عندما نفكِّر في كرة القدم

سايمون كريتشلي أستاذ الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك ومؤلِّف 29 كتاباً، بما في ذلك «بماذا نفكِّر عندما نفكِّر في كرة القدم»، «الانتحار»، «كيفية التوقف عن العيش والقلق»، و«كتاب الفلاسفة الأموات». أجرى معه مؤخراً نايجل واربورتون مقابلة مطوَّلة لتوضيح بعض النقاط حول كرة القدم وعلاقتنا باللعبة، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة بشأنها.

نايجل واربورتون: لقد كتبت للتّو كتاباً بعنوان «بماذا نفكِّر عندما نفكِّر في كرة القدم». كيف بدأت فكرة الكتاب؟

– سيمون كريتشلي: اهتمامي بكرة القدم منذ طفولتي المُبكِّرة وأنا في الثانية من عمري حفَّز فكرتي عن اللعبة. وقد كتبت حوالي ثلاث أو أربع مقالات صحافية عن كرة القدم، خاصة حول نهائيات كأس العَالَم. لكن بعد ذلك كنت أُدَرِّس مع تايلور كارمان من كولومبيا. كنّا نحلِّل النصوص معاً وقمنا بتدريس هانز جورج غادامر. اخترنا فصل اللعب من كتاب «الحقيقة والطريقة». في تلك المرحلة أدركت أن هذا يمكن أن يتطوَّر حقاً بطرقٍ مثيرة للاهتمام، لأن غادامر كان رائعاً. كان يفكِّر في ظاهرة اللعب وما يجري أثناء اللعب. النقطة الأساسية هي أن ما يجري أثناء اللعب لا يمكن اختزاله في الصفات الذاتية أو الواقع الموضوعي. اللعب هو الظاهرة التي تنشأ في مكانٍ ما بين الأفراد والعَالَم الموضوعي. الفكرة الرئيسية في نظره هي أن اللعب لا يحدث في رؤوسنا. هناك فصل في كتابي بعنوان «تجريد الذاتي في كرة القدم»، وقد حاولت فيه تقديم وصف لشيئين: أولاً تجربة اللعب عندما نلعب الكرة. هل اللعبة تدور في رأسنا أم خارجه؟ حسناً، من الواضح أن ذهننا منخرط في اللعبة، وملكاتنا المعرفية مهمَّة، لكن تجربة اللعب تكون خارج رأسك أثناء اللعب. وثانياً، عندما تكون متفرِّجاً تصبح اللعبة خارج رأسك. أي أنها تكون هناك بالقرب مما يحدث على أرض الملعب. اللعب بشكلٍ عام، وكرة القدم على وجه الخصوص، طرق رائعة لإبراز هذا البُعد من الخبرة بين الذاتي والموضوعي، وهذا العَالَم الذي يشكّله.

إنها ظاهرة مختلفة تماماً عندما يتفاعل الفردُ مع عالَمٍ خيالي، في لعبة خيالية، وحيث الرياضة مختلفة في الحقيقة عن معنى اللعب المعروف. مع الرياضة، تكون منخرطاً في نشاط وفق مجموعة من القواعد والمعايير، لكنك لا تتخيّل أي شيء بهذا المعنى. قد تتخيّل نفسك تقوم ببعض الحركات ولكنك لا تخلق عالَماً خيالياً.

– نعم ولا في نفس الوقت. على سبيل المثال، إذا كنت تفكِّر في خيال كل صبي وأنت تُعدّ تعليقاً عن كرة القدم في رأسك. إنها مسرحية خيالية. أو لعبة خيالية في علاقة بالرياضة القائمة، لكن ليس هذا ما يحدث في اللعبة. من الواضح أن اللعبة محكومة بالقوانين، وهذا أمرٌ أساسي. وهي منظمة بالقوانين السبعة عشر الخاصة بكرة القدم، ثمَّ العادات والأعراف والمُمارسات التي تتماشى مع ذلك. لكن هذا خيال. إنه خيال قانوني، وهو خيال نحترمه أثناء اللعب. إذا لم نقبل بالقوانين، فلن تكون هناك كرة قدم. لكن هذا لا يعني أن تلك القوانين صلبة. يمكن تجاوزها والالتفاف عليها. ومع ذلك، فهو خيال من نوعٍ آخر. أحد الأشياء التي تهمني حقاً في اللعب بشكلٍ عام، ولكن كرة القدم على وجه الخصوص، هي أنه عندما تشاهد مباراة مباشرةً، أي عندما تكون في الملعب، فهذا أمرٌ حقيقي، ولكنه أيضاً أشبه ما يكون ببيئة افتراضية. على سبيل المثال، تحدَّثت في الكتاب عن الملاعب المُتطوِّرة، وكيف إذا كنت تشاهد المباراة من هناك، فأنت تشاهد لعبة واقعية، ولكن يبدو كما لو كنت تشاهد محاكاة كمبيوتر، لأنها حقيقية للغاية.

الأضواء الكاشفة أيضاً، تميل إلى المُبالغة في خضرة العشب.

-بالضبط- كرة القدم هي خيال حقيقي، ولكنها تتمتع بجودةٍ فائقة الواقعية، وهو ما يجذبنا إليها. الألوان، على سبيل المثال، مهمَّة حقاً. لكن الفكرة الرئيسية هي أن اللعب ليس في رؤوسنا، ولا في رؤوس اللاعبين أو المُتفرِّجين.

لكرة القدم ميزة الارتجال التي لا توجد في الكثير من الرياضات، لذلك نصفها باللعبة الجميلة. إنها مختلفة عن التجديف أو العدو السريع، حيث يوجد مجال ضئيل نسبياً لتضع بصمتك الشخصية وتقوم بنوع من الحركة العبقرية. ولكن في لعبة جماعية، أنت تتفاعل مع جميع اللاعبين الآخرين على الميدان، وأحياناً تتفاعل مع الجمهور والحكم ومساعد الحكم، وحيث تكون الكرة في مجال نظرك. كلهم يؤثِّرون على حركاتك المُستقبلية. أعظم اللاعبين قادرون على هذا الارتجال الفائق، لأنهم يتخيّلون مجموعة محتملة من الحركات التي لا يمكن لأي شخصٍ آخر تصوُّرها. إنه لأمر محيِّر للعقل. كيف يفعل بعض اللاعبين تلك الحركات. يمكنهم ارتجال تمريرة أو مراوغة أو شيء من هذا القبيل ورمي الجميع بطريقة خاطئة. بالنسبة لي، أفهم لماذا يسميها الناس لعبة جميلة. الارتجال ميزتها الكلاسيكية: أنت تبتكره دون إعداد مسبق، ولا يوجد سيناريو ثابت تلتزم به.

– نعم. إنها مثل موسيقى الجاز بهذه الطريقة. فهي تحكمها سلسلة من القيود -كلمات، ونغمات، وسلسلة من القواعد التي تضبط الآلات واللحن- ولكن وسط كل ذلك يمكنك فكّ الارتباط والارتجال. الارتجال مرتبط بالفضاء. بمعنى ما، كل ما يفعله اللاعب العظيم هو فهم الفضاء والبحث عن مساحة، وبعد ذلك، عندما يجد تلك المساحة، يرتجل شيئاً ما. اللاعب الرائع هو اللاعب الذي يمكنه توفير مساحة من حوله. الآن، من الواضح أن هذا غير منطقي من الناحية الموضوعية، ولكن فيما يتعلّق بظواهر تجربة اللعبة، يمكن للاعب أن يصنع لنفسه فقاعة وسط الفضاء ويسمح لنفسه بارتجال شيء ما. الشيء الآخر هو التعاون بين اللاعبين.

لقد ذكرت الجانب الاجتماعي في وقتٍ مبكر جداً في كتابك. ليس الاجتماعي من حيث الصداقة الحميمة، ولكن التواصل غير اللفظي والتوقعات والطريقة التي يمكنك من خلالها توقّع وفهم الإشارات الدقيقة من اللاعبين الآخرين وما يقصدونه من خلالها.

– الفرق واضح بشكلٍ أكبر في الرياضات الأميركية مثل البيسبول وكرة القدم الأميركية، وبدرجةٍ أقلّ في كرة السلة، ولكن هناك عدد أقلّ من اللاعبين في الفريق الذين يخفتون تحت هيمنة لاعبين رئيسيين. وحيث إن كرة القدم هي تعاون بين الفريق بأكمله، ولكن غالباً ما يكون الفريق الجيد متكوِّناً من أربعة أو خمسة لاعبين يتحرَّكون معاً كنوع من المصفوفة المُتحرِّكة. وهذه المصفوفة المُتحرِّكة قادرة على فتح مساحة في الأماكن التي لا تتوفَّر على مساحة. عندما يلعب فريق ليفربول بشكلٍ جيّد مع هؤلاء اللاعبين الأربعة في المُقدِّمة، يكون الأمر على هذا النحو: مصفوفة صغيرة تفتح مساحة ضد وحدة دفاعية سدَّت كل منفذ لخلق مساحة. الجانب الخيالي من الكتاب يكمن في الإشارة إلى كرة القدم كشكلٍ من الاشتراكية، وأستشهد هنا بـ«بيل شانكلي» و«بريان كلوف»، وآخرين. هذه حقيقة، لكنني أعلم أنه من السخف أن أقولها، لأنه من الواضح أن كرة القدم لعبة فردية أيضاً، ويهيمن عليها المال.

المُثير للاهتمام، بالنسبة لي، هو تقديم هذا الادعاء وإظهاره في الجهة المُقابلة للرأسمالية التي تتحكَّم في كيفية التعامل مع اللاعبين في إطار اللعبة. يصبح اللاعبون أصولاً قيّمة جداً للأندية، ويتمُّ شراؤهم وبيعهم مثل الأسهم والسندات، وغالباً ما يكون ذلك دون أن يتحدَّثوا كثيراً عمّا يحدث لهم. إنهم ملك النادي، وهم أصول سائلة يتمُّ تحقيقها في نقاط رئيسية معيَّنة من قِبل الرأسماليين. ومع ذلك فهم ينخرطون في لعبة تحمل في الأساس علامات الدولة الاشتراكية، حيث يتعاون الناس لتحقيق هدف مشترك بدلاً من العمل فقط من أجل مصلحتهم الشخصية. هناك هذه الظاهرة الشيّقة التي ذكرتها لكم من قبل، حيث يتدرَّب اللاعبون الصغار على اللعبة في تنافس بشكلٍ مختلف. داخل أكاديميات كرة القدم، يتنافس اللاعبون في نفس الفريق ليصبحوا محترفين. في فريق يتكوَّن، على سبيل المثال، من خمسة عشر لاعباً، ربما اثنان فقط سيصبحان لاعبين ماهرين. وهم يعرفون ذلك. لذلك، هناك شعور بأن النظام التدريبي نفسه يغرس نوعاً من التنافسية غير الصحية، لأنه يجعل زملاءك في الفريق منافسيك. هم يحاولون التظاهر بأنهم متعاونون رائعون، ولكنهم يحاولون أيضاً الظهور والتميُّز، وبالتالي يستحقون الانتقال إلى المرحلة التالية في كرة القدم. بمعنى ما، هذا يعكس الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية في جوهر كرة القدم، كما تبيّنه جيداً في كتابك. هناك نوعٌ من الاشتراكية التعاونية في التدريب، مع نزعة فردية كامنة التي يمكن أن تعكس فكر آين راند، حيث البقاء للأقوى، وحيث لا يجب أن تنظر إلى الوراء.

– نعم، هذا صحيح بلا شك. ليس لديّ الكثير من الخبرة في ذلك، ولكن من خلال ما قرأت حول شروط الانضمام إلى أكاديميات كرة القدم والتدرُّج عبر الرتب، أعتقد أنه نشاط فردي للغاية. ربما يمكنك تبرير ذلك تحت مسميات البحث عن التميُّز على الطريقة الأرسطية، أو يمكنك التفكير فيها من خلال الموقف الغريب، حيث يكون ما تريده هو تكوين فريق، ولكنه فريق يقاتل فيه كل لاعب من أجل مكانته. ويمكن استبعاد مَنْ كان أداؤه سيئاً.

التميُّز سؤال مثير للاهتمام أيضاً. في كرة القدم، في كل مركز، هناك معايير يتمُّ من خلالها الحكم على اللاعبين الفرديين، وهناك آراء ذاتية متداخلة، لكن لا يوجد إجماع كامل حول مَنْ هو الأفضل في كل مركز. هناك ميزات فردية للاعبين الفرديين، وليس حكماً موضوعياً أن يكون أحد اللاعبين أفضل من الآخر. هناك أيضاً مشكلة لازمة، حيث قد يكون (أ) أفضل من (ب) و (ب) قد يكون أفضل من (ج)، ولكن هذا لا يعني أن (أ) أفضل من (ج)، لأنهم يحملون بعض الميزات -غير القابلة للقياس- التي تجعلهم مختلفين كلاعبين. لا يوجد اتفاق موحَّد للحُكم على اللاعبين. يحدث هذا من خلال كرة القدم من الأدنى إلى الأعلى، وهناك درجة من الذاتية في اختيارات الجهور لأفضل لاعب، إضافة إلى أن المُدرِّب يحدِّد في كثيرٍ من الأحيان اللاعب الأفضل للفريق قصد تكوينه. قد لا يكون من الناحية الموضوعية اللاعب الأفضل فحسب، بل اللاعب الأفضل الذي يتناسب مع طريقة لعب الفريق.

– بالتأكيد. ومثال ذلك أن اللاعب دانيال ستوريدج أفضل من روبرتو فيرمينو من الناحية الفنية، لكنه لا يتناسب مع نظام الفريق الذي يريد يورغن كلوب بناءه في ليفربول. لذا، فقد غادر دانيال ستوريدج على سبيل الإعارة. لقد كان لاعباً ممتازاً بلا شك، لكنه لم يكن مناسباً لهذا الفريق. أيضاً، هناك لاعبون رائعون لا يصبحون كذلك إلّا ضمن تركيبة فريق فريدة معيَّنة. هنريخ مخيتاريان، على سبيل المثال، كان لاعباً بارزاً في نادي دورتموند، لكنه لم ينجح في مانشستر يونايتد. هناك لاعبون من هذا القبيل يعتمد نجاحهم على فهم تفوقهم داخل الوحدة التعاونية للفريق على النحو الذي يمليه المُدرِّب. هذا هو الجانب السياسي الآخر لكرة القدم. هناك ارتباط تعاوني للعبة، ولكن يبدو أننا نريد نوعاً من الاستبداد أو حتى الديكتاتورية من جانب المُدرِّب. وإذا لم يكن المُدرِّب سلطوياً فإننا نعتقد أنه ضعيف.

هذا يشبه نظرية المُؤلِّف المُطبَّقة على كرة القدم. الفيلم عبارة عن إبداع تعاوني مع مُخرِج يتّخذ القرارات النهائية، لكن نظرية المُؤلِّف تعتبر المُخرِج هو سيّد العمل. بينما من الواضح أن المُمثلين وخبراء الإضاءة والمُصوِّرين السينمائيين لديهم دورٌ كبير في نجاح العمل. وغالباً ما يلجأ المُعلِّقون إلى نهج المُؤلِّف تجاه المُدرِّبين كما لو أن كل نجاح أو فشل الفريق يعود إلى المُدرِّب بدلاً من اللاعبين على الميدان. لكن منهجك في هذا الكتاب يقوم على ممارسة الفلسفة بأسلوب عالم الظواهر. أنت تطرح أسئلة إذا جاز التعبير، حول فهم كرة القدم من منظور اللاعب والمُتفرِّج. إذن، أنت مهتم حقاً بالفلسفة الوصفية. هل هذا صحيح؟

– نعم. إنها الفينومينولوجيا، ولكن أيضاً، كما أراها، قريبة جداً من فكر ويليام جيمس الذي أصبح في نظري أكبر من بطل في السنوات القليلة الماضية. ما يسعى إليه جيمس هو محاولة فهم تجربة اللعب من الداخل وليس الحُكم عليها من مسافة فلسفية آمنة، وأنا أحاول استخدام الكلمات والمنهج المُتّبع من أجل فهم أسرار هذه التجربة، واستحضارها، وتقديمها في «مظهر» جديد، بعبارة فتجنشتاين. هذا حقاً كل ما أحاول القيام به.

أنت بالتأكيد حقّقت لي ذلك. أحد الأشياء الرائعة التي استبعدها عملكم السؤال الغبي الذي يُطرح على اللاعبين: «ما الذي كنت تفكِّر فيه عندما صوَّبت الكرة؟».

– لا شيء، لم يفكِّروا بأي شيء، لقد كانوا منخرطين في نشاط اللعب. هذا هو بيت القصيد. أعتقد أن اللاعبين على الميدان منخرطون داخل هذا العَالَم بقدر انخراطنا نحن مع العَالَم. كل ما في الأمر أننا نطرح الأسئلة الخاطئة. لا يتعلّق الأمر بما يدور في رؤوسنا، بل بما نفعله في موقف معيَّن في علاقة مع الآخرين. اللعب يوضِّح لنا ذلك. لذلك، نعم، الأسئلة التي يتمُّ طرحها غبية حقاً. هناك ذاتية في كرة القدم إلى حدٍّ ما، يمكن أن تسأل لاعب كرة القدم حول ما يفكِّر به، ولكن هناك أيضاً جانب موضوعي في كرة القدم، أي يمكننا الحصول على حقيقة كرة القدم من خلال تحليل البيانات وطريقة العمل المُعتمَدة في السنوات العشر الماضية، حيث أصبحت كرة القدم تخضع بشكلٍ متزايد لعدد التمريرات التي تمَّ الحصول عليها والتمريرات الحاسمة. يمكنهم بسهولة قياس ذلك. لكنها لا تخبرهم بأي شيء على الإطلاق، حقاً.

إذن لا يوجد مكافئ لـ«Moneyball»، فيلم الدراما الرياضية الأميركية، في كرة القدم؟

– كرة القدم، هذه اللعبة تدور بين عقولنا والفضاء الخارجي. إنها هذه المساحة من اللعب. إنه حدث يمكن لمجموعة من اللاعبين في سياق مناسب، وبتشكيلة صحيحة مع توجيه من المُدرِّب، تحويله إلى واقع استثنائي. لذا، فإنَّ الكتاب بالتأكيد لا يتعلّق بفلسفة كرة القدم. إنه لا يسعى لإيجاد سلسلة من التصنيفات أو البديهيات أو المبادئ الأولية التي تصف كرة القدم. هذا لا يهمني. أنا أحاول الخوض في التجربة والخروج منها ببعض الأفكار المفاهيمية. هذا حقاً ما يُثير اهتمامي. إنها الفينومينولوجيا، ولكنها أيضاً نوعٌ من البراغماتية. يسعى الكتاب لبيان ثراء التجربة، ومن ثمَّ محاولة إقناع الآخرين: «هذا رائع، لماذا لا تلقي نظرة؟» هذه حجّة يجب عليك صياغتها بطريقة مختلفة في مكانٍ ما مثل الولايات المُتحدة، حيث تتم تنشئة الأفراد على لعبة البيسبول. أجد أن العلاقة الأقرب لكرة القدم في الولايات المُتحدة تكون من خلال لعبة البيسبول. الناس لديهم فريق ويسعون إلى دعمه. عليك أن تحاول إقناع المُشكّكين بأن كرة القدم ليست مملّة، لأن معدَّل التهديف فيها منخفض! يجب أن نفهم أن الرياضة لا تتعلّق بالتسجيل أو الفوز، بل اللعب بحدِّ ذاته.

أحببت الاقتباس في الكتاب الذي يلخّص اللعبة المثالية في تعادل سلبي. بالنسبة لي، هذا الفهم يجعلك ترى اللعبة بشكلٍ مختلف. كنت تتحدَّث عن التحوُّل على طريقة فيتجنشتاين حتى ترى نفس الشيء فجأة بمظهر مختلف. إنه التعليق الذي يستوقفك ويجعلك تفكِّر مرةً أخرى فيما كنت تشاهده، لأنه غالباً ما توصف كرة القدم باللعبة المُملّة بسبب نتيجة التعادل. كان بإمكانك مشاهدتها على المنصات الرقمية بدلاً من التواجد في الميدان. لكن، في الواقع، إذا نظرت إليها على أنها مجموعة معقَّدة من الحركات مع الترقّب والترصّد والحركات المُضادة، يمكنك أن ترى جمالاً وتعقيداً لا يصدَّق. يمكنك اعتبار ذلك الإنجاز الأسمى للفريقين، عبر التفاعل فيما بينهم وكيفية فهم اللاعبين بعضهم البعض.

– نعم، أعتقد أن الجانب الدفاعي في كرة القدم قد تمَّت الاستهانة به حقاً ويُساء فهمه. ولكن هناك أيضاً الدفاع باعتماد الغش وخرق القوانين. هناك جمالية في مشاهدة مدافِع يصدّ هجوماً ويتشابك مع شخصٍ آخر. كانت هناك مباراة، أعتقد أنها كانت بطولة أمم أوروبا العام الماضي، وشاهدت حالتين مما ذكرت مع إيطاليا. كانت إيطاليا تلعب مع ألمانيا، وكان سامي خضيرة بالنسبة لألمانيا خطيراً بشكلٍ خاص في المُباراة السابقة. في مرحلة معيَّنة في وقتٍ مبكِّر جداً من المباراة، استند عليه المدافع الإيطالي العظيم جورجيو، وناوره بأسلوبٍ خاص وشلَّ حركته مما أفقده القدرة على اللعب. هناك جمالية في ذلك. لم يحصل حتى على بطاقة صفراء على إثرها، وهذا تفوُّق دفاعي استثنائي. ما يزعج أميركا في ما يتعلّق بكرة القدم هو أن الناس يتظاهرون أو يغشون، في حين أن هذا هو الهدف المنشود. ولا أرى فائدة في اللجوء إلى إعادة تشغيل التسجيل للتثبُّت. أعتقد، من حيث المبدأ، أن إعادة تشغيل الفيديو تقنية رائعة. ولكن يمكنك إعادة تشغيله، وبالتالي التأثير على مجرى اللعب، ثمَّ تدرك أن جوهر اللعبة لا يكمن في اتخاذ القرار الصحيح، بل في اتخاذ القرار في وقته. في وضعية معقَّدة، يكون الحكم صاحب القرار ويجتهد ليصيب في قراراته. نأمل دائماً أن يكون القرار صحيحاً. علينا القبول بأنه لا توجد قاعدة ثابتة. لذلك، أعتقد أن الرغبة في تنقية كرة القدم من الغش أمرٌ مشكوكٌ فيه، ولن يضيف شيئاً. أنا أحب الغش بهذه الطريقة.

لقد تحدَّثنا عن مزيج من الفينومينولوجيا والبراغماتية. هل تعتقد أن الفلاسفة يجب أن يطبقوه على نطاقٍ أوسع؟ هناك مجموعة ضيقة جداً من الموضوعات التي يتحدَّث عنها الفلاسفة بالفعل. في الآونة الأخيرة فقط، على سبيل المثال، أصبح الطعام موضوعاً في غاية الجدّية للفلسفة. لا يوجد عدد كبير من المُساهمين البارزين في موضوع الفلسفة والرياضة. عادةً ما تدور فلسفة المُوسيقى حول الاستماع. ونادراً ما نسمع عن الأداء، ورغم ذلك فإنّ ظاهرة الأداء المُوسيقي مهمَّة جداً لحياة العديد من الأشخاص. هل تعتقد بوجود مجالات يمكن أن تستفيد من هذا الأسلوب؟

– نعم بالتأكيد. فلسفة الرياضة ليست مجال اهتمام كبير. كان هناك كتابٌ جيّد من تأليف «ديفيد بابينو» العام الماضي، وقد استمتعت بقراءته، وهناك عملٌ جيّد لـ«ستيفن كونور» عن ظواهر الرياضة، وقد أحببته كثيراً. لكن ليس بالقدر الكافي. بالنسبة لي، الأمر المُهمّ في كرة القدم هو أنه في كثير من الحالات يكون لدى الفرد التزام راسخ تجاه فريقه المُفضَّل. إنه أشبه بالإيمان تقريباً. وهو شغف بلا منازع نشأ بمرور الوقت ورثناه غالباً عن والدينا. من ناحيةٍ أخرى، هناك مساحة هائلة من العقلانية فيما يتعلّق بكرة القدم، وهي أن هذه اللعبة تتعلّق بالحُجج القائمة على الأدلة على خلاف الفلسفة. ما يُثير اهتمامي من الناحية الفلسفية في كرة القدم هو أن الفلاسفة لا يغيِّرون رأيهم بسهولة. قد يستمع الفلاسفة إلى رأي فيلسوف آخر، ثمَّ يتمسَّكون بأفكارهم، وربما بعد ذلك يطرحون بعض الأسئلة النقدية المُعادية. في كل ما قرأت، لم أجد أبداً مَنْ يقول، «هذا رائع، وسأعدِّل موقفي تماماً بشأن هذه المسألة». هذا لا يحدث أبداً. بينما في كرة القدم، لأنها ليست مسألة جديّة بطريقة ما -باعتبارها لعبةً في النهاية- يمكنك أن تغيِّر موقفك. في كثير من الأحيان هذا ما يحدث لي. لديّ التزامٌ عميق تجاه نادي ليفربول لكرة القدم، ويمكنني تقديم حُجج كثيرة، لكن يمكنني سماع شخص يدعم فريقاً آخر ويطرح أفكاراً مقنعة، تجعلك تغيِّر وجهة نظرك. لذلك، فإنَّ الحُجج العقلانية المُتعلِّقة بكرة القدم أمرٌ مفيد للفلسفة. أعلم أن ذلك قد يبدو غريباً، لكني أعتقد أنه صحيح.

الجانب المُثير للاهتمام أيضاً هو حقيقة أن كرة القدم موضوعٌ أكثر شمولية، إذ يمكنك التحدُّث عن اللعبة مع طفل في العاشرة من عمره. لا مشكلة. إنهم يعرفون الكثير من الأشياء. كرة القدم لا تتطلَّب مستوى رفيعاً وخارقاً من المعرفة. لذلك، يمكنك توسيع نطاق استخدام الأفكار الجدلية والعقلانية لتشمل حتّى غير المُتخصِّصين من مختلف الأعمار والأجيال. أعتقد أن هذا أمرٌ رائع، ويجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار.

