إبراهيم الجيدة: قطر خطَتْ خطوات واثقة، وغير متعجِّلة، معماريّاً

تكريس جهوده لتعزيز النمط المعماري الحديث في قطر، مع الحفاظ على العناصر الأساسية التقليدية لهندسة العمارة القطرية، كان أهمّ سبب في حيثيّات فوز المهندس القطري إبراهيم الجيدة بجائزة الدولة التشجيعية في مجال الهندسة، عام (2005). وهو حاصل، أيضاً، على جائزة منظَّمة المدن الإسلامية، وجائزة منظّمة المدن العربية عدّة مرّات وترَّشح، لأكثر من مرّة، لجائزة «أغاخان» الدولية.. في هذا الحوار، يتحدَّث عن رؤيته التي جسَّدها في أعماله، وعن رؤيته للهويّة المعمارية لمدينة الدوحة:

كيف تنظر إلى ما وصلت إليه الدوحة معماريّاً، مقارنةً بجيرانها، حاليّاً؟

– ما وصلت إليه قطر أمرٌ يدعو إلى الفخر، لأنها خطَتْ خطوات واثقة، وغير متعجِّلة، وذلك من خلال التطوُّر خطوة خطوةً، على المستويات كافّةً، لاسيّما معماريّاً، لاعبر قفزات.

الجميل في ما توصَّلت إليه قطر، من الناحية المعمارية، خلال السنوات العشر الماضية، هو الحفاظ على الهويّة المعمارية، خصوصاً أن الدولة كان لها دور كبير في تحديد الاتِّجاه المعماري للمباني الحكومية، كما أن القطاع الخاصّ سار على نهج الدولة في البناء، حفاظاً على الهويّة المعمارية، بالرغم من أنه لا توجد تشريعات واضحة بهذا الشأن، حتى الآن. ولكن، حاليّاً، يتمّ البدء في اتِّخاذ خطوات تشريعية نحو الحفاظ على الهويّة القطرية المعمارية.

التنوُّع، يبدو جليّاً في العمارة القطرية، حيث التراث الإسلامي في جانب، ومنطقة الأبراج في جانب آخر، وبعض خطوط العمارة التقليدية، والعمارة الأوروبية في بعض القصور. كيف ترى هذا التنوُّع؟

– التنوُّع أمر طبيعي في كلّ المدن، حتى في تاريخ المدن الحديثة، ففي شيكاغو أو نيويورك، وغيرهما من المدن التي كانت فيها طفرات معمارية مميّزة، نلاحظ التنوُّع. وهو طبيعي طالما لا يوجد شذوذ يشوِّه المعمار.

أمّا في البيوت، فلا يوجد -للأسف- أيّ تحكُّم، من الناحية التخطيطية، بالطراز، وتكون المسألة شخصية، حيث نلاحظ أشكالاً معمارية من شمال إفريقيا، وأوروبا، على اختلاف مع الطراز المعماري المحلِّي. أمّا في منطقة الأبراج (علماً بأنه توجد فيها مبانٍ زجاجية كثيرة) فنلاحظ بعض التحف المعمارية التي وضع لها التصميمات معماريّون عالميّون، حيث نجد فيها لمسات حديثة تحافظ، في الوقت ذاته، على الهويّة المعمارية القطرية.

لم تسقط الدوحة في فخّ المدينة المسرعة (مدينة الغرباء) أو (مدينة العبور)، وغالباً ما تكون الأبراج هي السبب في تسريب ذلك الشعور.. ألا تتَّفق معي في ذلك؟

– الأبراج أضحت في قلب المدن حاليّاً، أو ما يسمّى بـ Down Town. والدوحة، مثل أيّة مدينة في العالم، اهتمَّت ببناء الأبراج، ولحسن الحظّ تَمَّ تركيز بناء تلك الأبراج في منطقة الدفنة، فحسب، كما تَمَّ تحديد ارتفاعات معيَّنة لها، كما في اللؤلؤة أو لوسيل، لا تتعدَّاها، حتى لا تتحول إلى ناطحات سحاب.

لكنك تشعر في منطقة الأبراج، بأنها مدينة أشباح، بعد انتهاء أوقات العمل الرسمية!

– نعم. معك حقّ في هذا الشعور، لكن هذا الخطأ كان في بداية التخطيط للأبراج، ثم تَمَّ تداركه، إذ كان يُمنَع وجود أبراج سكنية، وكانت أبراجاً إدارية، فقط، لكن، قبل عشر سنوات، تقريباً، تَمَّ السماح ببناء الأبراج السكنية.

هل ترى أن الفصل المناطقي هو النظام الأفضل للمدينة؟

– بالطبع، إن الفصل المناطقي هو الحلّ الأمثل لكلّ مدينة حديثة، حيث يوجد ما يسمّى «الداون تاون» أو قلب المدينة، والمناطق السكنية، وفي علم التخطيط الحديث يفضَّل المزج بين السكني، والتجاري؛ تفادياً للزحام المروري والتلوُّث. فمثلاً في منطقة لوسيل، وهي منطقة مثالية، يمكنك العمل والسكن بالإضافة إلى التسوُّق، وبهذا تصبح كلّ منطقة شبه متجانسة.

لكنّ هذا الفصل، ربَّما، يؤطِّر لفكرة الطبقية؟

– هذا أمر نتخوَّف منه دائماً، لأن المدن، في الغرب، سقطت ضحيّة هذا الفعل، حيث كان التمييز الطبقي في المناطق، وحدثت الطبقية؛ ما أدّى إلى تسمية مناطق معيَّنة بمناطق الإجرام، يُخشى الدخول إليها. لكن المجتمعات العربية، والإسلامية لا تسمح، في أغلبها، بمثل هذا التمييز بسبب تركيبتها الاجتماعية، وتركيبتها الدينية، حيث لازالت معظم المناطق السكنية، في المدن العربية، تضمّ القصر بجوار البيت المتواضع، جنباً إلى جنب.

ما الفرضيّة المعمارية التي تنطلق منها في أعمالك؟

– فرضيَّتي المعمارية، منطلقها الحفاظ على الهويّة، وليس -بالضرورة- بطريقة مباشرة؛ بمعنى أن المباني والمشروعات التي أقوم بتصميمها، حاليّاً، ليست كتلك التي نفَّذتها في مراحلي العملية الأولى، على الطريقة التقليدية البحتة، فمنطلقي الحالي هو أنه بالإمكان تشييد أحدث المباني عبر استخدام أحدث الموادّ والتكنولوجيا، مع الحفاظ على الهويّة القطرية، وهذا هو التحدّي بالنسبة إليّ؛ فالحفاظ على الهويّة هو منطلقي نحو العالمية المعمارية.

في برج «برزان»، في الدفنة، وهو من تصميمك، نرى التداخل والحوار بين الموادّ على شكل تقيلدي من (المبخرة)، إلى الزجاج. أمّا في النادي الدبلوماسي، فالعكس هو الحاصل: (برجان تقليديّان) مع نوافذ معشَّقة. هل هو تطوُّر في الشكل المعماري لديك، أم هي حالة معمارية؟

– هي حالة معمارية عكسَت ما بداخلي وقت تصميم البرج والنادي، فبرج برزان هو أوَّل تجربة لي في عمل الأبراج، وكان من الأبراج الأولى في منطقة الدفنة، وهو يعبِّر عن صراع داخلي: كيف أضع الخطّ الرابط والمازج بين الحداثة والتقليد؟.

وأعتقد أن النتيجة، بعد كلّ هذه السنوات من العمل، أنه يمكن الخلط بين الحداثة والتقليدية بطريقتَيْن؛ طريقة المباشرة، وأخرى غير مباشرة. وتجربة برزان كانت بطريقة غير مباشرة، وأوصلتني إلى الحصول على الكثير من التشجيع في عدّة مناسبات، حيث قام التليفزيونان: الألماني، والفرنسي، بتصوير المبنى، وإجراء لقاءات معي للحديث عن كيفية المزج بين الحديث والقديم في تصميمه.

أمّا النادي الدبلوماسي، فكنت أهدف، من ورائه، إلى إبراز الطراز المعماري الخليجي؛ لذلك وضعت فيه الأبراج الهوائية، برغم أن الدوحة لم تكن معروفة، تاريخياً، بتلك الأبراج، لكني استخدمتها كعناصر معمارية، لها علاقة بمنطقة الخليج كلِّه. كما أن النوافذ المعشَّقة تعكس، أيضاً، الثّقافة الخليجية، وكذلك الأقواس التي كانت معروفة في المجالس القديمة.

تبدو العمارة الصلبة (الخطوط المستقيمة) في عمارة النادي الدبلوماسي، برغم وجود العمارة الليّنة (القوس والعامود المستدير). لكن، لماذا كان الطغيان والغلبة للخطوط المستقيمة؟

– بالغنا، بالفعل، في الخطوط المستقيمة الأفقية، بوضع بلاط أزرق؛ وذلك بهدف إعطاء روح الرسمية والبروتوكولية، لأن المبنى حجمه كبير، وكان، في وقت تشييده، أكبر مبنى بهذا الطراز، في المنطقة، وودت أن أعكس، بالخطوط الأفقية، الطابعَ الرسمي للمبنى، أمّا القوس والعامود المستدير فهما داخل الفناء؛ من أجل جعل المكان أكثر نعومة، ولإضفاء جوٍّ من الدفء، على المكان.

مشروع مشيرب (قلب الدوحة)، سعى إلى التطوير، وإلى المحافظة على التراث، في الوقت نفسه.. كيف ترى المشروع؟

– مشروع مشيرب، من المشاريع المميِّزة جدّاً، وهو تجربة تحلم بها معظم المدن العربية. وفي محاضراتي، أستخدم مشيرب مثالاً، حينما أودّ الحديث عن أمنيتي في المدى الذي سيذهب إليه مستقبلنا المعماري، فالمشروع يستخدم أحدث التقنيات الموجودة في العالم، من جهة المباني الخضراء والنواحي التخطيطية، وحتى من جهة المواصلات، إذ تَمَّ استغلال تحت الأرض للمواصلات الخدمية، والمواصلات الحديثة مثل القطار ومترو الأنفاق، وذلك كلّه من خلال استقدام أنجح المعماريِّين في العالم، ومحاكاة الطراز المحلِّي مع استخدام التقنيات الحديثة، وكان هذا هو التحدّي الأكبر أمام هؤلاء المعماريِّين. وأعتقد أن مشروع مشيرب هو موسوعة للعمارة الخليجية المعاصرة.

ما هي رؤيتك للعلاقة مع التراث؟ وما حدود هذه العلاقة؟؛ لأن الأمر قد يصل، أحياناً، إلى حَدّ إعاقة الحياة المعاصرة تحت هذا الشعار.

– دائماً، أقول للطلاب في الجامعات، في نقاشاتي ومحاضراتي: «لا تجعلوا فهمكم للتراث أنه سلسلة في أيدينا، تمنعنا من التطوُّر»، فالتخلُّف هو الامتناع عن استخدام أحدث ما توصَّل إليه العلم الحديث في العمارة. والتحدّي هو كيفية التعاطي مع علم البناء الحديث، والحفاظ، في الوقت ذاته على الهويّة، والتي هي ليست في الشكل، دائماً، بل هي، أحياناً، في الاستخدام، لأن الهويّة هي القاعدة التي ننطلق منها إلى التطوُّر، وإلى العالمية، وهذا جزء من «رؤية قطر الوطنية (2030)».

لك مؤلَّف، يراه كثيرون «الكتاب المرجعي» عن العمارة القطرية. ما الدافع الذي جعلك تقوم بهذه المساهمة النظرية؟

– الكتاب، هو «تاريخ العمارة في قطر، من (1800 – 1950)»، أي منذ بداية تأسيس دولة قطر إلى بداية ظهور النفط، حيث كانت بداية النهاية للعمارة التقليدية، ثم ظهرت المباني الحديثة والخرسانية.

هذا الكتاب، كان حلمي منذ أن عدت من الدراسة في الولايات المتَّحدة، حيث لم أجد أيّ مرجع لتاريخ العمارة القطرية؛ لذلك بدأت في البحث، وجمع المعلومات، والتصوير على مدى خمسة عشر عاماً، إلى أن قرَّرت في عام (2009)، وضع هذه المادّة في كتاب، تَمَّ نشره، بالإنجليزية، عبر شركة «سكيرا» في ميلانو، في إيطاليا، ويستخدمه المعماريون العالميون الذين يعملون في قطر، حاليّاً، كمرجع، كما أنه أصبح مرجعاً للطلبة في معظم الجامعات.

مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، هل كان لك إسهام في تصميمه؟

– نعم. لقد كان لي دور كبير في تصميمه، فقد أدرت المشروع كاملاً، والتصميمات الداخلية كانت من تصميمي، وكذلك الديكور والنقوش والمداخل والأبواب.

كازوو إيشيغيرو: يمكن لأمور إيجابية أن تحدث

في هذا الحوار المستفيض، يُحدِّثنا الروائي البريطاني ذي الأصول اليابانية «كازوو إيشيغورو – Kazuo Ishiguro»، الحاصل على جائزة «نوبل» للآداب، سنة (2017)، عن روايته «كلارا والشمس – Klara et le Soleil» الصادرة خلال هذه السنة (2021)، والتي تعد أوَّل رواية له بعد حصوله على هذه الجائزة العالمية؛ حيث يرى فيها، بالإضافة إلى مختلف القضايا التي تُناقشها، التزاماً إضافياً تجاه القراء، ومسؤولية جسيمة أصبحت ملقاة على عاتقه ليكون في مستوى الانتظارات.

استهلَّ «إيشيغورو» مسيرته بعدد من الروايات التي لقيت نجاحاً كبيراً، من قبيل «منظر شاحب للظلال – Lumière pale sur les collines» الصادرة سنة (1982)، و«بقايا اليوم -Les Vestiges du jour» الصادرة سنة (1989) التي نقلها «طلعت الشايب» إلى العربية سنة (2000)، وحصلت على جائزة «البوكر»، قبل أن تُحوَّل إلى فيلم سينمائي…

أصدرتم، مؤخَّراً، رواية «كلارا والشمس»، وهي أوَّل رواية تصدرونها منذ حصولكم على جائزة «نوبل» للآداب في العام (2017). هل كان لهذا التتويج تأثير على طريقتكم في الكتابة؟ هل احتجتم إلى وقت أكبر في كتابة هذه الرواية؟

– اعتدت على أن أترك مسافة زمنية بين رواية وأخرى، لكني، عندما أنخرط في مشروع روائي ما، لا أتوقَّف حتى أنهيه؛ وهذه الطريقة، بالنسبة إليَّ، هي السبيل الوحيد الأكثر فاعليّة في التأليف الروائي. لقد كنت محظوظاً إذ حصلت، مبكِّراً، على جوائز متعدِّدة، غير أنني دَرَجْتُ على أن أترك مسافة بيني وبين هذا الأمر. وإلى حدود حصولي على جائزة «نوبل»، كان لديَّ إحساس دائم بأني لست أنا من كان يحصل على هذه الجوائز؛ بل هو نوع من البدائل. وأنا حريص أشدّ الحرص على المحافظة على هذا التمييز بين حياتي، بوصفي كاتباً في مكتبي، مُحاطاً بوثائقي ودفاتر ملاحظاتي، وبين هذا العالم الذي يعجّ بالمكافآت والخطب… على العموم، آمل ألّا تكون هذه الجائزة الأخيرة قد غيَّرت من طريقتي في الكتابة.

بعد روايتكم «لا تدعني أرحل أبداً» التي نقلها «فايز الصياغ» إلى اللّغة العربية سنة (2019)، الصادرة سنة (2006)، تأتي روايتكم «كلارا والشمس»، خلال هذه السنة، لتنقلنا – مرّة أخرى – إلى مستقبل غير محدَّد، غير أننا نحسّه قريباً منّا؛ بفضل التطوُّر العلمي، والتكنولوجي لمجتمعاتنا. ما الذي يثير اهتمامكم في هذا الموضوع، بالضبط؟

– تجذبني إلى هذا الموضوع عدّة أسئلة تدور في فلكه؛ فأنا مبهور، بشكل أساس، بالذكاء الاصطناعي، أو بالتعديل الممكن لجيناتنا. عندما كتبت «لا تدعني أرحل أبداً»، كان العالم مختلفاً، للغاية، عمّا هو عليه الآن؛ لذلك كان من المفروض عليَّ أن أستعمل آليّات أدبيّة استقيتها من الخيال العلمي. أمّا «كلارا والشمس»، فعلى العكس من سابقتها؛ إذ كان لديَّ إحساس بأن ما أصفه وأحكيه يشكِّل جزءاً من عالمنا المعاصر. وحتى في البلدان التي صدرت فيها روايتي هذه، قلّة قليلة ممَّن قرؤوها تحدَّثوا معي عن الخيال العلمي؛ ذلك أن أغلبهم اعتبروها حكاية لما يجرى في الوقت الراهن، لا لما سيكون استقبالاً. لقد عرف العالم تغيُّرات جذريةً في العقدين الأخيرين، وجميعنا على وعي بهذه التحوُّلات شديدة السرعة.

كان والدكم عالماً كبيراً، لذلك عشتم في عالم مشبع بالعلوم. هل تثير هذه التطوُّرات العلمية قلقكم؟

– نعم. تثير قلقي، بالفعل؛ بل إنها تخيفني، أيضاً. أظنّ أننا نعيش في هذه الظرفية التاريخية منعطفاً؛ فالذكاء الاصطناعي اكتشاف عظيم سيعود بالخير العميم على البشرية، لاسيّما في مكافحة الأوبئة وجميع أنواع الأمراض. من ناحية أخرى، أتأسَّف غاية الأسف لعدم اهتمامي الحقيقي بعمل والدي؛ لأني كنت ذا ميول أدبيّة أكثر منها علمية، خاصّةً أن بريطانيا تكرس الشرخ بين ما يسمّى بالعلوم الحقّة، والعلوم الإنسانية.. للأسف. في أيّامنا هذه، يجد سكان العالم أنفسهم مجبرين – أكثر من أي وقت مضى – على الاهتمام بالتكنولوجيا والعلوم، خصوصاً مع تفشي وباء (كوفيد 19). كلُّنا نشعر بهذا المزيج الغريب من التحمُّس لهذه التطوُّرات العلمية، والتوجُّس منها في الآن نفسه؛ ربما لأننا لا نعرف مآل الأمور. وبوصفنا مجتمعات، من الضروري أن ننظم أنفسنا باتباع نفس الطريقة التي اتبعناها في بداية الثورة الصناعية. أرجو، صادقاً، أن نتوفق في تجنب الأسوأ عبر تطوير طرائق فِعْلٍ وجيهة تُمكِّن من مواجهة هذه التحوُّلات. مثل هذه الهواجس وغيرها، عبَّرتُ عنها في «كلارا والشمس»، بيْد أني حاولت أن أقدِّم الجوانب الإيجابية، أيضاً، للذكاء الاصطناعي. على العموم، يكون للوحوش أو للروبوتات قصب السبق، بالمقارنة مع الإنسان، أو أنها تتمرَّد عليه وتثور؛ لقد تعودنا على مثل هذه القصص، دون أن ننكر أن بعضها مثير للإعجاب. لقد كنت أريد أن أناقش هذا الموضوع، بطريقة مختلفة.

أهديتم روايتكم هذه إلى أمِّكم التي توفِّيت سنة (2019). وفي الرواية، تمَّت برمجة الروبوت «كلارا» – التي تضطلعُ بدور السارد – للعناية بالأطفال؛ فهل هي وسيلة للحديث عن موضوع أثير لديكم؛ أقصد، بذلك، حبُّكم لأمِّكم؟

– نعم. في حدود معيَّنة، رغم أني، إبَّان مرحلة كتابة الحكاية، لم أكن واعياً، حقيقةً، بأني أربطها بأمّي. لقد كانت زوجتي – وهي قارئتي الأولى – مَنْ نبهَّتني إلى هذا الأمر؛ وكانت على صواب. كان سلوك «كلارا»، في نهاية الرواية، مشابهاً، للغاية، لسلوك أمّي في نهاية حياتها؛ فقد كانت تحسّ بالتهميش، حتى إنها لم تعد تلتقي كثيراً بمن اعتادت أن تلتقي بهم في أيّام حياتها العادية، فقد كانت تعيش في عزلة. غير أنها -من ناحية أخرى- كانت تشعر بالرضى لأن أولئك الذين تهتمّ بهم نجحوا، جمعيهم، في حياتهم. ثمّة شيء ما؛ شيء قويّ بما يكفي، ويتَّصف بالحتمية، يميِّز طريقة اعتناء الكائن الإنساني بأطفاله، كما لو أنه – في العمق – روبوت مبرمج على هذا الفعل؛ فما إن نصبح آباء، حتى تنمو في دواخلنا غريزة ما قويّة للغاية، تبدو لي قريبة ممّا يشعر به «Terminator» (هو روبوت قاتل في فيلم خيال علمي شهير يحمل هذا العنوان) عندما يُكَلَّف بمهمّة ما. بعد أن تزوَّجت أمّي بأبي، استغنت عن عملها لكي تعتني بأطفالها، وتسهر على راحتهم، ولا يختلف تصرُّف «كلارا» عن تصرُّفها، في الرواية، أو طريقة تفكيرها.

بماذا يمكنكم أن تصفوا «كلارا»؟ هل هي ساذجة وأمِّية، أم أنها تتَّصف، على العكس، تماماً، بالذكاء الشديد؛ إن لم نقل بالعبقرية؟

– ربَّما هذا ما كان جذّاباً، للغاية؛ أي أن يكون لديك سارد مثل «كلارا»؛ فهي قد تكون جُماعاً لكلّ هذه الصفات. لم تأتِ «كلارا» من كوكب آخر؛ ولو كان الأمر كذلك لكان لديها، بشكل مسبق، ثقافتها المختلفة، وهويتها الخاصّة، وشخصيَّتها المتفرِّدة. يقترب الأمر من أن تكون قد وُلدت مع بداية الرواية؛ لذلك هي مثل المولود بلا أحكام مسبقة، ويمكنها أن ترى العالم الإنساني بطريقة مخصوصة للغاية، وما أثار إعجابي هو نظرتها الجديدة هذه. ولكن، بالنظر إلى أنها ذكاء اصطناعي، بمُكْنَتِها أن تتعلَّم معارف بالجملة، بسرعة مذهلة، دون أن تفقد شيئاً من شخصيَّتها المتَّسمة بالسذاجة المماثِلة لما نجده لدى الأطفال، مع لمحة من الأمل والتفاؤل، والثقة في استمرار وجود الخير في هذا العالم، وفي وجود شيء ما كبير وقويّ؛ وقد كان هذا الشيء، بالنسبة إلى «كلارا»، هو الشمس.

ألم يكن ابتكار شخصية غير بشرية، في العمق، وسيلة من أجل تعبيرٍ أبلغَ عن الطبيعة الإنسانية؟

– عندما بدأت التفكير في هذا الكتاب، كان الهدف هو تأليف قصّة مصوَّرة للأطفال، كما لم تكن شخصيَّتي الرئيسة روبوتاً، بل كنت أفكِّر في دبّ أو دمية. غير أنني، في الأخير، جعلت من «كلارا» روبوتاً؛ وهو ما شكَّل وسيلة مُثلى بالنسبة إليَّ، أنا من يرغب في رؤية الكائن البشري وجهاً لوجه. لم أشأ في هذه الرواية، أن أتوقَّف كثيراً عندَ ما ستؤول إليه الذكاءات الاصطناعية من تقدُّم في المستقبل، بل كان هدفي، بالأحرى، أن أبرز كيف تنطبع الطبيعة الإنسانية، في هذه الشخصية، شيئاً فشيئاً، مع تعرُّفها إلى الناس. لم تكن لـ «كلارا» نقائص أو مكامن ضعف، على العكس من الكائنات البشرية، التي تشكِّل هذه النقائص جزءاً من شخصيّاتها.

تتطرَّقون، كذلك، إلى موضوعات مهمّة، من قبيل العزلة، أو الصداقة من خلال العلاقة المؤثِّرة، للغاية، بين «كلارا» والمراهقة التي ترعاها «جوزي».

