نشأة الفَنّ التشكيلي في قطر

حصيلةالفَنّ التشكيلي في قطر غنيّة ومتنوّعة بما يجعلها بارزة في المشهد التشكيلي داخلياً وخارجياً، ومثيرةً لفضول المتـتبـع والنـاقــد. لكن في المقابل تُعاني التجربة التشكيليّة في قطر من نقص المُواكبة النقديّة والجماليّة، ومن ثم عدم انتباه الجمهور العربي إلـيـها والاهتمام بخصوصيتها الجماليّة والثّقافيّة. في هذا السياق يحمل هذا الملف، في جزئه الأول، عنواناً مرجعيّاً: (الفَنّ التشكيلي في قطر.. من النشأة إلى الآن) وقد حصرنا مجمل محاوره في الجانب التوثيقي بالتركيز على جيل الروّاد، نفتح معهم أرشيف البدايات بغية الوقوف على أهم المراحل والفترات التي شيّدت التجارب التشكيلية القطريّة من النشأة وإلى الآن. ونتتبع المسارات المُتعدّدة التي اختارها مجموعة من الفنانين في توجّهاتهم الأكاديمية والفنّيّة، كما نستعرض دور المؤسّسات الرسميّة والمراكز والبنى التحتيّة في تشجيع الحركة التشكيليّة داخل قطر وجعلها ممثلة في محافل الفَنّ العالميّة.

 

(1)

حيوية «الجسرة»

لا يحسن الدارس التعرّف إلى تجارب الفنّ الحديث الأولى في قطر، وعلى مسارات فنانيها الخصوصية، من دون الحديث عن «الجسرة» كمنطقة، وعن ناديها كمنتدى للحيوية القطرية، على اختلافاتها.

كانت الدوحة تتوزّع على أحياء معروفة: البدع والجسرة وسوق واقف ومنطقة شرق. بين الجسرة والبدع يقع قصر الحاكم، كما يروي الدكتور يوسف عبيدان*، وتقع في منطقة السوق الميناءُ والمحكمة الشرعية والسوق نفسه: «كانت هذه المناطق تعجُّ بأهل البادية الذين يأتون لتصريف منتجاتهم من الألبان ومشتقاتها وخيرات المطر، فتكون سوقاً رائجة. في الجسرة عاشت عائلات كبيرة، وكانت تربطها بحكام البلد وبالقبائل الأخرى علاقات وثيقة.

تقع الجسرة، في وسط الدوحة، على مقربة من «سوق واقف» الشهير، وهي منطقة شكلت التقاء عدد من الفنانين، مثل: جاسم الزيني ويوسف أحمد وحسن الملا وعلي حسن، وسلمان المالك، ومحمد الجيدة، وغيرهم. ولقد جمعتْ بينهم قصص الطفولة، بطبيعة الحال، بل أعمق منها، وهو الولع بالفنّ، ما سيكون له أثره الحاسم في توطيد الصلات بينهم. هذا ما ساعدَهم، من دون شكّ، على تأسيس أول «جماعة فنيّة» في قطر («الأصدقاء الثلاثة»)، أو على تأسيس «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية»، وغيرها من الإنجازات التي جعلت من الجسرة البيئة الأولى للفنون التشكيلية في قطر. ولقد وجدتْ هذه الحيويةُ في «نادي الجسرة» إطاراً جامعاً ومنشطاً، بل محفزاً لها: جمعتْ بين هواة الفنّ أنشطةُ النادي المختلفة، من كرة القدم، التي مارسها غالبيتهم (حتى إن أحدهم، علي حسن، بلغ حدود الاحتراف، في «نادي الوحدة» من الدرجة الثانية)، إلى تنظيم أنشطة مسرحية وثقافية، فضلاً عن تنظيم معارض فنيّة مختلفة. كما تولى جاسم الزيني، بمجرد عودته من بغداد إلى الدوحة، مسؤولية التنشيط الثقافي في هذا النادي.

منذ خمسينيات القرن الماضي ظهر عدد من النوادي، مثل: «نادي العروبة»، و«نادي النصر» وغيرهما. أما «نادي الجسرة» فتميّز منذ منتصف السبعينيات بوصفه «نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي»، وأخذ على عاتقه بث رسالة ثقافية واجتماعية، وقام بجهود بيّنة لتعريف العالم الخارجي بالتراث القطري من أدب وفنون عن طريق المحاضرات وعروض الفرق الفنيّة الفلكلورية.

كان للزيني دور أول في جميع خطوات الفنّ في قطر: إلى دوره المذكور في النادي، عيّنتْه الحكومة في العام 1968، بعد عودته من الدراسة في بغداد، مساعد مفتش للتربية الفنيّة؛ ثم انتدبته للعمل في «متحف قطر الوطني» لتجهيزه، فعمل مع رئيس اللجنة يوسف جاسم الدرويش على تجميع مقتنيات المتحف الأولى، من ذهب وملابس وسفن وغيرها: «كنا ننتقل أينما كان في قطر، إلى بيوت الناس، ونفحص الموجودات ونقيِّمها». كما كان له دور أساس في تأسيس «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية» … وكانت حياة الفنّ، حينها، تقتصر، حسب الزيني، على معارض قليلة تنتظم في «فندق الخليج»، أو في «متحف قطر الوطني»، أو في مقرّ «الجمعية»، أو في ناديَي «الجسرة» و«الغرافة»، من دون أي صالة عرض خاصة.

كان بيعُ الأعمال الفنيّة محدوداً، ولا يتجاوز سعر اللوحة الواحدة خمسة آلاف ريال (وهو السعر الذي دفعته الحكومة للزيني لقاء إحدى اللوحات). باع الزيني عمله الأول بعد تكليفه من وزارة الإعلام إعداد لوحة للشيخ زايد آل نهيان، في مناسبة انعقاد اجتماع «مجلس التعاون» في الدوحة. كما كلّّفته وزارة التربية بمجموعة من الجداريات، عدا شراء الحكومة لعدد من أعماله في هيئة «هدايا حكومية» خاصة بزيارات الأمير الرسمية إلى عدد من الدول العربية..

(2)

تجارب أولى

كان تأسيس جمعية للفنانين فكرة طبيعية، خاصةً بعد مثيلات لها في الكويت (1968)، والبحرين (1971) وغيرهما. وبانت الحاجة إلى وجودها عند عدد من الفنانين، بعد أن كانت قطر تتمثل في المعارض التشكيلية العربية والمؤتمرات الفنيّة في هيئة «مراقب». كان اجتماع الفنانين التأسيسي في قاعة المعرض الدائم في «نادي الجسرة»، وحصلت «الجمعية» على الترخيص القانوني في العام 1974 مع تواقيع الفنانين: يوسف أحمد، محمد علي الكواري، سلطان السليطي (من مواليد العام 1945)، سلطان الغانم (من مواليد العام 1949)، حسن الملا، وفيقة سلطان، عيسى الغانم (من مواليد العام 1954)، يوسف الشريف (من مواليد العام 1958)، أحمد السبيعي، محمد علي عبد الله، عبد الله دسمال، سلمان المالك، محمد جاسم الجيده، ماجد المسلماني، علي شريف، سيف الكواري وفرج دهام.

تتابعَ، بعد ذلك، إنشاء المؤسسات الرسمية المعنية بالفنّ، مثل: «المركز الثّقافي» في العام 1976، الذي تولّاه محمد المناعي، ثم «إدارة الثّقافة والفنون» (قبل «المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث»، ثم «مركز الفنون البصرية»)، التي تولّاها ناصر محمد العثمان، بعد نقله إليها من وزارة التربية، بتكليف من وزير الإعلام د. عيسى الكواري: «جمعتُ حولي مجموعة من الفنانين الموهوبين، مثل يوسف أحمد وحسن الملا ومحمد علي عبد الله وغيرهم؛ وكنا نأتي بخبراء في المسرح والفنون الشعبية وغيرهما… كما بدأنا ننظّم عروضاً، ونشارك في معارض خارجية، وندعو فنانين للعرض في الدوحة. ثم أسسنا «المرسم الحر» بإشراف الفنان المصري الدكتور جمال قطب، واهتممنا بالنشر الأدبي وغيره»، على ما يروي العثمان.

وهي سياسات وجدت أيضاً في تنظيم معارض دولية في قطر فرصة لتحسين الذائقة الجمالية والفنيّة العامة، ليس للفنانين والموهوبين وحسب، وإنما لسائر السكان. ويمكن في هذا السياق ذكر المعارض التالية: «معرض اليونسكو لفنّ الرسم»، العائد إلى فنانين أوروبيين بين العام 1900 والعام 1925؛ و«معرض مخطوطات ليوناردو دافنشي» في فبراير/شباط من سنة 1972؛ و«معرض الألوان المائية» في العام 1976 في قاعة المدرسة الثانوية؛ و«معرض الفنون اللاتينية» و«الصور الفارسية» في العام 1980؛ و«معرض الفنون الإسلامية الجوال» في العام 1986 وغيرها.

يوسف الشريف

هذا التعرّف إلى المسارات الفنيّة لا يكتسب مضامينه الفعلية من دون الاقتراب من تجارب أعداد من هؤلاء الفنانين الأوائل، حيث إن كل تجربة اتسمت بعلامات ودلالات، ما يشير إلى التجربة نفسها، وإلى الحركة ككل.

جاسم الزيني انتقل، كما سبق القول، إلى القاهرة، وبعدها إلى بغداد، من دون أن يقوى حينها على تخيُّل المصاعب التي تنتظره: «ما كنتُ قد اعتدت بعد على قراءة كتاب من 300 صفحة…». إلّا أن ما خبره في الصف، مع أساتذته، من مهارات، وما اطلعَ عليه من تجارب فنيّة في الكلية أو في صالات العرض، كانت تعوض، بل تختصر قروناً وقروناً من الانعزال عن عالم الفنّ في العالم، بما فيه عن العالم العربي. عرف الزيني بين أساتذته الفنان العراقي الرائد، فائق حسن، وهو أستاذ أجيال من الفنانين العراقيين والعرب، بعد عودته من باريس، ومن «مدرسة الفنون الجميلة» فيها: «تعلمتُ منه خصوصاً العلاقات بين الألوان، والتدرج بينها. كما أحتفظُ بلوحة، عملتُ عليها في بغداد تحت إشرافه، وفيها لمساته و«تصحيحاته»، التي أبقيتُها مثل أثر لا يفنى». كما عرف الزيني فوق مقاعد الدراسة طلاباً عراقيين سيكون لهم شأن في الفنّ، مثل: سلمان عيسى وخالد النائب وغيرهما.

هذا ما خبره حسن الملا، في بغداد نفسها، بعد أن نصحه محمد عيسى الجارو، الذي كان يدرس علم الاجتماع في بغداد، بالذهاب إليها لاستكمال دراسته… وكانت قد تكشّفت له موهبة الملا الفنيّة بعد أن رآه يرسم في أحد المقاهي في الدوحة. كان الملا قد أنهى دراسته في «التربية الفنيّة»، وأصبح مدرِّساً لها في الخور منذ العام 1971، قبل أن يعمل بنصيحة الجارو، ويلتحق في السنة التالية بـ«أكاديمية الفنون الجميلة». تتلمذ الملا على أساتذة مبرزين في الفنون كما في تعليمها، من أمثال: حافظ الدروبي، وعطا صبري، وفائق حسن، الذي تعلّم منه فنون اللون خصوصاً، حسب قوله. ومن أهم ما تعلّمه الملا من فائق حسن هو التصوير في الهواء الطلق، الذي كان الفنان العراقي قد تعلّمه في باريس، اقتداءً بالمدرسة الانطباعية التي استساغ روّادها الذهاب إلى «باربيزون» (Barbizon) أو «أوفير-سير-واز» (Auvers-sur-oise) وغيرهما من المدن الفرنسية، أو إلى ضواحيها، للتصوير ابتداء من لحظة معاشة، ضوئية وانفعالية، في مكان بعينه.

هذا ما سيبادر إليه في قطر «الأصدقاء الثلاثة»، أي: يوسف أحمد ومحمد علي عبد الله، فضلاً عن الملا الذي يتحدّث عن تجربتهم: «كنا نرسم أمام الناس، وكانوا يتفاعلون معنا. كنا نأمل أكثر من التصوير الحي، وهو إيصال فكرة الفنّ إلى الناس. ثم كنا نقوم بعرض أعمالنا على الجمهور، ونفرح بالدهشة التي تظهر على وجوههم، إذ يرون واقعهم بعيون الفنّ، بعيون مختلفة».

اشترى الفنانون الثلاثة، لهذا الغرض، باصاً صغيراً، كانوا ينتقلون به من الدوحة (حيث عرضوا أعمالهم في «سوق واقف»)، إلى الوكرة والخور وغيرهما، حيث صوروا وعرضوا أعمالهم أيضاً. وكان الثلاثة قد التقوا، إلى جانب ذلك، في إطار العمل الوظيفي، إذ عملوا معاً في «إدارة الثّقافة والفنون»، فتكلّف أحمد بالفنون التشكيلية، والملا بالمعارض، وعبد الله بالحرف الشعبية.

هذا ما يذكره يوسف أحمد بدوره، من دون أن يغفل عن مشاهد باكرة، تعود إلى بيته، إلى الفحم المستخرج من موقد النار، الذي كان يأتي بحطبه إلى أمه، لكي تعد مأكولات العائلة. كان الفحم قلمَه الفني الأول، خطاً ورسماً، فوق الجدران، قبل أن يتعرّف إلى علبة الألوان المائية الأولى (12 لوناً، وهي من ماركة- Pelikan -، بيليكان، الألمانية). كما يتذكر الصور الفاتنة، الغريبة عن بيئته، التي وقع عليها في روزنامة بريطانية تصوّر طيوراً وزهوراً؛ أو صوراً قريبة منه وقع عليها في مجلات: «صباح الخير» و«آخر ساعة» المصريتين، و«الصياد» اللبنانية وغيرها، في «مكتبة العروبة»، التي افتتحها عبد الله حسين نعمة، وكانت أول مكتبة تجارية في الدوحة. كما لا ينسى خصوصاً الميكروفون، الذي اشتراه له والده، بناءً على طلبه، والخطب والتمثيليات التي كان يقوم بها مع رفاقه، في «الفريج»، أو في «نادي الجسرة»، بعد وقت.

كما يحفظ يوسف أحمد كذلك للقاهرة مكانة خاصة في إعداده الثّقافي أو الفنّي، بعد أن وصل إليها في العام 1972، إذ كانت المدينة غنيّة وعامرة بحيويتها المتعدّدة والمتنوّعة، وتعرَّف فيها إلى أكثر من فنان، مثل حسين بيكار، وخصوصاً الفنانَين يوسف سيده وجاذبية سري، اللذين كان لهما أثر بالغ في تكوينه الفني. وهو ما يمكن قوله في تأثره بمناخات ومناقشات «أتيليه القاهرة»، وبعروض «قاعة أخناتون» وغيرهما.

لا ينظر، اليوم، يوسف أحمد بعين السوء أو الامتعاض لدخوله إلى كلية «تربية فنيّة»، لا إلى كلية «فنون جميلة» في القاهرة، بينما كان شعوره مختلفاً عند فوزه بالبعثة الدراسية: كان تمنى وقتها دراسة الفنون الجميلة، إلّا أن المتاح في بعثات الدولة كان التخصّص في التربية الفنيّة، لإعداد مدرسين فنيين للتعليم في قطر؛ بل هددوه بسحب المنحة (135 جنيهاً في الشهر، فيما كان معاش والده لا يتعدى 150 جنيهاً) إن غيّر اختصاصه.

ينظر أحمد بعين الرضا، اليوم، إلى ما حصَّله في كلية التربية الفنيّة، إذ أتاحت له درس خامات متنوّعة، غير فنّ القماشة الأساسي في تكوين طلبة الفنون الجميلة، فتعلّمَ مهارات الخزف والنحت والحفر، فضلاً عن التصوير الزيتي. وهو ما بلغ، في دراساته العالية في كاليفورنيا، نقلة أخرى، كانت أقرب إلى تأكيد هويّة الفنان، لا إلى تمرينات الطالب ودروسه، بعد أن جرَّب استعمال الخط العربي في العمل الفني (10 أعمال)، بالقلم الأسود، وفي مقاسات كبيرة.

محمد الجيده

(3)

المرسم الحر

أربعة طلاب فقط (جاسم الزيني، وحسن الملا، وسلمان المير، ووضحه آل ثاني)، من بين الفنانين الأوائل، درسوا الفنون الجميلة حصراً، بينما درس غالبهم التربية الفنيّة، كما بلغَ غيرهم الفنّ عبر سبل دراسية متعرّجة (إدارة أعمال، ديكور مسرحي، تاريخ ومكتبات…)، فضلاً عن طلبة «عصاميين». كما احتاج هذا الطالب أو ذاك إلى السفر إلى بغداد والقاهرة والرياض لمتابعة تحصيله الفنّي…

هذا ما سيتغير بعد تأسيس جامعة قطر، وتأسيس كلية التربية للبنين وللبنات، وبعد قيام قسم فيها لـ«التربية الفنيّة». وهو ما تعينَ في أجيال متتابعة من الخريجين، مثل: وفاء الحمد (من مواليد العام 1964)، وبدرية الكبيسي (من مواليد العام 1964)، وخولة المناعي (من مواليد العام 1964)، وجميلة آل شريم (من مواليد العام 1965)، وموزة جابر الكواري (التي تخرجت في العام 1994)، ونوال الكواري، وابتسام الصفار، وناهد السليطي، وسلوى آل شريم (من مواليد العام 1967)، وسيف راشد العرابيد (من مواليد العام 1973)، وأحمد الحمر (من مواليد العام 1974)، وأمل العاثم، وناصر علي السعدي (من مواليد العام 1975)، وصالح العبيدلي (من مواليد العام 1975)، ومحمد جنيد (من مواليد العام 1975)، وحصة أحمد المفتاح، وخلود محمد المهندي (التي تخرجت في العام 2001)، وعيسى الدوسري، وسعاد السالم، وفاطمة الشيباني، وآسيا القحطاني (من مواليد العام 1977)، وهنادي الدرويش وهدى عبد الله السعدي وغيرهم.

وهو ما ترافق أيضاً مع نشوء مؤسسة تدريبية للفنّ، بدت مثل بوابة تمهيدية لطلبة الجامعة، وهي «المرسم الحُرّ». وقد اتبعت قطر في ذلك- على ما يبدو- ما سبق أن شرعت به دولة الكويت، التي احتضنت ورعت مواهب كويتية عديدة، من دون أن تَخرج سياسة «المرسم» عن ضوابط كانت تريدها هذه الحكومة الخليجية أو تلك، وتحت إشراف عربي تحديداً.

انطلقت الفكرة من وزارة التربية والتعليم في نهاية الستينيات، وأبصرت النور في مطلع الثمانينيات. وتوزّعت أيام الدراسة في «المرسم الحُرّ» بين يومين للبنات (الأحد والثلاثاء)، وثلاثة للذكور (السبت، الاثنين والأربعاء)، بين الرابعة والسادسة مساء، على مدى السنة، في مبنى استأجرته وزارة الإعلام لهذا الغرض.

كان للخبير الفنّي في الوزارة، الفنان المصري الدكتور جمال قطب، دور أساس في إخراج الفكرة إلى حيّز النور، وإعداد البرامج التدريبية المناسبة لموهوبي الفنّ. كتبَ قطب حينها: «كان لزاماً علينا أن نعرف كيف نخاطب جمهورنا بلغة التشكيل. لا ننسلخ عنه، ولا نتعالى عليه من أبراجنا العاجية، ولا نهبط في الوقت نفسه إلى درجات الإسفاف والابتذال. وكانت هذه هي الأسس التي أقمنا عليها «المرسم الحُرّ» بالدوحة. نستقبل الشباب ذوي المواهب المتفاوتة، ثم نحاول جاهدين صقل موهبتهم في مساراتها الخاصة، دون تطرُّف أو افتعال أو هدم للمقومات القائمة الكائنة عندهم» (1).

كما كان للفنانة العراقية نجاح المدني دورها كمشرفة على المنتسبات إلى «المرسم»، وكتبت بدورها: «في 6 يونيو/حزيران 1980 كانت البداية النسائية في «المرسم الحُرّ»، والتي فتحت الآفاق لعدد كبير من الموهوبات (…). لا يعتمد «المرسم الحُرّ» على منهج دراسي مُعيّن مع المنتسبين، بل يشجعهم على المطالعة والتعرُّف إلى أصول فنّ الرسم، والمدارس الفنيّة، والأساليب المتعدّدة التي اتبعها الفنانون العالميون. كما أن للمحاضرات أثراً فعالاً في تنمية الناحية الثّقافية للمنتسبة في طرح الأسئلة» (م. ن.، الصفحة نفسها).

بلغَ من تشجيع الدولة لدور هذا «المرسم»، وللالتحاق به، أنها خصّصت رواتب مجزية للطلبة المنتسبين، فضلاً عن تأمين مدرِّسين أكفاء، وتأمين مشاركات الطلاب في معارض كانت تنظمها «إدارة الثّقافة والفنون». كما جرت استضافة فنانين قديرين لإجراء دورات تدريبية لمنتسبي «المرسم»، مثل الخطاط الأميركي محمد زكريا وغيره.

الدكتورة وفاء الحمد كانت في عِداد الدفعة الأولى التي تقدّمت إلى المؤسسة الناشئة، في العام 1982، وهي في المرحلة الثانوية، بعد أن شجعتها أمها على ذلك: كانت حصة الرسم في الثانوية تقتصر على ساعة واحدة فقط، ما لم يكن يكفي توثبها الفنّي، خاصة بعد أن شاركت في العام 1981 في معرض فنّي في «نادي الجسرة»، وقدّمت عملاً جمعَ بين الرسم والخط العربي، واستثار اهتمام الزوار.

تابعتْ الحمد في «المرسم» عِدّة دورات في: الرسم بالقلم الرصاص وألوان الباستيل والتصوير الزيتي، وأخرى في الخط العربي والخزف والزخرفة الإسلامية، بين العام 1981 والعام 1985. ثم انتسبتْ في السنة التالية: مريم عبد الله (من مواليد العام 1961)، وجميلة آل شريم وغيرهما. وممن انتسبن إلى «المرسم» أيضاً، ومارسن الفنّ بعد تحصيلهن هذا: حصة المريخي (من مواليد العام 1960)، التي ما لبثت أن أصبحت مشرفة على قسم النساء فيه… ولقد كان لقطب- على ما أفادت الحمد – دور كبير في تعليم المنتسبين أساسيات التصوير، فضلاً عن أنواعه من رسم بالرصاص، و«طبيعة صامتة»، و«موديل حي»، وتقليد الأعمال الزيتية لفنانين مشهورين…

الفنانة الحمد، التي كانت في عِداد الدفعة الأولى لـ«المرسم الحر»، كانت أيضاً، بعد سنة، في عِداد الدفعة الأولى في قسم التربية الفنيّة المفتتَح حديثاً في جامعة قطر: طالبتان في الدفعة الأولى (1986)، ثم ثمان طالبات في الدفعة الثانية، إلى أن بلغ العدد العشرين في دفعات تالية. وشمل التدريس مواد مختلفة، بين نظرية (تتصل بالتربية وتاريخ الفنّ ونقده)، وتطبيقية خاصة بممارسات الفنون المختلفة (رسم، تصوير، خزف، تصميم…).

غير أن الانتقال من «المرسم الحُرّ» إلى الدراسة الجامعية لم يكنْ سهلاً، على ما اعترفت الحمد: أشرف على تدريبهن في التصوير الدكتور جمال قطب، الذي كانت له نظرة كلاسيكية في الفنّ، بينما تولّى الإشراف الجامعي عليهن الدكتور الفنان محمود البسيوني، الذي كانت له آراء مُتجدّدة في الفنّ، قريبة من السوريالية والتجريد. هذا ما صدم الطالبات في البداية، لكن هذا التنوّع ما لبث أن أغنى تجربتهن. كما ساهم في التدريس الجامعي الأول: الدكتور الفنان نبيل الحسيني، والدكتور الفنان محمود كامل والدكتور علي المليجي وغيرهم.

حسن الملا

(4)

سياسات وبعثات فنيّة

ما يمكن التعرُّف إليه في سِير العديد من آباء الفنانين الأوائل، ممن سيشجعون أولادهم على ممارسة الرسم، عندما ظهرت مواهب أولادهم في: شهادات مدرِّسيهم، أو في عرض أعمالهم الفنيّة الأولى في معارض، التي لم يكنْ وزير التربية والتعليم يتأخر عن افتتاحها. هذا ما كان يبدو- في حسابهم- مثل علامة مبكّرة ولامعة عن بلوغ الترقي الاجتماعي الأكيد. ولهذا بدت اللوحة، منذ طفولة هؤلاء الهواة-الفنانين، نافذةً مفتوحة على العالم، قبل أن تكون مفتوحة على عالم الفنّ نفسه.

هذا الانفتاح نفسه سيلقاه الدارس في عدد من سياسات الحكومة القطرية، بل هي التي سبَّبته في أحوال عديدة: قامت «إدارة رعاية الشباب»، على سبيل المثال، بإنشاء عدد من الأندية الرياضية، منها «نادي الجسرة» (الشهير حتى أيامنا هذه)، الذي لن يكتفي بنشاطه الرياضي، وإنما سينظم أيضاً عروضاً فنيّة ومحاضرات أدبية وغيرها. ويتضح من سِيَر العديد من الفنانين (جاسم الزيني، يوسف أحمد، حسن الملا، علي حسن، سلمان المالك، وفاء الحمد…) ما كان لهذا النادي- بالتحديد- من أثر عليهم، في رياضة كرة القدم عند بعضهم (مثل علي حسن وسلمان المالك)، وفي أنشطة الفنون عندهم كلهم. في هذا النادي أُقيمت المعارض الأولى، كما نُظّمت ندوات ثقافية شديدة الأهمية في تنمية ذائقتهم الثّقافية وصقلها. ثم تكفّل بهم، بعد العام 1976، «المركز الثّقافي»، الذي عُرف فيما بعد تحت اسم «إدارة الثّقافة والفنون»، وقام عمله على إقامة المعارض الفنيّة، وعلى تنمية المواهب وتشجيعها.

هذه المواهب نمت في المدرسة، قبل البيت والشارع والنادي. وهو ما يحتاج إلى نظرة قريبة من واقع التعليم الجديد والنظامي في قطر. وما أصاب قطر لا يختلف عما عرفته بلدان خليجية أخرى من نصيب في الفنّ، في النظام التعليمي الجديد. اشتمل هذا التعليم- بتأثر ظاهر بالمناهج التعليمية الأوروبية – على حصتَي «الرسم» و«الأشغال اليدوية». وهو الحديث الذي يبدأ به أي فنان قطري سيرته الخاصة، إذ تأكد في هذه الحصص من ظهور ولعه بالتخيل والتخطيط وعمل الأيدي وغيرها من المهارات الأولية. وكانت هذه الحصص محببة إلى هؤلاء التلاميذ بعد أن اقترح عليهم الأساتذة – وهم مصريون وفلسطينيون ولبنانيون وسوريون في الغالب – مواضيع مأخوذة من البيئة القطرية نفسها، مثل صيد السمك، والغوص على اللؤلؤ، والبيوت القديمة، وصيد الحباري، وحياة البدو وغيرها: «حتى إنهم أتوا بدجاج وبط إلى الصف لتمريننا على دقِةّ التصوير الحي»، على ما يقول يوسف أحمد؛ وهي الموضوعات التي سنجدها بعد وقت في أعمال أعداد من المصورين القطريين.

كما أعانت حصة «الأشغال اليدوية» الطلاب على تجريب مهاراتهم في تطويع المواد والخامات الطبيعية، من أسلاك وطين وورق وخشب وغيرها، ما سيكون له تأثيره عند بعضهم، ولا سيما ممن سيُقبلون على فنون الخزف والنحت وغيرها.

كانت التربية الفنيّة، في المنهج العام للتربية والتعليم في قطر، قد أقرّت بلزوم هاتين الحصتين في التدريس، بل نَشَطت الإدارة الحكومية في ما هو أبعد من ذلك، في ما كانت تتوخاه أو تسعى إليه، وهو تنظيم معارض لأعمال الطلاب الفنيّة، منذ العام 1961.

هذا ما كان يجتمع في معرض كبير يضمُّ نتائج جميع طلبة مدارس قطر، في «مدرسة قطر النموذجية للبنين»: خُصصتْ في هذا المعرض غرفة لكل مدرسة، وتكشفتْ فيها إبداعات الطلبة، ما جعل المعرض حديثَ المجتمع القطري في تلك الفترة، وما أوجد التفاعل بين ما أنتجه الطالب وبين أسرته: «كان الأب والأم بجانب العمل الفني الذي أنتجه ابنهما يناقشانه فيه ويتحاوران معه»، على ما تفيد إحدى الشهادات.

مَنْ يتابع أخبار هذه المعارض يتحقّق من أن بعض هؤلاء العارضين سيكون لهم شأن في الفنّ لاحقاً، مثل جاسم الزيني، الذي واظب على المشاركة؛ أو مثل سلمان المالك، الذي شارك وهو في الصف الرابع الابتدائي في معرض للطلبة أُقيم في صالة «قسم التغذية» بلوحة مائية: «المسحَّراتي»… إلّا أن طلبة آخرين شاركوا في المعارض من دون أن يستمروا في الفنّ، مثل: أحمد الخال، وعبد الواحد مولوي وغيرهما.

هكذا كشفتْ هذه الحصص الدراسية مواهب بعض الطلبة، أو شكّلت حافزاً لهم في هواياتهم. وإذا كان جاسم الزيني قد نسي اسم أحد أساتذته من المصريين، فإنه يتذكّر الخطاط محمد علي المحمود، الذي أتى به الحاكم الشيخ علي والوزير جاسم الدرويش من الشارقة. ويذكر يوسف أحمد المدرس الفلسطيني حسن فلفل، الذي تعرّف في صفه إلى أوليات التصوير… ويذكر فرج دهام المدرس الفلسطيني خالد نصر، في «مدرسة الخليج العربي الابتدائية»، الذي أخذ منه «أسرار» الفنّ الأولى… كما وجدت وفيقة سلطان (على ما تقول) في تشجيع مدرساتها لها الدافع الأكيد الذي قادها صوب دراسة الفنون…

لم تكنْ هذه الحصص سوى تدبير حكومي، يماشي أُسس التعليم السائد في العالم، بعد أن جرى الانتقال في قطر من عهد «الكتاتيب» إلى عهد المدرسة النظامية. وقد يكون جاسم الزيني هو الوحيد بين أقرانه الذي عايش الانتقالة بين العهدين: بدأ الدراسة في «الكتاتيب» قبل أن ينتقل إلى «مدرسة الدوحة الابتدائية»، فيتم إعفاؤه من بعض الصفوف، وإلحاقُه بالإعدادية، ثم الثانوية، التي أنهى دراستها في العام 1958.

تكفّل مدرسون فلسطينيون ومصريون خصوصاً بهذه الحصص، قبل أن تقرّر الحكومة القطرية إعداد مدرسين قطريين لها في عهد لاحق. ومَنْ يتابع سِيَر الفنانين القطريين (حتى السنوات الأخيرة)، ممن أوفدتهم الحكومة للدراسة في الخارج، سيجد بأنها ابتعثتهم لدراسة البكالوريوس أو الماستر، بل حتى الدكتوراه (مع الفنانة وفاء الحمد)، في التربية الفنيّة، وفي أقسام مختلفة منها.