 

 حوار: نايجل واربورتون

المصدر:

Being outside yourself

حكاياتٌ حول كأْسِ العَالَم

إنَّ إعادة كتابة أُسطورة بطولة كأس العَالَم في 100 حكاية، معناهُ أن نتذكَّر أن المُباريات التي كانت تنتهي بالتعادل السِّلبي ظلّت لمدةٍ طويلة مبارياتٍ يُعاد لعبُها، وأنَّ البطاقات لم تكن موجودةً دائماً، وأنَّ مَنْ كان يُصاب من اللاعبين كان يتعيَّن عليه البقاء في ميدان اللعب، كما أنَّ هذ الحكي يعني أنْ نحكي عن اللَّاعبين الأسطوريين، وأنْ نصف مآثرهم، وأنْ نشعر بإثارة انتصاراتهم ونحسَّ بعَارِ هزيمتهم، وهو يعني أيضاً، أنْ نتحدَّث عن الفساد وعن جعل اللَّعب مقامرةً، ويعني أنْ نَقُصَّ دور الفيفا، وبطولات العَالَم المُستقبلية وما ستحققه من عائدات بملايير الدولارات. لذلك فإنَّ قطرات العرق والدّمع على السواء لم يَحِنْ بعدُ أوان توقُّفِها عن النُّزول على عُشب الميادين الخضراء.

منذ ما يقرب القرن وقطرات العرق والدّمع تتساقط على هذه المروج؛ فتَحْتَ هذه الميادين الخضراء اللون، حيث يتم تشذيب أصغر فرع مثلما يُشذب حجر اليشب الأخضر، تستقرُّ روح بطولة كأس العَالَم، لذلك فإن الدَّوس عليها ليس تدنيساً للمُقدَّسات، بل العكس هو الصحيح، لأن مداعبة العشب هي تماماً «مثل ملامسة السماء بكلتا اليدين»، كما قال في يوم من الأيام مارادونا.

إنَّ كأس العَالَم هو أوْج الاختبارات وأقصاها، بل وأقساها في آن، إنَّه الاختبار الذي يتمُّ تخصيصه لنخبة دقيقة وحادّة جداً في تركيزها تماماً مثلما هي حدَّة مسامير أحذيتها الرياضية، إنَّ كأس العَالَم وعدٌ، إنَّهُ وعدٌ بتأمُّل كرة القدم في أصْفى وأنْقى صوَّرها. في النسخة التاسعة عشرة لكأس العَالَم، من سنة 1930 إلى سنة 2010، احتشد أربعة وثلاثون مليون شخص في مختلف الساحات؛ فهذه الصورة المُركَّزة للإنسانية وهي تسافر من قارةٍ إلى أخرى، ومن بطولةٍ إلى أخرى، وتمْتزجُ في الملاعب الرياضية مهما كانت رتبتها ومهما اختلفت ألوانها وتباينت عقائدها.

إنَّ الأهمّ طيلة شهر هو فقط الفريق الوطني! غير أن هذه النزعة الشوفينية ليست مرضاً؛ فكأس العَالَم هو على الأرجح من اللحظات النادرة التي يمكننا فيها أن نفتخر بألوان علمنا الوطني دون أن نكره تلك الخاصة بالآخرين، لقد كانت تلك هي إرادة أَبِ بطولة كأس العَالَم «جول ريميه»؛ هذا الفرنسي كان له تصوُّر كوني للكرة؛ فحتى أفقر الصبية الذين وُلِدوا وسط براثن القمامة، يمكنهم وهُم يلعبون بما تيسَّر من علب فارغة أن يحلموا بلعب الحدث في يوم من الأيام وبمُعانقة الكأس.

ومع توالي نسخ بطولة كأس العَالَم، شهدت كرة القدم وأكثر منافساتِها مَجْداً، تطوُّراً أكبر، إذ صار المال هو مَنْ يتولّى الآن قيادة الريَّاضة، ولكنه يعمل على تطويرها وتنميتها أيضاً، وصارت الحشود تنحني أمام أولادٍ شبابٍ يتعذَّر الوصول إليهم..

تأسيس الفيفا

لم يكن الرَّجُل معروفاً على الإطلاق، ومع ذلك فإنَّ هذا الفرنسي هو مَنْ كان الأصلَ في قيام أقوى المُنظَّمات الرياضية في العَالَم؛ أقصد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، إنه «روبرت غيران Robert Guérin» عام (1876 – 1952) هذا الشخص العنيد، الذي كان يعمل صحافياً في جريدة الصباح (le MATIN) (بمرتبة أمين قسم)، وسكرتير قسم كرة القدم باتحاد الجمعيات الرياضية الفرنسية في الرياضات الأولمبية (USFSA)، أراد أن يوحِّدَ ويُقنِّن كرة القدم ويعمل على تنظيمها فيما وراء الحدود، فانتشرت هذه الرياضة في أوروبا وفي بقية العَالَم. وفي سنة 1902 تحدَّتِ النمسا على أرضها هنغاريا بنتيجة (5 – 0)، وقد كانت تلك هي المُباراة الأولى بين البلدين (غير البريطانيين) من القارة العجوز.

ولمرّاتٍ عديدة كان لقاء الشاب «غيران»، بدعم من الهولندي كارل أنتون فيلهلم هيرشمان، مع المسؤولين الإنجليز من أجل إقناعهم بأنْ يبادروا لإطلاق حركة تجمع أسرة كرة القدم العَالَمية. كان الإنجليز يهيمنون على هذا التخصُّص الرياضي، لكن ممثلي اتحاد كرة القدم (FA) كانوا متردّدين. وللحقيقة فإنّ «سادة كرة القدم ومعلميها» كانوا يحتقرون القارة ولعبها القائم على الهواية، وفي مواجهة هذا الفتور وانعدام الحماسة، لم يكن بوسع روبرت غيران إلّا أن يبادر بنفسه إلى دعوة ممثلين عن الاتحادات الأوروبية لكرة القدم للمجيء إلى باريس يوم 21 مارس/آذار 1904، وتحديداً إلى شارع فوبورغ سانت أونري، حيث كان يوجد مقر اتحاد الجمعيات الرياضية الفرنسية في الرياضات الأولمبية (USFS A) (لم يكن قد تمَّ تأسيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم) فأسّست كلٌّ من بلجيكا والدنمارك وهولندا وسويسرا والسويد ونادي مدريد لكرة القدم (الاتحاد الإسباني لكرة القدم لم يكن قد تأسَّس بعد)، الاتحاد الدولي لكرة القدم، وقد انخرط الاتحاد الألماني لكرة القدم في المُنظَّمة الوليدة عبر بعثه برقيةً إليها في نفس اليوم.

مثَّل هذا الاجتماع ميلاد الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) ومؤتمرها الأول؛ وفيه تمَّ انتخاب روبير غيران، الذي لم يكن قد تجاوز 27 ربيعاً، رئيساً، كما صادق الأعضاء المُؤسِّسون على القوانين العشرة الأولى، وصار من الواجب على الاتحادات دفْعُ رسوم عضويتها في الاتحاد الدولي لكرة القدم والتي تمَّ تحديد مقدارها في مبلغ 50 فرنكاً (ما يعادل 1900 أورو اليوم)، وتنص المادة التاسعة على أن الاتحاد «هو وحده من يعود له الحقّ في تنظيم بطولة دولية».

أكَّدَ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) استقلاليته وخطَّط لتنظيم بطولة العَالَم بسويسرا سنة 1906، لكن لم يحدث أيُّ تسجيل فيها، مما مثَّل فشلاً ذريعاً، وبعد هذه الصعوبات الأولى، انسحب «غيران» ليحُّلّ محلّه الإنجليزي «دانييل بورلي وولفول Daniel Burley Woolfall» (أكَّدَ الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم عضويتَهُ في الفيفا سنة 1905) ليصبح الرئيس الثاني للاتحاد الدولي لكرة القدم، مسهماً في تنظيم المُنافسة الدولية الكبرى لكرة القدم: البطولة الأولمبية في لندن سنة 1908، وسيكون على بطولة العَالَم لكرة القدم الانتظار قليلاً كي ترى النور.

ميلاد بطولة كأس العَالَم

الخراب لازال يلقي بظلاله على أوروبا، وحداد بلدانها على الملايين من قتلاها لم ينقضِ بعد، أوشكت الحرب العَالَمية الأولى أن تقوِّض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، لكن أمينه العام كارل هيرشمان، كان له الفضل في الإبقاء عليه قائماً، وبطلب من رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم (FFF) «جول ريميه Jules Rimet»، تولَّى الهولندي المسؤولية من مدينة روتردام ليستأنف بعد ذلك ربط الاتصال بالأعضاء، ولمّا استدعى من جديد الجمعيات العامة، لم تكن بعض الاتحادات تريد سماع الحديث عن ذلك من جديد، كما هو الحال بالنسبة للاتحاد البريطاني؛ إذ من المُستحيل أن تتحدَّث إلى أعدائها! لكن على الرغم من ذلك صار لهذه المُنظَّمة بمدينة أنفرس سنة 1920 مجلس إدارة جديد سيتولى رئاسته جول ريميه الذي كان يبلغ عندئذ 47 سنة، وأشهراً، بعد ذلك سيصير الرئيس الثالث للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا).

كان جول ريميه مهووساً بتنظيم منافسة دولية، وفي سنة 1904 عند تأسيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، كان يأمل روبير غيران في تأسيس «بطولة عالمية»، وهو ما تمَّ إدراجه في النظام الأساسي للاتحاد، غير أن البريطانيين لم يكونوا يريدون معرفة شيء بخصوص ذلك، إذ إن بطولة لكرة القدم موجودةُ وقائمة بالفعل ضمن الألعاب الأولمبية والاتحاد الدولي هو مَنْ يتولّى تنظيم المُنافسة لصالح اللجنة الأولمبية الدولية (CIO).

لكن على الرغم من حضورها في الألعاب الأولمبية سنة 1908، فإنّ كرة القدم لم تأخذ كامل سَعتها الحقيقية إلّا ابتداءً من سنة 1920 (14 فريقاً)، ثمَّ سنة 1924 (بلغ عدد المُنتخبات المُشاركة 22)، لتفقد البطولة بعد ذلك شيئاً من قوتها (حيث بلغ عدد المُنتخبات المُشاركة 17 منتخباً)، لكن رغم كل شيء تكون الألعاب الأولمبية هي التي منحت المصداقية لهذه الرياضة التي صارت عالمية على أوسع نطاق، وبذلك يكون الوقت المُناسب قد حان للتحرُّر من اللجنة الأولمبية الدولية (CIO) ولامتلاك الاتحاد الدولي لكرة القدم لمُنافسة خاصة بكرة القدم، خصوصاً منذ أن التقى جول ريميه سنة 1925 بالدبلوماسي الأوروغواني إنريكي بويرو، الذي أكَّدَ أن بلاده على أتم استعداد لتحمُّل جميع التكاليف إنْ تمَّ اختيارها لتنظيم بطولة كأس العَالَم الأولى.

غير أن التفاهم لم يتحقق أبداً بين الهيئتين الرياضيتين؛ فالاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يعتبر أن مبدأ الهواة العزيز على قلب بيير دو كوبيرتان بمثابة كابح لانتشار الكرة المُستديرة، ومع ذلك أمكن لبعض اللَّاعبين المُحترفين المُشاركة في البطولات الأولمبية؛ لأنّ ما كانت كرة القدم تحقّقُه من عائداتٍ كان يتراوح بين خُمس وثُلث مداخيل الألعاب الأولمبية، وبالتالي لم يكن أمام اللجنة الأولمبية الدولية (CIO) حلٌّ آخر.

وفي سنة 1927 أنشأ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) لجنةَ دراسات اجتمعت أول مرّة بزيورخ؛ ومن هذا الاجتماع ستخرج ثلاثة مشاريع أساسية هي: كأس أوروبا التي سيتمُّ تنظيمها على رأس كل عامين، وبطولة العَالَم التي سيتمُّ تنظيمها على رأس كل أربع سنوات، وهي منافسة مفتوحة أمام جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الدولي لكرة القدم ( فيفا)، سواء أكان لها لاعبون هواة أم محترفين؛ بمعنى بطولة عالَم للمُحترفين وأخرى مخصَّصة للهواة، وبتاريخ 28 مايو/أيار من سنة 1928، وأثناء مؤتمر أمستردام، اقترح هنري ديلوني، الأمين العام للاتحاد الدولي لكرة القدم، قراراً بخصوص بطولة دولية، تقرَّر تنظيمها سنة 1930، تكون مفتوحة أمام اتحادات كرة القدم المُنتَسِبة للفيفا ويشارك فيها الهواة والمُحترفون، وهو القرار الذي تمَّ اعتماده وتبَنّيه بثلاثة وعشرين صوتاً مقابل خمسةِ أصوات، وهكذا كان ميلاد بطولة كأس العَالَم وحصلت كرة القدم على استقلاليتها.

«1938» ميلاد كرة القدم بنطق برتغالي

في الدورة الثالثة لبطولة كأس العَالَم، خرجت عبقريةٌ من جوف الكرة، لاعب مراوغاته دوَّخت المُدافعين وحرَّكت قلوب الشَّابات الفرنسيات، إنه ليونيداس دا سيلفا (1913 – 2004)، كتلة صلبة مثله مثل الكثيرين ممّن ستصنعهُم البرازيل بعده، صاحبُ نزعة فردية، حتى لا نقول عنه إنه كان أنانياً، مبدعُ غير منضبط، داهيةٌ ومذهلٌ… فالسِّحرُ هو ما يسري في عروق قدميه.

في كأس العَالَم سنة 1938، صار «الجوهرة السوداء» على أتمّ استعدادٍ، فهو كالمقصلة في حسمه، ومع أن عمره لم يتجاوز بعد 24 ربيعاً، فإنه يشارك للمرّة الثانية في كأس العَالَم، لكنه نمَّى موهبته وجعلها تكبُر في صفوفِ النادي البرازيلي (فلامينغو).

لقد تغيَّر منتخب السيليساو أيضاً؛ لقد انتهى عهد فريق الهواة الذين كان يتمُّ إقصاؤهم منذ الدور الأول كما حدث سنتي 1930 و 1934، ليفسح المجال أمام المُحترفين ونُخبةً تشبهُ البلد بحقّ؛ فهي نخبة تحقِّق في النهاية الاختلاط والامتزاج؛ إنها المرّة الأولى التي يطأُ فيها فريق «خلاسي»، حتى نعاود استعمال التعبير الرائج في تلك الحقبة، عُشبَ ميادين كأس العَالَم، لقد صار موضوع جذب للجمهور الفرنسي وللصحافيين.

واجه «الرجل المرن» ورفاقه بولندا في مباراتهم الأولى، بولندا التي احتلَّت الرّتبة الرابعة في الألعاب الأولمبية ببرلين، فهذه المُواجهة كانت إحدى المُواجهات الأكثر جنوناً في تاريخ كأس العَالَم؛ ففي اليوم الخامس من شهر يونيو/حزيران بمدينة ستراسبورغ، شهد ملعب مينا طوفانَيْن؛ من جهةٍ طوفانٌ من الأمطار التي لم تفتر محوِّلةً أرضية الملعب إلى بركةٍ من الوحل، ومن جهةٍ أخرى طوفانٌ من الأهداف، التي بلغت في المجموع أحد عشر هدفاً، بما في ذلك ثلاثة منها وقعها ليونيداس (6 – 5 حتى نهاية الوقت الإضافي)، حتى أن المُهاجم النّجم سجَّل هدفاً بجواربه بعد أن عَلِق حذاؤُه في الوحل عند قيامه بالتسديد، ليعمد إلى خلع زوج حذائه الذي ازداد وزنه بفعل امتلائه بالماء، لكن ما إنْ مضت بضع دقائق حتى طلب منه الحكم إعادة ارتدائه.

في الثاني عشر من يونيو/حزيران تألَّق «الجوهرة السوداء» في ملعب «لي بارك ليسكيور- le Parc Lescure» أمام جماهير مدينة بوردو، حيث افتتح ليونيداس التسجيل في مواجهة تشيكوسلوفاكيا بضربة مقص معكوسة، ليتحقَّق مجده؛ فقد جعل من هذه الحركة الفنيّة غير العادية حركة شعبية.

أنهى منتخب السيليساو البطولة باحتلاله المركز الثالث، وتمَّ اختيار مهاجمه المُتميِّز أفضل هداف في الدورة (سجل سبعة أهداف)، تعرَّض بعدها للإنهاك والإصابة، مما منعه من اللعب في فعاليات كأس العَالَم بعد ذلك.

وفي البرازيل عاش الجمهور هذا الحلول في المركز الثالث كما لو كان بالفعل «كارثة وطنية» بعبارات الرئيس «جيتوليو فارغاس Getúlio Vargas»، الذي صار مُدركاً بوضوح للأهمية الكبيرة التي صارت تتمتع بها كرة القدم في بلاده، ومع مرور الوقت لم تعد البرازيل تعاني أدنى عقدةِ نقصٍ أمام الدول الأوروبية، حتى أن عالِم الاجتماع الكبير «جيلبرتو فراير Gilberto Freyre» يتحدَّث عن «كرة القدم – الفن» كي يصف ويميِّز هذا اللعب البرازيلي الذي يكْسرُ الأصول العرقية: إنه الشِّعر منظومٌ في أبيات، بينما الأسلوب الغربي يُلْعَبُ نثْراً، وهذه السنة ما رأى النور هي «كرة القدم الدقيقة والرهيفة»، كرة قدم منطوقة باللّغة البرتغالية «le futebol».

«1966» – كلب كأس العَالَم 

أين اختفت الكأس؟ في هذا اليوم؛ اليوم الذي يصادف 20 مارس/آذار، سُرِقَتْ كأس جول ريميه(5)، الكأس التي تُمنح للفائز المُستقبلي في بطولة كأس العَالَم.

على بُعد أقلّ من أربعة أشهر على انطلاق فعاليات المُنافسة التي كانت ستُقَامُ في إنجلترا، تمَّ خطف القطعة الأهم والمحورية في معرض لندن حول «حب الطوابع البريدية والرياضة» في سنترال هول في ويستمنستر يوم الأحد، لم يرَ الحرّاس ولم يسمعوا شيئاً، ومع ذلك تمَّ إغلاق المعرض في وجه العموم والطوابع النفيسة -التي كانت قيمتها مُقَدَّرَة بثلاثة ملايين جنيه- قد تمَّ النظر إليها بازدراء من طرف اللص أو اللصوص، فوحدَهُ التمثال الصغير الذي يزن حوالي 4 كيلوغرامات، والذي كان مؤمَّناً عليه بـ(30000 جنيه) في الحقبة، وحده الذي اختفى.

لا يتذكّر الشهود سوى شبح شخص بوجهه «الأسمر»، وعلى عاتق سكوتلاند يارد (مقر قيادة شرطة إنجلترا) يقع واجب العثور على «الإلهة المجنحة»؛ شرف التّاج و سُمعة رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) البريطاني السير «ستانلي روز» قد صارا على المحك، وقبل أن يعلم العَالَم بسرقة الكأس الذهبية، طلبَ السكرتير العام للاتحاد الإنجليزي لكرة القدم (FA) «دونيس فلاوز Denis Follows»، خفية إلى صائغ ذهب إعداد نسخة من الكأس في حالة ما إذا…

وبسرعة تلقّى رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم جو ميرز اتصالاً من شخص قال إن اسمه جاكسون؛ حيث قد طلب هذا الغريب فديةً قدرها 1500 جنيه، وإلَّا صَهَر «هذه الخردة» المصنوعة من الفضة الخالصة والمطلية بالذهب، أياماً قليلة بعد ذلك تمَّ إيقاف هذا المُسمَّى جاكسون ليتم اكتشاف هويته الحقيقية: يتعلّق الأمر بجندي سابق، اسمه إدوارد بيتشلي، يبلغ من العمر 46 سنة.

لكن الكأس ظلّت مفقودة؛ وفي 27 مارس/آذار، كان كلب بشعر يجمع لونُهُ بين الأبيض والأسود يمشِّط بأنفه أرضية حديقة بيولا هيل التي تقع بضواحي لندن، صاحبه دافيد كوربيت البالغ من العمر 26 سنة، يقترب منبهراً ليجد حزمة ملفوفة، وبداخلها كأس نُقِشَ عليها: «البرازيل 1962»…

صار الكلب بيكلز بطلاً وطنياً بأربع قوائم، فهو مَنْ أنقذ بطولة كأس العَالَم وأنقذ كوربيت أيضاً، هذا البَحّار الأعزب الذي تلقّى 3000 جنيه إسترليني مكافأةً له، وعند نهاية كأس العَالَم، ستتم حتَّى دعوة كلب الرعي مع صاحبه إلى مائدة الاحتفال بفوز إنجلترا.

لكن السر بقي خفياً: مَنْ سرق الكأس؟ يقول إدوارد بيتشيلي إنه مجرّد وسيط، حُكِمَ عليه بالسجن عامين لتوافيه المنيَّة بعدها سنة 1969 دون أن يكشف اسم مَنْ كان يقف وراءه ويموِّلُهُ، ماذا لو كان هو دافيد كوربيت وكلبه؟ هناك مَنْ يعتقد بصحة ذلك. واليوم يتمُّ عرض قلادة الكلب بيكلز في المتحف الوطني لكرة القدم بمانشستر.

«1966» هل هو هدف أم لا؟

لطالما كانت المُبالغة في الكبرياء والعجرفة هي شيمة إنجلترا في علاقتها بالمُونديال أو بطولة كأس العَالَم، لقد ازدرت الطبعات الثلاث الأولى من البطولة، إذ ما الداعي لأن يجتمع رعايا جلالة الملكة، وهُم مَنْ ابتكروا هذه اللُّعبة، مع الآخرين داخل منافسة سُوقيَّة؟ وبعد الحرب العَالَمية الثانية حصل الحدث أخيراً؛ فكان أن شرَّفَ الأسود الثلاثة عُشْبَ أرضية الملاعب في بطولة كأس العَالَم، لكن ما تأكَّدَ هو أن كرة القدم لا وجود فيها للولاء: ذلك أن «سادة كرة القدم ومعلميها» لم يكونوا في المُستوى المطلوب، حيث خرجت إنجلترا من الدور الأول سنة 1950 و 1958، أما سنة 1954 وسنة 1962 فكانت مغادرتها في ربع النهاية.

كان السؤال الذي فرض نفسه على الإنجليز هو كيف نسترجع لقب ملوك العَالَم؟ سنة 1963 قدَّم رمسي Alf Ramsey، الناخب الجديد الذي نجا من الغرق البرازيلي سنة 1950 وعداً بـ«فوز إنجلترا بكأس العَالَم»، وهو تنبؤ خطير، خاصة وأن المُونديال سيتمُّ تنظيمه على الأراضي البريطانية القديمة.

طيلة الدورة، بقيادة الأخوين شارلتون المجنونين (بوبي وجاك)، والعميد الأسطوري بوبي مور انتقل الإنجليز من انتصارٍ إلى آخر، ولم يتلقوا أي هدف في مرماهم باستثناء هدف واحد، بل أكثر من ذلك جعلوا البرتغالي أوسيبيو يذرف الدموع، قبل بُلُوغِهم المُباراة النهائية.

في يوم الثلاثين من يوليو/تموز بمدينة ويمبلي وأمام الملكة إليزابيث الثانية و(96924) من المُشجِّعين واجه فتية البلد منتخب جمهورية ألمانيا الاتحادية (RFA) ومعجزة شابة اسمها بكنباور، كانت مباراة تمَّ فيها تضييق الخناق، فقد لعب الإنجليز بخطة (4 – -3 3) دون أجنحة تسهِّل عمليات التراجع والدفاع أو عمليات التقدُّم الهجومية. قادوا حملات هجومية، لكن في الدقيقة النهائية من اللقاء عَادَل ولفغانغ فيبر النتيجةَ (2-2). بهدف تمَّ التشكيك في مشروعيته؟ نعم، الحَكم السويسري أقرَّ ضربة خطأ مشكوكاً فيها، وسجَّل فيبر الهدف بعد أن لمس كارل هينز شنيلينجر الكرة باليد، لكن الإنجليز لم يتوانوا ولم يتراجعوا.

وعند الدقيقة المئة راوغ جيوفري هيرست ضارباً الكرة بقوة لتصطدم بالعارضة العليا معاوِدةً السقوط قرب خط المرمى والنَّط إلى الأعلى قبل أن يقوم أحد اللاعبين الألمان بإخراجها إلى الزاوية. هدف! هدف مثار شك ونزاع؟ هنا أيضاً، سيحتجّ منتخب جمهورية ألمانيا الاتحادية، يتردَّد الحكم وقبل إصدار حُكمه يذهب للتشاور مع مساعده السوفياتي توفيق باخراموف، وتفصيلة الجنسية لها أهميتها في الفترة التي كانت فيها ألمانيا منقمسة إلى دولتين!، ودون أنْ يتردَّد، يُقسِم على المنجل والمطرقة أن الجلد البرتقالي تجاوز الخط، لتصبح إنجلترا متقدِّمة بـ(3) أهداف مقابل هدفين، ويعمِّق هيرست جراح ألمانيا الغربية أكثر حين إضافتِه هدفاً آخر في وقتٍ متأخر من المُباراة، وهو الهدف الثالث له والأول في النهائي، هل كان هدفاً منازَعاً فيه؟ نعم كالعادة ذاك هو الحاصل دائماً؛ ففي نفس اللحظة التي تمَّ فيها قذف الكرة ركضت الجماهير إلى عُشب الملعب، وهو أمرٌ لا يمكن حتى التفكير فيه!

هل هو هدفٌ أم لا؟ منذ نصف قرن ونحن نتساءل عمّا إذا كانت الكرة قد تجاوزت خط المرمى أم لا، وهو ما يستحيل معرفته على الرغم من تكرار عمليات التحريك البطيء للصورة.

