استاد 974.. في بيان الاستدامة

كيف يمكن قراءة عمارة مؤقَّتة؟ المُؤقَّت عَابِر وزَائِل، ويُحيل على المُندثر والطلل. رغم هذه الطبيعة الانتفائية، فإنّ ما يبقى هو قصة معمارية تحوَّلت إلى نص؛ نص شعري، تاريخي أو حكاية خيالية. يتعلَّق الأمر في هذه الحالة بزوالٍ بفعل اندثار أو حرب، لكن ماذا إنْ كان الزوال بتخطيطٍ مسبق؟ في هذه القصة المعمارية التي تسردها حاويات الشحن البحري، فإنّ ما يُروى لمرّةٍ واحدة هو بيان استنكاري لمجالنا الحيوي!

تغيير صورة العَالَم

بُعيد الحرب العَالَمية الثانية شهد النظام الاقتصادي العَالَمي نقلةً واسعةً بفضل استخدام حاويات الشحن التجاري عبر العَالَم. في مرحلةٍ لاحقة من ستينيات القرن العشرين، تأسَّس في إيطاليا تيار «الفن الفقير» على يد «جيرمانو سيلانت» (1940 – 2020)، مُبتكِر مفهوم «العِمارة الراديكالية».

أيةُ علاقة بين حاويات الشحن، والفنّ الفقير، والعمارة الراديكالية؟ جرت العادة في التجربة التشكيلية العربية، اقتران مفهوم «الفنّ الفقير» بتصوير: الزائِل، والمُؤقَّت، وتدوير المُتلاشيات في العمل الفنيّ. أما بالنسبة للإيطاليين -أقطاب هذا التيار-، فقد التزموا بإعلان حالة طوارئ عقب هيمنة النزعة الاستهلاكية منذ فجر الستينيات؛ «الفنّ الفقير» بحسب مؤسِّسه «جيرمانو سيلانت»، مفهومٌ واسع، وقد لا يعني شيئاً شعرياً أو مصوَّراً في حدّ ذاته، إنه «موقف» نقدي تجاه أزمات العَالَم الآنية في ذلك الوقت.

عشر سنوات بعد إعلان «الفنّ الفقير»، وتحديداً سنة 1976، سيقتحم هذا التيار (المابَعد-حداثي) مجال الهندسة المعمارية. وسيوجِّه المعماريون الراديكاليون، وفي مقدّمتهم «جيرمانو سيلانت»، نقدهم اللاذع لتصاميم «لو كوربوزييه» (1887 – 1965)، بِعلة تنميط حياة الناس وتكديسهم داخل قوالب خرسانية، كما لو كانوا سلعةً من سلع عالَم مابَعد الحرب.

حاول الراديكاليون المعماريون طرح بدائل هندسية من خلال وضع أساسات جديدة لتغيير واقع العمارة والفنون بصفةٍ عامة، غير أنّ حركتهم اليوتوبية لم تستمر أكثر من عشرين سنة، بعدما وجدت نفسها أسيرةَ التنظير دون تشييد مشاريع وظيفية على أرض الواقع. كما أن تواريها تزامن مع طلوع الرأسمالية الليبرالية ومفاهيم الحضارة الجديدة التي بات قياسها بعدد ناطحات السحاب. لكن، جو الهيمنة الذي أجهز على مبادئ «الراديكالية المعمارية» لم يمنع من استمرارها كمصدر إلهام للمجموعة الهندسية أرشيغرام في تصميمها الافتراضي الشهير «مدينة بلج-إن» (plug in city)، الذي خرج إلى العلن سنة 1966، وهي المجموعة التي ألهمت بدورها ثُلةً من المُهندسين، على رأسهم الإيطالي «رينزو بيانو»، في تصميم مركز «جورج بومبيدو» الوطني للفنون والثقافات بالعاصمة الفرنسية باريس، والذي أحدث افتتاحه سنة 1977، صيحة هندسية غير متوقعة.

لم تتحقق طموحات «الراديكالية المعمارية» في تغيير صورة العَالَم، فما غاية إنشاء فضاءات تحت تأثير الحنين هنا وهناك؟ من خلال تأمل استلهامات معمارية مُعاصِرة، فإنّ ما يبدو، للوهلة الأولى، تحية هندسية لمجاورة الحالمين الأوائل بعَالَم أفضل، سرعان ما ينبهنا إلى ممكنات العمارة عندما يتعلَّق الأمر باستنهاض الضمير العَالَمي، حتى وإنْ كنّا على يقين من أنه لن يستجيب!

 

 

شيَّد نفسه بنفسه!

تشغل أي عمارة حيِّزاً صغيراً من مكانٍ كبير، بمنظور أشمل إنها تشغل حيِّزاً من كوكبنا، يمكنها، فوق ذلك، مساعدتنا على فهم أعمق للمجال الحيوي في مُلازمته مفاهيم الاستدامة. هل يمكن العيش في عصرٍ رقمي كلياً؟ هل يمكن تصوُّر العَالَم هارباً نحو سماءٍ مجهولة؟! في مجالات التفكير والفنّ ما يوقظ العَالَم تاريخيا! وكان من تأثير ذلك نشوء الحركة البيئية، وربط مصيرنا مجدداً بماهية وجودنا الأرضي. إننا في أحلك الأزمنة التي تعيشها البسيطة؛ الأزمات تتعاظم في مشاهد قيامية! حرائق، فيضانات، انفجارات بركانية، ثمَّ هواجس حرب نووية… فيما العولمة تنسج كل ذلك من حولنا وفي كل مكان. بالنسبة للعلماءِ، فإنّ ما يشكِّل أولوية في توسيع نطاق التفكير، ينطلق من اعتبار الكوارث المناخية هي اليوم أسئلة استنكارية تطرحها الطبيعة، وقد حان الوقت للتعامل مع الأرض باعتبارها وطناً مهدّداً.