باشر جاسم الزيني دراسة الفنّ في بغداد (بعد أن فشل في دراسة القانون في القاهرة، التي أمضى فيها سنتين)، وكان في عِداد الدفعة الأولى التي انتسبت إلى «أكاديمية الفنون الجميلة»، التي افتتحت أبوابها، سواء للعراقيين أم لغيرهم، وتخرج فيها العام 1968. وهو السبيل الذي سيسلكه بعده قريبه حسن الملا، فيلتحق بالأكاديمية عينها في العام 1972 (بعد أن حصَّل شهادة في «التربية الفنيّة»)، بينما التحق سلمان المير في العام 1971 بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ثم وضحة آل ثاني بالكلية نفسها…

غير أن غيرهم من الطلاب تمرّسوا بالفنّ بعد أن حصَّلوا دراساتهم في «التربية الفنيّة». هذا ما عرفه يوسف أحمد بعد أن انتقل إلى «كلية التربية الفنيّة» في جامعة حلوان (مصر)، في العام 1972، ثم في العام 1979 إلى جامعة أوكلند (في كاليفورنيا) لتحصيل شهادة الـماستر في الفنون الجميلة (M F A). كما أرسلت وزارة التربية والتعليم ماجد المسلماني (من مواليد العام 1953) لدراسة التربية الفنيّة في القاهرة، وفرج في العام 1976. وهو ما فعله محمد الكواري (من مواليد العام 1955) من تلقاء نفسه، إذ انتقل، وهو في الخامسة عشرة من عمره، إلى المملكة العربية السعودية، والتحق بمعهد التربية الفنيّة المتوسط في مدينة الرياض.

كما انتسب جاسم المالكي وماجد المالكي إلى كلية الفنون التطبيقية، في القاهرة، وتخصصا في الأثاث المعدني، وتخرجا فيها العام 1976. ودرس أحمد زيني في «مدرسة أحمد ماهر الصناعية»، في القاهرة، لمدة ثلاث سنوات (وهي مدرسة ثانوية صناعية)، قبل أن يلتحق بكلية الفنون التطبيقية، ويتخرج فيها العام 1980. وهو ما فعله سيف الكواري (من مواليد العام 1958)، إذ انتقل، بعد دراسة ثلاث سنوات في الرياض، إلى القاهرة لدراسة «التربية الفنيّة»، ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث انصرف إلى ممارسة النحت، ولا سيما الخشبي منه. كما انتسب إلى «كلية التربية الفنيّة» إبراهيم السيد وعبد الله فضل الأنصاري، وتخرجا في العام 1981. إلّا أن غيرهم من الفنانين الأوائل انتهوا إلى ممارسة الفنّ، بعد طرق مُتعرّجة في الدرس، فقادتهم إلى المسرح أو إدارة الأعمال أو التاريخ والمكتبات وغيرها:

– علي الشريف سافر، بعد دراسة التجارة في قطر، إلى كمبردج وأكسفورد لتحصيل دراسات عالية في إدارة الأعمال، التي أنهاها في العام 1979، قبل أن ينصرف تماماً للفنّ بعد تحصيله العالي.

– وفيقة سلطان (من مواليد العام 1952) درست هندسة الديكور في «كلية الفنون التطبيقية» في جامعة حلوان (مصر)، بين العام 1970 والعام 1974، وحصَّلت شهادة منها، قبل أن تمارس المهنتين معاً، وحتى اليوم.

– عيسى الغانم (من مواليد العام 1954) «عصامي» آخر، إذ إنه اعتمد اعتماداً كلياً على موهبته الفنيّة، بعد انقطاعه عن الدراسة لظروف خاصة، وعمله في إحدى الوزارات. وكذلك هي حال العصامي الآخر محمد الجيدة (من مواليد العام 1956)، الذي حصَّل بكالوريوس تاريخ وتربية في جامعة قطر في العام 1978، في الدفعة الثانية إثر تأسيسها.

– علي حسن (من مواليد العام 1956) حصَّل شهادة جامعية في التاريخ والمكتبات، من جامعة قطر، غير أنه تولّع بفنّ الخط ومارسه منذ عمر مُبكّر، قبل أن ينصرف إلى التصوير تماماً.

– فرج دهام تابع دراسات جامعية مختلفة، بَحْرية ومسرحية، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية في العام 1985 لتحصيل الشهادة العالية: (M F A) في النحت والتصوير.

(5)

بروز المرأة الفنانة

شهد العقد الأول من الألفية الثالثة ظهور مواهب نسائية عديدة. منهن مَنْ تسلمت مسؤوليات قيادية في أكثر من «مركز» فنّي، ولا سيما الفنانات: ناديا المضيحكي، أمل العاثم، هنادي درويش، كما عملت الفنانة وضحى السليطي في تأسيس أحد المراكز مع الفنان علي حسن.

الفنانة هنادي درويش شغلت منصب رئيسة مجلس إدارة أحد هذه المراكز، «مركز إبداع الفتاة»، التابع لوزارة الشباب، بعد أن تخرّجت في قسم التربية الفنيّة. وتنتسب إلى جيل لم يواجه الصعوبات نفسها التي واجهها جيل وفيقة سلطان وبعده: تعرّفتْ إلى الفنّ في أعمال أختها التي تكبرها، من دون أن يواجهها، لا هي ولا أختها، أي مانع عائلي. أقدمَ والدها، في أكثر من مّرة، على منحها هدايا موصولة بفنّ التصوير، عدا أن زيارات المتاحف والمعارض كانت تشغل قسماً كبيراً من برامج رحلات العائلة إلى الخارج. أخت هنادي لم تتابع مسيرتها في الفنّ، أما هنادي فاستمرت فيها، جامعة بين فنّ التصوير وإدارة الأنشطة الفنيّة.

من يتوقّف عند «صالون الشباب الأول» في العام 2005 يلحظ أن عدداً من المنتسبات إلى «المركز»، وممن عرضن لأول مرة في هذا «الصالون»، بِتن اليوم فنانات معروفات، مثل: عائشة المسند، وهنادي درويش، وحصة المفتاح في التصوير، ووضحى السليطي في الحفر وغيرهن. بل يلاحظ أكثر من ذلك، وهو أن عدد المشاركات (اللواتي فُزن بالمشاركة في المعرض، بعد فرز الأعمال من قِبَلِ لجنة تحكيم خارجية)، يفقن بكثير عدد الشبان (وقد عُرف بعضهم باحترافهم الفنّي بعد وقت، مثل: أحمد الحمر في التصوير، وعبد الرحمن المطاوعة في الحفر، وطلال نايف القاسمي ومبارك المالك في الخزف).

مَنْ يَعُدْ إلى نشاطات «المركز» الحالية، مثل معرض «إبداعات 2009»، يتحقّقْ من أنه بات يشتمل على أقسام مختلفة للتمرُّس بالفنون، مثل: قسم الخزف (الذي تديره وصفي الحديدي)، وشملت معروضات المنتسبات ما يزيد على عشر مشاركات؛ وقسم الرسم للمبتدئين (بإدارة هالة السيد) معروضات اثنتي عشرة مشاركة؛ وقسم التصوير الزيتي للمتقدمين (بإدارة مزاحم الناصري) أكثر من ثماني عشرة مشاركة؛ وقسم الخط العربي (بإدارة حميد السعدي) اثنتي عشرة مشاركة.

توقّفت خولة محمد عبد العزيز المناعي عند هذه الظاهرة، ودرست مسارات الفنانات القطريات العشر الأوليات (2) وهن: وفيقة سلطان، أمينة الكاظم، بدرية الكبيسي، المؤلفة نفسها، حصة المريخي، وفاء الحمد، مريم عبد الله، ناهد السليطي (من مواليد العام 1965)، سلوى آل شريم وجميلة آل شريم. إلّا أن مسيرتهن لم تكنْ بالهينة، بدليل أن أمينة الكاظم لم تنجح في درس الفنّ، لممانعة الأهل، على الرغم من مواهبها الفنيّة الأكيدة، التي تجلّت منذ دراستها الابتدائية في «مدرسة خديجة بنت خويلد»، وعلى يد أستاذة الرسم السيدة رقية قدور، وعلى الرغم من نشاطها الفنّي البارز في «المرسم الحر»، ولا سيما مع مدربة الرسم الفنانة نجاح المدني. وهو ما واجهته خولة المناعي من مصاعب، عندما طلبت التخصُّص في الهندسة المعمارية، «إلّا أن ذلك كان صعباً، لعدم تقبُّل ذلك من المجتمع»، على ما تقول بنفسها في كتابها المذكور (م. ن.، ص 78). غير أن ذلك لم يمنعها من تطوير ممارساتها المختلفة في قسم «التربية الفنيّة»، أو في الدورة الاختصاصية التي خاضتها مع الفنانة هنادي درويش في بريطانيا، بدعم مشترك من السفارة البريطانية في قطر ومن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث.

استفاد أصحاب المواهب في تدريسهم بخبرات فنانين عراقيين ومصريين وغيرهم، وتمرّسوا على أيديهم بفنون مختلفة، ويمكن ذكر عدد منهم مثل: إسماعيل عزام، وسالم مذكور في فنّ التصوير، ووليد وراق السوداني، ووليد رشيد العراقي في الخزف (بينما درس أحمد الحداد على محسن التيتون الخزّاف المعروف في البحرين).

إلّا أن من هواة الفنّ مَنْ تابع «دراسة حرة»، في «غاليري الميزان» (لسيف الهاجري) على أيدي فنانين عراقيين، مثل: عائشة المسند، ووضحى السليطي وغيرهما. كما تمرس غيرهم بأساسيات الفنون في ورشات في «مركز شباب الدوحة»، أو في «مركز دوحة الفنون» (الذي أسّسه وأداره الفنان أحمد الأسدي في العام 2000).

عائشة المسند انتسبت جامعياً إلى قسم الفيزياء في كلية العلوم في جامعة قطر، وتمرّست في أساليب الفنّ في الغاليري المذكورة، بعد أن وجدت في بيئتها ما شجعها على الفنّ، حتى إن أمها كانت تتباهي برسومها أمام أهلها.

(6)

طُرُق الفنّ مُتعرّجة

بدا مسار يوسف أحمد متتابعاً ومنسجماً في غالبه، ما لا يظهر بالجلاء نفسه في مسار فرج دهام (من مواليد العام 1956)، بعد أن تقلّب طويلاً قبل أن يستقرّ على حاله الفنيّة. وإذا كان قد وجد في عدد من أفراد عائلته ما حفَّزَه على الفنّ، إلّا أن حياته الدراسية عرفت تغيُّرات عديدة: كانت أمه تهوى زخرفة الوسائد، وخاله يعزف على العود، وجدَّته لوالدته تقرض الشعر، وجدُّه لوالدته يهوى الطرب، ووالده مُتيّم بالطرب الشعبي… كما أن أستاذه في المدرسة الابتدائية، الفلسطيني خالد نصر، كان يجمع المواهب هذه كلها، بين شعر وغناء وعزف عود، وكان له الدور الأساس في توجيهه صوب الرسم. غير أن دراسة دهام قادته إلى «مدرسة الصناعة»، التي تعلّم فيها طوال ست سنوات أُسسَ مهن عديدة، منها زخرفة الحديد، أي الرسم الصناعي والهندسي: كان الطالب، حسب دهام، يفتقر إلى الموجِّه التربوي المناسب له، فما نصح أحدٌ دهام بدرس الفنّ مباشرة. وهذا ما حدث له، في العام 1976، في القاهرة إذ ذهب إليها لدرس الفنّ، لكنه ما لبث أن تخلّى عنها ليلتحق بـ«أكاديمية النقل البحري»، التابعة لجامعة الدول العربية، من دون أن يكمل دراسته فيها (بعد تسريح الطلاب في العام 1979، إثر توقيع «اتفاقية كامب ديفيد»، التي أدت إلى نقل مقرّ «الجامعة العربية» من القاهرة إلى تونس، وإلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر). عاد إلى قطر من دون شهادة، ثم ذهب إلى الكويت هذه المرّة، إلى… «المعهد العالي للفنون المسرحية»، لدراسة الديكور تحديداً. وبعد حصوله على الشهادة منها (1985)، انتقل للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية لتحصيل الشهادة العالية (M F A)، في النحت والتصوير.

غير أن دهام، مثل أحمد، ينظر بعين الرضا إلى ما حصَّله في الدراسة الجامعية المتقلّبة. فهو ابتعد عن الفنّ من دون أن يفارقه أبداً. إلّا أنه يتذكر، قبل ذلك كله، مجهودات العديد من الأساتذة الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين، الذين التقاهم في «مدرسة خالد بن الوليد»، أو في «النادي الصيفي» التابع لوزارة التربية والتعليم، والذين كان لهم دور أساس في تكوينه الفنّي، ولا سيما في الجداريات الفنيّة.

كانت الطريق إلى الفنّ مُتعرّجة، بدليل أن دهام نظّم معرضه الأول، كهاوٍ طبعاً، في… خيمة، في بلدة سمار جبيل (قرب جبيل، في لبنان)، في مخيم كشفي، وهو في السادسة عشرة من عمره: عرضَ دهام ما يزيد على عشرين عملاً مما كان قد رسمه في قطر، في المعارض الصيفية و«مدرسة الصناعة» وغيرها. إلّا أنه ما لبث أن تحقّق، في الثامنة عشرة من عمره، من أن الفنّ ليس ولعاً فقط، وليس مهنة ممكنة وحسب، وإنما هو شاغلٌ، بل بحثٌ. هكذا تعلّم قيادة السيارات، واستعار سيارة أبيه، بعد أن اشترى كاميرا «مينولتا» (Minolta)، وراح يتجوّل في أنحاء قطر المختلفة، متعرّفاً إلى تكوينها وخصائصها، ولا سيما ما خلَّفه البشر من آثار فوق الجدران، دارساً تحوّلات الزمن في قطر.

لا تقلُّ تقلبات علي حسن، قبل وصوله «النهائي» إلى الفنّ، عما عايشه دهام. كان يمكن لحسن أن يكون خطاطاً محترفاً، وأن يبرع فيه، على ما يظهر من بعض استخداماته لطرز الخط العربي في أعماله الفنيّة. بدأ خطاطاً هاوياً، وانتهى إلى أن يكون مصوّراً، بعد أن أمضى سنوات وسنوات متنقلاً بين الجرائد والمجلات، كاتباً عناوينها الرئيسية. لا توجد جريدة أو مجلة في قطر لم يخط علي حسن عناوينها، من جريدة «العرب» حتى «العروبة» و«العهد» و«الخليج الجديد» و«الدوحة» وغيرها. بل عملَ كذلك في مكتب دعاية وإعلان، وفي «تليفزيون قطر»، وفي تخطيط يافطات وإعلانات في الشوارع وغيرها: كان يذهب للعمل ليلاً، بعد دوام الدرس، مطوّراً مهاراته الخطيّة بنفسه، من دون معلّم أو دروس نظامية. وهو- بخلاف الخطاطين التقليديين- لم يفز بـ«إجازة خط» من أي من أساتذة الخط المبرزين، في العالمين العربي والإسلامي، وإنما بلغتْه كراسات خط لكبير الخطاطين العراقيين، هاشم البغدادي، بواسطة أحد الأصدقاء. كما كان يطيل النظر في خطوط الصحف والمجلات المصرية واللبنانية، التي كان يعثر عليها في مصبغة، وكانت تستعمل لتغليف الثياب أو للكي.

لعلي حسن أقارب في البحرين عملوا في الخط، إلّا أنه لم يكتسب منه – عدا الريالات القليلة – صيتاً جاذباً لفتى يتدرّج في الهواية كما في الحياة: قال له أحد أقاربه يوماً: «هل تعتقد أن الصبايا يرغبن في الزواج من خطاط؟!». كانت صورة الخطاط متدنية، بل متراجعة، في عالم يتفتح على نماذج جديدة في الترقي. مع ذلك، أقبلَ حسن عليه بدافع خفي يجهل أسبابه حتى اليوم. هذا «العصامي» تمسّك بالخط مثل نصيب أو حظ في الحياة، حتى حين تكشّفتْ له «تهديدات» الحاسوب المؤكَّدة لفنّ الخط. فلقد تيقّن، بعد ظهوره، من أنه ليس لفنّ الخط «مستقبل»، وإذا به يحمل منذ العام 1979 عدة الخطاط وخبراته إلى لوحة التصوير. لم يكنْ حسن بعيداً عن أجواء المصورين، بل كان يتفاعل معهم، سواء في «نادي الجسرة»، أو في «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية»، أو في «إدارة الثّقافة والفنون» في وزارة الإعلام (حيث عمل بعد تخرجه في الجامعة مع عدد من زملائه الفنانين)، بل كان يعتبر عمله الخطي جزءاً من نهضة الفنون في قطر.

لهذا بدت علاقة علي حسن بالفنّ أشبه بمغامرة فردية، فيها مخاطرة أكيدة، وتشبهُ في بعض وجوهها الصعبة مسيرةَ الفنّ المتأخرة، ولكن الكثيفة في آن في قطر: ما كان يتردّد في الإقدام على شيء؛ ولم يكنْ في وضع يخشى فيه خسارة أي شيء. وقد تكون أجمل شهادة فاز بها علي حسن- إلى جانب جوائز فنيّة عديدة، هنا وهناك في العالم- هي تسلُّمه لرئاسة مجلس إدارة «مركز إبداع الفتاة»، بين العام 2004 والعام 2008، حيث إنه سعى فيه للتعويض عما فاته في مسيرته الخاصة من رعاية وتوجيه فنيين: لم يتأخر عن تلبية أي طلب للإشراف على عمل طلاب أو هواة… ما لم يُتحْ له، أراد أن يتاح لغيره.

يعمل علي حسن منذ العام 1989 على حرف النون، جاعلاً منه المفردة والبناء في عمله الفنّي؛ والنون هي الحرف الأخير في اسمه، من دون أن يكون الحرف الأخير في فنّه.

هذه الصلة بالصحافة، التي أدت إلى الفنّ، يمكن أن نجدها في مسار صديق علي حسن، سلمان المالك، وهما التقيا في أكثر من ميدان ثقافي وفنّي، ابتداءً من مجلة «العروبة»، المجلة الأولى في قطر.

ظهرت المجلة، بمبادرة من عبد الله حسين نعمة، في العام 1969. سلمان المالك أرسل إليها منذ العام 1970 بعض الرسوم، التي كانت تنشر إلى جانب مقطوعات أدبية؛ وكانت صلته الأولى، التي ستصبح صلة ثابتة، ويومية، بالصحافة. كان المالك أول مَنْ نشر رسوماً كاريكاتورية في الصحافة القطرية، والرسامون اللاحقون «خرجوا من عباءتي»، حسب قوله. وهو ما اجتمعَ في معرض نظّمه «نادي الجسرة» لمجموعة من رسامي الكاريكاتور: سلمان المالك، أحمد هلال، أحمد أمين، عبد العزيز صادق، علي وهيب، فكري إسماعيل، محمد الصغير، خميس الراشدي وغيرهم.

ينسب المالك صلته المُبكّرة بالصحافة، أو يُفسّرها، بما عايشه في طفولته، في مكاتب الشركة البريطانية التي كان يعمل فيها والده: عملَ والده في مكتب هندسي، وكان يصطحبه معه في أيام العطلة إلى مسيعيد، وكان قد تعلّم استنساخ بعض الصور والرسوم الهندسية. ولقد وجد في هذه الصور الأولى ما أثر به في الانتساب إلى عالم الصحافة، وجعله مولعاً باللون الأسود. الصحافة شدَّتْه منذ عمر مُبكِّر، ولا سيما للتخطيط فيها. ذلك أن للرسم الكاريكاتوري، وللتخطيط، قوة تحريضية: الدخول في مناخات حوارية مع غيره، مع مجتمعه عبر الخط.

إلّا أن هذه الصلة بالوالد لم تقتصر على الخط، وإنما تعدّته إلى تأثر الفتى سلمان بمناخات البيت: عمه، الذي كان يعيش معهم، كان يتضايق من هوايته الفنيّة، بخلاف والده الذي تأثر بعلاقته بأحد أصدقائه العرب: وضعَ والده في صدر المجلس صورة كبيرة لجمال عبد الناصر. كما اعتاد على سماع إذاعة «صوت العرب» وأغاني أم كلثوم… وقد تختصر عبارة جمال عبد الناصر الشهيرة: «ارفعْ رأسك، يا أخي العربي» مناخات النهوض هذه، بل جعلته يعتني بالحوار عبر الفنّ مع المجتمع. هذا يصح مباشرة عبر الرسوم الكاريكاتورية، وهذا يصح في اللوحة لكونها حاملاً تعبيرياً بدورها.

هذه الصلة لن تنقطع عند سلمان المالك. فقد عمل، بعد تحصيله بكالوريوس التربية الفنيّة من جامعة حلوان بين العام 1977 والعام 1982، في وزارة الإعلام، في مجلة «الدوحة»، كمشرف فنّي. ولم ينقطع كذلك عن الصحافة، عن الرسم فيها، يوماً بعد يوم، في جريدة قطرية. وهو في ذلك يقترب، في جمعه بين الكاريكاتور واللوحة، من المصري جورج البهجوري والسوري يوسف عبدلكي وغيرهما.

(7)

«مراكز» للفنّ

قسم التربية الفنيّة في جامعة قطر، وما اتصل به من اختصاصات لبعض خريجيه في جامعات أجنبية، هنا وهناك في العالم، أو تجارب الفنانين في «المرسم الحر» أو في «الجمعية القطرية»، لم تكنْ الإطار الوحيد الذي احتضن ووجَّهَ مواهب الهواة أو طالبي الدرس الفني. وإنما انتقل الأمر، خاصة مع تنامي قيمة الفن وتوسع الفئات الراغبة فيه، إلى سياسات جديدة من قِبَل الحكومة، بلغت تأسيس مجموعة من «المراكز» الفنيّة، التي شكلت المهد العملي لولادة العديد من فنّاني قطر الجدد، ولا سيما في أوساط النساء.

هذا ما عرفه الفنان عبد الرحمن المطاوعة (من مواليد العام 1971) في «نادي الغرافة»، على الرغم من أنه ينسب إقباله على الفنّ إلى سبب آخر، شخصي للغاية، بل عائلي. يتحدّث المطاوعة بسهولة وطمأنينة وثقة عن الفنّ عموماً، وعن فنّه خصوصاً. يتحدّث بثقة المنتسب إلى تاريخ أكيد، إلى قيمة ثابتة. وهو حديث يرقى إلى الطفولة، في البداية، إذ تعود صلة المطاوعة بالفنّ إلى قريبه العائلي الفنان القطري الراحل يوسف الشريف. وهو حديث الشباب والخبرة كذلك، إذ يتحدّث عن معلميه في الفنّ، الفلسطيني أو المصري، باحترام وتهيُّب. أَقبلَ المطاوعة على الفنّ كمن يدخل في جادة مفتوحة ومعبَّدة. هذا ما يَظهر في «احترامه» – البيّن حتى اليوم – في ما يقوله عن فنانين كانوا له معلمين وقدوة في الفنّ، مثل: يوسف الشريف، والفلسطيني زكي أبو بكر، والمصري فؤاد حمزة البسطاويسي وغيرهم.

انتسب المطاوعة إلى مركز «شباب الغرافة»، التابع للهيئة العامة للشباب والرياضة، وكان يشتمل على ممارسات مختلفة بين موسيقى ورسم وشعر وغيرها، ولكل قسم فيه متابعوه ومعلموه. انتسب إلى المركز في العام 1987، والتحق بقسم الرسم إلى جانب: حسن سبت بوجسوم (الذي ما لبث أن توقّف عن الرسم)، ومحمد سبت بوجسوم (المتوفى)، ومنصور الشيباني، ومحمد بدر القعاطري وغيرهم. كان المطاوعة أصغرهم سناً، وتعلّم من المنتسبين الآخرين أساسيات كل تقنية (خط، تلوين…)، كما أشرف عليه خصوصاً التشكيلي الفلسطيني زكي أبو بكر في التخطيط والرسم والتلوين، والمصري فؤاد حمزة البسطاويسي، الذي كان له أكثر من «أب»، حسب عبارته، إذ علّمه الكثير.

هناك موهوبون آخرون انتسبوا خصوصاً إلى «المركز الشبابي للإبداع الفنّي»، الذي تم إشهاره في العام 1997 وافتتحه سعادة رئيس الهيئة العامة للشباب والرياضة الشيخ محمد بن عبدالله آل ثاني، وترأس مجلس إدارته الفنان سلمان المالك وهو صاحب فكرة أول مؤسسة نوعية في قطر تهتم برعاية الموهوبين. وتوزّعت مهام المكركز في ثلاث: الأولى تعليمية، تُعنى بتدريب الموهوبين المختلفين وصقل مواهبهم في مختلف ممارسات الفنّ. وللمركز مهمة ثانية، تكوينية، تتمثل في انتقاء المواهب الأكيدة ورعايتها وتوفير فرص التقدّم لها، من خلال مشاركات محليّة وأجنبيّة في معارض وندوات وغيرها. وله مهمة ثالثة، توثيقية، إذ يُعنى «المركز» كذلك بشؤون البحث والنشر في مجالات الفنون كلها. ويشمل «المركز» الأقسام التالية: الرسم والتصوير، والخزف، والحفر والطباعة، والتصوير الضوئي، والزخرفة والخط العربي، والتصميم، والمهارات اليدوية، والنسيج (الحياكة)، والمسرح والفنون الشعبية. كما تتوافر للمنتسِب إلى «المركز» مكتبة فنيّة ومركز معلومات مجهز بأحدث المواصلات التكنولوجية، وقاعة عرض. كما يقوم «المركز» بجمع وشراء مقتنيات فنيّة، تمكيناً للمنتسب من «الألفة» مع أعمال كبار الفنّانين وأساليبهم.

الفنّانة حصة المفتاح (من مواليد العام 1975 في الوكرة) تكاد تختصر في سيرتها الفنيّة هذا المسار المتأخر. فهي تخرجت في «قسم التربية الفنيّة» عام 1997، مع فاطمة النعيمي ودعاء الحمد ومنيرة المير وغيرهن، من دون أن تكفيها المقرّرات التدريسية في الفنّ: كنَّ يحصِّلن في القسم 83 ساعة في التربية الفنيّة من أصل 183 ساعة تدريس. هكذا التحقتْ، منذ صغرها، بـ«المرسم الحر»، ثم بعدد من «المراكز» بعد تخرجها الجامعي، بـ«مركز إبداع الشباب»، ثم «مركز الفنون البصرية»، متتلمذة خصوصاً على يد الفنّانين العراقيين سالم مذكور وإسماعيل عزام.

هذا ما يرويه بدوره الفنّان مبارك عبد العزيز المالك (من مواليد العام 1987)، إذ يفيد بأنه حصل على عِدّة دورات تدريبية في «مركز إبداع الشباب»، مثل دورة في الخزف، وأخرى في الخط العربي، وغيرها في الرسم، ومثلها في التصوير وغيرها.

وهو ما قامت به الفنانة موضي الهاجري، إذ تابعت دورات في «المركز» في الطباعة اليدوية، وثانية للغرض عينه في «مركز الفنون البصرية»، وثالثة في التصوير الضوئي في «الجمعية القطرية للتصوير الضوئي»، فضلاً عن دورات أخرى.

وهو ما يمكن رصده في دراسة الفنانة منى بوجسوم (من مواليد العام 1986)، التي تابعت دورات تدريبية في أسس الرسم بالقلم الرصاص والتصوير الزيتي والنحت على الفخار والجبس في «مركز إبداع الفتاة»، وفي الحفر الطباعي والتصوير الزيتي في «المركز الشبابي للإبداع الفنّي»…

وهو ما يمكن تتبعه في سِير عدد آخر من الفنانين القطريين… بل يمكن تتبع نشاط هذه «المراكز» المختلفة في وجه آخر، وهو تمكُّن الفنانين اللاحق من أن يكونوا ذوي قدرة على المنافسة في المسابقات الفنيّة، وحصد الجوائز فيها. هذا ما حصل، على سبيل المثال، في «مهرجان الحواس»، إذ نال الجوائز الثلاث متمرنون- طلبة في «المركز الشبابي للإبداع الفنّي»، وهم: مبارك المالك، ومنى بوجسوم وطلال القاسمي.

(8)

مسارات مُتعدّدة

«توطّنَ»، تعليم الفنّ في الدوحة، عبر مسارات شديدة الخصوصية، بحيث إن هاوي الفنّ ما عاد يجد حرجاً، مثل هاوي فترة البدايات، في إيجاد السبيل الدراسي، أو التدريبي، للفنّ من دون أن يضطر إلى السفر. وهو تغيُّر أصاب قطر والقطريين أنفسهم، في أحوال مجتمعهم، حيث إن أجيالاً من هواة الفنّ ستُقبل على التعليم والتمرُّس الفنيين، ما يعكس صورة جديدة عن إنتاج الفنّ وتأهيل ممارسيه.

الفنان أحمد سلطان (من مواليد العام 1960) يتباهى بسرد أخبار أفراد عديدين من عائلته ممن تمرّسوا بالغناء والمسرح… مضى أحمد إلى القاهرة في العام 1983 لدراسة هندسة الديكور، وكان عبد الله دسمال قد انتقل بدوره إلى القاهرة للاختصاص عينه…

ذهب سلطان إلى الديكور المسرحي لكي يصل إلى اللوحة وغيرها، بينما ذهب محمد عتيق (من مواليد 1966) إلى التليفزيون، بين مونتاج وديكور، لا ليصل إلى اللوحة فقط، بل إلى خارجها. فما جمع سلطان وعتيق وغيرهما من الجيل الثاني، بعد الأوائل والروّاد، هو خروجهما على اللوحة، وتعويلهما على ممارسات تقع خارج عهد اللوحة الكلاسيكي. هذا ما ظهرَ في خروج الشيخ حسن البين على الفنّ التشبيهي، في لوحاته، صوب أشكال مختلفة من التجريد. وهو ما بان، منذ أعمال «الكولاج» الباكرة عند سلطان، التي حادت عن التصوير صوب التركيب. وهو ما تأكد في صورة أصرح عند عتيق في خروجه على اللوحة إلى أشكال تجريبية مختلفة، ومنها أعماله الفراغية خصوصاً.

إلّا أن هذا الجيل ليس بجيل واقعاً، حتى لو أضيفت إليه أسماء فنانين آخرين، مثل: سعاد المعضادي، وحصة المريخي، وخولة المناعي وأحمد الحداد وغيرهم. ذلك أن سنوات العمر، وربما الدراسة، تجمع بينهم، فيما تُفرّق بينهم تجارب الفنّ وخياراتها. فإذا كان بعضهم، مثل المذكورين، اتجهوا صوب التجريد والتجريب، فإن المعضادي توقّفت، والمريخي اتّجهت صوب صور الهيئة (البورتريه)، والمناعي صوب التكعيبية في بعض أعمالها…

هذه النقلة أكيدة، بما ترسمه من تردّد ومن وجهات مفاجئة. وهو ما يتابعه الدارس في مسار فنانين لاحقين، مثل فاطمة الشيباني، التي تبدأ الحديث عن سيرتها الفنيّة من موقف غير تقليدي، إذ تشير إلى نفسها بوصفها «طفلة الأسئلة»: «كل ما يحدث يُثير أسئلتي… كنت أبحث عن شيء مختلف، وأبتعد عن جلسات النميمة، حتى إنني كنت أقلّد الصبيان في كثير من مواقفي وأعمالي. ما كنت أحب مجالسة الأطفال، بل الكبار، وأهوى محادثتهم، وأتعلّم منهم الفصاحة في الكلام والأمثال».

لم تجد الصغيرة فاطمة (من مواليد الوكرة) ما يعيق تفتحها الثّقافي والتعليمي، إذ كانت شغوفة بقراءة مجلات «النهضة»، و«زهرة الخليج»، و«العهد» وغيرها من المجلات السياسية، لا مجلة «ماجد» للأطفال. إلّا أن تربيتها كانت تعدُّها، على ما تعترف، لأن تصير ربة بيت، لا فنانة تشكيلية: «كان عمي يحب التصوير، ولكنهم ما كانوا ينظرون بعين الرضا إلى التربية الفنيّة، إذ لا تضمن للصبية المستقبل المشرق. كانت قد أعدتني أمي، قبل بلوغي الرابعة عشرة من عمري، لدوري المقبل، أي ربة بيت. ومع هذا، كنت أشعر باختلافي عن غيري، وأسعى إلى تميزي وتفردي».