هكذا تكون قد تحقَّقت نبوءة ألف رمسي Alf Ramsey ، فإنجلترا قد صارت بالفعل بطلة العَالَم، ومنذ ذلك الوقت لم يتحقَّق ذلك مرّةً ثانية، وتمَّ توشيح الناخب الوطني بوسام من درجة فارس، فهل انتهت القصة هنا؟ كلا، فالرئيس السابق للفيفا البرازيلي جواو هافيلانج João Havelange صرَّح سنة 2008، بأن كأس العَالَم برسم سنة 1966 قد تمَّ التّلاعب فيها من أجل تسهيل فوز إنجلترا؛ «ثلاثةُ حكام وستُّ مساعدين أداروا مباريات البرازيل ضد البرتغال وهنغاريا وبلغاريا، سبعةُ حكام من بينهم كانوا إنجليزيين، واثنان كانا ألمانيَيْن، والفكرة كانت ببساطة هي إقصاء البرازيل كما يشرح هافيلانج، ومَنْ كان يتولّى رئاسة الفيفا عندها هو الإنجليزي السير ستانلي روز».

ترجمة: يحيى بوافي

هوامش:

1- «Création de la FIFA» ; MUSTAPHA KESSOUS, Les 100 histoires de la coupe du monde de football, «que sais-je ?», PRESSES UNIVERSITAIRES DE France, 2014, P.8.

2- «Naissance de la Coupe du monde» ; MUSTAPHA KESSOUS, Les 100 histoires de la coupe du monde de football, «que sais-je ?», PRESSES UNIVERSITAIRES DE France, 2014, P.10.

3- «1938 – Naissance du «futebol»; MUSTAPHA KESSOUS, Les 100 histoires de la coupe du monde de football, «que sais-je ?», PRESSES UNIVERSITAIRES DE France, 2014, P.23.

4- «1966 – Une Coupe qui a du chien», ibid, p.47.

5 – جول ريميه  واسمه الكامل (Jules Ernest Séraphin Valentin Rimet)، الفرنسي الذي ترأَّس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بين 1921 و 1954.

6- «1966 – But or not but ?»,ibid, p-p 52-53.

بعضُ الأقوال حول كرة القدم

“تؤكِّدُ لنا كرة القدم أن تطوُّر كل لاعب وازدهاره الشخصي يجد عموماً شروطَهُ الأولى في التّطوُّر والنماء بصورةٍ جماعية، وليس بداخل صراع الأنوات وأشكال الاعتداد بالنفس، وفضلاً عن ذلك، هل كان بإمكان كل من «إينستا Iniesta» و«غزافيي Xavi» أن يصيرا ما هما عليه لو كان داخل فريق «أنتر» الذي دربه «هلينيو هيريرا Helenio Herrera» (لنفكِّر هنا في مسيرة هذا اللاعب العبقري جان مارك غيلو، والتي تمَّ إفشالها جزئياً؟ لكن بمجرَّد ما تُخْلي هذه القيم الأساسية المكان لهوْسِ «ألّا نخسر المباراة» (والنظام البوسماني بأكمله يدفع في هذا الاتجاه)، اتضح أن كرة القدم لا يمكنها إلّا أن تغير طبيعتها إلى حد تصير فيه مدرسة ممتازة لـ«النزعة الأنانية» النيوليبرالية، والعديد من اللاعبين، لاسيما من الأجيال الجديدة، يقدِّمون عنها نموذجاً محزناً فعلاً…”

ما هي كرة القدم من وجهة نظرك؟ ما ماهيتها؟ هل هي نشاطٌ رياضي؟ أم هي واقعةٌ اجتماعية؟ هل هي فنٌ؟ أم هي صناعة؟

– جون كلود ميشيا: من الواضح أن كرة القدم هي كل هذا في الوقت نفسه! إنها أوّلاً وقبل كل شيء رياضة، وُلِدَت، بهذا التصوُّر، من رغبة زملاء النخبة البريطانية إبّان القرن التاسع عشر في تكييف ممارسة اللعبة القديمة (القديمة قِدم البشرية) مع الروح العقلانية والمُساواتية للحداثة الصناعية، مع بذلهم مجهودات بالتزامن مع ذلك لأجل المُحافظة على بُعد المجانية المُكوِّن لها، وعلى تلك الأخلاق الخاصة باللعب الحُر (cette éthique du fair-play) التي كانت في الأصل وثيقةَ الصلة بالقيم الأرستقراطية. ويمكن القول بأن الأمر يتعلَّق بـ«فن» من حيثُ إنّ كرة القدم عملت باستمرار على تعبئة وتحريك الجدل بين العبقرية الخلَّاقة والمُبدعة، و بين القاعدة (تحفظ لنا الذاكرة الجماعية في متحف مخيالها بذكرى «آثار» هذا الفن الأكثر بروزاً ولفتاً للانتباه، سواء تعلَّق الأمر على سبيل المثال، بحركة بيليه المُدهشة التي لا تصدَّق أمام «مازوركيفيتش – Mazurkiewicz» في نصف نهائي كأس العَالَم سنة 1970، أو مباراة هنغاريا والأروغواي في مونديال 1954، لكن من المُؤكَّد أيضاً أن كرة القدم صارت صناعة أيضاً، وهو ما لم يتحقق إلّا بفضل الرساميل التي صارت تتدخل فيها، والأرباح التي تمَّ جنيُها منها. وهي في الأخير واقعة اجتماعية، بالمعنى الذي تبدو فيه هذه الرياضة إحدى المرايا الأساسية التي تنعكس عليها جميع تناقضات المُجتمع اللّيبرالي الحديث، صالحها وطالحها.

ألا تمثّلُ كرة القدم في نهاية المطاف قمة الليبرالية؟

– عكس الحضارات السابقة، نجد أن النظام الرأسمالي تحرِّكُهُ وتنشِّطُهُ دينامية ثورية -هي تلك الخاصة بالمُراكمة المُستمرة والمُتواصلة للرأسمال- دفَعتْه إلى أن يُخْضِعَ تدريجياً جميع مناطق العَالَم، وكل مجالات ودوائر النشاط الإنساني لقوانينه، بيد أنَّه فعل ذلك دائماً وفقاً لكيفيتين تتميَّز إحداهُما عن الأخرى، وهو أمرٌ غالباً ما تتناساه الانتقادات الطُّهرانية الجديدة، لـ«الأيديولوجيا الرياضية». فهو من جهةٍ يعمد إلى أن يخلق من عدم ممارساتٍ مُعاكِسةً لروحه تماماً (نذكر على سبيل المثال تليفزيون الواقع، ألعاب الفيديو أو المُوسيقى الصناعية)، ومن جهةٍ أخرى، سعْيُه الدؤوب لاسترداد كل المُمارسات والتقاليد لصالحه والالتفاف عليها، وهي المُمارسات والتقاليد التي غالباً ما تكون من أصلٍ شعبي، ومنفلتة على الخصوص من منطقه القائم على الحساب، وهو ما نراه بوضوح على سبيل المثال، مع تلك «الدلالة» التقدُّمية للأحياء الشعبية القديمة التي تميِّز المُدن الغربية الكبرى. ولعبة كرة القدم تكشف بوضوح عن الحالة الثانية وتنمُّ عنها، بحيث توجد دائماً في المُمارسة التي يحدِّدها ويميِّزها عدد من العناصر المجانية التي لا تتلاءم ضرورةً وإنْ حصل ذلك فبصورةٍ سيّئة مع المنطق «النيوليبرالي»، لذلك لا يمكننا القول بأنها تمثِّلُ «تتويجاً وأوجاً لتسليع المُجتمع»، حتى و لو كان منطق السوق قد ألحق ضرراً فعلياً بماهيتها. فمن الواضح جداً وجود اختلاف كبير دائماً بين شعبية نبيلة(2)»، المعروفة على الخصوص بصيتها وشهرتها، وبين شعبية ليونيل ميسي ويوهان كرويف وإريك كانتونا.

هل جسَّدت كرة القدم دائماً الرياضة الشعبية بامتياز؟

– طيلة القرن العشرين كانت كرة القدم، إلى جانب ملحمة طواف فرنسا، رياضة شعبية بشكلٍ أساسي، سواء بالنظر إلى الأصل الاجتماعي لمُمارسيها أو معجبيها، فقد كانت كما سبق للمُؤرِّخ «إريك هوبسباوم Éric Hobsbawm» أنْ كتب «ديانة البروليتاريا»، من هنا ازدرائها لمدةٍ طويلة من قِبل الأنتلجنسيا (لاسيما في فرنسا)، لكن اتضح أن خضُوعها المُتزايد للمنطق الليبرالي -الذي يشكّل «قانون بوسمان»(3) المرحلة الحاسمة فيه- في طور تغيير هذا المُعطى؛ في بداية الحياة الاحترافية للاعب لا يكون ممكناً قانونياً أن يكسب أكثر من ضعف أجرة عامل مؤهَّل. أما اليوم فمن الجلي أن نجوم هذه الرياضة صاروا جزءاً من عالَم التميُّز والحظوة.

هل هي بحق «مملكة الولاء والإخلاص الإنساني الذي يمارَس في الهواء الطلق»؟

– كان ذلك هو تعريف غرامشي لها، لكن منذ أن عمل منطق السوق على تشويه طبيعة اللعبة ذاتها، صارت مطابقة هذا التعريف للواقع أقلّ، وتراجعت شيئاً فشيئاً، (لنفكِّر في استعمال اليد من قِبل تييري هنري، ومن طرف ديغو مارادونا)، فضلاً عن أن بعض اللاعبين ما هم إلَّا مرتزقة (مسيرة باولو مالديني أو ريان جيجز لم تعد حتَّى ممكنة التصوُّر اليوم)، كما أن ضرورة الفوز وتحقيق الانتصار بأي ثمن صارا يظهران بدرجة كبيرة غير متوافقة مع اللّعب النظيف الذي كان الأصلَ في الروح الرياضية.

عندما استحضر«جورج أورويل» كرة القدم في نصِّه «الروح الرياضية» وصفَها بعباراتٍ قاسيّة نوعاً ما («ينبوع عداوة لا ينضب» و«النسخة المشوهة أو سيمولاكر الحرب»، «لطالَمَا كنتُ مندهشاً من سماع أشخاص يُعلنون أن الريَّاضة تشجِّع الصداقة بين الشعوب»، «نلعب من أجل الفوز، واللعب لا يعود له معنى يُذكر إذا لم يبذل المرءُ كل ما في طاقته من أجل الفوز به»). ما الذي توحي لك به هذه العبارات لـ«جورج أورويل»؟

– ما من شكٍّ في أن «أورويل» على هذا الصعيد كانت تفصله مسافاتٌ هائلة عن كامو وباسوليني! بعد هذا، أقول بأننا ننسى، بصورةٍ دائمة تقريباً، التأكيد على أن هذا النص تمَّت كتابته سنة 1945، أثناء الدوري الإنجليزي لدينامو موسكو (فريق الخدمات الأمنية لستالين!)، وهو الدوري الذي وضع النظام السوفياتي تصوره صراحةً من أجل الدعاية والتّلاعب بالرأي العام الإنجليزي، هو ما تمرَّد ضده جورج أورويل بوضوح، غير أن نظرته إلى الرياضة كانت في الواقع أكثر تعقيداً من ذلك (وهو ما تحتاط الأيديولوجيا الرياضية من التذكير به)، هكذا عندما بحثَ عن عرض وإيضاح فكرة أن «هناك أموراً لا يجب الامتناع عن إتيانها») -وذاك هو مبدأ للآداب العامة- غالباً ما تبادر إلى ذهنه فوراً مثال الرياضة (لا سيما الكريكت). وعندما عمل على وصف الإطار اليومي الحقيقي للثقافة الشعبية الإنجليزية، لم يعوزه التحديد الدقيق لـ«النادي ولمُباراة كرة القدم، الحديقة الخلفية التي توجد خلف المنزل، الركن الذي توجد فيه المدفأة وكوب الشاي الدافئ». ومن البديهي أن تكون كل الأشياء مستهجنة تماماً بنظر المُثقف الناشئ.

هل صار اللاعبون اليوم «أقنومات العَالَم الحديث المُقدَّسة»؟

– تماماً على غرار مارادونا، ورولين ستونز وليدي غاغا! من المُؤكَّد أن التصنيم ليس بالأمر الجيد أبداً، لكن لماذا تكون علاقة مُعجب متحمِّس ببيليه أو ديستيفانو أكثر «طفولية وصبيانية» من تلك العلاقة التي تربط قارئاً لجريدة «ليبراسيون» بـ«جوي ستار Joey Starr»، و«إيمريك كارون Aymeric Caron» أو «ستيف جوبز Steve Jobs»؟

ما الذي تدركه حين تعاين شخصيات مثل إبراهيموفيتش أو رونالدو: هل هم موهوبون أم فنّانون؟ أم أنهم على العكس منتجات خالصة للمُجتمعات الليبرالية؟

– توجد ثلاثة أشياء -كما سبق للفلاسفة القدماء أن قالوا- تميل إلى فصل الإنسان عن عين ذاته، وعن أمثاله وأشباهه وعن الواقع العادي هي: السلطة والمال والمجد (وكما نقول اليوم «الشهرة»)، وانطلاقاً من اللحظة التي ولج فيها نجوم كرة القدم عالَم أصحاب الامتيازات المحظوظين، فمن العادي جداً أن تتطوَّر عندهم كل الباثولوجيات الأخلاقية والسيكولوجية، بعد هذا أجد أن المثالين اللَّذين قدَّمتهما لم يتم اختيارهما بشكلٍ جيد، لأن وضعهم الممتاز والمُتميِّز اجتماعياً ليس له لحد الآن أي تأثير على العبقرية الخلَّاقة والمُبدعة لهؤلاء اللاعبين (على العكس من ذلك هؤلاء المُؤلِّفين الذين لهم كتب أكثر مبيعاً بكثير، قد صاروا أغنياء ومشهورين، لم يتمكنوا من إنتاج شيء اللَّهم ما كان من إعادة تدوير تلك الوصفات التي ضمنت وأمّنت لهم نجاحهم الأول)، وبالمُقابل، أنا قلق جداً لأجل الأجيال الجديدة من لاعبي كرة القدم الذين لهم أجور إعجازية بملايين الدولارات، بينما لا زالوا لم يثبتوا بعد شيئاً، مما يجعل تلك الأجور منطوية على خطر أن تكبح في الوقت نفسه مميزاتهم كلاعبين وفضائلهم الإنسانية.

أليسوا نتاجاً لنوع من النزعة الليبرالية التحرُّرية التي انحدرت من مايو/أيار 1968؟

– إنهم أولاً وقبل كل شيء نتيجة قانون أو نظام بوسمان! (l’arrêt Bosman) بوصفه قراراً تمّ فرضه سنة 1995 من قِبل «محكمة العدل الأوروبية» الشهيرة جداً على الكيانات التي تتولى تدبير وإدارة كرة القدم، وهو ما جرى تحت تصفيقات أحزاب اليسار.

هل تكون كرة القدم قد صارت إحدى تجارب مجتمعنا بوصفه مجتمع التسلية والفرجة؟

– في مجال الطّب يشير السواغ إلى مادة نقوم بإضافتها إلى العنصر النَّشِط لدواء من الأدوية من أجل تحلية حبات الدواء والمُساعدة على تناولها، لذلك تبقى صيغتك ملائمة ومناسبة على نحوٍ خاص، فمن اليقيني أنَّ الصناعة الرياضية الحديثة، لاسيما تلك الخاصة بكرة القدم، تُمثّل بنظر الطبقة المُهيمنة عنصراً حاسماً وهذه القوة الناعمة (soft power) أو هذا التحكم والضبط المُتوفر لزمن الدماغ إنما هو موجَّهٌ إلى تمرير الجُرعة الليبرالية المرة، ونفس الأمر تضطلع به صناعة الموضة والعَالَم الرقمي ميدان المُوسيقى العالمية وحفلاتها الضخمة، مع وجود هذا الاختلاف الجدير بالإشارة والمُتمثّل في استحالة ممارسة نظرة نقدية تقريباً، ولو في حدودها الدنيا، تجاه دينامية الرأسمالية، من خلال اتخاذ موقع داخل عالَم الموضة مثلاً – لأن هذا العَالَم لا يمثِّل إلّا تعليقاً شاعرياً على هذه الدينامية غير الإنسانية، بينما عالَم كرة القدم لازال يقدِّم عدداً من زاويا النظر غير الرأسمالية إلى الحياة.

كتبتم أن الهدف لم يعد من الآن فصاعداً «بناءً من أجل الفوز، بل هو الهدْمُ حتى يتم تجنُّب الخسارة». وشيئاً فشيئاً صارت الفِرق تختار كرة قدم طموحة ودفاعية (برشلونة، بايرن، دورتموند، أرسنال)، فهل كرة القدم في طور التغيُّر؟ وهل كرة القدم السلبية لـ«هيريرا» في طور الاستئصال؟

– أنتم تصفون هنا واجهة العرض الحديثة الخاصة بكرة القدم، وبتعبير آخر، أنتم تصفون مجموعة 14، التي تضم في الوقت الحاضر الأندية الأكثر غنى في العَالَم، كتلك الأندية التي تضم بالتعريف، أفضل اللاعبين في العَالَم (جزئياً، لأنهم يمتلكون الوسائل المالية لبناء مراكز تكوين للأندية الأخرى)، وبالتالي فليس من المُدهش في شيء أن يحرصوا على تأمين الحد الأدنى من هذه الفرجة الضروري لتحقيق «عائد للاستثمار».

لكن بمجرَّد ما نترك هذا العَالَم المُتلألئ والبرَّاق، كي نجد، على سبيل المثال، عالَم البطولة الأولى (la Ligue 1)، سنرى أن كرة القدم لعبة مملة ودفاعية، وفقيرة جداً من الناحية التقنية، وتنحو، على العكس من ذلك، إلى أن تصير معياراً. وبكلمةٍ واحدة نقول بأن قرار بوسمان قاد منطقياً إلى خلق لعبة قدم تسير بسرعتين حتى أنني أخشى أن يأتي علينا حينٌ من الدّهر يتمُّ فيه تنظيم بطولة للأندية الأوروبية تكون وقْفاً على الأندية المرموقة فقط، تلك الأندية التي تحتكر القسم الأساسي من الدعم المالي والإعلامي، بينما ستكون الأندية الأخرى حبيسة الصناديق الفقيرة للبطولات المحلية، والتي ستكون فائدتها الرياضية بالضرورة ضعيفة جداً، بهذا تكون لعبة كرة القدم قد كَفَّت عن أن تكون لعبة شعبية، بالمعنى الأول للفظ، كي تصير مجرَّد بديل للكرة الدوارة، بخلفية من المُصفقين والفواصل الإعلانية التي لا تفتر.

وفيما يتعلَّق باللعبة في ذاتها، ما هو تعريفك لـ«الجميل» في مجال كرة القدم؟

– سأحتمي هنا خلف مُدَرِّبيْن اثنين أكِنُّ لهما تقديراً كبيراً، فمع «جوسيلين غورفينيك Jocelyn Gourvennec»، أقول إنّ «التمريرة علاقة بين اللاعبين، وهي الأمر الأكثر أهمية» (ويضيف غورفينيك على نحوٍ منطقي بأنه يستحيل أن يقبل ولو لاعباً واحداً يحتقر التمريرة ويقلِّل من شأنها». ومن جهتي، أقول، بخصوص الروح الجماعية للعب، مع «كريستيان غوركوف» إن الانتصار لا يمثّل هدفاً للعب بقدر ما يُمثّل نتيجته الطبيعية، إنها صياغة تنمُّ عن الذكاء يثير الإعجاب، وهي تعني أن الاختصاص الأول لكرة القدم الفرجوية، وبالتالي الهجومية، والتي يتمُّ بناء لعبها بصورة جماعية، هو متعةُ لعِب الواحد من أجل الآخر على قاعدة فلسفة مشتركة ومتقاسمة، فتمرير الكرة يمثّل الأساس الطبيعي لهذه المُتعة؛ تلك هي كرة القدم التي مارسها ولعبها -على سبيل المثال- فريق برشلونة الذي كان يدربه غوارديولا، أو الفريق الكبير لهنغاريا في الخمسينيات من القرن العشرين، (وفضلاً عن ذلك لا يتردَّد «غوستاف سيبيس Gusztàv Sebes» و«بيل شانكلي Bill Shankly» في الحديث «عن كرة قدم اشتراكية»!)، وهو ما يعني بصورةٍ طبيعية معرفة كيفية تنويع أنظمة اللعب المُجسِّدة لهذه الفلسفة الدفاعية -حتى أثناء المُباراة- بدلالة المُشكلات المطروحة من طرف الفريق الخصم (وتلك هي القوة الكبرى لـ«جوزي مورينو»، في إطار فلسفة لعب مختلفة هي للأسف الشديد فلسفة مختلفة جداً)، لكن يبدو أن مَنْ جاءوا بعد غوارديولا لازالوا لم يفهموا ذلك بعد، مما يعود، دون شك، إلى غياب امتلاك إبداعية فلسفية تكون معادلة ومكافئة لتلك التي يتمتع بها هو.

تعمل كرة القدم على جعل الأفراد ينخرطون داخل مصير جماعي يلتزمون به، وفي أيامنا هذه، في الوقت الذي نجد فيه الليبرالية أحرزت المعركة الأيديولوجية، ألّا تكون كرة القدم مجرَّد سلاح في يدها، أم يمكن اعتبارها، من حيث هي بناءٌ جماعي، بمثابة عنصر لـ«مقاومة نمو منطق السّوق والعمل على كبحه»؟

– إنّ كرة القدم، كما سبق لي القول، عندما يتمُّ وضعها تحت علامة «اللعب الجميل»، تكون منطويّة على عدد من العناصر التي لا تتوافقُ مع منطق السوق، إذ من حيثُ هي رياضة، تتأسس أولاً وقبل شيء على ما أسماه «غاليانو Galeano» بـ«متعة اللعب لأجل اللعب»، مما يتعارض بصورةٍ واضحة مع التايلورية التي تُوجِبُ على كل حركة بشرية أن تكون «ذات مردودية وعائد» بشكلٍ فوري ومبرمجة تقنياً (ماذا كان سيكون ظنُّ تايلور بكل من «غارينشا Garrincha» أو «كوبا Kopa»)؟ وبوصفها رياضةً جماعية، تؤكِّدُ لنا كرة القدم أن تطوُّر كل لاعب وازدهاره الشخصي يجد عموماً شروطَهُ الأولى في التّطوُّر والنماء بصورةٍ جماعية، وليس بداخل صراع الأنوات وأشكال الاعتداد بالنفس، وفضلاً عن ذلك، هل كان بإمكان كل من «إينستا Iniesta» و«غزافيي Xavi» أن يصيرا ما هما عليه لو كان داخل فريق «أنتر» الذي دربه «هلينيو هيريرا Helenio Herrera» (لنفكِّر هنا في مسيرة هذا اللاعب العبقري جان مارك غيلو، والتي تمَّ إفشالها جزئياً؟ لكن بمجرَّد ما تُخْلي هذه القيم الأساسية المكان لهوْسِ «ألّا نخسر المباراة» (والنظام البوسماني بأكمله يدفع في هذا الاتجاه)، اتضح أن كرة القدم لا يمكنها إلّا أن تغير طبيعتها إلى حد تصير فيه مدرسة ممتازة لـ«النزعة الأنانية» النيوليبرالية، والعديد من اللاعبين، لاسيما من الأجيال الجديدة، يقدِّمون عنها نموذجاً محزناً فعلاً.

 

هوامش:

1- Jean-Claude Michéa, QUELQUES PROPOS SUR LE FOOTBALL , La Découverte | «Revue du MAUSS» 2015/2 n° 46 | pages 41 à 49

أُجْري هذا الحوار مع الفيلسوف جون كلود ميشيا من طرف مجلة «FootMondial» (كرة القدم العَالَمية)»، في مايو/أيار سنة 2014، لكن المجلة سرعان ما توقّفت قبل أن يتمَّ نشر نص الحوار، لذلك أعاد الكاتب نشره بمجلة «موس»:

https://www.cairn.info/revue-du-mauss-2015-2-page-41.htm

2 – في إشارة إلى نجمة تليفزيون الواقع نبيلة بيناتيا…

3 – عرف القانون باسم اللاعب جان مارك بوسمان، الذي رفع على نادي لييج البلجيكي قضية، لمنعه من الانتقال إلى نادٍ كروي آخر بعد انقضاء مدة عقده معه، وقد أسفرت هذه القضية التي امتد التقاضي فيها خمس سنوات، إلى هذا القانون الذي غيَّر عالَم اللعبة، مجيزاً انتقال اللاعبين المُنتهية عقودهم بشكلٍ حُر ودون موافقة النادي، وكذلك حرّية انتقال اللاعب الأوروبي داخل نطاق دول الاتحاد الأوروبي واعتباره كلاعب محلي.

عولمة كرة القدم تعزِّز الانفتاح

للوهلة الأولى، يعتبر كأس العَالَم لكرة القدم حدثاً رياضياً كبيراً. للوهلة الثانية، وراء كل مباراة، هناك أيضاً جانب اقتصادي وثقافي وسياسي على المحك، يوضّح باسكال بونيفاس في كتابه «كرة القدم والعولمة». كرة القدم هي بؤرة العولمة وتناقضاتها. وعندما يتعلَّق الأمر بكرة القدم، وفي اليوم الذي ينطلق فيه كأس العَالَم، سيصبح الكاتِب بدوره مشجّعاً مثل أي شخصٍ آخر، بنفس القدر من الحماسة، وحتى الشوفينية. والكُتَّاب عبارة عن نداء منعش لهذه الرياضة وقراءة متعمِّقة لتطوُّرات الكوكب، في مرآة الملاعب غير المُحتمَلة، ولكن الكاشفة: العَالَم هو كرة القدم!

ساندرين تولوتي: أنت تحلل بحماس غزو كرة القدم للكوكب منذ نهاية القرن التاسع عشر. كيف يمكن أن ننظر بإعجاب لظاهرة هي أيضاً ثمرة الهيمنة الغربية على العَالَم؟

–  باسكال بونيفاس: كرة القدم إمبراطورية، ويا لها من إمبراطورية! لا توجد ظاهرة عالمية تشبهها اليوم. بعد البحّارة والتّجار والصناعيين الإنجليز والجنود والمُستوطنين، جاءت كرة القدم وأسرت العَالَم. وانتشرت بعد أن هاجر الشباب من عدّة مجتمعات في الكوكب للدراسة في كليات جلالة الملك، ثمَّ عادوا إلى بلدانهم وكلهم شغف بكرة القدم ورغبة في ركلها… ثمَّ أكملت الإذاعة والتليفزيون هذا الغزو. إمبراطورية كرة القدم الآن تهيمن على العَالَم بأسره، حتى في البلدان غير المُتوقّعة مثل نيبال أو بوتان أو جزيرة مونتسيرات الصغيرة في جزر الهند الغربية. لكن هذه الإمبراطورية لم تُبن أبداً تحت الإكراه. لقد استولت على العقول والقلوب بسلاسة شديدة. في الحقيقة، إن العقول والقلوب هي التي تبنّت هذه اللعبة. وإذا كنا نتحدَّث عن القوة بشكلٍ مطلق، فإننا نتحدَّث عن «القوة الناعمة»، باستخدام مصطلحات عالم السياسة الأميركي «جوزيف ناي».