– هذا صحيح، وأنا ممتنّ لأنك لاحظت هذا الأمر. لا خلاف في أن أهمِّيّة الأسرة، بمعناها التقليدي، بدأت تتراجع يوماً بعد آخر، في أيامنا هذه؛ لذلك تتيح الصداقة مَلْءَ هذا الفراغ على مستوى هذه العلاقات العاطفية. في روايتي «لا تدعني أرحل أبداً»، لم تكن للشخصيات عائلات؛ لذلك كانت علاقاتهم الودِّية تمثِّل كلّ شيء بالنسبة إليهم. أمّا في «كلارا والشمس»، فلم يتمّ التعبير، صراحةً، عن هذا الأمر، بيْد أننا لا يمكن أن نتجاوز أهمِّيّة الصداقة فيها. تتمثَّل المهمّة الأساسية لـ «كلارا» في رعاية الأطفال والمراهقين حتى لا يشعروا بالوحدة، وهي – بهذا المعنى – توجد في عالم من المخلوقات المنفردة التي تطمح إلى نسيان أنها كذلك، ثم – من هنا- تدرك محيطها من خلال منظور الوحدة. عندما كانت «كلارا» تلمح المارَّة من خلال زجاجة واجهة المحلّ الذي كانت تُعْرَض فيه (للبيع)، كانت تتساءل عمّا إذا كانوا يجتمعون، ويتجاذبون أطراف الحديث فيما بينهم؛ وذلك من أجل التغاضي – ولو بتواطؤ مقصود – عن وحدتهم. أعتقد أننا مخلوقات مركَّبة؛ فالعائلة، والتجمُّعات، وغيرهما تمكِّننا من نسيان حقيقة أننا نعيش، بأكملنا، داخل ذَوَاتنا (لا خارجها)، هذا المعطى يصيب كبد الحقيقة، لاسيّما عندما نواجه مرضَ قريبٍ، أو موتَه؛ فلا يمكن لأحد أن يتدخَّل في هذا الأمر، أو أن يستطيع منعه. يشبه الأمر حال لاعب كرةٍ في أثناء مباراة ما، عندما يكون في لحظة تسديد الكرة ناحية الشباك؛ فرغم وجود الجمهور وباقي اللاعبين، يعيش وحدة كبرى أمام حارس المرمى. أظنّ أن هذه الاستعارة تجسِّد، بوضوح، هذه الفكرة.

بالفعل، حتى إن «بيتر هندكه»، الحاصل على جائزة «نوبل» للآداب لسنة (2019)، خصَّص كتاباً لهذا الأمر؛ عنوانه: «قلق حارس المرمى لحظة ضربة الجزاء…».

– أجل، لكنه أخطأ؛ لأن الخوف سيكون من نصيب من يُسدِّد، أمّا حارس المرمى فيمكنه، فقط، أن يصبح بطلاً. إن الفريق ليس سوى وَهْمٍ نختلقه؛ لأن اللاعب المسدِّد هو، في النهاية، بمفرده. في هذا السياق، حاولت أن أعيد رسم جوّ العزلة هذا من خلال العودة إلى لوحات رسَّامين أميركيين، من قبيل: «إدوارد هوبِّر – Edward Hopper»، و«رالستون كراوفورد – Ralston Crawford»، و«شارل شيلر – Charles Sheeler»، و«شارل دوموث – Charles Demeuth»؛ بمختلف ما تجسّده رسوماتهم من صور مدن قاحلة، وسماوات بدون نهاية، وحقول شاسعة، لا أحد فيها.

لماذا مَوْقَعْتم حكايتكم في الولايات المتَّحدة الأميركية، رغم أنها ليست مسقط رأسكم، ولا مكان عيشكم؟

– تروق لي فكرة أن تكون رواياتي قابلة لأن توجد في أيّ مكان؛ لذلك أحاول ألّا أشحنها كثيراً بعناصر ديكورية، أو بعوامل تاريخية أو اجتماعية، بل -على العكس من ذلك- أجعل إطار الأحداث كونيّاً. بيْد أني مُجْبر على موقعة قصَّتي في مكان ما، حتى إن كان ذلك بطريقة سطحية. فبينما المجتمعات الأوروبية مجتمعات شائخة وشديدة الارتباط بتقاليدها وعاداتها، تمتاز الولايات المتَّحدة الأميركية بمجتمعها الشابّ الذي لا يعرف إلى أين سيتَّجه، دون أن ننسى أنها البلد المعروف بأكبر عدد من الاكتشافات التكنولوجية والعلمية، بلا منازع. وفي روايتي، كنت أريد أن يحسّ القارئ أن المجتمع الذي تجري فيه الأحداث، لم يحدّد، بعد، وجهته: هي نحو الكارثة أم صوب مستقبل مزدهر.

يحتلّ المظهر البصري حيِّزاً مهمّاً من روايتكم؛ حيث تبدعون صوراً مخصوصة تترجم الطريقة التي ترى من «كلارا» العالم من خلالها. لماذا اخترتم طريقة العُلَب من أجل إعادة رسم نظرة شخصيَّتكم الرئيسة؟

– مع راوٍ هو، في الأصل، روبوت، لم يكن من الممكن أن أكتفي بتوظيف صور متواضَع عليها. فمن أجل أن يرى القارئ من خلال عينَيْ روبوت، كان لِزاماً عليَّ أن أتخيَّل منظراً بصريّاً فريداً. ومرّة أخرى، ألجأ إلى الفنّ؛ حيث استلهمت التكعيبية في طريقة السرد. وهكذا، يمكن لـ «كلارا» أن ترى الشخص نفسه، وأمامها اختيارات متعدِّدة؛ فحسب العُلَب، يمكنها أن ترى صيغاً مختلفة للأشياء التي تحيط بها. وقناعتي الدائمة، أننا إن وضعنا القارئ في السياق الملائم، وفي الإطار المناسب، فسيكون بمُكْنته أن يتتبَّعنا في تجاربنا. لقد ترك فِيَّ ذلك المشهد الأخير المتميز من فيلم (2001)، «أوديسا الفضاء» انطباعاً قويّاً لدقائق طويلة؛ فقد كان المشاهد في قلب زخم من الألوان، والأصوات، والصور المجرَّدة. وعندما ذهبت لمشاهدته في دار من دور السينما، في عمر الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، استغربت، للغاية، من أن الناس الجالسين في القاعة كانوا مستغرقين، بكامل جوارحهم، في المشاهدة؛ وقد نجح «ستانلي كوبريك – Stanley Kubrick»، من خلال مونتاج خاصّ، في جعلنا نتقاسم ما يحسّ به رائد الفضاء، وما يراه، من خلال سفينته الفضائية؛ وذلك بتشيِيد إطار أتاح لنا فهم كلّ شيء. بالنسبة إليَّ، عندما قرَّرت أنني في حاجة إلى روبوت ليمارس الحكْي في روايتي، ارتأيت أنها الفرصة المناسبة للدفع بالأمور إلى الأمام قليلاً؛ أي استكشاف عوالم غير مألوفة؛ حيث يمكن للقُرَّاء أن يتتبَّعوني، ويفهموا كلامي دون أن يكتشفوا، في النهاية، أيّ اختلاف أو تغيُّرٍ (تقنيّاً، وأسلوبيّاً)…

حُوِّلت بعض كتبكم إلى أفلام سينمائية؛ حيث نتذكَّر، على الخصوص، رواية «بقايا اليوم» (من إخراج «جيمس إيفوري – James Ivory»، وبطولة «أنطوني هوبكينز – Anthony Hopkins»). هل ستَتْبَع رواية «كلارا والشمس» المسار نفسه؟

– نعم. ستَتْبَع المسار نفسه؛ فقد اشترى أستوديو التصوير الأميركي «سوني بيكتشرز -Sony Pictures» حقوق تصوير الفيلم، وهناك من يشتغل، حاليّاً، على السيناريو. أنا متلهِّف لرؤية النتيجة؛ لأني أعرف أن الرواية بين أيدٍ أمينة؛ فهي تحت رعاية (وإشراف) منتج السلسلة الشهيرة من أفلام «هاري بوتر – Harry Poter» «دافيد هيمن – David Heyman»، بالإضافة إلى المنتجة «إليزابيث غابلير – Elizabeth Gabler». أحبّ كثيراً هذه العلاقة الوثيقة الرابطة بين الأدب والسينما، أو المسرح، كما أحبّ أن تكون الصيغة الجديدة من الرواية (أي السيناريو) قد كتبها شخص آخر؛ بكلّ ما ستتمّ إضافته إليها من مشاهد متخيَّلة. وعلى غرار حكايات الجنّ، والخرافات الشعبية، والتراجيديات الإغريقية تنمو المحكيّات، وتتطوَّر دون أن تبقى تابعة لأيٍّ كان، ولا لأيّة حقبة زمنية معيَّنة؛ إذ تصبح ملكاً للإنسانية جمعاء.

هل بإمكانكم أن تَحْكُمُوا على روايتكم بأنها رواية إيجابية، تحمل قدراً من الأمل، لاسيّما بالنسبة إلى الجيل الجديد؟

– نعم. أظنّ أن الكِتَاب متفائل. في روايتي «لا تدعني أرحل أبداً»، ترى الشخصياتُ الشابّة معتقداتها تتهدَّم أمام أعينها؛ فقد كان عالمهم بدون أمل. أمّا في «كلارا والشمس»، فقد أردتُ أن تحافظ «كلارا» على هذا الأمل، وعلى تلك الثقة (هذه المرّة) في شيء ما قويّ بما يكفي وخيِّرٍ، وأن أوضِّح أنه -رغم كلّ شيء- يمكن لأمور إيجابية أن تحصل.

في ظلّ السياق الراهن، هل تعتقدون أن الشباب بإمكانهم أن يمتلكوا هذه الرؤية الإيجابية للعالم؟

– آمل أن يتمكَّنوا من ذلك، وألّا يخيب أملهم؛ هذا أمر مهمّ للغاية. بالفعل، نحن نورثهم عالماً مضطرباً؛ قاسياً بالنسبة إليهم، بالمقارنة مع ما كان عليه عندما كنت شابّاً، عالماً يحمل كمّاً هائلاً من التحدِّيات على مستوى التحوُّلات المناخية، وكذا الفوارق بين الدول على مستوى التنمية، وغير ذلك. ومن منظور آخر، إذا قارنّا -عالمنا، اليوم، بعالم آبائنا، فسنجد أن الوضعية، في أوروبا، كانت متردِّية، للغاية، في القرن الماضي. لقد قطعنا أشواطاً كبيرة، وتحقَّقَ تقدُّم مهمّ على عدّة مستويات، خاصّةً فيما يتعلَّق بحقوق الإنسان. ورغم أن كلّ هذه المكتسبات تبقى هشّة، من واجب الشَّباب أن يحافظوا على تفاؤلهم، وعلى قوَّتهم وإيجابيَّتهم، وألا يستسلموا لنوع من التساهل أو الخمول.

هل تفكِّرون في أن تكتبوا، في يوم ما، عن نفسكم؟ هل يستهويكم التخييل الذاتي؟

– لا أظنّ أنني سأنخرط في مثل هذا المشروع. أبلغ، حاليّاً، السادسة والستّين من عمري، ولم يبقَ في العمر ما يوازي ما عشته؛ لذلك من اللازم أن أختار، بعناية فائقة، ما يجب أن أهتمّ به، بوصفي روائياً. يُطرَح، كذلك، مشكل آخر بالنسبة إلى الكتابة السيرَ- ذاتية؛ يتمثَّل في أنك تجد نفسك مجبراً على إدخال أشخاص آخرين في بَوْحِك؛ لذلك، إذا اخترتُ أن أكشف أشياء عدّة حول حياتي؛ فسيكون ذلك – بالفعل – قراريَ الخاصّ، إلا أنني سأعْرِضُ لحياة أقربائي، بالضرورة، دون أن يكونوا هم راغبين في ذلك.

ألا يمكن لبعض مراحل حياتكم أن تكون حاضرة في كتاباتكم، بالرغم من أنها كتابات خيالية محضة؟

– من الصعوبة أن تكتب عن نفسك، لكني، بالفعل، أقوم بهذا بطريقة غير مباشرة في رواياتي، بما يكشف طريقة تمثُّلي للعالم، إبَّان فِعْل الكتابة. من ناحية أخرى، لا تشبهني أيٌّ من شخصيّاتي؛ فقد حاولتُ، على الدوام، أن أعبِّر عن أفكاري من خلال الرؤية العامّة التي تحكم الرواية، لا عبْر تمثُّل أفكار شخصٍ معيَّن أو شخصيةٍ ما.

حوار: كلير شازال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

Claire Chazal, Kazuo Ishiguro: «J’ai voulu montrer que des choses positives pouvaient arriver malgré tout», (Le grand entretien), LIRE LE MAGAZINE LITTERAIRE, n°: 499, Septembre, 2021, p: 06-10.

 

فيلم «الأب».. فلوريان زيلر وسينما النوع

«Le père (الأب)» أو «The father (الأب)»، الأول عنوان مسرحية، والثاني عنوان فيلم  للمُخرج نفسه، ومع ذلك العملان يختلفان بشكلٍ جذري. فبعد العرض الناجح للمسرحية، احتلَّ فلوريان زيلر – Florian Zeller مكانه كعنصر أساسيّ في المشهد المسرحي بفرنسا. أمّا الفيلم فقد حوَّله على الفور إلى مخرج يستحق الإعجاب. على الأَقلّ لكونه أعاد صياغة مادة المسرحية بأدوات السينما: فالمُقاربة السينمائيّة التي تبنَّاها «زيلر» حافظت على نفس القوة العاطفيّة، ولكنها تلافت استدرار شفقة المُتفرِّجين، واستخدمت الغموض الذي نجده في أفلام الجريمة وفي الأعمال الدرامية للمُخرج السويديّ «إنغمار برغمان»، ولكن من دون أن تسقط في فخ التقليد. ويندرج هذا الفيلم ضمن تقليد سينمائي -ينطلق مع الدوار الذهني كما صوَّره رومان بولانسكي في بداياته، وينتهي عند التجارب الحسيّة لـ«دارين أرونوفسكي»- مع تأكيده في الآن نفسه لحساسية ورؤية بالغة الخصوصيّة. رؤية مؤلِّف التأم فيه الحس المُرهف بعِلم الإخراج، وتعزَّزت لديه الموهبة بالمعرفة النظريّة.

بعد أن تمَّ اقتباسه عن مسرحية حقَّقت نجاحاً باهراً في جميع أنحاء العَالَم، فرض فيلم «الأب – THE FATHER» نفسه كشهادة ميلاد بالغة الصلابة في مجال السينما.. إليكم هذا الحوار مع مخرج لم يكن أحد يتوقَّع صعوده.

المُخرج: فلوريان زيلر – Florian Zeller

لماذا اخترت مقارَبة آلزهايمر من الداخل، وذلك عن طريق رؤيته بعيون شخص أصيب بهذا المرض؟

– عادةً ما يتمُّ التطرُّق لهذا المرض في السينما عبر زاوية النظر الخارجيّة لأقارب المرضى… يمكن لذلك أن يعطينا أفلاماً قوية، تثير العواطف، ولكن في هذه الحالة، نكون دائماً على علم بمكان تواجدنا، وأيضاً بالوجهة التي نسير نحوها. لذا تجدنا نشاهد ما يجري بشكلٍ سلبي، لأننا نشاهد قصة مكتوبة مسبقاً. والحال أن هدفي كان عكس ذلك: أردت أن أترك مساحة شاغرة لا يمكن ملؤها إلّا من قِبل المُتفرِّجين. ومع ذلك، وعلى الرغم من إعجابي الشديد بأفلام دافيد لينش، فقد حاولت عدم الاقتداء به في تصوير أحلام اليقظة، والاستيهامات وأجزاء الواقع الموضوعة بعضها فوق بعض. فقد تمَّ تصميم لغز الفيلم بطريقة تتيح للمُشاهدين أنفسهم تجميع عناصره، بحيث يتحقَّق المعنى مع اكتمال الصورة، لكنني حرصت دائماً على أن تظلَّ هناك قطعة مفقودة، بحيث تفضي عملية تشكيل المعنى هذه بشكلٍ منهجي إلى نوعٍ من الطريق المسدود. كان هدفي هو وضع الناس في نفس الحالة التي يوجد عليها مريض دماغه لا يَقوى على فهم ما يحدث بشكلٍ كامل، وأكثر من ذلك لا يستطيع القبول به، ثمَّ حملهم على الاستسلام الذي من شأنه أن يقودهم إلى القيام بقراءة أكثر عاطفية للأحداث. أردت ألّا يكون الفيلم لعبةً بسيطة للعقل، ولكن أن يفضي بالمُشاهد، ولو عبر مسارٍ سردي معقَّد، إلى مكان شديد البساطة ومهيِّج للعواطف. عندما يقول البطل بأنه يشعر وكأنه يفقد كل أوراقه، هذه الجملة في حدِّ ذاتها لا تعني شيئاً، ولكن إذا كنا قد وصلنا إلى حالة الاستسلام كما تحدَّثنا عنها، فسنفهم جيداً ما تعبِّر عنه. هذا هو المكان الذي أردت الوصول إليه من خلال هذا الفيلم.

هل كنت تطمح أيضاً إلى أخذ نصيبك من فرصة اللعب التي يتيحها الإخراج السينمائيّ أكثر من الإخراج المسرحي، لأننا في السينما يمكن أن نلعب قليلاً بالفروق بين زوايا النظر للواقع وأيضاً بالخدع السينمائيّة؟

-سأكون واضحاً. الفيلم يُشبه إلى حدٍّ ما لعبة البحث عن الكنز، مع قليل من التلاعب. تمَّ تصميم الفيلم في البداية على شكل متاهة، ولكن لم يكن يكفي أن نجعل الناس يتوهون بداخلها، لأن ذلك سهل جداً. ما أردته هو خلق شعور بفقدان الواقع. فأنا لم أكن أريد إخراج مسرحية مصوَّرة. أردت استخدام ما تقدِّمه السينما من إمكانات لجعل تجربة الاضطراب هذه أكثر إرباكاً وأكثر عمقاً. وأردت أيضاً الذهاب عكس بعض المبادئ المُتعارف عليها في تجربة اقتباس فيلم سينمائي من أصل مسرحي، حيث في كثير من الأحيان، نضيف مشاهد من الخارج لإعطاء الانطباع بأن مجال الحكاية قد اتّسع. على العكس من ذلك، أردت البقاء في هذه الشقة لاستخدام هذا الديكور واللعب بأدوات السينما. على سبيل المثال، عبر إدخال تعديلات مستمرّة في الخلفية مع إخفائها قدر الإمكان، بهدف رسم خط سردي آخر، يساهم في استمرار الحيرة، وعدم اليقين، للدرجة التي تجعل المُشاهِد يشكّ فيما يعتقد أنه رآه. عندما كتبت السيناريو، قمت فوراً برسم تصميم لهذه الشقة، التي كانت أساسيّة في هذا المشروع بقدر مسار الشخصيّة نفسها.

مفهوم الحيرة هذا يقذف على الفور بالفيلم إلى خانة فيلم الجريمة الذي تعاني فيه إحدى الشخصيّات من القلق والارتياب والوساوس، بل وحتى خانة السينما العجائبيّة. هل كانت تلك طريقة للتحرُّر من المسرحية؟ طريقة تخبر بها المُشاهِد منذ البداية بأنه لن يرى الشيء نفسه؟  

– هذا صحيح جزئياً. أنا مقتنع بأن «الأب» ليس فيلماً عن مرض آلزهايمر… وفي نفس الوقت أعي بأنه كذلك على أية حال. لكنني أردته أن يكون أكثر من ذلك بكثير. فإذا جاء أحدهم وقال لي: «حسنا، هناك فيلم عن مرض آلزهايمر من بطولة أنتوني هوبكنز وهو مؤثر جداً»، ربما لن أرغب كثيراً في الذهاب لرؤيته، لأنه على الورق، سيعطيني الشعور بأنني قد رأيت مثله من قبل، وبأنه ينتمي إلى السينما القائمة على التكرار. والحال أنني أردت لفيلم «الأب» أن يكون عكس ذلك تماماً، أن يتقدَّم للناس كفكرة معيَّنة، ومع ذلك لا يتوقَّف عن إظهار أفكار أخرى لهم. لذلك فإنّ الفيلم يُفتتَح بأجواء تنتمي إلى أفلام الجريمة السيكولوجيّة أو يستعير بعض العناصر من سينما الرعب. من ناحيةٍ أخرى، أعتقد بصدق أنه تتمُّ الاستهانة بذكاء المُشاهِد. ومن هذا المُنطلق، لم أرغب في جعل الأمور سهلة جداً عليه. العمل مع أنتوني هوبكنز كان أيضاً جزءاً من هذه الاستراتيجيّة: كل ممثل معروف فهو يحمل معه رغماً عنه مجموع ما أنجزه من أعمال. وبالنسبة للجمهور، يجسِّد هوبكنز قدرة لا تُصدَّق على خلق جو من القلق والخطر والأشياء غير المُعلنة. وأنا استخدمت كل ذلك بطبيعة الحال كمؤشر زائف، بحيث لا يمكن للمُشاهِد في أي لحظة من لحظات الفيلم أن يقول: «حسناً، لقد فهمت الموضوع».

هل تقول إنّ الفرق الملموس بين المسرحية والفيلم يكمن في أعمال المُونتاج، والذي يسمح لك بالتركيز على الاختلافات الدقيقة، ما يغذِّي الحيرة التي تبحث عنها من خلال الفيلم، والتي يكاد يكون من المُستحيل ظهورها في المسرح؟

-يمكن للمرء أن يعتقد في الواقع بعد رؤيته للفيلم أنّ العديد من الأشياء، مثل سيولة السرد، لم تخرج إلى الوجود إلّا أثناء المُونتاج. ومع ذلك، فأنا أؤكِّد أن المُونتاج ظلَّ وفياً للسيناريو. ومع أنه شكَّل خطوةً حاسمة في إنجاز الفيلم إلّا أنني لم أعشه كإعادة كتابة لهذا الأخير. عملت مع المونتير يورغوس لامبرينوس، الذي شدّني ما أنجزه في فيلم JUSQU’À LA GARDE. واتفقنا على أننا لا نرغب باكتشاف السرد في غرفة المُونتاج، بل نرغب في نقل ما يطرحه السيناريو والديكور بشكلٍ كامل.

على سبيل المثال، في المشهد الذي نرى فيه أنتوني هوبكنز يعثر على أكياس زرقاء في المطبخ، حيث لم يعرف من أين أتت هذه الأكياس، ولكنه قرَّر أن يخبئها في جيبه. هذا مشهد ثابت وطويل بالقدر الذي يسمح لنا بتحديد عناصره. في وقتٍ لاحق، ومن خلال زاوية الرؤية ذاتها، ولكن في مطبخ مختلف تماماً، نشاهد أوليفيا كولمان تضع نفس الأكياس الزرقاء على طاولة أخرى، غير أنها تتواجد في نفس المكان الذي كانت تتواجد به الطاولة الأولى في المشهد من قبل. بالنسبة للمُشاهِد، الأمر واضح جداً: فهو يرى أننا في اللقطة المُوالية، غير أنه يندهش من تناقض ذلك مع التسلسل الزمنيّ للقصة. المُونتاج أفادنا كثيراً في إدخال هذه الالتواءات، ولكن فقط من أجل تسخيرها لخدمة السيناريو. هذه القوة التي يتيحها تجاور الصور لا نجدها إلّا في السينما، ومن المُستحيل أن نجدها على المسرح.