حلمتْ فاطمة بأن تصير دبلوماسية، كما كتبتْ الشعر ونشرت بعض قصائدها، إلا أنها انتهتْ فنانة بعد أن انتسبتْ إلى قسم التربية الفنيّة. تقدمتْ إلى الجامعة في العام 1989، وفي دفعتها عدد من الطالبات ممن سيحترفن الفنّ: أمل العاثم، مي جاسم الزيني، ريم الزوادي، حصة المفتاح، هنادي الدرويش، شيخة السبيعي وغيرهن. قبلوا في تلك السنة 16 من أصل 60 متقدمة. وكانت مقررات التدريس تشمل: أشغال خشب ونحاس، الخزف، التصوير الفوتوغرافي، التصوير الزيتي، التشريح، القلم الرصاص، التصميم…

هذا ما عرفتْه الفنانة أمل العاثم بدورها، إذ لم تكن دراستها للفنّ سبيلها الأول إلى الجامعة، بعد أن رغبت في أن تكون طبيبة، وبعد أن درست الديكور المسرحي في «المعهد العالي للفنون المسرحية» في الكويت، إذ إنها كانت ميّالة دوماً إلى الرسم. وهو ما انتهتْ إليه في الدوحة مع الشيباني وغيرها، بل أصبحت في العام 2010 رئيسة «مركز الفنون البصرية».

ناديا المضيحكي التحقت بـ«القسم»، وانتهت بدورها إلى أن تكون فنانة محترفة، بل رئيسة (سابقة) لـ«مركز الفنون البصرية». وهي حال هنادي درويش كذلك، الفنانة ورئيسة مجلس إدارة «مركز إبداع الفتاة» سابقاً… إلّا أن أعداداً من الخريجين والخريجات – ما يُعدّ بالمئات على توالي الدفعات – انصرفوا إلى تخصصهم تماماً، وهو أن يكونوا «مدرِّسين» للتربية الفنيّة، أو إلى ما هو أعلى من ذلك، وهو أن يكونوا «موجِّهين» لها.

كثير من الفنانين المحترفين أدوا هذه المهمة التدريسية قبل أن «يتفرّغوا» تماماً للفنّ: هذا ما فعله أولهم جاسم الزيني. وهو ما فعله كثيرون مثل الشيباني ودرويش وغيرهما. حتى إن وفاء الحمد بقيت مدرسة لسنوات، بعد تحصيلها شهادة الدكتوراه، قبل أن تفوز بمنصب جامعي.

قلّة قليلة سلكت، إذاً، سبيل الاحتراف الفني بعد الدراسة الجامعية، إلّا أن «قسم التربية الفنيّة» ليس قسماً فنيّاً خالصاً، وإنما يؤهل الطلاب للتدريس لاحقاً. هذا ما طلبتْه سياسات التعليم في قطر منذ خطواتها الأولى… مَنْ يتتبع البعثات الأولى يتحقّق من أنها توزّعت وفق اختصاصات مُتعدّدة: فنون جميلة، ديكور، نحت، أثاث معدني، وصولاً إلى… تاريخ الفنّ (مع محمد علي عبد الله).

هذه السياسة بلغت خاتمتها، إن جاز القول، في العام 2010، إذ شهدت تخرج آخر دفعة من «قسم التربية الفنيّة»، بعد أن لبتْ هذه السياسة حاجات الدولة القطرية في التعليم. وهو ما اتّخذ وجهة جامعية جديدة، من جهة، وهو ما اتّخذ سبيلاً آخر في تدريب هواة الفنّ، من جهة ثانية، مع تأسيس «المراكز الفنيّة».

 

هوامش:

1 – ورد في كتاب حسان عطوان: «الحياة التشكيليّة في قطر»، الدوحة، 1988، ص 157.

2 – خولة محمد عبد العزيز المناعي: «العشر الأوائل من رائدات الفنّ التشكيلي في قطر»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، الدوحة، 2008.

* تستند هذه المقالات إلى حوارات خاصة جرت في أزمنة مختلفة مع دارسين وفنّانين قطريين.

ميلان كونديرا: فنّ مقاومة الإيديولوجيا

يُعد ميلان كونديرا، من كبار الروائيِّين التشيكيِّين الذين تركوا بصمة في الأدب الغربي الحديث. عُرف بغزارة إنتاجه الممتدّ على مدى سبعين سنة كاملة، متنقّلاً فيها بين الأدب والنقد. كما عُرف عنه عزلته الإعلامية الطوعية، وابتعاده عن الأضواء، متذرعِّاً، في ذلك-كلَّما سُئل في حواراته القليلة، بمشاكله الصحِّيّة، وباختياره للانزواء بعيداً عن الناس كي يتسنّى له الكتابة في هدوء، بعيداً عن ضوضاء غرف التحرير وصفحات الجرائد، كما تحدّث، من حين إلى حين، عن خوفه من التأويلات الإيديولوجية، إن هو أجاب عن أسئلة حول السياسة أو الصراعات الحزبية، خصوصاً أنه وُلِد في مكان، وفي زمان هما أساس الصراع في أوروبا القرن العشرين.

يتضمَّن هذا الحوار، الذي أجراه الناقد الكندي نورمان بيرون، إضاءات مرجعية لفهم عالم كونديرا الروائي، وعلاقته بالأدب والفنّ والإيديولوجيا…

بهذه المناسبة، استضافته الصّحافة الأدبيّة الباريسية، فكان له معها هذا الحوار:

 

نورمان بيرون: ميلان كونديرا، قبل أن أناقش ترجمة كتبك إلى اللّغة الفرنسية، أعتقد أنك جئت إلى عالم الكتابة، أوَّلاً، عبر بوّابة الشعر. أليس كذلك؟

– ميلان كونديرا: نعم كتبت الشعر، لكنني، الآن، لم أعُد أحبّه.

ألا ترى أن قصائدك جيّدة؟

– الكثير منها ليس سيِّئاً، لكن الأمر، هنا، يتعلّق بشيء آخر، فتركُ الشّعر والتوجّه صوب السرد لم يكن، بالنسبة إليَّ، مسألة انتقالية سهلة، إنها قطيعة. في هذه الحالة، أنا لم أتخلَّ عن الشعر، فحسب، بل قمت بخيانته. لم يكن الشعر الملحمي، بالنسبة إليّ، جنساً أدبياً فحسب، بل كان تصوُّراً للعالم، ونظرة له؛ نظرة تخلّيت عنها مثلما يتخلىّ المرء عن اعتقاد ما.

لكن، أليس هناك نظرة (لا ملحميّة) أو (ضدّ ملحميّة)؟

– ما هو ملحميّ يتمّ تعريفه، دائماً، من خلال ما يتركه من أحاسيس. أمّا النظرة (اللّا ملحميّة) فهي الإيمان بين ما نُفكّر فيه داخل ذواتنا وبين ما هو واقعي. مسافة غير متناهية بين ما ترغب الأشياء في تجسيده أو تتخيَّل أن تكونه، وبين ما هي عليه في الواقع. إدراك هذا الاختلال هو، في حَدّ ذاته، كسر للوهم الملحمي. إدراك هذا الاختلال هو، أيضاً، فنّ السخرية، والسخرية تمثّل أحد أبعاد الرواية.

قد تبدو خيانتك للشعر غير منطقية، لأنك قمت، في سنة (1965)، بنشر مختارات من شعر «أبولينيز» داخل ترجمتك الخاصّة، التي بدأتها بدراسة مُطوَّلة…

– نعم، تمَّ طبع هذه المختارات الشعرية في العاصمة براغ، وقد تمَّ سحب (55000) نسخة، ونفدت الطبعة خلال أيّام.

إذا كنت لا أحبّ -شخصياً- كتابة الشعر، فهذا لا يعني أنني لا أحبّ ما يكتبه الآخرون، فـ«أبولينير» هو عشقي الكبير.

لكننا نستطيع أن نجد، في رواياتك، مقاطع تحوي مخيِّلة شعرية بشكل مكثّف جدّاً.

– مدرسة الشعر الملحمي تُعتَبر ضرورية لأيِّ روائي. علينا ألّا ننسى أن الشعر الملحمي حمل معه أكبر تجديد، وأكبر مبادرة لفائدة الأدب الحديث، منذ بودلير حتى السرياليين؛ إذ تحرّرَ الخيال، وعُرف الاقتصاد اللغوي في التعبيرات، وزادت المقدرة على الاستحضار، وعلى التأثير عبر صورة واحدة.

كنت أرغب في أن يكون كلّ فصل من روايتي مُعبّراً عن نفسه، مختصراً، ومُكثّفاً كقصيدة شعر. لكن الفيصل، بالنسبة إليّ، هو منظوري الذاتي للأشياء بشكل كلِّي، وهذا يشمل، أيضاً، المنظور الساخر، ومنظوري لمنطق الغموض، ومنظوري لنسبية الحقائق والمشاعر والمواقف. باختصار، هو موقف، أراه أقرب إلى (الـلاملحميِّة).

بعد مرحلتك الملحميّة، كتبت كتاباً نظرياً بعنوان «فنّ الرواية». أمؤمن أنت بمستقبل الرواية؟

– كانت الرواية، على مدى تاريخها، محلّ اعتراض، وذلك من طرف أكبر مبدعيها، فأن تكون الرواية مُعارَضة من طرف ذاتها، هذا يعود، في الأصل، إلى طبيعتها. كتاب «جاك، الحتمي»، للكاتب دنيس ديدرو، هو استهزاء متواصل بالرواية، لكنه يعتبَر، في الآن نفسه، من أفضل أعماله الروائية. احتقر إيميل زولا الرواية، ولم يرغب في اعتبار كلّ كتبه روايات. في القرن العشرين، تحدّث الكُلّ عن الرواية بما يشبه النعي: السرياليون، والطلائعيون الروس، كما أكّد أندريه مارلو أن الرواية ماتت ما إن توقِّف هو عن الكتابة.

أترون؟ هذا غريب، حقّاً! لا أحد يتحدّث عن موت الشعر، رغم ذلك. منذ الجيل العظيم للسرياليين، لم أعرف أيّ أثرٍ شعريّ عظيم ومتجدّد. لا أحد يتحدّث عن موت الرسم، ولا عن موت المسرح، ولا عن موت الموسيقى، ورغم هذا تخلَّت الموسيقى، منذ « شونبيرغ»، عن كلّ التقاليد الموروثة، القائمة على الأصوات والمقاطع والآلات، طوال ألفية كاملة.

أحبّ كثيراً أعمال إدغار فاريز، وكذا إيانيس زيناكيس، لكن السؤال هو: هل ما زالت هذه الآثار تُعتَبر موسيقى؟ يَعتبرُ فاريز ألحانه كشكلٍ من تنظيم الأصوات. ربَّما ماتت الموسيقى منذ عشريات كاملة، دون أن يتحدّث أحدٌ عن ذلك. مُقارنة مع كلّ الأجناس الفنيّة، الرواية -وحدها- هي الأقلّ اندثاراً.

ألا تعتبر أن روايتك الأولى «المـُزحة» نصّاً يصف بيئة معينة لجيل ما؟

– لا، لم تكن لدي أيّة نيّة لكتابة سيرة، أو التّعبير عن حقبة ما. وبسبب عدم وجود كتب تُوثّق للثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ بلدي، فإن رواية «الـمُزحة» تولّت وظيفة التوثيق التاريخي، فقامت الرواية بذلك دون وعي منّي، بل على مضض. ما كان يهمّني ليس الوصف التاريخي بقدر ما هو المشاكل المصاحبة له، أو -لنقلْ- المشاكل الميتافيزيقية، والوجودية، والأنثروبولوجية. أترى؟ أبحث، بصعوبة، عن المفردات المناسبة للوصف. باختصار، أبحث عمّا يُعرف بالمشاكل الإنسانية الأزلية، والتي يُسلّط عليها النصُّ التاريخي الضوء.

مثل ماذا؟

– كمثال على ذلك، تطرح روايتي سؤالاً عن الانتقام، من خلال التقاء لودفيك بزوجة رجلٍ، كان، قبل خمسة عشر سنة، سبباً في مأساته المتمثِّلة في طرده من الحزب، ومعاقبته بستّ سنوات في السجن مع الأشغال الشاقّة، إضافةً إلى إنهاء مساره المهني العلمي؛ لذا انجذب إلى هذه المرأة بدافع الحقد.. فقط، كي يُذلّ خصمه.

ألا ترى أن شخوص هذه الرواية (بل مُعظم شخوص رواياتك) يعيشون، في الغالب، في شكل من التناقض؟

– انتقام لودفيك (معاقبة رجل من خلال زوجته) ليس تناقضاً في ذاته، فهو، أيضاً، محكوم بنتيجة ذلك الفعل، لأن لودفيك اكتشف أن زوجة خصمه كانت في طريقها للانفصال عنه، وما انتقامه من خصمه، في نهاية المطاف، إلا مزحة سخيفة.

ألا تعتقد أن رواية «المُزحة»، ما هي، في الأخير، إلّا مُزحة؟

– نعم: كيف أن المزحة تستحيل إلى شيء حتميّ، وكيف أن المصير يتحوَّل إلى مُزحة. والتاريخ نفسه، ألا يمزحُ معنا؟ في روايتي، هناك قصّة حُبّ أخرى: أحَبَّ لودفيك، في شبابه، فتاة بسيطة لم تقبل به، والسبب أنها تعرّضت، في طفولتها، إلى صدمة تمثّلت في اغتصابها من طرف أحدهم، فارتبطت المضاجعة، بالنسبة إليها، بالوحشية، والحبّ الحقيقي يتجاوز مسألة الجسد؛ لذا أصبح التعبير عن الحبّ جسديّاً مسألة مشوّهة. في الماضي، أحَبَّ لودفيك أوهامه الاجتماعية، لكن هذه اليوتوبيا ثبت أنها متوحِّشة ودموية. بدت له اليوتوبيا الاجتماعية ذات قيمة خرِبة، فامتلأ حقدَاً نحو حلمه القديم، لكنه يعلم، في الوقت نفسه، أن هذا الحقد ليس إلّا خطأً آخر، هو نوع آخر من الظلم. هل عليه أن يُبغض قِيَمَهُ المُتهالكة، أم عليه -بالأحرى- أن يُناشد تعاطفاً نحوها؟ أترى كلّ شيء مقلوباً في الرواية؟ إنها رواية عن هشاشة القيم الإنسانية، وليست عن شجب نظام سياسي ما. طموح الروائي هو أكبر من مواجهة نظام سياسي زائل.

ما رأيك لو تحدّثنا عن مسرحك (عن مسرحية «مالِكو المفاتيح»، بالتحديد) ألا يبدو أن تيمتها الأساسية هي مقاومة الاجتياح الألماني؟

– نعم، هذا طبيعي. الحدث يجري في أثناء الاجتياح الألماني. ألا تعلم أن هذا شيئاً مُعيقاً للمسرحية.

لماذا؟

– هناك المئات من المسرحيات التي تناولت الاجتياح النازي لأوروبا. خذوا مثلاً، بشكل خاصّ، «سالاكرو» في أوروبا الشرقية. يقوم بناء هذه المسرحيات، في الغالب، على الشكل نفسه: هناك مقاومون، وهناك أوغاد لا يرغبون في المقاومة، وهناك، على الدوام، أناس في موقع وسط بين الخزي والمقاومة. كلّ هذا حقيقي، لكنه (كليشيه) مُخيف. كذلك قصّة مسرحيَّتي التي تدور أحداثها في أثناء فترة الاجتياح، وفيها شخوص؛ إمّا مُقاوِمون أو أوغاد، لكن الموضوع الرئيس لمسرحيَّتي مختلف عن هذا، لأن موضوع الاجتياح ليس إلّا خلفيّة أو حيلة، ولا يمنع هذا أن يعتبرها المتلقّي مسرحية من ضمن تلك الخيارات الفنِّيّة للمقاومة.

لكن مسرحيَّتك هذه عرفت -رغم ذلك- نجاحاً كبيراً في العالم بأسره. أليس كذلك؟

– نعم، هذا ما حصل، لكن المسرحية نجحت لأنها لم تُفهم بشكل صحيح. هكذا، دائماً، تنجح الأشياء، عندما لا نفهمها جيّداً.

الأهمِّيّة الكبيرة التي يضعها مُكتري شقّة ما لمسألة إضاعة مجموعة مفاتيح، أليس موضوعاً يعود، بالأساس، إلى الأديب الروماني أوجين يونسكو؟

– فعلاً. هذه المسرحية هي أقرب من مسرح يونسكو منها إلى المسرح السياسي، هي مسرح عبثي يتموضع داخل حقيقة تاريخية مُجرَّدة، حيث لا تتجاوز العبثية حدود الممكن، هذا بالإضافة إلى أن «يونسكو» هو معشوقي الأدبي. أحبّ أن أجسّده مسرحاً أكثر من سماعي وهم يتحدَّثون عنه، اليوم، بشيء من عدم الاهتمام. يُمكنني أن أتخلّى عن كلّ أعمال بريخت مقابل عمل واحد له.

عندما نُحلّل اللعبة المسرحية: الإيماءات، والتكرار، والحوارات.. نُفكر في لعبة متعدّدة الأصوات. هل أنت موافق على هذا؟

– لِمَ لا أوافق؟ «مالكو المفاتيح» هي مسرحية تَمَّ إعدادها بشكل جيّد وشديد الحرص. كلّ المُسوغات تتكرّر، وتتعدّد. المسرحية، بأكملها، أشبه بلعبة المرآة؛ ربَّما يعود هذا إلى تأثير تربيتي الموسيقية التي تلقَّيتها.

ما شكل هذه التربية الموسيقية؟

– إلى غاية سنّ العشرين، كنت متردّداً بين اختيار الموسيقى أو الأدب، وفي أثناء ذلك تدرَّبت على البيانو، ودرست التلحين.

بأيّ معنى تستطيع الموسيقى التأثير في ما يكتبه الكاتب؟

– هناك فرق كبير بين البناء الموسيقي والبناء الملحمي. يُجمِع أغلب الروائيين على أنهم حينما يبدؤون الكتابة يجهلون كيف ستكون عليه نهاية أعمالهم. أراغون -مثلاً- قالها، وكذلك أندريه جيّد الذي أكّد هذه النظرة في «المزوِّرون»، بينما الموسيقيُّ لا يقول، أبداً، إنه يجهل الشكل النهائي لمقطوعته؛ فعندما يبدأ بكتابة أوَّل تيمة في مقطوعته المتكرِّرة تكون على هيئة أشكال تنتهي -عادةً- بالتيمة نفسها التي بدأت بها. تقوم الموسيقى على مبدأ التجدُّد والتكرار، أمّا مبدأ البناء الملحمي فمختلف تماماً. العمل الروائي، من خلال منطق الخصوصية، يتمثَّل في الحدث الذي يستفزّ الذي يليه، ولا شيء يتكرَّر. أحاول، دائماً، دعم المبدأ الملحمي عبر المبدأ الموسيقي. خذ مثالاً «فالس الوداع»: في أرضية الرواية، تدور أحداث ملحمية مع الكثير من الإثارة، بينما في الدور الأرضي هناك تركيبة موسيقية. هناك صيغٌ تتكرّر، وتتنوَّع، وتتبدّل، ثم تعود أدراجها. لا توجد جملة إلّا وتعكس صورتها وازدواجيَّتها، وتقدّم جواباً في مكان آخر في الرواية. خُذ، أيضاً، تيمة الميلاد في «فالس الوداع» هي محطّة موضوعاتية لعلاج العُقم، وكلّ الشخوص تواجه هذه المشكلة: «كليما» مهدَّد بشكل لا إرادي بأن يكون أباً، وتصبح «روزينا» حاملاً، بينما طبيب النساء «سكريتا»، الذي يعالج المرضى، يكون سبباً في ذلك. «جاكوب» لا يحبّ مسألة الإنجاب، واختار قصّة نسَبها إلى هيروت، الذي كان يرغب في تحرير العالم من مخالب البشر، وشرورهم. في «الحياة هي في مكان آخر»، تبرز تيمة الشتاء والبرد، حين يموت «جازوفيل» بسبب البرد، كما أن الحبّ كان مبتغى «كزافييه»، لكنه مات، أيضاً، من شدّة البرد، موضوع البرد يرافق كلّ تركيب في النصّ …إلى ما هنالك.

جئت على ذكر أراغون، الذي لم يكن يعرف كيف ستكون عليه نهايات رواياته. هل تعرف أنت أين ستنتهي روايتك؟

– ألّا يعرف الروائي شكل نهاية عمله، هو إشارة بأن هناك موهبة، في الأساس. تبدأ الفكرة (وهنا سأبسِّط الأمر) بتصوُّر الشخوص التي ستصبح، لاحقاً، معروفة، وتكون قادرة على إثراء القصّة، هكذا يفاجئ السردُ الروائيَّ نفسه. عليّ القول إنني-بطريقة ما-أعرف إلى ما ستؤول إليه الأحداث؛ هي طريقة موسيقية في التفكير، ففكرتي الأولى لكتابة الرواية تقوم على التوزيع النسبي. حين بدأت كتابة عملي «المزحة»، كنت على دراية بأنها ستكون في حدود سبعة أجزاء، أجزاؤها: الأوَّل، والثالث، والخامس سيكون السارد فيها هو الشخصية الرئيسية (لودفيك)، أمّا، في الفصول: الثاني، والرابع، والسادس فيأخذ آخرون بخيط السرد، وفي الجزء السابع تتعدّد الأصوات السردية، من خلال شخوص الرواية معاً. فكرة البناء، بالنسبة إليّ، هي مسألة مُحَدّدة وليست شيئاً ذهنياً لا شعورياً. انظر إلى بناء رواية «الحياة هي في مكان آخر» الذي كان متجانساً، إذ تَمَّ تقسيم الرواية إلى سبعة أجزاء، الفصول: الأوَّل، والثالث، والخامس هي مُطوَّلات ملحمية، تحكي حياة الشخصية الرئيسية، أمّا الفصول: الثاني، والرابع، والسادس فتمثِّل استراحات سردية، بينما الفصل السابع هو أشبه بالمونتاج (تركيب) متعدِّد الأصوات.

أنت مولع بالعدد سبعة…

– بكلّ تأكيد، نعم. أحبّذ، على الدوام، الأعداد الفردية، وأُفضّلها على الزوجية، كما أرى أن بدايات الأعداد الفردية التي لا تقبل القسمة على عدد آخر (أي لا تقبل القسمة إلّا على نفسها) هي الأفضل دائماً. على سبيل المثال: «فالس الوداع» مقسّمة إلى خمسة أجزاء، بينما «المزحة» و«الحياة هي في مكان آخر» مقسمتَيْن إلى سبعة أجزاء لكلّ منهما، بينما «غراميّات مرحة» هي سبع قصص.

هل يتعلق الأمر بسحر الأرقام؟

– أعلم أن هذا قد يبدو لك سخيفاً. لنقل إن هذا، من ناحيتي، ليس إلّا لعبة، وهو أشبه بمن يدفعك، في الصباح، إلى الخروج من بيتك بقدمك الشمال، وأنت تعرف أنه أمر يتطيّر منه الناس، لكنك -رغم ذلك- تلعب مع هذا الأمر، وتعتبره لعبة، وهو لا يخلو من بعض العُمق. ليس للأرقام معانٍ سحريّة، لكنها فعّالة. إذا ما قسّمنا رواية ما إلى جزأين أو أربعة أجزاء أو ثمانية، فإننا -في الحقيقة- نقسّمها إلى نصفَيْن، ولن تكون مترابطة بما فيه الكفاية أو موحّدة أو مضغوطة. لخلق وحدة حقيقية للبناء، على هذا البناء أن يكون مضمراً؛ وهذا هو المعنى الأوّلي للأرقام، فلا «المزحة» ولا «الحياة هي في مكان آخر» كانتا تقبلان بتجزئتهما إلى جزأين، أو ثلاثة أجزاء؛ بناؤهما مضغوط جدّاً، إنه، أيضاً، سؤال عن التناسب والأرقام. أعترف أن هذا الشكل من التناسب هو خاصِّيّة تُميّز الملحِّن عن الروائي.

هناك شيء آخر هو أن التوزيع الموسيقي يعتمد على الزمن. أنا، شخصيّاً، أميلُ، دائماً، إلى تهميش (إضافة) مختلف الفصول بشارات سرعة الإيقاع الموسيقية. على سبيل المثال: في « الحياة هي في مكان آخر»، في الجزء الأوَّل يعتمد السرد على السارد الملحمي الكلاسيكي، فالمواقف هنا تمثِّل (moderato)، بينما القسم الثاني أشبه بالحلم (vivace)، في الجزء الثالث فهو سرد مجزَّأ بما يُعرف (allegretto)، وفي الجزء الرابع يتمّ تركيب الفصول؛ ما يستلزم شيئاً من الاقتراب، وهو ما يُسمّى (prestissimo)، ثم يأتي (moderato)، و(Lento)، والفصل السابع (Presto).

أتعتقد أن القارئ سيشعر، فعلاً، بهذه التفاصيل؟

– ربَّما يشعر بذلك، بطريقة غير واعية، لكنه، في الحقيقة، لا يمكنه -وهو يقرأ- إلّا أن يشعر بذلك. هناك أداء جيّد يخصّ التناوب الزمني. النقد الأدبي لا يلتفت كثيراً إلى هذا، لكنه يلتفت إلى أشياء أخرى؛ ربَّما لأن النقد يهتّم أكثر بالإيديولوجيا، أو يدرس البناء الغامض أو المهمّ.

نعود إلى المسرح. بعد «مالِكو المفاتيح»، كتبت مسرحية «الرحلة» سنة (1967).

– كتبت «مالِكو المفاتيح» في سنتَيْن، وقد كانت مسرحية مُحكمة البناء بينما كتبت «الرحلة» في أسبوع، وهي -بكلّ المقاييس- بسيطة للغاية. أنا -شخصياً- أحبّها مئة مرّة أكثر من «مالِكو المفاتيح»، و-للأسف- لا أحد يشاطرني هذا الرأي (…)، ولكن المسرحية التي أعتبرها الأفضل هي «جاك وسيّده»؛ اقتباسي المسرحي لـ «جاك القدري» التي كتبها «ديدرو».«جاك القدري» هي روايتي المُفضلة، كنت مهووساً، على الدوام، بهذا العمل، وبفكرته الساخرة والتهكُّمية، الصريحة والاحتجاجية، في الآن نفسه.

متى كتبت هذا الاقتباس المسرحي للرواية؟

– كما تعرفون، حصلت على الليسانس سنة (1968)، من جامعة براغ، وقد مُنِعتُ من نشر أيّة رواية داخل بلدي، فكان عليَّ مزاولة أيّ نشاط فكري آخر كي أعيش. كان هناك الكثير من الناس ممَّن أرادوا مساعدتي. جاءني أحد رجال المسرح السلوفاك، واقترح عليّ تحويل إحدى روايات دوستويفسكي إلى مسرحية، وأوقِّع باسمي الخاصّ. لم أستطع أن أكتب شيئاً، حتى أنه اقترح، بعدها، أن أكتبها باسمه الخاصّ، وهو ما وقع فعلاً. من جهته، كان شخصاً نبيلاً وشجاعاً. بدأت، إذاً، بإعادة قراءة رواية دوستويفسكي، ثم أدركت أنني لن أستطيع، أبداً، أن أقتبس مسرحية من عمل دوستويفسكي، الذي لا أحبّه.

هذا غريب؛ إذ يُمثّل دوستويفسكي شأناً عظيماً لكتّاب الغرب!

– أنا لست كاتباً غربياً، وبراغ ليست الغرب؛ إنها وسط أوروبا. أمّا فيما يتعلَّق بـنظرتي إلى دوستويفسكي، فلا يمكنني تجاهل مقدرته الإبداعية الكبيرة، إلَّا أنني أردت التعبير، فقط، عن نفوري الشخصي، ونفوري هذا-للعلم-حتى أنا أستغربه. أدركت أن عوالمه الروسية -وهي عوالم هيستيرية- غريبة عنّي؛ بما تحمل من عقيدة غير عقلانية، ممتزجة بالمعاناة والمشاعر المُظلمة العميقة. شعرت بالمرض وأنا أقرأ هذه الأعمال، كما وجدتني بحاجة ماسّة إلى أخذ ترياق كي أُشفى منها. وهكذا، وجدتني أرتمي في أحضان نصّ «ديدرو».

كانت تلك السنوات من أكثر سنوات عمري حزناً، لكن كان للفرنسيين الفضل في انتشالي من ذلك الحزن. كان لأصدقائي، في فرنسا، ذلك الفضل وكذا لقرّائي، ولمُترجمي وناشري. ولا أنسى ديدرو. بالطبع، لا يمكنني، أبداً، نسيان فضله عليّ.

ولكن، أعتقد أنك تتذكّر، بوفاء، ديدرو وعصر الأنوار، لا في مسرحيَّتك، فحسب، بل من خلال مجموعتك القصصية «غراميّات مرحة»، وروايتك «فالس الوداع»، أيضاً. أليس كذلك؟

– نعم.

بعد عشر سنوات، ألم تُعِد إحياءَ موضوع دون جوان، وضحكه التراجيدي في عملَيْك: «مقابلة» و«الدكتور هافل»؟

– بالضبط تكمن تراجيدية دون جوان، اليوم، تحديداً، في صعوبة الوصول إلى التراجيديا نفسها. تعاسة دون جوان، اليوم، تكمن في أنه يستحيل أن يكون هو ذاته. في عالم كلّ شيء فيه مباح، تحوَّل منافس دون جوان إلى أكبر عرّاب للنساء، لكنَّ هناك فرق كبير بين منافس كبير وعرّاب للنساء: دون جوان القديم كان يخترق القانون، أمّا عرّاب النساء فهو متوافق مع القانون لأنه جزءٌ من شيء بات مألوفاً. الآن، نحن مجبرون على أن نكون عرّابين لهنّ. الدونجوانيّون أصبحوا، اليوم، بعيدين عن التراجيديا، وتمرُّدهم القديم كان ترجمة للتحدّي، أمّا اليوم، فمغامراتهم أصبحت، بشكل ما، أقرب إلى التفاهة.

بكلّ بساطة، أعتقد أن هناك، في نصّ «غراميّات مرحة»، جملة اقتبستها من كتابك «إدوارد والرَّبّ»: «أنا -إن كنت ترى- مُجبرٌ على الكذب كي لا آخذ على محمل الجدّ ما يقوله الحمقى، ولكيلا أكون أنا نفسي أحمقَ» … ألا تُشكّل هذه الجملة نسق المجموعة القصصية، وروحها؟

– إذا كنت على ثقة من أن العالم الذي يُحيط بك، لا يستحق أن تأخذه على محمل الجدّ، فهذا يدخل في باب الاستنتاجات المُذهلة. الصرامة تُصبح عبثاً؛ لذا لِمَ عليك أن تكون جادّاً أمام شخص لا يحمل الأمور على محمل الجدّ، وهو ليس إلّا أحمق؟ لماذا عليك قول الحقيقة، أو أن تكون فاضلاً؟ لماذا تحمل الأمور على محمل الجدّ؟ كيف يحمل المرء نفسه على محمل الجدّ، في عالم لا معنى له؟ سيكون هذا، على الأرجح، في غاية السخف. الإحساس بعدم أخذ العالم  على محمل الجدّ هو الهاوية. «غراميّات مرحة» هي مجموعة قصصية غريبة تجري على حافّة الاستعجال.