إنها بالتأكيد ليست مسألة غزو عسكري، لكن كرة القدم مع ذلك جسّدت شكلاً من أشكال الهيمنة الثقافية الغربية. حتى أنك تذكر كيف منع الاتحاد الأرجنتيني التحدُّث بالإسبانية…

– الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم، الذي تأسّس عام 1893، بدعوة من أستاذ من أصل إنجليزي، تبنّى جميع القواعد، بما في ذلك تلك الأكثر التزاماً بالروح البريطانية: أحد الأدلة الأولى لكرة القدم -على سبيل المثال- أشار إلى أن «اللاعب المُتضرِّر يمكنه قبول أعذار مَنْ اعتدى عليه شرط أن تكون صادقة وصياغتها باللّغة الإنجليزية السليمة»، ولا يسمح الاتحاد الأرجنتيني بالتحدُّث باللّغة الإسبانية خلال اجتماعات قادته. كان ذلك نتيجة لنخبوية الرياضة التي تبنّتها الطبقات الاجتماعية العليا، الحريصة على التقليد فيما يتعلّق بالحداثة التي تجسّدها أوروبا. لكن من الواضح أن هذه المرحلة النخبوية لعولمة كرة القدم لم تدم طويلاً.

في الحقيقة، وعلى غرار بقية الظواهر الثقافية، اكتسبت كرة القدم طابعها العالمي نتيجة للتطوير الذاتي عقب انتشارها في العديد من الشعوب والحضارات، مما أكسبها بمرور الوقت معنى مناسباً لاحتياجاتهم. على هذا النحو، فهي مرآة لتطوُّر المجتمعات، أكثر من كونها عنصراً دافعاً لها. منذ عام 2000، تنازلت لعبة البيسبول عن مكانتها كرياضة وطنية رائدة في اليابان إلى كرة القدم، بالنسبة لجمهور التليفزيون. وفقاً لعالِم أنثروبولوجيا ياباني، فإنّ هذه الظاهرة لها علاقة كبيرة بتنامي مذهب المُتعة في المُجتمع: بدلاً من الجهد المُستمر المطلوب للبيسبول، يفضّل اليابانيون اليوم كرة القدم المُباشرة.

تؤكِّد على الطبيعة السلمية لإمبراطورية كرة القدم. لكن لكل شيء جانب سيئ: غالباً ما تصبح الميادين مكاناً للتعبير عن المشاعر القومية الأكثر عنفاً…

– أنا عاشق صريح ولست أعمى. ترتبط كرة القدم بعلاقة متناقضة للغاية مع الهويّة الوطنية. وكيف يمكن أن تكون خلاف ذلك؟ لقد تطوَّرت في نفس الوقت الذي تمَّ فيه إنشاء وتوحيد الدول القومية في أوروبا. منذ البداية، تمَّ تكليف هذه اللعبة -والرياضة بشكلٍ عام- بمهمَّة ترسيخ الهويّة الوطنية. من خلال التكاتف معاً لدعم «فريقهم»، يعبِّر المُؤيدون بسهولة عن شعور مشترك بالانتماء. في الدول التي تمَّ تشكيلها بالفعل، سواء كانت حديثة أو قديمة، فإنّ المُباراة هي المُناسبة المُباركة لإعادة تأكيد الشعور الوطني.

بالنسبة للشعوب التي تطمح إلى نيل الاستقلال، فهذا شرط أساسي. غالباً ما يسبق المنتخب الوطني لكرة القدم تأسيس الدولة: كان هذا هو الحال بالنسبة لفريق جبهة التحرير الوطني الذي دافع من 1958 إلى 1961 عن ألوان الجزائر. ويشهد على ذلك وجود الفريق الفلسطيني المُنتسب إلى (الفيفا) منذ عام 1998. إلّا إذا اعتبرنا الشعور القومي في حدِّ ذاته خطأ، فلا يوجد شيء سيئ في هذا الأمر. كل ذلك يتوقف على العنف الذي يصاحب عملية الاستقلال، ولا علاقة له بالرياضة. يزعجني منظّرو المَجَرّة «المناهضة لكرة القدم»، الذين يلعنون الرياضة بأساليب لا علاقة لها بالأمانة الفكرية، على سبيل المثال، عالِم الاجتماع «جان ماري بروم» الذي وصفها بـ«الطاعون العاطفي».

كرة القدم لا تستحق هذه الإهانة المُبالغ فيها. هذا ما تصنعه الشركات ورجال الأعمال السياسيون. إنه ،على سبيل المثال، مؤشّر ممتاز لتفكّك الدول. ظهرت الشروخ الأولى في الاتحاد اليوغوسلافي خلال مباراة بين دينامو زغرب وريد ستار بلغراد في مارس/أذار 1990: أدّت الاشتباكات بين مشجعي الفريقين إلى إصابة أكثر من 60 شخصاً بجروح خطيرة. وبالمثل، فإنّ المُباريات بين سلوفان براتيسلافا المدعومة من السلوفاك وسبارتا براغ، رمز الهويّة التشيكية، أدت إلى تبادلات نشطة بين المُشجِّعين. في الحالة الثانية انتهى الأمر بـ«الطلاق المخملي». وفي الحالة الأخرى، كانت المجزرة. دون أن يكون لكرة القدم أي علاقة بذلك.

من وجهة نظري، تعمل كرة القدم، كما أوضح «نوربرت إلياس»، على توجيه المشاعر: «يمكن للمُشاهدين في مباراة كرة القدم تذوّق الإثارة الأسطورية للمُنافسة فوق الملعب وهم يعلمون أنه لن يتمَّ إلحاق أي ضرر باللاعبين أو بأنفسهم. على هذا النحو، فهي تخفِّف من مشاعر القوميات. تشجِّع بطولة كأس أوروبا لكرة القدم على تنمية الشعور المُشترك بالانتماء بين شعوب القارة التي مزّقتها الحروب الداخلية لقرون. ولا يقتصر الأمر على بقاء العداوات محصورة في الملاعب، ولكن المباريات بين الأندية الأجنبية تساعد على زيادة الوعي بوجود الآخرين. «إنها مجرد كرة قدم، وليست حرب». على خلاف المُفردات الأخرى: «قصَفَ أهداف الخصوم»؛ «فجّرَ الدفاعات»، «دكَّ شباك الحارس».. حيث تتكاثر استعارات المُحارِب. وبالتالي، فإنّ كرة القدم تمكِّن من التعبير عن شعور قومي كامن غير مضر بأي حالٍ من الأحوال.

بالطبع الصورة مختلفة إذا نظرنا إلى العلاقات الرياضية بين اليابان والصين. خلال كأس آسيا 2004، تحوّلت بكين إلى معسكر حقيقي بعد فوز اليابان في النهائي، مما أثار غضب المُشجِّعين الصينيين. لكن لا يبدو لي أن هذا انعكاس لَعْنَة ما على الشغف بكرة القدم. إنما هي ثمرة الذاكرة غير المحسومة للحرب العالمية الثانية والتنافس على السلطة بين العملاقين.

أودّ أن أقول نفس الشيء عن العنصرية التي يتمُّ التعبير عنها أحياناً في الملاعب. ولا أدافع بأي شكلٍ من الأشكال عن التطرُّف الفاشي لبعض المُشجِّعين الإيطاليين. لكن الملاعب هناك لا تحتكر العنصرية في شبه الجزيرة. وهذا ما يتضح من خلال النجاح الذي حقّقه كتاب الصحافية الشهيرة «أوريانا فالاتشي»، وكان تعبيراً عن إسلاموفوبيا محيِّرة للعقل، وبلغت مبيعات الكتاب مليون نسخة… يجب القيام هنا بتحليل للآثار المُعقّدة على المجتمع الإيطالي الذي سيشهد زيادة بمقدار خمسة أضعاف في عدد المهاجرين في البلاد في غضون عشرين عاماً. باختصار، كرة القدم ذريعة لمَنْ يتنصل من مسؤولياته! قالها «إدواردو غاليانو» بعبارةٍ جميلة: «الدموع لا تأتي من المناديل».

إذا لم تشعل كرة القدم الحروب، ألا تساهم القيم التي تحملها في تأجيج المشاعر السياسية الخطيرة؟

– كرة القدم ليست فقّاعة من الوداعة والأخوّة في عالَم يتسم بالعنف والتنافس. ومن حقّنا أن نحلم بعَالَم آخر. ومع ذلك، فإنّ كرة القدم يمكن تطويعها بالشكل الذي نريد. لقد خدمت الكرة نظام موسوليني ووفّرت للإيرانيين مكاناً للتعبير عن معارضتهم، عقب انتهاء المُباريات، عبر احتجاجات ضد الخميني في أوائل الثمانينيات. والمجلس العسكري الأرجنتيني يحتفظ بالذاكرة المريرة للحريّة في الملاعب: أراد أن يجعل كأس العالم 1978 واجهة جميلة لحكمه. لكنه واجه اتهامات غير مسبوقة!

وهكذا فإن النتائج إيجابية عموماً. كرة القدم هي أيضاً، وفوق كل شيء، تبدو لي، مساحة للمُصالحة. كانت الاستضافة المُشتركة لكأس العَالَم 2002 من قِبل اليابان وكوريا علامة بارزة للتقارب بين البلدين. بشكلٍ عام، عولمة كرة القدم تعزِّز الانفتاح على الآخرين، وعلى ثقافتهم، وتاريخهم.

رواتب اللاعبين، لعبة الانتقالات، المنافسة بين الأندية… أليست كرة القدم أيضاً مكاناً لاكتشاف اللامساواة، قانون الأقوى والأغنى؟

– بقدر ما هي تجسيدٌ مثالي للعولمة، فإنّ كرة القدم هي أيضاً انعكاس مثالي لعدم المساواة التي تولّدها. وأنا لا أخفي قلقي حيال ذلك. معسكر «أموال كرة القدم» يكتسب أرضية بشكل متزايد. تمتلك الأندية الكبرى اليوم استراتيجيات تطوير جديرة بالشركات متعدّدة الجنسيات الحقيقية، مع المُفردات والأساليب المُناسبة، حيث يصعب أحياناً تحديد أي ارتباط بقيم الرياضة. وصف رئيس ريال مدريد مؤخراً ناديه بأنه «الشركة العالمية الأولى في عالَم كرة القدم». بالطريقة نفسها، ينتشي رئيس نادي تشيلسي الثري بالحديث عن العلامة التجارية وحصة السوق. يصبح اللاعبون أصولاً، والأنصار في موضع المُستهلكين… تجميع أكبر الأندية الأوروبية في مجموعة 14 ومحاولة تجاوز (الفيفا) يثير قلقي. وبالمثل، فإنّ قانون بوسمان، الذي أصدرته محكمة العدل الأوروبية في عام 1995، الذي ينص على إلغاء كل القيود على انتقال اللاعبين داخل الاتحاد، يشجِّع على سلعنة الرياضة عبر السماح بتركيز المواهب في أغنى الأندية.

هذه المبالغ الطائلة من الأموال التي تُسكب في الملاعب هي بالتأكيد ثمرة النجاح. ولكن يمكن أن تقضي أيضاً على شغف كرة القدم في جميع أنحاء العَالَم. مَنْ الذي سيظلّ مهتمَّاً بالمباراة إذا تمَّ تحديد النتيجة من خلال ميزانية النادي؟ من وجهة النظر هذه، تطرح عولمة كرة القدم تحديداً نفس السؤال الذي تطرحه العولمة نفسها: كيف نعيد خلق الإرادة السياسية للتحكّم في الديناميكيات الاقتصادية؟ كيف يمكننا صياغة القواعد للتوفيق بين الكفاءة واحترام قيمنا؟

في الوقت الحالي، رغم هذه التجاوزات، تظلّ كرة القدم أحد المساحات المُميّزة للديموقراطية. إنها توفِّر فرصاً للاندماج والتقدُّم الاجتماعي لا نجد لها مثيلاً في فضاءات المُجتمع الأخرى. كرة القدم تسمح لنا بأنْ نصبح ما نحن عليه لا ما نشأنا عليه!

حوار: ساندرين تولوتي

المصدر:

https://www.scienceshumaines.com/la-planete-football-entretien-avec-pascal-boniface_fr_14616.html

كأننا لم نُترجِم إدوارد سعيد

كيف يمكننا ألّا نخضع للقوالب التي اختارها لنا الغرب. إن الاستشراق مستمر، ليس بالمعنى المُتداول اليوم بكونه «استشراقاً جديداً» قد ورث القديم، بل بمعنى أن العبرة من إيصال الوعي باللعبة الاستشراقية لم تتحوَّل إلى معرفة فاعلة. بعبارةٍ أخرى، إننا نرث التأخُّر السابق، ولكننا نحن مَنْ يوفِّر مساحة إنتاج التأخُّر اللاحق.

يُمكن تلخيص محتوى كتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد في مقولة جامعة: ليس الشرق الذي يدرسه المُستشرقون إلّا إسقاطات جاهزة بحيث تُخفي المعرفةُ نوايا الهيمنة، وبالتالي فالاستشراقُ ليس محاولة في دراسة الآخر، بل محاولة لإخضاعه.

بهذا الاختزال، وبهذه الطمأنينة، كثيراً ما نعتقد في ثقافتنا العربية بأن كتاب «الاستشراق» نال حظّه من التداول والفهم، وما ذلك إلّا كمَنْ يذهب في ظنه أن إلقاء نظرة على الغلاف الخلفي لكتاب أو على فهرسه يُغني عن قراءة المتن، فأهمية كتاب «الاستشراق» لا تقتصر على مقولاته، فهناك ما هو أكثر أهمية، وهو كيف بلغ المُفكِّر الفلسطيني تلك المقولات وبأي أدوات معرفية استطاع تصعيد مضمرات النصوص إلى مستوى الوعي المُشترك.

أكثرُ ما يُورِّطنا في مثل هذا الاعتقاد بحضور كتاب «الاستشراق»، وهو غائب، هو تعدُّد ترجماته. خلال العام المُنقضي، صدرت عن «دار الآداب» رابع ترجمة للكتاب إلى العربية، وقد أنجزها محمد عصفور، وتأتي بعد ترجمات كلٍّ من كمال أبو ديب، ومحمد عناني، ونذير جزماتي. لن نختلف بأنّه من حقّ كتاب «الاستشراق» علينا أن يُترجَم عدّة مرات، ولكن لا ينبغي عليه أن يتحوَّل إلى شجرة تخفي ما وراءها، من ذلك أنه حجب كتباً أخرى من مشروع سعيد بعضها لم يُترجَم بعدُ مثل «بدايات: المقصد والمنهج» (1975) و«مسألة فلسطين» (1992).

لا يعني ذلك أية مؤاخذة على المُترجمين الذين تصدّوا لنصوص سعيد. وإنما يتعلّق الأمر بكون الترجمة ليست سوى شكل وحيد من أشكال عديدة لاستقبال مفكِّر يكتب في لغةٍ أُخرى، ولا ينبغي لهذا الشكل أن يحتكر وحده كل عملية التلقّي، فنحن لا نجد مثلاً محاولات في كتابة السيرة (الغيرية) لسعيد باللسان العربيّ، سيرة بالمعنى المعرفي أو الشخصي، ومرّة أخرى نقف على اكتفاء بترجمة فوّاز طرابلسي للسيرة الذاتية لسعيد والتي حملت عنوان «خارج المكان».

كما أننا لا نجد للمُفكِّر الفلسطيني حضوراً في أشكال تأليفية كثيرة مثل المعاجم ودراسات التلقّي، وهذه الأخيرة باتت حاجة مُلحّة فمع نموذج مثل إدوارد سعيد يمكننا أن نفهم كيف نستعيد المُفكِّرين العرب الذين ينتجون في الغرب، وهؤلاء ليسوا قلّة (سمير أمين، أنور عبد الملك، محمد أركون، مصطفى صفوان، إيهاب حسن…). كما أننا مع سعيد حيال مسائل مخصوصة ومثيرة مثل المركزية التي فرضها لنفسه كتاب «الاستشراق»، ولعلّه من الضروري اليوم التفكير في كتابة التاريخ العربي لكتاب «الاستشراق» مع تعدُّد ترجماته وتضخُّم توظيفاته.

من جانبٍ آخر، لا نعثر على أثرٍ كبير لسعيد خارج بيئة العلوم الإنسانية في حين أن مدوَّنة المُفكِّر الفلسطيني قابلة للاستثمار في حقول شتّى؛ من الأدب إلى الفنون البصرية. مع الإشارة إلى بضعة استثناءات منها دعوة سعيد من قبل المخرج المصري يوسف شاهين للظهور في أحد أفلامه، ناهيك عن اعتماد مقولاته ضمن التصوُّر العام لعدد من مشاريعه السينمائية التي تعالج العلاقة بين الغرب والشرق، كما يمكن لنا أن نذكر حضور المُفكِّر الفلسطيني في جدران شوارع تونس ما بعد الثورة (2011) حين اعتمدته مجموعة «أهل الكهف» كأيقونة في أعمال الغرافيتي التي ضخّتها في الفضاء العمومي ضمن تشكيلة من رموز المقاومة الفكرية (طوني نيغري، جيل دولوز…).

كما يمكن أن نذكر شكلاً طريفاً آخر من أشكال التلقّي وهو إعادة بناء أطروحات صاحب «الثقافة والإمبريالية» في تخصُّصات معرفية أخرى، ونجد مثالاً على ذلك في اللّغة الفرنسية حين استعاد الباحث من أصول جزائرية «آلان مسعودي» أطروحة كتاب «الاستشراق» وأثبتها باعتماد مدوَّنة أرشيفية بدل الاعتماد على مدوَّنة أدبية-مخيالية كما فعل سعيد.

كلُّ هذه أشكال من التلقّي تكاد تغيب في ثقافتنا، وهي تدلّ على بعض أعطابها، وتكشف عمق الفجوة المعرفية بيننا وبين العَالَم، فإذا كان التعامل مع إدوارد سعيد، القريب من الثقافة العربية، بل المُتقرِّب منها في أحيانٍ كثيرة، بهذا الشكل فما بالنا مع مفكِّرين يشتغلون في مسائل وقضايا بعيدة عن متداول الحياة الفكرية العربية.

 

 

إنّ مترجمي سعيد شهودٌ، هم أنفسهم، على إشكاليات تلقّيه، وهؤلاء أوّل مَنْ يعترف بـ«ثغرات مكتبة إدوارد سعيد في اللّغة العربية» والعبارة لفوّاز طربلسي في تقديم ترجمته لكتاب «عن الأسلوب المُتأخِّر»، وفيها يشير إلى أن أحد أسباب وجود هذه الثغرات هو ضمور الثقافة العامة العربية في عدّة اختصاصات تناولها المُفكِّر الفلسطيني ما يضع المُترجم في موقع ضعف أمام بعض نصوصه، فهو مثلاً ينتقل من المعرفة الدقيقة للأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الإيطالي إلى معرفة شمولية بتاريخ المُوسيقى الكلاسيكية، مروراً بالفلسفة والتاريخ السياسي والعلوم الاجتماعية.

يضيف طرابلسي صعوبة أُخرى تتعلَّق بمُستويات مختلفة في مادة سعيد نفسه، بين كتاباته الأولى والأخيرة، فعمل كالذي نقله طرابلسي إلى العربية «ينطوي على صياغة إدوارد سعيد المتأخّر لأدواته المفهومية في حالتها الصقيلة، المسكوبة في أسلوب مميّز بلغ أقصى درجات الصنعة والأناقة»، وفي ظل عدم تعوّد القارئ العربي مع مثل أدوات الكتابة هذه سرعان ما تنشأ قطيعة تذوّقٍ وفهمٍ تجاه سعيد.

يمكن أن نعود أيضاً إلى شهادة نشرها كمال أبو ديب (صاحب أول ترجمة لـ«الاستشراق» كما ترجم كتاب «الثقافة والإمبريالية») بُعيد رحيل المُفكِّر الفلسطيني في «مجلة الثقافة العربية» (العدد 45، 2004) وحاول إضاءة ما يعتبره «ميراث» إدوارد سعيد أو وصيّته الفكرية، فذكر جرأته على التأويل وتعليمه إيانا «كيف تهاجر النظريات» وكيف «نربط التجربة بالثقافة»، وكيف نرى النصوص «كطاقة واحتمال قابل للتكاثر». فلنتساءل -على مسافة عقدين مما كتبه أبو ديب- عمّا تحقّق من كل ذلك: هل يوجد من هذه الأمور ما تحوَّل إلى ذهنية عامة -على الأقل في البيئة البحثية- تُسدي خدماتها للثقافة العربية؟ هل أن مفهوم النص عند سعيد قد أفاد ثقافتنا بشيء خارج دوائر المعرفة التقنية؟ ما نراه من حولنا يؤكِّد فشل ربط ما تُنجزه الثقافة العالمة بفضاءات الثقافة العامة. لو أننا نتعامل مع النصوص برؤية سعيد لانتهينا من جزءٍ غير قليل من إشكالياتنا الكبرى: الديكتاتورية أو التطرُّف مثلاً بوصفهما محاولات عنيفة لاحتكار التأويل.

علينا أن ننتبه أيضاً -ونحن نحاول تبيان الحواجز التي تعيق وصول سعيد إلينا- إلى أن المادة التي يجترح منها المُفكِّر الفلسطيني دراساته غريبة غالباً عن الأرض العربية. يمكن أن نفحص بنظرة سريعة بيبليوغرافيا كتب مثل «الثقافة والإمبريالية» و«فرويد وغير الأوروبيين»، وحتى «الاستشراق»، لنكتشف أن معظم الأسماء والنصوص التي يُعمِل فيها سعيد مِشرط الباحث غير مروَّضة في الغالب من المُثقّفين العرب رغم شهرة أسماء أصحابها: «ألبير كامو» (لعلّه الأكثر حظاً) و«جوزيف كونراد» و«غوستاف فلوبير» و«شاتوبريان» و«جيرار دو نيرفال»، و«دي لامبيدوزا».

يُضاف إلى هؤلاء ونصوصهم شبكة نظرية ينهل سعيد منها نسيجه المفاهيمي فينتقي ما يحتاجه من «فوكو» و«غرامشي» و«أدورنو» و«ألتوسر» و«جامباتستا فيكو» و«هوسرل» وغيرهم. وهذا النسيج المفاهيمي يحتاج إلى خلفيات حيث لا يمكن تفعيله في ذهن القارئ من أول لقاء. كما أن هذا القارئ مدعوّ لفهم فويرقات الدلالة في بعض المُصطلحات مثل الإمبراطورية والإمبريالية أو تصوُّره لمفهوم المنفى. ولا ننسى أنه يُفترض في قارئ كتابات إدوارد سعيد أن يحمل خلفية عن الدوائر التي يتقاطع معها فكره؛ النظرية الأدبية، تيار ما بعد الاستعمار، الدراسات الثقافية…

ربما علينا أن نعترف بأن الحفاوة العربية بسعيد مرّت من الاعتراف الغربي. هكذا نكرّس المركزية الغربية في مقام كتاب يناهض هذه المركزية ويعمل على تفكيكها. ولعلّ في ذلك أحد أسرار سوء تلقيه، أو قلّة الاستفادة منه، وفي الغالب نتلقى كتاب «الاستشراق» من زاوية كونه منعطفاً في الدراسات الأدبية والثقافية، ولا ننتبه إلى الظروف التي تهيّأت في الغرب ليكون هذا المُنعطف ممكناً منها التراكم النقدي حول مفهوم الهيمنة الثقافية (غرامشي، ستيوارت هول، ريموند وليامز، تودوروف…) وللاستشراق ذاته (أنور عبد الملك خلال إقامته في فرنسا). فهل توجد في مدوَّنتنا البحثية مثل هذه التراكمات؟

ينجرّ عن حالة عدم الانتباه هذه التباسٌ في تلقينا لمقولات الكتاب، فهو خطاب موجَّه إلى الغرب، يعمل على نزع أقنعة هذا الأخير ودفعه كي يقف أمام مرآة التحليل. ونحن نقرؤه كذلك، أي كخطاب موجَّه إلى الغرب، وهي قراءة تعفينا من اعتباره خطاباً موجَّهاً إلينا أيضاً، أي أنه يفضح أخطاءنا نحن كذلك، نحن ضحايا الاستشراق، وهذا هو المعنى الأشمل للترجمة بما هي أوسع من الخدمة النصية التي يقدِّمها المُترجِمون. ولنا من هذه الزاوية أن نقف على مأساة المُترجِم العربي الذي يجتهد ويثابر في نقل نص لا يؤدّي بعد ذلك كثير نفع للمُجتمع الثقافي.

كيف نغفل إلى هذا الحدّ عما في كتاب بكل هذا الحضور الطاغي؟ تلك مفارقة قاسية تخترق ثقافتنا العربية. إن من جنايات سوء التلقّي أن تتحوَّل مقولات كتاب «الاستشراق» من كونها فكراً نقدياً إلى أيديولوجيا نفهم من خلالها علاقتنا بالغرب بكثير من التسطيح ونكرِّس بذلك وضعيّتنا كضحايا. أولى بنا ألّا نرى «الاستشراق» كمقولة باتة، كأن نقرأه ككتاب يتحدَّث عن التقنيات الثقافية وهي تتحوَّل إلى أسلحة للإخضاع، فالاستشراقُ الأدبي كان تحقُّقاً سردياً لأيديولوجيا غازية، ولا سبيل لصدّها إلّا بمنجز سرديّ مضاد، ناهيك عن ضرورة بلورة أشكال تحقُّق أخرى؛ بصرية وبحثية وغير ذلك.