لم يكن التهديد المناخي مطروحاً بصورةٍ أولية، أو شاملة في أعمال المعماريين الراديكاليين إبان ستينيات القرن الماضي، واليوم تبدو مجالات العمارة، مرآةً إنسانية للنظر في استدامة مجالنا الحيوي، بالشكل الذي يجعل دق ناقوس الخطر وإيقاظ الضمير العَالَمي عمليتين غير منفصلتين عن التفكير الجمالي في العَالَم؛ فبدل التفكير في مصير الفنّ، يمكن التفكير في المصير عن طريق الفنّ. أليست هذه معادلة «الفنّ الفقير»؟

فبالقول إننا أمام ملعب ينسج مستقبله بزواله، أو إذا جاز القول، بترحاله، قول يضعنا بالضرورة أمام مساءلة زواله، وإنْ كان هذا الزوال يستعير من العابِر وجهاتٍ أخرى يتجلى فيها ومن خلالها، وقبل ذلك يحدّد برنامج عبوره المُؤقَّت من مكان النشوء الأول، مكان القصة المعمارية، ثمَّ بعد ذلك، ونحن نعرف مسبقاً، بأنه لن يدوم طويلاً حتى يتخلّى عن هويّته العمرانية الأولى. ما الذي يتبقَّى من الأثر في هذه الحالة؟ وما هي ماهية عبور معماري على هذا النحو؟ صورة غير مخلدة للمحو تتعارض مع ما يولده الفنّ هي صورة مستبعدة. وشيئاً فشيئاً يُؤَوِّل الأثر نفسه، لا في زواله وإنما في كتابته لقصة وجودٍ بديل ومستدام في مكانٍ آخر، ما دامت الذكريات العظيمة لا يجب أن تكون عابرة!

ما غرض الفنّ بالأساس؟ أليس هو تخليد الزائل؟ مثل أجسادنا العابِرة، تبدو الحالة المعمارية التي نحن أمامها في استاد 974، كما لو أنها متعلِّقة بملعب شيَّد نفسه بنفسه! من حاويات شحنٍ بحري نُقلت عن طريق أخرى استُخدمت بدورها، وهكذا باقي العناصر، صُمِّمت لتكون قابلة للفكِّ والنقل بالكامل إلى مواقع جديدة، كما أدت اختيارات التصميم والتدوير إلى تقليل التكلفة وتسريع التنفيذ. بصورةٍ جمالية أو بأخرى، تحيلنا المُنطلقات إلى مبادئ «الفنّ الفقير»، إلى أسلوب في الاستدامة يعكس في بُعده الإنساني دورة الحياة نفسها؛ فمن جهةٍ، هو ملعب مؤقَّت يتمُّ استخدامه مرةً واحدة، ومن جهةٍ أخرى، له وجودٌ بعدي يتمثّل في إعادة إعماره في وجهاتٍ جديدة. في الجهةِ الأولى يصوِّر هشاشة الوجود في زواله، وفي الثانيةِ يمتدُّ بوجوده ليدوِّن ماهية استدامته. ملعب ينبِّهنا بجمعه المُتناقضات في فلسفة تصميمه كمسرح هش لهشاشة الحياة نفسها! أليس المسرح بطبيعته فنّاً سريع الزوال؟!

***

 

 

الاستدامة في المُقدِّمة

بضعة كيلومترات تفصل مطار حمد الدولي عن استاد 974، واحد من الملاعب الثمانية التي شُيِّدت لاستضافة كأس العَالَم FIFA قطر 2022. موقع بارز يُطل على الخليج الغربي ومنطقة الأبراج جعل هذا البناء الاستثنائي أول مشهد يستقبل جماهير الحدث الكروي الضخم. ملعب مؤقَّت، يحتفي بالإرث البحري والتجاري لدولة قطر، ويخلَّد كأيقونة رمزية على مستوى الاستدامة والفلسفة المعمارية؛ فبتصميمه المُثير للاهتمام، أعاد الاعتبار لأفكارٍ معمارية يوتوبية لم يكن من المُمكن تخيُّلها، خارج الأطروحة النظرية على غرار «مدينة بلج-إن» (plug in city)، بل وحتى مركز «جورج بومبيدو»، الذي وإنْ كان راديكالياً فإنّه لا يُعَدُّ صرحاً مؤقَّتاً بالمفهوم النقدي والجمالي الذي تحقَّق في استاد 974.

صاحب هذه الرؤية المعمارية الجريئة، هو المهندس الألماني ألبرت شبير (1934 – 2017) ومجموعته الهندسية، التي اشتهرت بأسلوبها القائم على التشكيل المعماري من خلال إعادة تدوير المُكوِّنات الصناعية ووحدات التخزين في الأعمال المدنية، وكلها اختيارات معمارية «راديكالية» لها تأثير على زمن البناء وتخفيض البصمة البيئية، حيث بالأسلوب المُستدام الذي قاد المجموعة الهندسية إلى بناء استاد 974، حصل هذا الأخير على تصنيف خمس نجوم بموجب نظام تقييم الاستدامة العَالَمي (GSAS)، الذي تديره منظَّمة الخليج للبحث والتطوير (GORD).

بهذه الرؤية، التي تضع الاستدامة في المُقدِّمة، يتطلَّب تصميم ملعب مؤقَّت سيناريوهات هندسية ووظيفية مختلفة، ويُعَدُّ استاد 974 مثالاً ساطعاً لهذا السيناريو، فهو الملعب الوحيد لكأس العَالَم الذي لن يتمتع بتكنولوجيا التبريد، مكتفياً بالتهوية الطبيعية نظراً لقرب موقعه من الواجهة البحرية. كما سيتمُّ تفكيكه بالكامل واستخدام مكوِّناته في مشاريع رياضية خارج قطر وتحويل الحيِّز الأصلي للملعب إلى مساحاتٍ خضراء. إنه تصميم صعب التصديق على الورق، لكنه أصبح حقيقة لنموذج مبتكَر ورائد في تصميم الملاعب الأكثر استدامة في المُستقبل.