نأتي، الآن، على ذكر روايتك «الحياة هي في مكان آخر»، التي نلت بها جائرة «ميديسيس» (1973). لِمَ هذا العنوان؟

– هي جملة لـ «رامبو». في ثورة (1968)، كتبها الطلبة على الجدران كشعار. هي وهم الشباب الخالد، وحلم أولئك الذين عجزوا عن تجاوز سنّ المراهقة، هذه الرغبة في ولوج الحياة الحقيقية تتحكَّم في الثوّار الشباب، وكذا الشعراء الشباب.

في مستوى أوَّل، يعتَبَر «جاروميل» الشخصية الرئيسية. أليس هو ضحيّة لأمّ متسلِّطة، أم أنك بالغت في حمايته؟

– قبل أن أكتب هذه الرواية، قرأت كثيراً عن سِيَر الشعراء الذاتية، فلاحظت أن جُلّهم شعروا بغياب الأب القوي. الشعراء خرجوا جلّهم من بيوت تديرها أمَّهات. كان هناك الكثير من الأمَّهات اللاتي بالغن في رعاية أطفالهنّ، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- والدة «ألكسندر بلوك»، ووالدة «ريلكه» ووالدة «أوسكار وايلد»، كذلك والدة الشاعر الثوري التشيكي «جيري وولكر»، الذي تركت سيرتُه الذاتية أثراً كبيراً في نفسي، وألهمتني الكتابة. هناك أمَّهات عاديّات، لكنهنّ لسن أقلّ حرصاً، مثل أمّ رامبو؛ لذا فقد ابتكرت هذا التعريف للشاعر: هو شابٌ تقوده أمّه، يُعرَض على عالم، لا يستطيع الولوج إليه.

في مستوى ثانٍ، ألا يُجسّد «جاروميل» الأسطورة «الريمبولية» للشاعر، لكنه هذه المرة يمثّل الرداءة في ثوب الشعر؟

– لا. ليس هناك أيّة رداءة! لا تنسَ أن «جاروميل»، بطلي الخاصّ، قد مات وهو في العشرين، وهو ليس رديئاً البتّة، بل -على العكس- إنه موهوب بشكلٍ خُرافي، وهو يعتبر شبيهاً لكثيرٍ من الشعراء الكبار. أما أولئك الذين يصفونه بالرداءة، فهم عاجزون عن التّخلص من أسطورة أوروبا الكبيرة. وللعلم، الأسطورة هنا اسم كبير، نحن معارضون ومستعدّون لإهانة قبور الأعلام الكبار والرايات الوطنية، لكننا، في الآن نفسه، أسرى لأساطير لا تُمَسّ، مثل أسطورة الثورة، وأسطورة الشباب، وأسطورة الأمومة، وأسطورة الشعر. أرجو أن تفهمني جيّداً: أنا لست ضدّ الثورة، ولا ضدّ الأمومة، ولا حتى الشباب والشعر، ولكن لديَّ رغبة مُلحّة في نزع القداسة عن بعض الأساطير. الشعر -بحسب هذه النظرة الأسطورية- هو القيمة الصرفة. لن يستطيع الشاعر أن يكون مُخبراً أو واشياً كما هو عليه الأمر لدى بطلي «جاروميل». إذاً، على القارئ إمّا أن يرفض كتابي، باعتباره نوعاً من التجديف، أو عليه أن يفهم بأن «جاروميل» شاعر مُزيّف. ترى، هل نستطيع أن نقبل-دون أن نُعيّر بارتكابنا لفضيحة-بأن فيلسوفاً قد يتعاطف مع الفاشيين، كما يمكننا القبول، دون أدنى فضيحة، بأن مُحارباً كبيراً قد يصبح وغداً، أو عبقرياً في مجال العلوم، سيكون جباناً، لكن لا يمكننا القبول، أبداً، بأن يتحوَّل الشاعر إلى مُخبر؟.لكنني رأيت بعيني قيام الكثير من كبار الشعراء بأفظع ممّا قام به بطلي المسكين «جاروميل». لم يقوموا بذلك رغم أنف عبقريَّتهم الشعرية بل بدافعٍ منها؛ لا بدّ من استيعاب هذا، وفهمه. بطلي «جاروميل» سوف يُدين شقيق حبيبته، لا باعتباره حقيراً تافهاً، بل يفعل ذلك بشكل حماسي أصيل بصفته شاعراً، فمقدرته الإبداعية ساهمت، بشكل كبير، في قرار الإدانة. لا تنسَ أن أكبر الجرائم، في التاريخ، كانت تُرتكَب على وقع الطبول والألحان، والقصائد الحماسية…

ألا نعتبر ما كتبته مقالاً نقدياً ضدّ الشعر؟

– بالتأكيد، لا. إنه ليس مقالاً نقدياً، ولا هجاءً، ليس هناك شيء مبالغ فيه. هنا، على الأرجح، محاولة للقيام بالنقد عبر آليّات الرواية، وصفٌ ظاهراتي لما يُبديه الشكل الأسطوري أو التصوُّر الأسطوري للعالم.

لكن هذه الحالة أكثر خصوصيّةً، فعندما أصبح بطلك «جاروميل» أشبه بشاعر بلاط، من خلال خدمة نظام سياسي معيَّن، بدا كأنه طارئ على المشهد (ليس أصيلاً)؟

– «جاروميل» ليس طارئاً، فلم يصبح شاعراً لأنه يرغب في منصب أو مرتبة مستقلّة، بل لأن النظام الرسمي يمثِّل، بالنسبة إليه، الثورة والتغيير الجذري الذي كان ينشده، والجديد الذي يطمح إليه. هو يعامَل، مثله مثل أي شاعر كبير، كواحدٍ من أولئك الكبار الذين أصبحوا، وسط الظروف ذاتها، والعصر نفسه، الشعراء الرسميِّين. أتعتقد أن «بول إيلوار»، إذا ما عاش في تشيكوسلوفاكيا، ما كان سيُصبح شاعراً للبلاط؟ أتعتقد أن كلّ هؤلاء الشباب المتحمِّسين والثوريِّين لن يُصبحوا، وسط دولة ناشئة ثورية، شعراء رسميّين؟ أما كان أمرهم سينتهي إلى ما انتهى إليه «جاروميل»؟ أتعرف أننا، على الرغم من تقسيم أوروبا إلى قسمين، نعيش القصص والمشاكل نفسها، والنقاشات والمصائر نفسها. ليست أوروبا إلّا واحدة.

إذا ما عدنا إلى روايتك «فالس الوداع»: «جاكوب» -وهو الشخصية الرئيسية، على ما أعتقد-ألا يُلخِّص مضمون الرواية، وروحها، عبر جملته: «المُضطهِدون ليسوا أفضل من المُضْطَهدين».

– هناك أناس من اليمين، يصفون أنفسهم بأنهم مُضطَهَدين من طرف اليسار، وأناس من اليسار يتمّ اضطِهادهم من قِبَل اليمين. لا أعتقد أنه هناك اضطهاداً أفضل من آخر. في عالم مليء بالصراعات الأيديولوجية، المُضطهِدون يرغبون في أن يكونوا كذلك. هي، إذاً، التجربة السوداء لـ «جاكوب».

ألا تُقدّم نفسك له بهذه الطريقة؟

– لا أقدّم نفسي لأحد. أنا أكره الروايات السيرية.

ألا توجد رواية واحدة تنقل سيرتك الذاتية، ضمن أعمالك الروائية؟

– ما هي رواية السيرة الذاتية؟ هي روائيٌّ ما، يرغب في شرح حياته وظروفه من خلال نصّ مُشفَّر. هذا أمر مزعجٌ، وغبيّ. من الأفضل له أن يكتب مذكِّراته ليكون أكثر صدقيّةً. من الطبيعي أن يستحضر الروائي، في أثناء كتابته، بعضاً من حياته (وهذا مختلف عن كتابة السيرة الذاتية)، ولكن عليه أن يخلق عالماً تخييلياً مستقلّاً عن عالمه الخاصّ.

في البداية، تمّ التضييق على رواياتك، ثم مُنِعت، ألا يعود ذلك إلى موقفك، والتزامك السياسيَّيْن؟

– لا أحبّ الروايات السياسية، لأنها من أسوأ الروايات من حيث كتابتها. لكن الناس، في هذا العصر المليء بالسياسة، هم حسّاسون للقضايا السياسية، وسوف أعطيك مثالاً: قلت إن جاكوب -بحسب رأيك- هو الشخصية الرئيسية في الرواية، لكن الأمر ليس كذلك؛ فهو بالأهمِّيّة ذاتها لباقي الشخوص، مثله مثل «بارتلاف» أو الدكتور «سكريتا». لكن، لماذا اعتبرته أنت الشخصية الأهمّ؟ لأنه -ببساطة- الشخصية الوحيدة التي لها معنى، ووجود سياسي؛ وهذا ما يجعله، في وقتنا الراهن، الشخصية المُسيّسة الأكثر أهمِّيّةً، ولكن هذه النظرة خاطئة.

هذا صحيح، بالتأكيد. ولكن، هل ترى أن هناك حياداً في الأدب؟

– إذا ابتعدت الرواية عن الأيديولوجيا السياسية لعصرنا، ورفضت المساهمة في التبسيط الإيديولوجي، واتَّجهت إلى العُمق، فإنها ستكون حيادية، بالتأكيد، بل مُتحدّية أيضاً؛ لأن دور الرواية هو قلب النُظم السائدة، وقلب ما هو طبيعي، من خلال مقاومة الأفكار المُسبقة. كتابة الرواية هي خلق الشخوص، وإن كان هذا النشاط الكتابي لعبة مستهجنة، لكنها -في الأخير- لعبة ذات أهمِّيّة. كلّ هذا يُعلّمنا فهم حقيقة الآخرين، وشكل حقيقتنا المحدود، كما يجعلنا نفهم العالم كنقطة استفهام من منظورات مختلفة. هذا يُفسِّر لماذا تكون الرواية فنّاً عميقاً يُجابه الأيديولوجيا. إنها كذلك لأن الأيديولوجيا تصوِّر لنا العالم من وجهة نظر الحقيقة الواحدة، تُقدّمه لنا كصورة لهذه الحقيقة، لهذا أقول وأكرّر: إن الرواية هي فنّ مقاوم للأيديولوجيا، وهي وسط عالمنا المُتوحّش بسبب أن الأيديولوجيا ضرورة كالخبز.

قدّمت روايتك «فالس الوداع» بوصفها رواية هزلية، لكنها أقرب إلى المأساة…

– لست كاتباً ساخراً، كما أنني لا أحبّ الكتابة الساخرة، وأعتبرها نوعاً من الخداع. العالم ليس مُقسَّماً إلى تعيس، وآخر مُدلَّل أو مُضحك، وآخر تراجيدي، رغم ذلك فالساخر والتراجيدي مرتبطان معاً، منذ الأزل، فلكلّ حالة إنسانية جانبها الهزلي. في «فالس الوداع»، الكلّ هزلي، وتراجيدي، في الآن نفسه، لكننا، اليوم، في هذا القرن المُخيّب، فقدنا كلّ إحساس بالدعابة، عليّ -إذن، مُجبراً-أن أجذب انتباه القارئ إلى الجانب الهزلي لكتبي. أعتقد أن اجتماع الكوميديا والتراجيديا قد تحقَّق في «فالس الوداع» أكثر من باقي رواياتي. جُلّ السرد يتجسّد في الخطّ الرفيع الذي يفصل الجادّ عن غير الجادّ؛ وهذا ما يجعلها روايتي المفضَّلة.

أليس قاسياً عليك -بصفتك كاتباً تشيكيّاً- ألّا يتاح لقرّاء بلدك متابعة أعمالك، وقراءتها؟

– عموماً، هي وضعية غريبة! تخيّلوا أنني أكتب رواياتي باللّغة التشيكية، ولأنها تُعبّر عن وجودي في بلدي، فلا أحد بمقدوره قراءتها باللّغة الأمّ، لذا تُرجِمت -أوَّلاً- إلى الفرنسية، وطُبعت في فرنسا، ثم في بلدان أخرى، بينما بقي النصّ الأصلي، باللّغة التشيكية، في درج مكتبي جامداً، كقالب بائس. تسأل إن كان قاسياً، بالنسبة إليَّ؟ لا أدري. ما زلت أشعر بهذه الوضعية الغريبة التي لا يمكنني الحُكم عليها. على أيّة حال، أشعر بأنني محظوظ جدّاً لأن لديّ مترجم ممتاز، وهو -إضافةً إلى كونه مترجماً- صديق لي، كما أنه شاعر، بحقّ. «فرونسوا كارال»، ترجَم روايتي الأخيرة بطريقة تماثل النصّ الأصلي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: نورمان بيرون

المصدر:

https://www.erudit.org/en/journals/liberte/1979-v21-n1-liberte1448919/60129ac/abstract/

ديمون غالغوت: البوكر تفاجئك، في اللحظات الأخيرة، بخدعة غير لطيفة

نشأ الروائي والكاتب المسرحي الجنوب إفريقي «ديمون غالغوت»، ذو السابعة والخمسين عاماً، في مدينة «بريتوريا»، بجنوب إفريقيا، في أوج زمن الفصل العنصري. كتب روايته الأولى في سنّ السابعة عشرة، وتمَّ إدراج اسمه، مرَّتَيْن، ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» الدولية. تمتدّ «الوعد»، آخر أعماله الروائية، على طول أربعة عقود مضطربة، كما تسرد تفاصيل الفترة التي تلت وفاة أمّ بيضاء البشرة، أرادت أن توِّرث ممتلكاتها لخادمتها السوداء.

فائز «ديمون غالغوت»، مؤخَّراً، بجائزة «بوكر» الدولية. في هذا الحوار، يتحدَّث إلينا عن زيارته لمنزل «كورناك مكارتي»، وعن شبابه الذي قضاه في مدينة «بريتوريا» الواقعة بمنطقة الفصل العنصري، وعن وصوله إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» الدولية، مرَّتَيْن، في ما مضى، وفوزه بها أخيراً.

كيف خرجت رواية «الوعد» إلى الوجود؟

– الكتب، تبنى، عادةً، انطلاقاً من مجموعات أفكار أو مواضيع نحملها وننقلها معنا، وننشغل بها لفترة ما من الزمن. الشكل الخاصّ الذي خرج به هذا الكتاب، بالتحديد، تَبَلْوَر حول سلسلة من الحكايات الطريفة التي قصَّها عليَّ صديق لي، حول أربع جنازات عائلية حضرها. خطر لي أن تلك قد تكون طريقة لافتة لسرد قصّة عائلة واحدة على الخصوص. أمّا فكرة «الوعد» نفسها فقد جاءتني من صديق آخر، حينما كان يقصّ عليَّ كيف طلبت والدته من العائلة أن تعطي قطعة أرض معينة للمرأة السوداء التي اعتنت بها خلال مرضها الأخير، تماماً كما يحدث في الكتاب.

لماذا اخترت أن تدور الأحداث في بريتوريا؟

– كانت تلك طريقة للتطهُّر من جزء من التربية التي نشأت عليها. ففي الستِّينات، والسبعينات، والثمانينات، لم تكن «بريتوريا» مكاناً رائعاً ينشأ فيه المرء، حتى بالمعايير الجنوب إفريقية. كانت هذه المدينة تشكِّل المركز العصبي لآلة الفصل العنصري بأكملها، وكانت هناك عقلية مسيحية محافظة، فضلاً عن عنف كامن، لا يمكن نسيانه.

هل آل (سوارت)، العائلة التي في «الوعد»، مستوحاة من عائلتك؟

– ليس على وجه التحديد، على الرغم من أن وجود حكايات طريفة مشتركة بين العائلتين، وهناك جانب يهودي لدى عائلتي، وجانب أفريكاني كالفيني. لا يمكننا، في واقع الأمر، أن نبدع شخصيات دون أن تكون مستوحاة من أحد الجوانب المكوِّنة لنا، فكلّ ذلك يمثِّل، نوعاً ما، انعكاساً لطبيعتي الخاصّة.

الرواية تمتاز بأسلوب سردي مميَّز. كيف أخذت هذا المنحى؟

– بدأت الكتابة، ولم أكن راضياً، ثم شاركت في كتابة سيناريو أحد الأفلام، ويبدو أن هذه التجربة كانت بمنزلة تكوين تلقَّيته، لأنني، عندما عدت إلى ما كتبته، بدا لي ساكناً جدّاً، واتَّخذت ممّا تعلَّمته وسيلة لإدخال بعض من المنطق السردي للسينما. وقد تغيَّرت شخصية الراوي، أيضاً؛ وهذا شيء آمل أن يدفع بالقارئ لأن يطرح السؤال المهمّ: من يحكي القصّة؟، وربَّما كانت أهمِّيّة هذا السؤال تكمن في طرحه لا غير.

ما الذي جعلك تتوجَّه إلى الكتابة؟

– يوجد في عائلتي ميول قويّ نحو المجال القانوني، وقد تعرَّضت لضغوط كثيرة لكي أسير في هذا الطريق، عندما كنت شابّاً، لكن الكتابة هي، تقريباً، النشاط الوحيد الذي ما أردت، يوماً، مزاولة غيره. لقد سبق لي أن أصبت بوَرَم الغدد الليمفاوية، عندما كنت صغيراً، وفي ذلك الوقت، كان الكثير من معارفنا يقرؤون لي، وتعلَّمت أن أربط الكتب والقصص بنوع معيَّن من الاهتمام والمواساة، وما زال بمقدور الكتب أن تسافر بي إلى أماكن أخرى، وهذه هي علّة وجودها، على ما أعتقد.

كيف تعاملت مع الانتظارات المتعلِّقة بالالتزام السياسي، والتي يجابَه بها -لا محالة- كلّ كاتب من جنوب إفريقيا؟

– لقد اتَّهمني منتقدو أعمالي الأولى بأنني ابن أسرة من الأسر المحظوظة التي توفَّرَ لأبنائها ترف تجاهُل الوضع في جنوب إفريقيا. وأتذكَّر أنني تأثَّرت كثيراً بهذه الملاحظة، لأنني، بطريقة ما، كنت أعرف أنها صحيحة. بالنسبة إليّ، لا تكمن جاذبية الخيال في كونه يفسِّر التاريخ، ويضيء جوانبه المظلمة فحسب، بل في قدرته، أيضاً، على أن يخبرك بما يشعر به الأفراد الذين يعيشون داخل هذا التاريخ؛ لذا فإنه لمن قبيل التحدّي أن تحاول توجيه العمل الروائي نحو الوجهة الصحيحة.

هل تتَّبع روتيناً صارماً في الكتابة؟

– أنا حالة ميئوس منها. أنا فوضى حقيقية؛ فلكي أبدأ بالكتابة، لا بدَّ لي من الوصول إلى المرحلة التي أصبح معها مهووساً بالقدر الكافي، إلى الدرجة التي تناديني معها الكتابة منذ ساعات الصباح الأولى، ولا تتركني أبداً. أتمكَّن، في نهاية المطاف، من الوصول إلى هذه الحالة، ولكن الأمر يستغرق وقتاً طويلاً، بعدها أخرج بمسَوَّدة أولى مليئة بالشوائب (أشعر أن لديَّ قطعة من الوحل، أحاول إعادة تجميعها). هنا، أفضِّل أن أفعل أيّ شيء ما عدا الكتابة، وهذا يجعلني في أتمّ الاستعداد للقيام بالأعمال المنزلية، مثلاً.

سمعت أنك تكتب بخطّ اليد.

– أنا مولع بالورق، ولديَّ قلم حبر خاصّ أشتغل به منذ أن كان عمري حوالي (20) عاماً. إنه قلم من نوع «باركر-Parker»، مصنوع من درق السلحفاة. ثم إنني حقّاً أحبّ هذه الدفاتر الحمراء المنتشرة كثيراً في الهند. لسبب أو لآخر، تثير مشاعري؛ لذلك أملؤها ببدايات عديمة الفائدة، في الغالب، ومن وقت إلى آخر، يحصل أن تتحوَّل إحدى هذه الأفكار إلى عمل إبداعي مكتمل، حيث أنجز منه مسوَّدتَيْن كاملتَيْن قبل نقله إلى الحاسوب.

ما هو الجانب الأكثر متعةً في الكتابة؟

– في بعض الأحيان، يبدو الأمر وكأنك تفتح باباً فتجد حكاية خلفه، إذا كان بمقدورك أن تتابعها جملة بجملة. ولكن، في معظم الأحيان، لا تظهر المتعة الحقيقية إلّا مع النهاية، عندما يجتمع لديك كلّ شيء، وتتبدّى لك الأمور بوضوح أكبر.

كيف أثَّر وصولك، مرَّتَيْن، إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر»، في حياتك المهنية؟

– لقد غير ذلك نظرتي إلى المستقبل حقّاً، وبطريقة لم تكن لتتأتّى مع أيّ شيء آخر، ومع ذلك، تُعَدّ الجوائز الأدبيّة، في نظري، إشكالية على أكثر من صعيد، فهناك حالة من الهياج الشديد حول هذه الجائزة، بالذات، إلى درجة أن المستفيد منها يكاد يشعر بالذنب. لا أستطيع تحمُّل الأحداث العامة الكبرى أو الاهتمام المبالغ فيه. وربَّما يكون هذان الترشيحان السابقان قد جعلاني أخسر بعض السنوات.

هل سيكون الأمر أسهل في المرّة الثالثة؟

– هكذا يكون اليانصيب، وأعتقد، مع ذلك، إذا اختارني اليانصيب مرّةً أخرى- أننا يمكن أن نصبح أكثر حساسيةً، وأقدَر على التفلسف بقليل. «البوكر» تفاجئك، في اللحظات الأخيرة، بخدعة غير لطيفة؛ فأنت تظلّ، طيلة بضع أسابيع، واحداً من الفائزين الستّة، ثم يتبخَّر كلّ هذا الاهتمام، وبشكل فجائي، فجائي جدّاً، لا يبقى هناك سوى فائز واحد، فقط، والآخرون كلُّهم خاسرون.

ما آخر كتاب قرأته؟

– «لينكولن في الباردو» لـ«جورج ساوندرز»، هو آخر كتاب نال إعجابي للغاية. إنه كتاب ملهَم بشكل غير عادي، وراديكالي. من يستطيع أن يأتي إبداعاً كهذا؟

ومَن الكتّاب الأحياء الذين تعجبك أعمالهم أكثر من سواهم؟

– قمت، ذات مرّة، بزيارة لمنزل «كورماك مكارثي» في مدينة «إل باسو». كان ذلك قبل إصدار روايته «كل الخيول الصغيرة الجميلة»، وكان حينها غير معروف إلى درجة أن السيِّدات المشتغلات في مكتبة «إل باسو» العامّة لم يكُنَّ تعرفن من هو. لم تكن لديَّ الشجاعة لأطرق بابه،  ثم دخلت في صراع مع نفسي، لكنني أنهيته بهذا السؤال: ما هي الذكرى التي أفضّل أن أحتفظ بها: صورتي وأنا جالس أمام منزل «كورماك مكارثي»، أم صورته وهو يطردني من باب المنزل؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: هيفزيبا أندرسون
العنوان الأصلي والمصدر:
Damon Galgut: “The Booker pulls a nasty little trick on you”
https://www.theguardian.com/books/2021/sep/04/damon-galgut-the-booker-pulls-a-nasty-little-trick-on-you

إدغار موران: ليس لدينا وعي تام بأننا نسير نحو الهاوية

إدغار موران، عَالِم اجتماع وفيلسوف ومدير أبحاث فخري في المركز الوطنيّ للبحث العلميّ (CNRS)، وهو كذلك مفكِّر إنسانيّ، وأحد أبرز منظِّري الفكر المُعقَّد. احتفل بعيد ميلاده الـ 100 يوم 8 يوليو/تموز الماضي. في المُقابلة التي أجراها مع «franceinfo»، تطرَّق إلى «دروس قرن من الحياة»، مستحضراً انضمامه إلى المُقاومة وهو في الـ 20 من عمره، عام 1941. لا يخفي إدغار موران قلقه من تنامي نزعات الأنانيّة والقوميّة والانغلاق. لكنه يظلّ متفائلاً، داعياً الشباب إلى «الوقوف إلى جانب كلِّ القوى الإيجابيّة ومحارَبة قوى الدمار».

إدغار موران، أنت عالِم اجتماع وفيلسوف. لكنك أيضاً مدير أبحاث فخري في (CNRS)، ومقاوم سابقاً. يمكن تقديمك بعِدّة طرق مختلفة. المُفكِّر والإنسانيّ هي المُصطلحات التي تناسبك أكثر؟

– لا أرغب في أن يتمَّ اختزالي في تعريفٍ واحد. لذلك، إذا وضعت خمسة أو ستة، فلا بأس بذلك!

على أي حال، بلغت المئة في الثامن من يوليو/ تموز الماضي. هل احتفلت بعيد ميلادك؟ خاصّة وقد تمَّ استقبالك في الإليزيه.

– نعم. كما أقيمت بالفعل مراسم في اليونسكو. وكان هناك احتفال في دار البلدية في باريس. لقد احتفلت بميلادي مع عائلتي وأطفالي، وسيكون هناك احتفال في «أفينيون». هناك سيل من الاحتفالات إلى حدٍّ ما، لكن هذا يحدث فقط كلّ مئة عام!

مئة عام هي على أي حال فرصة للتقييم بطريقةٍ ما. هذا ما قمت به في كتابك «دروس قرن من الحياة». هل هو سيرة ذاتية، أو مقال؟

– لا، ليست سيرة ذاتية. الكتاب فيه عناصر سيرة ذاتية لتنوير القارئ، حول الدروس التي تعلَّمتها في حياتي، في مجالاتٍ مختلفة. لنفترض أنها تجربة.

تجربتك في الحياة ثريّة لكنها بدأت بشكلٍ سيئ. حاولت والدتك إجهاضك. ثمَّ وُلدت والحبل السري حول رقبتك. وعانيت من صدمة وفاة والدتك عندما كنت في العاشرة. كلّ هذه الأحداث الصادمة هل جعلتك قويّاً لتعيش طويلاً؟

– ربّما هي المُقاومة التي منحتني إياها الحياة، عندما كنت جنيناً وأرادوا إجهاضي. قد يكون الأمر كذلك بعد وفاة والدتي، كنت أعاني من مرض غريب. مرّة أخرى تعرَّضت للمرض الشديد، وقاوم جسدي. ربّما كلها لعبت دوراً. ولكن أيضاً كنت الطفل الوحيد. تعرَّضت والدتي لمرض في القلب ولم تستطع إنجاب طفلٍ آخر. لذلك كانت هناك علاقة عشق متبادَلة ومتكامِلة.

هذا الهروب من ألمي جعلني أكتشف الواقع عبر الخيال. شاهدت أفلاماً عن حرب عام 1914 التي كشفت لي عن وجه الحروب. شاهدت أفلاماً عن المُجتمع. علَّمتني الروايات والسينما أكثر حتى من المدرسة.

لقد استخدمت كلمة «مقاومة». كان عمرك 21 عاماً عندما انضممت إلى المُقاومة… هل ترى بأنها فترة صعبة، وقد عايشت الحرب العالمية الثانية؟

– هناك حالة من عدم الاستقرار ليست هي نفسها على الإطلاق. لكنني أعتقد أن الشدائد أيضاً هي التي يجب أن تحفِّزنا. كانت المُقاومة في الأساس من الشباب: تراوحت أعمار قادتنا بين 24 و 28 سنة. كانت حركة عبَّر فيها الشباب عن تطلّعاتهم وتمرُّدهم. أعتقد أنه على الشباب التعبير عن تطلّعاتهم وثوراتهم في نفس الوقت، كما فعلنا. اليوم، الدافع مختلف. كنا ندافع عن الوطن، وحتى على نطاقٍ أوسع، كانت الإنسانيّة معرَّضة للخطر من قِبل القوى الاستبداديّة. لكن الكوكب اليوم مهدَّد. إنه ليس عالَم الحيوان والنبات فقط. نحن أنفسنا، مع التلوُّث، والزراعة الصناعيّة. لدينا ألف تهديد بالصراعات والتعصُّب والانغلاق على أنفسنا. هناك أسبابٌ وجيهة تماماً للشباب، الدفاع عن الأرض، الدفاع عن الإنسانيّة، الإنسانيّة جمعاء. هناك غريتا ثونبرج الصغيرة، وكذلك الشباب الآخرون الذين يشعرون بذلك. أعتقد أننا نحتاج دائماً إلى التعبئة من أجل شيء مشترك، من أجل مجتمع. لا يمكنك إثبات نفسك من خلال التقوقع في أنانيتك، في حياتك المهنية. يجب علينا أيضاً المُشاركة في الإنسانيّة وهذا أحد الأسباب، على ما أعتقد، الذي جعلني متأهباً حتى في عُمري هذا.

غالباً ما نقارن بين فرنسا اليوم وفرنسا في الثلاثينيات، مع ارتفاع منسوب العنف، والانغلاق على الذات. هل تجد هذا التشابه أيضاً؟

– إنه تشابه أرسمه على مستوى معيَّن. لقد كانت فترة المخاطر المُتزايدة التي عشناها تقريباً مثل السائر أثناء النوم، دون أن ندرك ذلك. لكن الخطر اليوم ليس هو نفسه على الإطلاق. في ذلك الوقت، كانت ألمانيا أسيرة هتلر ومفهوم التفوُّق الآري الذي خطّط للسيطرة على كامل أوروبا بمساحتها الحيويّة واستعباد العَالَم السلافي. كان التهديد من ألمانيا النازية هو الخطر الرئيسيّ. اليوم هناك المزيد من المخاطر. هناك الكثير. لديك خطرٌ نوويّ. لديك الخطر الاقتصاديّ، خطر السيطرة على المال في كلِّ مكان. لديكم أزماتُ الديموقراطيّة، كما كانت في ذلك الوقت، والتي هي اليوم بنفس الدرجة من الخطورة. إذن، هناك سمات متشابهة، لكن هناك أيضاً سمات مختلفة جدّاً. وفوق كلّ شيء، هناك غيابٌ للوعي الواضح عندما يسير المرءُ نحو الهاوية. ما أقوله ليس قدراً محتوماً. كثيراً ما أقتبس كلمات الشاعر هولدرلين الذي يقول: «حيث يوجد الخطر يوجد أيضاً ما ينقذك». لذلك، أعتقد أن الأمل لا يزال قائماً.

كتبت في إحدى مقالاتك الصحافيّة: «يجب أن نفهم أن أي شيء يحرِّرنا تقنياً ومادياً يمكن في نفس الوقت أن يستعبدنا». أنت تتحدَّث عن الأداة الأولى التي تحوَّلت إلى سلاح على الفور. أنت تتحدَّث عن مخاطر التكنولوجيا الحديثة، وخاصّة المُراقبة بالفيديو والخوارزميّات. هل هي مخاطر فورية؟

– إنها أحد المخاطر في هذا المُجتمع، دعونا نسمها الشموليّة الجديدة، التي يمكن أن تترسَّخَ. لكن يجب ألّا ننسى المُحيط الحيويّ الذي سيزيد كلّ هذا سوءاً إذا استمرّت أزمة المناخ. يجب ألّا ننسى أن التعصُّب منتشر في كلّ مكان. ما يذهلني كثيراً هو أننا في هذه اللحظة -والوباء دليل على ذلك- جميع البشر، مجتمع المصير، نعيش جميعاً نفس الشيء من نيوزيلندا إلى الصين وأوروبا. لقد عانينا من نفس المخاطر الجسديّة والشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

كيف جرَّبت، على المُستوى الفكريّ، الحَجْرَ الصّحيّ، أو هذه الفكرة لحبس الأفراد؟ هل ترون بأن الصحّة أهمّ من الاقتصاد؟ أم بالعكس كان الحَجْرُ على حساب الحرّيّات؟

– التعقيد هو أن ترى تناقض الأشياء. هناك رغبة واضحة في فرض سياسة صحيّة، لكنها ربّما لم تكن مناسبة تماماً للوضع. الحَجْرُ كانت له نتائج مفيدة لدى البعض، وكذلك المآسي عند البعض الآخر. إنه متناقض للغاية. لكني أعتقد أن هذا الفيروس لم يتم التفكير فيه جيّداً. ما زلنا في مغامرة غير معروفة وخطيرة وأعتقد أنه يجب إعادة التفكير سياسيًا وصحّيّاً بشكلٍ جذري اليوم.