ماذا طوَّرت ثقافتنا من هذه الأسلحة؟ ومن هذه التقنيات (أشرنا آنفا إلى فقدان تقنيات التلقّي، فما بالنا بتقنيات الصدّ أو رد الفعل). كيف يمكننا، والوضع كذلك، ألّا نخضع للقوالب التي اختارها لنا الغرب. إنّ الاستشراق مستمر، ليس بالمعنى المُتداول اليوم بكونه «استشراقاً جديداً» قد ورث القديم، بل بمعنى أن العبرة من إيصال الوعي باللعبة الاستشراقية لم تتحوَّل إلى معرفة فاعلة. بعبارةٍ أخرى، إننا نرث التأخُّر السابق، ولكننا نحن مَنْ يوفِّر مساحة إنتاج التأخُّر اللاحق.

باتريك موديانو: يمكن حذف عناوين رواياتي للحصول على كتاب واحد

أصدر باتريك موديانو، الكاتب الذي تحصَّلَ على جائزة «نوبل» للآداب، لعام (2014)، روايته الثلاثين الموسومة بـ «شيفروز – Chevreuse». ونجد فيها الظلال المتداخلة والملتبسة نفسها، والأماكن نفسها، والشابّ نفسه الذي يتطلَّع ليصير كاتباً، وهي العناصر نفسها التي نجدها في العديد من رواياته الأخرى. موديانو، المتحفِّظ الذي نادراً ما يتحدَّث إلى وسائل الإعلام، كان لطيفاً بما فيه الكفاية لإجراء هذه المقابلة معنا.

يستقبل باتريك موديانو زوّاره في بيته الذي هو شقّة مشرقة، ذات سقف عالٍ، بالقرب من حديقة لوكسمبورغ. وقد كانت الموظفة المسؤولة عن لقاءاته مع الصحافة قد حذَّرتنا قائلة: «سأكون حاضرة معكم في البداية، لأنه يفضَّل ذلك». اللقاءات الصحافية ليست بالممارسة الأثيرة لدى كاتبنا، لذلك هو لا يقبل عليها إلّا متردِّداً. ووجود شخص من معارفه يمنحه شيئاً من الطمأنينة. ثم إن الموظَّفة، في الحقيقة، انسحبت فور جلوسنا.

ها نحن، إذن، في مكتب موديانو: جدران مكسوّة بالكتب، وطاولة للكتابة، وأريكة حمراء واسعة؛ للحديث عن روايته الجديدة «شيفروز»، التي نلتقي فيها ببعض الشخصيات التي سبق أن صادفناها في بعض رواياته الأخرى، وبشوارع مألوفة، وبالمنزل الكائن في إحدى ضواحي باريس، المنزل نفسه الذي سبق للكاتب أن عاش فيه لبضع سنوات، عندما كان طفلاً، مع بالغين، تركه والداه عندهم.

عالم أصبح، الآن، معروفاً لدى قرّائه المخلصين. يقول موديانو: «أدركت أنني أكتب الكتاب نفسه في كلّ مرّة، تقريباً». «كلّ رواية من رواياتي تحمل عنواناً مختلفاً، ولكن يمكنك إزالة العناوين لتحصل في النهاية، على كتاب واحد. الأمر يشبه، نوعاً ما، موسيقى تتكرَّر فيها بعض الجمل لتشكِّل كلّاً متكاملاً».

«الماضي كتلة من النسيان تنفلت منها بعض الشظايا»

في رواية «شيفروز»، تتذكَّر الشخصية الرئيسية جان بوسمان، وبعض الأشخاص غير المألوفين، ومجموعة ملغزة من الأسماء (الموديانية) جدّاً (ميشيل دو غاما، مارتين هايوارد، روز ماري كراويل، رينيه ماركو هيريفورد، وغيرهم)، والتي كان يخالطها عندما كان شابّاً في الستِّينات. ما حقيقة هؤلاء الناس؟ لماذا يعطونه انطباعاً بأنهم يعرفون أشياء من ماضيه؟ لماذا يجرّونه، دون أن يدري، إلى الأماكن التي عاش طفولته فيها؟

يوجد لدى موديانو سمت زمني دُفِنت الذاكرة بين ثناياه: «لطالما اعتقدت أن الماضي، أو الزمن الذي يتوارى، هو كتلة من النسيان، تظهر، بين طيّاتها، بعض الشظايا الصغيرة. ما يهيمن على الذاكرة هو سحابة من النسيان. ومن الواضح أنه، من وقت إلى آخر، تظهر شظايا صغيرة، شظايا تطفو على السطح، على أن المادّة الرئيسية تظلّ هي النسيان، دائماً».

يمكن أن تأتي شظايا الذاكرة هذه في شكل أشياء (ساعة، مذكِّرة، بوصلة) أو نبرة اسم معيَّن، أو أماكن محدَّدة. ورغم أن الراوي يقف على حافّة الواقع والحلم، كمن «يسير في نومه»، كما جاء على لسان موديانو في الرواية، إلا أن تحرِّيه للدقّة لا ينقص، مع ذلك: «الأماكن التي أستحضرها، عرفتها كلّها: وادي شيفروز، وهي قرية ليست بعيدة عن باريس، وشقّة كائنة بحيّ بورت دوتويل. ولكن مع مرور السنين، يتحوَّل كلّ ذلك إلى ما يشبه بلداً شاهدته في الأحلام. لطالما اعتقدت أن المرء إذا أراد أن ينقل إلى قرّائه الإحساس بأجواء روائية معيَّنة، تكاد تكون خيالية، لا بدَّ له من الارتكاز على تفاصيل دقيقة جدّاً. كما هو الحال في بعض اللوحات السريالية. نحن نأخذ شارعاً قد يبدو عاديّاً، ومن خلال الإمعان في النظر إليه، يصبح سريالياً، تقريباً».

«أردت أن أترجم ما يعتمل داخل شخص يقوم بالكتابة»

عادةً، تظهر الشخصيات والوضعيات، لدى موديانو، بمظهر مألوف في البداية، ولكنها سرعان ما تصير محاطة بالغموض، بل تتَّخذ صبغة مقلقة. في كثير من الأحيان، هذا الضيق العائم، وهذا الخوف، يعودان بنا إلى سنوات الطفولة: «أردت أن أترجم ما يحدث في نفس شخص يكتب، ويستلهم من شخصيات، ربَّما، خالطها في الماضي، وكلّ الناس الذين تسبَّبوا له في الشعور بالقلق أو الخوف في طفولته، فالكاتب يُحيِّدهم عندما يستخدمهم كشخصيات في رواية، حيث يتحوَّلون إلى مجرَّد أشباح، كما لو أنهم انتقلوا إلى عالم موازٍ».

ولكن، هناك، أيضاً، موديانو مبتهج، يستمتع بالكتابة، وبدأ، منذ بضع سنوات، يسكب في رواياته جرعة سخرية من الذات. فرواية «شيفروز» تأخذ، في بعض الأحيان، طابع روايات الجريمة بحثاً عن ذاكرة من الطفولة تَمَّ نسيانها، إلى درجة أن الكاتب يسترسل في ارتجال سلسلة من العناوين المحتملة للرواية التي يحملها القارئ بين يديه: «مواعيد سان لازار»، «أسرار فندق شاتام»، «الحياة السرِّيّة لرويني-ماركو هيريفورد»… «أحياناً، تسخر من نفسك قليلاً، مثل شخص لديه وجهة نظر ساخرة حول فعل الكتابة».

هل كان سينزلق إلى مصير سيِّئ لو لم يصبح كاتباً؟ يفكِّر، للحظة، قبل أن يجيب: «بما أنني لم أكن أتابع دراسات محدَّدة جدّاً، ولم يكن لديَّ بيئة عائلية محدَّدة، فقد كنت في حالة من عدم اليقين. شعرت بأنني لا بدّ من أن أبدأ شيئاً، وإلا ظلَّت تتقاذفني الأمواج. ولكن، في الوقت نفسه، كان أمراً ساذجاً جدّاً، لأننا نكتب، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. إذ من الضروري أن يجد الكتاب الرضا لدى القرّاء، ويجد طريقه للنشر. إنها لعبة حظّ».

في رواية «شيفروز»، كما هو الحال في رواية «حبر ودود»، يُدخِل موديانو القارئ إلى ورشة الكتابة الخاصّة به. ويضع بين صفحاتها -وهذا ليس بالأمر المفاجئ- مديحاً للصمت: «لقد كنت دائما منجذباً إلى حذف أشياء عديدة من كتاباتي، لأترك، بعد ذلك نوعاً من ثقوب الصمت. قد يكون لدى بعض الكتاب أسلوب مزخرف. أمّا أنا فميولي الطبيعي ينحو نحو إزالة الكثير من الأشياء، باعتماد تقنية الحذف. في الأدب، يجب على الكاتب أن يترك فجوات من الصمت؛ فعندما تكون هناك الكثير من الأشياء، قد يشعر القارئ بالاختناق. لا بدَّ من ترك مساحة أمامه؛ لأنه هو من يكمل الكتاب، في الواقع».

حول هؤلاء الذين يسعون إلى ردّ الاعتبار للمارشال بيتان – Pétain، يقول: «إنهم لا يعرفون عن أيّ شيء هم يتحدَّثون»

الوقت يتقدَّم، وقد تحدَّث إلينا لمدّة أربعين دقيقة، وبدأنا نخشى أن نشقّ عليه؛ لذا خطر لنا أن نطرح عليه سؤالاً حول القضايا الراهنة، ننهي به المقابلة: كيف يمكن لمؤلِّف رواية «دورا برودر»، الذي كافأته لجنة تحكيم جائزة «نوبل» عن امتلاكه «لفنّ الذاكرة الذي مكَّنَه من تناول أكثر مصائر الإنسان مراوغةً، وكشف النقاب عن عالم الاحتلال»، أن يتفاعل مع محاولات إعادة الاعتبار لنظام فيشي – Vichy، ولو جزئياً، على الأقلّ؟، ففي رواية «دورا برودر»، أدرج مقتطفات من رسائل بعث بها، إلى السلطات، بعض أقاربه يعبِّرون فيها عن قلقهم بعدما عاينوا أشخاصاً يُعتَقلون لأنهم يهود. «كانت رسائل مفجعة»، يعلِّق موديانو، برصانة.

«بُعثت هذه الرسائل إلى مقاطعة الشرطة، وإلى المارشال بيتان نفسه، ولم يتلقَّ أصحابها أيّ ردّ. لقد أدرجت بعضاً منها، ولكن إذا ضممنا الرسائل كلّها، بعضها إلى بعض، فسنرى…». يصمت، ثم يقول: «إنهم لا يعرفون عن أيّ شيء هم يتحدَّثون. لا بدَّ أنهم لا يعرفون جيّداً تاريخ سنوات الاحتلال، أو أنهم سياسيون، يفعلون ذلك بخلفيّات سياسية، ولكن يكفي أن نقرأ الوثائق، لأن الأرشيف مفتوح الآن. سيرون ما كان عليه الأمر حقّاً، فلم يعد هناك أيّ غموض في هذا الشأن».

قبل إغلاق الميكروفون، أشرنا إليه بملاحظتنا غياب أيّة معطيات حول سيرته على ظهر الغلاف، فلا تاريخ ميلاد، ولا إشارة إلى نيله جائزة «نوبل»؛ كما لو كان يميل، مثل بعض شخصياته، إلى الانمحاء والاختفاء، وكما لو أن كلّ جوائزه، وأوسمته، تشكِّل عبئاً ثقيلاً جدّاً بالنسبة إليه. يضحك. يوافقني الرأي: «هذا صحيح!»، ثم يردّ مبتهجاً: «صحيح ما تقوله! كلَّما كبرت في السنّ، يصبح هذا الأمر أثقل وأثقل. هذا (يشير إلى حذف عناصر السيرة الذاتية) يزوِّد المرء بقليل من الشجاعة، لكي يستمرّ، بشيء من الخفّة».

في حقيقة الأمر، باتريك موديانو ليس هو ذلك الكاتب البالغ من العمر ستَّة وسبعين عاماً، والذي يمتلئ سجلُّه بجوائز تقديرية لا حصر لها، بل هو هذا الشابّ الوسيم في العشرينات من عمره، الذي يهيم في شوارع باريس. وسيبقى كذلك…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: إيلانا ماريوسف

العنوان الأصلي، والمصدر:

Mes romans changent de titres, mais on pourrait les supprimer et cela ferait un seul livre.

https://www.franceinter.fr/livres/patrick-modiano-mes-romans-changent-de-titre-mais-on-pourrait-les-supprimer-et-cela-ferait-un-seul-livre.

منصف الوهايبي: السجال حول «قصيدة النثر» بدأ قبل ظهور «قصيدة التفعيلة»

يُعَدّ الشاعر والأكاديمي التونسي منصف الوهايبي (1949، القيروان) واحداً من شعراء الحداثة في تونس والعالم العربي. هو أستاذ بكلِّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، في سوسة. من أعماله الشعرية: «ألواح» – «من البحر تأتي الجبال» – «مخطوط تمبكتو» – «ميتافيزيقا وردة الرمل تونس» – «فهرست الحيوان» – «كتاب العصا» – «الصيد البحري»، بالإضافة إلى أعماله السردية…

في هذا الحوار، يتحدَّث منصف الوهايبي عن أعماله في الشعر، والسرد، والترجمة، في سياق خلفيَّاته الفكرية، وقناعاته الإبداعية.

أنت شاعر، وروائي، ومترجم. ما المجال الأقرب إليك؟

– كتبت سيناريوهَيْن لفيلمَيْن قصيرَيْن: الأوَّل «يا بلداً يشبهني»، وقد مثّلت فيه، أيضاً، والثاني «في انتظار أرويس/ ابن رشد»، كما نشرت ثلاث محاولات روائيّة هي: «عشيقة آدم»، وقد فازت بالكومار الذهبي (2012)، وأصدرها أستاذنا الراحل توفيق بكّار، في سلسلة «عيون المعاصرة». وقد كتبتها بين (2009) و(2010)، ووظّفت فيها التقنيات الفيسبوكيّة، والثانية هي «هل كان بورقيبة يخشى حقّاً معيوفة بنت الضاوي»، وقد حاولت فيها أن أرسم صورة الزعيم الحبيب بورقيبة، باني دولة الاستقلال، في المخيال الشعبي، لا من منظور تاريخي أو سياسي، والثالثة هي «ليلة الإفك»، وهي تعالج ما حدث في تونس من عام (2010) إلى (2014)، وجلّ شخصيّاتها بأسمائهم الحقيقيّة. ولديّ محاولة رابعة بعنوان «جمهوريّة جربة»، الجزيرة التونسيّة الشهيرة، تخيّلتها وقد انفصلت عن تونس؛ وساحت في البحر؛ وأخذت تقترب من مالطة، وأرجو أن أنهيها هذا العام. للحقّ، أنا لست روائيّاً، ولا أدّعي ذلك. إنّما أنا قارئ للرواية، ولا يكاد يفوتني منها شيء؛ عربيّاً وعالميّاً. لأقلّ إنّي قارئ يكتب الرواية، أو ما يفيض عن الشعر. ولكن بلغة الرواية. فأنا -على ما أظنّ- أعرف، بحكم قراءتي للروائيّين العالميِّين الكبار، وعلى رأسهم جيمس جويس، كيف أكفّ عن كوني شاعراً؛ ما إن أشرع في كتابة هذا النوع من السرد الروائي، وأدرك كيف ينهض القول السردي برواية قصّة أو مغامرة تنتظمها حبكة، يقوم بها شخوص يتحرّكون في فضاء وزمان مخصوصَيْن. وهم يؤدّون القصّة في ضوء الممكنات السرديّة، وما يتعلّق منها بالتغييرات الزمنيّة، وإدارة فنّ الدخول إلى العالم المحكيّ، سواء أقيّدته وجهة نظر داخليّة أم لم تقيّده، وهذا لا يتسنّى في النصّ الشعري، إلاّ نادراً؛ بالرغم من أن لي قصائد مركّبة ذات منحى سرديّ؛ ولكن شتّان بين السرد الشعري المكثّف والسرد الروائي المفصّل.

فزت، في العام الماضي، بجائزة الشيخ زايد للآداب، عن ديوانك «بالكأس ما قبل الأخيرة»، وهي المرّة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة للشعر .ماذا يعني ذلك لك، وللشعر؟

– هذا يعني لي الكثير؛ من ذلك إعادة الاعتبار إلى الشعر العربي في «جنس» منه، هو ما نصطلح عليه «قصيدة التفعيلة» (على قلق العبارة)، وهو لا يزال الأقدر، فنيّاً وإيقاعيّاً، على تمثّل مختلف تحوّلات القصيدة العربيّة الحديثة؛ فهذا الشكل يمكن، بحكم إيقاعه، وهو إيقاع العربيّة نفسها، ومن كنهها؛ أن يستوعب -إلى جانب شعريّته- شعريّة قصيدة النثر، بل شعريّة «قصيدة البيت» أو ما يسمّى خطأً «القصيدة العموديّة». كما أنّ الجائزة هي تكريم للشعر العربي المغاربي «المهمّش»، عادةً، في دراسات المشارقة أو «المنسيّ»، لما ترسّخ في ذاكرتنا من شدّ وجذب بين «المركز» و«الهامش»؛ لاعتبارات تاريخيّة، بعضها قديم، وبعضها يرجع إلى القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين. في القرن الماضي، كان أبو القاسم الشابي الوحيد الذي حظي بحفاوة المشارقة، وخاصّةً في مصر، مع مجلّة «أبولو». وقد سعدت، شخصيّاً، عام (1996)، عندما شاركت في مهرجان القاهرة الشعري، وقرأت في الأمسيّة الأولى مع شعراء مشهورين، منهم أحمد عبد المعطي حجازي، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وسامي مهدي، وعبد اللطيف اللعبي… وكان لقصيدتي صدًى، فقد كتب عنّي الراحل الكبير فاروق شوشة مقالاً في «الأهرام»، عنوانه «الوهايبي شاعريّة ما بعد الشابي». ونبّه إلى أنّ هناك شعراً في المغرب العربي، يُعتَدّ به.

يحضر المكان، بشكل لافت، في هذا الديوان. هل يمكن أن تحدّثنا أكثر عن نشأة هذه التجربة الشعرية؟

– هو من منشورات «دار مسكيلياني» للنشر والتوزيع، تونس (2019)، بإدارة الأستاذ شوقي العنيزي، الناشر المثقّف حقّاً. و«الكأس ما قبل الأخيرة» عبارة اقتبستها من حوار مع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، ووظّفتها في سياق الإحالة على نصّ محمود درويش «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، ولعلّ رمزيّتها تكمن في أنّ تمام الأشياء أو كمالها هو في نقصها، والنقص هو الأمل في ما يمكن أن يأتي.. يقع هذا الكتاب الشعري في أكثر من (420) صفحة؛ وهو يضمّ قصائد كلّها موزونة (شعر تفعيلة)، وهذه القصائد جلّها قصائد مركّبة «طويلة» تستنطق المكان العربي في الجزيرة العربيّة، واليمن، وعالم الفينيقيّين، من خلال استحضار المحنة السوريّة، والشمال الإفريقي والغربي (شبه الجزيرة الأيبيريّة، وعالم الأندلس والموريسكيّين، وجنوب البرتغال، ولنبدوزا وجنوة في ايطاليا، وسيت، وباريس في فرنسا)؛ أي هو «جغرافيا» شعريّة، حيث المكان يحضر في علاقته الملتبسة بالماضي والحاضر معاً؛ أي «الحال» كما كان يسمّيه نحاة العرب، وليس في سياق الزمنيّة الخطّية التي لا تناسب الزمنيّة الشعريّة، وهي حضور الحاضر.

بعد الدعوات الصارخة بالحداثة والتجريب الشعري، منذ السياب ونازك والبياتي، مروراً بما يسمّى الشعر الستِّيني وحتى الآن… كيف تنظر إلى حضور القصيدة العمودية في المشهد الشعري المعاصر؟

– الحقّ أنني أقرأ هذا السجال في سياق مختلف: في ضوئه، يمكن أن نميّز بين نظامَيْن في الكتابة، يكشفان عن خطّتَيْ تلفُّظ مختلفتَيْن الأول: هو نظام كتابة متجرّدة من كلّ جسمانيّة سواء أكانت أيقونيّة أم كانت قوليّة، كلـّما جرت المسموعات من الأسماع مجرى المرئيّات من البصر، بعبارة حازم القرطاجنّي، وهذا ليس مخصوصاً بالقديم أي «قصيدة البيت» أو«القصيدة العموديّة»، وإنّما يشمل، أيضاً، القصيدة المعاصرة وهو النظام الثاني في الكتابة، التي أستعير لها هذه الكناية اللطيفة «باب بدفّتَيْن»، وقد تلقّفتها من محمود درويش في لقاء بالقاهرة؛ وهو يسألني عن شاعر صديق عاد، بقوّة، إلى قصيدة الشطرَيْن: صدر، وعجز. وأنا، أتبنّى رأي هنري ميشونيك: إذا كان القصيد الذي يُكتب ينظر إلى شعر الماضي، فهو ليس بالقصيد، وإنّما هو «تشعير»؛ وعليه فالقصيد «مغشوش» ونسج على منوال، وليس تجربة.

هناك من يعتبر قصيدة النثر خواطر شخصية، لا غير. في رأيك، ماذا قدَّمت قصيدة النثر للشعر العربي؟

– لا أدري ما إذا كان بعضنا على دراية بأنّ السجال حول «قصيدة النثر» و«الشعر المنثور» بدأ منذ أوائل القرن الماضي؛ أي قبل ظهور «قصيدة التفعيلة» بأكثر من ثلاثة أو أربعة عقود. كان ذلك مع أمين الريحاني عام (1905)، مترسّماً والت ويتمان في «أوراق العشب»، وهو لا ينكر هذا التأثير، ويرى أنّ ويتمان خلّص الشعر من قيود العروض والأوزان. وكتب التونسي زين العابدين السنوسي، عام (1928)، مقالاً وسمه بـ«الشعر المنثور»، نبَّهَ فيه إلى أنّ هذا النمط «يشارك الشعر في خياله، وحذلقته (الحذق والمهارة) الرائعة الرقراقة، وإن كان لا يتقيّد بوزن، ولا يتسلسل على نظام مخصوص». ويؤاخذ بعض كتّاب المشرق الذين يمزجون مزجاً غريباً بين «الشعر المنثور» والسجع العربي المعروف وبين «الأبيات الحرّة»، وهي غير النثر الشعري، إذ أنّها تمتاز عليه بالاتّزان؛ وإن اشترط فيها عدم التقيّد بوزن معيَّن.

تُتَّهَم قصيدة النثر بكونها انقطاعاً عن التراث، وخلعاً للجذور والهويّة.. كيف ترى ذلك؟

– أحبّ أن أنظر إلى المسألة بمنأى عن هذه «التهم»، وهذا النمط من الشعر يقرأ في سياق التحوّل الذي نعيشه، فقد أخذت الصّورة تتحوّل من «مسموع» إلى «مكتوب»، ولم يعد العالم هو نفسه؛ إذ لم يعد له الفضاء نفسه؛ بدأنا نشهد ولادة نوع من الكتابة تُعالج فيها الإشارة بمعزل عن وظيفتها الدّلاليّة التـّواضعيّة أو المرجعيّة أو التـّوصيليّة. فهي دليل لغويّ ينبتّ عن الصّورة، بالمعنى الذي استتبّ لها عند المتقبّلين عامّة، ويخون رابطة العقد بين المنشئ الكاتب والسّامع/ القارئ. على أنّه دليل فاعل في نسيج النصّ المكتوب؛ الأمر الذي يجعله أشبه بـ«الباب الدوّار» أو بـ«الإيديوغرام» (رسم الفكرة)، فالرّمز فيه متحرّك غير ثابت، يصعب أن نحدّه استئناساً بمدلوله كما هو الشّأن في الكلمة التي هي تمثُّل قبل كلّ شيء، وإنّما في ظهوره المباشر الذي يَنشدُ إحداث أثر ما، يمكن أن نسمّيه «أثر الرّمز» كما هو الشّأن في «الأيقونة» التي تتميّز بطابعها الذي يجعل منها داّلاً، حتّى إن كان موضوعه غير موجود؛ أي بالقدرة على استدعاء حقيقة غير متوقّعة. إنّ الكتابة، من حيث هي تسجيل للكلام أو تقييد، «تصلّب» الكلمة، شأنها شأن كلّ كلمة خطِّـّية، وتخصّها بوضع مستقـلّ، وتقـيّد الزّمن في هذا الدّال «شعر» الذي يندّ عن الحدّ، ويستعصي عليه. ويتوضّح ذلك في قصائد غير قليلة، من حيث هي عدول، من جهة، ومن حيث هي تعاقد، من جهة أخرى.

الكتابة لا تعني الخطّ ضرورة، فكلّما كانت مفاضلة بين الكلمات أو موازنة كانت هناك كتابةٌ، إذ يمكن أن تشطب الكلمة، ما إن تُدَوَّن، وتطرح، وتُستَبدل بأخرى. وهذا صنيع لا يتسنّى إلاّ في الكتابة؛ وليس له مقابل في الأداء الشّفهيّ إلاّ إذا دُوِّن. أمّا الكتابة «الخالصة» فهي صناعة. ولا يمكن لمن يكتب إلاّ أن يصنع ويصحّح ويزيل ويمحو… لكن ما يعنينا من قصيدة «الباب الدوّار» أنّ الشّاعر ليس مطلق الحرِّيّة في انتقاء الكلمات، وتخيّرها، وتركيبها، كما يوهم بذلك إدلاله بقدرته، وفرط تدلّهه بنفسه؛ فهذا من مقتضيات الفخر أو «مركزيّة الذات» ونرجسيّتها، وولعها بنفسها، ليس إلاّ.

من هم أهمّ الشعراء؛ العرب والعالميين الذين تأثَّرت بهم؟

– أحبّ القصيدة الجاهليّة، وهي -في تقديري- تراث شعري إنساني عظيم، تتمثّل عالم الأشياء ومفردات البيئة والحياة، وليست نسجاً على منوال. وأحبّ القصيدة الأجنبيّة، وبخاصّة الإنجليزيّة كما هو الشأن عند ت.س. اليوت. باختصار، أنا أحبّ القصيدة لا الشعر. والشعر فنّ لا وجود له؛ إنّما الذي يوجد هو «القصيدة». الشعر مفهوم مجرّد، والقصيدة حدث… تماماً، مثلما لا يوجد مرض، بل مرضى.. ما يوجد هو الفرديّات لا الكلّيّات.