***

 

 

– يتسع استاد 974، لـ(40.000) مقعد، وقد دخل التاريخ قَبل استضافة أول مباراة له. فقد بُني بالكامل من حاويات الشحن البحري ووحدات مستقلّة من الصلب، وهو أول استاد كرة قدم مغطّى قابل للتفكيك بالكامل، ما يُشير إلى التزام قطر بالاستدامة الفعَّالة من حيث تكلفة الإنشاء وحداثة التصميم.

– لا يُشير الرقم (974) فقط إلى رمز الاتصال الدولي الخاص بقطر، بل يرمز أيضاً إلى عدد حاويات الشحن البحري التي استُخدمت في بناء الاستاد. وهو يقع في منطقة الميناء قبالة المنظر الساحر للأبراج، حيث سيشعر المُشجِّعون بالنسيم العليل القادم من الخليج العربي.

– عقب انتهاء البطولة، سيُعاد استخدام الحاويات والهيكل، وإنشاء مرافق تطلّ على الواجهة المائية تعود بالنفع على أبناء المُجتمع، بالإضافة إلى مركز حيوي للأعمال. ورغم الطبيعة المُؤقَّتة لاستاد 974 بموجب هذا المفهوم الجديد في بناء الاستادات، فقد تمَّ الحرص على أن يدوم إرثه لأجيالٍ قادمة.

– في مراحل التصميم وحتى الانتهاء من البناء عُرِفَ باسم المنطقة التي شُيِّد عليها وهي راس أبو عبود، الواقعة على بُعد 10 كم شرق وسط الدوحة، وعند افتتاح الملعب في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 خلال كأس العرب لكرة القدم أُعلن عن اسمه الجديد استاد 974. (اللجنة العليا للمشاريع والإرث، الموقع الرسمي)

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

 

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

على بُعد 20 دقيقة من مطار حمد الدولي وحوالي 10 كيلومترات من وسط الدوحة، يربض هذا الصرح الرياضيّ العريق، فهو الأحبّ والأقرب إلى قلوب القطريّين، نظراً إلى تاريخه العريق. كتلة مشعّة وأعجوبة هندسيّة. هكذا يُمكن وصف استاد خليفة الدوليّ الغارق في تيّارات الإضاءة الرقمية كما العريس ليلة الفرحة الكبيرة.

تُشكّل الرياضة عاملاً رئيسياً ومحورياً في رؤية قطر الوطنية 2030، إذ تطمح الدولة إلى أن تحتلّ مكانة رائدة عالمياً في هذا المجال، وأن تجمع العَالَم من خلال التنمية الرياضية المُستدامة، مستفيدة في ذلك من الإنجازات التي حقّقتها حتى الآن، فهي التي استضافت حتى اليوم ما يقارب من 500 فعالية رياضية دولية منذ عام 2005، شملت جميع أنواع الألعاب الرياضية ومختلف الفئات العُمرية.

«أهلاً بالجميع، في دوحة الجميع»، هو الشعار الذي أطلقته دولة قطر بداية في عام 1992 مع افتتاح بطولة «خليجي 11» لكرة القدم، واستمر حقيقة واضحة وضوح الشمس يشعر بها ويلمسها كل من تطأ قدماه دوحة العرب، للحضور أو للمُشاركة بمُسابقة رياضية من المُسابقات الكثيرة التي استضافتها البلاد، على مدى السنوات الماضية.

وهي تؤكِّد اليوم من جديد على أهمية وأحقية هذا الشعار من خلال استضافتها لمباريات كأس العَالَم على أراضيها، في سابقة هي الأولى على الصعيدين العربي والإقليمي.

هذا الشعار أيضاً لم يتوقف عند الاستقبال والترحيب الحميمين بضيوف عاصمة الرياضة العربية، بل شمل أيضاً نهضة عمرانية غير مسبوقة في مجال الملاعب والمنشآت الرياضية، تُوجت بتشييد وتطوير ثمانية ملاعب رياضية من طراز رفيع لاستقبال مباريات كـأس العَالَم، من بينها تحديث استاد خليفة الدولي.

شهد استاد خليفة الدوليّ الذي يستريح كالمارد الصنديد قُبيل المعركة، إقامة دورة الألعاب الآسيوية في عام 2006، وكأس الأمم الآسيوية في عام 2007، وكأس الخليج العربي في عام 1976 و1992 و2004 و2019. وهو اليوم، يشهد على محطّة مشرقة. فعندما حظيت قطر، في عام 2010، بامتياز استضافة بطولة كأس العَالَم 2022، اقتُرح استاد خليفة الذي افتُتح عام 1976 ليكون واحداً من الملاعب المُجهّزة لاحتضان الحدث المُنتظر. أُعيد افتتاح الملعب الوطنيّ رسمياً في عام 2017 بعد العديد من أعمال التحسين والتطوير الشاملة التي بدأت عام 2014، حيث استُبدل خلالها القوس الأيقونيّ، الذي انتصب في فضاء الملعب، كحربةٍ باسلة تُواجه الزمن، واستُخدم منصّةً لإطلاق الألعاب النارية خلال حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية. ورُفع مكانه قوس جديد، واستُكمل بقوس ثانٍ عانق وإيّاه السماء.

ينفرد الملعب بتصميمه الذي يجمع الطابع العريق بالشكل العصريّ، ويبدو للناظر من بعيد كلؤلؤة بيضاء صلبة تستريح في منطقة «أسباير زون». ثمَّ تستحيل اللؤلؤة -مع الدنو منها- قطعة هندسيّة فريدة، خارجة من حلم قطريّ، باتت أول استاد حول العَالَم يحظى بالتصنيف ضمن فئة الأربع نجوم من «المنظومة العالمية لتقييم الاستدامة»، لناحية التصميم والبناء والتشغيل لتقليل البصمة البيئية. فيتميّز الملعب بتقنية التبريد الذكيّة، التي تقلّل من استهلاك الطاقة، إلى جانب أنظمة الإضاءة المُوفِّرة للطاقة وتركيبات السباكة.