الآن وقد بلغت المئة. من الواضح، في هذا العُمر، نفكِّر في النهاية. أكسل كان، الذي وافته المنية يوم الثلاثاء 6 يوليو/تموز، كان قد أرَّخ تقريباً لنهاية حياته. هل أعددت لذلك أيضاً؟

– هناك فرقٌ كبير مع أكسل كان، الذي كان يعلم أنه مصاب بسرطان قاتل. حتى الآن، ليس لديّ أي مشكل، ولا يمكن أن يكون لدي نفس موقف أكسل كان. مازلت أتمتع، على الأَقلّ من الناحية العقليّة، بقوى الحياة التي تمنحني الرغبات والمشاريع والملذَّات. بالطبع، أنا أعيش بطريقةٍ أكثر تقييداً بكثير ممّا كُنت عليه في الماضي. ضعف سمعي. عيني لا تقرأ الأشياء المجهرية بعد الآن. لم يعد بإمكاني الركض. لذا، أعرف أن الموت يمكن أن يأتي في أيِّ وقت، وأعلم أني قد أنام ذات ليلة ولا أستيقظ، لكن هذا قدر الإنسان.

ناضل أكسل كان كثيراً من أجل أن ينهي حياته بكرامة. هل المعركة تهمّك أيضاً؟

– إنني أتفهم جيّداً هذه الحاجة إلى تجنُّب المُعاناة الأكثر رعباً للأشخاص الذين يعيشون التجربة. لكن الأطباء يواجهون تناقضاً أخلاقيّاً. من ناحيةٍ، قَسَمُ أبقراط، الذي يأمرهم بإطالة العمر قدر الإمكان، ومن ناحيةٍ أخرى، جزءٌ من الإنسانيّة يقول لهم: دعونا نوقف معاناة هذا المسكين. أنا أؤيد وجهة النظر هذه، لكنني أعلم أن هناك حالاتٍ نادرة لأشخاصٍ في غيبوبة يئس الأطباء من علاجهم، لكنهم يستيقظون فجأة بعد بضع سنوات.

هل نحن بحاجة إلى تغيير قانون أخلاقيّات البيولوجيا؟

– يجب أن نفكِّر في تناقضات أخلاقيّات علم الأحياء. نحن نرى أن علم الوراثة يسمح بالتلاعب الذي يمكن أن يكون خطيراً، وفي نفس الوقت التدخلات التي يمكن أن تكون مفيدة للغاية. يجب أن نتذكَّر أننا في هذا المجال غالباً ما نتعامل مع واجبات متناقضة. لذلك، قبل كلّ شيء، يجب أن نضع قانوناً وفقاً لتعقيد الأشياء، وليس بطريقة مبسّطة.

دائماً هذا التناقض و«التفكير المُعقَّد». يمكننا أن نرى ذلك أيضاً في قضية ميلا المُتعلِّقة بحرّيّة التعبير هذه المرّة. أظن أنك مع الدفاع عن حرّيّة التعبير.

– إنها ليست اتفاقية، إنها قضية دائمة يجب الدفاع عنها!

لكن إلى أي مدى؟ هل يمكن لفتاة في المدرسة الثانوية إهانة دين عبر الإنترنت؟ ورداً على ذلك هل يمكن أن يدعو الناس لقتلها؟ هل كانت هناك عدالة في الحكم على المُتحرشين بالفتاة ميلا بالسجن 4 إلى 6 أشهر؟

– أعتقد أننا هنا أيضاً نتعامل مع تناقض أخلاقيّ. أنا أؤيد حرّيّة التعبير الكاملة، لكنني بالطبع أعتقد أيضاً أنه في التاريخ الشهير للرسوم الكاريكاتوريّة، فهي ليست قذرة في نظر الجهاديّين فحسب، بل يمكن أن تسيء إلى المُسلمين الأتقياء. لذلك لا أشجِّع على الرقابة، لكن من واجب الصحافيّين التحلّي بشعور التعقيد والمسؤوليّة. هذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار. الأمر متروك للصحافيّين لمعرفة متى يتجنَّبون موضوعاً مسيئاً. على سبيل المثال، لتجنُّب أي مقارنة مع المسائل الحالية، الإسلام أو المسيحيّة. عندما يذهب البيض في أميركا إلى الغابات المُقدَّسة للهنود، وهذه الغابات بالنسبة لهم أكثر من مقدَّسة لأنها مرقد أسلافهم، أعتقد أنه يجب علينا إدانة ما هو انتهاك لمُقدَّسات الهنود. من الضروري التفكير في كلِّ حالة، وليس الحصول على أفكارٍ مجرَّدة عامة.

ذكرنا أشياء كثيرة سوداويّة سواء في الحاضر أو الماضي. هل من إشارة أمل بمُناسبة عيد ميلادك المئة؟ هل ترى مستقبلاً مشرقاً محتملاً؟

– أولاً، أعلم أنه لا يوجد شيء غير قابل للإصلاح. لسوء الحظ، لا يمكن عكس الديموقراطيّة، لكن الديكتاتوريّة يمكن أن تكون عكس ذلك. عشنا أزمنة مظلمة مثل الاحتلال، حيث لم يكن هناك أملٌ لسنوات، حتى وصلت معجزة الدفاع عن موسكو ودخول الولايات المُتحدة للحرب. لذلك، فإنَّ ما هو غير محتمَل يحدث في التاريخ. تحدث أحداث سعيدة. أحياناً يكون لها معنى محدود فقط، لكنها تظلّ مهمَّة. خذ البابا فرانسيس، على سبيل المثال، إنه أول بابا منذ قرون يعود إلى مبادئ الإنجيل، وأصبح مدركاً للمخاطر التي تهدِّد الأرض والفقر والبؤس البشريّ. لم يكن متوقَّعا أن يخلف هذا البابا بابا آخر كان منغلقاً جدّاً ورجعياً للغاية.

في الأساس، هناك دائماً صراع بين ما يمكن أن نسمِّيه قوى الاتحاد والتجميع والصداقة، إيروس، والقوى المُضادة للدمار والموت، ثاناتوس. إنه الصراع الأزلي منذ نشأة الكون، حيث تلتقي الذرات، وحيث تدمِّر النجومُ بعضها البعض، وتبلعها الثقوب السوداء. هناك اتحاد وموت في كلِّ مكان. في الطبيعة المادية، وفي العَالَم البشريّ. أقول للناس وللشباب: اصطفوا إلى جانب قوى الخير، قوى الاتحاد والتجميع والمحبة، وناضلوا ضد كلّ قوى الدمار والكراهية والازدراء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: لورين سينشال

رابط مُختصر للمصدر:

https://bit.ly/3xYcSvo

واسيني الأعرج: «ليليّات رمادة» محاولة لتجاوز الواقع

هناك عقول تغرس نطفة الحياة في رحم الموت كي تتحدَّى الفناء، وتبارز الرحيل. هؤلاء هُم مَن يكتبون تراتيل النجاة بأحبار الأمل.. هكذا، اتَّكأت رواية «ليليّات رمادة»، للكاتب والروائي الجزائري الكبير «واسيني الأعرج»، على بريق أمل وسط ظلمة الواقع، حيث تُعَدّ الرواية من بواكير الأعمال الأدبية التي كُتبَت عن جائحة «كورونا»، وقد صدرت عن دار «الأداب» اللبنانية في يناير (2021)، وتُوَزَّع حالياً في الأسواق العربيّة، بجزأيها؛ «تراتيل ملائكة كوفيلاند»، و«رقصة شياطين كوفيلاند».

«ليليّات رمادة».. رواية لمن أراد التأمُّل في زمن الوباء، وأبى أن تنقضي التجربة دون بصمة وجدانية عميقة توثِّق رؤى البشرية فيما ألَمَّ بالأرض في صُحبة «طاعون» القرن الواحد والعشرين. يدور السؤال الأهمّ، في الرواية، حول كيفية القبض على الغاية من الحياة ذاتها، وإدراك كمّ المفارقات التي تمتلىء بها، وسط حالة من التأمُّل وإعادة قراءة العديد من التفاصيل والأمور، وفهم المسألة الوجودية ذاتها.. في هذا الحوار، يتحدَّث «واسيني الأعرج» عن كواليس كتابة الرواية، والأطوار التي مرَّت بها منذ بداية نشرها، افتراضياً، وحتى صدور نسختها الورقية، وكذلك الرسائل التي ساقها للقرّاء؛ وكيف يمكن للأمل أن يُزهِر بين الشقوق.

«ليليّات رمادة»، هي العمل الأدبي الأوَّل المستوحى من أزمة الجائحة، حيث تنتمي إلى ما يُعرف بـ«أدب الأزمات».. ما الكواليس التي أحاطت بميلاد الرواية؟ وفي رأيك، هل يجنح الأدب إلى ما يشبه محاولات التعافي، سواء بالتصالح مع الواقع أو رفضه؟

– كُتبَت هذه الرواية في ظرفٍ خاصّ، حيث راودتني الفكرة وأنا في حالة حَجْر؛ مثلي مثل ملايين من البشر المحاصرين في ظلّ الموجة الأولى من الجائحة. في بداية فترة الحَجْر، فكَّرت في إنهاء روايتي التي سبقت «ليليّات رمادة»، وكانت عن قصّة حبّ عاشتها شخصية تاريخية حقيقية تسمّى «حيزية» تحوَّلت، فيما بعد، إلى أسطورة غنّاها الفنّانون والكثير من الغنائيين بأشكال مختلفة. كنت قد بدأت، بالفعل، في كتابة الرواية، وجمعت عنها الكثير من الوثائق. لكنني، رغم اتِّساع الوقت مع ظروف الحَجْر، لم أستطع إكمالها.. فكرة «الموت» كانت تهيمن على عقلي، وتأسر كلّ حواسي. رحت أفكِّر في شيء أخر، بعد أن توقَّفت كلّ الممارسات الحياتية المعتادة. لا أعرف كيف جاءتني فكرة «ليليّات رمادة»، لكنها جاءتني كمن يختار رفيقه الأنسب في رحلة مجهولة. قلت لنفسي: «لماذا لا أكتب شيئاً عن هذه الأحاسيس المضطربة؟»، وبدأ يتشكَّل في رأسي الإطار العامّ للرواية. السؤال الذي داهمني: «ماذا يساوي الإنسان، الذي يعتبر نفسه قويّاً، أمام فيروس مجهريّ يدمِّر البشرية بمنتهي الأريحيّة؟». لأوَّل مرّة – على الأقلّ، في وعيي الشخصي- تتساوى البشرية، بشكل مطلق، أمام الآلام والموت والأحزان،وغيرها من المشاعر الصعبة.ولكن، تُرى هل نتعلَّم ممّا يحدث؟

بدأت بالبحث في الجائحات السابقة التي ضربت البشرية، على مرّ التاريخ، التي تفشَّت -تحديداً- في العالم العربي. كانت هناك جائحة الطاعون التي حلَّت ببلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب، وسُمِّيت بـ «عام الرمادة». من هنا، جاءتني فكرة تسمية الرواية بـ «ليليّات رمادة» واستيحاء اسم البطلة، كأحد أشكال الإحالة إلى الجائحة. وبدأت في نشر فصول الرواية عبر صفحتي على (فيسبوك)، حيث وجدت تفاعلاً، لم أكن أتصوَّره، من القرّاء، وكأننا نبحث معاً عن صيغة مشتركة للبوح ذاته؛ فالأدب يُعَدّ أحد الأدوات شديدة الحساسية للتعاطي مع الواقع، هو بمنزلة خيار داخلي مرتبط بحالة وجدانية تفرض نفسها، بقوّة، على المبدع.. ومع بداية الجائحة، خالجتني مشاعر، كان عليّ أن أواجهها، وأن يكون لي رأي بها، بنبش الواقع الجاثي على صدورنا. لقد اكتسبت الجائحة طابع العموم الذي يمسّ كلّ الناس، ويدفع الجميع للتفكير في كيفية المقاومة عبر وسائطه الخاصّة. في مثل هذه اللحظة، وجدت العالم من حولي وكأنه قد انتقل إلى داخلي، وأصبح جزءاً مني، أكتب من معينه، لا عنه. أكتب عن عالم يسكنني، لا عن عالم أراقبه. راودتني، أيضاً، فكرة «الشراكة» مع القرّاء، والسكينة التي يمكن أن يولِّدها وجودنا المشترك داخل خندق شعوري واحد. والواقع أن «ليليّات رمادة» لم تكن تجربة روائية تحمل الكثير من الخصوصية، بالنسبة إليَّ، بقدر ما اعتبرتها تجربة في «تَعلُّم الحياة» من جديد، كطفل يحبو على قارعة الطريق الطويل، حيث أفقدتنا الجائحة كلّ مبادرة.

قُمت بنشر الرواية في نسخة افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم جرت طباعتها في نسختها الورقية في يناير، هذا العام.. هل كان صدور النسخة الورقية قراراً لم يكن في الحسبان؛ نظراً لظروف الجائحة؟

– هناك لحظتان في هذه الرواية؛ اللحظة الأولى عندما قرَّرت نشرها، افتراضياً، على (فيسبوك)، في حلقات استمرَّت قرابة أربعة أشهر، وهو قرار به الكثير من المغامرة، لكنه حمل، أيضاً، الكثير من الصدق، لأنه وثَّق مشاعر حقيقية عن أزمة واقعية لاافتراضية، تحصد الأرواح وتنفث الموت في وجه الآلاف، يوميّاً. كان من الصعب التفكير في شيء آخر سوى الموت، و-من ثَمَّ- كانت الوسيلة الأقرب والأسرع للتواصل مع القرّاء عبر النشر الإلكتروني. ردّ الفعل القويّ للقرّاء، والسجال اليومي الذي أحدثته الفصول الأولى للرواية، دفعاني إلى مواصلة النشر. كنت بصدد كتابة فصول الرواية، ونشرها في الوقت نفسه؛ لذلك لم أكن أعلم إلى أيّ شيء يمكن أن ينتهي إليه النصّ أو حتى تفاصيل الأحداث والوقائع. كان الإطار العامّ للرواية حاضراً في ذهني، أنسج داخله ما يتولَّد في عقلي لحظة بلحظة، وأضعه بين يديّ القرّاء..حاولت أن ألتزم بهذا الإطار، لكنه كثيراً ما كان ينكسر بسبب ديناميكية السرد التي تفرض، أحياناً، نمطاً آخر وأحداثاً أخرى. الرواية، كانت أشبه بـ «لحظة توالد فكري» يصعب محاصرتها، لأن الجمهور شاركني ميلاد الأحداث، أوَّلاً بأوَّل.

أمّا اللحظة الثانية؛ فجاءت بعد أن صارت الرواية واقعاً رقمياً، لكنه غير ملموس، حيث اعتبرت النشر الإلكتروني بمقام الصورة الأوَّليّة للرواية، والتي توجب عليَّ الانتقال منها إلى المرحلة الثانية؛ وهي التفكير في إصدار نسخة ورقية، لأن الذي يبقى، في النهاية، هو «الورق». بدأت أدقّق العمل، وأعيد قراءته وترتيب أحداثه، حيث استغرق ذلك قرابة ثمانية أشهر.. إذن، نحن بين أولويَّتَيْن؛ أهمِّيّة النصّ الورقي بوصفه «ضرورة» حضارية وثقافية، لكي يتمّ تداول الكتاب، ويدخل البيوت، ويصبح بين الأيدي، وأهمِّيّة اللقاء السريع مع الجماهير، من خلال نصّ روائي سَرَّع وتيرتَه الخوفُ من الموت، وثقل الجائحة في ذلك الوقت؛ لذلك تأتيني اللحظة التي أقول فيها بقناعة : «شكراً للجائحة، لأنها منحتنا الفرصة كي نكتب في مرحلة أولى، برغبة إنجاز نصّ يُحرِّرنا من الخوف داخليّاً، ويحاول، في الوقت نفسه، أن يؤرِّخ لهذه اللحظة التاريخية في نفوس البشر».

«ليليّات رمادة»، رواية تفاعلية، كان للقرّاء دور في نسج أحداثها ونسيجها الدرامي؛ نظراً لمشاركتك أجزاءها عبر «فيسبوك» خلال الأشهر الأولى من الجائحة.. ترى، ما هو الخطّ الفاصل بين ما يولد في عقل الكاتب، وما ينتظره القرّاء ويعبِّرون عنه، مسبقاً، في تعليقاتهم؟

– عندما قرَّرت أن أشرك القرّاء معي في أجزاء الرواية، أخذت أنشر فصلَيْن من الرواية، يومَيّ الخميس والأحد من كلّ أسبوع، على صفحتي على (فيسبوك). ومع نشر الفصل الأوَّل ومشاركته مع القرّاء، وجدت في المساء تفاعلاً لم أتصوَّره. رَّدة الفعل هذه أعطتني إحساساً بأنني لست الوحيد؛ وهو ما فتَّت داخلي مشاعر الوحدة. لم تكن فصول الرواية منجَزة بعد، فقد كان زمن كتابتها هو زمن نشرها؛ الأمر الذي كان يشبة «اللعبة». لكنها «لعبة جادّة»، وليست سهلة، بها كثير من الالتزام الأخلاقي تجاة القرّاء، ومزيد من الإثارة في أثناء ممارسة الكتابة تحت الضغط. نصحني بعض الأصدقاء والروائيِّين بألّا أضحّي بالرواية بنشرها على (فيسبوك)، لكنني كنت بحاجة ماسّة إلى هذه الشراكة الشعورية؛ بحاجة إلى أن أسمع أراءهم، وأشعر بأن هذا المرض غير موجود، وبأننا نتكلَّم على شيء وُلِد في الماضي، وبأننا في لحظة سلام آنيّة.

بدأت أفكّر في أن يتحوَّل الأمر إلى ورشة كتابة، حيث سبق لي أن دشَّنت العديد من ورش الكتابة في العالم العربي. وبالفعل، استمرَّت هذه الورشة طوال فترة نشري لأجزاء الرواية. والواقع أنها كانت واحدة من أفضل الورشات التي دشَّنتها، لأنها شملت الآلاف من الناس بدون قيد أو شرط، حيث وضعت على عاتقي التزاماً بأن أردّ على كافّة التعليقات، دون استثناء. وعندما اقتربت من نهاية الرواية، طلبت من الجمهور أن يشترك معي فيها، حيث أنجزت، أنا -أيضاً- نهايتي، لكنني لم أنشرها. أخذت أتجوَّل بين الألوان والتشكيلات التي أتى بها القرّاء كاقتراحات لنهاية الرواية. والواقع أنها كانت تجربة كتابية من أجمل ما يكون. طبعاً، تقاطعت نهايتي مع بعض النهايات، لأن مسار الرواية هو الذي حدَّد، بالنسبة إليَّ، هذه النهاية؛ فأنا صاحب النصّ وهذا خياري، لكنني أشركت معي القرّاء في التعبير عن وجهات النظر. وكلَّما كانت تصلني «نهاية» مقترحة، أضعها على صفحتي، ونتناقش حولها، حتى تحوَّلت المسألة إلى «ديناميكية» سردية. والواقع أننا صنعنا، خلال هذه القراءات الأسبوعية، عالماً من المودّة والمحبّة والتجاوز للواقع، وهو الشيء الذي بحثت عنه، بالأساس، من وراء النشر الافتراضي.

طرحت الرواية تساؤلاً حول وضعية المبدع داخل دائرة الأحداث الآنيّة، والأزمات على أرض الواقع، وإذا ما كان عليه أن يكتب بعين المعايشة اللحظية، أم ينتظر ليأخذ مسافته من الأحداث لفهم الملابسات؛ فهل تراود المبدع فكرة إعادة ما كتبه بغرض الإضافة أو الحذف، في ظلّ حدث معيش، لا تتوقَّف تطوُّراته بين عشيَّة وضحاها؟

– المبدع هو العين الكاشفة، التي تتجلّى تحت وهجها الحقائق، ولا تتقيد بزمن مثالي لالتقاط هذه الحقائق. كما أنه لا ينبغي الجمع بين الكتابة الآنيّة والكتابة بعد أخد مسافة من الحدث؛ فهناك من يكتب مع اللحظة المعيشة رغم تحوُّلها الزمني، وهناك من يأخذ مسافته لفهم الصراعات والتفاصيل؛ وهما مستويان مختلفان من الكتابة، خاصّةً أن النظام التاريخي له منطقه وفلسفته بما لا يتعارض مع المساحة الإبداعية الخاصّة بكلّ مبدع، لأن المبدع هو سيِّد هذه المساحة، لا الحدث أو الزمن. فها هي الجائحة شكَّلت لحظة مشتركة بين الجميع، ولكن كلّ منّا يعيش مساحته من الخوف والقلق، وما دون ذلك من مشاعر، على طريقته.

لا تتعجَّبي إذا ما قلت لكِ إن المبدع إذا أعاد قراءة نصوصه، بعد كتابتها، فسيشعر أنه بحاجة إلى إعادة صياغتها من جديد، خاصّة أن ظاهرة «الإغواء» كثيراً ما تلازم المبدعين، وتجعلهم يتدلّون بطرف فكرة جديدة أو زاوية جديدة أو معالجة مثيرة، وهو أمر يفرض عليهم الكثير من عمليّات التنقيح والتطوير للنصّ المكتوب، ولكن هذا نعتبره، في الأدب، أثراً جانبيّاً لفعل الكتابة لا تأكيداً على وجود رغبة حقيقية في إعادة كتابة النصّ أو تعديله.. إنه فعل «الإغواء» الأدبي، فحسب.

مع «ليليّات رمادة»، حوّلت مشاعري وأحاسيسي الشخصية بالخطر إلى حالة قابلة للتفاوض الشعوري، خاصّة أن الكتابة مسؤولية فردية، وجماعية، أيضاً، تجاه المجتمع. كلتا المسؤوليتَيْن تحتِّمان على معشر الكُتّاب القيام بعمل بحثي عميق. ففي النهاية، سيختفي الوباء، ويظهر غيره بعد عقود، ولكن لابدّ، هنا، من رصد الأوبئة المجتمعية اللصيقة بالأزمة. مثل هذه الثنائية بين الحقيقة وما وراءها، تخلق مساحة من التوازن في النصّ الإبداعي، بصرف النظر عن عنصر الزمن.

لقد كانت لك عبارة نافذة تقول: «الفيروسات رحيمة، والأوبئة فرصة لتأمُّل الذات والحياة».. كيف كانت تجربتك الشخصية في ظلّ الوباء؟ وهل كانت «ليليّات رمادة» جولة تأمُّلية شخصية لـ «واسيني الأعرج»؟

– الوباء، بالفعل، منحنا فرصة لتأمُّل الذات؛ ففي الأوضاع الخطيرة جدّاً، يواجه الإنسان المصائر القدرية الكبرى التي تتجاوز إرادته.. ومهما كانت إرادته الشخصية، فهو إمّا أن يسقط في حالة هيستريا غير مسبوقة، أو حالة «رُهاب» كلِّيّة، وإمّا أن يتعامل مع الأزمة بشيء من التعقُّل، مؤمناً، من داخله، بأن المسألة الوجودية لا يتحكَّم هو فيها، وأن الموت والحياة أكبر منه.. فالحياة حالة مؤقَّتة، وليست دائمة، وعلينا أن نملأ هذا الفراغ الزمني المتاح لنا بقوّة وجمال وكثافة أيضاً. بالنسبة إلى تجربتي الشخصية مع الجائحة، هي لا تختلف كثيراً عمّا عاشه الجميع.. كنت أخضع لقوانين العزل والحَجْر الصحّي، والتزمت بالبيت كالملايين. ولكن، في الوقت نفسه، كان الأمر قاسياً بالنسبة إلى شخص مثلي اعتاد السفر الدائم، فكنت أسافر، تقريباً، بشكل أسبوعي، لإلقاء المحاضرات، وكانت تنقُّلاتي كثيرة جدّاً، لكنّ «كوفيد» وقيوده كسَرا الكثير من عاداتي الحياتية، غير أنه يوجد، دائماً، ما يُعرف بـ «الحلول القصوى». فكَّرت أن أكتب يوميّاتي، لكني وجدت أنني، في اليومية الثانية أو الثالثة، على الأكثر، سأكرِّر ما كتبته. فالجميع عايش الحياة، خلال هذه الفترة، مثل «يوم طويل» لا ينتهي؛ من هنا شعرت أنه لا جدوى من كتابة اليوميّات. قرَّرت أن أختبر شيئاُ آخر، فبدأت أخطِّط لرواية «ليليّات رمادة».. واكتشفت أنه، في كنف العزلة، تتوهَّج الكثير من الحقائق، فالحديث، مع الأخرين، حول الأزمات والانشغالات المشتركة يمنحنا الفرصة لفهم ذواتنا والقدرة على الاستمرار. والواقع أن ما نكتبه، أحياناً، في الحالات السلميّة، يمكن إنجازه، في الظروف الاضطرارية، في وقت أقلّ بكثير.. ووفقاً لهذا المرتكز، تحوَّلت الرواية إلى محاورة موسَّعة وكثيفة.

«ليليّات رمادة».. هي تعشيق بين أدب الرسائل والسرد القصصي.. الرسائل الثلاثون، كانت بمقام استهلال روحي، تصوغه البطلة في كلّ نوبة بوح، وكأنها تدثِّر، بذلك البوح، غياب المرسَل إليه.. من أين جاءتك فكرة هذا الدمج الأدبي؟

– فكرة الرسائل ودخولها في البناء السردي للرواية، ليست أمراً جديداً بالنسبة إليَّ، وإنما ممارسة تقليدية في أغلب ما كتبت من روايات؛ وذلك من باب قناعتي بأن «الرسالة» هي لحظة تعبيرية صادقة؛ بمعنى أن المنتظَر من وراء هذه الرسالة الموجودة داخل النصّ الروائي، هو التعبير عن لحظة وجدانية إنسانية في مواجهة مخاطر الموت التي كانت متسيّدة (وما تزال) بسبب الجائحة، حيث تأتي الرسالة بغرض كسر النمطية السردية، التي كثيراً ما تكون جافّة، وهي -في الوقت نفسه- كاشفة عن أعماق الإنسان وما يعتمل في داخله. هذه التوليفة مهمّة جداً، بالنسبة إليّ، في هذه الرواية، تحديداً. كما أن الرسالة تتوازى مع مكوّن أخر لا يقلّ أهمِّيّةً في الرواية، هو الموسيقى الكلاسيكية، ومقطوعات تُسمّى، باللّغة الفرنسية، «ليليّات». «الليليّات»، هي مقطوعات للموسيقي الفرنسي الشهير «فريدريك شوبان»، تحتوي على ثلاث حركات موسيقية داخلية؛ الحركة الأولى «خفيفة» تمثِّل المقدِّمة، والحركة الثانية «قويّة» تمثِّل الذروة والصعود الشعوري. أمّا الحركة الثالثة فتمثِّل الهبوط والسكينة. وجدت، في مثل هذه الحركات الموسيقية الثلاث علاقة متماهية مع حركة الزمن داخل نسيج الرواية؛ حيث الزمن الافتتاحي الذي يمثِّل خلفية الأحداث، ثم زمن الخوف والعنف ورفض الواقع، ثم زمن السكينة والاستسلام للأمر الواقع، وعدم طرح مزيد من الأسئلة.

كان «رهاني»، في الرواية، أن تصبح هذه الليليّات «متعابدة» بين اللحظة السردية واللحظة الرسالية الغنائية، فالموسيقى هي المعبر الذي نصل معه إلى هدأة الروح والسكينة. كذلك كانت بطلة الرواية، «امرأة» عانت قسوة الأب وظلم الزوج وجفوة الحياة، لكنها -مع ذلك- تشبَّثت بـ «نبتة» الحبّ، ورفضت الاستسلام للموت. كلّ هذه العناصر، التي تضافرت في نسيج الرواية، جسَّدت أبواباً وفجوات لغرس الأمل داخل كتلة سردية تعجّ بالموت والخوف؛ من هنا لم تكن البطلة تستعيد أنفاسها، وتأخذ فسحة من ضغوطات الواقع إلّا عندما تستمع إلى الليليّات، فتعطيها فرصة للخروج من الضائقة اليوميّة وقهر مشاعر الفقد والبعد والاشتياق والحنين.. هذه العناصر -مُجتمِعةً- تكاتفت، لتجعل النصّ الروائي نصّاً ثلاثيّ الأبعاد، من حيث البنية اللّغوية، والتكوينية. ومثل هذه الخيارات الرسالية والموسيقية، لم تكن عبثية، بل صمَّمتها برغبة أكيدة لتقزيم مشاعرنا السلبية، قدرَ المستطاع.

«رمادة».. «راما».. «أفين». لكلّ اسم دلالته، وهو مُتَكأ في ماضي بطلتك، وحاضرها، ومستقبلها.. كلّ اسم، على حدة، يُفجِّر قصّة مختلفة ومعاني راسخة في ذاكرة الطفولة المكبَّلة والحبّ الذي أبى البقاء، والأمنيّات التي ظلَّت في قواريرها بانتظار انفراجة.. الأسماء الثلاثة عكست ظلالاً نفسية، وانطباعية متباينة للبطلة.. هل كان هناك ترميز أدبي مقصود خلف الأسماء الثلاثة؟

– بالطبع، كان هناك رمزية مُسبَّبة خلف الأسماء الثلاثة، يمكن اختبارها من خلال مجريات النصّ: «رمادة»، هو الاسم الى الذي اختاره لها والدها، حيث كان ينتمي، في مرحلة مبكّرة من حياته، للتيّارت الإسلاموية، إذ تعاملت هذه التيّارات مع كلّ الرموز التاريخية، وأعادت بعثها في الحياة العامّة؛ سواء مع أسماء الشوارع والأسواق والمحلّات، وكذلك أسماء الأشخاص.. كانوا يستخدمون كلّ ما يحيل إلى العنصر الديني في سبيل مكافحة ما سمّوه بـ «التغريب».. من هنا، اختار الأب لابنته اسم «رمادة» تبرُّكاً بعام «الرمادة» الذي جاء في عهد سيِّدنا عمر بن الخطاب، لكنه كان عام الأوبئة، حيث انتشر الطاعون، وحصد آلاف الأرواح، وعندما وضعت زوجته فتاةً، لا صبيّاً، سمّاها باسم هذا العام «الرمادي» القاحل. والواقع أنه لم يكرمها بهذا الاسم، بل دمَّرها؛ لرمزيَّته السلبية.

على النقيض، تماماً، كان اسم «أفين» الذي اختارته لها والدتها، وهو يعني، في اللّغة التركية، «الربيع والجمال»، حيث كانت الأمّ مرتبطة بالثّقافة التركية لأصول أجدادها التركية. كما أن الحبّ الأوَّل في حياتها كان لشابّ تركيّ، لكن علاقتهما لم تتطوَّر بصورة حاسمة، ثم تزوَّجت «والد رمادة» الذي لم تكن تحبّه بالدرجة الكافية. جاء اختيار الأمّ اسم «أفين» كدليل على المقاومة الأنثوية في وجهة الغطرسة الذكورية، وتعبيراً عن رفضها اسم «رمادة» الذي فرضه عليها زوجها فرضاً، دون مناقشة.