في ظلّ انحسار جمهور الشعر، وتكاثر الشعراء كمّاً لا كيفاً، على ماذا تراهن قصيدتك؟

– راهنت (وما أزال) على القارئ المثقّف أو الخبير بالشعر. وتقديري أنّ الشعر ليس فنّاً جماهيرياً حتى في غابر العصور عندنا؛ وإلاّ كيف نفسّر وفرة شروح الدواوين؟

ما هي طقوس الكتابة التي تتبعها في كتابة قصائدك؟

– أكتب فجراً. وأستعدّ للقصيدة جيّداً، حيث الكتابة عندي قراءة أو أنّ النصّ ينشأ «قرائيّاً»؛ أي وهو يقرأ خاماته وكلّ ما يتردّد فيه من أصداء ومن أصوات. الكتابة، كما أفهمها وأحاولها، استئناف لإنشائيّة الأثر.

كيف تتعامل مع النقد؟ وإلى أيّ مدى ترى أن الساحة النقدية مواكبة للإبداع الشعري، ومنصفة له؟

– أكثرنا لا يفرّق، عادةً، بين البحث والنقد، فالبحث الجامعي ليس نقداً، إذ هو يعدّ بمباشرة أستاذ مشرف، ويُعرَض على لجنة علميّة مخصوصة، وهناك النقد وهو قليل اليوم، ويكاد لا يواكب الإبداع الشعري، وأكثره انطباعيّ أو ارتساميّ أو مجرّد عرض للكتاب.

حصدت العديد من الجوائز الأدبية، فما تأثير الجوائز في إثراء تجربة الشاعر، وتطويرها؟

– هي -لاشكّ- اعتراف وحافز عند كلّ الذين يفوزون بها، أو هكذا يتهيّأ لي.

لكلّ شاعر حلمه، بالتأكيد.. فما حلم الشاعر منصف الوهايبي؟

– أن أتمكّن من إتمام أكثر من عمل إبداعي عالق، مثل محاولتي الروائية «جمهوريّة جربة» حيث تنساح هذه الجزيرة في البحر، وتقترب من مالطا، وهو عمل مضنٍ، أوثّق له منذ بضع سنوات، وأكتبه بتأنٍّ كبير. أحلم، أيضاً، بمجلّة سنوية أو نصف سنويّة للشعر، في أكثر ما يمكن من بقاع العالم.

إدغار موران: أصفُ نفسي باليقظ وحتى بالحَذِر وليس بالمُتشائم

في شهر سبتمبر/أيلول عاد «إدغار موران» للتو من «الدوامة الإعلامية» الخاصة بعيد ميلاده المئة، بعد أن قام بجولة على بلاتوهات التليفزيون والإذاعة مستجيباً دون توقف لزميلاتنا الصحافيات وزملائنا الصحافيين، كان استقباله لنا عبر تقنية التناظر الرّقمي، حيث يخلد إلى الراحة منذ بضعة أسابيع. وآخر كُتبه الصادر في أوائل هذه السنة والذي يحمل عنوان: «دروس قرن من الحياة»(2021). وهو الكتاب الذي سبق له أن أثار الكثير من الدعوات، فَضَّل المُفكِّر وَصْلها بـ«احتفاليات» إتمامه سن المئة سنة، وهو الآن يتفادى كل طلب لإجراء حوار معه، لكنه وافق على استثناء دعوة مجلة «العلوم الإنسانية»؛ لأن الروابط بينه وبين هيئتها قوية جداً، إذْ كانت صورته على غلاف عددها الأول سنة 1990، ليصير فيما بعد «جون فرنسوا دورتييه»، مؤسِّسُ المجلة، صديقاً له، و قد رافقنا «إدغار موران» لأكثر من ثلاثين سنة.

«ليكن مفهوماً بأنني لا أعطي دروساً لأحد» بهذه العبارة يفتتح «موران» الدروس التي استفادها من حياة غطت مساحة قرن من الزمن. وهي بدورها دروسٌ لا وجود لشيء قطعي فيها؛ فهو يعيد في هذا الكتاب رسم الملامح الكبرى لمغامرته الفكرية، مقدِّماً لنا ما استخلصه من وجودٍ بلغ قرناً من الزمان في هذه الدنيا موجزاً آفاق مستقبلية لأجل الإنسانية.

الربط بين المعارف من أجل التفكير في التعقيد الإنساني، ذاك هو البرنامج الذي وضع «إدغار موران» تَحقِيقَهُ نُصب عينيه، وها هو الآن بعد أن بلغ عمرُهُ قرناً من الزمن يحكي لمجلة «علوم إنسانية» مساره ومعاركه وانشغالاته وما يعقده من آمال على المُستقبل.

هوغو ألبنديا: احتفلت ببلوغك مئة سنة من العمر، ونشرت كتباً عددُها بعدد هذه السنوات تقريباً، فما الذي تود أن نحتفظ به منك؟

إدغار موران: لقد كانت هناك الكثير من التسميات التي عُرفت بها طيلة وجودي، أولها كان عالم أنثروبولوجيا، وأنا كذلك فعلاً، لكن ليس بالمعنى الذي حمله هذا اللفظ مؤَخَّراً، حيث صار محصوراً ومقيَّداً؛ إذ كان ينحصر معناه في القرن العشرين في دراسة الشعوب التي لم تعرف الكتابة، والتي نسميها بالشعوب الأصلية، لكن على الرغم من ذلك كان هذا اللفظ يشير في القرن التاسع عشر، خصوصاً في ألمانيا، إلى تخصُّص جامع لمُختلف المعارف حول الكائن الإنساني، وأنا أرى نفسي في هذا الصنف من علماء الأنثروبولوجيا. إن سؤال إنتاج المعارف يحتل القلب من عملي. وحتى أوجز القول، أؤكدُ بأنه يشكِّل حَلقَة تربط بين الإبيستيمولوجيا (دراسة المعرفة) والأنثروبولوجيا؛ أي معرفة الكائنات الإنسانية، فقد كنت أرغب في الإجابة عن سؤال «كانط»: ما الإنسان؟ ومن أجل القيام بذلك كان لزاماً علي الإجابة عن سؤال آخر: ما الذي يمكنني أن أعرف؟ فإصلاح المعرفة والفكر يمثل بالنسبة لي رهاناً أولياً، لأن النقد الذاتي هو نظافة نفسية أساسية؛ وأنا أنحاز إلى التعقيد الذي يطرح السؤال على كل شيء وأفضِّلُهُ في مقابل المذهب أو العقيدة التي تجد جواباً عن كل شيء، تلك هي الفكرة التي أحب أن يتمَّ الاحتفاظ بها مني، وِصياغتُها قُدِّمَت في كتاب «المنهج»، وعلى الخصوص في الجزء الثالث منه، الذي يحمل عنوان «معرفة المعرفة» (1986) وفي جزئه الرابع: الأفكار، موطنها وحياتها، عاداتها وتنظيمها (1991).

لقد حدَّثوني مؤخراً عن وصفي بالسوسيولوجي، وإنه لَأمْرٌ غريب أن يتمَّ الاحتفاظ بهذا الجانب لأعمالي الذي كان هامشياً وتم انتقاده في إبَّانه؛ فهو لا يمثل، بالنسبة لي، النَّواة َلمغامرتي الفكرية التي اكتملت مع تحرير كتاب المنهج (1977 – 2004)، كما أنني لست فيلسوفاً بالمعنى الذي يُفْهَمُ من هذا اللفظ اليوم، فأنا، بمعنى من المعاني، فيلسوف برِّي؛ لأن الفلسفة بالنسبة لي هي الانعكاسية أو التأملية، إنها تلك الرؤية الثانية التي نجدها لدى جميع الفلاسفة الكبار، وقد انخرطتُ، من جهتي، في هذا النهج، باحثاً عن تحقيق عُلُو على المعارف التي ينتجها زملائي، ولذلك فإن فلسفتي ليست بالفلسفة الأكاديمية.

ويتمُّ وصفي أيضاً بصاحب النزعة الإنسانية، وكل تصوُّراتي هي تصورات تنطوي على تركيب وثيق بين البعد الأنثروبولوجي والحيوي والبيئي والسياسي، فهي تنم عن الفكر المُركب ولكنها تكشف أيضاً عمّا أسميه بالنزعة الإنسانية المُتجدِّدة، والتي عرضتها في كتاب «لنُغيِّر السبيل changeons de voie» عام (2002)؛ فأن يكون المرءُ صاحب نزعة إنسانية ليس معناه إقراره بالتشابهات والاختلافات القائمة بين الكائنات الإنسانية فحسب، ولا أن تُحرِّكَهُ إرادة تجنُّب الكوارث والتطلع إلى عالَم أفضل، بل يعني أيضاً الشعور من أعمق أعماق الذات بأن كل واحد من الكائنات الإنسانية يشكل جزءاً من الجماعة الإنسانية ويمكنه أن يكون فاعلاً داخلها.

منذ مدة طويلة وأنتم تدعون إلى الربط بين المعارف حول الكائن الإنساني، فهل تطوَّرت العلوم في هذا الاتجاه بنظركم؟

– سنة (1951) لم يحفل النقد بكتابي الأول المُهم: «الإنسان والموت – l’homme et la mort»، حيث دشَّنت نمطاً للمعرفة عابراً للتخصُّصات، إذ لا أحد كان قد عالج لحدود ذلك التاريخ المواقف الإنسانية قبالة الموت من خلال الربط بين السيكولوجيا والسوسيولوجيا؛ وعند اشتغالي على هذا الكتاب ربطت بتلقائية بين الدين والتحليل النفسي والبيولوجيا… وما أعانني على ذلك بشكلٍ كبير في تلك الحقبة هو إرث الفلسفة الديالكتيكية، الذي أتاح لي مواجهة التناقضات الظاهرية لمُختلف ميادين المعرفة، وذاك هو ما أسميه الفكر المُركَّب. فيما بعد، لمَّا انطلقتُ، بالمُقابل، في تأليف كتاب المنهج، غالباً ما كان يُنْظَرُ إليّ بغير قليل من الارتياح من طرف بعض ممتلكي ميادين المعارف؛ فقد استنكروا ما أقوم به بحجة انعدام كفاءتي أو كوني مُبسِّطاً بصورة مفرطة في التَّعميم، بينما كنت في واقع الأمر أعيدُ تأويل المعارف المُشتَّتة والربط بينها بَانياً منهجاً لأجل دراسة صور التعقيد وأوجه التركيب، وهو ما يُظهِرُهُ الاتجاه الذي تطوَّر فيه إنتاج المعرفة، ومما يُؤْسفُ له هو أننا في الوقت الذي حاولنا فيه تطوير التفاعل بين التخصُّصات، تطوَّر أيضاً الاتجاه نحو المزيد من التخصُّص الفائق، بحيث أنجب كل تخصُّص من رحِمِه تخصُّصاتٍ فرعيةً أخرى، إلى حد صارت معه ميادين البحث العلمي دقيقة جداً، لذلك فإن التفاعل بين التَّخصُّصات يظل اليوم سطحياً، مع انغلاق هذه التخصُّصات على نفسها، لكن كل إجابة عن مشكلة مهمّة، يتعذَّر بلوغُها، بنظري، ما لم يتم الربط بين المعارف المُجزَّأة والمُتشدِّرة، ولأن الظواهر تترابط فيما بينها بما لا عَدَّ له ولا حصْرَ من التفاعلات والإرجاعات، فإنّ تجزئة المعارف تحول دون إدراك هذه الروابط؛ لأن معرفة الكل تعود إلى معرفة أجزائه وعناصره المُكوِّنة، فضلاً عن أن الكائن الحي لا يمكن فصلُهُ عن سياقه، لأنه تابع لبيئته ومتوقف عليها، لذلك فإن معرفة الكائن الإنسان بصورة أفضل تقتضي ضرورةَ ربط العلوم الإنسانية والبيولوجيا، وحتى الكوسمولوجيا ما دمنا نتكوَّنُ من المادة الفيزيائية، فالكائن الإنساني، بنظري، يتَحدَّد ويُعرَّفُ بثلاثة أبعادَ يتعذَّر الفصل بينها: النوع، المُجتمع والفرد، وهي الأبعاد التي يجبُ فهمُها مجتمعةً! أمَّا إخفاء صور التعقيد فلا يمكنه إلّا أن يقود إلى الخطأ رأساً.

ما يميِّز الفكر المُركَّب أيضاً هو خاصية الَّلايقين التي تطبع المعرفة العلمية، وقد وضع وباء (كوفيد) هذا الَّلايقين في قلب المُجتمع، فما هي نظرتكم إلى هذه الأزمة؟

– لقد أدى وباء (كوفيد) إلى أزمة عالمية متعدّدة الأبعاد؛ إذ شكّل عاملاً جديداً للهشاشة والَّلايقين والقلق، بحيث كنا نحصي موتانا كل يوم، وما يسود اليوم من أفكار يحاول وضع مستقبل الإنسانية داخل حدود واضحة، مع إزاحته في نفس الوقت للايقينيات، غير أن أزمة (كوفيد) عملت على كشف تموجات الحياة بصور أكثر وضوحاً، ما جعل استقرارنا يختل ويرتج، فكيف يمكننا العيش مع تنبؤات لا يتعدَّى مداها أسبوعان أو ثلاثة أسابيع؟ كيف نعيش فزعين خائفين من حَجْرٍ صحيّ مفاجئ؟ هل يلزمنا التفكير في حدوث تحسُّن أم على العكس من ذلك في وقوع تراجع وارتكاس في الأمد المنظور؟

لقد كرَّستُ خمسين سنة من عمري لبلورة سبيلٍ في الأجزاء السّتة المُكوِّنة لكتاب المنهج، غير أن ضرورة إحداث التغيير لم تفهمها الغالبية العظمى من السياسيين والاقتصاديين والتقنوقراطيين والمقاولين، فما الذي نجده في مواجهة رأسمالية نَزَّاعة إلى الهيمنة ازدادت قوّتُها حدّةً خلال الوباء؟ إن ما نجده هو أشْكالُ وعي مشتَّتة وصورُ تمرُّدٍ يتمُّ قمعها وجمعيات تضامنية، والقليل من الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لكننا لا نعثر على أي ثورةٍ سياسية متماسكةٍ ممتلكة لفكر مُوجِّه.

إن الفكر المُركَّب يواجه الَّلايَقِين باستمرار، فلمَّا تمَّ سؤالي عن موضوع الوباء، حاولت أن أجيب عن أشكال القلق وصوره، معيداً التأكيد بأن المُغامرة الإنسانية، فردية كانت أو جماعية، هي دائماً مغامرةُ يشوبُها الَّلايقين وتحفُّها المخاطر، وفضلاً عن ذلك نجدُ أن الخاصية العالمية لهذه الأزمة قد قوَّت من فكرة وحدة المصير، التي لا نكون على وعي بها دائماً، لكنها حقيقية بكل تأكيد، كما أن لنا حاجةً هائلةً للأمل، لأنها تشكِّل ثابتاً إنسانياً، لا سيما في تلك الفترات التي يعصف بها عدم الاستقرار؛ فعندما كنت في صفوف المُقاومة، كنا نعتقد بأنّ عالماً جديداً سيُولد لا محالة من جوف كل تلك الأهوال المُخيفة، قد تكون تلك الآمال مجرَّد أوهام، لكنها لا تنفكّ تولد من جديد وتنْبعثُ لدى الكائنات الإنسانية، ومعها يولد أملُنا في مستقبل أفضل.

مقاوم وشيوعي ومعارض للستالينية ومدافع عن القضية الفلسطينية ومن أنصار البيئة…. لقد اقترنت تباعاً بالعديد من القضايا السياسية، فأي نظرة تلقيها استرجاعياً على مسارك السياسي؟

– لقد انبثقت السياسة في فكري وأنا لا زالت في الثالثة عشرة من عمري، عقب المظاهرة المناهضة للبرلمان بتاريخ 6 فبراير/شباط 1934، حيث رأيت زملائي في الصف الدراسي يعارض بعضهم بعضاً بعنف، ولأنني لم أكن أمتلك أي قناعة مسبقة بخصوص هذا الموضوع، فقد تبنَّيْت موقفاً شكّياً وأنا أعايِنُ الانقسامات التي أحدثها الحدث، ثم كوَّنْتُ بعد ذلك ثقافتي الخاصة التي تدمج من جهة الثقافة الفرنسية التقليدية ذات النزعة الإنسانية، «مونتاني» و«رومان رولان Romain Rolland»، ومن جهةٍ أخرى النزعة الإنسانية الروسية لـ«ليون تولستوي»، وعلى الخصوص لـ«فيودور دوستويفسكي»، كما أن حياتي تبقى موسومة بنوعٍ من الاستمرارية، فمرحلتي الشيوعية هي فترة بين قوسين مكوَّنة من سنوات تلت مراهقة منفتحة إلى أقصى حدّ ومأساوية، فقد انخرطت في أيديولوجيا الكفاح وفي ضرب من الإيمان والدين المُتمحور حول الخلاص الأرضي. وعلى إثر غزو الاتحاد السوفياتي من قِبل «فيرماخت Wehrmacht» (القوات المسلحة المُوحَّدَة لألمانيا)، انتقلت من كوني معارضاً لستالين إلى كوني شيوعياً. وبعدما كنت داعية سِلم صرتُ مقاوماً، وقد كان ذلك بمدينة «تولوز». يمكنني القول بأن المُقاومة قد تخطّت الإيمان الشيوعي والحركية الديجولية لتشكِّل فرصة أمامنا كي نعيش بصورة مكثَّفة. ولئن كنتُ قد ندمت تماماً عن ما كان بي من عَمَى بخصوص طبيعة الشيوعية السوفياتية، فلا يمكنني القول بأن المرحلة الشيوعية من تطوُّري قد مثّلت حظاً سيئاً لأنها أتاحت لي فيما بعد فَهم التوتاليتارية، ثمَّ مع صديقين فيلسوفين، هما «كلود لوفور» و«كورنيليوس كاستور ياديس»، اجترحنا مسارنا الخاص فيما وراء الماركسية، وما تعلّمته من ذلك هو أننا عبثاً نؤمن بأننا مسلَّحُون باليقينيات والبرامج، وأنه من الواجب علينا، في المُقابل، أن نتعلَّم بأن كل حياة هي إبحار وسط محيط من الَّلايقينيات، تتخلّلُهُ بعض الجزر والأرخبيلات التي تمثلها اليقينيات، حيث نَتزَود بما يقوِّينا على المزيد من المسير. وأريد في هذا المقام الإشارةَ إلى أن أحد الدروس الكبرى التي استفدْتُها من حياتي هو توقُّفي عن الاعتقاد في ديمومة الحاضر واتصالية الصيرورة وقابلية المُستقبل لأن يكون موضوع تنبؤ.

منذ أن غادرت الحزب الشيوعي صِرتُ مستقلاً عن كلّ منطق حزبي في السياسة؛ فأنا دائم التّلْمذة، أستدمجُ معارف جديدة داخل فكر يزداد تعقيداً وتركيباً، دون أن يفقد تماسكه. إن الفكر المُركَّب فكر تكاملي يضيف الأفكار وفي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، عندما كنت أغوص بصورة مثمرة في عالم الهيبيز بكاليفورنيا، اكتشفت المُشكلة الإيكولوجية، ولم أجد أدنى مشكل في أن أدمجها داخل تصوُّري للكائن الإنساني، فمنذئذ كنت أفكر في نوعنا بوصفه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ببيئته، وهي الموضوعة التي صارت تحتل اليوم مركز الانشغالات، بحيث صار مستقبل النوع الإنساني يمثل رهاناً سياسياً أساسياً لحقبتنا، أعتقد أن سبيلاً آخر ممكن فيما وراء الليبرالية الجديدة لكي يتمَّ إدماج البيئة بصورة أفضل. وما يوجد من منظورات، كما هو الحال بالنسبة للنزعة التقنية العلمية والنزعة المابعد إنسانية، ليس كافياً بحدِّ ذاته كي يجيب عن التساؤلات المطروحة، لأن الكائن الإنساني المُزيَّد سيكون دائماً في حاجة إلى ربط علاقات، وإلى المُشاركة الاجتماعية والأخوة.

هل أنت متشائم بخصوص مستقبل الإنسانية؟

– الأحرى أن أصف نفسي باليقظ وحتى بالحذر وليس بالمُتشائم؛ ذلك أن الفكر يذهب إلى ماوراء التعارض بين متشائم ومتفائل، أعتقد أن التيارات السائدة، تلك التي نسمعها في وسائل الإعلام أو نقرأها في آخر ما نُشر من كتب، تجنح نحو النزعة التشاؤمية. فما عاينته هو تلاشي الوُد الذي كان سائداً إبان فترة مراهقتي في السنوات التي سبقت الحرب؛ أقصدُ علاقات الود الحارة بين الجيران، والمحادثات في المقاهي الصغيرة وعلى مَتن الميترو كما أن حشود المُتفرّجين قد تقلّصت إلى أقصى الحدود، إن تدهور جودة العيش يعود إلى أولوية الكمي في تنظيم مجتمعنا وقيادته، حيث صرْنَا نحسب ونقيس كل ما هو إنساني؛ فلكي نَحكُم صرنا نثمِّنُ ونعطي قيمة أكبر للناتج الداخلي الخام (PIB) وللإحصائيات ولاستطلاعات الرأي، مما جَعل بَصرنا ينقلب إلينا خاسئاً وهو حسير حين يرتبط الأمر بكل ما هو فردي، ذاتي وشخصي. إن عقلاً محضاً وبارداً هو في ذات الوقت عقل لا إنساني ولا عقلاني؛ لأن العيش فنٌّ صعب وعسير يجب أن يراقب فيه العقل كل انفعال حتى لا نستسلم للحيرة والضلال ولكن فيه كل عقل تحرِّكُهُ وتُنَشِّطُه العاطفة والشغف، وهو ما يميل عالمنا التقنوقراطي إلى نسيانه، لكن بالرغم من كل شيء تبقى هناك إمكانية لتغيير السبيل. إن الكثير من الاحتجاجات الراهنة كما هو الشأن بالنسبة لحركة السترات الصفراء ينطوي على حاجة ماسة لمَنْ يشاركون فيها إلى أن يتمَّ الاعتراف بهم بكل ما تَسَعُه خاصيَّتهم بوصفهم كائنات إنسانية من معنى. أعتقد في أثر «إيفان إيلتش»، أن الودَّ وحُسن المُعاملة عنصرٌ أساسي في جودة الحياة، وسبيل خصب للإنسانية، لأنه يسمح بالاستجابة يومياً لحاجتنا إلى الاعتراف.

كيف ترى مستقبلك الخاص؟

– لقد عثرت على سبيلي منذ سن الثامنة عشرة، بألّا أنقطع عن البحث في الأسئلة الكبرى التي طرحها «كانط»: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب عليّ فعله؟ ما المتاح لي أن آمله؟ وحتّى الآن سرت في هذه الوجهة، وأنا في عمر المئة عام، مستقبلي هو أن أعيش لأسبوع! حينما يُطلب إليّ إلقاء محاضرة أو إجراء مقابلة، أرفض أن ألتزم مسبقاً لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع؛ ففي هذه السن لم تعد لي مشاريع كبيرة. اعتباراً لذلك أواصل التفكير والتأمل ومحاولة الإجابة عن أسئلتي الكبرى، آخذاً نقطاً ورؤوس أقلام، كما أكتب شذرات أنشرها أحياناً على حسابي على موقع تويتر، وأنا لا زلت أظن بأنني سأكتب على الورق تأملات قصيرة… ففي هذه اللحظة مثلاً، ألهمتني موضوعة الأمة. إن أنشطتي الفكرية تتواصل بصورة طبيعية، غير أنني ما عدت أخطّط بتاتاً لكتابة كتاب؛ فكتاب «دروس قرن من الحياة» هو آخر كتاب من كتبي الكبيرة الحجم.

احتفلت مجلة العلوم الإنسانية مؤخراً بمرور 30 سنة على تأسيسها وقد رافقْتَها منذ صدور عددها الأول وصُورَتُك على غلافَه، كيف تنظرون إلى هذه المُغامرة الفكرية؟

– ما زلت أغذِّي فكري من مجلة العلوم الإنسانية، التي أجدها مجلة غنية جداً، فأنا أستدمج الكثير مما أقرأه على صفحاتها، فضلاً عن أنني أجد نفسي في مفهوم «علم الإنسانية humanologie» الذي تمَّ تطويره مؤخراً من طرف «جون فرنسوا دورتييه» (مؤسس المجلة)؛ لأنني أقوم بالربط بين المعارف الإنسانية بحثاً عن فهم تعقيد الكائنات الإنسانية.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العنوان الأصلي والمصدر:

EDGAR MORIN. « NOUS DEVONS APPRENDRE À NAVIGUER DANS UN OCÉAN D’INCERTITUDES, propos recueillis par Hugo Albandea ,Sciences humaines (N°342S, décembre 2021).

«أمازون» ابتكرت طرقاً لا حصر لها لتقسيم الرواية

بفضل حصتها المُذهلة في السوق الأميركية التي بلغت 50 % من الكتب المطبوعة وما يزيد على 75 % من الكتب الإلكترونية، غيَّرت «أمازون» الحياة الأدبية كما نعرفها. لكن متجر «كل شيء» لم يغيِّر فقط كيفية شراء الكتب: وفقاً لـ«ماكجورل»، أستاذ الأدب في «جامعة ستانفورد»، فقد غيَّر نظرتنا للكتب التي نقتنيها أو نقرأها أو نكتبها. في كتابه «كل شيء وأقل»، يكشف «ماكجورل» نموذج توزيع «أمازون» وذوبان الحدود بين الأنواع، مجادلاً بأن خوارزمية «أمازون» قد حوَّلت فعليّاً كل الخيال إلى خيال النوع. بأفكاره الواضحة، يستكشف «ماكجورل» الأنواع العديدة التي شكّلها المنطق الاستهلاكي لـ«أمازون».

في كتابه الأخير «كل شيء وأقل»، يناقش «مارك ماكجورل» تحوُّلات الخيال في عصر «أمازون»، من ذوبان الحدود بين الأنواع إلى الدور المُتغيِّر للمُؤلِّف.