نحو كأس العَالَم

استعداداً لاستضافة كأس العَالَم 2022، كُلّفت شركة «دار الهندسة»، ومقرّها بيروت، بتصميم والإشراف على توسعة المدرج الشرقي لاستاد خليفة، مع مراعاة السلامة المعمارية للأيقونة الوطنية، لا سيما قوس الإضاءة الذي يمتد عبر المرافق والقاعدة الغربية، والذي أضيف إليه قوس آخر، فتحوَّلا إلى نقطة جذب لعشاق كرة القدم في الشرق الأوسط وآسيا، وشكّلا سمة واضحة من السمات المميّزة للاستاد.

شملت المُهمَّة أيضاً تصميم وتركيب حلول وتقنيات تبريد مبتكرة تستخدم طاقة أقلّ بنسبة 40 في المئة لتوفير بيئة مريحة وباردة سواء في المدرجات أو في ساحة اللعب. كما تمَّ تركيب مظلة سقف جديدة ضخمة لتوفير التظليل لجميع المُتفرِّجين وللحفاظ على درجة حرارة مريحة للمُشاهدين والرياضيين.

كذلك، شملت خطة التحديث تنسيق الحدائق وجميع الأنظمة الكهروميكانيكية والبنية التحتية وإدارة النفايات الصلبة. وتألفت الأعمال الكهروميكانيكية من إمدادات الطاقة والتوزيع والإضاءة وأنظمة التيار المُنخفض، بما في ذلك شبكة الكابلات المُنظمة للصوت / البيانات، الشبكة اللاسلكية، كاميرات المُراقبة، الوسائط السمعية والبصرية لأماكن الشخصيات المُهمَّة والعناوين العامة والبنية التحتية للبث التليفزيوني.

ووفق سياسة الاستدامة التي انتهجتها دولة قطر، طوّرت «دار الهندسة» نظاماً للصرف الجوفيّ، وأعدّت نظاماً شاملاً لإدارة النفايات الصلبة. وشمل تطوير استاد خليفة الدولي تصميم إمدادات المياه ومكافحة الحرائق وجمع مياه الصرف الصحي، بالإضافة إلى تصريف مياه الأمطار وشبكات الري إلى جانب محطات الضخ والخزانات ذات الصلة. كلّ ذلك، جعل الاستدامة جزءاً لا يتجزأ من مستقبل هذا المكان التاريخيّ، وبات متوافقاً مع معايير الـ«FIFA»..

إبداع في التصميم

يُشبه استاد خليفة الدولي محار اللؤلؤ؛ يمدّ قوسيه نحو الفضاء ويفتحهما لاحتضان اللاعبين و40 ألف مشجّع. يؤكّد أن الإبهار القطريّ لا ينضب، وأنّه لا مجال للتراجع في السباق على الإبداع وانتزاع الألقاب واحتلال الصدارة. فقد جنّدت قطر كلّ ملاعبها ومرافقها لاستضافة الحدث الرياضيّ العَالَميّ الأبرز، لتبدأ مرحلة جديدة من تحدّي الظروف المناخية وتُعلن نجاحها في القطاع.

تمَّ تجديد الواجهة وإمداد السقف في جميع أنحاء منطقة المُشاهدين بشبكة معقَّدة من الكابلات الفولاذية المشدودة التي تزن 4000 طن وتدعم 92 لوحة تشكلها. الحلقة الداخلية للسقف متّصلة بالقوسين الشاهقين بواسطة كابلات شدّ، وقد تمَّت تغطية أسطح المدرجات وجزء من الملعب بغشاء من ثلاث طبقات تمَّ استخدامه لتلبية متطلبات «FIFA» فيما يتعلَّق بأشعة الشمس في الملعب.

يتكوَّن المدخل الرئيسي لاستاد خليفة من منحدرين ينتهيان تحت مظلة كبيرة يرتكز سقفها على (6) أعمدة معدنية أنبوبية مطلية باللون الرماديّ، شأنها شأن معظم الأنابيب التي تشكّل هيكل الواجهة، والتي يمكن رؤيتها حول المُحيط. واجهة المظلّة الكبيرة مقوّسة وتبدأ في الارتفاع من عمودين متينين يقفان على جانبيها. بالإضافة إلى ذلك، يحتوي الملعب على عدد من المداخل المُوزَّعة على طول محيطه، والتي يمكن الوصول إليها عن طريق السلالم.

في الجناح الشرقي، أُضيف مبنى جديد يحتوي على صالات كبار الشخصيات، و61 جناحاً مخصَّصاً للضيوف، بالإضافة إلى ردهة خاصة بالإعلاميّين وصالات طعام ومحلات تجارية، إلى جانب غرف متعدِّدة الاستعمالات ومركز صحيّ، ومتحف رياضي وغرف تغيير الملابس.

وإذا كانت «الرياضة ذوق وفن» على ما تخبرنا أغنية «هلا فيكم» التي باتت نشيداً مرافقاً لفعاليات «كأس الخليج العربي 24» عام 2019، فإنّ ممارسة الرياضة في استاد خليفة الدوليّ تكتسب طابعاً مميّزاً وتضمن للجمهور تجربة أكثر من ممتعة وأكثر من رائعة.

سينظر العَالَم إلى أسلوب الحياة الصحي والثقافة الرياضية اللذين سيعزّزهما استاد خليفة، وبمجرد انتهاء كأس العَالَم، ستنضمّ مرافق مثل «مركز حمد للألعاب المائية»، و«حديقة أسباير»، ومراكز الرياضات النسائية المُتخصِّصة إلى منطقة «أسباير»، والتي ستكون إضافة ضخمة للمرافق. كذلك، ستنضمّ «أكاديمية أسباير»، ومركز تعليم وتدريب على أحدث طراز، إلى منطقة «أسباير زون». وهذا بدوره سيجذب الرياضيين من جميع أنحاء العَالَم، وسيكون خطوة كبيرة إلى الأمام في جذب مواهب الأجيال من جميع أنحاء البلاد.