أمّا «راما»، فهو -في الحقيقة- تصغير اسم «رمادة» كما أن إيقاعه أكثر سلاسة وموسيقية، وكان اسم التدليل الذي اعتاد حبيبها «شادي» مناداتها به، وكذلك أخوها الذي كان يحبُّها حبّاً جماً. الاسم يشبه، أيضاً، في إيقاعه الصوتي كلمة «رحمة»، وهي -بالفعل- كانت شخصية رحيمة، ودودة، ومحبّة للآخرين. إذاً، نجد أن بطلة الرواية قد جمعت بين الاسم المرفوض «رمادة» والاسم المحبَّب «أفين»، واسم التدليل المختزل الذي يحيل إلى الرحمة، وهي -بالفعل- الصورة الثلاثية المتكاملة التي تعطينا جوهر شخصية البطلة، فهي متقاطبة بين حالة الرماد التي كانت تعيشها، يوميّاً، في بلد يواجه الموت والوباء، لكنها -في الوقت نفسه- حالمة بالحبّ، متشبّثة به كرشفة النجاة الأخيرة، ثم إن كلّ ما فيها هو «رحمة»، فهي محبّة للناس ومتسامحة، حتى مع زوجها أبيها التي ألحقت الضرر البالغ بالعائلة.

(رسائل رمادة)، كانت أشبه بخيط حريري شفّاف يتراكم عليه رماد الواقع وعوادم الصراعات الكائنة في ظلّ الأزمة، داخل أحداث الرواية.. لماذا اخترت «الحبّ» مسرحاً يدور، على خشبته، هذا الزخم من الصراعات؟ هل أردت إعطاء مسكِّن للألام يمنح القارىء القدرة على استقبال الفواجع؟ وكيف للحبّ أن يهزم مشاعر الفقد والرهبة، من وجهة نظرك الأدبية، والإنسانية ؟

– «الحبّ»، «الرسائل»، «الموسيقى».. هي الأعمدة الثلاثة التي تأسَّس عليها بنيان الرواية، حيث إن ديناميكية الكتابة وصيرورة النصّ، أحياناً، تفرضان على الكاتب أشكالاً معيَّنة، وهي -بالطبع- جزء من الفعل الكتابي، لأن «رمادة»، عندما كتبت رسائلها، كانت تنطلق من معطيات، مخطَّط لها سلفاً.. نجد -مثلاً- أن الرسائل شكَّلت جزءاً مهمّاً من البنية العامّة للنصّ، فهي بمنزلة «أيقونة تواصُل» بين «رمادة» وحبيبها «شادي» الموجود خارج البلاد، في حالة مرضية قاسية. ففي اللحظة التي انفتحت الأبواب أمام هذا الحبّ المعلَّق، انغلقت، في اللحظة ذاتها، بفعل الوباء؛ لهذا لم يكن هذا الحبّ مجرَّد «لحظة عابرة» في حياة رمادة، إنما كان «حقيقة و«لحظة حياتية» اختبرها عامل الوقت والظروف القاسية؛ لذلك كان من الصعب لهذا الحبّ أن ينطفئ. لقد جسَّدت هذه الرسائل طرف الأمل الذي تشبَّثت به البطلة، حتى وإن لم تتلقَّ ردوداً على مكنوناتها المفرَّغة عبر السطور.

في رأيي، لقد خسر الإنسان الكثير عندما تراجع هذا اللون من التواصل الخطّي بين البشر؛ ذلك حاولت أن أعيد إحياء هذا الشكل من التواصل في كثير من رواياتي. ولكن، في «ليليّات رمادة»، اكتسبت «الرسائل» زخماً شعورياً أكثر تكثيفاً، لكونها حافظت على جذوة العاطفة متَّقدة بين البطلَيْن الرئيسيَّيْن، ولعبت دوراً روائياً ليس ثانوياً، بل جوهرياً. وعندما انتقيت «الرسائل» لتصبح خلفية أدبية، واستهلالاً مشحوناً لبداية كلّ فصل من فصول الرواية، كنت أعرف أن هذا العنصر سيكون مهمّاً في بناء الرواية، وسيخلق التعبئة النفسية، والشعورية المرجوّة لدى القرّاء؛ من هنا، عبَّرت بداية كلّ رسالة عن أمل وليد يفتح ذراعيه لاحتضان الحياة من جديد، ليقول للبشرية العالقة بين الموت والحياة: «يجب ألّا نعيش موتى قبل الموت».

مجرَّد مواصلة البطلة فعلَ الكتابة (رغم كلّ الصعاب التي تعترضها)، وإنصاتها لأنينها الداخلي، أعطى الرواية روحاً داخلية تتعلَّق بالحبّ، لتجعل منه «رشفة النجاة» المنتظَرة.. صحيح أننا لا نستطيع أن نخوض حروب القسوة والظلم بالحبّ، فقط، لكن إذا خسر الإنسان هذه القيمة الشعورية المتعاظمة، فسيصبح حيواناً شرساً، لا لجام له. وليس هناك قوّة تهذِّبه إلّا ما يحيكه من قِيَم ثقافية وحضارية. لذلك، أقول أن الحبّ لا يتنَزَّل كـ «الوحي»، إنما يُربّى داخل الإنسان، لكونه استعداداً فطريّاً يحتاج إلى رعاية، وفي الوقت نفسه، الحبّ هو الذي يقودنا إلى التضحية والتسامح والاعتراف بالآخر، ولا يمكن اختزاله في الجانب العاطفي البسيط بين الرجل والمراة، بل يتعدّاه إلى الجوهر الوجودي للإنسان، فلا وجود للإنسانية دون حبّ. كلمات الحبّ، يمكنها أن تعيد اتِّقاد الحياة من جديد؛ لذا لم يكن «الحبّ» مجرَّد مكمِّلات روائية، بل جوهر الرواية ذاتها.

«رمادة».. هي صوت البوح الذي يجترّ ذكريات الماضي، ويناجي الأمل الوليد في عتمة المستقبل المجهول.. أهي رمز تتوحَّد معه البشرية قاطبةً، في زمن «الانكفاء» كما سمَّيْته في روايتك؟

– شخصية «رمادة» لها امتدادات رمزية عديدة، لكنها -مبدئيّاً- شخصية أدبية، بُنِيَ النصّ حولها لتصوير حالة مجتمعية شديدة القسوة. لقد كانت مركزاً لشبكة العلاقات الموجودة داخل الرواية، بأكملها؛ ما أعطاها حظوة التسيُّد في نصّ الرواية. لم تكن الرواية تتحدَّث عن المرض والوباء المستشري، فحسب، بل رصدت الأوبئة الاجتماعية التي تنتعش، أيضاً، في ظلّ هذه الأزمات. صحيح أن شخصية «رمادة» عبَّرت عن اللحظة الشخصية الواقعية، لكن يوجد، أيضاً، في الخلفية الكبرى للأحداث، أوبئة اجتماعية لا تقلّ ضراوةً عن الجائحة؛ من هنا، أصبحت «رمادة» أداةً للتعبير عن لحظة جماعية، فكانت تعيش وسط ألوان شتّى من الأمراض الاجتماعية، حيث تدنَّت قيمة الإنسان تحت وطأة الوباء في المجتمعات الفقيرة والمنهكة، ومن هنا كان هناك دلالة سردية تجسِّدها شخصية «البطلة» من خلال التعبير الأدبي، والفنّي عن مشكلات اجتماعية نعيشها، بالفعل.

يمكن، أيضاً، فهم مدلول الشخصية من خلال الترميز، إذ تتحوَّل «رمادة» إلى أداة للكشف عن هذه الآفات الاجتماعية. فكانت مثل «النصل» الذي ينبش الواقع، ويَّتكىء عليه القارىء لتتبُّع المنحنى المجتمعي المتهاوي تحت وطأة الأزمة. كذلك لم تكن «رمادة» شخصية فاضحة لآليّة هذه الآفات، بقدر ما كانت شخصية تستبطن الأمل؛ فعلى الرغم من كلّ الويلات التي ألمَّت بها، كانت تذهب إلى عملها، وتُحاضِر طُلّابها، وتُطالِع اللوحات الفنِّيّة وتتذوَّق الجمال حولها مهما بلغ تواضعه. هذا العالم الروائي الترميزي، كان يكرِّس لمزيد من القوّة في طعن الواقع، ومبارزته بسيف الإرادة والأمل لا الاستسلام والانكسار.

كان هناك ربط شعورىّ بين «ليليّات رمادة» و«ليليّات شوبان» وكأنه الإيقاع الخفي الذي تهتدي به البطلة إلى الحياة والحبّ والنجاة.. تلك الخلفية الموسيقية للرسائل، خلقت تعبئة شعورية لدى القرّاء.. من أين جاءك هذا الربط؟

– شكَّلت الليليّات لحظة فارقة في الرواية كـ «بنية» و«مدلول».. أشرح كثيراً لأصدقائي من أين جاءت ترجمة كلمة «ليليّات» لا «ليالي»: الليليّات، هي الأمسيّات الموسيقية التي تتضمَّن مقطوعات موسيقية قصيرة تتناغم مع البناء الهرمي للموسيقى، متضمِّنة ثلاث فواصل موسيقية، تجمعها هرمونيا واحدة.. وعلى الرغم من قصر هذه المقطوعات، هي قويّة من ناحية البناء، ومن لديه ثقافة موسيقية، ولو خفيفة، يستطيع معرفة ذلك.. لقد قمت باختيارها، لكونها تناسب البعد الدرامي للرواية وللشخصيات، ولأنها، أيضاً، مقطوعات تضفي السكينة، وتنفذ إلى الأعماق. وما إن تنتهي، حتى تدفع المستمع إلى لحظات تأمُّلية عميقة، وكأنها تفتح شهيّة الروح. والواقع أننا وسط مشاعر الحزن والخوف والانكسار التي احاطتنا بها الجائحة، نحتاج إلى سند روحي يمكننا الاتِّكاء عليه، لكي يستقيم الوضع، ولو قليلاً، ولهذا جاءت هذه المقطوعات الموسيقية متناغمة، تماماً، مع رسائل البطلة وكأنها «تتمّة» لهذه اللحظة التي ترتفع بها عالياً، وتهبط بها ما بين قطبَيّ اليأس والتفاؤل، لتولد، بين قطبَيّ التساؤل، تلك الأسئلة التعجيزية : ما قيمة الوجود؟ ماذا يساوي الإنسان الذي نصَّب نفسه الأقوى؟ فعلى الرغم من امتلاك الإنسان لكلّ وسائل التدمير التي دمَّر بها الطبيعة، إلا أنه عجز عن تدمير هذا الكائن المجهريّ الضئيل.. حتى ظهور مثل هذه الفيروسات والأوبئة ناجم عن تلاعب الإنسان بالطبيعة، وإخلاله بنظامها. لو تصوَّرنا، ونحن نتابع أنباء الصاروخ الصيني الشارد، أن هذا الصاروخ نوويّ، وربَّما سقط على الأرض في أيّة لحظة، فأيّة كارثة يمكن أن تلحق بالبشر وقتها؟.. إذاً، تصنع البشرية، أحياناً، أشياء خارج نطاق السيطرة، ومن بين هذه الأشياء «الفيروسات»؛ إمّا عن طريق مباشر أو عن طريق غير مباشر..

وسط هذا الصخب الطاعن، جاءت «الليليّات» في بداية كلّ فصل، كـ «مستراح» لالتقاط الأنفاس، حتى نستطيع رؤية العالم بصورة أقلّ بؤساً ممّا هو عليه، إذ جسَّدت المقطوعات الموسيقية- داخل البناء الروائي- سنداً عميقاً لاستعادة إنسانية الإنسان التي تغيب داخل الرواية، باستثناء أبطالها الإيجابيّين. فالرواية تريد أن تقول، من خلال بنيتها اللّغوية، واستخدام الوسائط الايجابية المختلفة؛ مثل الرسائل والموسيقى، أنه ما يزال في الإنسان قوّة جميلة يمكنه الاتِّكاء عليها؛ كي لا يفقد الأمل في النجاة.

– نهاية الرواية جاءت صادمة لبعض القرّاء.. لأيّ شيء انتصرت هذه النهاية؛ لـ«مَنطَقة الواقع» أم لـ«ضبابية المستقبل»، أم لـ «جمود الحاضر» الذي لا يمنحنا ما نريد في الوقت الصحيح..؟!

ربَّما كانت النهاية صادمة للأغلبية؛ لكونها مغايرة لإيقاع الأحداث، وسيمترية السرد في الرواية، حيث تفقد «رمادة» جنينها الذي جسَّد رمزية الأمل طوال الأحداث، لكنني صمَّمت النهاية بغرض الانتصار إلى صيرورة الواقع الروائي. إن المجتمع الذي تدور على أرضه أحداث الرواية، لا يقودني إلّا إلى مثل هذه اللحظة التي مثَّلت مفترق طرق بين البطلَيْن.. لكنني حرصت على أن أبقيها نهاية مفتوحة غير جازمة، رغم هالة الحزن التي خيَّمت عليها. حرصت على أن يبقى الحلم مُعلَّقاً، يقبل البعث في أيّة لحظة. ففي نهاية المطاف، يمكن للقارىء أن يضع النهاية التي يشتهيها إدراكه بصفته «متلقِّياً» بعد التشبُّع برسائل الرواية.. ربَّما كانت هناك نهايات أكثر تفاؤلاً، ولكن الأهمّ- بالنسبة إليّ- أن تُمنطِق النهاية ما سبَقها من أحداث. ما صدم القرّاء، أيضاً، «كسر الحالة» التي اعتادوا عليها، فقد تعوَّدوا على مسار معيَّن للرواية، أنساهم حالة المرض التي هيمنت عليهم. لم يكن سهلاً أن يفقدوا ذلك المسار الحالم الذي كانت تعيشه البطلة انتظاراً للقاء، هو كلّ ما تبقّى لها. وبعد كلّ هذه الفترة الزمنية التي اعتصرت طاقتها، ولم تنل من يقينها، لم تحصد سوى الخيبات، وذلك لأنها أحبَّت بصدق.. مَن يحبّون بصدق، تكون ردّة فعلهم، أحياناً، أكثر قسوة، ليس تجاة الأخرين، فحسب، بل تجاه أنفسهم أيضاً، كأحد أشكال العقوبة وجَلْد الذات. ولكن تظلّ الدلالة الإنسانية، بانتصاراتها وخيباتها، على حَدّ سواء، نتاجاً لوضعية المجتمع الذي يصعب فصله عن الأفراد.. ففي النهاية، للواقع منطقه الذي يجب وضعه في الحسبان، دون وأد الأمل أو عملقته.

إسكندر حبش.. حياة أخرى متكاملة!

إسكندر حبش، شاعر وصحافي ومترجم لبناني، من مواليد مدينة بيروت، العام (1963). ساهم في إصدار مجلّات شِعرية في الثمانينات، وأشرف على الصفحة الثّقافيّة في جريدة «السفير»، قبل أن تتوقَّف عن الصدور في 31 ديسمبر، (2016). صدرت له مجموعات شعرية، من بينها: «بورتريه رجل من معدن» (1988)  – «نصف تفاحة» (1993) – «تلك المُدن» (1997) – «أشكو الخريف»، و«لا أمل لي بهذا الصمت» (2009) – «لا شيء أكثر من هذا الثلج» (2013) – «إقامة في غبار» (2020).

كما صدرت له ترجمات في الشِّعر والرواية والفلسفة، من أبرزها رواية «ألف منزل للحلم والرعب» للروائي الأفغاني عتيق رحيمي، و«لست ذا شأن» هي شذرات للكاتب «فرناندو بيسوا»، و«أجمع الذكريات كي أموت: 32 شاعراً برتغاليّاً معاصراً»، و«هكذا تكلَّم أمبرتو إيكو»، و«نجهل الوجه الّذي سيختتمه الموت: من الشِّعر الإيطالي المعاصر»، و«مروفين» رواية لميخائيل بولغاكوف، و«حرير» رواية ألساندو باربكو، و«العاشرة والنصف ليلاً في الصيف» وهي رواية للفرنسية مارغريت دوراس. كما أعد وقدّم «ديوان الشِّعر العربي في الربع الأخير من القرن العشرين–لبنان»، وكِتاب «حكاية الحكايات: قراءات في روايات معاصرة».

في هذا الحوار، نتعرَّف إلى مرجعيّة الشاعر والمترجم إسكندر حبش، في الحياة والكتابة، والترجمة، والنقد..

كنتَ شاهداً على الكثير من حقب المحن والأزمات التي عصفت بلبنان بما فيها سنوات الحرب الأهليّة، ولنقل، أيضاً، إنّك كنت ابن مراحل متعاقبة متأزِّمة ومأزومة في لبنان، لماذا لم تفعل مثلما فعل الكثير من كُتّاب لبنان وأدبائها، الذين لاذوا بالهجرة كحلٍّ أخير يمكن القيام به في خضمّ الأزمات الدامية والمربكة؟ ألم تفكِّر، حقّاً، في الخروج من لبنان، أيّام الحرب الأهليّة؟

– إسكندر حبش: فعلاً، لم أعرف في لبنان، منذ أن وُلِدت العام (1963)، إلاّ المحن والأزمات والحروب المتعاقبة، لدرجة أنني أتساءل عن معنى هذا «القدر» الّذي لَفَّني، و-بالتأكيد- لستُ الوحيد في ذلك، بل ثمّة شعب بأسره، ثمّة بلد بأكمله. كنتُ أمام خيارين؛ إمّا البقاء وعيش كلّ ما جرى، وإمّا الهجرة والاِبتعاد عن هذا المناخ. كان القرار أن نبقى، عائلتي وأنا. ربّما، سياقنا «التاريخي» الّذي جئنا منه، كان وراء هذا القرار في البقاء، في هذا المكان. سأحاول أن أشرح: أنتمي إلى عائلة، من جهة الوالد، كانت غادرت فلسطين أيّام النكبة، في (1948)، فجاءت إلى لبنان. أيضاً، من جهة والدتي، هناك جدَّتي التي هاجرت مع عائلتها من أرمينيا الغربية، أي وقت المذابح التي ارتُكبت بحقّ الأرمن، فجاءت عائلتها، بدورها، إلى لبنان؛ بهذا المعنى، وُلِدت من هجرتَيْن؛ لذا –ربّما– أعتقد أنّه كان، من الصعب، البحث عن هجرة ثالثة.

أعتقد أنه من الصعب على المرء أن يبقى مهاجراً إلى الأبد. إنّه بحاجة إلى مكان يشعر فيه بأنّ الأرض صلبة تحت أقدامه، بالرغم مِمّا تعرفه (هذه الحرب) من حروب وأحداث. حتى بعد أن أنهيت مرحلة الدراسة الثانوية، رفضت أن أغادر للدراسة، خارج لبنان، برغم المنحة الدراسية التي «أُهديَتْ» إليَّ، مفضِّلاً أن أبقى، رافضاً أن أفوّت عليّ أيَّة جولة من جولات الحرب. صحيح أنّ هذه الحرب ليست فيلماً سينمائياً ممتعاً، لكني، في قرارة نفسي، كنتُ أرفض هذا التقسيم بين المناطق، كنتُ أرفض منطق الحرب، كنتُ أشعر بأنّ بقائي يشكِّل رفضاً لكلّ ذلك؛ لذا قرَّرتُ عدم «الهروب»، و-استدراكاً- لا تشكِّل كلمتي هذه (الهروب) أيّ اِنتقاص من قيمة أيّ شخص قرَّر مغادرة البلد. لكلّ منّا خياراته. حتى المرّة الوحيدة التي قرَّرت فيها أن أعمل خارج لبنان، وذهبت يومها إلى إيطاليا، جاءت بعد أن انتهت الحرب الأهليّة. حدث الأمر بين (1995) و(1996). عدت إلى بيروت لأسباب كثيرة: لن أقول بسبب الحنين، لكني شعرتُ بأنّ التجربة هناك استنفذت. وبعد أيّام قليلة من عودتي، العام (1996)، اندلعت «مجزرة قانا»، فلم تَفُتْني هذه الجولة الجديدة من حروبنا الدائمة، حروب العدوّ على أرضنا.

لا أعرف، الآن، فعلاً، إن كانت خياراتي صائبة. لكني أشعر براحة ما، وبخاصّة بعد أن غادرت بيروت وإيقاعها، لأعيش في إحدى القُرى التي تقف على كتفها. أشعر بأن لديّ وقت أكثر للقراءة والكتابة. بالطبع، كان يمكن أن أقوم بذلك لو غادرت باكراً. ولكني أضطلع بخياراتي. ولست – في العمق – نادماً عليها.

هذا يعني أنّك ابن هجرات، وابن ثقافات؛ ما يفسِّر -لاحقاً- ولعك بالثقافات الغربية، واختصاصك في ترجمة بعض آثارها الأدبية، والفكرية، والنقدية.

– ألا يمكن القول إنّ القراءة هي، أيضاً، «هجرة» من حيث إنها تجعلنا نبتعد عن لحظتنا الحالية، لنسافر معها إلى أماكن قصيّة؟ بعيداً عن الثقافات التي أتيتُ منها، كانت قراءاتي تبعدني عن لحظة الحرب التي كنتُ أعيشها. كانت سفراً وتجوالاً في بلدان أخرى، كانت عوالم أكتشفها، وقد نجحت في إحداث قطيعة ما (ولو واهية، في العُمق) مع كلّ هذا الأرق الذي نعيشه، ولا أعرف! ربّما، أصبحت هي الأرق بحدّ ذاته، لاحقاً.

القراءة أصبحت هي الولع، ولا أعتقد أنّ الميل إلى الثّقافة الغربية كان مقصوداً. هي الصدفة التي أخذتني إليها، أظنّ أني كنتُ بحاجة إلى مناخات بعيدة، إلى عوالم مختلفة، لا تمت بصلة إلى ما أعرفه. لا أدري إن كان ذلك محاولة هروب، من شيء ما؛ كلّ ما أعرفه أنّها كانت حاجة دفينة.

أمّا ترجمة بعض كُتب هذه الثّقافة، فقد جاء هذا الأمر لاحقاً. الترجمة، أيضاً، وبمعنًى من المعاني، كانت محاولة للإطلالة على خطاب آخر، قد يقف على تضادّ مع خطابنا، محاولة لاِكتشاف طريقة تفكير مختلفة مع طريقة تفكيرنا، لكن هذا لايعني أنني سقطت في عملية تقديس لهذا الخطاب. علينا أن نقرأ، أيضاً، بنوع من النقدية، علينا أن نقرأ لنكتشف كيف هي صورتنا في خطاب هذا الآخر.

 

 

ترجمتَ كثيراً من كُتب الشِّعر والفكر والأدب والنقد. تُؤمن،  دائماً، بأنّ الترجمة، بالنسبة إليك، إبداع على إبداع. ألم يحدث، مثلاً، أن كانت، يوماً، لحاجة من حاجات العمل، فحسب؟

– والفلسفة. أقصد ترجمت، أيضاً، كتباً فلسفية بالإضافة إلى الأنواع التي ذكرتِها. بصراحة، حين بدأتُ الترجمة كانت أمراً خاصّاً جدّاً؛ أي لم أُترجم سوى ما كان يعجبني، أو ما كنت أشعر أنّه يضيف إليّ ثقافة أخرى، أو تعبيراً آخر، أو حياة أخرى؛ لذا كنتُ حرّاً، دائماً، في خياراتي، ولم أبحث عن الكسب المادّي، فقط؛ أي أترجم ما يُطلب مني. لكن هذا الأمر، تغيَّر قبل أربع سنوات، إذ وجدتُ نفسي مضطرّاً لقبول بعض الترجمات المعروضة، لأسباب اِقتصادية بحتة. لكن، لحسن الحظّ، لم يستمرّ هذا الأمر طويلاً، إذ أعمل، الآن، مع دار نشر، تركتْ خياراتي مفتوحة، أي أُترجم لها ما يروق لي، وصاحب الدار موافق على اقتراحاتي؛ لذا عدتُ إلى طبيعتي.

قلتُ مراراً، في أحاديث سابقة، إنّ الترجمة، بالنسبة إليّ، هي نوعٌ من الكتابة. وكما لا يمكن لأحدنا أن يكتب ما يُطلب منه، لأنّه لا يستطيع أن يرتدي جلداً غير جلده، كذلك أنا في الترجمة (على الأقلّ، بالنسبة إلى ما أراه)، لا أريد أن أُترجم إلاّ الأشياء التي أحبُّها.

ما هو أكثر كِتاب ترجمته، وأثَّر فيك على المستوى الشخصي أو الفنّي، والمعنوي، والرمزي. كتاب ترك أثره فيك، حتّى الآن؟

– فعلاً، حتى الآن، مثلما تقولين، لأنّني لا أعرف ماذا سأترجم لاحقاً. أعتقد أنّني ترجمتُ ما كنتُ أحبّه، في أيّ حال. قرأتُ قبل فترة أعمال فيلسوفَيْن روسيَّيْن ينتميان إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ترجمت بعض أعمالهما، هما: «نيقولاي برديائيف»، و«ليون شيستوف». لقد فتحا لي أبواباً واسعة، وجعلاني أكتشف كم أخذت منهما الفلسفة المعاصرة، وكم غيَّبتهما. ترجمتُ، مؤخَّراً، كتاباً لمفكِّر ومؤرِّخ فرنسي هو «فيكتور دوروي»، بعنوان «صراع الديني والفلسفي زمن سقراط». سحرني هذا النصّ. لم يتغيَّر الأمر منذ ذلك الزمن، فلا تزال الآليّات البشرية تعمل بالشروط عينها، فيما يخصّ المقدَّس، وغير المقدَّس.

بالتأكيد، هناك ترجمات شعرية. هناك «ريفردي»، وهناك شعراء عديدون غيره. ومثلما قلت، لا أحد يأتي من فراغ. نكتب لأنّنا قرأنا. لقد اِستمرَّت رحلتي مع «ريفردي» إلى الآن. أعود إلى قراءته، دوماً، وقد ترجمتُ له العديد من النصوص، أتمنّى أن أنشرها يوماً.

أنت وفيّ للشِّعر. لماذا لم تجرب كتابة الرّواية؟

– ولماذا عليّ أن أكتب رواية؟ صحيح أن هناك شعراء كثيرين يكتبون الرواية اليوم، لكن هذا خيارهم. وبالطبع، هذا لا يلزمني بشيء. في أيّ حال، بدأت مثلي مثل كلّ المراهقين، الذين يخطّون بعض الكلمات العاديّة على دفاترهم المدرسية، ويقولون إنها (شعر). بدأ ذلك في نهاية، العام (1975)، وأذكر جيِّداً، بسبب الحرب الأهليّة في لبنان: كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وكان لصوت الرصاص والقذائف التي تتهاوى في كلّ المناطق، الأثر الكبير في جعلي أرتجف من الخوف. لم أكن أعرف ماذا أفعل، لأمنع عني هذا الرعب. أحياناً، أختبئ تحت السرير، ومرّات في الحمّام، إلى أن اِكتشفت هذه الرغبة في نقل خوفي إلى الورق. أعترف أنّ هذه المحاولة، سبَّبت لي الكثير من التوازن. لن أقول إنّني لم أعد أشعر بالخوف، لكني أصبحت، مع الورقة، أكثر قدرةً على الاِحتمال. لو حاولتُ التفكير، اليوم، وبعد ما يقلّ قليلاً عن ثلاثين سنة، لوجدتُ أنّ الكتابة شكَّلت علاجاً ما، شكَّلت هروباً من الواقع. اِستمرَّت هذه اللعبة -إذا جاز القول- فلم أغادرها، وربّما هي التي لم تغادرني. الأمر واحد بالنسبة إليّ. خَطَطْتُ كلمات كثيرة على دفاتر، كنت أصنعها بنفسي، حيث آتي بأوراق، وأصنع لها أغلفة. كانت الدفاتر هذه ملجئي الحقيقي.

لم أبقَ وفيّاً للشِّعر، بصراحة. كتبتُ المقالة الصحافية، كتبتُ النقد والبحث، نشرتُ كتبَ حوارات، وكتباً سردية تتعلَّق بالرحلة، وترجمتُ الكثير. كلّها أنواع كتابية مخالفة للشِّعر. أمّا – ولأعد إلى بداية كلامي– لِمَ لَمْ أكتب الرواية؟ فلأقل بشيء من السهولة: لم أشعر بالرغبة، بتاتاً، في القيام بذلك. في أيّ حال، ترجمتُ الكثير من الروايات، والترجمة عندي هي نوع من الكتابة؛ لذا سأدَّعي أنّ ترجماتي هذه هي رواياتي.  أعتقد أنّني أخلصتُ للكتابة، بحدّ ذاتها. لم تعد بديلاً من حياة، كما قلتُ قبل قليل، بل هي حياة أخرى متكاملة، أجمل، إن أردت. ولا أستطيع إلاّ أن أقول ذلك عنها، بعد أن أمضيتُ عمري في ملاحقتها، وإلاّ سأكون، عندها، خائناً لكلّ ما فعلت، وارتكبت من كتابات. وبصراحة، لو خُيِّرتُ لي أن أعيد حياتي من البداية، لعدتُ وكتبتُ، برغم كلّ المتاعب. لا أحسن القيام بأيّ أمر آخر سواه.

هذا الاِدِّعاء بأنّ ترجماتك هي رواياتك.. هل يشفي شغف السرد عندك؟ هل تكفي روايات آخرين لتكون رواياتك بالترجمة؟

– كتبتُ العديد من سرد الرحلات؛ أي -إذا أردتِ- ثمّة شغف سرديّ أخذني إليه. ولكن لا أشعر بأيّة رغبة حقيقية في كتابة الرواية. بالتأكيد، في إجابتي السابقة عن كتابتي لروايات الآخرين، محاولة للهرب من السؤال، عبر إيجاد تسويغ ما، إذا جاز القول. لكن، في العُمق، وبرغم إدماني على قراءة الروايات (وقد أصدرت ثلاث كُتب نقدية عنها)، لا يشكِّل الأمر لي أيّة حاجة فعلية. ما أريد قوله أقوله بطُرق تعبير أخرى. حتى الآن، لم أشعر بالحاجة إلى قول ما أريد عبر سردية الرواية.

هل يمكن أن القول بوجود رواية، قرأتَها وشعرتَ بأنّك بطلها؟

– صعب أن أختار رواية واحدة، أو كاتباً واحداً؛ لا لشيء إلاّ لأنّني لم أقرأ كلّ كُتّاب العالم. ما أريد قوله إنني، في كلّ مرحلة، أكتشف اسماً، وأجدني منساقاً إليه، وأعتبره بأنّه يمثِّلني. لكني، بعد فترة، أعود لأجد أنّ اسماً آخر يحتلّ المشهد. في أيِّ حال، ولكيلا أبدو أنّني أتهرَّب من الجواب، سأذكر لك بعض الأسماء التي لا تزال ترافقني إلى اليوم؛ بمعنى أنّني أستعيد قراءتها، ولا أملّ منها: عبد الحكيم قاسم (مصر)، غالب هلسا (الأردن)، ويوسف حبشي الأشقر (لبنان)، محمود شقير (فلسطين)، ورشيد بوجدرة (الجزائر)…. ميلان كونديرا (تشيكيا / فرنسا)، إميل زولا، رومان رولان (فرنسا)، دانيلو كيش (يوغوسلافيا السابقة)، تولستوي، ودوستويفسكي (روسيا)… ولن أكمل. فاللائحة تطول. دائماً، أخذتني القراءة إلى أماكن أحلم فيها، وبها، و-ربّما- أكثر من الكتابة.

لنعد إلى الشّعر وعوالمه. ماذا أعطاك الشِّعر؟ ماذا أضاف إلى مسيرة حياتك؟ ألم يحدث أن لعنته مرّة، أو اعتبرته مُعرقلاً لأحلام أخرى؟

– أن أضع اللعنة مقابل الشِّعر، فهذا يعطيها قيمة أكبر مِمّا هي عليه في الواقع. تماماً، مثلما قال الشاعر الألماني الكبير نوفاليس: «أن تضع الشرّ مقابل الفضيلة، فإنك تشرِّفه كثيراً بذلك». حين بدأت الكتابة لم أفكِّر، مرّةً، بأني أنتظر شيئاً من الشِّعر. كتبت، بدايةً، كما قلت لك قبل قليل، من دون أن أعرف لماذا. كان الشِّعر، في البداية، والكتابة، بشكلٍ عام، نوعاً من التعبير. وصار نوعاً من توازن. بالتأكيد، لم أبحث عن التوازن حين كتبت، لكنّه طرح نفسه عليّ بهذا الشكل، أو -ربّما- هكذا أحسست. الشِّعر حياة بكلّ تفاصيلها. الآن، وبعد أكثر من (35) سنة من الكتابة؛ الشِّعرية وغير الشِّعرية، أجد أنّه «صوت الأخوّة الإنسانية» كما عبَّر عن ذلك الشاعر الروسي الكبير «غينادي أغييف». الكتابة نوع من التنازل عن تفاصيل حياة يومية، للبحث عن ميتافيزيقيا متعالية، ربّما. لكنني، أيضاً، لا أحمِّله كلّ شيء.