خلال مقابلتي مع المُؤرِّخ الأدبي «مارك ماكجورل»، ألقيت نظرة خاطفة من النافذة فوقعت عيناي على شاحنة «أمازون» وقعقعة عجلاتها على الإسفلت أسفل العمارة، حيث أسكن. كانت استعارة مناسبة لمحادثتنا حول كتاب «كل شيء وأقل»، التاريخ الأدبي الجديد المُثير لـ«ماكجورل» حول دور «أمازون» في إعادة تنظيم عالم الخيال. كتب «ماكجورل»: «لقد تسلّلت «أمازون» في كل بُعد من أبعاد التجربة الجماعية للأدب في الولايات المُتحدة. فأصبحت المنصة الجديدة للحياة الأدبية المُعاصِرة بشكلٍ متزايد».

يثير كتاب «كل شيء وأقل» أسئلة منطقية حول ماضي الخيال وحاضره ومستقبله. تحدَّثت مع «ماكجورل» عبر (زووم) لمُناقشة عصر «أمازون» وتبعاته: تفكيك حدود النوع، الدور المُتغيِّر للمُؤلِّف، ودواعي التفاؤل رغم كل ذلك.

أدريان ويستنفيلد: من أين جاءت فكرة هذا الكتاب؟

مارك ماكجورل: في يوم من الأيام، أدركت أنني أصبحت عميلاً راسخاً في «أمازون». ثمَّ، كمُؤرِّخ أدبي، فكَّرت في بعض الحقائق الأساسية عن الشركة. بدأت «أمازون» كمحل لبيع الكتب، وهو أمر رائع بحدِّ ذاته. قبل 25 عاماً، لم تكن «أمازون» موجودة؛ الآن، هي بحكم الواقع قوة مهيمنة في صناعة نشر الكتب. يبدو أن هذا يستدعي بعض التحليل لما يعنيه صعود هذه الشركة. ليس بالمعنى البسيط، مثل أن تقول: ««أمازون» الآن تملي علينا تصوُّرها لشكل الأدب المُفترض». ليس الأمر بهذه البساطة أبداً، لكن «أمازون» تنير عالم القراءة. يتعايش الأدب الآن مع الكثير من الأشياء الأخرى في العالم التي لم تكن موجودة في الماضي؛ أما «أمازون» فهو المصباح الساطع الذي ينير هذه الحقيقة.

كيف تصف خصائص الرواية في عصر «أمازون»؟ ما هو نمط رواية «أمازون»؟

– هناك تنوُّع هائل في الخيال، لذا فإنّ المُهمَّة ليست تبسيط هذا التنوُّع. إنه سيركٌ بالخارج. من منظور «أمازون»، كل الخيال هو خيال النوع. في أوائل القرن العشرين، كان الأدب مقسَّماً بشكلٍ منهجي بين ما يسمَّى بخيال النوع -الخيال الترفيهي، وخيال الهروب، والخيال العلمي، والرومانسية، والغرب، وأفلام الإثارة، وما إلى ذلك- والخيال الأدبي. ما تقوم به «أمازون» هو إلقاء نظرة على المجال الأدبي والقول، «كل هذا يشكِّل نوعاً الآن». النوع هو القاعدة المُهيمنة للأدب في عصرنا.

عندما تقول إن «أمازون» تضع كل الخيال في سلّة خيال النوع، فهل تقصد أن رؤية «أمازون» بهذه الطريقة تقوم على الخوارزميات؟

– نعم فعلاً. أحد الأشياء المُدهشة في «أمازون» هو عدد فئات الأنواع الموجودة في المنصة. إنها بالآلاف حرفياً. هناك قوائم أكثر الكتب مبيعاً من النوع التقليدي، ولكن عندما تنظر إلى أسفل كل قائمة كتب على «أمازون»، سترى أنها مرتّبة في عدد معين ضمن فئات متنوِّعة بشكلٍ كبير، من روايات النساء المُطلقات إلى الخيال السويدي. ابتكرت «أمازون» طرقاً لا حصر لها لتقسيم الرواية لإنتاج شكلٍ جنيس. وهذا بالطبع مستمر مع التسويق. ظاهرة السوق الأوسع التي نتحدَّث عنها هي تمايز المُنتجات وتجزئة السوق. تدرك جميع الأسواق الكبيرة أن بعض المنتجات سوف تروق لجماهير معيَّنة. في الأدب، النوع يقوم على تسويق هذا العالم من الفوارق.

في بداية الكتاب، كتبت عن قصة بعنوان «صُوف» كتبها «هيو هاوي»، والتي بدأت في 58 صفحة قبل أن تصل إلى 1500 صفحة، بناءً على طلب القارئ. يمكنك استخدامها كمثال عن دور القُرَّاء المُتحمسين في تشكيل حياة عمل الخيال بشكلٍ مستمر. في هذا السياق، تذكّرت «شارل ديكنز» الذي ينشر روايات متسلسلة. عندما تدفع «أمازون» لمُؤلِّف ذاتي النشر على منصتها مقابل عدد الصفحات المقروءة، كيف يختلف ذلك كثيراً عن تقليد الدفع للمُؤلِّفين مقابل عدد الكلمات؟

 

– إنه استمرار لنفس التقليد. يمكن القول إن الفجوة الغريبة كانت في أوائل القرن العشرين حتى منتصف القرن العشرين، بالتزامن مع ظهور الحداثة الأدبية والافتراض السائد بأن الأدب يجب أن ينأى بنفسه عن السوق. ولكن على المدى الطويل من تاريخ النشر، كانت الكتابة للسوق هي القاعدة منذ القرن الثامن عشر. قصة «أمازون» في بعض النواحي مرتبطة بذلك، رغم اختلاف الآليات إلى حدٍّ ما. نحن لا نتحدَّث عن النشر المُتسلسل، حيث تنتظر شهراً للحصول على الدفعة التالية، ولكن هذا يعيدنا إلى ذلك الإحساس بالإنتاج التسلسلي. في بعض الجوانب، إنها حقّاً العودة الصاخبة لزمن «ديكنز» في التاريخ الأدبي. إذا كنت تريد أن تصنِّفه كاتباً وناشراً ذاتياً، فإن كتابة عمل واحد لن تفي بالغرض. حتى لو كان كتاباً عظيماً. الرهان يكمن في كسب بعض الجمهور من خلال كتاب جيّد حقّاً، ثمَّ الاستمرار في خدمة ذلك الجمهور. هذا ما حدث مع «هيو هاوي». لقد كتب قصة قصيرة رائعة، نجحت حقّاً. ثمَّ، لخدمة هذا الجمهور، كان عليه أن يستمر في كتابة المزيد من الأجزاء. حتى ألّف هذه الملحمة الضخمة، والتي يتم عرضها الآن على الشاشة. بالتأكيد لقد عادت روح «ديكنز»، برعاية «أمازون».

يبدو أن ذلك يلخّص دورة الحياة الكاملة للكتابة هذه الأيام. من النشر الذاتي، إلى النجاح الجامح، إلى العرض على الشاشة.

– يجب أن نفكِّر في التليفزيون. يمكن تحويل عدد قليل جداً من الروايات إلى سلاسل تليفزيونية، لكنها مع ذلك تكتسب شهرة حقيقية. يمكن أن تكون قناة (HBO) وجهة نهائية محتملة لعملك، والتي ستفجِّر شعبيته. نحن نعيش في عالم تسوده ثقافة الصورة، سواء كان ذلك عبر البث التليفزيوني أو الإنترنت. يجب أن يرتبط الأدب بذلك فقط كلما كان ذلك ممكناً. صحيح، أعتقد أن الكُتَّاب سعداء إلى حدٍّ كبير بهذا الأمر. بصفتك روائياً، يمكنك أن تطمح كثيراً إلى رؤية أو مشاركة عرض جيّد لقصتك.

بالحديث عن كونك مؤلِّفاً اليوم، فإنك تستخدم مصطلحاً جديداً: «مؤلِّف – رائد أعمال». ثمَّ تكتب: «في عصر «أمازون»، للكاتب مهمَّتان، كتابة الروايات وتسويقها». هل يمكنك أن تشرح الطرق التي توسّع بها دور الكاتب، وكيف استوعب المُهمَّة التي كان يقوم به الآخرون تقليدياً؟

– في العقود السابقة، كان من المُفترض أن يكتفي الكاتب بالكتابة، وتتكفل دار النشر بالباقي. يمكنك أن تظلَّ بعيداً عن كل الأعمال الإضافية، إلّا عندما يُطلب منك القيام بالقراءات. لا يتمتّع الكُتَّاب الذين ينشرون ذاتياً بهذه الرفاهية على الإطلاق. الأشخاص الذين يكسبون رزقهم من النشر الذاتي يعرفون الكثير من الأشياء عن تسويق الكتب أكثر من الكُتَّاب المُتميِّزين. بصرف النظر عن تأليف الكتاب، هناك الكثير من الأعمال الإضافية التي يتعيَّن عليهم القيام بها. يجب أن يعرفوا استراتيجيات التسعير، وتحضير قائمة البريد الإلكتروني، وتصميم الغلاف. كل هذه الأعمال مرهقة للغاية، ولهذا السبب يعمل النشر الذاتي مثل نظام المزرعة. الكاتب يستقطب جمهوراً، فيلاحظ محرِّر في دار نشر كبرى ذلك، وبعد ذلك سيقنع الكاتب بالعمل معهم. ما يستفيد منه هذا الكاتب هو التخلّص من أعباء كل الأعمال الإضافية. هذه هي الحُجة التي يتمُّ تقديمها لهؤلاء الأشخاص: «إنك تقضي كل هذه الساعات في تطوير قائمة بريدك الإلكتروني. هل تريد حقّاً القيام بذلك، بدلاً من التفرُّغ للكتابة؟» إن مستوى المعرفة الذي يجب أن يدركه الكاتب الذي ينشر ذاتياً يتجاوز الكاتب التقليدي بكثير.

بالنسبة للكُتَّاب الذين ينشرون بأنفسهم، أزالت «أمازون» الحواجز التقليدية أمام النشر. إذا كنت ناشراً ذاتياً، فأنت لست بحاجة إلى وكيل أو ناشر. ماذا يعني ذلك للعالم الأدبي؟ هل نتحرَّر بذلك من حرَّاس البوابة، أم أن المرور عبْر مرشّح الوكلاء والناشرين مهمٌّ؟

– في مرحلةٍ ما من الكتابة، في منتصف هذا الكتاب، أدركت أنني لن أحلَّ هذا اللّغز. أنا شعبوي بما فيه الكفاية، وديموقراطي بما فيه الكفاية، بحيث لا يسعني إلّا أن أشجّع على تجربة هذه المحاولة. من ناحيةٍ أخرى، لا أحد ينكر أن مراقبة الجودة مشكلة حقيقية. هناك الكثير من الهراء في الأعمال. هل تعيق الأشياء السيئة تقدُّمك نحو الأشياء الجيدة؟ هل تثق بخوارزميات التوصيات والمُراجعات لتوجيهك إلى أشياء جيدة بالفعل؟ توقفت في النهاية عن التفكير في حلِّ هذه المُعضلة. الجودة مهمَّة، ولا يجب أن نكترث لحقيقة أن الكثير من الكتب السيئة تجد طريقها للنشر، رغم تشجيعي لكل مَنْ يحاول الكتابة. الطريقة التي نفكِّر بها في النشر الذاتي الآن تشبه نهاية العالم للزومبي، حيث تأتينا العديد من الكتب في مجموعات زومبي، بما في ذلك العديد من روايات الزومبي! لا يمكنني القضاء على كل الزومبي. أعتقد أنها على قدرٍ كبير من الطاقة الإبداعية، على الرغم من أن الوقت الذي نوليه للأعمال المُتواضعة يكون محدوداً بالتأكيد، أو هكذا يجب أن يكون.

هذا السيل العرم من الكتب هل هو علامة على المزيد من الكتب السيئة في العالم، أم هو ببساطة مؤشِّر على الكمِّ الهائل من الكتب في المجموع، لذلك هناك المزيد من الكتب الجيدة والسيئة؟

– هناك المزيد من الأعمال السيئة والجيدة في العالم. وهناك المزيد من الكتب في العالم، وبعض الكتب الجيدة تأتي من موهبة مغمورة أتيحت لها الآن وسيلة أخرى لإثبات جدارتها. من المُؤكَّد أن تقليص البوابات يشجِّع الكثير من الأشخاص الذين لا يقدِّرون حجم موهبتهم، ولكن ما إذا كان ينبغي علينا القلق بشأن ذلك وإلى أي درجة فهذا سؤال معقَّد. لكن ما الغاية في ذلك؟ دع هؤلاء الناس يحصلون على فرصة. ما زلت أقرأ ما أرغب في قراءته. لديّ فضول لمعرفة ما تعنيه كل هذه الوفرة الأدبية.

يتوق العديد من الكُتَّاب إلى انهيار الحواجز بين الخيال الأدبي وخيال النوع لبعض الوقت. هل لـ«أمازون» فضل في «تراجع مراقبة الحدود»؟

– منح الائتمان ليس بالأمر الهيّن. تركِّز «أمازون» على ضرورات التسويق، وهو ما يعني فعلياً أن الحدود بين خيال النوع والخيال الأدبي أصبحت أكثر مسامية. مثال، «كولسون وايتهيد»، أحد أشهر الكُتَّاب في عصرنا، الذي كتب رواية بوليسية، ورواية زومبي، وأخيراً، رواية سرقة. لن يخطئ أحد في كونه كاتباً لخيال النوع المحض. ومع ذلك، من الواضح أن تقارباً ما قد حدث مع أشكال النوع في عمله. أو «سالي روني»: إنها لا تنكر أن أعمالها هي روايات رومانسية من نوعٍ معيَّن. وتحمل دائماً حكايات رومانسية في جوهرها، لذلك فهي تمتص بعضاً من تلك الطاقة لكن دون أن يتمَّ الخلط بينها وبين رواية «خمسين ظل من غراي». لا أعرف ما إذا كنت سأنسب الفضل لـ«أمازون

مارك ماكجورل

» في تراجع تلك الحدود. من المُؤكَّد أننا أمام ظاهرة أدبية في عصرنا بعد أن تحوَّلت «أمازون» إلى منارة الأدب الخاضع لاختبار قوة السّوق.

تقول بأن الخيال الأدبي هو نوعٌ خاص – أن كل الخيال هو خيال النوع في عصر الأمازون. ما هو الجنيس أو الصيغي بخصوص الخيال الأدبي؟ ما هي ثوابته؟

– من ناحيةٍ، ما نسميه الخيال الأدبي سيكون عموماً عملاً من أعمال الخيال الواقعي. هذا ليس هو الحال دائماً. هناك استثناءات للأعمال السحرية الواقعية، والتي لها صفة أدبية معيَّنة. خذ «جوناثان فرانزين» كمثال مهيمن على ما نسميه الخيال الأدبي اليوم. مهارته الكبيرة ككاتب تكمن في مراقبة أسلوب تصرُّف الناس في الظروف العادية. أعتقد أنها لا تزال ملاحظة رئيسية في ما يُعرف بالخيال الأدبي، رغم بعض الاستثناءات لهذه القاعدة. ختاماً، أعتقد أن الخيال الأدبي أقلّ تحديداً من النوع الأدبي. خيال النوع مؤثث جزئياً. رواية الجريمة سوف تنطوي على جريمة قتل. الرواية الرومانسية ستكون حول زوجين. هذه الأشياء غير قابلة للتفاوض، أو لن تكون ضمن هذا النوع. عندما تسمي شيئاً ما خيالاً أدبياً، فأنت تقول عنه أقلّ مما تقوله عندما تسمي شيئاً ما رواية جريمة. المُفارقة أن الموضوع غير محدَّد نسبياً. الخيال الأدبي هو النوع الذي يحاول ألّا يكون عاماً، حتى لو كان لا يسعه إلّا أن يكون كذلك، في جميع الأحوال. كل ما في الأمر أن الأساليب ليست واضحة مثل، على سبيل المثال، الإثارة الجيوسياسية. ولكن من وجهة نظر «أمازون»، الفكرة هي، «هل تريد شراء رواية بقدر معيَّن من المكانة، تتضمَّن أشخاصاً عاديين يقومون بأشياء عادية؟ سيكون هذا خيالاً أدبياً، وهذا يخدم سوقاً معيَّناً، تماماً كما تروق الأنواع الأخرى لأسواقٍ أخرى».

يمكنك أيضاً طرح بعض النقاط المُثيرة للاهتمام حول الإمكانات العلاجية للكتب في عصر «أمازون». ما الدور الذي لعبته «أمازون» في إيصالنا إلى هذا المكان، حيث غالباً ما يُنظر إلى الكتب كمجالٍ للهرب أو الرعاية الذاتية أو تحسين الذات؟

– كمُؤرِّخ أدبي، لا يسعني إلّا أن ألاحظ مدى اختلاف الخطاب المُحيط بالقراءة اليوم عما كان عليه في القرنين التاسع عشر والثامن عشر، حيث كانت قراءة الروايات محفوفة بالمخاطر. «يا إلهي، هؤلاء الفتيات يقرأن الروايات! إنهن فاجرات!» هذا الشعور، على حدِّ علمي، بالكاد موجود في عالمنا. اليوم، للقراءة فضيلة ضمنية، لأنها تتطلب مجهوداً أكبر بكثير من مشاهدة الترفيه عبر الفيديو. القول بأن الأدب من منظور «أمازون» هو مادة علاجية يعني فقط القول بأنه سلعة من سلع «أمازون» اللانهائية في متجر «أمازون» والتي قد تجعلك تشعر بتحسُّن. وقد تحسِّن علاقتك بالعالم. الخيال تقنية معزّزة تضفي على عالمنا معنى أكبر.

الجزء الأكبر من كتابك يدور حول التغييرات التي شهدتها الرواية من خلال ديناميكيات منصة «أمازون». لكني أريد أن أستكشف كيف تأثّرت الرواية بأسلوب «أمازون» في تجارة الأعمال. لقد حاربت «أمازون» الناشرين وبائعي الكتب، وقللت من أرباحهم، بل ودفعت بعضهم إلى الإفلاس. هذا العام فقط، رفع الناشرون الخمسة الكبار دعوى قضائية بدعوى أن «أمازون» تعمل على تحديد أسعار الكتب الإلكترونية. كيف غيَّرت ممارسات «أمازون» التجارية الرواية والنظام الأدبي؟

– من الجدير بالذكر أن توحيد صناعة النشر، بعيداً عن «أمازون»، تعتبر سمة مهمَّة في التاريخ الأدبي الحديث. أشار العديد من الأشخاص إلى أن إضفاء الطابع المُؤسسي على النشر السائد قد أدخل مجموعة من القيم على قطاع النشر لم تكن موجودة في العقود السابقة. إن التركيز على أفضل الكتب مبيعاً وتراجع القائمة المُتوسطة إلى لا شيء تقريباً، هذا ليس من عمل «أمازون». إنها الرأسمالية المُطبقة على النشر، بغض النظر عن «أمازون». دخلت «أمازون» إلى المشهد كقوة أخرى مؤثرة للغاية ولها قوتها الخاصة. وقد دخلت في صراعٍ مع تكتلات النشر للخمسة الكبار.

الآن، كان هناك وقت لتاريخ معقَّد لهذه العلاقة. تعود الخلافات المُتعلِّقة بتسعير الكتب الإلكترونية إلى الماضي، كل ذلك لأن «جيف بيزوس» اشترط، دون سببٍ واضح، أن تكون تكلفة الكتب الإلكترونية في الغالب 9.99 دولار. وقال الناشرون، «لا يمكننا تحصيل أي فائدة من بيع هذا الكتاب إذا كانت تكلفته 9.99 دولار. أنت تسرق الأعمال من الكتب الورقية». نجمت عن ذلك نزاعات قانونية ضخمة، مما أدى إلى تنازل «أمازون». يُسمح الآن للناشرين بفرض رسوم على ما يريدون من الكتب الإلكترونية. ومع ذلك، هذه ليست نهاية القصة، بسبب قدرة «أمازون» على القيام بكل شيء. «أمازون» تتحمل خسارة المال عندما تريد. من بعض النواحي، قصة «أمازون» بأكملها تتلخص في قصة شركة قادرة على خسارة المال لمدة عشرين عاماً حتى ينهار منافسوها. لتستيقظ بعد بضع سنوات وقد أحكمت قبضتها على السوق، ويمكنها الآن التحكُّم في السوق وجني الأرباح.

يشعر الكثير من الناس باليأس حيال «أمازون» والمخاطر التي تشكّلها. بالنسبة للمُستهلك، قد يشعر أنه أمام مشهد لداوود في مواجهة جالوت. وبالنسبة للذين يشترون الكتب من «أمازون»، هناك تنافر بين فائض الروايات المُتوافرة لهم وتقلص زمن القراءة المُتاح: «إنّ القارئ الإلكتروني المُتخم لـ(كندل) أو (آي باد) يُعَدُّ في نفس الوقت تكثيفاً قوياً للتجربة الأدبية المُحتمَلة، وقبراً صغيراً يتنبأ بدنوّ أجلنا». ما أملنا نحن كقرَّاء عصر «أمازون»؟ ثمَّ أن تكون حيّاً كقارئ، لماذا يُعَدُّ ذلك وقتاً فريداً أو ممتعاً؟

– هناك الكثير من الأسباب للقلق على أسس تقليدية حول مصير الأدب في عالمنا. مساحته التقليدية تتقلص باستمرار. تتضاءل السلطة التي كان يتمتع بها الأدب في المشهد الثقافي الأوسع.. من ناحيةٍ أخرى، حجم الرغبة في القراءة وإنتاج الأدب مذهل للغاية. إن المُقابل لهذا الشعور بالكآبة والعذاب هو مدى قوة الرغبة في القصة، مدى وجود هذه الرغبة في حياة مئات الملايين من الناس. نحن نعلم أن هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يقرؤوا كتاباً أبداً، لكن هناك الكثير من محبي القراءة. هناك مئات الملايين من الأشخاص الذين يعتبرون القراءة جزءاً أساسياً لتجربة حياة مُرضية. إنها مكمِّل ضروري للغاية لوجودهم اليومي. ذلك المكان الذي يصنعه عقلك عندما يحوِّل الكلمات إلى قصة. هذا عظيم أيضاً. أعتقد أن الاستمتاع بالوفرة المعروضة أمامك كقارئ هو أكثر الأشياء أملاً التي تستحق الذكر.

إنّ سلطة الأدب في العالم الأوسع تتضاءل بلا شك. هذا مهمٌّ لشخصٍ مثلي، أستاذ اللّغة الإنجليزية – يتعلَّق الأمر بالتسجيل وعدد تخصُّصات اللّغة الإنجليزية وكل هذه الأشياء. كل هذه القضايا تتعلَّق بمسألة ذات معنى أعمق حول سلطة الأدب في عالمنا. لكن إذا لجأت إلى الأدب باعتباره وسيلة الملايين من الناس للحصول على المال، ولجعل حياتهم أفضل قليلاً، فهذا لا يزال عظيماً جداً، وحيوياً للغاية.

دمقرطة الأدب يمكن أن تثلج صدورنا أيضاً. منذ وقتٍ ليس ببعيد في مقياس التاريخ البشري، لم تكن القدرة على القراءة والكتابة والنشر منتشرة.

– كان هناك تقدُّم ديموقراطي في عالم الأدب. مجرد إلقاء نظرة على تكلفة النصوص، من عالم الكتب ذات الطبقات الثلاثية في القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، حيث غالباً ما تكون النصوص الإلكترونية مجانية بشكلٍ أساسي. كانت معدلات القراءة والكتابة تتوسع باستمرار من القرن التاسع عشر فصاعداً. عدد الأشخاص المنخرطين في عالم الأدب أكبر بكثير مما كان عليه في الماضي. أجد هذا مثيراً للاهتمام، حتى لو كان يتعلَّق بمسائل الجودة والقيمة الأدبية. ما مصير نموذج الأدب الذي قدَّمه «هنري جيمس» أو «جيمس جويس»؟ الكُتَّاب الذين قالوا: «إذا كنت تريد معرفة ما لدي، أيها القارئ، فسوف يتعيَّن عليك القيام ببعض الأعمال»؟ أعتقد أنه من الصعب جداً العثور على المشاعر في العالم الأدبي اليوم. أشعر بالتناقض حول اختفاء ذلك لأنني، على سبيل المثال، كانت لدي تجارب قيِّمة للغاية في العمل الجاد للحصول على ما يحاول المُؤلِّف تقديمه لي. أعتقد أن نموذج «أمازون» يتحرَّك بعيداً عن مطالبة القارئ بفعل أي شيء. إنه يتجه نحو التفكير في المُؤلِّف كخادم للقُرَّاء، يمنحهم ما يريدون.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

https://www.esquire.com/entertainment/books/a37989860/how-amazon-changed-fiction-mark-mcgurl-everything-and-less/#sidepanel

يورغن هابرماس: على الفلسفة أن تواصل التخصُّص دون توقف

إنّه أحدُ أكثر الفلاسفة الأحياء الذين تخلقُ كلمتُهم صدى وتَجاوباً، لكنه أيضاً أحد أكثرهم استعصاءً على مستوى قراءة أعماله، في سنِّ الثانية والتسعين تحدَّث «يورغن هابرماس» إلى طاقم تحرير المجلة (مجلة فلسفة الفرنسية) باللّغة الألمانية بكيفية مفهومة على نحوٍ استثنائي، مباشرةً بعد صدور الجزء الأول من كتابته لتاريخ الفلسفة، حيث يعيد رسم مسار حياة كرَّسها للمثال الديموقراطي، حياة تشْهَدُ على مشروع فلسفي لا تضاهيه في دقة تحديده إلَّا سَعة طموحِه؛ إنه مشروع إنقاذ الاستخدام العمومي للعقل.