كلّ ملعب سيستضيف مباراة خلال كأس العَالَم في قطر سيكون له إرث معيَّن يحمله ذخراً إلى الأجيال المُقبلة. وبالنسبة لاستاد خليفة الدوليّ، سيكون هذا الصرح من أفضل الأماكن التي يمكن زيارتها في الدوحة حتى بعد انتهاء فعاليات كأس العَالَم، إذ سيكون جزءاً من إرثٍ دائم سيتجاوز الحدود.

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

هناك مقولة مفادها أن فن العمارة الرفيع يقدِّم للناس مكاناً للاجتماع واللقاء، وليس من الضروري أن يكون هذا الجمع واللقاء بين المُتماثلات، بل إنه، وبالمُستويات العليا، ومن خلال فكرة ورؤية خلّاقة، يجمع حتى بين المُتناقضات. هذا ما يجسده تصميم (استاد مؤسَّسة قطر)، أو كما يسمَّى أيضاً (استاد المدينة التعليمية)، ليس بجمعه بين عالَمي الرياضة والمعرفة فحسب، بل بجمعه بين الطرازين المحلي والعَالَمي، وانفتاحه على العَالَم من خلال حدث المونديال.

«حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة» هو شعار تعريفي ناطق نجده في صفحة موقع استاد المدينة التعليمية، ليصف اعتزاز مؤسَّسة قطر الرائدة بهذه الإضافة المُهمّة لمجموعة المباني الحديثة التي تشكِّل حرم مدينتها التعليمية الاستثنائية. إنه «جوهرة التاج» لعمارة المباني الحديثة التي يزخر بها الحرم التعليمي، أو، إذا توخينا الوصف من تراث صيد اللؤلؤ في الخليج، إنه «الدانة الكبرى» في عقد لآلئ مباني المدينة التعليمية.

عقد لآلئ العمارة الحديثة يكاد لا ينقطع في قطر، تلك المباني التي صمَّمها نخبة من المعماريين من الدرجة الأولى في العَالَم أصبحت تزين هذه الدولة وتعبِّر عن إيمانها بفكرة مفادها أن العمارة الراقية الجميلة لها فضيلة تحسين بيئة حياة الناس ورفع مستوى معيشتهم.

معمارياً، استثمرت قطر في كافة المجالات، في الثقافة من خلال متحف الفن الإسلامي، ومتحف قطر الوطني، والمكتبة الوطنية، وكلها من تصميم معماريين حاصلين على جائزة «البريتزكر»، وهي أعلى شرف يمكن أن يحصل عليه معماري على مستوى العَالَم. واستثمرت بالمُقابل في ترميم التراث المحلي أيضاً بهدف إعادة تكييفه للاستعمال الحديث، والأمثلة كثيرة مثل سوق واقف، الذي تمَّ ترشيحه للفوز بجائزة «الأغا خان» للعمارة في عام 2010 التي أقيمت في العاصمة القطرية الدوحة، وسوق الوكرة التاريخيين، إضافة إلى الاستثمار الحثيث في إيجاد بنية تحتية متقنة للدولة ككل.

كل هذه الإنجازات أتاحت لدولة قطر أن تتقدَّم بعرضها لاستضافة المُونديال بثقة وجدارة، فالفوز بتنظيم حدث كهذا لا يتمُّ من خلال بناء مرافق رياضية فحسب، مهما كانت متقنة، بل يحتاج إلى بنية تحتية وبيئة عمرانية متطوِّرة، فالمدينة والدولة ككل هنا هي مسرح الحدث. من هذه الأرضية، من الاستثمار عبر عقود في التنمية الثقافية والاجتماعية والعلمية، جاء دور تأهيل وبناء الملاعب الرياضية الثمانية التي ستحتضن المُباريات، بعمارة رياضية مميَّزة تكافئ العمارة المدينية الموجودة.

الاستاد ومؤسَّسة قطر

مؤسَّسة قطر ومدينتها التعليمية من أهم أوجه قطر الحضارية، وهي عالَم مصغَّر مكثف لطموحات قطر في الاستثمار في عقول شباب المُستقبل. كانت هذه المُؤسَّسة، لأكثر من عقدين من الزمن، تقود الابتكار العلمي وريادة الأعمال وتعزِّز التنمية الاجتماعية وثقافة التعلُّم مدى الحياة، وذلك بهدف تجهيز أذكى العقول لمُواجهة أكبر التحديات في المُستقبل.

ضمن حرم هذه المُؤسَّسة الرائدة، في منطقة الريان، تمَّ إقرار بناء الاستاد الكبير لخدمة المدينة التعليمية، ودُشِّن في 15 يونيو/حزيران من عام 2020. وبعد أن نالت قطر، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2010، حق استضافة نهائيات كأس العَالَم 2022، تمَّ إقرار رفع جاهزية الملعب، بحيث يتسع لـ(40) ألف متفرج.

كان الاستاد الذي تمَّ التخطيط له كجزء من المُجمع التعليمي الضخم في الدوحة يُعرَف في البداية باسم استاد المدينة التعليمية، وأعيد تسميته لاحقاً للترويج لمُؤسَّسة قطر. ومنذ البداية، كان جزءاً من عرض قطر لاستضافة كأس العَالَم 2022، وكان تصميمه الأكثر اتساقاً من المراحل المُبكِّرة إلى النهائية.

بالإضافة إلى استيفاء موجز النص الأصلي لمُتطلبات أمناء مؤسَّسة قطر، بتصميم مجمع رياضي رئيسي للمدينة التعليمية، أراد المعماري المُصمم «فينويك إيريبارين» استغلاله كنقطة جذب بصرية واجتماعية رئيسة داخل الحرم، وحقق ذلك بوضع المبنى بشكلٍ ملائم وسط واحة خضراء مصطنعة تتخللها ممرات ومناطق مظللة وساحات تفاعلية عامة. علاقة الاستاد بموقعه علاقة درامية، حيث صُمِّمَ بشكلٍ يصل الزائر إليه بعد تحضيرات نفسية عبر محور طويل يلوح في نهايته هيكل الملعب.