يعيدنا ذلك إلى مسألة علاقتك، كمُشاهِد، بسينما النوع. ومبدأ الارتباك أو الفضاء الذهنيّ يعود بنا إلى الأفلام الأولى لرومان بولانسكي أو دارين أرونوفسكي…

-عندما قرَّرت أن أخرج فيلماً لن يغادر هذه الشقة أبداً، لأن ذلك إكراهٌ سيغني الفيلم عوض أن يفقره، تساءلت عن الأفلام التي تمكَّنت من تناول مبدأ الفضاء المُغلق دون أن تظل حبيسة للشكل المسرحي، ومن البديهي أن فيلم روز ماري بيبي قد فرض نفسه بقوة. لقد أدركت، حينما رأيته مرّةً أخرى، كيف أن بولانسكي جعل من الشقة شخصيّة محسوسة ونفخ فيها الحياة بشكلٍ حرفي…

كانت هناك مرحلة أخرى بين المسرحية والفيلم: فقد تمَّ اقتباسها في عمل سينمائيّ، ولكن من زاوية مختلفة جداً من خلال فيلم «فلوريد»، للمُخرج فيليب لو غاي. ما رأيك في هذه التجربة؟

– لقد انطلق من نفس المسرحية، ولكن لأسبابٍ عديدة خاصة بتصوُّر ذلك الفيلم، ابتعد عنها تدريجيّاً حتى تحوَّل إلى قصة أخرى تماماً، قصة شخصيّة فقدت إحساسها بالواقع. لقد سلك طريقاً عكس الذي سلكته في فيلمي تماماً. «فلوريد يروي حكاية، وأنا أردت لفيلمي أن يجعل المُشاهد يعيش تجربة. ولقد كانت هناك محاولات أخرى غير فلوريد لاقتباس مسرحية «الأب»، من إنجلترا والولايات المُتحدة الأميركيّة على وجه الخصوص، ولكن حينها كنت قد بدأت أعرف بأنني أريد أن أحوّلها بنفسي إلى فيلم. وقد استغرق مني ذلك ثلاث سنوات. كان يلزمني إقناع الكثير من الناس بأنني قادر على الإخراج السينمائيّ، فلم تكن تلك أول تجربة لي في ميدان السينما فحسب، بل إنّ الفيلم كان أيضاً بلغة أخرى غير لغتي. كانت تلك كلها عقبات أمام إنجاز فيلم مستقل ناطق بالإنجليزيّة. وحتى مع ممثلين كالذين حصلنا عليهم، كان أمراً في غاية الصعوبة. أريد أن أؤكِّد أمراً لأننا ننسى في كثيرٍ من الأحيان إلى أي حدّ فرنسا بلد السينما، وإلى أي حدّ تساعد على إنتاجها. فحالما صرَّحت بأنني أنوي إخراج فيلمي باللغة الإنجليزيّة، تمَّ إقصائي من أي دعم من المركز السينمائيّ الفرنسيّ أو من القنوات الفرنسيّة. ووجدت نفسي أمام ما يسمونه بالسوق. وقوانين هذا الأخير لا تتوافق دائماً مع طبيعة السينما المُستقلّة. إنجاز هذا الفيلم ذكَّرني بأنه على الرغم من أن نظامنا مليء بالعيوب، فهو يشكِّل امتيازاً كبيراً.

حوار: أليكس ماسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العنوان الأصلي والمصدر:

Florian Zeller un cinéma de genre

Cinéma Teaser, N 103 JUIN 2021

لاريسا بندر: الأدب يردم الهوَّة بين الثقافات

تُعتبر «لاريسا بندر» أحد أهمّ الأسماء التي تضيء مشهدَ نقل الأدب العربي إلى القرّاء الألمان. ترجمتْ عدداً من الأعمال الأدبية العربية إلى الألمانية، من بينها رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، بالاشتراك مع ماجدة بركات، و«شرق المتوسِّط» للكاتب نفسه، و«يوميّات الثورة السورية» للروائيّة السورية سمر يزبك، ورواية «القوقعة» للروائي السوري مصطفى خليفة، وغيرها. وقد حصلت «لاريسا بندر»، قبل ثلاث سنوات، على وسام الاستحقاق الذي منحها إيّاه الرئيس الألماني «شتاينماير».

تعرَّفتِ إلى اللّغة العربية في سنّ الرابعة عشرة من عمرك، في أثناء زيارتك للمغرب، وستختارين، فيما بعد، دراسة هذه اللّغة. كيف تعيشين تجربة هذا الاختيار على مستوى الحياة والعمل؟

– يمكنني القول إنّ اللّغة العربية، كما هو الحالة بالنسبة إلى الثقافة العربية، أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من حياتي اليوميّة. فأنا أحبّ قراءة الكتب العربية، سواء أكانت باللّغة العربية أم كانت مترجمَة. كما أحبّ أن أتفرَّج على الأفلام العربية، وأستمع إلى الموسيقى العربية، فليس لديّ حاجز بين الحياة اليومية والعمل.

هل تُبقي سلطةُ الناشر للمترجم حرِّيةَ اختيار ما يحبّ ترجمته؟

– للأسف، ليس بإمكان المترجم، عادةً، أن يختار ما يريد أن يترجمه أو أن يحدِّد ما هو ضروري، في رأيه، أن يكون مترجَماً من اللّغة العربية، ففي معظم الحالات يعمل بتكليف من دور النشر. شخصياً، قدَّمتُ عدّة اقتراحات لدور النشر تخصّ أعمال عدد من الكاتبات والكُتَّاب العرب، والتي كنتُ أراها مهمّة، بيد أن ردود الفعل لم تكن إيجابية عموماً. هناك، فقط، روايتان عرضتهما على دور النشر، قوبلتا بردّ إيجابي، هما: «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، ورواية «القوقعة» لمصطفى خليفة. ويمكنني القول إن هذين العملين هما الوحيدان اللذان ترجمتهُما وتمت الموافقة على نشرهما حتى الآن، بناءً على طلبي. بالطبع، هذا الكلام لا يقلِّل من شأن الأعمال الأخرى التي ترجمتها بناءً على تكليفات من دور النشر، فمعظمها أعمال مهمّة لكاتبات وكتَّاب مهمّين ومعروفين في العالم العربي.

ما هي، بنظرك، أهمّ الصعوبات التي يمكن أن تواجه المترجم الذي يشتغل على النصوص العربية؟

– في الدرجة الأولى، تكمن أهمّ الصعوبات في اختلاف اللّغتين؛ من حيث تركيب أو بناء الجمل. فعلى كلّ مترجم أن يفكّ الجمل، تماماً، إلى مجرَّد كلمات فردية، ثم يعيد تركيبها من جديد. وعديد من الجمل العربية تحمل، في أعماقها، عدّة إمكانات للفهم؛ فعلى المترجم أن يختار مقاربته لفهم الجملة المعنيّة، وطريقة التعبير عن معنى الجملة في لغته التي يترجم إليها، فـ«الترجمة تفسير»، أيضاً، كما يقول الفيلسوف الألماني «غادامِر». أمّا المشكلة الثانية فتكمن في استعمال المجازات الكثيرة، وأحياناً غير المفهومة أو غير المنطقية بالنسبة إلى القارئ الألماني؛ فعلى المترجم أن يقرِّر كيف يتعامل معها.

كان للاستشراق الألماني دور سلبيّ في بداية القرن العشرين. كيف تمثِّلين تحوّلاته في الوقت الراهن؟

– يبدو أن دراسة الاستشراق الجامعية أو «العلوم الإسلامية»، في ألمانيا، قد تغيَّرت كثيراً بشكل إيجابي، ولأسباب مختلفة. ولعلّ أبرز هذه الأسباب هو أن عدد طلّاب الاستشراق، أو طلاب دراسات «لغات وثقافات العالم الإسلامي»، مثلما تسمّى الدراسة في جامعة كولونيا (كولن)، على سبيل المثال، الذين لديهم خلفيات ثقافية عربية أو تركية أو إيرانية،… يزداد سنةً بعد سنة؛ ما يعني ظهورَ أساتذة ذوي خلفيات مختلفة، غير ألمانية بالضرورة، و- من ثَمَّ- تغيُّر مناهج دراسة العلوم الإسلامية، وتغيّر التوجُّه الذاتي لهؤلاء الأساتذة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة. يضاف إلى ذلك احتكاك المستشرقين الشبّان المباشر بالمجتمعات العربية والإسلامية، وتعلُّم اللهجات المختلفة؛ بمعنى أن الاستشراق لم يعد «علماً مخبرياً» فوقيّاً، بل دراسات ميدانية مباشرة.

تتَّسم العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب بطابع مأساوي. ما الذي يمكنه أن تقدِّمه الترجمة والثقافة بشكلٍ عامّ، على مستوى تجاوز هذا الوضع؟

– بإمكان الأدب أن يردم الهوّة بين الثقافات بشكلٍ عام؛ لأنه يساهم في التعرُّف إلى الآخر، وإلى طريقة حياته وتفكيره، و-من ثَمَّ – فهمه بشكل أفضل. فإذا نظرنا إلى الوضع، في ألمانيا، بعد وصول عدد كبير من اللاجئين عام (2015)، مثلاً، فسنلاحظ بروز اهتمام فئات عديدة من الشعب الألماني بالأدب العربي، ويزداد هذا الاهتمام باستمرار، انطلاقاً من الحاجة أو الرغبة في فهم ثقافة المجتمع الذي أتى منه هؤلاء، وطبيعة ذلك المجتمع.

شكَّلتْ ألمانيا موئلاً لعدد من الكتَّاب العرب، من بينهم، على سبيل المثال، عادل قرشولي، وفاضل العزاوي، وناجي نجيب، وفؤاد رفقة، وحسين الموزاني، وعباس خضر، ومنهم من تحوّل إلى الكتابة باللّغة الألمانية. ما الذي يمكن أن تحمله هجرة الأدباء العرب إلى ألمانيا وإلى العالم العربي؟

– أظن أن هؤلاء الكتاب، وأيضاً الكاتبات الذين وصلوا، مؤخَّراً، إلى ألمانيا هم مثل بَنَّائي جسور بين الثقافتَيْن؛ الألمانية والعربية، وبالعكس، وحالهم حال المترجمين، سواء إذا ترجموا إلى اللّغة الألمانية أو إلى اللّغة العربية؛ فهؤلاء هم الذين يغوصون في أعماق المجتمع وأرواح الناس، ويلعبون دوراً أساسياً في فهم الآخر.

حصلتِ قبل ثلاث سنوات على وسام الاستحقاق الألماني. ما الذي يعنيه لك ذلك؟

– كنّا مترجمتَيْن اثنتَيْن من بين مجموعة كُتَّاب ومثقَّفين وممثِّلين وموسيقيِّين ألمان ممّن حصلوا على الوسام سنة (2018)، وذلك تكريماً لجهودنا في التقريب بين الثقافات. في الحقيقة، أرى في هذا الوسام ليس تكريماً لي، فحسب، بل تكريماً لعمل كلّ المترجمين الذين يبذلون الجهد نفسه، يوميّاً، في عملهم، وبكلّ اللّغات.

كيف تعيشين الحجر؟

– بما أن عمل المترجم يتمّ عادةً، ودائماً، في العزلة على طاولة المكتب، فمن غير المهمّ إن كان هناك جائحة أم لم يكن، بمعنى أنه لم يتغيّر الكثير، بالنسبة إليّ، فيما يخصّ الترجمة. بالطبع، إن إلغاء الأمسيّات الأدبية أمر مؤلم لي ولكلّ من يعمل في مجال الكتابة والترجمة. إنسانياً، أيضاً، أعاني- مثل غيري- من عدم التمكّن من الالتقاء بالصديقات والأصدقاء، وممارسة الحياة الطبيعية، فهذا ما أتوق إليه فعلاً.

حسن أوريد: الرواية التاريخية في مأمن من الرقابة

يعد المفكِّر والكاتب المغربي حسن أوريد من بين أهمّ الشخصيات السياسية والفكرية البارزة في المغرب. عُيِّن مستشاراً في سفارة المغرب في واشنطن، قبل أن يُعَيَّن، عام (1999)، ناطقاً رسمياً باسم القصر الملكي حتى يونيو/ حزيران (2005)، وتَمَّ تعيينه، لاحقاً، محافظاً (والياً) على جهة مكناس، قبل أن يصبح مؤرِّخاً للمملكة في نوفمبر/تشرين الثاني (2009)، وظلّ في ذلك المنصب لمدّة عام واحد.

صدر لحسن أوريد الروائي: «الحديث والشجن»، «الموريسكي»، «صبوة في خريف العمر» و«سيرة حمار»، بالإضافة إلى ديوانين شعريَّيْن هما «يوميّات مصطاف»، و«فيروز المحيط»…

في هذا الحوار، يتحدَّث حسن أوريد عن تجربته السردية، وموقفه من الجدل الذي أثارته بعض رواياته، كما يطرح توقّعاته المستقبلية على ضوء الوضع الراهن، وتراجع دور المثقَّف في العالم…

ما الهاجس الذي يدفعك للكتابة؟، ولماذا تكتب؟، وماذا تنتظر؟

– أعتقد أن ما يطبع من يختار الكتابة هو القلق الوجودي. نعم أنا شخصية قلقة. شخصية مسكونة بالسؤال؛ ولذلك أنقل جزءاً ممّا يعتمل في ذهني إلى المكتوب، وهذه العلمية هي نوع من الترويح، أوما يسمّى، في العلوم النفسية بـ«التطهير النفسي  – catharsis» في أصلها الإغريقي، وأعتقد أن ما نحتاجه، في مجتمعاتنا، هو السعي للفهم. الفهم متعة كما يقول «سبينوزا».

كيف تقرأ ما يعيشهُ العالم، اليوم، من منطلق فكري؟

– لن أضيف جديداً ممّا قيل وكُتِب. البشرية على مشارف تحوُّل عميق. أعتقد أن أهمّ ما طرأ على البشرية، في العشرين سنة الأخيرة، هو الإنترنت الذي محا المسافة، وخلق ثورة رقمية غير معهودة، ثم جائحة «كوفيد – 19» التي قلبت الموازين كلّها. كيف يُتَصوَّر أن يعيش نصف البشرية في الحجر الصحّي؟ أكيد أن التداعيات الاقتصادية لجائحة «كورونا» ستكون كبيرة، لكن أثرها لن يكون اقتصادياً فقط. أبانت الأزمة على ضرورة الدولة، وعلى حَدّ ضروري من الاستقلال الاقتصادي. على المدى القصير، ستعيش البشرية ظروفاً صعبة، كما حال المدمن حين يُحرم ممّا اعتاد أن يتعاطاه، لكني أعتقد، أننا، على المدى المتوسِّط، سننتهي إلى ضبط الاختلالات الناتجة عن عولمة من غير ضوابط، وننتهي إلى التمييز بين المال والثروة، وهذا- في تصوُّري- شيء مهمّ.

ما وقعُ هذا الوباء على الفكر البشري؟

– هناك سابقة الطاعون الأسود، في أوروبا، في القرن الرابع عشر الميلادي. لقد كانت تحوُّلاً في مسار أوروبا. حدّ الطاعون من نظرية القدَر، وما كانت تدعو له الكنيسة من الخضوع والاستسلام لواقع الحال. أخذت سلطة الكنيسة تتقلَّص جرّاء الوباء. لربّما أننا نعيش هيمنة كنيسة من نوع جديد، وهي المؤسَّسات الماليّة التي تتكلَّم باسم الدين الجديد (أعني الاقتصاد) من أجل الثواب الجديد الذي هو الربح. لا بدّ أن نُخضِع الاقتصاد للفكر، فالاقتصاد في خدمة الإنسان، لا الإنسان في خدمة للاقتصاد.

في تصوُّرك،، هل سيتغيَّر حال العالم بعد الخلاص من هذا الوباء؟

– نعم سيتغيَّر. رؤًى كثيرة كانت بمنزلة يقينيّات، أصبحت موضع تساؤل. لكن السؤال المهم ليس في تغيُّر سُلَّم الأولويّات والقيم والخيارات، ذلك أن الغرب انتقل من الليبرالية المفرطة في بداية القرن الماضي حتى حدود أزمة (1929)، ثم إلى الدول المتدخِّلة مع نظرية «كينز»، ليعود مع المدرسة الاقتصادية الليبرالية إلى شيكاغو، إلى النيوليبرالية. الذي سيغيِّر ليس النظريات أو الأيديولوجيا، أو سُلَّم الأولويات، فقط، بل أوضاع الفاعلين. هل ستبقى هينة الغرب مستمرّة؟ هل ستبقى المجموعة الأوروبية متَّحدة؟ وهذه التغييرات ستؤثِّر في العالم العربي، الذي سيتغيَّر كذلك. وأتمنّى أن يتغيَّر إيجابيّاً.

ما تقييمك للحركة الثقافية والمشهد الإبداعي في المغرب؟ وهل هي قادرة على استيعاب كلّ التجارب الإبداعية؟

– قد لا يكون حكمي موضوعياً. ربّما نعيش ما يعيشه العالم من ضمور الثقافة الهادفة والرصينة، لفائدة ثقافة المتعة والتسلية. غلبت علينا المهرجانات، وقَلَّ الفكر، ولا أرى أن تنفصل الثقافة عن الفكر.

هناك من يتحدَّث عن تراجع دور المثقَّف المغربي، مقارنةً بالستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات. كيف ترى وضع الثقافة والمثقَّفين، ودرجة تأثيرهم في حاضر البلد، بشكل خاصّ؟

– تراجع دور المثقَّف المغربي مثلما تراجع دور المثقَّف في العالم. أزاح الخبير الذي يحمل أجوبة أو خبرة دور المثقَّف الذي يطرح الأسئلة، كما أزاح الصحافي، بحضوره المكثَّف، دور المثقَّف الذي ينبغي أن يرسم مسافة مع الأشياء والأشخاص والظواهر، والذي عليه أن يتروّى قبل أن يصدر حكماً، على خلاف الصحافي، أو المحلّل الصحافي الذي هو تحت ضغط الأحداث.

هذه كلّها معطيات موضوعية حدّت من دور المثقَّف عموماً، ويضاف إلى ذلك تراجع الجامعة. أوضاع الجامعة في المغرب (ولا أستطيع أن أتكلَّم عن أوضاعها في بقيّة بلدان العالم العربي، ولكني أقدّر أنها متشابهة) ليست في مستوى ما نطمح إليه، فكيف يمكن أن يبرز المثقَّف إن لم تكن هناك بنية حاضنة ؟

يمكن أن أضيف عاملاً، هو الثقافة السياسة في المغرب كما في العالم العربي، والتي تغيَّرت في العشرين سنة الأخيرة. توارى الفكر النقدي لصالح أفكار عامّة من قبيل المسلَّمات، أو المعتقدات، وطغيان خطاب الهويّة. خطاب الهويّة لا يساعد في ظهور فكر، بل في بروز نشطاء. وحدث شيء آخر في المغرب، وربّما في الجزائر، هو انشطار ما بين المثقَّف المُكوّن باللّغة العربية، والمثقَّف المكوَّن باللّغة الفرنسية، في حين كان الجيل السابق يتقن، في الغالب، اللُّغتين، ولم يكن ثمّة تنافر بينهما، وكان أغلب المثقَّفين المغاربة، قبل جيل، يكتبون بالعربية، ويتقنون الفرنسية التي كانت مصدر غنًى، وكانوا يرتبطون بما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي «ليوتار» بالسرد الكبير، أي مرجعية سياسية وفكرية ناظمة. غياب سرد كبير أو مرجعية فكرية وسياسة، أدَّيا إلى ضمور دور المثقَّف. هذه، في اعتقادي، بعض الأسباب لتراجع دور المثقَّف المغربي.

 

حدِّثنا عن روايتك «رباط المتنبّي» التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» (2020)؟

– كتبت رواية «رباط المتنبّي» وفاءً لشيء اعتَوَر حياتي الدراسية، وهو أن المتنبّي كان جزءاً من التربية التي تلقَّيتها. في مسرى الحياة الثقافية، ننتقل من مستعير إلى شخص عليه أن يفي بالدَّين؛ لذلك كان لزاماً عليَّ أن أؤدّي دَين ما تلقَّيته. لكن المسألة مرتبطة بشيء أعمق من الوفاء بدَيْن، وهو السؤال: هل يمكن للتراث أن يكون حلّاً؟ من منظوري، التراث ليس حلّاً ولا عبئاً. يمكن أن يساعدك كأرض صلبة تضع عليها قدمك، ولكنّ ذلك لا يمنع من السير قُدماً، ولكن شريطة استعادة التراث، والاستعادة تتمّ من خلال قراءة نقديّة له، كما أن التراث ليس عبئاً مثلما كان ينادي أصحاب الطاولة الجرداء، أو من انتصبوا ضدّ التراث والتقاليد؛ ولذلك كانت روايتي حواراً ومساءلة بين بطل الرواية والمتنبّي، وقد حَلَّ في عصرنا عند مثقَّف من المغرب، أو رباطه، ويُجْري كلاهما قراءة نقدية للثقافة العربية.

ما الكتب التي اعتمدتها في كتابة الراوية؟

– لم أكن أُجري بحثاً كي أوسِّع مجال قراءاتي عن المتنبّي. كان عليَّ أن أعود إلى الديوان، وعدت إلى كتاب «مع المتنبّي» لطه حسين، وإلى كتاب محمود شاكر عن المتنبّي، بالإضافة إلى ما كَتَب فرنسي من أصل سوري، سبق أن ترجم بعض أشعار المتنبّي إلى الفرنسية.

كم من الوقت استغرقته في كتابة رواية « رباط المتنبّي»، وجمع المادّة الخاصّة بها؟

– كتبته على مرحلتَيْن؛ المرحلة الأولى في أثناء صيف (2017)، وهي تحوي القسم الأوّل عموماً، ثم توقَّفت بعدها. لم يسعفني الخيال، وكدت أعدل عن العمل. حين بدأت العمل كنت في عطلة صيفية بشاطئ مدينة الجديدة جنوب الرباط، وصحبت معي ديوان المتنبّي، وكتاب طه حسين عنه، وكنت أقرأ ما أكتب لصديق كان استضافني في بيته مع زوجته، لقضاء عطلة الصيف.أشتغل صباحاً، ثم نذهب، سويّاً، إلى مطعم شعبي لتناول السمك، فيسألني: أين وصل المتنبّي؟، فنمزح. عدت من العطلة، وتوقَّفت عن العمل، وحدث أن مات ذلك الصديق في يناير (2018)، وأصبحت الكتابة عن المتنبّي وفاءً لذكرى ذلك الصديق الذي لم يُتَحْ له أن يقرأ عملي. عدت برؤية أخرى، وقد يلاحظ القارئ تمايز القسمَيْن؛ الأوَّل والثاني. لو كنت في وضع عاديّ لربّما تريَّثت قبل أن أنشره، لأن فيه، أحياناً، طريقة فجّة في الحكم على قضايا معيَّنة. لم أرسم مسافة كافية مع ما كتبته لأوَّل وهلة. أعتقد أن على الكاتب، لمّا يفرغ من عمل ما، أن ينساه لكي يعود إليه بنظرة أخرى. أنا لم أقم بذلك. كانت لي أولويّات؛ هي الوفاء لذكرى صديق باستكمال ما بدأته عن المتنبّي.

يرى البعض أن الكثير من أعمالك الروائية تعتمد على الرواية التاريخية..

– هذا حكم عامّ، يجريه عليَّ كثير من النقَّاد. والحال أن لي أعمالاً لم أوظِّف فيها التاريخ بل الحاضر. ولنفرض أن ذلك هو السمة الطاغية في أعمالي، هل هناك ما يمنع من توظيف التاريخ؟ الرواية التاريخية ليست تاريخاً، بل هي رواية، وينبغي أن تُقرأ على أنها رواية، لكن يمكن أن أجيبك على سؤالك، لا بصفتي كاتباً أو ناقداً، بل بصفتي أستاذاً للعلوم السياسية، عن السبب الذي يجعل الشعوب تهفو إلى التاريخ وما يرتبط به؛ ذلك أن الشعوب لا تعود إلى التاريخ إلّا حين يثقل عليها الحاضر بإشكالاته، كي تستشرف المستقبل. هناك قلق وجودي، ولذلك تعود المجتمعات إلى التاريخ، في صيغة مبسَّطة ممتعة. والمسألة الثانية هي أن الرواية التاريخية تكون في مأمن من الرقابة، والأسوأ من الرقابة الذاتية.