أحد الأمور التي أعتقد أنّها تشكِّل أزمة ما في ثقافتنا، أنّنا أفردنا للشِّعر والشعراء حيّزاً أكبر من الفلسفة مثلاً. أعتقد، اليوم، أنّه كان علينا أن نغذّي الفكر أكثر مِمَّا غذَّينا البلاغة والصور الجميلة. لا أبالغ لو قلت إن الإنسان العربي، اليوم، يعاني من هذه الأزمة: إنّه غير عقلاني، ولا تزال صورة بيانية، تطربه وتُدخله في حالة من النشوة، بينما لا يريد أن يفكِّر بأيّة قضية، أو -بالأحرى- ترعبه قضايا التفكير.

العربي -ربّما- أسير هشاشته؛ لهذا تُطربه الصور، ولا تُؤثر فيه قضايا مصيرية، كما لا يُفكر بأيّة قضية. لكن، برأيك، ما الأسباب الحقيقية وراء رعبه من قضايا التفكير؟

– نحن أمّة استقالت من التفكير؛  ربّما لهذا «خرجنا من التاريخ»، ويبدو، حاليّاً، أننا سنخرج حتى من الجغرافيا. فما يحدث من حروب متنقّلة، في بلداننا، سيوصلنا إلى هذا الأمر. نحن أمّة (اقرأ، لا تقرأ). نريد من يقرأ عنّا، ومن يقدِّم لنا قوانين للحياة. نحن ظاهرة صوتية (القسم الأكبر منّا) فيما لو استعرنا عبارة عبد الله القصيمي. ولا تنسي، بالطبع، ذاك العجز الشعري «والأذن تعشق قبل العين أحياناً». نتناقل الإشاعة، بدون رؤية، وبدون رؤيا. نعتمد على السماع: «وكفى الله المؤمنين القتال». نريد كلّ شيء أن يكون جاهزاً، وعلى قياسنا، لكي نحمله معنا.

من غير الصحيح، مطلقاً، أننا نخشى التفكير مخافةً الديني؛ لأنّنا لو قرأنا النصّ القرآني جيِّداً، لعرفنا أن علينا أن نفكّر، وأن نُعْمِل العقل. استسلمنا لبعض المشعوذين، وأقصد أولئك الدعاة، الذين يفسِّرون النصّ الديني على هواهم. كيف نقبل هذه التفاسير التي لا تحمل أيّ منطق، في كثير من الأحيان (ثمّة أمثلة صادمة حول ذلك)، ونرفض تفاسير أخرى، تريد أن تُعلي شأن العقل؟ جاء الدين، كما أعتقد، لكي يخرجنا من الخوف. ولم نفعل شيئاً سوى جعل هذا الدين أداةً للخوف المطلق. وكما أقول لتلاميذي، دائماً: لا علاقة للإيمان الحقيقي بكلّ الأديان؛ هما أمران مختلفان. علينا أن نُعْمِل العقل لكي نفهم هذا النصّ.

عمرٌ طويل في الصحافة الثّقافيّة. هل علَّمتك هذه الأخيرة الكتابة، حقّاً؟ ألم تأتِ إليها من شغفك الأوّل بالأدب والشِّعر؟

– صحيح أنّني جئتُ إليها من القراءة والشِّعر، من شغفي الأوّل، لكنّها، فعلاً، علَّمتني الكتابة. لم أعد أخاف من الورقة البيضاء، التي تحدَّث، عنها العديد من الكُتّاب، ومايزالون يتحدثون. الكتابة اليومية، تأخذك إلى الأساسي مباشرة من دون لفّ أو دوران، من دون محسِّنات بديعية ولفظية، تعلّمك إيصال الفكرة. ثمّة عالم واسع وفسيح في الصحافة، وبعيداً عن كونها مهنة، هي مختبر للكتابة حقّاً.

كأنّ الكتابة دائماً هي الملاذ وطوق نجاة، حتى في خضم الحرب كانت حياة أخرى بديلة. هل نقول: ما أكثر نِعم الكتابة؟

– لولا نعمها لما كنّا نتحدّث ونتحاور الآن… مهمّة أي كاتب أن يكتب، وهذه الكتابة اِستغرقت عمره بأسره. لقد صرف حياته عليها. على الأقلّ، عليها أن تبادله شيئاً على هذا الإخلاص لها. من هذه الأمور نعمها.

ليس أمام الكاتب إلاّ أن يكتب. أن يزيد حصّة الجمال في هذا العالم القبيح، إن جاز لي قول هذا. عليه أن يخلص لمشروعه الكتابي، أن يجعله هو الأساس، الّذي يتصرف وفقه. لا أقصد أنّ عليه أن يدمِّر الآخرين المحيطين به، أبداً. عليه أن ينسى كلّ شيء حوله، وأن يصرف وقته للكتابة. أن يكتب شيئاً جيِّداً. ولا بدّ، هنا، أن تنصفه الكتابة. أن تبقيه في الذاكرة الجمعية لفترة أطول. ربّما، هو رهان قد لا يتحقّق، لكن علينا القيام بشرف هذه المحاولة.

كازوو إيشيغورو: أنا كاتب منهك، ومن جيل منهك فكريّا

في هذا الحوار، الذي أجريناه عبر منصّة (زوم)، يحكي «كازوو إيشيغورو» الروائي، عن روايته «كلارا والشمس» الصادرة في مارس/آذار الماضي. وللمرّة الأولى، بدأ الحائز على جائزة «نوبل» للآداب، يخشى على المستقبل، ليس من عواقب تغيُّر المناخ فحسب، بل من القضايا الأخرى التي أثيرت في رواية «كلارا والشمس»: الذكاء الاصطناعي، وتعديل الجينات، والبيانات الضخمة وآثارها على المساواة والديموقراطية. «طبيعة الرأسمالية، في حدِّ ذاتها، هي الآن آخذة في تغيير نموذجها» كما يقول. «أخشى أننا فقدنا السيطرة على هذه الأشياء». ومع ذلك، يأمل أن تُقرأ «كلارا والشمس» على أنّها «رواية مبهجة ومتفائلة». ولكن، كما هو الحال دائماً مع «إيشيغورو»، يجب أن يكون كلّ عزاء شيئاً مستحقّاً؛ «فمن خلال تقديم عالم صعب للغاية، يمكنك إظهار السطوع، يمكنك إظهار أشعّة الشمس».

تحكي الرواية، التي تدور أحداثها في مكان غير محدَّد في أميركا، وفي زمن غير محدَّد في المستقبل (ظاهرياً، على الأَقلّ)، عن العلاقة بين «صديقة» اصطناعية اسمها «كلارا»، ومالكتها/المكلفة بها المراهقة جوزي. في زمن الرواية، أصبح وجود الروبوتات شائعاً شيوع المكانس الكهربائية، وصار التعديل الجيني هو القاعدة كما أن تقدُّم البيوتكنولوجيا يكاد يمكن من إعادة خلق كائنات بشرية فريدة من نوعها. «إنها ليست مجرَّد أشياء متخيَّلة غريبة»، كما يقول الكاتب قبل أن يضيف: «كلّ ما هناك أننا لم نستشعر، بعد، ما هو ممكن، بالفعل، في الوقت الحالي». إذ لا يمثِّل خيار «أمازون توصي» سوى مجرَّد بداية». ويتابع: «في عصر البيانات الضخمة، قد يكون بالإمكان البدء في إعادة بناء شخصية شخص ما؛ لكي تستمرّ هذه الشخصية بعد وفاته، مع تحديد ما سيشتريه بعد ذلك، عبر الإنترنت، ونوعية الحفلات الموسيقية التي سيرغب بالذهاب إليها، وما يمكن أن يبديه من آراء إذا قرأت له أحدث العناوين الرئيسية في الصحف، وهو يتناول وجبة الإفطار».

لقد تعمَّد «إيشيغورو» ألّا يقرأ رواية «إيان ماكيوان» الأخيرة «آلات تشبهني»، ولا رواية «جانيت وينترسون» «فرانكيستاين»، اللتين تتناولان، أيضاً، موضوع الذكاء الاصطناعي، ولكن من زوايا مختلفة جدّاً. «كلارا»، هي نوع من الأمّ الروبوتية، «فهي تشبه ترميناتور في تصميمها على الاعتناء بـ«جوزي»»، لكنها، أيضاً، طفل بديل محتمل: عندما تمرض «جوزي»، تتمّ برمجة «كلارا» لتأخذ مكانها. يتساءل «إيشيغورو»: «ترى، أيّ مصير ستؤول له بعض الأشياء مثل الحبّ، في وقت أصبحنا نغيِّر فيه نظرتنا للفرد البشري وتفرُّده؟»…

يعيد كتاب «إيشيغورو» النظر في العديد من الأفكار التي شكَّلت مصدر إلهام لروايته «لا تسمح لي أبداً بالرحيل»، الصادرة عام (2005)، عن ثلاثة مستنسخين في سنّ المراهقة، ستتمّ إزالة أعضائهم، ممّا سيقودهم إلى وفاة حتمية قبل سنّ الثلاثين: «إنها مبالغة بسيطة في تجسيد الشرط الإنساني، فعلينا جميعاً أن نمرض، ونموت في مرحلة ما»، كما يقول المؤلِّف. وتتناول كلتا الروايتَيْن مسألة التغلُّب على الموت بالحبّ الحقيقي، الذي يجب أن يتمّ اختباره وإثباته بطريقة أو بأخرى؛ الأمنية نفسها تتجسَّد، أيضاً، صريحة في تحدِّي البحار لـ«أكسل» و«بياتريس»، في روايته السابقة «العملاق المدفون». فهذا الأمل، حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يؤمنون بالحياة بعد الموت، «هو واحد من الأشياء التي تجعلنا بشراً»، كما يقول…

لا يتحرَّج «إيشيغورو» من التكرار، ويستشهد في ذلك بـ«الاستمرارية» التي يلاحظها لدى عظماء المخرجين (هو عاشق كبير للسينما)، ويحلو له أن يؤكِّد أن كلّ كتاب من كتبه الثلاثة الأولى كان، في الأساس، إعادة كتابة لسابقه. يرى «إيشيغورو» أن «الروائيين والأدباء، غالباً ما يتَّخذون موقفاً دفاعياً بعض الشيء، عندما يتعلَّق الأمر بالتكرار». ويضيف: «أعتقد أن لذلك ما يبرِّره تماماً: فأنت تستمرّ في الكتابة حتى تقترب أكثر وأكثر ممّا تريد قوله في كلّ مرة». ولكي يفلت من مأزق التكرار ذاك- كما يقول- يغيِّر المكان أو يغيِّر الجنس الأدبي: «الناس حَرفِيّون لدرجة أنهم يعتقدون أنني أنتقل من شيء إلى شيء مختلف عنه». بالنسبة إليه، الجنس الأدبيّ شبيه بالسفر، وصحيح أنه لطالما أحبَّ التنقُّل بين الأجناس: «عندما كنّا أيتاماً» (رواية بوليسية)، و«بقايا النهار» (دراما تاريخية)، و«من لا عزاء لهم» (خرافة كافكاوية)، و«لا تسمح لي، أبداً، بالرحيل» (خيال علمي ما بعد الكارثة) و«العملاق المدفون» (فانتازيا على نسق تولكيان). أمّا مع هذه الرواية، وكما يوحي بذلك عنوانها «كلارا والشمس»، فإن «إيشيغورو» يزور ما يسمِّيه «بلاد الأطفال». لكن يجبّ الانتباه؛ لأننا، مع هذه الرحلات كلّها، لم نراوح أبداً «إيشيغورو لاند».

الرواية تستند إلى حكاية اخترعها من أجل ابنته، عندما كانت ما تزال طفلة صغيرة، وكانت، في الأصل، محاولة منه لاقتحام أدب الطفل. يقول: «كانت لديّ قصّة في منتهى النعومة. اعتقدت أنها ستكون مناسبة جدّاً في أحد هذه الكتب المصوّرة الجميلة. عرضتها على ابنتي «نعومي»، التي نظرت إليَّ نظرة شديدة، وقالت: «لا يمكنك أن تقدِّم للأطفال الصغار قصّة كهذه. سيصابون بصدمة». لذا قرَّر كتابتها للبالغين بدلاً من ذلك. إنه يشعر، دائماً، بشيء من الاندهاش حينما يرى ردّة فعل الناس إزاء أعماله، يقول: «في الواقع لقد كانت مفاجأتي جدّ كبيرة؛ لأن الناس وجدوا أن رواية «لا تسمح لي أبداً بالرحيل» رواية كئيبة». تلقّى بطاقة بريدية من الكاتب «هارولد بينتر»، كتب عليها: «أجدها مرعبة جدّاً…دموية!. هارولد». «وأنا الذي كنت أظنّها أكثر رواياتي بهجة».

غالباً ما كانت زوجته هي أولى قرّائه، وفي كثير من الأحيان، كما هو الشأن بالنسبة إلى هذه الرواية، كانت تمارس «تأثيراً كبيراً يقصم ظهري، بعد ما أكون اعتقدت أن الرواية قد اكتملت». واليوم، هناك، أيضاً، ابنته «نعومي» التي أصبحت مكلّفة بنشر أعماله. ويقول إنه بمجرَّد وصول الكاتب إلى مكانة كالتي بلغها، لا يجرؤ الناشرون على إبداء ملاحظاتهم فيما يخصّ منجزه، خوفاً من أن يتوجَّه «غاضباً» إلى ناشر آخر؛ لذلك «أنا ممتن جدّاً لوجود أفراد عائلتي الذين يقومون بذلك من أجلي، وهم يفعلونه بصرامة شديدة». ويقول إن الجوائز التي فاز بها، والتي حصل منها على عدد «عبثي»، «تنتمي إلى عالم موازٍ»، بما فيها جائزة «نوبل»: «عندما أجلس في مكتبي، وأحاول أن أجد الكيفية المناسبة لكتابة شيء ما، فهذا لا يمتّ بصلة إلى الجوائز. لديَّ فكرتي الخاصّة عن اللحظة التي أحقّق فيها النجاح، وكذا عن تلك التي أحصد فيها الفشل».

تتطلَّب منه كتابة كلّ رواية حوالي خمس سنوات: عمل طويل من البحث والتفكير، تليه مسوَّدة أولى سريعة، وهي عملية يشبهها بمعركة سيوف الساموراي: «ينظر كلا المصارعين إلى الآخر في صمت طيلة سنوات، عادةً في وجود أعشاب طويلة ومتطايرة وتحت سماء متقلِّبة. يفكِّران طوال الوقت، ثم في جزء من الثانية يحدث الأمر. تُستَلّ السيوف: طاخ! طاخ! طاخ، فيسقط أحدهما»، كما يقول «إيشيغورو»، وهو يلوِّح بسيف وهميّ أمام شاشة الحاسوب. «يجب أن يكون لديك العقل السليم تماماً، وبعد ذلك عندما تستلّ هذا السيف: يجب أن يكون القطع مثالياً، أن يبلغ ذروة الكمال». عندما كان طفلاً، وقد وصل، لتوّه، إلى المملكة المتَّحدة، كان يشاهد أفلام «ايرول فلين»، التي تقوم فيها معارك السيف على اصطدام السيوف، بعضها ببعض: «تشينغ، تشينغ، تشينغ، تشينغ، لمدّة 20 دقيقة يتحدِّث المتصارعان، خلالها، فيما بينهم»، كما يقول. «قد تكون هناك طريقة لكتابة مشهد خيالي من هذا النوع، حيث يتمّ الاشتغال على الفعل، لكنني أصبو إلى مقاربة مختلفة: (لا تفعل أيّ شيء، لأن كلّ شيء يجري داخليّاً)».

كانت والدة «إيشيغورو» راوية قصص موهوبة، أيضاً، تسرد حكايات عن الحرب (أصيبت بحجر سقط عليها من السقف في قصف ناغازاكي)، وكانت تجسِّد مشاهد لـ«شكسبير» على مائدة الطعام. تناول نسخة متهالكة من رواية «الجريمة والعقاب لدوستويفسكي»، وهي هديّة من والدته عندما كان عمره حوالي (16) عاماً. «لأنني كنت في طريقي لأصبح هيبيّاً، فقد قالت لي شيئاً من قبيل: «يجب أن تقرأ هذا الكتاب. ستشعر وكأنك مجنون. لذلك قرأته، وافتُتنت به كلِّيّاً، منذ البداية». ظلّ «دوستويفسكي» أحد أكبر مصادر إلهامه. ودفعته والدته إلى اكتشاف العديد من الأعمال الكلاسيكية: «كان لها دور مهمّ جدّاً في إقناع صبيّ، لم يكن مهتمّاً بالقراءة، ولم يكن يريد سوى الاستماع للألبومات طوال الوقت، بأنه يمكن أن يجد أشياء تهمّه في بعض من هذه الكتب».

انتقلت الأسرة من اليابان، عام (1959)، إلى مدينة «غيلدفورد» عندما كان «إيشيغورو» في الخامسة من عمره. وكان والده «شيزو»، عالم المحيطات الشهير، قد أبرم عقد أبحاث مدَّته عامان، مع الحكومة البريطانية. يصف «إيشيغورو» والده بأنه كان عبارة عن مزيج غريب من العبقرية العلمية والجهل الطفولي بأشياء أخرى، وقد استلهم من طباعه الكثير، عند بناء شخصية «كلارا». بعد تقاعد والده، أمضت آلة التنبُّؤ بالموج، التي قام بصنعها، سنوات عديدة في مستودع بالجزء الخلفي من حديقة البيت، حتى عام (2016)، عندما طلب منه متحف العلوم في لندن أن تصبح هذه الآلة جزءاً من معرض رياضيات، تَمَّ إحداثه وقتها. «شكَّلت تلك اللحظة، واللحظة التي نُشِر فيها أوَّل كتاب لابنتي «نعومي»، مصدرَ فخرٍ كبير بالنسبة إليَّ».

اشترى له والداه أوَّل آلة كاتبة محمولة، وهو في سنّ السادسة عشرة، ولكن كانت لديه «مشاريع جادّة ليصبح نجم «روك» في سنّ العشرين». على وجه الخصوص، أراد أن يصبح مغنِّياً وكاتب أغانٍ، مثل بطله العظيم «بوب ديلان»، حيث كتب أكثر من 100 أغنية في غرفته. ولا يزال، إلى الآن، يكتب كلمات الأغاني، ويتعاون مع مغنِّية الجاز الأميركية «ستايسي كينت»، ولديه، حاليّاً، ما لا يقلّ عن تسع قيثارات.

قَبِل شهادة فخرية من جامعة «سانت أندروز» في عام (2003)، فقط للحصول على فرصة للقاء بطله، الذي تلقّى الشهادة نفسها أيضاً: «سأكون في غرفة خضراء، أبدّل ملابسي مع بوب ديلان!». لكن الموسيقار أرجأ لقاءه إلى العام التالي. ووسط الاضطرابات التي خلَّفها حصول «ديلان» على جائزة «نوبل» للآداب في العام السابق، كان «إيشيغورو» مسروراً، وقد أضاف: «كان يجب أن يحصل على الجائزة. أعتقد أن أشخاصاً مثل «ديلان»، و«ليونارد كوهين»، و«جوني ميتشل» هم، بمعنى ما، فنَّانون أدباء مثلما هم فنَّانو استعراض، وأعتقد أنه من الجيّد أن تعترف جائزة «نوبل» بذلك».

وفي ختام محاضرته عن جائزة «نوبل»، دعا «إيشيغورو» إلى العمل على تذويب الحدود بين الأجناس الفنِّيّة، والحثّ على المزيد من التنوُّع الأدبي بشكل عامّ، ووضَّح لنا ذلك بقوله: «لا يكفي أن نركِّز على مسألة العرق. هناك نكتة قديمة تقول إن قناة (بي بي سي) مفتوحة للناس جميعاً- مهما كانت معتقداتهم الدينية أو أعراقهم أو توجهاتهم- ما داموا قد درسوا في أكسفورد، أو كامبريدج». وفيما يتعلَّق بوضعه الخاصّ بوصفه «رمزاً أدبيّاً لبريطانيا متعدِّدة الثقافات»، كما تَمَّ تصويره في مقابلة تليفزيونية عام (2016)، لا يزال يجد صعوبة في توضيح موقفه من ذلك، فهو يشعر بنفسه «شيئاً ما خارج النقاش» حول التجربة الاستعمارية الإنجليزية، كما يتمّ وصفها في روايات سلمان رشدي أو فيديادر سوراجبراساد نيبول. يقول: «الحقيقة أن ملامح وجهي تبدو مختلفة بعض الشيء، لذلك يتمّ وضعي في الخانة نفسها مع مثل هؤلاء الكتَّاب الآخرين». يودّ «إيشيغورو» أن يرى المزيد من التنوُّع، ليس على مستوى الأعراق، فحسب، بل على مستوى الفئات الاجتماعية، أيضاً. ويقول إن من النادر أن نجد بين معاصريه من الأدباء من كان يتابع دراسته في مدرسة ثانوية حكومية، أو في إحدى الجامعات غير العريقة.

وعلى الرغم من أنه حريص على ألّا يقبل دعوات الصحافة، ويردّ عليها دائماً بعبارات رفض لبقة، هو حريص، كذلك، على عدم الوقوع في «متلازمة نوبل» بالتعالي على العالم. ويصف نفسه بأنه «كاتب منهك، ومن جيل منهك فكريّاً». تتَّهمه ابنته وأقرانه الليبراليون بعدم الانخراط في مواجهة حالة الطوارئ المناخية. يقول: «أنا اعترف بأنني مذنب». «أقول لها، دائماً، إن الأمر يتعلَّق، جزئياً، بمسألة التقدُّم في العمر، وأن من هم في سنّي قضوا الكثير من الوقت وهم قلقون بشأن الوضع بعد الحرب، والمعركة بين الشيوعية والرأسمالية، والشمولية، والعنصرية، والحركة النسائية، ومن شدّة تعبنا تخلَّفنا عن ذلك».

«كلارا والشمس»، هي أول رواية يتناول فيها الأزمة، لكنه يعترف بأن سياق أدب الطفل قد أتاح له تجنُّب الانخراط، بعمق، في هذه المعركة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: ليزا آلردايس

المصدر:

https://www.theguardian.com/books/2021/feb/20/kazuo-ishiguro-klara-and-the-sun-interview

أبو بكر العيادي: الأكاديميّون يُسقِطون على النصوص مفاهيم ليست من بيئتها

أبو بكر العيادي؛ روائي، قاصّ، ومترجم تونسي مقيم في باريس. عمل بالتدريس، والصحافة الثّقافيّة، والترجمة. نشر ستّ روايات، منها: رواية «الرجل العاري» التي حصلت علي «جائزة الكومار»، و«آخر الرعية»، «زمن الدنوس»، و«لابس الليل»، «مسارب التيه»، ورواية «ورقات من دفتر الخوف». له سبع مجموعات قصصية، منها: «جمر كانون»، و«حقائب الترحال»، و«الضفة الأخرى»، و«لعنة الكراسي». وفي الفكر والثّقافة نشر ثلاثة كتب هي: «العتق والرقّ.. مقالات في ثورات الربيع العربي، وما تلاها»، و«رسائل باريس.. مقالات في الفكر والسياسة»، و«معارج الفكر.. إطلالة على الثّقافة الأجنبية». كما له ترجمات روائية عديدة، منها ثلاث لـ«ستيفان زفايغ»، هي: «الخوف»، و«مانديل بائع الكتب القديمة»، و«رسالة من مجهول»، كما ترجم: «انتقام الغفران» لـ«ايريك ايمانويل شميت»، و«عدوّ» لـ«جان إشنوز»، و«بوذا في العالم السفلي» لـ«جولي أنوتوسكا»، و«ذهول رعد» لـ«إميلي نوتومب»، «ليلة مع صابرينا» لـ«بيدرو ميرال»، وأخيراً «مذكِّرات شيهم» لـ«آلان مابانكو»…

البحث عن الذات في مرحلة التكوين، تجعل البدايات مبهجة، ولكلّ منّا بداية تجعله يسلك الطريق بقوّة. ما العوامل، والمؤثِّرات التي جعلت منك روائيّاً، وقاصّاً؟، ومن ساعدك؟

– وجدت السند لدى بعض رموز التأسيس عندنا، أخصّ بالذكر منهم الروائي والباحث محمد صالح الجابري، أوَّل من اطَّلع على محاولاتي الأولى، والأديب محمَّد العروسي المطوي مدير نادي القصّة ورئيس تحرير مجلّة «قصص»، أوَّل من نشر لي قصصي، والناقد أبو زيان السعدي الذي احتضن نصوصي في القصّة والمقالة والنقد والترجمة في جريدة «الأدباء»، ملحق جريدة «الصباح»، قبل أن أتولّى الإشراف عليه في مطلع الثمانينات. بدأت بالقصّة، حينما ألفيت نفسي في عزلة، مطلع السبعينات، أبعدتني عن الكرة التي كنت أمارسها في فريق النادي الإفريقي، ثم انتقلت إلى الرواية، ولو أن روايتي الأولى لم تظهر إلّا حينما بلغت الخمسين، لظروف النشر العسيرة التي كانت سائدة حتى وقت قريب.

أنت في المنفى الذي اخترته، ورغم ذلك تسحبك الذاكرة لكتابة ما مضى من حياتك في تونس. لم تستطع، إذاً، الفرار من الذكريات؟

– هجرتي كانت أشبه باختيار اضطراري، أي أني قصدت المنفى طوعاً عندما زالت، في بلدي، أسباب العيش الكريم، أواخر الثمانينات؛ اجتماعياً وثقافيّاً وسياسياً. في ترحالي، حملت معي هويَّتي، ولغتي، وذكرياتي. ورغم أن إقامتي في باريس تجاوزت الثلاثين عاماً، لا أزال أكتب بلغة قومي، ولا تزال الذكريات البعيدة حاضرة في ذهني، بل إني ما زلت أستحضر ما عشته في أرياف بلدتي التي هجرتها في أواخر الخمسينات، بتفاصيله وروائحه. الذكريات جزء مني، تسكنني، فأوظِّفها؛ ليس لإطفاء قلق وجودي، بل لرغبة ملحّة لديَّ في تسجيل تاريخ منسيّ، من حياتي وحياة أهلي وعشيرتي وأترابي، عندما نزحنا إلى تونس العاصمة. تونس التي اتَّخذتها مسرحاً لأحداث رواياتي الأولى، وفاجأت سكّانها بتفاصيل يجهلونها، عن أزقّة وحارات وممارسات يسمعون بها، ولا يرونها. كتبت ذلك وأنا في باريس، مثلما كتبت عن تجربتي في ديار الغربة، وتعرَّضت فيها إلى ما يعانيه العرب المهاجرون.

ما نصيب السيرة الذاتية في رواياتك؟

– أنا مبثوث في تلافيف أعمالي، أظهر حيناً، وأختفي حيناً آخر، لكن حضوري قد يكتسي دور شاهد على مرحلة، أو أحداث عشتها أو عايشتها أو سمعت عنها، وقد يتجلّى في عمل تخييلي صرف يستلهم من سيرتي بعض تفاصيلها. أوظِّف كلّ ذلك لأجلو منه رؤية للعالم، وموقفاً من الذات والآخر، لأن الاتِّكاء على السيرة الذاتية وحدها قد يحصر العمل في مسائل خاصّة بصاحبها، وتجارب قد لا تكتسي أهمِّيّة إلّا لديه، فيما الرواية فعل تخييلي، بالأساس، ينهل من الواقع، لا محالة، لكنه يسمو به ليجعل من التجربة الخاصّة لحظة إنسانية تلامس، بمعانيها ومراميها، كلّ قارئ في هذا العالم الرحب، كما هي الحال في أعمال «تولستوي»؛ إذ إن كلّ ما ألّفه لا ينفصل عمّا عاشه، فكتابته كلّها تنطق بتجاربه المعيشة المعقَّدة، ويمكن التعرُّف، في طياتها، بسهولة إلى الأنا التولستوية. يقول «توماس مان»، الذي استفاد كثيراً هو، أيضاً، من سيرته الذاتية: «إن آثار «تولستوي» الأدبية ليست، في الواقع، سوى أجزاء من دفتر يوميّات ضخم، عُني بتدوينه طيلة خمسين عاماً في شكل اعترافات مفصَّلة، لا نهاية لها».

أغلب شخصياتك الروائية متخيَّلة، لكنها تحاكي الواقع، وتمثِّله. لماذا لا توجد حدود منطقية بين الواقعي، والخيالي في رواياتك؟

– الرواية تنطلق من الواقع، وتعود إليه، وما تقدِّمه هو وهم الواقع، لأنها عمل تخييلي، بالأساس، وإن بدا للقارئ أنه استنساخ للواقع. في روايتي الأولى «لابس الليل»، وكذلك في الثانية «زمن الدنّوس»، انطلقت من أحياء المدينة، التي سمَّيت منها ما بقي وما دثر، ولكن الأحداث والشخصيات كلّها من وحي الخيال، وإن بدا، لبعض القرّاء وحتى النقّاد، أن البطل «الكامل كنتولة» شخص معروف بشحمه ولحمه. كانت غايتي أن أنفض الغبار عن جانب من ذاكرة المدينة؛ حتى لا يطوي النسيان خبره، وأصوِّر مكابدات شريحة تجترح قوانينها الخاصّة، لمواجهة التهميش والعنف والإقصاء المخطَّط. وفي اعتقادي ألّا وجود لمنطق غير منطق الرواية ذاته، أي أن تعبِّر عمّا سمّاه «لويس أراغون» «الكذب الصادق»؛ بمعنى عمل تخييلي، أحداثه مقنعة بشكل يوهم القارئ بأنها حكاية واقعية حصلت بالفعل. في تقديمه للترجمة الفرنسية لرواية «شتاينبك» «رجال وفئران»، يقول «جوزيف كيسيل» إن ما يمتاز به الكتّاب الأميركان من «دوس باسوس» إلى «فوكنر»، مروراً بـ«همنغواي»، أنهم يبدعون أعمالاً غاية في العمق والدقّة والجدّة، دون ادِّعاء أيديولوجي، وكأنهم يريدون القول إن ما نرويه حدثَ في مكان ما، وزمان ما، على هذا النحو الذي ذكرنا، وليس لنا فيه غير النقل بأمانة.