ويبعد استاد المدينة التعليمية 10 كيلومترات عن وسط الدوحة، ويتمُّ الوصول إليه من منطقة الكورنيش، ثمَّ شارع «خليفة» وبعده شارع «اللقطة»، حتى الوصول لحرم المدينة التعليمية. أما بمُناسبة المُونديال فستكون هنالك ترتيبات أخرى، بحيث يصل الزائر عن طريق المترو أيضاً، وستكون أقرب محطة هي محطة المدينة التعليمية عبر الخط الأخضر، ويمكن منها التوجُّه إليه مشياً على الأقدام لمسافة قصيرة، أو عن طريق سيارات الأجرة، بالإضافة إلى الترام.

عمارة الاستاد

الشكل العام للاستاد هو مستطيل كبير منبثق من شكل أرض الملعب العشبية الخضراء، وهي تملك بالطبع نفس المُواصفات المعمارية النظامية لـ«الفيفا»، من حيث الأبعاد. وكلما ابتعدنا عن حدود مستطيل الملعب نحو الخارج، تصبح الزوايا القائمة للشكل المُستطيل منحنية، ربع-دائرية، في القشرة الخارجية المُغلفة للمدرجات، ليقترب شكله بهذا من الشكل البيضاوي. ويحد كل ضلع من أضلاع الملعب مدرجات على ثلاثة مناسيب، يفصل بينها ممرات المُشاة، ومن ثمَّ، تأتي القشرة المغلفة والمظللة لهذه المدرجات.

طريقة تصميم هذه القشرة هي ما يعطي المبنى صفته المميزة من الناحيتين البنيوية والبصرية، تلك الصورة الشبيهة بهندسة الألماس البورية. وقد أطلقت عليها إحدى الجهات الإعلامية بجدارة اسم «ماسة قطر المُونديالية»، بينما أعطتها جهة إعلامية أخرى وصف «ماسة في قلب الصحراء».

وسوف يلاحظ المُشاهد عن بُعد بأن جسم المبنى يتلألأ بسبب كثرة الوجوه المُكوِّنة لسطح قشرته المغلفة من جهةٍ، ومادته المعدنية الصقيلية التي تشبه المرآة من جهةٍ أخرى. تعكس هذه السطوح الضوء، في الليل والنهار بمشاهِد وهويّة دائمة التجدّد.

الهويّة البصرية للمبنى

لم يعانِ المعماري كثيراً في اختياره لشكل يعبِّر عن هويّة المكان خصوصاً وتاريخ قطر القديم عموماً. الهويّة التي فرضت نفسها هي هويّة «محايدة» تعكس هويّة العلم ومنهجه الموضوعي المجرد، كون الموقع هو المدينة التعليمية، وكون هذا الاستاد ليس الاستاد الرئيسي المحمل بعبء عكس صورة وهويّة قطر وتراثها. فقد حمل هذا العبء كلٌّ من استاد البيت، الذي بُني على شكل خيمة عربية مستوحاة من التراث العربي في منطقة الخليج، واستاد «الثمامة» المُستوحَى شكله من غطاء الرأس التقليدي «القحفية». في استاد المدينة التعليمية لجأ المعماري في تصميمه مباشرةً إلى المولدات الوظيفية والتقنية التي تتطلبها عمارة الاستاد – تصميم معاصِر بمُساعدة الكمبيوتر.

يستخدم المعماري نفس الوحدة الهندسية (المعين) التي استخدمها لاحقاً المعماري الذي صمَّم استاد «الثمامة»، ناشراً إياها على سطح أسطواني منحني. بينما نجد أن استاد المدينة التعليمية يعتمد هذه الوحدة الهندسية، لكنه يقسمها إلى مثلثين اثنين، بمُستويين مختلفين ليتمَّ التوليد الهندسي للمنحني العام لجسم الاستاد، وذلك بتكرار هذه الوحدة البنائية بشكلٍ بلوري فصيح (articulated)، أي دون أن تذوب في السطح المنحني كما في استاد «الثمامة».

هذه الألواح المثلثية المُنتشرة على كامل السطح المغلف للمبنى هي عبارة عن لواقط شمسية. ولابد من الذكر هنا أن التحكُّم في أبعاد الوحدات المثلثية/المعينية كي تدور حول سطح منحني كهذا يحتاج في تصميمه إلى الاستعانة بالحاسوب (CAD) بسبب الارتيابات المُتغيِّرة والصغيرة بين كل وحدة وما يجاورها من الوحدات. والنتيجة هي تأثير بصري زخرفي معاصِر (بارامتري) أخاذ، مولَّد باستخدام برنامج حاسوبي خاص.

على الرغم من ذلك، يبقى هنالك تأثيرٌ يلمِّح إلى تراث الزخرفة الإسلامية المحلية ولا يصرِّح به. ويمكن القول إن استراتيجية «التلميح» التصميمية هذه، تبعد الشعور بالغُربة والغَرابة عن المُشاهِد المحلي من أهل البلد، وبنفس الوقت تُشبع توقع الزائر الأجنبي بوجود لمحة محلية في التصميم. هذا ما أسميه الشعور بـ«الألفة الحرجة critical familiarity»، حيث يشعر الناظر أنه يرى وجهاً يعرفه، لكنه لا يستطيع أن يضع له اسماً محدَّداً.

لعلَّ توظيف العلم والتقنية في تصميم هذا الاستاد يأخذ أهم أبعاده في استراتيجيات التحكُّم بالحرارة ضمن تحديات مناخ قطر الصحراوي الحار. ضمن هذا الإطار، تمَّ استخدام تقنية تبريد مباشر لوعاء خاص موجود أسفل كل مقعد من مقاعد المُتفرِّجين، مما يضمن راحتهم حتى في أشد أشهر الصيف حرارة، فأيٌّ كانت درجة الحرارة في الخارج يجب ألّا تزيد درجة حرارة الاستاد في الداخل على 24 – 27 درجة مئوية. على كل حال، من المُفترَض أن تكون الحرارة قد انخفضت شدتها في شهر نوفمبر، خلال الفترة التي سوف يستضيف فيها هذا الملعب عدداً من مباريات المُونديال.