يُلَقّبُ في ألمانيا بـ«هيغل الجمهورية الاتحادية»، وبالفعل فلـ«يورغن هابرماس» من شموخ القامة ما لِإرثٍ تاريخي، فهو من بين أكثر الفلاسفة المُعاصِرين الذين يحظون بدرجة كبيرة من الاحترام، إنْ لم نقل أنه أكثرهم حظاً من المُتابعة والقراءة. وُلِدَ «هابرماس» سنة 1929، وقد مثَّل المُفكِّر لعَمليةِ إعادة البناء التي أعْقبت الحرب العالمية الثانية، ولازال يمثِّل وريثاً لتقليد فكري مزدوج؛ تقليد مدرسة فرانكفورت والتقليد الفكري لنظرية اللّغة، احتفظ من التقليد الأول بـ«النظرية النقدية» للمُجتمع الرأسمالي، التي صاغها بمعهد البحث الاجتماعي بمدينة فرانكفورت مع مُرشديه وبإشراف منهم: «ماكس هوركايمر» و«ثيودور أدورنو» و«هربرت ماركيوز»، وباستلهامه لـ«ماركس» سيدخُل في حوار مع فلسفة الأنوار لاسيما مع الفيلسوف «إيمانويل كانط»، أمَّا التأثير الكبير الثاني في فكره فهو الذي مارسه المُفكِّر الأميركي «جون ديوي» والتيار البراغماتي، الذي يَعتبِرُ الديموقراطيّةَ سيرورةً تشاركيَّةً أكثر من كونها حالةً، ويُعَدُّ الفيلسوف «كارل أتو أبل Karl-Otto Apel» أبرز ممثليه الألمان، وقد التقى به «يورغن هابرماس» في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، ليبلْوِرا معاً «أخلاقيات المُناقشة»، التي تتمثل في إرساء الشُّروط الكونية لإمكانات قيام مناقشة وتتيح التأسيس العقلاني للمعايير داخل فهم حواري للأخلاق.

عبْر المزج بين هذه الإسهامات المُختلفة -«كانط»، «ماركس وديوي»- منح «يورغن هابرماس» انعطافةً «تواصلية» للنظرية الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت، وهو ما يؤكِّدُه بقوله: «لقد انطلقت من السَّواد المُطلق للنظرية النقدية في بداياتها والتي تعاملت مع تجربة الفاشية وتجربة الشيوعية، وحتى لو كانت الوضعية، التي هي وضعيتنا بعد 1945، مختلِفةً، فقد مثَّلت نظرة مجرَّدة من الأوهام تمَّ إلقاؤها على القوى المُحرِّكَة لدينامية اجتماعية ذاتية الهدم، لتقودني بالدرجة الأولى إلى الانطلاق في البحث عن مصادر تضامن الفرد مع الأفراد الآخرين؛ تضامُنُ لازال لم يتم إطماره بَعْدُ بصورة كلية».

يدافع الفيلسوف «يورغن هابرماس» عن المُواطنة الدستورية باعتبارها تِرْياقاً لما تنطوي عليه النزعة الوطنية من مخاطر؛ فهو ينافح عن التَّعلُّق بالمُؤسسات الديموقراطية بديلاً عن التَّعلُّق بالحيِّز الترابي، كما أنه لازال إلى اليوم مُلتزماً من أجل تجاوز الدولة الأمة ومناصراً متحمساً للبناء الأوروبي. وأن يكون الفيلسوف مؤلِّفاً لعمل ضخم حول المُناقشة الناجحة فهو أمرُ لا يعدمُ صِلَةً مع كونِهِ شخصاً عانى الإعاقة؛ إذ خضع «يورغن هابرماس» وهو في طفولته لعملية جراحية لتجاوز تشوُّه خِلْقي يُعرَف بالشفة الأرنبية، خرج منها بصعوبات على مستوى النطق، كانت كافية لإقناعه بِسُمُوّ الكتابي على الشفهي، فكان أن انتهى به الأمر إلى صياغة أسلوب جزل بقدر ما هو دقيق، إنْ لم يكن أسلوباً جافاً، لكن في بَوْحِه لفريق تحرير «مجلة فلسفة» في ألمانيا، كانت نبرته مشحُونةً بارتياحٍ غير معتاد، وفي الوقت الذي صدر فيه الجزء الأول من آخر عمل كبير له -كتاب ضخم يحمل عنوان «تاريخ الفلسفة – histoire de la philosophie» (عن دار غاليمار)- اختار «هابرماس» أن يُفضي لنا وهو في سن الثانية والتسعين من العُمر بذكرياته وما يحمله من آمال لفئة الشباب، إلى جانب حافز طموحه الفلسفي الذي لم يصبه العياء.

تمَّ مؤخَّرا نشر الجزء الأول من كتابك الضخم «تاريخ الفلسفة»، حيث نجد فيه على الخصوص سؤال دور الفلسفة، فما هو هذا الدور؟

– إنّ العلوم تتقدَّم وتزداد تخصُّصاً أكثر فأكثر، دون أن تفقد خاصيتها العلمية، بل تجِدْها تنحو بالأحرى إلى تقويَّتِها، وهو ما يعني أن على الفلسفة أن تواصل بدورها التخصص دون توقف، باعتبارها تتأمل وتفَكّر في أشكال التقدُّم التي تحققها هذه المعرفة، لكنها ستكُفُّ عن أن تكون فلسفة إنْ هي فقدت «الكُلَّ» من مجال نظرها، وأنا لا أقصد بـ«الكل» هنا «العالم في مجموعه»، بل الخلفية المقدمة بكيفية ضمنية فحسب، أي خلفية عالم العيش، الذي نتساءل في مواجهته عمّا يعنيه التّقدُّم العلمي بالنسبة لنا، وهذه الإحالة إلى أشخاصنا بوصفنا أفراداً معاصِرين وكائنات إنسانية عموماً، تقيم تمييزاً بين الفهم الفلسفي للذات وبين العلوم التي تتجه منهجياً نحو ميادين الموضوعات الخاصة بكل واحد منها، وبكتابي الأخير أردت أيضاً أن أبرز الكيفية التي تشعَّب بها، مع «كانط» وهيوم، خطان فكريَّان صار يبتعد أحدهما عن الآخر مثل قارتين من غير هدى وبلا هدف؛ أحدهما يتصوَّر الفلسفة تخصُّصاً علمياً من بين التخصُّصات العلمية الأخرى التي تزداد تخصصاً -وهو الأمر الذي ليس بالخاطئ في شيء- في عملية إعادة تشكيل عقلانية لـ«تعرّفٍ» محدَّد وحدسي فقط، وتتخصَّصُ في الكيفية التي بها ندرك أو نحس بشيء ما، ونفعل فيه أو نتحدَّث عنه، والكيفية التي بها نمارس العلم أو نقول بها الحق، أما الاتجاه الآخر فيستخدم هذه المعرفة التي أُعيدَ بناؤُها كي يقدم، مع نظرة على المُشكلات الضاغطة للراهن، مساهمةً في الفهم العقلاني للعالم وللذات عيْنِها من قِبل الأجيال المُعاصِرة، وفضلاً عن ذلك يبقى كلا التوجهين المُتعاكسين فيما بينهما عُرضة لخطرين متكاملين، هما خطر النزعة العلموية وخطر السقوط في مجرَّد الهواية.

إنّ نظريتكم حول الفعل التواصلي (1981) تدعو إلى مِثَال المُناقشة العقلانية بين جميع المُواطنات والمُواطنين، فهل لا زالت شروط الحوار الهادئ مُجتمعة؟

– لقد لامستم بسؤالكم هذا موضوعةً عميقة جداً هي المُتمثلة في كون الشبكات الاجتماعية تفكك حتى شروط تنظيم مناقشة سياسية وبأن التواصل العمومي لم يعدْ بتاتاً ذاك الفضاء الذي يقوم فيه التمييز بين «الصحيح» و«الخاطئ»، والواقع أن المُناظرة العمومية من اللازم أن تتمَّ هيكلتها بكيفية تكون فيها الآراء المُتنافسة معبِّرَة عن الأسئلة (والمُشكلات) التي يتمُّ تحديدها وتعيينها من قِبل جميع الأطراف باعتبارها أسئلة ملائمة ومشتركة، لكن ما تقوم به المنصات الرَّقميّة هو تكوين كمٍّ من جزر التواصل تدور حول نفسها وتميل إلى فصل وعزل المُشاركين عن تدفُّقات المعلومات التي تكون موضوعاً للفحص والتحرير، فبحُكم ذلك يكون العالم الرَّقميّ مُقسِّماً للآراء العمومية الوطنية إلى حَدٍّ لا يتواجَهُ فيه المُواطنون إطلاقاً حول نفس الموضوعات، وفي أقصى الحالات هم لا يعيشون بتاتاً حتى في نفس العالم السياسي.

غالباً ما نؤاخذ اليسار على ارتباكه وحيرته داخل خطابات نخبوية حول سياسة الهوية وعن تَحمُّله لجزء من المسؤولية في نجاح اليمين المُتطرِّف، فهل من أساس لذلك بنظركم؟

– بخصوص العلاقة بالمُهاجرين أو، بصورة أعم، العلاقة بالأشخاص من أصل إثني أو ثقافي أجنبي، تبقى المُبادرات الصادرة عن ممثلي الدراسات المابعد كولونيالية مرحَّباً بها؛ فنقد الأحكام المسبقة والجرائم العنصرية يستند دائماً إلى مبدأ ذي نزعة كونية للاحترام المُتماثل الذي يكون واجباً علينا تجاه كل شخص. ذاك هو السبب الذي من أجله يتعيَّن علينا ألّا نزيد في إضفاء الخاصية الطبيعية على الاختلافات الثقافية، فليس صحيحاً أن الآخر الذي ننتَقِدُه هو، بشكلٍ من الأشكال، أسيرُ ثقافته أو سجين داخل السياق الخاص بأصله وتنشئته الاجتماعية، ذلك أن الثقافات المُختلفة لا تشكّل عوالم مقطوعٌ بعضها عن البعض بسدُود لا يمكن عبورها، كما أنها لا تتميَّز أبداً بـ«هويات» جامدة وغير متحرِّكة في علاقة بعضها ببعض.

لقد أظهرت أزمة (كوفيد) للعيان وجود توترات هائلة بين الحرّية الفردية والتنظيم والضبط الذي مارسته الدولة باسم الصحة، ما حُكمكُم على فعل الدولة خلال الجَائِحة؟

– إنّ النقاش حول السبيل الأفضل الذي يتعيَّن اتباعُه في مواجهة الجَائِحة قد هيمن عليه إلى حدود تاريخ قريب الخلاف بين المُدافعين عن الإجراءات الوقائية الصارمة وأنصار خط إزالة العوائق والانفتاح التحرُّري، وفي هذا السياق، لدينا نقطة عمياء مهمَّة مع سؤال خاص بفلسفة الحق هي المُتمثلة في معرفة ما إذا كان بإمكان دولة الحق الديموقراطية اتباع سياسات تَتلاءَم عبْرها مع أرقام انتشار العدوى والوفيات التي يمكننا تفاديها من حيث المبدأ. ففي ظل الأزمة اعتمدت الدولة على تعاون غير عادي من قِبل السكان، وهو ما فرض قيوداً صارمة على جميع المُواطنين، بل وفرض عليهم حتى تقديم خدمات شخصية بارزة، بمَنْ فيهم مختلف المجموعات التي لا تتحمل التكاليف على قدم المُساواة، ولم تكن الدولة مرغمة على فرض المزايا التضامنية عبر الطريق القانوني إلّا لأسبابٍ وظيفية، والإحراج الحاصل بين الإكراه أو القسر القانوني والتضامن إنما هو ناجم عن انفجار توتر إبَّان الجَائِحة، وهو التوتر الذي يبقى داخلياً بالنسبة لدستورنا ذاته وملازماً له، بين مبدأين حاملين، ذاك الذي يوجد من جهة بين السلطة الديموقراطية التي تبسُط ولايتها على المُواطنين بغرض متابعة مجمل الأهداف الجماعية، ومن جهةٍ أخرى، الضمان المُؤكَّد من قِبل الدولة للحرّيات الذاتية، والعنصران معاً يتكاملان فيما بينهما كلما كان الأمر متعلِّقاً في وضعية عادية وبإعادة الانتاج الداخلي للمُجتمع، لكنهما يفتقدان التوازن كلما كان الجهد الجماعي الاستثنائي الهادف إلى صدّ خطر طبيعي يهدِّد «من الخارج» حياة المُواطنين مُسْتَلْزِماً أفعالاً تضامنية منهم تتجاوز المُستوى المُتواضع الذي يطبع التوجُّه نحو الخير المُشترك والذي ننتظره منهم في الحالة العادية. أعتقد بأن هذا الالتماس غير المُتَقَايس لتضامن المُواطنين على حساب حرّياتهم الذاتية المضمونة بدورها، إنما يجد تبريره في ما تطرحهُ على كاهلنا الوضعية الاستثنائية من تحدّيات، لكن الأكيد هو أنها لا تكون لها مشروعية سوى لفترةٍ محدودة.

لقد ظهر بفضل الأزمة الصحية، نوعٌ جديد من الاحتجاج الشعبي يؤكِّد نفسه على المشهد السياسي، فكيف تصفونه؟

– عندما نعكف على حالة وعي هؤلاء الناس، فإننا نصطدم في واقع الأمر بتناقض غريب، فمن جهةٍ هم يستخدمون نظريات المُؤامرة كي يسقطوا ألوان قلقهم المكبوتة حول القوى الظلامية التي يُفْترَض أنها تستعمل سلطة المُؤسسات القائمة؛ فالعنصر أو المُكوِّن السلطوي لهذه التصوُّرات المُنغلقة للعالَم والمُتأثرة في الأغلب بنزعة معاداة السامية تكشف عن جذور اليمين المُتطرِّف لهذا الإمكان، ومن جهةٍ أخرى نجد أن استنكار النظام الذي تمَّ وضعه قد أتاح للمُشككين في كورونا تقديم أنفسهم بلباس النزعة المُضادة للتسلط Anti-autoritarisme؛ بحيث تعطي مواكبهم الاحتجاجية المظهر التحرُّري للحركات الاحتجاجية للشباب، بهذا الشكل أمكن للمُحتجين أن يتظاهروا ويعملوا على تقديم أنفسهم باعتبارهم المُدافعين الديموقراطيين «الحقيقيين» عن الدستور الذي تمَّ انتهاكه من قِبل حكومة يَتَمُّ الزَّعم بأنها متسلطة. والواقع أن الشيء الوحيد الذي يرشح من هذه الوضعية التحرُّرية، هو الدفاع الخالص والمحض عن المصالح الشخصية الذي يتوقع المرءُ أن يجده عادةً عند ممثلي الليبرالية الاقتصادية الجذرية، لكن ما يوجد في هذه الحالة، هو نزعةُ التمركز حول الأنا الخاصة بالضّعفاء والمُهمشين، لا تلك الخاصة بالأقوياء. ولو وَثِقْتُ في انطباعي، لَقُلت بأن إمْكَانَ الاحتجاج هذا لازال سيشغلنا لفترة أطول، وبكيفية مستقلة تماماً عن العامل الذي أطلَقَهُ المُتمثل في الجَائِحة وأفترض أنه يعبِّر عن هذا النوع من عدم الاندماج الاجتماعي ذي الأصل النسقي والذي أجاد الرئيس الأميركي «جو بايدن»، دون أدنى شك، في تشخيص مُسبِّباته بعد الهجوم على الكابيتول الأميركي وهو يحاول لحدود الآن محْوَهُ من خلال محاولته العودة إلى برامج «روزفلت».

ما رأيك في الاستجابة الأوروبية للأزمة الصحية؟

– لا شيء يبعث على الاندهاش في ما أبانت عنه الدول الأمم، أثناء جائِحة «كوفيد – 19»، من قدرة على التصرُّف ككيانات بشكلٍ فعلي وحقيقي، على الرغم من نشاط التنسيق الذي قامت به المُنظمات الدولية لاسيما منظمة الصحة العالمية، ومع ذلك لازالت المفوضية الأوروبية مسؤولة، نيابة عن الدول الأعضاء، عن اقتناء اللقاحات النادرة وتوزيعها، فبذلك استطاعت أن تتجنَّب، في نطاق مجالها التراتبي المُتميِّز عالمياً من زاوية اقتصادية، تفاوتات قوية في التزوُّد بالأدوية الحيوية، كانت ستظهر بين الدول الأعضاء المُتفاوتة في قوتها، لكن تزامن الكارثة التي عصفت بإيطاليا في بداية الجَائِحة مع المُشاورات حول الميزانية هو ما دفع على الخصوص كلا من «ماكرون» و«أنجيلا ميركل» إلى فرض مبادرتهما من أجل برنامج مشترك للمُساعدة على الصعيد الأوروبي وإذا كانت خطة الإنعاش لافتة في تميُّزها، فلأنها أتاحت للمفوضية تحمُّل الدُّيون الأوروبية المُشتركة، حتى وإنْ لم يكن ذلك في لحظة أولى إلّا بهدف التّحكُّم في ما نجم عن الوباء من عواقب، لكن منذ تاريخ توقيع اتفاقية «ماستريخت» إلى الآن، يبقى قرار تحمُّل الدَّين بصورةٍ مشتركة هو الخطوة الجدية الأولى نحو توحيدٍ أكثر تقدُّماً.

تخيَّل لو أنَّ شاباً في غمار طرحه لأسئلة على نفسه بخصوص العَالَم، حَصل أن التقى بك، ما هو المُؤَلَّف الفلسفي الذي ستنصَحُه بقراءته أولاً؟

– لن أوصيه بأي واحدة من تلك الطلقات (وعمليات القصف) الاندفاعية التي نُسْلم أنفسَنا لها عندما يكون الأمر متعلّقاً بتقديم صور تشخيصية للحقبة التاريخية، بل سأنصحه، من باب تحفيزه من أجل الاطلاع على الفلسفة، بقراءة صفحتين ونصف وصَلتَا إلينا من كتابة «هيغل»، تحت عنوانٍ به شيء من الخداع: «أقْدَمُ برنامج نسقي للمثالية الألمانية»، وحتى لو سارع أحدهم إلى القول بأن طالبة شابة في قسم البكالوريا لا يمكنها فهمُ سياق هذه الأسطر، فإن ما ستشعر به هو تلك القوة المُتعالية لفكر شعري فلسفي (péotico-philosophique) التي كان يحملها الأصدقاءُ الثلاثة: «هيغل» و«شلينغ» و«هولدرلين» في تلك الحقبة، أي سنوات بعد الثورة الفرنسية، لأن هذه الأسطر هي التي انحدرت منها أعمال فلسفية وأدبية هزَّت العالَم ولا زالت تُحرِّكُهُ إلى يومنا هذا، وإذا تعلَّمت هذه الشرارة الفلسفية، سأنصحُها عندئذ، هي أو صديقها المهْتم، بقراءة «كتابات الشباب» لـ«هيغل»، نعم هي نصوص محيِّرَةُ، لكنها أيضاً الخُطى تقود على الطريق الصحيح، وفي نهاية المطاف سيكون الاثنان قد اكتشفا معاً مفهوم الحرّية ومفهوم «الحب»، أي سيكونان قد اكتشفا التبادلية التي تطبع العلاقات البينذاتية بوجهٍ عام، وهما مفهومان لن يغيبا عن ذهنهما أبداً، مهما كانت الوجهة التي يأخذهما صوبها فِكرُهما الخاص.

أنت أحد آخر المُفكِّرين الذين عرفوا الفيلسوف «ثيودور لودفيغ فايسنغرند أدورنو» شخصياً، هل تتذكرون هذا اللقاء؟

– عند أول لقاء بيننا في يناير/كانون الثاني 1955 لم يكن «أدورنو» قد صار بعد «أدورنو» كما هو في أعين الجمهور، أتذكره شخصاً بحركات رشيقة، عميقاً في تفهُّمِهِ لكنه يحمي، في ذات الوقت، نفسَه من الخارج، هذا الشخص الذي رأيته فيما بعد، استقبلني بمكتب «هوركايمر» بتودد ملحٍّ بقدر ما هو مستعصٍ على كلِّ اختراقٍ، لقد صارت الذهنية الشفافة، طبيعة ثانية له، فمن لغته وخَطَابَتِه اللاَّذعة ينكشف، ربما عنصر أو مكوِّن مصطنع يسبب اندهاش الزائر غير المُستعد. لم يكن بمقدروي في تلك الحقبة التكهُّن بما الذي كانت ستعنيه بالنسبة لي السنوات الأربع ونصف السنة الموالية من العلاقة شبه اليومية مع هذا الذهن العظيم والهش، الأعزل من كل دفاع والفائق الحساسية تجاه المؤسسات؛ بمعنى ما الذي كانت ستعنيه تلك السنوات في تطوُّري الفلسفي وبصورة أعمّ في تطوُّري الذهني. لقد كان «أدورنو» شخصاً لا يمكنه إلَّا أن يفكِّر، إذْ كان أقربَ ما يكون إلى العيش تحت وطأة التوتر بشكلٍ يومي، وهو ما كان ينطوي تقريباً على شيء من الألم، وفي الأمسيات التي كانت تجتمع فيها حلقة الوُد المُصغَّرة كان يبذُل لنا فيها ما هو أكثر من واجب الضيافة، ولما كان يشعر صاحب البيت بالأمان، كانت تلك الليالي تطول أكثر، لقد كان «أدورنو» يعيش حياة بورجوازية، فعند منتصف النهار يدخل لتناول غدائه في بيته، ثمَّ يعود إلى المعهد عند الساعة الثالثة زوالاً تماماً، من شارع «كيليتنبرغ» القريبة جداً، رفقة زوجته «جريتيل».

عندما تتذكرون هذه الحقبة التاريخية هل تجدون فيها بعضاً من صور التوازي مع حقبتنا نحن؟ أم تُرانا أمام عالَم مختلف تماماً؟

– بكيفية تطبعها المُفارقة سأجيب بنعم عن سؤاليْك معاً؛ فالناس وحاجاتهم وصور قلقهم وآمالهم وتطلعاتهم لا تتغير بشكل سريع جداً، اللهم إلّا إذا كان ذلك بكيفية سطحية جداً على غرار ما تتغير أشكال الموضة. وبالمُقابل نجد أن شروط الحياة والظروف السياسية قد شهدت تحوُّلاً ظاهرياً في أعقاب تسارُع التغيُّر التكنولوجي والاجتماعي. أكيد أن وعي السكان الذين ينتمون إلى نفس الوطن في تلك الحقبة كان غارقاً في الإطار الوطني وكان رجعياً إلى حدٍّ ما، لكنه كان وعياً متّجهاً نحو المُستقل. ومع الدفعة المُواتية التي حملتها الانطلاقة الاقتصادية، وعلى الرغم من صور الاتصال والاستمرارية على صعيد الذهني والشخصي كانت ضاغطة مع حقبة الوطنية الاشتراكية، على الرغم من ذلك كنا نشعر بأن شيئاً ما في طور التحسُّن. أما اليوم فنجد الوعي قد اهتز وارتجَّ من مدة طويلة وسقط في حالة دفاعية، والجَائِحة ما هي، بالأحرى، إلّا عَرَضٌ لذلك؛ إنّ عولمة التهريب والإنتاج وَرقْمَنةَ علاقات العمل والتَّواصُل، والآثار القاسية والمُدمرة للأزمة المناخية تحديداً لا تبعث على الأمل؛ فما أبرزته الإيكولوجيا تحديداً هو أن أشكال المنافذ التحليلية تتغير في ذات الوقت الذي تتغير فيه الظواهر. ومن جانب آخر نجد أن المُشكل القديم هو المُتمثل في معرفة الكيفيّة التي يمكن بها، لضبط وتنظيمٍ تتولّاه الدولة، تدبيرَ المُشكلات التي أفرزتها الرأسمالية، إلى جانب التفاوتات وعدم المُساواة الاجتماعية المُتزايدة التي لم تخْتفِ، بل ازدادت حدَّةً وخطورةً في أعقاب العولمة الاقتصادية والأزمة المناخية، ومع أن هذا المُشكل لم يتم التَّحكُّم فيه دائماً وضبطه، فإنّ إدراكه يتمُّ باعتباره مشكلاً تافهاً ومبتذلاً داخل مجتمع صار أكثر غِنى في المُتوسط، ليتم تركه في ذيل الخطة ووضعه على آخر سلم الأولويات، كما أن السياسة قد تخلَّت عن التوجيه وعن الإرادة الخلّاقة والمُبدعة وعن المنظور أو الأفق المُستقبلي، وصارت تتكيَّف بانتهازية مع التَّعقيد المُتزايد الذي صار يَسمُ الوضعيات المُقلقة، دون أن تمتلك بالبث والمطلق أيَّ إرادة واضحة.

قدَّم «برتراند راسل» نصيحتين للأجيال المُستقبلية؛ إحداهما فكرية والأخرى أخلاقية؛ فأما الإشارة الفكرية فمضمونها وُجُوب التَّركيز على الوقائع وحدها وما تنطوي عليه من حقائق. وأما الإشارة الأخلاقية فتتمثل في أننا نعيش في عالَم يصير أكثر فأكثر تعولماً (globalisé) مما يستوجب تكويناً جماعياً على التعاطف والتسامح، فما النصائح التي تقدِّمها أنت؟

– أوافق «راسل» على كلتا النقطتين، لكنني أَسْند إشارته الأخلاقية بوقائع: الوقائع التاريخية، مثل إلغاء العبودية وتجاوز الهيمنة الاستعمارية وإدانة التعذيب وإلغاء عقوبة الإعدام وضمان التسامح الديني وحرّية الرأي أو المُساواة في الحقوق بين الجنسين، فهذه الوقائع كلُّها تمَّ التّرحيب بها بصورةٍ واضحة باعتبارها صور تقدُّمٍ على طريق مَأْسَسة الحُرّيات، وهو أمرٌ حاصلُ ليس داخل منظورنا الغربي المحدود. وإلى جانب ذلك لا أحد يشكك في ما حقَّق العلم من تقدُّم، كما أننا راكمنا تقدُّماً أيضاً على صعيد استخدام العقل العملي؛ غير أن ذلك لا يمكِّنُنا من ضمانة مؤكَّدةٍ على أننا سنحُلُّ المُشكلات الراهنة، التي تبدو، بصورة خالصة وبكامل البساطة، عقباتٍ يتعذَّر تذليلُها، لكن يمكنها على أقل تقدير تشجيعنا على المضي في اتجاه «تعلم الأمل» (Docta Espoir)، واستخدام عقلنا العملي من أجل تحسين العالَم، ولو كان ذلك بالأقل، واليوم لا زال بإمكان الفلسفة أن تقدِّم أدواتٍ جيدةً لدعم وإسناد هذا الفكر الذي يُفصِح عن نفسه في أعمال «كانط» أكثر من أي فيلسوفٍ آخر.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

Philosophie Magine,N°155, decembre2021 / janvier2022.
حوار: ليزا فرايدريش. تقديم: سيدريك انجالبرت. الترجمة الأصلية: أوليفييه مانوني