ما هي الإشكاليات التي من الممكن أن تقابل من يتصدّى لكتابة رواية تاريخية، من وجهة نظرك؟

– ليس هناك إشكالية مخصوصة. في «الموريسكي» وهو عمل طبعته الهيئة العامّة للكتاب في مصر، مشكورةً، أطرح قضية إنسانية لمُهجّرين من الأندلس، ويمكن أن تكون قصّة أي مُهجّرين آخرين في الزمان والمكان. وأعتقد أني أسهمت في التعريف بهذا الفصل التراجيدي، وهناك عدّة كتابات إبداعية عن مأساة المهجَّرين الأندلسيِّين هنا في مصر، وهي أكثر من أن يحصيها العدّ، منها- على سبيل المثال- «ثلاثية غرناطة» للمرحومة رضوى عاشور، وهو عمل جبّار ورائع. لكني، إلى جانب ذلك، طرحت في رواية «الموريسكي» قضية المثقف والسلطة، وتصادم الحضارات. طبعاً، من منظوري، لا معنى للرواية إن لم تطرح قضايا فكرية. نحن مجتمعات تعيش وضعاً انتقالياً، ويتعيَّن أن نفكِّر في الواقع، ونجري نظرة نقدية على الماضي كي نستطيع أن نبني المستقبل. لا أكتب من أجل الإمتاع والمؤانسة.

حدِّثنا عن ظروف كاتبة روايتك « الحديث والشجن»، ولماذا هي الأقرب إليك؟

– هي الأحبّ إليَّ، نعم؛ لأنها أوَّل عمل لي، ولأنها تطرح قضية انتهاء عهد الإيدلوجيات بعد سقوط جدار برلين، وترنُّح القومية العربية بعد حرب الخليج، وبزوغ خطاب الهويّات. يمازحني بعض الأصدقاء بالقول إن أحسن ما كتبت هو «الحديث والشجن». لا أدري. ما يستهوي في العمل هو طرح قضايا معقَّدة بشكل مبسَّط، من خلال سَرْدَيْ رجل وامرأة.

من يقرأ رواية «الحديث والشجن» يجدها أقرب إلى السيرة الذاتية. وغالباً ما تكون السيرة الذاتية هي آخر ما يخطّه قلم الكاتب، فهل «الحديث والشجن» ستوقِّع آخر ما يكتب حسن أوريد؟

– البطل في الرواية يموت، فكيف تكون سيرة ذاتية إن مات البطل وأنا حيّ، إلّا إن كنت ميِّتاً؟! فيها جزء مني من الناحية الفكرية، لكن الأحداث من نسج الخيال، ولو أن فيها إحالات حقيقية، لأحداث وأشخاص. قد تكون سيرة ذاتية، من الناحية الذهنية، لشخص عانق رؤى في مسرى حياته، ووجد أن تلك الرؤى نفقت؛ أعني الاشتراكية القومية العربية.

لقد أثارت روايتك « سيرة حمار» جدلاً واسعاً. هل كان ذلك بسبب الفترة الزمنية التي تتناولها؟

– الذي دفعني لكتابة هذا العمل هو ما انتهى إليه الربيع العربي من انتكاسة. تجري أحداث الرواية حينما كانت شمال إفريقيا تحت الحكم الروماني. تلقّى البطل تكويناً متيناً في الفلسفة الإغريقية والآداب اللاتينية والقانون الروماني، في قرطاج وروما، وعاد إلى بلدته «وليلي» التي كانت عاصمة لما كان يسمّى «موريتانيا»، أي القسم الشمالي من المغرب الحالي، وحدث أن أحَبََّ ما لا ينبغي له أن يحبّ؛ زوجة السيناتور. وكانت لها خادمة قبطية، وأسرّت له محبوبته أن يتناولا محلولاً يحيلهما إلى طائرين كي يطيرا إلى الإسكندرية، وكانت بمنزلة نيويورك أوباريس، في ذلك العهد. والذي حدث أنه لمّا تناول المحلول تحوَّل إلى حمار؛ بمعنى أنه انفصل عمّا يشكِّل شخصيته العميقة. في سيرته الحيوانية، سيقع في هوى أتان (أنثى الحمار)، ولم تكن تلك الأتان إلا المرأة القبطية وقد تحوَّلت هي أيضاً. سينتهي به الأمر إلى أن يستعيد شخصيَّته، ويصبح إنساناً من جديد، ويرتبط بالمرأة القبطية أو المصرية. أردت أن أدلّل على الوشائج العميقة بين مصر وشمال إفريقيا، في عملي هذا.

روايتك «رواء مكة» أثارت، أيضاً، الكثير من الجدل؟

– لم أبحث عن الإثارة، ولم أسعَ إليها. العمل ليس رواية، بل يمكن أن نعتبره رحلة وجدانية. المبدأ الذي أنطلق منه هو أن العمل، حين يُنشَر، يصبح مُلْكاً للقرّاء، أو ما يسمِّيه الناقد الفرنسي «رولان بارث» موت الكاتب. الناس أحرار في قراءته، لكني كنت أتمنّى لو أمسَك بعض الأشخاص عن النيل من شخصي، وأن يوجِّهوا نقدهم للعمل لا للشخص.

هل تسعى أعمالك الروائية مثل «رباط المتنبي»، و«الحديث والشجن»، و«صبوة في خريف العمر»، و«الموريسكي»، و«سيرة حمار»، و«الأجمة». و«رواء مكة» إلى طرح الأسئلة، أم إلى محاولة الإجابة عليها؟

– لا، ليس بالضرورة. المجال الذي أطرح فيه الأسئلة هو الكتابات الفكرية. لئن كنت أطرح قضايا فكرية، في أعمالي الروائية، فلا يمكنها أن تتحوَّل إلى أعمال فكرية بحتة. سيفقدها ذلك رونقها، والغاية من كل عمل روائي هي المتعة. على خلاف الأعمال الفكرية، حيث نتوخّى الفائدة، أوَّلاً، أرى أن الأولويّة التي ينبغي أن ينصرف إليها العمل الثقافي، في مجتمعاتنا، هو الفكر. هو الأولوية، وطرح الأسئلة العميقة: لماذا نحن في الوضعية التي نحن فيها؟ لِمَ تعثَّرت مشاريع التحديث؟ ما العوائق؟ وهذا من صميم عمل المفكِّر، أمّا التكنقراطي فيأتي بأجوبة جاهزة، بناءً على خبرته. لم أقل، قطّ، إننا غير محتاجين للتكنقراط، ولكني ضدّ الخلط في المهامّ؛ أي حين ينتحل التكنقراط دور المثقَّف. المعادلة في العمل الروائي، من منظوري، هي المزج بين قضايا فكرية مع جانب المتعة. هل وُفّقت؟ لا أدري. أترك للقارئ أن يحكم.

آمنة بلعلى: النقد العربي لم يُساير التحوّلات

في هذا الحوار، تتحدَّث الناقدة الجزائرية آمنة بلعلى (أستاذة تحليل الخطاب ونظرية الأدب والسيميائيات والتداولية)، عن مجموعة من الاِنشغالات والإشكالات النقدية والأدبية، منها هيمنة المناهج والمدارس النقدية الغربية، وإشكالية المصطلحات الوافدة، وترى أنّها كانت (ولا تزال) إشكالية لصيقة بالنقد العربي المُعاصر، الّذي ظلّ يغرف وينهل من النقد الغربي ومن مدارسه ومصطلحاته وتجاربه، ولم يخلق، في المقابل، تجاربه النقدية ومناهجه ومصطلحاته الخاصّة.

الدكتورة آمنة بلعلى، هي ناقدة وباحثة أكاديمية وأستاذة التعليم العالي، قسم اللّغة العربية بجامعة مولود معمري/تيزي وزو، ومديرة مخبر تحليل الخِطاب في الجامعة نفسها. لها مجموعة من الإصدارات النقدية المهمّة، من بينها: «أبجدية القراءة النقدية: دراسات في الشّعر المُعاصر»- «مشروع البعث والاِنكسار في الشّعر العربي المعاصر»- «أثر الرمز في بنية القصيدة المُعاصرة»- «تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج المعاصرة»- «أسئلة المنهجيّة العلميّة في اللّغة والأدب»- «سيمياء الأنساق: تشكُّلات المعنى في الخطابات التراثية».

المصطلحات الوافدة -لا شكّ- كانت (ولا تزال) إشكاليّة لصيقة بالنقد العربي المُعاصر. كيف واجهتِ هذه المشكلة؟ وهل تُطرح بالحِدة نفسها في الثقافات الأخرى؟

– آمنة بلعلى: يبدو أنّ إشكالية المصطلح والنقد مُرتبطة أكثر بثقافتنا المُعاصرة، وخاصّة منذ منتصف القرن الماضي وبداية دخول المناهج الحداثية إلينا؛ لأنّها اِرتبطت بظاهرة التبعية وعدم القدرة على مسايرة ما يُنتَج في الغرب من معارف ونظريّات ومناهج ومنظومات اِصطلاحية، نظراً للتطوُّر المُذهل لتلك المعارف في الغرب، ولطريقة اِستيراد هذه المنظومات المُتعدّدة. فإذا نظرنا إلى التراث العربي، نجد أنّ علماءنا، في مختلف التخصُّصات، أنتجوا نظريّاتٍ وعلوماً، واستنبطوا المعايير من الظواهر المدروسة، ثمّ صاغوا لها منظومتها الاِصطلاحية التي تعني ما أرادوه، بالفعل، من تلك المصطلحات، وخصوماتهم العارفة كانت من أجل الإضافة، وتطوير المفاهيم، ولم تطرح قضية المصطلح كإشكالية أو أزمة عامّة لأنّ المصطلحات كانت تجسيداً للمفاهيم التي اِبتدعوها، وتتويجاً للمعارف والعلوم التي أنتجوها، بل إنّهم كانوا يقومون بإعادة تدوير بعض المصطلحات، فتنتقل من مجال إلى مجال آخر للمقاصد نفسها، كعِلم النحو، وأصول الفقه، والبلاغة، والتصوُّف…. وغير ذلك.

وكذلك الأمر في الثقافة العربية، في النصف الأوّل من القرن العشرين، حيث كانت تهيمن الثقافة والنقد في مصر، ولم يكن هناك من يعارضها، وعلى الرغم من الجدل الّذي وقع بين النُقَّاد حول تبنّي المناهج الغربية كالتاريخي، والنفسي، والنقد الجديد إلّا أنّ ذلك لم يخلّف إشكالية في المصطلح؛ لاِعتبارات مختلفة، قد يرجع بعضها إلى اِرتباط هؤلاء بالمدوّنة التراثية، أو لكون هذه المناهج كانت تركّز على المضامين أكثر من الشكل. كما قد تعود إلى محدودية المناهج الوافدة آنذاك، وقلّة المصطلحات مقارنةً بالثورة المنهجية التي حدثت مع المناهج النسقية؛ لذلك يبدو وكأنّ الفوضى والإشكالات لا تحدث إلّا مع التعدّد والكثرة والتنوّع والاِختلاف.

هو الأمر نفسه لدى الغرب، فمنذ بداية تدريسي للمناهج النقدية، من الشكلانيين الروس إلى البنيوية إلى السيميائيات إلى التداولية، إلى البلاغة الجديدة، لم ألاحظ ما له علاقة بفوضى المصطلح؛ وذلك راجع لأنّهم منتجو المفاهيم التي يضعون لها المصطلحات المناسبة، ويراجعون المفهوم، فإذا ما تبيّنَ لهم أنّ هذا المفهوم أُضيفت له حمولة معرفية جديدة يُعيدون صياغة مصطلح آخر لا يُناقض المصطلح السابق كما نتوّهم نحن، ولكنّه يُعبِّر عن فهم أكثر تطوُّراً. وبمراجعة بسيطة للمصطلحات في المعاجم المعروفة، والتي تُرجم بعضها إلى العربية، نجد بأن لا يُناقض بينها، وإن وُجِد مصطلح واحد مشترك، فهو يعني كذا عند فلان، وكذا عند آخر أو في مدرسة أخرى، وهكذا. ولنا في كلّ المصطلحات النقدية الغربية أمثلة كثيرة، في حين توجد إشكالات في تعدّد المقابلات العربية لهذه المصطلحات، وغموضها، وتناقضها بين المترجمين؛ ولذلك سنظلّ نتحدَّث عن أزمة النقد وفوضى المصطلح، ولعلّ إشكاليّة المصطلح، في اِعتقادي، تلخِّص إشكاليّة النقد العربي، وإشكاليّاتنا نحن مع نصوصنا.

ظلّ النقد العربي يغرف وينهل من النقد الغربي، ومن مدارسه، ومصطلحاته، وتجاربه. هل يمكن الحديث هنا عن هيمنة المناهج والمدارس النقدية الغربية؟ وإلى أيّ حدّ استفاد النقد العربي من النقد الغربي ومن مناهجه ومصطلحاته؟ وفي الوقت ذاته لماذا برأيك لم يخلق النقد العربي تجاربه النقدية، ومناهجه، ومصطلحاته الخاصّة؟

– اِختار النقد العربي الذهاب إلى النقد الغربي، ولم يفرض عليه، مثلما فُرضت شروط الاِنخراط في النظام العولمي على السياسيين من الحُكّام العرب، ولم يكن النقد العربي ليقع تحت طائلة هذا النوع من الإكراه الداخلي لولا الإحساس بالفراغ نتيجة القطيعة مع التراث، وعدم القدرة على اِستئناف المبدعين والنُقَّاد موروثاً حكائياً تمتدّ أرجاؤه من منامات الوهراني ورحلات اِبن بطوطة غرباً إلى مقامات الهمذاني وحكايات «ألف ليلة وليلة» شرقاً، وركاماً من المفاهيم التي تعجّ بها كُتب النقد العربي القديم. فقد ظلَّت الكتابة تمتحُ من تجارب الغرب، كما أنّ النقد نفسه ظلّ يتطوّر ويتحوّل في كلّ مرحلة، اِستناداً إلى ما تخلقه المدارس النقدية الغربية التي تُراجع مقولاتها ومناهجها بطريقة مُذهلة فرضتها التحوّلات الفكرية ذاتها، لتترك فجوّة بيننا وبين النظريّات الغربية، قد تمتدّ إلى عشرات السنين. ونظراً إلى ضُعف حركة الترجمة، لم يستطع النقد العربي أن يُساير تلك التحوّلات، ويتمثَّل منظومة المفاهيم والمصطلحات؛ ولذلك عكف أصحابه، في الأغلب الأعمّ، على التمرُّن على تطبيق المناهج على النصوص العربية، واستبدالها بالسرعة نفسها التي تمّ بها تحصيلها، ولهذا لم يخلق النقد تجاربه النقدية، ولا مشاريع أصيلة تفكِّر في وضعية الأدب العربي المعاصر، وتطرح السؤال الفلسفي الّذي يُمكّن من إنتاج المعرفة التي تسهم في بلورة النظريّات، كما أنّه لم يتمّ اِستئناف النقد التراثي لكي يستطيع أن يطوّر مفاهيمه. وعلى الرغم من أنّ هناك محاولات للرجوع إلى التراث النقدي، غير أنّ أغلبها اِرتبط بنوع من المقارنات الضحلة بين الفكر النقدي العربي القديم والفكر الغربي، و- من ثَمَّ- في المساحة التي أُعطيت لنا، بوصفنا نُقَّاداً، لم نتمكَّن من تحصيل جيِّد للمناهج الغربية، فظللنا نجرِّب وننتقي، دون القدرة على الخروج من اللعبة المنهجية، والجري وراء المناهج واستبدال بعضها ببعض، لذا ظلّ الناقد العربي تابعاً، لم يستطع أن يخلق فضاءه الخاصّ، ولذلك نحن لا نتحدَّث عن نقد عربي إلّا تجاوزاً، أو لكونه يُكتب باللّغة العربية أو يُعالج نصوصاً عربية. وقد انجرّت عن هذا الأمر إشكالات كبيرة، لا تزال قائمة، وفي مقدِّمتها إشكال المصطلح الذي أشرنا إليه سابقاً، وهو لسان حال هذه الأزمة.

كيف تفسِّرين نظريّة «موت النقد/والناقد الأدبي»، وبروز «النقد/والناقد الثقافي»؟ وهل هي صحيحة أم متجنّية؟ ومن أيّة زاوية أو سياق يمكنك قراءة مثل هذه النظريّات؟

– قبل ذلك، بودّي أن أطرح الإشكال المرتبط بقضية موت النقد الأدبي بالسياق الّذي نشأت فيه فكرة موت النظريات والنهايات والما-بعديّات، فقد أدَّت الثورة العلمية إلى ظهور منظومة التخصُّصات التي اِرتبطت بنشأة العلوم المختلفة، ومن بينها العلوم الإنسانية، كعِلم النفس والاِجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات. واستطاعت هذه العلوم أن تنتج نظريّاتها ومنظوماتها المفاهيمية ومصطلحاتها الخاصّة، وكان هذا التوجُّه سبباً في تراجع الفكر الموسوعي، وبروز السعي الأحادي الّذي عكس نوعاً من العقل التبسيطي القائم على منظومة الكيانات المغلقة مثل الماهية والخطّية والوظيفة والبنية والنصّ والذات والموضوع، وكان قيامها على المنهجية العلمية التي تتَّسم بالجزئية والاِختزالية في وصف الوحدات الأوَّلية التي تكوّن الظاهرة، قد أسَّس لمنظومة لعبت- كما يقول «إدرغار موران»- دور التحقيقي لحارس الحدود، من خلال التمركز حول الظاهرة.

عبّرت هذه المنظومة، في الغرب، عن إشكالية معرفية، سرعان ما شرع الداعون إليها في تجاوزها،  واستبدال منظومة أخرى بها، قائمة على العقل الإنتاجي والقرائي المركَّبَيْن، «يتضمَّن مبدؤها الاِعتراف بالروابط الموجودة بين المعارف والكيانات والظواهر المختلفة، وتفطَّنوا إلى مقولة «باسكال» التي تُؤكد أنّ جميع الظواهر والأشياء ترتبط فيما بينها كلّها عبر صلة طبيعية، حتّى الظواهر الأكثر تباعداً واختلافاً»، وبدأ الحديث عن (باراديغم) جديد في الأُفق هو(إبستيمولوجيا) التعقيد الذي تطوّرت فيه المناهج النقدية الغربية مابعد البنيوية، الّذي اُعتُبر فتحاً عظيماً في الثقافة الغربية، في محاولتها تجاوز (البراديغم) القائم على التبسيط والتجزيئية والاِنغلاق مثلما عكفت عليه الدراسات البنيوية الشكلية، وحصل الاِنفتاح على الحقول المعرفية الأخرى؛ كعِلم النفس المعرفي، والتأويلية، والذكاء الاِصطناعي، والأنثروبولوجيا الثقافية، والدراسات الثقافية، والبينية، وغيرها، واستدرجتها إلى نظامها الابستيمولوجي، الأمر الّذي أسهم في ثراء منظومتها المفاهيمية والمصطلحية، وظهر عهد جديد وثقافة جديدة قائمة على نوع من الاِنفجار الإعلامي والمعلوماتي، الّذي نستطيع أن نقيسه بذلك الكمّ الهائل من العلامات التي، وإن كنّا بحاجة إليها فإنّها فرضت نفسها وأحدثت اِنقلابات جذرية في تصوُّرات الإنسان المعاصر للعالم ولعلاقاته مع الآخرين، و- من ثمّة- تصوُّره للوجود، وأصبحنا نشهد منظومتها اِصطلاحية سريعة التشظّي تتجاوز الحدود المرتبطة بالنماذج التي تحقّقت من قبل، في عصر التخصُّصات.

لكن النقد دخل- ربّما وبأشكال مختلفة وإشكالية- في بعض الأفخاخ. كيف توضِّحين هذا؟

– إنّ بارديغم إبستمولوجيا التعقيد، وبروز الدراسات الثقافية، وما يُسمى بالبينية، أدخلت النقد، عندنا، في طريق مملوءة بالأفخاخ؛ ولذلك تُعَدّ اللّغة الواصفة النقدية العربية، اليوم، من الإشكاليّات المعقَّدة والكارثية، حيث نقرأ كتباً ورسائل جامعية، ولا نفهم ما يقول أصحابها، بل تُدخِل القارئ في نوع من الدوار والخطل والخبل. ولعلّ هذا ما يدخلنا فيه النقد الثقافي، منذ أن بدأ الغذامي يتحدَّث عنه، ويجعله بديلاً للنقد الأدبي. وها نحن اليوم نقرأ لكلّ النُقَّاد، وهم يكتبون كلّهم عن الأنساق المضمرة في النصوص، ويختزلون الأمر إلى مجرَّد وصف المعنى، يذكِّرنا بِمَا كان يتداول قبل اِنتشار الدراسات البنيوية، بماذا أراد الشاعر أن يقول.

ما الّذي يسعى إليه النقد الثقافي، على وجه التحديد؟

– الحقيقة أنّ سؤال الخروج من الذات والعودة إليها، وإلى المعنى، والقيمة التي أشرت إليها سالفاً، هو ما يسعى إليه النقد الثقافي، في اِعتقادي، الّذي لا ينبغي أن نضعه، وجهاً لوجه، في مواجهة النقد الأدبي، فنروِّج للفكرة القائلة بموت النقد الأدبي، وموت الناقد كموت المؤلِّف، لأنّ الّذي أمات النقد الأدبي هو العقل الأداتي، كما يقرّ نقَّاد الغرب أنفسهم، هي الحداثة والعولمة، منذ أن تَمَّ السعي إلى تعميم نظرة واحدة على كلّ النصوص ومحاولة صياغة نموذج علمي يركِّز على كيف قِيل النصّ، لا عمّا قِيل، ومَنْ قاله، وما السياق الّذي تمّ إنجازه فيه، فكان الضحيّة الكُبرى في هذا التوجُّه الّذي تبنَّته المناهج المحايثة، هو المعنى، والقيمة، والجمال، وهو ما كان يُمارسه النقد الأدبي قبل أن يتحوّل إلى دراسة وقراءة وتحليل نصّ، وغيرها من المصطلحات؛ و- من ثَمّ- جاء النقد الثقافي كَردّ فعل على المناهج المحايثة، وعولمة الفكر والثقافة، فأراد أن يُنبِّه إلى الاِختلاف والخصوصيات والأنساق المضمرة التي تقوم عليها النصوص الأدبية، ولأنّ في الثقافة نجد المعنى والإنسان والتاريخ، سيكون محتَّماً على النقد، مهما كانت التسمية، أن يُعاين كلّ هذا، دون الاِكتفاء بجزء من النصّ لأنّ النصّ الأدبي مثل المكعب، لا يمكن أن نفهمه بالنظر إلى جهة واحدة، والنقد الثقافي يسمح للناقد بأن يحيط بكلّ الجهات؛ ولذلك هو يستثمر كلّ المناهج لكي يحيط بالجوهري في النصوص، كما أنّه منفتح على كلّ المعارف التي تسمح للناقد بأن يفسِّر لا أن يحكم.

هل النقد الّذي تُمارسه الدّراسات الثقافية هو نوعٌ من النقد الثقافي؟ وما القواسم المُشتركة بين النقد الثقافي والدّراسات الثقافية؟

– بعيداً عن الخوض في تنظيرات الغرب واختلافاتهم في تسمية مناهجهم، أعتقد أنّه لا ينبغي أن تُطرح المشكلة بشكل ميتافيزيقي متعالٍ عن التاريخ وحركة التاريخ وواقع المجتمع الّذي نعيشه، فما الّذي نجنيه، اليوم، من الجدل حول الفرق بين مصطلحَيْن يعبِّران عن حالتين فكريَّتَيْن وصلتا إلى الغرب، واشتغلوا في إطارهما، وكانت لهم دوافعهم السّياسيّة والأيديولوجية كتلك التي أدَّت إلى نشوء الدراسات الثقافية….