هل الرمز في رواية «آخر الرعية» مقصود؟ وهل يمكن كتابة التاريخ بأسلوب رمزي، دون الإفصاح عن المسمَّيات كما هي معروفة في التاريخ المدوَّن؟

– غالباً ما يستقي الأدب مادّته من التاريخ، بوصفه منهلاً من المناهل المهمّة الزاخرة بالشخصيات والوقائع والصراعات، خصوصاً في الحقب التي شهدت هزّات وتارات وتحوُّلات عميقة، لكنه لا يغترف تلك المادّة بعلّاتها، بل يعيد تشكيلها وفق رؤية مخصوصة. ذلك أن الأديب يتناول التجربة التاريخية بطريقة تُبايِن ما يقوم به المؤرِّخ، وبأسلوب يخالف المناهج العلمية الصارمة، ولغتها الجافّة. فإذا كان المؤرّخ يحرص على تبيُّن الحقائق التاريخية، ويدقِّق تواريخها وأعلامها، ويتقصّى أسبابها ونتائجها، فإن الأديب، برغم إحاطته بالظرف، مكاناً وزماناً، يهتمّ، أكثر ما يهتم، بالأشخاص الذين عاشوا تلك الأحداث الرئيسية أو الحافّة، ليصوِّر الواقع الذي كان، ويغوص في أعماق النفس البشرية يتعقَّب انفعالاتها، ويسبر أفكارها، ويجلو، من مواقفها، معاني إنسانية، وقيماً حضارية نبيلة، وقد يتَّخذها مطية لمساءلة الحاضر. لقد اختار «شكسبير»، مثلاً، مُعظم شخصيّاته المسرحية من فترات حرجة أو حاسمة في التاريخ الرومانيّ القديم والإنجليزيّ الوسيط، لكنّ أحداث التاريخ لم تسترعِ اهتمامه إلّا في القليل النادر؛ إذ إن اهتمامه الأساس كان منصبّاً على المشاعر الإنسانية التي تبلغ أعلى درجات التوتُّر في تلك الفترات التاريخية الدقيقة، التي قد يتقرَّر، في أثنائها، مصير أمّة بحالها، وربَّما مصير البشرية جمعاء. كذلك كان شأن «تولستوي» في روايته الشهيرة «الحرب والسلم»، حيث لم يستوقفه «نابليون»، القائد العسكريّ، بل «نابليون» الإنسان، بكلّ ما يعتمل في صدره منِ انفعالات، في لحظات قوّته ولحظات ضعفه، وفي حالات انتصاره وحالات انكساره. بل إن موضوع الرواية، بالأساس، لم يكن حول حقائق الحرب الفرنسية الروسيّة، بقدر ما كان تناوُلَ قضيّةً بالغة الأهميّة؛ هي الإنسان والحرب، أو الإنسان في مواجهة الحرب. أي أن الكاتب يستهدي بوقائع التاريخ القريب والبعيد، ويستحضر أعلامه لأغراض فنّيّة صرف، لا يهمّه من سِيَر الكبار غير المعاني التي قد يستخلصها منها لخدمة نصّه. يقول غوته: «لا توجد شخصية تاريخية في نظر الشاعر، فهو لا يريد إلّا تصوير عالمه الفنّي، لذلك فإنه لَشَرَف عظيم ينال بعض الشخصياتِ التاريخية، إذا أدرج الشاعرُ أو الأديب أسماءها في مؤلّفاته». في «آخر الرعيّة»، التي كتبتها ما بين (1995) و(2001)، أي قبل غزو العراق، لم يكن يهمّني الاسم الذي يتخفّى وراءه (الكبير)، فما هو، في نظري، إلّا رمز لطاغية، أحكم قبضة حديدية على شعبه، فآل به أمره إلى التيه والضياع، وعاد عليه استبداده بالرأي بالوبال.

كانت أعمالك (وماتزال) مثار جدل ثقافي، ونقدي؛ نظراً لاختلاف كتاباتك عن السائد، وبحثك الدائم عن المُغاير، فهل استطاع النقد أن يضع تجربتك الإبداعية في مكانها اللائق كما يجب؟ وهل، بالفعل، لدينا أزمة نقديّة؟

– النصّ ملك لي ما لم أنشره، فإذا نشرته حقّ للناس أن يقولوا رأيهم فيه، بحرِّيّة، ولا يضيرني أن يستحسنوه أو يستهجنوه، لأني الناقد الأوَّل لنصوصي، عسير في التعامل معها، ولا أنشرها إلّا إذا نالت مني رضى تامّاً. بالنسبة إلى القارئ العادي، تصلني، في الغالب، ردود طيِّبة، أمّا بالنسبة إلى النقد فهو مستويان؛ صحافي عارض يتابع ويبدي الرأي في ما يُعرض عليه، وقد أنصفني حينما كنت في تونس، وتغاضى عني بعد الهجرة. والثاني أكاديمي، اهتمَّ بنصوصي، تحليلاً وتدريساً وبحثاً جامعياً لنيل شهادة. النقد الأوَّل (الصحافي) مطروح على القارئ العادي، وإن ظلّ مرتبطاً بقيمة مَنْ يكتب، فقد كُتِبت عني مقالات جيِّدة، وأخرى هزيلة، تمنَّيت لو أن صاحبها لم يرهق نفسه في ما لا ينفع. أما النقد الأكاديمي فهو علّة النقد عندنا، فقد درج الأكاديميون على تلقُّف المناهج النقدية الغربية، وعرّبوا مصطلحاتها تعريباً زاد معانيها عسراً، وأمعنوا في التوسُّل بها حتى بعد أن ملّها الغرب، وأقبل على سواها، فتعلَّقوا بالبنيوية والألسنية والشكلانية والإنشائية والتداولية والسيميائية والنصّانية والتأويلية والتفكيكية، وما زالوا يلوكون مفاهيم عصيّة على الفهم، ويسقطونها على نصوص ليست من بيئتها، بدعوى أنها تسهم في استجلاء غوامض النصّ المدروس وفضّ مغالقه، والكشف عمّا استتر من معانيه، وما أشكل من رموزه. ولكنها تكاد تطبّق بصورة آليّة، وتسوّي بين الغثّ والسمين، فلا تدري، حين تنتهي من قراءتها، إذ كان النصّ المنقود جيّداً أم رديئاً. هم يعيبون على النقد الكلاسيكي انطباعيَّته، لكن، على الأقلّ، له الفضل في خلق ذائقة أدبية تميِّز بالسليقة، بين السليم والمعتلّ.

ماذا أضاف الربيع العربي لنصّك السردي؟ وهل أوحت الثورة لك برواية ما، أو قصّة؟

– أوّلاً، أنا من الذين يصرّون على أنها ثورات، والذين أنكروا عليها تلك الصفة، مثل «أدونيس»، بدعوى أنها تفتقر إلى برنامج فكري ثوري يمهّد لقيامها، ينسون الثورة الفرنسية التي صارت رمزاً لكلّ الثورات في العالم، ولم يكن مفكِّرو الأنوار طرفاً فيها إطلاقاً، كما علَّمونا خطأً في المدارس، فالذين قاموا بها هم نفر من أهل الصنائع والحِرَف ممَّن ضاقت بهم سبل العيش، ولا يحسنون حتى القراءة، فما البال بفهم فلسفة «روسو»، و«مونتسكيو»، و«فولتير»؟. والذين التحقوا بهم من المفكِّرين والخطباء لم يكونوا يرغبون في إزاحة الملك بل في تلطيف حكمه المطلق، وتخفيف سطوة الإقطاعيِّين والنبلاء. استلهمت من الثورة التونسية رواية «ورقات من دفتر الخوف»، ومجموعة قصص «جمر كانون»، وكتاباً في الفكر السياسي بعنوان «العتق والرقّ» عن ثورات الربيع العربي، وما تلاها. الثورة في تونس غيَّرت كلّ شيء؛ في الرسم والموسيقى والمسرح والأعمال الدرامية التلفزيونية والكتابة الأدبية، ولكن ليس دائماً نحو الأفضل، فقد ظهرت عندنا، مثلاً، روايات، وحتى ترجمات، باللهجة المحلِّيّة. الإضافة هي الحرّيّة التي منحت الجميع حقّ التعبير عمّا يشاؤون؛ هذا الحقّ مارستُه منذ مطلع التسعينات، فأعددت قصصاً لم تُنشَر إلّا بعد سقوط النظام البائد، بعنوان «لعنة الكرسي»، ورواية «آخر الرعيّة» التي نشرتها في «باريس»، وظلَّت محظورة لتناولها موضوع الاستبداد؛ أي أني لم أنتظر الثورة حتى أبادر بانتهاك المحظورات الثّقافيّة، إذ قرَّرتُ، منذ ذلك التاريخ، (مطلع التسعينيات) أن أكتب دون الخضوع للرقابة الذاتية، حتى وإن بقيت تلك النصوص في أدراجي.

أصبحت الرواية، اليوم، شديدة التكيّف مع راهن الواقع العربي، ومشتبكة معه في متغيِّراته، وتكتسب، كلّ يوم، المزيد من التقنيات والأساليب الجديدة، حتى تؤسّس خصوصيَّتها العربيّة، كيف ترى ذلك؟

– هي متكيِّفة منذ زمان بعيد، منذ «سارة»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«الدقلة في عراجيبنها»، و«ثلاثيّة» محفوظ، ملتحمة بواقعها تعالج أدواء المجتمع، وتصوِّر ما يعتريه من تحوُّلات لا تسير دائماً في الاتِّجاه المنشود، وما تغيَّرت إلّا الأساليب والأدوات الفنّيّة. ولكن اللافت، في هذا التغيير، نزوع أغلبية النقّاد، الأكاديميين بخاصّة، إلى الاحتفاء بمبحثَيْن أساسيَّيْن هما؛ ترهين التراث، والتجريب. الأوَّل بدعوى تأسيس رواية ذات خصوصية عربيّة، ولا ندري ما هي هذه الخصوصية، فهل نعود إلى مقامات الهمذاني، أم نحتذي بـ«كليلة ودمنة»، أم نتمثَّل كتب الأخبار القديمة «حدَّث فلان قال» على غرار محمود المسعدي في تونس؟ صحيح أن لنا تراثاً سردياً زاخراً، لكن فنّ الرواية فنّ غربي، بالأساس، حتى وإن أخذه «ثربانتس» عن حكايات «ألف ليلة وليلة»، كما أخذه «دانيال ديفو» عن ابن طفيل. والثاني هو التجريب، الذي يخطئ ويصيب، ولكن دون بلوغ برّ الأمان، والحال أن الشرط في مَنْ يجرِّب أن يحصل على نتيجة ترضيه. من حقّنا أن نطوِّر هذا الفنّ، بعد أن اكتسبنا شروطه، ولكن التطوير أمر فردي، فلا يوجد دليل استعمال ولا وصفة سحرية، إنما الأمر موكول لموهبة كلّ كاتب، فقد يفاجئنا كاتب عربيّ بنصّ على غير مثال، تتوافر فيه ما يمكن تسميته رواية عربيّة خالصة، ولكن دون أن يصبح أنموذجاً يسير على هديه الآخرون.

هل استطاعت الرواية أن تفكِّك التهميش الاجتماعي، والسياسي، والثقافي؟ هل أصبح المتن هامشاً، والهامش متناً، و- من ثَمَّ- لا وجود لمركزية غير مركزية الذات؟

– التهميش، بأنواعه، حاضر في شتّى الأعمال الروائية العربيّة، الكلاسيكية منها والحديثة. كذلك الذات، وإن اتَّخذت، في الأعوام الأخيرة، حجماً أكبر، لأسباب تخصّ أصحابها. ولكن ليست كلّ سيرة ذاتية جديرة بأن تُروى كما أسلفنا، فالتركيز على الذات دون تجربة عميقة في الحياة، ودون إلمام بعلم النفس وتحليله، يفقد العمل أهمِّيَّته. ومثل هذه الأعمال قد تبهر في البداية، لكنها تغدو مذمومة إذا استشرت، كما هي الحال في الروايات النسائية الفرنسية التي تركِّز على تجارب ذاتية من جهة الحياة المتحرِّرة، حتى في بعض الكتابات الذكورية التي تجعل ذاتها سُرّة العالم، ما دفع رئيس تحرير المجلّة الأدبية «مغازين ليتيرير»، في إحدى افتتاحياتها، إلى انتقاد هذه الظاهرة في الأدب الفرنسي، والتساؤل عن تجنُّبها الخوضَ في القضايا الكبرى على غرار الرواية الإسبانية، والأميركية، واللاتينية الأميركية.

حدّثنا عن رؤيتك للرواية التفاعلية، ومستقبل الأدب، في ضوء ما أصبحنا عليه بعد أن تَمَّ- بالفعل- كسر حواجز الواقع، والافتراضي، وامتزاجهما معاً في دواخلنا.

– هذا النوع من الكتابات لا يستهويني. حتى في الغرب، يظلّ محصوراً في بؤر ضيِّقة تبحث عن التميُّز والتفرُّد، لكننا نتلقَّفها بسرعة، ونحاول تعميمها واعتبارها الأنموذج الأمثل. ويحضرنا، في هذا الباب، مثالان؛ الأوَّل كتاب «خُلبٌ عامّ» للفرنسية «إمانويل بيرير»، يجمع بين مختلف أشكال الخطاب الحديثة، ويحمل قارئه على التنقُّل من فصل إلى فصل كما يتنقَّل على الشبكة، حيث تتجاور الرسائل الإلكترونية والرسائل الهاتفية القصيرة والحكايات والتحاليل وأغاني الراب والعامِّيّة، وتختلط الشخصيات الحقيقية من مثل: نيتشه، وتولستوي، وليفي ستراوس، ولويس دو فونيس، وجيمس براون، بشخصيات روائية وتلفزيونية معروفة لدى الفرنسيين، من مثل الكوميسار مولان، والمفتِّش ميغري، وشخصيات مبتكرة أو نكرات لا تحفل بها غير الجرائد، عند اقتراف جنحة أو جناية. وهو شكل جديد تقترح، من خلاله، الكاتبة «تصويراً بالإشعاع السيني للوعي الأوروبي في مطلع الألفية الثالثة» كما تقول. ورغم تتويج الكتاب بجائزة، لم يجد صدًى لدى القرّاء. والثاني رأس من رؤوس التجريب في الأدب العالمي، ونعني به الأميركي «دفيد فوستر والاس» الذي نشر رواية تجريبية من ألف صفحة، عنوانها «حذلقة لا متناهية»، وكان يؤمن بأن الأعمال التجريبية والطلائعية قادرة على الإمساك بالكيفية التي يلامس فيها العالم دقائق أعصابنا، فقد اعترف، في حديث طويل نُشِر في كتاب بعد انتحاره: «في الآونة الأخيرة، عدت إلى قراءة الأعمال الأكثر واقعيّةً، لأن أغلب «البدع» التجريبية عسيرة بشكل مقرف… والجهد الذي تتطلَّبه من القارئ يفوق بكثير ما تقدِّمه. حتى الأعمال التجريبية الكبرى، التي كنت مضطرّاً لقراءتها؛ لكوني أمارس اللون نفسه، كان ينتابني إحساس بأني أشبَهُ بطفل صغير، يتحدَّث الكبار فوق رأسه، وأن الكتاب الذي أقرؤه وُضِع للآخرين؛ كتّاباً ونقّاداً ومنظِّرين».

لماذا هاجمت، أكثر من مرة، الجوائز العربيّة؟، وما تقييمك للروايات الفائزة؟، وهل تستحقّ الاحتفاء بها، وترجمتها؟، وهل وصل الأدب العربي إلي اللّغات الأخرى، وأصبح جديراً بالاهتمام مثل الأدب الفرنسي، أو الإسباني؟

– هو ليس هجوماً بقدر ما هو استنكار لما آل إليه وضع الجوائز في أقطارنا. هذه الجوائز التي جُعِلت، في الأصل لتشجيع الكتاب وتحفيزهم على الإنتاج، فإذا هي، في عمومها تنقلب إلى أداة خلط وفوضى، تغمط التجارب الجيّدة، وتكرِّم كتّاباً متواضعين، منهم من لم يجرِّب السرد إطلاقاً، لاعتبارات بعيدة عن الأدب. في تونس، مثلاً، سُحِبت الجائزة ممَّن حازها، بعد إعلامه بالفوز، لتسند إلى كاتب مغمور تنازل عن الشيك لرئيس اللجنة، وأسندت إلى كتّاب من عمل أوَّل أكثر من مرّة. المصيبة أن هذه الممارسات لا تخصّ الجوائز العربيّة وحدها، بل تتعدّاها إلى الجوائز العالمية، كمنح لجنة «غونكور» جائزتها لكاتب مبتدئ، اختارته من أسفل الترتيب، حسماً لجدل حامٍ حول مرشّحَيْن آخرين، أو منح «نوبل» لفنّان الروك «بوب ديلان»، ما دفع «فرغاس يوسا» إلى القول في سخرية: «لا نستغرب إن منحت، في الأعوام القادمة، إلى لاعب كرة قدم».

ولعلّ خير موقف من الجوائز، ما قاله الإسباني «غويتسولو»، عندما مُنح جائزة «ثربانتس»، نوبل الآداب الناطقة بالإسبانية: «أن أكون محلّ تبجيل من المؤسَّسة الأدبية يدفعني إلى الشكّ في نفسي، ولكن أن أكون، في نظرها، شخصاً غير مرغوب فيه، فهذا يؤكِّد وجاهة موقفي، من حيث السيرة والعمل. من علياء شيخوختي، أحسّ أن قبول هذا التكريم كضربة سيف في الماء، كاحتفال لا فائدة من ورائه».

نبيل سليمان: الجوائز العربية لا تقيس تحوُّلات الكتابة الروائيّة

يواظب الروائي والناقد السوري نبيل سليمان على الإقامة في عالم الرواية، وتخصيب هذه الإقامة بالحفر عميقاً في ضروب المعرفة الإنسانية. مؤسّس «دار الحوار» السورية للنشر، ناقد متابع لتحوّلات التاريخ وانهيار أحلام الإنسان ومصائره في مشهد مكرور شرع في تشخيصه منذ صدور روايته الأولى «ينداح الطوفان» 1970، وصولاً إلى عمله الروائي الأخير «تاريخ العيون المطفأة» 2019، مروراً بإنتاج سردي متجدِّد وتجريبي أغنى مدوّنة السرد العربيّة…

في روايتك الأخيرة «تاريخ العيون المطفأة»، التي يمتزج فيها الحبّ بالسياسة ونقد السلطة، ويحضر فضاء المدينة كفضاء متخيَّل. ما الذي يميِّز خصوصية هذا الفضاء؟ وهل هذه الرواية تشخيص سردي مضاعف لأزمة واقعنا العربي؟

– تنوَّعت مدن رواياتي، فتنوَّعت فضاءاتها، وإن يكن الريف حضر، بقوّة، في روايتي الأولى «ينداح الطوفان»، وفي رباعية «مدارات الشرق»، بخاصّة. في هذه الرباعية، كان تطوُّر المدينة شاغلاً كبيراً خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، وبخاصّة في دمشق، وبدرجة أدنى في حلب، وحمص، واللاذقية، والسويداء، بل من المدن ما عُنِيَت «مدارات الشرق» بنشأته، مثل القامشلي. وإلى خارج سورية، انداح فضاء الرباعية إلى حيفا وبغداد والقاهرة وباريس… ولعلّ ما ميَّز هذا الفضاء المترامي، وما جعل للمدينة خصوصيَّتها في هذه الرباعية، هو أن عنايتي لم تنصرف إلى الجغرافيا أو الأكزوتيكا أو- على الأقلّ- لم تنصرف إليهما، فقط، بل انصرفت- أوّلاً وآخراً- إلى روح المدينة العمرانية، والتاريخية، والبشرية. وهذا ما حرصت على أن يتوفَّر، دوماً، للمدينة في مختلف رواياتي. فمن اللاذقية، التي عشت فيها مراهقتي، هأنذا أتكلَّم كأن هذه المراهقة انتهت (والعياذ بالله من مراهقة السبعين)، ثم أقمت فيها منذ 1978، وكما جاءت في رواية «ينداح الطوفان» أو في رواية «مدائن الأرجوان»، إلى تلمسان الجزائرية في رواية «دلعون» والتي عرفتها فقط في يوم واحد بِلَيْله ونهاره، أقول: في اللاذقية كما في تلمسان، في العيش المديد كما في اللحظات/ الساعات/ الأيّام الخاطفة، ما همّني إلّا روائح المدينة، إلّا العاشقات والعاشقين فيها، بل قل: إلّا العشق، إلّا الغناء، إلّا أطفال الشوارع، إلّا القمع السافر أو الموارب، إلّا المقابر التليدة والمقابر الطريفة، إلّا مثل هذا الذي أحسب أنه يميِّز مدينة عن مدينة، أو يجعل لمدينة خصوصيَّتها.

أمّا التحدي الأكبر، فلعلَّه كان في أن أوفِّر هذا التميُّز وهذه الخصوصية للمدينة المتخيَّلة التي لا تعيّنها الرواية، كما هو الأمر في رواية «السجن» ورواية «سمر الليالي» ورواية «تاريخ العيون المطفأة». هنا، مضت الكتابة الروائية إلى جبلّة جغرافية وبشرية وتاريخية أخرى، كانت وما كانت، كائنة وليست بكائنة، و- ربَّما- ستكون، بل لن تكون. وفي كلّ ذلك، يلعب التخييل كما يشاء، فإذا بالمدينة الروائية تلّوح لبيروت أو للرقّة، لهانوفر أو للحسكة، ودوماً تلوّح لأكثر من مدينة، تمتح من أكثر من مدينة، فتغدو مدينة كثيرة وهي واحدة، مدينةً جمعاً وهي مفرد.

أمّا تتمّة السؤال عمّا إن كانت «تاريخ العيون المطفأة» تشخيصاً سردياً مضاعفاً لأزمة واقعنا العربي، فغاية ما أدَّعيه أن هذه الرواية حاولت أن تساهم في هذا التشخيص، حاولت أن يكون لها اقتراحها الخاصّ لهذا التشخيص.

أين تقع هذه الرواية ضمن إحداثيات المشروع الروائي لنبيل سليمان؟

– ربّما، تكون لحظةً جديدة في هذا المشروع، أو مفصلاً؟ منعطفاً؟ لاأستطيع أن أحدِّد الآن، ولا أرغب في ذلك، فالتحديد متروك لما آمل أن أستطيع كتابته بعد هذه الرواية. الأمر متروك للمستقبل.

يتميَّز واقع المجتمعات العربية بعنف أحداثه وحركيَّتها، فهل ترى أن العمل الروائي يكتسب فرادته من هذا المرجع الحيّ، أم من عناصر وسجلّات أخرى؟

– لا يمكن للمرجع أن يوفِّر الفرادة الروائية تلقائياً؛ يتعلَّق الأمر بمقدار ما يسع الكاتب(ة) أن يوفّر من هذه الفرادة، وهذا لا يقلِّل من أهمِّية المرجع، أو من ضرورته.

في العقد الماضي، بلغت انفجارات المجتمعات العربية ما لم يكن يخطر في بال أكثر الناس تشاؤماً. في هذا العقد الثاني من القرن العشرين، بلغ عهر الأنظمة وفسادها وتغوّلها مدًى أقصى، ومثله بلغ العنف الأعمى، سواء أكان متجلبباً بمرجعية دينية معيَّنة أم كان مرتبطاً صريحاً، وبدرجة عميل بامتياز، بالأسياد الإقليميِّين والدوليِّين. ورغم أزمة النشر وأزمة التوزيع وأزمة القراءة، صدرت، في هذه الفترة، آلاف الروايات والمجموعات الشعرية، لكن ما توفّرت له الفرادة، حتى بدرجة وسط، لا يبلغ عشر الإصدارات، في أحسن الأحوال؛ فلماذا؟ كما هو السؤال مركّب، أو معقَّد، الجواب أكثر تركيباً وأكبر تعقيداً، ومنه أن الفرادة تقتضي، فيما تقتضي، أن يساهم النصّ في تفكيك المرجع الحيّ، الواقع الأغرب من الخيال. والفرادة تقتضي، بالقدر نفسه، وفي الآن نفسه، المغامرة في إبداع أشكال جديدة، أو الإبداع في الأشكال المتداولة. وبما أنني لا أملك (وصفة) طبيِّة للفرادة، فسأكتفي بهذا القليل/ الكثير الذي تعنيه الفرادة، وأترك الباقي لجذوة الإبداع، ولذوي الخبرة.

سبق لـ«هومي بابا» أن شدَّد على أن المقاومة تُدخل الجِدّة إلى العالم. إلى أي حدّ استطاعت الرواية العربية أن تلعب دور المقاومة، وأن تساعد على التخفيف من تمهزل جماليّات عالمنا الجديد؟

– هذا العالم، الذي تُدخل المقاومةُ إليه الجِدّة، هو عالمنا، العالم ما بعد الكولونيالي، كما حدَّد «هومي بابا»، وكذلك إدوار سعيد، وجاياتري سبيفاك، في تنظيراتهم لما بعد الكولونيالية. ثمّة من يذهب إلى أن المقاومة، بإطلاق، ما كانت يوماً إلّا قرينة الجدّة، لكن الأهمّ هو: (كيف) تُدخل المقاومة الجِدّةَ إلى العالم؟ ألا تُدخل بعض أنماط المقاومة السائدة القدامةَ إلى العالم؟ والأهمّ- ما دمنا بصدد «هومي بابا»- هو كيفية تطوير المقاومة في الفرجات التي تكون فيها على السلطة أن تمحو إمكانية المقاومة، وهذا ما عُنِي به «هومي بابا» عنايته بالهجنة على حساب الثقافة الوطنية.

أين الرواية العربية من هذا كلّه؟ أليس هذا بجوهر السؤال؟

– لقد أقبلت الرواية العربية، وبخاصّة في غُررها، سواء في العقد المنصرم أو في عقودها الطويلة، على (فرجات) الصراع بين السلطة فيما قبل الاستقلالات، وبخاصّة فيما بعدها، فأضاءت عتمات الفرجات، وحفرت فيها. وشهدت الحداثة الروائية العربية، بخاصّة، كيف يكون التفاعل المخصّب بين الهجنة والثقافة الوطنية، دون تقديم الأولى على التالية، وهذا ما يشير إليه الحضور المطَّرد للهامش الاجتماعي، والهامش الثقافي في الرواية العربية، مثله مثل التهجين اللغوي، وتعدُّد (الرطانات) والألسن.

نعت النقَّاد الرواية بنعوت عدّة، منها (النوع الحاجب)، و(ديوان العصر)، وحظيت بمكانة خاصّة عالمياً، ومنها ما حقّقت انتشاراً عالمياً. هل هناك أفق تلامسه الروايات العالمية، ولا تلامسه الروايات المشدودة إلى الخصوصيّات المحلّيّة؟

– كلّما نادى المنادي بعالمية الرواية، أسرعت إلى السؤال عمّا يعنيه. هل العالمية هي الرواية الأوروبية أم الأميركية اللاتينية أم اليابانية؟ هل العالمية هي الرواية التي تُترجم إلى لغة عالمية، كالإنجليزية أو الألمانية؟، ولماذا لا أقول: كالعبرية، ما دام للترجمة إلى لغة بعينها، من الحمولة السياسية مالها؟

ربَّما يبدِّد السؤال، أو يميّع السؤال، مثل هذا الذي أتحوَّط به لمناداة المنادي بالعالمية. وأرجو ألّا أضاعف التمييع والتبديد إن قلت: لماذا لا نعكس سؤالك، فيصير: هل هناك أفق تلامسه الروايات المشدودة إلى المحلّيّة، ولا تلامسه الروايات العالمية؟ ألا يعني لعالمية الرواية شيئاً، أن تُكتَب رواية غير عالمية عن مدينة الرقّة السورية، عندما كانت، بالأمس القريب، عاصمة للخلافة الإسلامية، كما فعلت روايات لشهلا العجيلي أو لمحمود حسن جاسم أو نبيل سليمان، حتى لو لم تترجم إلى لغة، ولم يحكم لها أو عليها (الآخر) العالمي بالعالمية؟

بين ما يوصف بالرواية العالمية، تجد ما لم تلامسه الرواية العربية إلّا عابراً، وعلى هَوْن، مثل روايات الجريمة أو الديستوبيا أو الخيال العلمي، فهل هذا قصور ينضاف إلى ما للرواية العربية من قصور عن العالمية؟

وبعد كلّ ما تقدَّم، أصدح، دوماً، بالدعوة إلى ترجمة ما تزخر به خزانة الرواية العربية من بدائع، ليس، فقط، لكي نزهو بالعالمية التي كثيراً ما تكون جوفاء، بل لكي ترفد روايتنا خزانة الرواية في العالم.

ما رأيكم في بعض الشعراء الذين تحوّلوا من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية؟ بماذا تفسِّرون هذا الانتقال؟

– قلّة قليلة من الشعراء، أولئك الذين وقعوا في غواية السرد، فأبدعوا في الرواية، مثل الذي تحقَّق لهم في الشعر، أو أفضل منه ومن هؤلاء: عباس بيضون، وعبده وازن، وحسن نجمي، وسليم بركات، ومحمد الأشعري، وأمجد ناصر، وميسون صقر…

من جهتي، أغبط الذين تتعدَّد مواهبهم، و- من ثَمَّ- حقول إبداعهم. ميسون صقر، مثلاً، فنَّانة تشكيلية بامتياز. جبرا إبراهيم جبرا شاعر وناقد وروائي، أسعد محمَّد علي موسيقار وروائي وناقد. وفي تاريخ الرواية، كما في تاريخ غيرها من الإبداعات، كانت لكاتبتها أو لكاتبها منجزات أخرى في السيناريو أو المسرح أو الإخراج السينمائي أو النقد الأدبي أو القصّة القصيرة… وسرّ ذلك الأكبر في تعدُّد الإمكانات، وفي الطاقة الإبداعية الخلّاقة. أمّا الغثّ- وهو كثير- فسرُّه في ركوب موجة الرواية، و/ أو الاستسهال والغرور والعجز عن التميّز في حقل معيَّن.

إلى أين تسير الرواية أمام الوسائط الجديدة، وانتشار تسميات كالرواية المترابطة، والرواية الرقمية والرواية التفاعلية…؟

– في الحمأة الإلكترونية، وعُقَد الانبهار التكنولوجي، أخذ ينتشر الحديث الذي جلّه لغط وأقلّه جِدّ، حول نهاية الرواية الورقية (الكتاب الورقي)، وقيامة أفنان من الرواية بمشيئة التكنولوجيا، فلا تعود كتابتها مفردة، ولا قراءتها.

كلّ مصادرة ضلالة، ولذلك أرفضها، ومن هنا، في الساحة متَّسع لكلّ لون وكلّ تجربة، ومن ذلك الرواية التفاعلية، والوصلات التي يتولّاها القرّاء/ الكتَّاب، ونشوة اللعب الكومبيوتري الذي يتهدَّده انقطاع الكهرباء في بلاد مثل بلادنا (سورية ولبنان واليمن والعراق وليبيا وفلسطين… ألا يكفي؟)، و- من ثَمَّ- توقَّف أو اختلاط الرواية الرقمية أو الرواية الترابطية…

وأكرّر السؤال للذين تطيشهم الحمأة الإكترونية، ويجزمون بأن مستقبل الرواية هو، فقط، برقمنتها وتفاعليَّتها وترابطيَّتها، سألت مراراً، وأكرر السؤال: كم بلغ، خلال ربع قرن، عدد الكتّاب الذين يحاولون (صنع) هذه الرواية في الولايات المتَّحدة أو في اليابان أو في أوروبا؟

من المؤكد أن هذا الواقع الجديد، عالمياً، قبل أن يكون عربياً، له فعله الروائي الذي تحدّه وتبخّسه الحمأة الإلكترونية التي تنضاف إلى ما يعوّق مستقبل الرواية العربية، ويعقّده، كما يفعل ما هو رائج من الغثاثة والجهالة والاستسهال وأشراك الجوائز والفوضى…

هل يمكن قياس سقف تحوّلات الكتابة الروائية بما يتوَّج من أعمال في الجوائز المكرّسة لهذا الفنّ؟

– لا، لا يمكن قياس تحوّلات الكتابة الروائية، لا في سقفها ولا في أرضها، بما تتوجَّه جائزة «بوكر» العربية، أو «كاتارا»، أو «الشيخ زايد»… مثلاً. وها هي الجوائز العالمية أمامنا، ليس ابتداءً بـ«نوبل» ولا انتهاءً بـ«غونكور»، لم تكرّس مقياساً للتحوّلات، وإن كانت ضرب أمثولات، وندر أن توفَّر مثل جدّيَّتها لجائزة عربية.