رغم كون التحكُّم الحراري أهم التحديات التي تمَّت مواجهتها إلّا أن التوظيف التقني الفائق ينسحب على كل فعاليات الاستاد وأنظمة الأمان فيه، وذلك بما يتوافق مع أحدث المُتطلبات والمعايير الأولمبية الدولية، (خاصة معايير الفيفا الصارمة).

الاستدامة والتراث

تصنَّف المدينة التعليمية برمتها كمنطقة خضراء مستدامة، وقد حصل مشروع الاستاد فيها على تصنيف خمس نجوم بموجب نظام تقييم الاستدامة العَالَمي (GSAS)، مما يجعله أول ملعب في العَالَم يحصل على مثل هذا الاعتراف. بالإضافة إلى ذلك، يأتي نحو (55 %) من المواد المُستخدمة في المشروع من مصادر مستدامة، بينما تحتوي (28 %) من مواد البناء على محتويات مُعَاد تدويرها.

ومن الأمور المُميَّزة في هذا الصدد تصميم الألواح المعدنية المثلثية، التي تغطي الملعب بشكلٍ كامل من الخارج، والتي تكمن مهمّتها الأساسية في توليد الطاقة الكهربائية اللازمة للملعب، عن طريق أشعة الشمس الطبيعية. هذه اللواقط ستوفِّر ما يصل إلى أكثر من (20 %) من الطلب على الطاقة خلال أيام الفعاليات. أما في الأيام العادية، فستظل هذه اللواقط فعَّالة، حيث ستزوِّد الشبكة المحلية بفائض الطاقة المُتولِّدة منها على الدوام. وهكذا، بنظرةٍ ما إلى المدينة التعليمية، نظرة من الخيال العلمي، يمكن اعتبار الاستاد برمته كلاقط شمسي ضخم!

بعد انقضاء هذا الحدث الجميل، وكما يقول المثل الإنجليزي «كل الأشياء الجميلة لها نهاية»، لن يبقى الاستاد أطلالاً تذكِّر بالحدث والأيام السعيدة التي مرَّت عليه، ولكنه سوف يبقى إرثاً وشاهِداً على الحدث وصرحاً تذكارياً مستداماً لخدمة مجتمع المدينة التعليمية، كما حدث في أمكنة أخرى من العَالَم، حيث يحضرني هنا استاد أولمبياد طوكيو 1960، على سبيل المثال لا الحصر.

يدخل هذا ضمن سياسة «الإرث» الحصيفة التي صدرت بمرسوم أميري سنة 2011، وتمَّ تفعيل هذه «السياسة» بتسمية مبتكَّرة تمَّ دمجها بمهمَّة لجنة إنجاز المشاريع، فأصبحت تعرف بـ«اللجنة العليا للمشاريع والإرث».

الاستدامة ضرورة عالَمية، أما الإرث والتوريث، فهو فضيلة إنسانية، ومن هذا المُنطلق، لن يعود الإرث والتوريث للملاعب بالفائدة على الصعيد المحلي فحسب، بل سيعمُّ الخير أيضاً دولاً نامية تفتقر للملاعب. في حالة استاد المدينة التعليمية، بعد الانتهاء من حدث المُونديال سيتمُّ تفكيك 25 ألف مقعد من أصل 40 ألفاً وإرسالها إلى أمكنة أخرى في حاجة لها. ولكن ستبقى «ماسة الصحراء» حيَّة، بملعبها الرئيس وملاعبها الأخرى، باللاعبين من طلابها وعلمائها، وبكونها مولداً ضخماً للطاقة الكهربائية – والمعنوية في البلاد!

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

في هذه الجولة المعمارية والوظيفية لملعب الثمامة، سيرافقنا المُهندس المعماري والفنَّان التشكيلي الأردني محمد الدغليس، للحديث حول الرسالة والمسؤوليّة الثقافية والتراثيّة للدولة، وتلازُم الناحيتين الجماليّة والوظيفيّة، ووجهة نظر الغرب والأجانب عنّا وعن تراثنا واستثماره في مجالاتٍ عديدة، وكيف يمكن للأصالة والحداثة أن يلتقيا معاً في قطر، لتشكيل هذا النموذج الفنّي الرياضي… وقد شكَّل هذا الملعب أيقونة موندياليّة لافتة، حيث افتتحه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كخامس ملعب مونديالي، تحضيراً لبطولة كأس العَالَم لكرة القدم (قطر 2022).

يرى محمد الدغليس أنّ دولة قطر، استطاعت أن تقدِّم تاريخها وثقافتها بكلّ إمكانياتها الماديّة والمعرفيّة وبكلّ اقتدار، انسجاماً مع الحداثة العَالَميّة واتساقاً مع الثراء والإرث الثقافي والتاريخي الذي تتوافر عليه. فملعب الثمامة آبدة معماريّة رائعة من أوابد تشجعها الدولة وتهيئ لها الظروف؛ إذا ما عرفنا أنّ المُسمّى بحدّ ذاته هو مسمّى شعبي وتراثي يحمل اسم شجرة ضربت جذورها في صحراء قطر، فشكّل الملعب وتكوينه الذي يشير إلى ما يوضع على الرأس احتراماً وتقديراً واعتزازاً في مناسباتنا الوطنية والمُجتمعيّة وأعيادنا الدينية، يؤكِّد رمزية تلك الطاقية البيضاء الحامية والمزيّنة لهاماتنا، وهامات أطفالنا.