فالمنهج الّذي نستورده لا ينبغي أن يكون صالحاً في ذاته، فقط، بل ينبغي أن نسأل: هل ستكون له جدوى في واقعنا؟، وهل ينسجم مع حركة التاريخ الّذي يخصُّنا؟. بعض النظريات أو الطروحات والأجناس الأدبية لم تكن لها جدوى لها في مجتمعاتنا؛ لذلك لم تستمرّ، حتّى إن وجدت: الدادائية، الفنّ للفنّ، العبثية، الرواية البوليسية، الأدب الرقمي. ما بعد الحداثة كلّها لا يمكن أن تكون لها جدوى في المجتمع العربي، حتّى وإن وُجِد من يروِّجون لها؛ لأنّها ضدّ القيمة والمعنى، و- من ثَمَّ- الذين يُراهنون على هذا النوع من المعرفة هم متوهمِّون. فالمستقبل سيكون بعودة الوعي التي بدأت بالتاريخانية الجديدة وعِلم الاِجتماع والدراسات الثقافية والبحوث المعرفية التي تفرض علينا أن نُعزِّز علاقتنا بالعلوم الإنسانية، واستعادة دورها وعلاقة الأدب والنقد به، ليكون لنا نقداً عربياً، ومن هنا، فقط، يمكن أن نتحدَّث عن دور الدراسات الثقافية التي كُنّا- بوصفنا مجتمعاتٍ مستعمرة- جزءاً منها؛ لأنّنا كنّا جزءاً من موضوعاتها المستهدفة، بدءاً من الدراسات الأنثروبولوجية التي بدأها الغرب اِنطلاقاً من المجتمعات المستعمرة. ولذلك ينبغي أن نستفيد من النقد الثقافي، لكي نعيد الوعي بالذات وبالثقافة في النصّ والنصّ في الثقافة.

في تجربتك النقدية بدأت بشِعر الروّاد؛ أدونيس والسياب وخليل حاوي وعبد الصبور، ثمّ اِنتقلتِ إلى الخطاب الصوفي: البسطامي والحلاج وابن عربي، ثمّ إلى الرواية، ثمّ إلى الأنساق التراثية. لماذا هذه المراوحة بين القديم والحديث؟ وهل كان للمناهج النقدية دور في ذلك؟

– ربّما أختلف مع بعض النُقَّاد الذين يلومون نقَّاداً آخرين في مراوحتهم بين القديم والحديث وبين الشِّعر والسرد، أو الرواية والمسرح، لأنّني أعتقد أنّ ما يُحدِّد النشاط النقدي، عند الناقد، ليس هو النصّ قديماً أو حديثاً، إنّما طبيعة الرؤية النقدية التي تنبع من السؤال الأساس الّذي يُؤرِّق الناقد، وهو القيمة الإنسانية والفنِّيّة للنصّ الأدبي التي تُشكِّل خبرتي الجمالية بهذا النصّ أو ذاك، وفي كلّ مرّة بطريقة مختلفة، وكذا السؤال الفلسفي المسؤول عن هذه القيمة. والمناهج التي اِعتمدتها في مسيرتي المتواضعة كانت، بالنسبة إليَّ، بمنزلة العكاز الّذي أتَّكئ عليه وأنا أغيِّر موقعي أمام النصّ الّذي يبدو لي كالمُكعب، لا يمكن لنا أن نرى وجوهه كلّها دفعةً واحدة إلّا إذا غيَّرنا مواقعنا؛ ولذلك يمكن أن أُؤكِّد أنّ المناهج النقدية المُعاصرة قد ساهمت في تشكيل هذه الرؤية، وحدّدت ملامحها، على الأقلّ، بالنسبة إليَّ أنا، رغم أنّ مشروع أيّ ناقد لا يمكن أن يكتمل إلّا عند مماته، فـ«غريماس» الّذي بدأ لغوياً معجمياً ثمّ تحوّل إلى سيميائيّ سرديّ، يرى أنّ المعنى شكل، ولا يمكن أن يكون إلّا بوصفه شكلاً، يكتب في سنة وفاته سيمياء العواطف، إذ يرى أنّ حالات الرّوح تُؤثِّث النصوص، ويمكننا أن نصفها، ولو بقي حيّاً لكان اليوم صاحب منهج معرفي أو ثقافي أو غيره.

وأمّا المصطلح، بالنسبة إليّ، فهو مرتبط بالمنهج، وأعتقد أنّني حرصت على ألّا تتحكَّم المصطلحات في لغتي الواصفة، إلى حَدٍّ كبير، وأجعل النصّ- أوّلاً- هو الّذي يتكلَّم. كنتُ دائماً أقول للطلبة (وما أزال)، ينبغي أن ننصت إلى النصّ الّذي كنت أتحدَّث عنه، وأن أفهم لغته وطريقة تشكيلة، وكيف تنبني الدلالة فيه، وخاصّة الرؤية التي تدفعه لكي يُؤثِّر، ويجعلنا نبذل جهدا مُضاعفاً في أثناء عملية تأويله؛ من هنا يظلّ التأويل هو الطريق الأسلم لمقاربة النصّ، في اِعتقادي، لأنّه الوحيد الّذي يجعل الناقد يختار، من هذا المنهج أو ذاك، ما يُلائم السياق، يلجأ إليه في أثناء التحليل. أمّا التعامل مع نصّ بِمَا نعتقد أنّه تعامل ثنائي بين الناقد وبينه، فهو محض سقوط في الاِنطباعية، والاِنطباعية لا تُؤسِّس لنقد حقيقي، وخاصّة في الوقت الحالي، حيث أصبح مؤسَّسة، بل إمبراطورية، بحدّ ذاتها.

محمّد ساري: الكاتب يحبّ الإطراء، ويمقتُ النقد!

محمّد ساري، روائي وناقد ومُترجم أدبيّ جزائريّ، من مواليد (1958). تخرَّج في جامعتَي «الجزائر»، و«السوربون» في باريس، وأستاذ النقد الحديث ونظرية الأدب والسيميولوجيا في جامعة «الجزائر2». يكتب باللّغتَيْن؛ العربيّة والفرنسية، وله مجموعة من الإصدارات في الرواية والنقد، كما ترجم ونَشَر زهاء عشرين رواية من الفرنسية إلى العربيّة، إلى جانب ترجمات أخرى في مجالات النقد والفكر والفنّ والتاريخ والسياسة.

في هذا الحوار، يتحدَّث محمّد ساري، عن الترجمة وواقعها وراهنها، وما تصطدم به من معوّقات وإشكالات، كما يتحدَّث عن ظاهرة التعدّد اللّغوي للأدب الجزائري، وعن الصراعات؛ الخفية والمُعلنة بين المعرِّبين والمفرنسين، كما يتحدَّث، أيضاً، عن تَدخُّل المؤسّسة النقدية في ما يُسمّى بالحرّيّة الأكاديمية.

قمتَ بترجمة مجموعة من الأعمال الأدبية مثل «ثلاثية الشمال» لمحمّد ديب، وغيرها. كيف تنظر إلى واقع الترجمة ومعوِّقاتها؟ وكيف تختار ما تترجمه في ظلّ هذا الواقع؟

– عوائق ضعف الترجمة ماليّة، بالأساس، قبل أن نتكلَّم على نقص اِحتراف المترجمين. تحتاج الترجمة إلى شراء حقوق الترجمة وحقوق المُترجم، زيادةً على تكلفة طبع الكتاب وحقوق المُؤلِّف، وكلّ هذا يرفع من ثمن الكِتاب المُترجَم، ويعوِّق عملية تسويقه بشكلٍ جيّد. أمّا التعامل مع النصوص التي أترجمها، فأنا لا أترجم إلاّ النصوص التي تعجبني عند قراءتها.. تعجبني أدبياً، وأستفيدُ منها، لغوياً وأسلوبياً. أتعامل مع النصّ المُترجم كما لو أنّه نصّي الّذي ألَّفته، وأحرص على جمال أسلوبه وثراء لغته، كما أحرص على الوفاء للنصّ الأصلي، وأتحرّى طويلاً في معاني نصّه وألفاظه، ولا أمرُّ مرور الكرام مُستخفّاً بالغامض منه، بل أعمل على أن يكون النصّ المُترجَم في مستوى النصّ الأصلي، بل أحسن منه، إن أمكن، في بعض فقراته. وكان ردّ فعل القُرّاء لترجماتي إيجابياً حتى الآن، حتّى قِيل عن كثير منها إنّها كُتِبَتْ، أصلاً، بالعربيّة («سنونوات كابول» لياسمينة خضرا، «الممنوعة» لمليكة مقدّم، «سطوح أورسول وغفوة حواء» لمحمد ذيب)، وهي روايات، عبَّر كثير من القُراء عن إعجابهم بأسلوب ترجمتها، ونُشِرت مقالات عنها تُشيد بلغتها وأسلوبها، ولا يحسّ القارئ بثقل أسلوب الترجمة، وغموض معانيها كما يحدث في كثير من الترجمات إلى العربيّة، سواء في الجزائر أو العالم العربي، وقد وقفتُ على بعض الترجمات الكارثية التي أضحت غير قابلة للقراءة، خاصّةً في مجال النقد الأدبي.

التعدّد اللّغوي في الأدب الجزائري ظاهرة مثيرة. كيف تقرأ هذه التعدُّدية، خاصّة من زاوية الانتماء؟

– إنّ التعدّد اللّغوي، في الجزائر، ظاهرة قائمة، صقلها التاريخ منذ قرون خلت. الأمازيغية، والعربيّة، والفرنسية، هي اللّغات الثلاث التي يتعامل بها الجزائريون؛ شفاهةً وكتابةً، هل هي نعمة أم نقمة؟ يقول المفكِّرون إن هويّة شعب هي، أوّلاً، هويَّته اللّغوية، وأغلب اللّغات تُسمّى بأسماء بلدانها (الفرنسية، الألمانية، الروسية، الصينية، الإنجليزية، اليابانية…). وتُستثنى الجزائر، بالرغم مما يُقال عن العربيّة الجزائرية، أو العربيّة المغاربية، وهي إشارة إلى اللّغة العربيّة الدارجة أو العامِّيّة، المشتركة بين بلدان المغرب العربي.

على المستوى المعرفي، إنّ هذه اللّغات رافد ثقافي ومعرفي ثريّ، بحيث تسمح للجزائري أن يرتبط، منذ طفولته، بأبعاد لغوية وثقافية متعدّدة؛ من التراث الشفهي الأمازيغي إلى التراث العربي الإسلامي إلى التراث الفرنسي اللاتيني الغربي.

وعلى المستوى الأدبي، الكُتّاب الجزائريون حاضرون، بقوّة، على الساحة العربيّة، بالنسبة إلى كُتّاب العربيّة، كما على الساحة الفرانكوفونية بالنسبة إلى كُتّاب الفرنسية، وهناك نهضة للأدب الأمازيغي الّذي يُصالح الجزائري مع هويَّته التاريخيّة الأولى. بل أقول إنّ اللّغة الفرنسية مكسبٌ عظيم للجزائريِّين، وهي غنيمة حرب بحسب قول كاتب ياسين، لأنّها تربط القارئ الجزائري (وخاصّةً الكاتب) بالأدب الغربي، عموماً، والمعاصر، خصوصاً. فلا ننسى أنّ الأدب العالمي، في أغلبه، مُترجم إلى اللّغة الفرنسية، فالقارئ باللّغة الفرنسية لا يقرأ من الأدب الفرنسي إلاّ نسبة ضئيلة مقارنةً بما يقرؤه من الأدب والفكر العالميَّيْن المترجمَيْن إلى الفرنسية. وهي ظاهرة يوميّة أعيشها شخصياً، حين أقرأ لأكبر كُتّاب العالم في ترجماتهم إلى الفرنسية، وكثير مِمَا قرأت غير مُترجم إلى العربيّة، ليس في المغرب فحسب، بل في المشرق، أيضاً.

هناك صراع قائم بين المعرِّبين والمفرنسين. في نظرك، ما خلفيّاته؟ وكيف السبيل إلى تجاوزه؟

– صحيح أنّ صراعات؛ مُعلنة وخفيّة، توجد بين المعرِّبين والمفرنسين، وبين المعرِّبين ودعاة الأمازيغية، لكن هذه الصراعات تُحرِّكها دواعٍ سياسيّة أكثر مما هي فكرية وثقافية. وأظنّ أنّ هويّة «الجزائريّة» أو (الجزأرة) مثلما تُسمى، هي الكفيلة بحل هذه المعضلة. وأمامنا أمثلة لبلدان تتعايش فيها اللّغات كما يتعايش سكانها في وئام، منها سويسرا، وبلجيكا، وكندا… هويّة الجزائري، بحكم ظروف تاريخية لا يمكن محوها بجرّة قلم، ومَنْ حاول فرض لغة واحدة تجد أمامه مقاومة من أصحاب اللّغات الأخرى قد تؤدّي، حتماً، إلى خلق حساسيّات يمكن أن تتحوّل إلى عداء ومواجهة، مثلما وقع في التسعينيات، حين تخندق أغلبية المعرِّبين مع «الحركة الإسلامية»، وتخندق أغلب المفرنسين ضدّها، حتى كاد المشكل السياسيّ يتحوّل إلى مشكل هويّة. بينما أغلب الجزائريِّين يتعايشون مع هذه الأبعاد اللّغوية، وأبعادها الفكرية والحضارية، بليونة إيجابية، وتعتبر أنّ الجزائر بلد يتَّسع لجميع هذه اللّغات، ويمكنها أنّ تكون مصدر إشعاع، وتقدّم، وسِلم دائم.

وقد تُساهم الترجمة بقدرٍ كبير بمحو هذه الخلافات الناتجة عن جهل: (من جهل شيئاً عداه). حينما يمكن لأيّ قارئ جزائري (مفرنس، معرّب، ممزّغ) أن يجد جميع المنتجات الفكرية والأدبية في هذه اللّغات الثلاث، يتصالح الجزائريون، ويعيشون في وئام. مع على العلم أنّه لا يمكن محو الخلافات من أيّ مجتمع، خاصةً السّياسيّة والأيديولوجية منها. على المستوى الأدبي، والمجهود الفردي في الترجمة، قمتُ بترجمة أكثر من عشرين رواية لكُتّاب جزائريّين فرانكوفونيِّين، إلى العربيّة؛ ما سمح لطلبة الأدب العربي باِكتشافهم، وإبعاد الشكوك عن «تهمة الولاء لفرنسا» لأنّهم اِكتشفوا أنّ الجزائر، أرضاً وشعباً وثقافةً، موجودة في كتاباتهم، وأنّهم لا يختلفون عن الكُتّاب المعرّبين إلاّ في اللّغة. بل يتفوّقون عليهم بالتحكُّم الفني والسردي بحكم اطِّلاعهم على الأدب العالمي، الشيء الّذي ينقص عند الكاتب الّذي لا يتقن لغة أجنبية غربية. وفي الاِتِّجاه الآخر، عمل المُترجم «مارسيل بْوا» على ترجمة كتابات الطاهر وطّار، وعبد الحميد بن هدوقة، وواسيني الأعرج، وتعريف القُرّاء المفرنسين بهم، سواء في الجزائر أو خارجها، وهي أبلغ وأنجع وسيلة لتعايش اللّغات في الجزائر.

موضوعات رواياتك، في معظمها، اِجتماعية، وتخصُ تاريخ الجزائر في مراحلها المتعدّدة. لماذا تفضِّل الكتابة الواقعيّة على بقية الأنواع؟

– أظنّ أنّ المجتمعات العربيّة بحاجة إلى مجهود الكُتّاب في دفعها إلى معرفة نفسها، ثمَّ إلى البحث عن حلول لمشاكلها. الكاتب فنّان ينسج لوحة فنّيّة باللّغة، لكنّه مناضل من أجل رقيّ مجتمعه. كما أرى أنّ حياة الكاتب، مهما كانت غنيّة ومليئة بالحركة، لا يمكنها أن تعوّض ما يجري داخل المجتمع من إرهاصات. فالرؤية التي تتشكّل لديه ليست رؤية فردية يستمدّها من حياته الخاصّة، بل هي رؤية المجتمع، و-تدقيقاً- هي رؤية المجموعة الاِجتماعية التي ينتمي إليها، وهي التي تُشكّل وعيه، وتصقل أيديولوجيَّته، وبهما يتمكّن من التأسيس لعملٍ أدبي يتجاوز ذاته، لأنّه، في هذه الحالة، يُعبّر عن مجموعة كبيرة من الأفراد يعيشون وضعية اِجتماعية مُماثلة لوضعيَّته، ومن هنا اِنتشار القراءة لأن مجموعة كبيرة من أفراد المجتمع يرون حياتهم وأحلامهم تنعكس داخل ما يكتبه هذا الكاتب الواقعي.

ومن أسباب غياب القراءة في الوطن العربي أنّ القُرّاء لا يجدون أنفسهم داخل الأعمال الأدبية، التي تبدو لهم عوالم وهميّة لا تعنيهم، زيادةً على إغراق كثير من الكُتّاب في بلاغة وتلفيظ، فيهما كثير من الجمال اللّغوي لكنّهما فارغان من أيّة دلالات اِجتماعية قد يستفيد منها القارئ. وهذا الكلام يتردّد كثيراً عند طلبتنا حينما نحدِّثهم عن سبب عزوفهم عن القراءة. للكاتب العربي مسؤولية تاريخية، وينبغي أن تُساهم كتاباته في بَلْوَرة نظرة موضوعية عن مجتمعه؛ أن يفتح الآفاق للقُرّاء، وأن يُساعدهم على تشكيل وعي مُمكن للتعامل الجادّ مع واقعهم، وإلاّ كانت كتابات خارج التاريخ.

أعتبر نفسي كاتباً واقعياً، بأوسع معنى لكلمة (واقعية)؛ أي إنّ الموضوعات المشتركة، الجماعية هي التي تجذبني وتلهمني، أكثر من الموضوعات الذاتية الشخصية. حتّى حينما كتبتُ سيرتي الطفولية الأولى: «عيزر: طفل في الحرب» (2018)، فترة الحرب التحريرية، حرصت على التطرُّق إلى تأريخ منطقة بأكملها وهي تقاوم الاِستعمار والجيش الفرنسي، زيادةً على صراعها اليوميّ ضدّ الجوع والفقر والقهر البشري والطبيعي؛ لهذا كلّ موضوعات رواياتي اِجتماعية، بالأساس، وتخصُ تاريخ الجزائر في مراحلها المتعدّدة. وقد خصَّصتُ أربع روايات لظواهر التطرُّف والعنف ودواليب السلطة وأجهزتها عبر تاريخ الجزائر المستقلّة (الورم، الغيث، القلاع المتآكلة، حرب القبور). الرواية، عندي وسيلة ناجعة للتعمُّق في معرفة المجتمع وصراعاته الأساسية وتغيُّراته، وما هي قواها المتصارعة، وما مكانة الفرد داخل هذه القِوى، وكيف يصبح الفرد، عموماً، ضحيّة جماعة، سواء أكان ذلك طوعاً ووعياً منه أم كان منساقاً لأنّه يبحث عن هويّة جديدة ومرتبة جديدة قد تُثمّن قدراته، وتنقله، من وضع اِجتماعي إلى وضعٍ مُغاير أحسن، وإن على مستوى الحُلم والتمنيِّات، فقط. إنّ علاقة الفرد بالجماعة، من الموضوعات التي تجذبني بشكلٍ كبير، وهي التي تسمح بتحديد هويّة الأفراد داخل الجماعات التي ينتمون إليها، مهما كانت طبيعة هذه الجماعات. أمّا على المستوى الأدبي والفنّي، فإنّي دائم البحث عبر قراءاتي المتواصلة؛ بالعربيّة وبالفرنسية، عن التقنيات القصصية والأساليب السردية الملائمة والغنيَّة والتي تُمكنّني من تطوير دائم لرواياتي. ومن ينظر يتابع مساري الأدبي سيجد أنّ أسلوب السرد وتقنياته يختلف من رواية إلى أخرى.

الملاحظ أنّ كتاباتك النقدية أصبحت قليلة جدّاً، إن لم نقل نادرة. ما سبب هذا التراجع؟

– أظنّ أنّني لو لم أمتهن الأستاذية في الجامعة، ما كتبتُ النقد الأدبي. إنّ مهنة أستاذ الأدب في تخصُّصاته الكثيرة والمشاركة في ملتقيات أدبية هو الّذي جرّني من دراستي الجامعية إلى كتابة المقالات النقديّة والدراسات الأكاديمية؛ ذلك أنّني بدأتُ مبدعاً بكتابة الشِّعر ثمّ الرواية، حتّى قبل دخول الجامعة وأنا في القسم الرياضي في المرحلة الثانوية. ولكن للتجربة وجهان؛ الإيجابي منه يتمثَّل في المعلومات الغنيّة التي اِكتسبتها، والجانب السلبي هو أنّ الكتابات النقدية حينما تتعلَّق بقراءات روائية، مثلاً، تخلق لك عداوة وخصومات مع الكُتّاب حينما تقدّم انتقادات وتتحدَّث عمّا تراه أنتَ عيوباً في العمل الأدبي. وأوّل خصومة حدثت لي مع الطاهر وطار، حينما تناولتُ روايته «العشق والموت في الزمن الحراشي» بالنقد، وأخرى مع إسماعيل غموقات، وآخرتها مع رشيد بوجدرة. ولا أحدِّثكِ عن الآخرين ممَّن هم أقلّ شهرة، فبعضهم قاطعني لسنوات. الكاتب المُبدع يحبّ الإطراء والمدح، ويمقتُ النقد والقدح في أعماله. إنّها نرجسية تاريخية تطبع نفسية المبدعين، عموماً. لهذه الأسباب وغيرها، توقَّفتُ عن كتابة النقد إلاّ في حالات نادرة.

من خلال تجربتك المهنية، ما حدود تدخُّل المؤسّسة في ما يُسمّى بالحرّيّة الأكاديمية؟

– جوهر الكتابة الأدبية والنقدية هو الحرّيّة، وجوهر السّياسة هو النظام وترسيم الحدود لكلّ شيء. فالأدب أشمل بكثير من السياسة، وإن كان مُلتصقاً بها دوماً، لأنّه يخترق تلك الحدود التي ترسمها السياسة. الأدب هو الحياة بتنوُّع تناقضاتها. الأدب هو السفر في ظلّ المُمكن الّذي لا تراه السياسة، خاصّةً تلك التي تُمارَس في الوطن العربي. لا يترعرع الإبداع إلاّ في كنف الحرّيّة، لأنّ المبدع يغوص في حياة الإنسان؛ الاجتماعية والذاتية في آن معاً، كما يغوص في أحلامه ورغباته المكبوتة التي قمعتها السياسة؛ لهذا السبب وجد الأديب نفسه، عبر التاريخ، يتصادم مع السياسي الّذي يريد، دوماً، تسخيره لأيديولوجيَّته، ولكن حرّيّة الأديب أقوى، وإن تعرَّضَ صاحبها إلى القمع، وأحياناً إلى الأسر والنفي، بل حتّى إلى القتل؛ فالأدب لا يتطوّر إلاّ في جوّ من الحرّيّة؛ بدليل أنّ المجتمعات التي تسود فيها أنظمة قمعية يفقر فيها الأدب، وما على الكُتّاب إلاّ الهجرة والعيش في مجتمعات أرحم. نرى، مثلاً، أنّ عدداً لا يُحصى من الكُتّاب العرب والعالم الثالث كأمريكا اللاتينية، يعيشون في الغرب لأنّه يُوفر لهم حرّيّة الإبداع. ولكن ليس معنى ذلك أنّهم لا يخضعون، بدورهم، إلى توجيهات أيديولوجية، تُمارسها عليهم وسائل الإعلام، ويفرضها الناشرون. ما نقوله أنّ الكاتب العربي، في الغرب، أحسن حالاً في مسألة الحرّيّة من قرينه داخل المجتمعات العربيّة، دون أن نحتسب المشاكل الاِجتماعية والاِقتصادية والنفسية المعيقة للإبداع.

كافكا والسّنواتُ الحاسمة

قضى «راينر ستاش – Reiner Stach» ستَّ سنواتٍ من عُمْره لإنْجاز سيرة عن «فرانتس كافكا» (1883 – 1924)، وتأتّى له هذا بفضل الدَّعْم الماليّ لمطابع «فيشْر»، وكانت النّتيجةُ إصْدارَ كتابٍ هو الجزء الأوَّل من سيرة ستتألّف، فيما بعد، من ثلاثة أجزاء. عنوان هذا الجزء الثّاني الذي يتناوله هذا الحوار هو (السّنواتُ الحاسمة)، وقد صدر عام (2002)، ويتألّف من أكثر من (600) صفحة، تتناول سنوات ما بيْن( 1910) و(1915)، وهي السّنوات الخصبةُ التي كتب فيها الكاتب التشيكي رواياته: («القرار»، و«التّحوّل»، و«المفقود»، و«المُحاكمة»). أمّا الجزء الأوّل فعنوانه (سنواتُ الاِعتراف)، وصدر عام (2008)، ويرتبط بالسنوات: من (1883) إلى (1910)، وأمّا الجزء الثالث الذي ظهر عام (2014) فعنوانُه (سنواتُ الشَّباب)، ويتعلّق بالأعوام: من (1916) إلى (1924).

