذر، وأدّت ربّما إلى نوع من انقسام النفس على نفسها، تبطن غير ما تعلن. فقد «تعلَّم الحذر والاحتياط، ومنذ وصوله إلى الشام يظهر انقسام نفسه بين هذين النوعين من الحياة: حياة خارجيّة يجاري فيها الناس ويداريهم، وحياة داخليّة يبغض فيها الناس أشدَّ البغض، ويمقتهم أشنع المقت، ويضمر لهم ضغينة لا حدَّ لها، وعداء لا هوادة فيه» (ص79).

والواقع أن انقسام النفس على ذاتها ليس بالأمر اليسير، وأن له الكثير من العواقب، بعضها بلا شكّ وخيم. فقد لاحظ طه حسين عواقبه على حياة شاعره -بعدما تتبَّع سيرته حتى نضج وبدأ التكسب بشعره- أنه منذ بداية مدائحه لبدر بن عمار، لم تعُد «حياة المتنبي منذ ذلك الوقت إلّا سلسلة متصلة من بذل هذه الكبرياء، للسادة والقادة والأمراء، ثمَّ البكاء عليها بعد أن يبذلها ويفرط فيها، وسنرى أنَّ المتنبي لم يخرُج لبدر وأشباهه عن كبريائه وحدها، بل خرج لهم كذلك عن أشياءٍ كثيرة أخرى ليست أقلّ من الكبرياء خطراً عند الرجل الكريم» (ص110). ويرينا طه حسين كيف ضحَّى المتنبي في شعره -منذ بداية مسيرته الطويلة في مدح ذوي الجاه والمال- بأكثر من ماء وجهه. حينما يحلل أهمّ قصائده في مدح بدر. فيكشف لنا أن وراء ما بها من جمالٍ لفظي وسبك شعري «أسمج ما كان فِي المتنبي حين كان ينشد بين يدي ممدوحيه من هذه الخيلاء التي لا تمثِّل إلّا ذلة وضعة وضعفاً وسخفاً» (ص112).

ويواصل طه حسين على مد صفحات هذا الكتاب المُمتع بثّ تفاصيل أطروحته المُهمَّة تلك والتي تزداد على امتداد متابعة مسيرة الشاعر، وسياقات مواقفه، رسوخاً وإقناعاً. فقد مدح المتنبي الكثيرين مثل علي بن إبراهيم التنوخي والحسين بن عبيد الله الإخشيدي وأبي العشائر، ومحمد الحسن بن طغج الفارسي، ومساور بن محمد الرومي، وصولاً إلى سيف الدولة التغلبي الذي أمضى في صحبته في حلب تسع سنين، هي من أخصب سنوات نضجه، بصورة تجعل مدائحه فيه ديواناً كاملاً من عيون شعر المدح العربيّ. فقد مدحه بأكثر من ثمانين قصيدة من عيون شعره وأفضله قبل أن ينتقل إلى الفسطاط، ويمدح كافور لسنوات أخرى. وقد أنفق طه حسين قسماً كبيراً من الكتاب في تحليل مدحه لسيف الدولة والثناء عليه. لأن الكثير من شعر المتنبي في سيف الدولة قد أصبح من عيون الشعر العربيّ، وبوأ صاحبه تلك الشهرة التي جعلته علماً من أعلامه. وإن لم يفته أن فيه كثيراً من الشعر الفاسد الذي يشير له طه حسين وهو شعر المُناسبات: «هَذَا الشعر الذي ينزل فيه الشَّاعِر عن كرامته دائماً، وعن مروءته أحياناً، ويبيع فيه فنّه لمولاه بيعاً دنيئاً، أريد به شعر المُناسبات الذي يقوله الشَّاعِر مدفوعاً إِلَيْهِ بالتملق مرّة، وبالخوف مرّة أخرى، وبالمُناسبة مرّة ثالثة، وبالطاعة مرّة رابعة، وعلى هَذَا النحو» (ص219).

(يُتبع في العدد القادم)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – قُتل المتنبي في شهر رمضان 354هـ، ووافق شهر رمضان 1354، أوائل ديسمبر 1935، وتزامنت بقية السنة مع 1936م.

2 – الطبعة التي أستخدمها من كتاب طه حسين «مع المتنبي»، هي طبعة القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013، ص 9، وسنشير بعد ذلك للمُقتطفات من الكتاب برقم الصفحة من تلك الطبعة.