لم يُثِرْ كاتبٌ حديثٌ ما أثاره «فرانتس كافكا» من تعدُّد القراءات، واختلاف التّآويل. وكان كلّ تأويل أو قراءة يُسقط على الكاتب همومَه ومشاغلَه، ويرى فيه أفكاره الخاصّة به : فالسّورياليون قرؤوا «كافكا» من خلال الحُلْم واللاّشُعور والدُّعابة السّوداء، وفسَّر أصحابُ الفكر الدّينيّ كتاباته مُترسِّمين خُطى «ماكس برود – Max Brod»، فعدُّوها رُموزاً وأُمثولات (أليغوريا) وحِكَماً. أمّا أتباع المذهب الوجوديّ فوصلوه بالفيلسوف «كيركجارد»، وبنظريّات العبث، وحسبوه ذلك الشّخصَ الذي هجره الرّبُّ وتخلّى عنه، فأضحى وحيداً ومحْروماً من كلّ مدَدٍ أو عوْنٍ إنسانيٍّ. وسيُركّزُ مُشايِعو التّحليل النّفسيّ من «مارت روبير» إلى« دولوز» و«كاتاري» على مشكلته الأوديبية (عُقدة أوديب)، ورأى فيه آخرون ذلك الكاشفَ الألْمَعِيَّ عن فظائع القرن…أو ذلك الشخص المُصاب بنزعة مَرَضية في بُلوغ الكَمال.

إنّ الأبحاث البيوغرافيةَ الجديدة التي اعتمدت مصادرَ لم تكُن مُتاحةً من قبل، كالوثائق، والرّسائل، والمخطوطات…تَعُدُّ هذه القراءات مُتجاوزةً، وهذه التّآويل مُغْرِضَةً. ولا تُظهر «كافكا» بوصفه كاتباً ساخِراً، أو مُتديّناً، أو غامِضاً، بل بصفته كاتباً حيّاً، وديناميّاً، وعاشِقاً، ومُتمرّداً، ومُقاوِماً.

منذ وقت طويل يا «راينر سْتاش» وأنتم تُنذرون نفسكم لـ«كافكا».فمنذ (1987) كنتم قد نشرتم مقالاً يعْرِضُ نظْرتَه إلى الحُبّ وإلى العلاقات العاطفية. وبعد بقليل، اشتغلتُم على الأوراق التي تركتْها «فليس باور» بعد موتها في الولايات المتَّحدة، وهي واحدة من خطيباته، َتراسَل معها من (1912) حتى (1917). لقد قمتم بتنظيم معْرِضٍ في «نيويورك» انطلاقاً من هذه الأوراق، فماذا جَنَيْتُم منها لمعرفة شخصية «كافكا» ذاتِها؟

– لقد اكتشفتُ، بالفعل، في منزل ابن «فليس باور» في ضواحي «نيويورك»، الأوراقَ التي احتفظتْ بها بعد ما باعتْ رسائل «كافكا». ويُوجد بحوزته جزءٌ كبيرٌ من خزانة أُمّه. ولقد أُقيم هذا المعرضُ عام (1999). لمّا همَّتْ بمُغادرة ألمانيا، استطاعتْ أنْ تحْفظَ هذه الأوراقَ مع أمتعتها. و-بالطّبع- إنّ معظمَ هذه الأوراق يتعلّق بعائلتها. ولطالَما أطْلَعني ابنُها على الأحداث المؤلمة التي عاشتْها. ويكادُ «كافكا» لا يعرف شيئاً عن هذه الأحداث ما عدا بعضَ التّفاصيل. في حين أنّ هذا كلّه كان يحدثُ في فترة خُطوبته على «فليس». وعندما يحيط المرءُ عِلْماً بها فإنّه يقتنع أنّ ثمّةَ سوءَ فهمٍ كبيراً قد حصل في المراسلة التي جرت بين «كافكا» و«فليس».لقد ساءت أحوالُ «فليس» خلال فترة مُعيّنة، وخارتْ قُواها. وكان «كافكا» قد اقتنع بأنّه يتحمّل الخطأ في ما حدث، وفي الواقع، لم يكُن بمقدوره فعلُ شيءٍ ما. كانت إحدى أخوات «فليس» قد وضعتْ موْلوداً لقيطاً، وكان هذا الفعلُ مَجْلَبَةً للعار بالنّسبة إلى عائلة يهودية، فرأت العائلةُ أنّ من واجبها التّنكُّرُ لها. وكان أخوها، من ناحية أُخرى، قد حوَّل مبلَغاً من المال، مزَوِّداً حِسابَ مُشَغِّلِه، فكان عليه أن يهربَ حتّى لا يُودَعَ السِّجنَ، فهاجر إلى الولايات المتّحدة. و«فليس»، هي التي تحمَّلتْ، من الناحية المادِّيّة، هذين المُصابَيْن، إذ كان لا بُدّ لها أن تخْسِر مالَها الذي ادَّخرتْه، والذي كان، بمعنى ما، يمثِّل مهْرها، ورفضتْ أنْ تُخبر «كافكا» بهذا الأمر…وما كان فعلُها هذا ليُشكّل قاعدةً متينةً لإقامة روابط ثقةٍ، وههُنا تكمُن المُفارقةُ؛ عندما كانت «فليس» تطلُب من «كافكا» أن يتحلّى بالواقعيّة، ويتقبّل الواقعَ في نهاية المطاف، كانت تَكْتُمُ عنه هواجسَها الشّخصية. ولقد جرت العادةُ أنْ تُقرَأ مراسلتهما من منظور «كافكا»، إذْ إنّنا لا نتوفّر على رسائل «فليس». في الواقع، لا يُحسّ المرءُ في هذه المراسات إلاّ بمأساة «كافكا». لقد قرأتُها من زاوية أُخرى، آخذاً بعيْن الاِعتبار هذه الأحداثَ المُهمّة.

راينر ستاش – Reiner Stach

حين عثرتم على هذه الأوراق التي تركتْها «فليس باوْر»، كنتم قد بدأتم، من قبل، كتابةَ سيرةٍ عن «كافْكا»، وتوقّعْتُم إصْدارهاَ في ثلاثة أجزاء. وأصدرتم، أوّلاً، الجزءَ الثاني المتعلّق بالسنوات: من (1910) إلى (1915)، أيْ الفترة التي بلغ فيها «كافكا» سنّ الرُّشد…لأيّ سبب؟ لكن، لنسألْ، في البداية، عن سبب إصْدار سيرةٍ جديدةٍ عن «كافكا»؟

– لسببٍ بسيطٍ هو أننا نعْدَمُ، حتّى الآن، وجودَ قصّةٍ كاملةٍ عن حياة «كافكا»…لقد كتب النّاشرُ الرّائدُ كلاوْس فاكنْباخ عملاً جيّداً عن طفولة وشباب «كافكا»، لكنّها سيرةٌ تعود إلى العام (1958). ولقد كان له فضْلُ الاِعتماد على شهادات الأشخاص الذين رحلوا منذ أمد، ولم تصدُر أيّةُ دراسة من هذا القبيل باللّغة الألمانية، منذ (1958) إلى أيّامنا هذه. لقد وُجِدَتْ بعضُ السِّيَر باللّغة الإنجليزية، بَيْدَ أنّها ضعيفةٌ في رأيي، لأنّ المصادر في ذلك الوقت لم تكن مُتاحَةً، فكان أن يكتبَ المرْءُ عن كُتُبِ «كافكا»، أيسر مِنْ أن يشْرع في إنجاز بحوث بيوغرافية عنه. غير أنّ الوضْعَ تحسَّن في السّنوات الأخيرة، ليس بفضل المخطوطات التي أُتيح الاِطّلاعُ عليها، فحسب، ولقد اطّلعتُ عليها. واستطعتُ تقييمَ كتابات «كافكا» تقييماً دقيقاً في انبثاقاتها الأولى، وقوّة أفكاره الأولى، ثمّ قرأتُ، من خلال تصويباته، رغباته التي لم تتحقَّق، وتحوُّلات صوته. إنّ التّعامُل مع المخطوطات، واللُّجوءَ إليها، يُعَدُّ ضروريّاً بالنّسبة إلى كاتب السِّيرة. ومن ناحية أخرى، يعود الفضلُ لبعض الباحثين في كوننا نتوفّر على بعض الأُسُس التي يمكن الاِعتمادُ عليها للعَمَل في ظروف جيّدة. لقد اشتغل «أرتموت بندر» كثيراً على حياة «كافكا»، ويُعَدّ واحداً من العارفين به. إنّي أستفيد من هذه المُنجزات، وهو ما لم يُتَحْ لكُتّاب السّيرة في السنوات: من (1960) إلى (1970). وإنّي لمحظوظٌ، كذلك، لأنّنا أصبحنا نتوفّر، اليوم، على طبعة نقدية لآثار «كافكا» الأدبية، والتي كان البروفسور البريطاني «مالكوم. س. باسلي» أوّل من باشر العملَ عليها عند النّاشر «فيشر».

بدأتم، إذاً، هذه السّيرة عن «كافكا» بالجزء الثّاني، إنّكم تتناولون ما تُسمّونه (السّنوات الحاسِمة). لماذا لم تبدؤؤا بطفولة «كافكا» وشبابه؟

– ثمّة سببٌ جوهريٌّ لهذا الأمر؛ وهو أنّ أحد المصادر الأكثر أهمّيةً لرسْم سنوات شبابه، بدقّة، لا يزالُ بلوغُه مُتعذّراً، ويتعلّق هذا المصدرُ بالأوراق التي تركها «ماكس برود»، صديق «كافكا». وهذه المصادر أصبحت مِلكيةً خاصّة لوَرَثة «ماكس برود»، وليستْ مُوَثَّقَةً، ولا يُمكنُ مُراجعتُها حاليّاً. إنّها كَمٌّ هائلٌ جدّاً من الأوراق. لقد تراسل «ماكس برود» تراسُلاً مُنتظماً مع عدد كبير من المُثقّفين والكُتّاب، لامع «كافكا» فقط. وتُمثِّلُ هذه المُراسلةُ زُهاء خمْسة عشَر ألف رسالةٍ حتّى عشرين ألف رسالةٍ. وعلاوة على هذا، ترك «ماكس برود» مُذكّراته الشخصية، وتتضمّن تلك التي تعود إلى الفترة التي التقى فيها «كافكا»، وفيها، أيضاً، يوميّات تعْرِضُ لإقامة «كافكا» في المصَحَّة التي مات فيها. ومن المُحتمل أن تشْمَل ملاحظات «كافكا» نفسه، ولا يبْدو أنّ «كافكا» تَرَك وثائق تهُمُّ طفولتَه وشبابَه، فقد أتْلَفَ مُذكّراته المُتعلّقة بهذه السّنوات؛ ولهذا سيكون من العبث أن يشرع المرءُ في إنْجاز سيرته دون أن يتمّ التَّعرُّفُ إلى مخزون «ماكس برود».سأقوم، الآن، بعمليّة الجمع والتّحصيل لمدّة أربع سنوات بلا شكّ، للسنوات: من (1883) إلى (1914). وآملُ، في ضوء هذا الجزء الثاني الذي أصدرتُه للتّوّ، أن يمنحني ورثةُ «ماكس برود» المُوافقة على الاِطّلاع على أرشيفهم، بعد أن اقتنعوا بقيام أبحاثي على أساسٍ مكينٍ، لأنّي أُراهِن كثيراً على هذا الاِطّلاع.

مادُمتم قد ذكرتم «ماكس برود»، ماذا يُمكن للمرْء أن يقول، اليوم، بطريقة موضوعية ومُحايدة، عن الدّور الذي قام به في نشْر أعْمال «كافكا»؛ هذا الدّور الذي انتُقِد بشدّة، وبخاصّة من لدُن «ميلان كونديرا» في كتابه «الوصايا المغْدورة»؟.

– ينبغي، في اعتقادي، أن يكون الموقفُ من «ماكس برود» موضوعياً، لا موقفاً سِجالياً قبْليّاً. لقد أنقذ مخطوطات «كافكا» على غير إرادته، بحيث إنّ «كافكا» كان قد أوْصى بحرْقِها، فلوْلا صنيعُه هذا لما كُنّا سنتوفّر، اليوم، على رواية «المُحاكمة» لا على صفحات عديدة من «المُذكّرات».

ولقد بذل جهْداً، فيما بعد، في منْع إتْلاف النّازيّين لهذه المخطوطات. ولقد كان، من جهة أخرى، مهْموماً للغاية بنشْر أعمال «كافكا» حتّى وهو على قيْد الحياة، وبالعُثور له على مجلاّت ودور نشْرٍ. ولقد جابه بعد موت «كافكا» بعضَ الصُّعوبات أمام رواياته: (المفقود – أمريكا- المُحاكمة- القصْر)، لأنّها، في الواقع، غيرُ مُكتملة. فمن أين للمرء، في مثل هذه الشّروط، أن ينشُر أعمالَ كاتبٍ، لا يكاد يكون معروفاً، وزِدْ على ذلك أنّه لم يكن قد ترك سوى بعضِ الشَّذرات؟ فلهذا السّبب أخفى، في البداية، الطّابعَ الشَّذْرِيَّ لرواية «المُحاكمة». وعندما طبعها، للمرّة الأولى، لم يذكُرْ أنّ بعض الفصول كانت ناقصةً، وكان يستحيلُ إدْراكُ هذه الثّغرات، ويُمكنُنا، اليوم، أن ننتقد، بالطّبع، هذه الطّريقة التي كانت تبدو حكيمةً في ذلك الوقت، وكان الهدف منها، في المقام الأوّل، هو التّعريفَ بآثار «كافكا». فمَنْ كان سيقرؤها لو أنّه كان قدّمها بوصفها سلسلةً من الشَّذرات؟…ولقد صرّح «ماكس برود» نفسُه،عام (1930)، بعد أن فات الأوان، بأنّ ما قام به ليس طبعة نهائيّةً، بل ينبغي التّفكيرُ، فيما بعد، في طبعة نقدية. إنّه كان يُقِرُّ بهذا الأمر.

وأرى أنّ «ماكس برود» كان مُحِقّاً من خلال هذه المظاهر جميعِها. إنّ الشيء الذي يُلامُ عليه ويجدُر بنا أن ننتقده هو عندما تدخَّلَ مباشرةً في المخطوطات، بغاية طبْع الرّسائل والمذكّرات. لقد رأى ألّا تُذْكَر بعضُ الأسماء التي ذكرها «كافكا»؛ لكون أصحابها ما يزالون على قيْد الحياة، وقد يُسيءُ هذا الذِّكْرُ إليهم، ولم يكتفِ بهذه الرّقابة، بل حذف جميعَ المقاطع التي تحدّثتْ عنه حديثاً سَلْبياً.

ثمّ هناك التأويلُ الذي أعطاه لأعمال «كافكا» الأدبية، لقد سعى منذ الثلاثينيات إلى توجيه تلقّي النّقد الأدبيّ لهذه الآثار الأدبية. لقد قال، وأعاد القول إن «كافكا» كان كاتباً ذا منابعَ دينيّةٍ، على نحو خاصّ، بل قدَّمَه كما لو كان قدّيساً في حياته الخاصّة. وعندي، يجب القطْعُ، بصفة نهائية، مع هذه الصّورة، لأنّها خاطئةٌ تمام الخطأ، لقد قام «ماكس برود» بتأويل «كافكا» تأويلاً فاسداً خلال زمن طويل، فـ«كافكا» لم يكُن كاتباً مُتديّناً، إنّما كان كاتباً حديثاً يتوسّل طرائقَ أدبيّةً حديثةً، وقد اهتمَّ، كذلك، بالطبع، بقضايا دينيّة، إلاّ أنّه لم يكُنْ « مُتديّناً» بالمعنى الذي يمنحُه «ماكس برود» لهذه الكلمة، عندما يُحيلُ على اليهودية والصُّهيونية.

ألم يكن «ماكس برود» يُقحم نفسَه في المجال الأدبيّ لـ«كافكا»، إقحاماً مُفرطاً؟، فهو الذي كشف عن «كافكا»، بل قرَّظه في أثناء حياته. فهل كان لـ«كافكا» ردودُ أفْعالٍ إزاء هذا التّعظيم؟

– لم يكن هذا التّقريظُ يروق لـ«كافكا»، وكانت السُّخرية، غالباً، هي سلاحَه لمجابهته. وكان سيُجازف بصداقته مع «ماكس برود»، لو كان ردُّه عنيفاً. وبالنّظر إلى قلّة عدد أصدقائه، كان يشعُر بأنّ احتمال حُدوث قطيعة سيشكّل خطراً عليه. وكان الأشخاصُ الذين يستأهلون، حقّاً، أن يبوح لهم بمكنون نفسه، نادرين. كان مقتنعاً بأنّ «ماكس برود» يُبالغ، ولم يكن يحمل تصرُّفَه على محمل الجدّ. ومن ناحية أخرى، لم يكن هو وحده الذي تصرّف معه «ماكس» بهذا التصرّف، بل كان يبعث برسائل إلى مجلاّت ينْعتُ فيها معارفه بـ«العباقرة»، سواء أ كانوا كُتّاباً من التشيك أم كانوا من الألمان. وكان يُلحُّ على أن يُنشَر فيها نتاجُهُم، وكان هذا الأمر يُثير ضحكَ «كافكا». لكن حين يبْدو له أنّه تعدّى الحُدود فإنّه كان يُبدي عدمَ رضاه. كتب في رسالة إلى «فليس باور»، إنّه لا يسَعُه إلاّ أن يحتجب عن الأنظار بعد مدائح «ماكس برود» له، ويُضيف «إن أسوأ ما في الأمر هو أنْ يتحدّث «ماكس برود» عن آثاري الأدبية، أقلّ ممّا يتحدّث عن شخصيَّتي»، ونلحظ من نبْرة الرّسالة أنّه كان مُنزعجاً.

 

لنَعُدْ إلى سيرتكم عن «كافكا» : لا شكّ في أنّ النّهج الذي سرتُم عليه سيبلُغ ما يُناهز (2000) صفحة. لماذا هذا العمل الضخم؟

– العلّةُ في المنهج الذي ارتضيتُه؛ فعلى سبيل المثال، غالباً ما كان قُرّاءُ رسائل «كافكا» إلى «فليس باور» ينقادون إلى استنتاجٍ حاصلُه أنّهم إزاء شخص عُصابيّ. وفي الواقع، لماذا يُنَمِّي «كافكا» علاقةً ظلّت ترسُّلِيةً، في الأساس؟ وبما أنّ «فليس» كانت تقطُن في «برلين»، وهو يقيم في «براغ»، فلماذا لم يكن يُخابرها في الهاتف؟؛ إذْ كان بمقدور الصّوت أن يُقيم بينهما اتّصالاً أكثر مادِّيةً. والحال أنّ «كافكا» إذا كان يتجنّب المُهاتفةَ، فإنّ هذا الأمر لم يكن راجعاً إلى تصرُّف عُصابيٍّ، وإنّما ينبغي أن نعرف ما كان يعنيه التّحدُّثُ بواسطة الهاتف في «براغ»، عام (1912)، حيث يقتضي هذا الأمرُ الذّهابَ إلى محطّة البريد المركزية، ثم الإخبار بالقُدوم، ثمّ المُكوث في قاعة الاِنتظار لمدّة ثلاثين، أو أربعين دقيقة، وبعد ذلك يُمْنَحُ المرءُ مَخْدَعاً لا يتعدّى وقتُ المُكالمة فيه ثلاثَ دقائق، على الأكثر. إنّنا حين نكون على دراية بهذه الأمور فإنّ «كافكا» يبدو لنا واضحاً كلّ الوضوح، ونُدْرِك أنّه كان يُؤْثِر كتابةَ رسائلَ، بشكل هادئ، إلى «فليس»… وهاك مثالاً آخر على الشُّهور الأخيرة من حياته : إنّ سيرةً عاديّة ستتقيّد بالوقائع؛ إذ ستكشف عن أعْراض مرضه، وتشخيصات الأطبّاء له، والأدوية الموصوفة. والحال أنّ الوثائق ذات الصّلة بهذه الأحداث معروفةٌ منذ عشرين عاماً، وقِسْ على ذلك إقامات «كافكا» السّابقة في المصحّ. لكن، عندما نواجه الوقائع، ونُواجهها وحدها، فهل نحن، مع ذلك، في مستوى الموقف؟

لكي نفهم ما جرى، لا بُدّ أن نعرف ما كانت عليه كفاءةُ الأطبّاء، وما إذا كان أسلوبُ العلاج المُتَّبع هو الأفضل، وإذا ما كان «كافكا» واعياً بخطورة مرضه أم لم يكن واعياً؛ وهو ما يستوجب، فضلاً عن هذا، البحثَ عن الكيفيّة التي كان السُّلُّ يُعالَجُ بها في ذلك الوقت، وعن الدّور الذي يُمكن للمال أن يلعبه في طريقة العِلاج. هل كان بإمكان «كافكا» أن يظلّ على قيْد الحياة؟ وهل استشْعر المسؤولية في أن يكون المرض قدَرَه، ومن نصيبه؟

وللإحاطة بجميع هذه القضايا، يتطلّب الأمر من كاتب السّيرة، أن يكون لديه الوقتُ والمكانُ. إنّ هدفي هو أنْ أُتيحَ للقُرّاء معرفةَ الخيارات التي كانت مُتاحةً لـ«كافكا». ومن هنا يُمكن أن ينبعث تعاطُفُهم مع وضعه، ومع حالته الذهنية. ولولا هذا لاسْتحال فهْمُ ما إذا كانت رُدودُ أفعالِه طبيعيّةً أم غير طبيعية، وإذا ما كانت عاديّة أم غير عاديّة.

لكنّكم تُشيرون، في هذا الجزء الثّاني من سيرتكم عن «كافكا» إلى أنّه يُشَيِّد صورةً مثاليةً عن «فليس» من خلال الكتابة وبواسطة الرّسائل، مُفَضِّلاً تجنُّبَ الواقع…

– نعم. إنّه يميلُ إلى إخراج نفسه من الواقع، وإلى تكوين صُوَرٍ مثاليةٍ، أو يُظْهِرُها بمظهر مِثاليٍّ. وهذه الظّاهرةُ أنموذجيةٌ عنده. لكن، لا يُمكن أن نتّخذ من امتناعه عن المُهاتفة دليلاً على إثْبات عُصابه. فهذه حُجّةٌ لا يُمكن قَبولُها. إنّ ما أبتغي قولَه هو ضرورة معرفة الواقع الموضوعيّ للفترة التاريخيّة، وهي فترةٌ أساسيةٌ عنْدي، قبل النّظر في الحياة النفسية لـ«كافكا». وهاكم مثلاً آخر: لطالما قيل، وأُعيد القولُ في شأن موضوع الحرب العالمية الأولى، إنّ «كافكا» كان قد تبنّى سُلوكاً مُدَمِّراً. في آخر المطاف، كان كلُّ شيء على ما يُرام، بالنسبة إليه، أليس كذلك، مادام لم يتجنّد؟. يكمن المشكلُ في أنّ الواقعَ الموضوعيَّ كان مختلفاً تماماً. لقد عانى «كافكا» كثيراً في أثناء الحرب، بحيث زادتْ أوْقاتُ عملِه في المكتب؛ بسبب قلّة العاملين، فكان عليه أن يعمَل مرّتَيْن، وكان مُنْهَكاً كلّ الاِنْهاك، وفوق ذلك، انقطعتْ صِلاتُه بأصدقائه الذين ذهبوا جميعهم، تقريباً، إلى جبهة القتال، وكان أزواج أخواته قد جُنِّدوا أيضاً. وكان من نتائج هذه الوضعية أنْ عاش في عُزلة رهيبةٍ.

في موضوع هذا العُصاب المزْعومِ، لطالَما ذُكِرَتْ صورةُ الأبِ لتفسير صُعوبات «كافكا» النّفسية…فغالباً ما أشار إلى أنّ أباه يسْتبِدُّ به، وكان من عادته أن يُذِلَّه، ويبْدو أنّ الأبَ ما كان يحتمل علاقةَ ابنه مع سَواد الشّعب، وبوجه خاصٍّ مع اليهود الفُقراء المُنحدرين من أوربا الشّرقية، ومع عالَمهم الذي لم يكُن عالَمَه، ولا عالَمَ يهود «براغ»؛ أي لغة اليديش، ومسرح اليديش…ما رأيكم في هذا؟

– سأُخصِّصُ، في الجزء الأوّل من هذه السّيرة، عدَّةَ فُصول عن عائلة «كافكا»، وعن أُصوله، ونمط عيشه، وسيكون فيه، أيضاً، فصْلٌ أساسٌ عن «ماكس برود»؛ لشرح الدّور الذي قام به إزاء صعوبات «كافكا» النّفسية، على نحو خاصّ. لقد كان أبو «كافكا» وجْهاً حاضِراً، بقُوّة، وجْهاً بطريركيّاً (أَبَوْيّاً)، يتحدّث بصوت قويٍّ وسُلْطَويٍّ، غير أنّ مِزاجَه لم يكُن عنيفاً. ولم يكن يهودياً مُؤمناً، بل كان راضياً عن كونه مُتحرّراً من نزعة دينيّة انْغمر فيها أيّام شبابه في أقصى جنوب بوهيمياً، ولم يكن يختلفُ إلى الكنيس إلاّ أيّام العيد، ورفض الصِّلةَ باليهود الأرثودوكس، لأنّ ديانتَهم كانت تُذَكِّرُه بالذّكْرى التي احتفظ بها عن اليهود البُؤساء، كما كان يعْتزُّ بمُروقه عنها، وبما شهِدَه من رُقِيٍّ اجتْماعيٍّ. وكان يسوْءُه أنْ يكون لابنه أصدقاءُ كهذا المُمثّل الكوميدي حافي القدميْن الذي كان يُدْعَى «جيشْتْشاك لوي».

فرانتس كافكا مع خطيبته فليس

وماذا عن علاقة «كافكا»، بالمرأة، والتي كانت موضوعَ الكثير من التّكهُّنات؟

– هنا ينبغي العوْدةُ، أيضاً، إلى تلك الفترة، واستحْضار الطّريقة التي كانت عليها العلاقاتُ بين الرّجال والنّساء عام (1914)، في المجتمع البورجوازيّ للنّمسا المجرية، بحيث كانت تُصَنَّفُ النّساءُ إلى ثلاثة أصْناف : الأُمّ، الزّوجة، المومِس، وهي أصْنافٌ كانت تُجسّد الأنماطَ السّائدةَ التي كانت تفرض نفسَها.

كانت الأُمُّ تُقْصي الإيروسية؛ فإمّا الأُمُّ، وإمّا الإيروسية، أمّا الإثْنان فلا يجتمعان. لم يكن «كافكا» يرغب في امرأة تقوم بدور الأُمّ. كانت له، أُمٌّ بالفعل، في المنزل، وكان يعتبر أنّ هذه الأُمّ كانت تُحبّه، بالتّأكيد، لكنّها لم تكن تفهمه، فالأُمّ لا يُمكنُها أن تكون مثالَه عن المرأة. أمّا مع الزّوجة، فإنّ «كافكا» لم يكُن قادِراً على إقامة روابط دائمة معها؛ لأنّه كان يتوجَّسُ من انْعدام وجود الأواصر العميقة. نهضت «فليس باور» بدور الزّوجة، وهو ما شكّل خيبة أمَلٍ عنده. وفي الختام، كان يَهابُ النّساءَ اللّواتي يُبْدين الأناقةَ، إذ كان ثمّة خَواءٌ يثْوي خلف هذه الأناقة، وثمّة لعُبةٌ كانت تُقلقُه. فما نوع المرأة الذي كان «كافكا» يأْملُ في العُثور عليها، في ظلّ هذه الشّروط؟ كان يرغب في المرأة المُتحرّرة، وهذا النّمطُ من النّساء موْجودٌ، غير أنّه نادِرٌ. لقد عثر، مُؤخّراً، على إحداهنّ، تُدْعى «ميلينا»، وكان شديدَ الإعجاب بها، ولم تكن النّساءُ اللّائي كان يتخيّل العيشَ برفقتهنّ، في إطار علاقة شريك بشريكة، موجودات بكثرة، ولا يرجع هذا إلى كونه عُصابياً، بل لأنّه لم يكن يُطيق التمثيلات النّسائية التي كانت سائدة في تلك الفترة، بحيث كان يُثْني على النّساء اللّواتي لا يخْضعْن لهذه التّمثيلات، واللاّئي كُنّ يُجسِّدْن ذواتَهُنّ بأصالة، وبصورة حقيقيّة. وقد حالفه الحظُّ، في آخر عُمره، عندما التقى بالشّابّة «دورا دْيامان»…

إنّ المرء، إذْ يُحاط عْلماً بكلّ هذه الأُمور، لن يُجازْف بالحديث عن قلق «كافكا»، هذا القلق الذي كان، بالتّأكيد، باتولوجيّاً (مَرَضِيّاً) في جُزء منه. ومِمّا لا جِدال فيه أنّه كان يشعُرُ بخَشْية إزاء السّلوك الجنسيّ. كان يَهابُ ممارسة هذا السُّلوك بوصفه واجِباً، لا بوصفه ناجِماً عن رغبة إيروسية حقيقيةٍ. ولم يتردّدْ في إطْلاع «فليس باوْر» على خوفه من أن لا يرغب فيها بما فيه الكفاية، بيْد أنّه لم يكن، إطلاقاً، مُصاباً بالعَجْز الجِنْسِيِّ. إنّ خجَلَه هو الذي كان يجعل من تصرُّفُه مع النّساء تصرُّفاً إشْكاليّاً.

في الجزء الثّاني من السّيرة، تذكُرون «كْريت بْلُوخ»، وهي صديقة «فليس باوْر»، وتُبيّنون -بشكل خاصّ- أنّ العلاقة العاطفيّة التي أقامها «كافكا» معها، مثلما زَعَم البعضُ، ليست إلاّ وهْماً، فلو كانت «كْريت بْلوخ» قد وَضَعَتْ طفْلاً، بالفعل، عام (1914) أو (1915)، كما كان «كافكا» أباه. إنّ فرضية هذه الأُبُوّة التي أكَّدَها «ماكس برود» بنفسه، في النّهاية، كانت تسْتَنِد إلى قراءة سيّئة لإحْدى الرّسائل…

– أضحى بمقدورنا، اليوم، أنْ نرى على (الميكروفيلم) مخطوطات الرّسائل التي كان «كافكا» يبعثها إلى «كُريت بْلوخ». ففي الوقت الذي كان يكتب فيه رسائلَ إلى «فليس باوْر»، كان يكتب فيه رسائلَ إلى «كْريت بْلوخ». لقد ساهم هذا التّبادلُ للرّسائل في صَرْمِ حبْل العلاقة بين «كافكا» و«فليس». في الواقع، كانت «كْريت بْلوخ» تكشِف لـ«فليس» عن الرّسائل التي تتلقّاها، وكان «كافكا» يُعبِّرُ، في البعض منها، عن تحفُّظاته من الزَّواج، ومن سوء حظّه أنّها لم تكُن تكْتفِي بانْتقاء الرّسائل التي كانت تُظْهِرُها لها، فقط، بل كانت تجْتزِئ منها، أحياناً، بعض المقاطع. وبناءً على هذه الاِقْتِطاعات، واسْتناداً، كذلك، إلى الجُمَل التي كانت تُسطّرُ عليها، يُمكنُنا أن نستنْتج منها التّأثير الذي كانت تترقَّبُه. لقد كانت دسَّاسَة. وفيما بعد، طلبت الصَّفْح من «كافكا» بسبب دورها في فسْخ الخُطوبة. لقد أدْرك «كافكا» أنّه لا يُمكن أن يثِق بها، ولهذا السّبب توقّف عن التّراسُل معها. ومن ناحية أُخرى، وكما علِمْتُ من ابْن «فليس باوْر»، إنّ التّراسُل بين المرأتَيْن، دام حتّى الثّلاثينيّات، إلى بداية هجرة «فليس باور» إلى الولايات المتَّحدة. أمّا «كريت بْلوخ» فقد هاجرت إلى إيطاليا، ثم هُجِّرَتْ، فيما بعد، إلى «أوشفيتز».وقد تكون قضتْ نحبَها هناك؛ بحسب بعض المعلومات الجديدة. وكان لها،بالفعل، طفلٌ توفِّي في سنّ السّابعة، عام (1921)، في ميونيخ. ومازلْنا نجهل مَنْ هو أبوه. ومن الثّابت، اليوم، أنّ «كافكا» لم يكن أباه. ينبُع سوءُ الفهم من رسالة بعثتْ بها «كريت بْلوخ» في «أبريل»، (1940)، إلى صديق لها هو المؤلِّف الموسيقيّ «فولفغانغ. أ. شُوكن»، تتحدّث فيها عن عشيقها السّابق الذي اضطُرّتْ إلى هجْرِه في أثناء الحرب العالمية الأولى، والذي رزح، فيما بعد، تحت وطأة المرض. لقد ظنّ «شوكن» أنّ الأمر كان يتعلّق بـ«كافكا»، وعندما كشف لـ«ماكس برود» عن الرّسالة، بعد مرور ثمانية أعوام، سيقتنع هذا الأخير بفحواها. لا تكشف «كريت بلوخ» عن أيّ اسْمٍ في هذه الرّسالة الشهيرة، وإنّما تُبيِّن أنّ والدَ ابْنها قد مات بعيداً عنها، (مات في بلده الأصليّ)، والحال أنّ «كافكا» مات بالقرب من فيينّا، وليس في بلده الأصليّ «تشيكوسلوفاكيا». وبالإضافة إلى هذا، توجد بطاقةٌ بعث بها «كافكا» إلى «فليس»، في نهاية أغسطس، (1916)، يقول فيها إنّه يتفهّم «معاناة» «كريت بلوخ»، ولا شكّ في أنّ ذلك إشارة إلى وضعها : فتاة أُمّ. ولو كان «كافكا» هو والدَ الطّفل، لكان قد أبان عن استخفاف ليس من ديْدَنِه.

تُلمّحون، دائماً، في كتابكم، إلى أنّ أعمالَ «كافكا» الأدبية هي، في جانب كبير منها، انعكاساتٌ لصراعاته النّفسية الذّاتية. في ظل هذه الشّروط، هل يُمكن أن تُؤثِّر هذه السّيرةُ الجديدةُ في طريقة قراءتها، أو إعادة قراءتها؟

– أنا كاتبُ سيرةٍ، وليس هدفي تأويلُ آثار «كافكا» الأدبية، إنّما أسعى، فقط، انطلاقاً من تحليل ذاتيَّته، إلى اسْتنْباط ما يُمكن أن يُسْتَشَفَّ من مقاصدِه. فعلى سبيل المثال، وفي شأن روايته «المفقود»، أنا أقتصر على جمْع العناصر التي تسمح بإنْشاء فرضيةٍ عن المعنى الذي يُمكنُ أنْ يمْنحه للمشْهد الختاميّ لهذه الرّواية. لنفترضْ أنّه أَتْلَفَ وصفَه لـ«مسرح أوكلاهوما»، وهو الفصل الأخير، فإنّ القُرّاء سيكونون عاجزين، بالفعل، عن أن يتخيّلوا، من تلقاء أنفسهم، مثل هذا الاِسنتاج! إنّها المرّةُ الأولى والوحيدة التي لم يُثبِّطْ فيها آمالَ بطلِه، ولكنّها المرّةُ الأولى التي حقّقها فيها…فما سبب ذلك؟

إنّ «ماكس برود» لا يُقدّم لنا الكثيرَ من الوُضوح، فقد زوَّر، في بادئ الأمر، عُنوان هذا الفصل، كما يُشير في العنوان الذي يمنحه، إلى أنّ الحدث يجري في مسرح «للطّبيعة»، بينما لا يُوجد شيءٌ من هذا القبيل في المخطوط. ومن ناحية أُخرى، إنّه يحمل القارئَ، في مُلحقه للطّبعة الأصلية للرّواية، عام (1927)، على الأخذ بتأويل مُعيَّن. لقد زعم، مُستفيداً من أسرار «كافكا»، أنّ رواية المفقود كان يتعيّن عليها أن تنتهي بتصالح عامّ للبطل مع الحياة المِهنية، ومع موطنه الأصليّ، ومع عائلته…

ومن المُؤَكَّد أنّ هذا الفصلَ لا يمُتُّ بصلة لِما تمّ وصفُه في الرواية، من قبلُ، بل يُعَدُّ نقيضاً له، إذ لا يتمّ فيه تداوُلُ أيّ مالٍ. فإمّا أنّ مسرحَ «أوكلاهوما» هذا هو حُلْمُ شخص يُحْتَضَر، وإمّا أنّ البطلَ، بعد تحطُّم آمالِه في مجتمع أمريكيّ، حيث الإنسان ذئبٌ يُضمر الشَّرَّ لأخيه الإنسان، يدخل الجنّة، جنّته «هو». لقد وضع «كافكا» كُلَّ شيءٍ هناك، لرسم الخُطوط العريضة لعالَم مُضّاد، بواسطة العلامات ذاتها للتَّصوُّر المسيحيّ لليوم الآخِر. إنّه يمزح، وينسُج خُرافاتٍ، ويُقيم ما يُشبه مُجتمعاً مثالياً…فبدلاً من المُصالحة العامّة، يقترح هذا الاِستنتاج مخرجاً ساخراً لكلّ ما انتهى بطله إلى التحرُّر منه؛ وهو لعنةُ والديه، والتّعذيب الذي يُمارسُه الرُّفقاءُ الذين التقى بهم، وقُوّة المال…إنّ أعمالاً أدبية أخرى أغْرَتْ كاتبَ السّيرة الذي سعيتُ إلى أن أكونه، نحو المُحاكمة، ومُستوطنة العِقاب. يكتبُ «كافكا» النّصيْن الرّوائييْن في الوقت نفسه، والحال أنّ العُنفَ في المُحاكمة يظلّ تجريديّاً ما عدا الصّفحات الأخيرة منه، بينما يسيلُ الدّم في مُستوطنة العِقاب التي يسودُها عُنْفٌ جسديٌّ هائلٌ؛ لهذا تساءلتُ عن سبب كتابةِ «كافكا»، في الوقت ذاته، لنصوص تختلف اختلافاً شديداً من ناحية الشّكل. يلاحظ المرءُ، عندما يقرأ مذكِّرات «كافكا»، أنّ صُورَ العُنْف والتّعذيب تُعذّبُه. إنّي أُخاطِر حينما أنْقادُ إلى تأويل لا يستند إلى الأعمال الأدبيّة بحصر المعنى، بل يتمركز داخل منظورِ المُؤلِّف، في النّاحية التي تُحفِّزُه على الكتابة. إنّي أجْلو الفكرةَ التي كان يرغبُ في اجتنابها في رواية المُحاكمة، وتتعلَّق بالدَّم، والمازوشية، والعُنف، واقتضت الرّوايةُ أن تظلّ تجريديةً، أمّا مُستوطنةُ العِقاب فتُوازيها.

هل بحثَ عن وصفات عند الكُتّاب، أم في الكُتب التي يقرؤُها؟

– لم يبحث عنها عند الكُتّاب المُعاصرين، بالتّأكيد. لقد قلَّ اهتمامُه بالحركة التّعبيرية، فإنّ كُتّابَه المُفضّلين كانوا من الكلاسيّين. تأثّر، في شبابه، بـ«نيتشه»، و«شوبنهاور»، ثمّ استرعى إعجابَه كثيراً «غوته»، و«دوستويفسْكي»؛ إذ كان مُعجَباً بالطّاقة التي كانت لديهم، إذ لم يكن يمضي يومٌ لا يكتبون فيه، وذلك بالرُّغم من الظّروف الصّعبة، وكان هو الآخر، بالمقابل، يعيش فترات يكاد لا يستطيع أن يخُطَّ فيها حرفاً واحداً على الورَق. وفي ردود أفعاله، يبدو أنّه كان مُتأثّراً بشخصية هؤلاء الكُتّاب أكثر من تأثُّره بوسائلهم الجمالية، وهذا الأمرُ ينطبق، كذلك، على قراءاته برُمّتها. لقد طالع العديدَ من كُتُب السّيرة، والسّيرة الذّاتية، ليست لكُتّاب، في المقام الأوّل، بل لرجالات السّياسة وأرباب الصّناعة. وما كان يَسْحَرُه هو كيف كان شخصٌ ما يعثُرُ على الطّاقة الضّرورية لكي يُجاهِد، طيلةَ حياته، في سبيل تحقيق الفكرة التي كانت تستحوذ عليه. على هذا النّحو، اهتمّ بـ«نابليون»؛ ليس لأسباب تاريخية أو سياسية، بل اهتمّ فقط بطريقته في التّخطيط لفعلٍ ما، من دون أن يزوغ عن مقاصده. لقد سعى، على الدّوام، إلى فهم منْبَع هذه القُوّة التي تدفع بالأشخاص إلى اتّخاذ قراراتٍ، وإلى المُخاطرة بحياتهم في سبيلها، وقد كان هذا، بالنسبة إليه، أمْراً يعجز عن القيام به. وهذا ما يُميّزه عن «ماكس برود» الذي كان يقتصر في قراءاته على الأدب، أمّا «كافكا»، فكان يهتمّ بالأشخاص مهما كان تنوُّعُهم. إنّ ما كان يبحث عنه هو فنّ العيْش، لا فنَّ الكتابة.

ومع ذلك، هو يمتلك تقنياتٍ أدبيةً، له فكرةٌ عمّا يُريده في الأدب، ويعرف كيف يُوَفَّقُ إليه…

– يقوم عمَلُ «كافكا»، إلى حدّ كبير، على تقنية عفوية، لا على تأمُّل واعٍ، بصفة تامّة، إذ لم يكن مُنظِّراً. كان غالباً ما يشرع في كتابة نصٍّ سرديّ وهو لا يدْري إلى أين يسير. كان ينطلق من فكرة، ولا يضع تصميماً للبناء. لم يكن يعرف في «رواية القصر» إلى أين ستنتهي الرّوايةُ. لكن من المُحقَّق أنّ ما كان يُعَوِّلُ عليه هو الرّغبة في بلوغ نتيجة، وليس عمَل الكتابة أو عملية إنجازها؛ وهذا ما تُبرهِن عليه الوثائق جميعُها، وكانت نيّتُه هي إكْمالَ الرّوايات التي بدأها. ينبغي التّخلُّصُ من الأسطورة القائلة (باسم تصوُّرٍ رومانسيٍّ زائفٍ)، إنّه كان سيُؤْثِرُ الفشلَ من النّاحية الجمالية، وهذا يقتضي، بالضّرورة، أن تكون الكتابةُ الشَّذْرِيةُ في الأدب هي النّتيجة لهذا التّصّوُّر، بل العكس هو الصّحيح : كان يبحث عن تأليف مُغْلَقٍ على نفسه، يمكن أن يتحقّق فيه الاِكتمالُ. لقد كان تصوُّرُه للعمل الأدبيّ تصوُّراً عن نُمُوٍّ عُضْوِيٍّ.

«كافكا» الذي أُعْجِب كثيراً بالشخصيات القويّة، بينما كان هو ضعيفاً، ألَمْ يُقرّرْ مُغادرة «بْراغ» في سبتمبر/ أيلول، (1923)، ليكون، أخيراً، في مستوى النّماذج التي يقْتَدي بها؟ لقد التحق، بالطّبع،بالرّفيقة الجديدة التي وجدها في «برلين». لكن، ألم يكُن كذلك واعِياً، بصفته كاتباً باللّغة الألمانية،بأنّه أضْحى مُبْعَداً من الجمهورية التشيكوسلوفاكية الجديدة المُنبثقة عن هزيمة النّمسا المجريّة عام (1918). تقريباً، كلُّ أصدقائه، في ذلك الوقت، غادروا «براغ»،أو غادروها منذ فترة،ما خلا «ماكس برود»…

– لقد كان موقفُ «ماكس برود» خاصّاً، إذ كانت له، في دولة «تشيكوسلوفاكيا»، الجديدة مُهٍمَّةٌ سياسيةٌ يقوم بها، بوصفه كان مُمثِّلاً للحركة الصهيونية، فلم يكن يعنيه، بتاتاً، أن يُغادر «براغ» في مرحلة العشرينيات. وكان الأمرُ مُختلِفاً بالنّسبة إلى «كافكا» الذي تعرَّف إلى فتاة يهودية من أوربا الشرقية، كانت تُقيم في «برلين»، وكان يودُّ العيشَ معها، إذ كانت المرأةَ الوحيدة التي لم يكن يشعُر بأيِّ قلقٍ وهو يعيش برفقتها، ولا ريْب في أنّ هذا هو ما حثَّه على الذّهاب. وثمّة سببٌ آخرُ، هو أنّ «براغ» تغيّرت كثيراً، فلم تعُد كما كانت قبل (1914)، وكانت الجمهورية التشيكوسلوفاكية عالَماً يختلف عن بيئة طفولته. كما كان المُناخُ السيّاسيُّ مُتوتِّراً بسبب العداء الذي يُكِنُّه التشيك للألْمان، بالإضافة إلى العداء المألوف للسّاميّة الذي يحمله التْشيك والألمان على السّواء، ولم تكن الظّروفُ سانحةً للكُتّاب الألمان، فالمجتمع تمّ تشْييكُه (إضفاء الطّابع التشيكي عليه)، وفُرِضَت اللُّغةُ التشيكيةُ. لقد غدت الحياةُ الثقافيةُ، الآن، بصُحُفها ومسارحها، في أيدي التشيك، ولم يخْلُ هذا الأمر من عُدوانية؛ جرّاء الاِضطهاد الطّويل الذي عانى منه التشيك من قِبَل الألمان، علاوةً على أنّ «براغ»، بسبب الحرب، أصبحت مدينة بائسة وقذرةً، تنْعدِم فيها وسائلُ التّدفئة. كانت «براغ» مدينة تشهد تدهوراً شاملاً، وكانت «برلينُ» مدينةً مُفضّلَةً يُسْعى فيها إلى بداية حياة جديدة. لم تكن عائلةُ «كافكا» تستطيعُ تركَ «براغ» التي كانت قد استقرّت فيها، وزاولت التّجارةَ بها، وامتلكت الشُّقَقَ، وكانت أسرتُه تملك فيها بنايةً للكِراء، ويتعذّرُ عليها أن تتخلّى عن كلّ هذا، بيْد أنّ الأمر الذي يبعث على المأساة هو وجود «كافكا»، في «برلين» في فترة اتّسمت بالبؤس، وبالتّضخُّم الماليّ، فعاش وضعاً مادّياً أزْرى به.

ألم تتغيّر، شيئاً فشيئاً، الصّورةُ التي كانت لكم عن «كافكا» في بداية أبحاثكم؟

– عندما بدأت، في الثمانينيات، كنت -بطبيعة الحال- مُتأثِّراً بالجانب الباتولوجي (المرضيّ) عند «كافكا»، وبأخطار «البارانويا» التي كان يشعُر أنّه يُواجِهُها، وكنت ألحظ، على نحْو خاصّ، عجْزَه عن الاِنْغماس في الواقع. وماكان يُدهشُني، بشكل أساسيّ، هو نِقاط ضعفه. وقد أيقنتُ، على المدى الطّويل، أنّه تمكّن من تحويلها إلى مصدر قُوّة. لم يكن في حاجة، قَطُّ، إلى طبيبٍ نفْسانيٍّ. لقد وُفِّق، على الدّوام، في العُثور على الوسيلة التي تضْمَن خلاصَه، انطلاقاً من ذاته، و-بمعنى آخر- لقد أَبانَ، دائماً، عن قُدرته، من الناحية النفسية، على اسْتمْداد عِلاجه الخاصّ من ذاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: ليونيل ريشار

المصدر:

مجلّة «الماغازين ليتيرير- Le magazine littéraire»، العدد (415).

المترجم التونسي عبد الجليل العربي: أصعب ما ترجمته

المترجم التونسي عبد الجليل العربي، من مواليد 29 مايو (1975)، مدينة سليانة، تونس. هو أستاذ اللّغة والأدب العربي المعاصر في جامعة «نوفا لشبونة». له العديد من الترجمات الروائية، من بينها: «هيّا نشترِ شاعراً»، للكاتب البرتغالي «أفونسو كروش» (2017)، و«بائع الماضي»، للكاتب الأنغولي «جوزي إدواردوا أغوالوزا»، (2016)، و«ميتتان لرجل واحد»، للكاتب البرازيلي «جورج أمادو» (2015)، و«ماراثون الخلود»، للكاتب «أندريه أوليفيرا»، (2015). وترجم، مؤخَّراً، رواية، «نصب الدير التذكاري» ، للكاتب البرتغالي «جوزيه ساراماغو» (2020).

بحكم انتمائك إلى تونس، كان من المتوقَّع أن تختار اللّغة الفرنسية لغةً للدراسة، لكنك توجَّهت إلى اللّغة البرتغالية. ما الدافع الذي قادك إلى تعلُّم اللّغة البرتغالية؟

– آفاق الدراسة في بلداننا العربيّة مقسَّمة، عموماً، بين توجُّهين؛ توجُّه فرنكفوني، وآخر أنجلوساكسوني، لكن هناك من الباحثين مَنْ سَلَك طريقاً آخر، واختار ثقافات أخرى مثل الألمانية أو الإسبانية أو اليابانية. أنا اخترت البرتغال؛ لرغبة شخصية في تحقيق بعض الإضافات ضمن مجال الدراسات الأدبيّة، والثّقافيّة المعاصرة حول هذا البلد العريق، الذي تربطنا به علاقات تاريخية معروفة.

قدَّم لك معهد «كامويش» منحة للدراسة في البرتغال، فاخترت الدراسات الإسلامية، مع ميولك الأدبيّة. ما الذي كان متاحاً لك لإبراز الإسلام المتنوِّر؟

– أشكر كثيراً معهد «كامويش» على تلك المنحة. كان توّجُّهي الأوَّل مشدوداً إلى حقل الدراسات الإسلامية الإيبيرية في البرتغال، ضمن منهج الأديان المقارنة، ويعود ذلك إلى رغبة مني في مواصلة تخصُّصي الجامعي الذي بدأته في تونس، في دراسات الماجستير في الحضارة العربيّة الإسلامية القديمة، وذلك بالانفتاح على الإرث الثّقافي العربي والإسلامي في البرتغال، لكن – للأسف- كانت الاهتمامات الجامعية القليلة في البرتغال، بهذه المسألة، مرتبطة بمادّة التاريخ أساساً، فاضطررت لتغيير ذلك الهدف نحو الدراسات الأدبيّة.

ما لبثت أن غيرت تخصُّصك، بعد ذلك، من الدارسات الإسلامية إلى الأدب. كيف وجدت نفسك داخل الأدب البرتغالي الذي أُنتج في البرتغال، وفي الدول الناطقة بالبرتغالية؟

– مررت بمرحلة اكتشاف تاريخ هذا الأدب، وأعلامه، ومدارسه، ثم تخصَّصت في الدراسات الأدبيّة المقارنة. أعتبر نفسي محظوظاً باطِّلاعي على هذا الأدب واشتغالي على بعض قضاياه في أكثر من بلد ناطق بالبرتغالية، إذ وقفت على بعض خصوصيّاته وجماليّاته الأدبيّة، وسأنشر هذه النتائج في كتاب، مستقبلاً.

وُفِّقت في ترجمة الأعمال الأدبيّة، فما هي خطتك التي اعتمدتها في ترجماتك الموفَّقة؟

– لا أدري إن كنت قد وُفِّقت أم لم أوَّفَّق؛ فهذا المنجز مازال في بداياته، ومسألة تقييمه تعود لغيري من المختصِّين. أمّا بخصوص الخطّة لإنجاز الترجمات الصادرة إلى حدّ الآن، فقد ارتبط أمرها، في البداية، بترجمة عمل روائي من كلّ قارّة (البرتغال، البرازيل، أنغولا)، لكن الرحلة آخذة في التشكُّل ضمن توجُّه مدروس يقوم على التنوُّع في الأجناس المختارة والتي قد تحقِّق ترجمتها إضافة إلى الثّقافة العربيّة. وآمل أن أساهم، مع زملائي المترجمين الآخرين، في إثراء المكتبة العربيّة، كمّاً ونوعاً، بهذا الأدب.

ترجماتك توافق تخصُّصك الأكاديمي، فهل التخصُّص يقيِّد عمل المترجم، أم من الممكن أن يجعله يتطلَّع إلى ترجمة أعمال أخرى خارج إطار تخصُّصه، كالفلسفة، والفنّ التشكيلي، والعلوم؟

– التخصُّص مهمّ في الترجمة، لكنه لا يقيِّد عمل المترجم كثيراً؛ فلكلّ عمل لغته الخاصّة ومفاهيمه وعوالمه، وما إن امتلك المترجم تلك الأدوات حتى أصبح من حقِّه أن ينفتح على مجالات أخرى.

ترجمت روايات كبرى، لأدباء كبار. لو توقَّفنا عند رواية «جوزي ساراماغو» «نصب الدير التذكاري» التي تحتلّ مكانة خاصّة في قلب مؤلِّفها، كيف عشت تجربة هذه الترجمة؟

– هذه الرواية هي من بين أبدع ما كتب «ساراماغو»، وهي التي وضعته بين كبار الروائيين في العالم، سواء من ناحية الأسلوب المتمرِّد على شكل الكتابة التقليدية أو من ناحية القضايا المطروحة. لم تكن ترجمتها للُّغات الأجنبية سهلة، وهي من أصعب الترجمات التي قمت بها، وأتمنّى أن تكون موفَّقة.

ترجمت، أيضاً، رواية إفريقية بعنوان «بائع الماضي» للكاتب الأنغولي «جوزي إدواردوا أغوالوزا». كيف وجدت نتاج هذا المبدع الإفريقي؟ وهل استطاعت هذه الرواية الإجابة عن الأسئلة الإفريقية المقلقة بخصوص بناء الهويّة الوطنية ما بعد الاستعمار؟

– الأدب الإفريقي المكتوب بالبرتغالية يزخر بطاقات إبداعية أدبيّة متنوِّعة، ومواكبة لتحوُّلات العصر الفكرية والإيديولوجية، وغيرها، وكتابات «أغوالوزا»، في أغلبها، هي تمرين إبداعي على مساءلة تلك التحوُّلات، ودورها في تشكيل هويّات المجتمعات أو البلدان الإفريقية في مرحلة ما بعد الكولونيالية. هذه المسألة ظهرت في رواية «بائع الماضي»، في رواية «نظرية عامّة للنسيان» للكاتب نفسه، أيضاً، أيضاً، ولحسن الحظ ظهرت في ترجمة عربيّة ممتازة، أنجزها المترجم سعيد بنعبد الواحد.

ماذا عن ترجمة الشعر؟ هل لديك مخطَّطات مستقبلية؟ هل تقبل، على سبيل المثال، عرضاً بترجمة ملحمة «اللوسياد» للشاعر البرتغالي «لويس دي كامويس ويش»؟

– أقبل، طبعاً. أحبّ ترجمة الشعر؛ فمعه بدأت تجربتي في الترجمة من خلال التدريب على ترجمة بعض القصائد المحبَّبة إليّ. وستصدر لي، خلال السنة القادمة، ترجمة لأحد دواوين «فرناندو بيسوا»، بالإضافة إلى ملحمة «كامويش» التي ذكرت.

انتشرت الترجمات الوسيطة، بشكل متسارع، في العالم العربي. فهل يمكن أن تكون حلّاً، ولو بشكل مؤقَّت، في ظلّ تراجع الترجمة الجادّة؟، وما أضرارها على الأدب؟

– الترجمة الوسيطة مهمّة ومطلوبة، إذا انعدم أو قلّ عدد المترجمين في اللّغات قليلة الانتشار. كانت الترجمات الروسية أو اليابانية أوالصينية، مثلاً، تأتينا عبر الفرنسية أو الانجليزية، ولم يُنقِص ذلك، بتاتاً، من قيمتها؛ فلولاها لما عرفنا شيئاً عن تلك الآداب. مادامت الترجمة جيِّدة فلا يهمّ، في تقديري، إن كانت من اللّغة الأصلية أو من لغة وسيطة، وليس لها أيّ ضرر على الأدب، وإنما لها فوائد.

عرف العرب الترجمة، في العصر العباسي، على شكل جماعات، وقد أعطت الترجمة ثمارها. هل الترجمة الجماعية أفضل من الترجمة الفردية، في نظرك؟

– الترجمة حاجة معرفية بشرية ضرورية لكلّ الحضارات واللّغات، على مرّ العصور. أما المفاضلة بين الترجمة الفردية والترجمة الجماعية، فغير مجدية؛ إذ في كلّ ترجمة إفادة. الترجمة الجماعية ترعاها مؤسّسات، وتهتمّ -عادة- بالموسوعات أو الأنطولوجيات التي تتطلَّب مجهوداً جماعياً، وهذا جيِّد، كما أن الترجمة الفردية (وهي الأكثر انتشاراً) ضرورية، وفضائلها كبيرة.

 يلاحظ، في السنوات الأخيرة، اقتصار الترجمة على الأدب، دون سواه من العلوم الأخرى.

– انتشار الترجمة الأدبيّة مهمّ في كلّ الأحوال، وكلَّما ازدادت الترجمة وتراكمت فإن نتيجتها، دائماً، إيجابية ومفيدة. وأمّا دورها فهو -أساساً- ليس الارتقاء بأيّة ثقافة، بل فتح إمكانات عديدة للتفاعل والتقارب والتعاون، وتبادل الأفكار والتجارب بين اللّغات والثّقافات، كما أنني لا أرى أنّ واقع الثّقافة العربيّة سيِّئ كما يتوهَّم البعض. الفنون والآداب واسعة الانتشار، وجمهورها واسع، وتقبُّلها سهل، عكس العلوم؛ ولهذا تنتشر الترجمات الأدبيّة أكثر في أغلب البلدان، وليس في العالم العربي وحده.

لو أتيح لك العودة إلى بلدك تونس، يوماً ما، فما هي المشاريع الثّقافيّة التي ستعمل عليها هناك؟

– ليست عندي فكرة واضحة لمشروع ما، في بلدي، مستقبلاً. ما يشغلني هو استغلال الحاضر في تحقيق أهدافي البحثية.

بشير مفتي: لا أكتب لأطلب مالاً أو شهرة

بشير مفتي، كاتب وصحافي جزائري، وُلِد عام (1969)، في الجزائر العاصمة، متخرِّج في كلّية اللّغة والأدب العربي، جامعة الجزائر. نُشرت أوَّل أعماله في العام 1992، وأصدر العديد من الأعمال القصّصية، والأعمال الروائية من بينها: «المراسيم والجنائز»، «رخبيل الذباب»، «شاهد العتمة»، «بخور السراب»، «دمية النار»، «أشباح المدينة المقتولة»، «غرفة الذكريات»، «لعبة السعادة أو الحياة القصيرة لمراد زاهر»… كما أن له مساهمات عديدة في الصحافة الجزائرية، والإعلام الثّقافي الجزائري.

لو سألتك عن أهمّ المحطات المؤثِّرة في حياتك؛ كاتباً وإنساناً ومبدعاً، فكيف تقدِّمها للقراء؟

– أعتقد أن أهمّ محطّة مؤثِّرة هي الحرب الأهليّة في الجزائر، أو (العشرية السوداء)، أو حتى يمكن تسميتها بعنوان فيلم لخضر حمينة «وقائع سنوات الجمر»، رغم أن فيلمه يتحدَّث عن فترة ما قبل الاستقلال، تلك الفترة التي كانت مؤثِّرة؛ لأني بدأت فيها مشواري مع الكتابة الذي تزامن مع فترة العنف والقتل والتدمير والخوف، وقد تركت أثراً في كتاباتي كما في حياتي، فلا يمكن أن يمرّ العنف دون أن يُحدِث تأثيراً في حياتنا، وفي رؤيتنا للإنسان الذي نفقد فيه الثقّة، ومع ذلك هي مرحلة الزخم والحلم والأمل في الغد.. أراها أهمّ محطّة، وهي التي شكَّلت حتى هواجسي الأدبيّة، ورؤيتي للكتابة، حيث يأخذ العنف مركزية في موضوعاتي الروائية؛ كيف حدث؟ ولماذا حدث؟ وما نتائجه، لاحقاً؟ وهو، حتى عندما يتوقَّف، يترك بصمات وحتى تشوُّهات على جسد المجتمع، وسلوك الفرد.

في رواية «اختلاط المواسم»، لم تخرج عن السوداوية والقتل والعنف والمهمَّشين…؟

– ولماذا تريديني أن أخرج؟ أنا أشتغل على مواضيع معيَّنة، لها علاقة بالواقع الذي أعيش فيه، أو من عين الروائي الذي يلتقط التراجيديات لا الأشياء المفرحة والسعيدة؛ تلك الأشياء نحبّ عيشها لا كتابتها، ومن هذا الباب رؤيتي، بالفعل، سوداوية للعالم، لكنّ هذا لا يمنعني من أن أضع، في لوحة السواد تلك شخصيات تقاوم، أو حبّ يريد أن ينتصر، وآمال في الغد..إلى غير ذلك. أقصد أن الرواية هي جزء من عالم ينهار ، ونحن لا نعزف موسيقى انهياره، بل نريد أن نعرف: لماذا ينهار؟ ماذا يحدث للناس وهو ينهار أمامهم؟..

كان من المفروض أن أكتب رواية عن المرأة الحلم، المرأة التي نحلم بها، وتساءلت إن كان من الممكن أن توجد في الواقع، وافترضت أنها غير موجودة، أو أنها، إن وجدت، يجب أن تموت أو تقتَل. وعندما فكَّرت في مسـألة القتل هذه، قلت: يجب أن يكون القاتل هو بطل مهمّ في القصّة، ثَمَّ وجدت، في النهاية، أن قصّة القاتل هي التي استأثرت بالنصّ، بل أخذت المساحة الأكبر ، وأصبحت قصَّته هي الأهمّ في الرواية .

لا تختلف «اختلاط المواسم» كثيراً عن رواية «دمية النار»، من حيث انتقاد الواقع والتوظيف السياسي للأحداث..

– طبعاً، هي مختلفة لكنها متقاربة أيضاً.. شخصية القاتل، التي ستعبر فترة التسعينيات الأليمة، حيث ستجد مشروعية في القتل دون محاسبة القانون، ستجد نفسها مستمرّة في القتل، أيضاً، دون محاسبة القانون، لأن القانون يطبَّق، فقط، على الضعفاء، لقد تحدَّثت، في هذه الرواية، عن مرحلة ما بعد الإرهاب، حين توقّف الإرهاب، لكنّ الفساد جعل الحياة أكثر جحيماً من قبل؛ لهذا سيجد القاتل طريقة، حتى للارتزاق من القتل ..

كيف ترى تطوُّر كتاباتك ما بين «المراسيم والجنائز»، وحتى «مواسم الاختلاط»؟

– هل تتطوَّر الكتابة أم لا؟ هو سؤال مهمّ حقّاً. مع أني لا اعرف الإجابة عنه. وهنا، يتدخَّل دور الناقد الذي يتابع ويقرأ ويتأمَّل ويدلي بدلوه ..بالنسبة إليَّ، أكتب لأني أشعر أن الكتابة تسكنني من الداخل، ولا أستطيع العيش من دون ممارستها. أنا لا أكتب لأطلب مالاً أو شهرة أو جائزة، بل لأني مرتبط بها كما يرتبط الجذع بالشجرة، فهو الذي يغذِّيها، ويحفظ توازنها وتماسكها من الداخل.

من الملاحظ أن شخصيات رواياتك ترتكز ، في الغالب، على قصص حقيقية.

– لا أدري إن كانت حقيقية؛ أي حدثت، بالفعل، في الواقع ..هي، بالفعل، قد تكون حدثت أو يمكنها أن تحدث ..أنا أتخيَّل معظم الوقت، ولكن هذا التخيُّل غير بريء؛ لأني -كما قلت لك- أطالع مذكِّرات سياسيِّين..فنّانين ..وأطالع الجرائد، وأهتمّ بالأحداث اليومية، وأستمع إلى قصص ناس أعرفهم، وناس لا أعرفهم، وكلّ هذا هو، بالنسبة إليَّ، مصدر مهمّ للخيال كي يدخل في عمل روائي .

لم تتأثَّر بالمدرسة التي تكتب بالفرنسية، والتي تصدَّرت المشهد الجزائري السردي. هل هذا موقف من لغة المستعمر ؟

– يجب أن نفرِّق بين الثّقافة والاستعمار. صحيح أن الاستعمار الفرنسي همَّشَ اللّغة العربيّة في الجزائر، أو -لنقل- حاربها حرباً عنيفة حتى يفصل الجزائري عن الثّقافة التي ينتمي إليها، لكن النخبة القليلة التي تكوَّنت باللّغة الفرنسية، وكتبت بالفرنسية، كانت من بين الأوائل الذين حاربوا الاستعمار بلغته ..نتذكَّر جميعاً مقولة كاتب ياسين الشهيرة: « أكتب بالفرنسية، لأقول لكم إني لست فرنسياً».

بالنسبة إليَّ، نشأت في عائلة معرّبة؛ ولهذا كانت الكتب التي وجدتها في محيطي الأوَّل هي كتب بالعربيّة، وكان لها تأثيرها في بداية تكويني الثّقافي؛ من القرآن الكريم إلى الشعر العربي القديم إلى قصص التراث الإسلامي.. واستمرَّ هذا المنحى على هذه الوتيرة حتى الثانوية، حيث تعلَّمت الفرنسية للدراسة، وبعدها بدأت اقرأ الروايات بهذه اللّغة، والتي أعتبرها لغة ثقافية، وليست مرجعاً هوياتيّاً، أو حياتيّاً، وأتعامل معها كلغة يمكن أن أطَّلع، من خلالها، على جزء من الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، والكثير من الأعمال التي يكتبها فرنسيون، أو المترجمة إلى لغتهم.. صحيح أن الفرنسية حاضرة، بقوّة، في المشهد الجزائري، لكنه -للأسف- ليس حضوراً يغني، بل يقسم الجزائريِّين إلى فئتَيْن وأدبَيْن، لا يتقاطعان كثيراً؛ فكلٌّ يكتب ضمن خريطته الثّقافيّة وجغرافيَّته الأدبيّة.. أقصد أننا لا نملك تعدُّداً لغوياً ثريّاً، بل انقساماً لغويّاً عند الغالبية، ولأن قلّة هم من يملكون الازدواجية اللّغوية عندنا.

هل تتعبك الكتابة؟ هل هي -فعلاً، كما يصفها البعض- كجَلْد الذات؟

– أعتقد ذلك. هي متعبة، بالفعل. الكثير من الناس ينظرون إلى الكُتّاب بنوع من الإعجاب الساحر، وكأنهم يحسدوننا على هذه «اللعنة» التي تخفي وراءها شقاءً وجوديّاً كبيراً؛ وهذا لا يعني أنه لا توجد نشوة في الكتابة، بل توجد لحظات تسعدك فيها الكتابة، لكنك تشعر بأن ثمن ذلك كبير جدّاً.

مَنْ من الروائيين الجزائريين يصنع الاستثناء، بالنسبة إليك؟

– نعاني من مشاكل كثيرة تؤثِّر في نجاح الكُتّاب، وفرض أنفسهم في الواقع، رغم أن المواهب كثيرة. في ظلّ هذه الظروف، البعض سيستمرّون، والبعض سيفشلون، والبعض سيتحوَّلون إلى مزاولة مهن أخرى.

ما الذي ينقص الرواية العربيّة لتصبح منافساً عالمياً؟

– من فرط ما نردِّد أن العالمية تبدأ من المحلِّيّة كما هو الحال مع مبدعنا الكبير نجيب محفوظ، أو الطيِّب صالح، لم نعرف، بعد، كيف نستثمر في هذه المحلِّيّة، أو كيف نقدِّمها للعالم؛ ولهذا تجد، عند البعض، ميلاً، الآن، للكتابة حسب الموضة، وتقليد الكُتّاب العالميِّين الكبار مثل «موراكامي»، أو «بول أوستر»… اليوم، يوجد هاجس الشهرة والنجاح، ومع ذلك لم يحقِّق هؤلاء ما يريدونه؛ أي الوصول إلى عالمية موهومة لأنهم ينطلقون -أصلاً- من التقليد، والإبداع عدوّ التقليد.

كيف تقرأ ملامح المشهد الروائي العربي، اليوم؟

– أصبح معقَّداً جدّاً، ولم يعد سهلاً معرفة ماذا يُكتَب فيه. اليوم، صعب على الكاتب العربي أن يتابع كلّ ما يكتب في هذا المشهد المترامي الأطراف. ربَّما تفيدنا الصداقات بعض الشيء، وتجعلنا نعرف واحداً أو اثنين من كلّ بلد عربي، لكن حتى هذا كثير، ويصعب متابعة كلّ شيء. طبعاً، ما يزال القديم في السنّ يحتلّ واجهة المقدّمة، وليس كلّ قديم يعني إبداعاً كبيراً، وليس كلّ جديد يعني إبداعاً جديداً، أو أظنّ هذا.

حصلت على جوائز أدبية رفيعة. ماذا تعني الجائزة للمبدع؟ كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية؟ وهل تراها رافعة للإنتاج الأدبي العربي؟

بوصفها تقييماً، أنا لا أعتقد ذلك. لكن للجوائز فوائدها طبعاً، وكلّ كاتب يحلم بالجائزة التي تلقي عليه الضوء، وتخرجه من الهامش إلى المتن. وأنا مدين، بشهرتي العربيّة، لرواية «دمية النار»، فقط، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر»، وهذا العام وصلت روايتي «مواسم الاختلاف» إلى القائمة الطويلة الجائزة نفسها، فقبل ذلك تعرَّف إليَّ الأصدقاء الكُتّاب العرب من خلال مقالات بعض النقّاد المعروفين كمحمد برادة، لكن الشهرة بدأت مع «دمية النار». والحقّ، كما يعرفني المقرَّبون، أنا لاأهتمّ بالجوائز، فإن جاءت فمرحباً بها، وهي شيء مشجِّع مادِّيّاً ومعنويّاً، وإذا لم أحصل عليها فلن يزعجني الأمر..

بعد (11) رواية، وعدّة مجموعات قصصية، هل كتبت روايتك التي تريد؟

– لا أظنّ ..كلّ كاتب يحلم بالرواية النهائية ..الرواية التي لو نكتبها سنتوقَّف، حتماً، عن الكتابة لاحقاً ..ربَّما، هذه الأمنية هي التي تدفع إلى مزيد من الكتابة لمطاردة مثل هذا الحلم.

هل من مشاريع قادمة على أرض الكتابة؟

– حاليّاً، عندي هواجس، وأفكار، وتأمُّلات، وشخصيات عالقة، وأحلام، وكوابيس..وكلّها عناصر صالحة لبدء رواية جديدة.

يعيش العالم، حاليّاً، حالة من الخوف والقلق بسبب «فيروس كورونا».. لو أردنا أن نوظّف الأدب والإبداع في مواجهة مثل هكذا مصائب، فكيف سيكون دور الأديب والمبدع هنا؟

– الشيء الوحيد الذي ربَّما يستطيع الأدب أن يساعد فيه، في ظلّ الحجر الصحّي، هو أن يدعم وعي الناس الذين يطالعونه بأهمِّيّة الحياة والصمود ومعرفة ما يجول في النفس البشرية من شرور وخير ، وطريقة للهروب من هذه اللحظة الأليمة، وهذا المصاب الشديد.