هل هناك رسالة ومسؤولية مجتمعية وتراثية وأصالة لدى الفنَّان والمعماري في مثل هكذا أعمال كبيرة ومعالِم ظاهرة للناس في البلد العربي بشكلٍ عام؟ هذه الرسالة كيف يتمُّ توظيفها معماريّاً، وهل هناك اختلاف مع الحداثة، وهل يستحي الإنسان العربيّ من تراثه والمعماري من أبنيته القديمة؟! خصوصاً وأنّ في قطر والخليج رسالة واضحة في أنهم يعمدون إلى أبنية تراثية فيجعلون من هذه الأبنية منتديات ومؤسَّسات ثقافية؟!

حول هذا المحور يرى الدغليس أنّ للمعماري المُميّز دوراً هامّاً؛ فهو المُؤهَّل والقادر على إبراز الوجه الحضاري والتطوُّر المعرفي والثقافي، والمُستوى الاجتماعي، والقدرات الماديّة والعلمية، وحتى عناصر القوّة والتمكّن لأيّ أمة من الأمم في حقبة زمنية معيّنة، تتطلَّع فيها للمُستقبل، من خلال ما يبدعه من مبانٍ وطرق وجسور ومدن وتنسيق أراضٍ، والأوابد هذه بالتأكيد هي بمثابة التيجان التي تثري النسيج العام لمُكوّنات البلد العمرانية.

العمارة فنٌّ تطبيقي، كما يقول المُهندس الدغليس، فهي فنٌّ راقٍ نعيش بداخله، ونمارس نشاطاتنا الحياتيّة بمجملها بين جنباته، وفي الوقت ذاته هي المعرض الحيّ الدائم الذي يشاهده القريب والغريب، الصغير والكبير، ويبقى شاهداً على المرحلة الحضارية والثقافية التي عشناها ونعيشها.

كما أنّ اعتزاز الفنَّان والمعماري بتراثه والالتزام بهويّته وانعكاس ذلك على إبداعاته وتطوير قدراته ومنتجه، يتماهى حتماً مع الحضارة العَالَمية والحداثة التي لا تتناقض أبداً مع هذه الأهداف، لتقديم رسالة صادقة لكلّ متلقٍ ومتابع، فتؤدي إلى احترامه وتقديره وإجلاله دون أن نمنع انخراطه في العَالَمية..

الوظيفة والجمال..

في ملعب الثمامة، تقترن الناحيتان الجمالية والوظيفية؛ باعتبارهما عماد أيّ عمل فني يدوم، وفي ذلك منافع عديدة، وحول جدليّة أن نعزل الوظيفة عن الجمال في أبنيتنا ومعمارنا وفي ما نقدّمه للعَالَم من تراث، أو سؤال الحداثة والربط بين الأصيل والحديث في أعمال المعمار. وفي هذا الصدد يرى الدغليس إنّ من بين معماريي العَالَم مَنْ يهتم بالشكل المُثير، وهؤلاء يُسمّون بـ(الفورملزم)، وهناك مَنْ يولي الناحية الوظيفية عنايته واهتمامه الأكبر وهؤلاء هم (الفنكشنلزم)، أمّا المعمار المُتمكن المُتكامل، فهو الحريص على الإبداع المُبهر في التصميم الداخلي الوظيفي وذلك بتأمين الوسط الأمثل للفعالية المُعدّ لها المُنتج، من راحة وظروف معمارية للضوء والشمس والتهوية والحركة والراحة النفسية أيضاً، وفي الوقت نفسه يولي التشكيل الخارجي والتلوين والتكتيل العناية اللازمة، وبما يعكس المُعطيات المحليّة والبيئية والتراثية والوسط المُقام به المبنى، وحتى استعمال المواد المحلية المُتوفّرة في موقع الحدث، لتصبح اللوحة مكتملة الأركان.

وهذا ما يلمسه الدغليس بوضوح في مبنى ملعب الثمامة، عندما يتفحّص مكوّناته الداخلية وسعته التي تتناسب مع الحدث الكبير، وانفتاحه على النور والسماء وعناصر الاستدامة التي تحيط به في وسط أخضر يربض فيه، مثل درّة بيضاء تسبح في خضرة غنّاء، هذا إضافة إلى تسخير ما أفرزته الحضارة من إمكانيات استثمار الطاقة الشمسية في خلق الجوّ المُناسب لفعالية يجتمع حولها أربعون ألف شخص من شتى بقاع الأرض، فهو بكلّ صدق قد أمّن كلّ ما يصبو إليه المعماري من عناصر إغناء الوظيفة التي أنشئ من أجلها.

وحول الشكل الخارجي، فإنّ شكله الخالي من التعقيد والحامل للعفوية والبساطة التي تحقق الجمال المطلوب ولونه الأبيض العاكس للحرارة، والمُنسجم مع النسيج المعماري للدول التي تقع في المناطق الصحراوية الحارة، يحمل رؤية مدروسة في تصميمه، علماً أنّ الشكل الدائري يتكامل مع الوظيفة التي تجري داخله، فلا ننسى ما للدائرة من معانٍ عميقة في مظاهر الكون، والآراء الفلسفية وتكامل الخطوط التي تحوي كلّ الأشكال الهندسية، وهكذا، فقد أبدع المُصمم وقدَّم لنا إحدى الدرر المعمارية التي ستشدُّ لها الأجيال.

التراث والحداثة..

من خلال جولاته العربيّة والغربية، يروي الدغليس كيف تحتفي البلدان والدول والشعوب بموروثها في الساحات العامة، والمباني، وهو ما يعطينا حافزاً لأن نحترم تراثنا وأصالتنا وأن نعمل على تقوية هذا التراث بالحداثة، حين تقترن مواصفات الأمان والسلامة بمواصفات الجمال، فالشعوب الأصيلة العريقة التي لها جذور في أعماق التاريخ والتي تعتز بماضيها وتستحضره في كلّ مناسبة وتاريخ، تفخر بما لديها من ماضٍ مشرق وتراث خاص يميزها عن غيرها.

وحول الجهود القطريّة في الارتقاء بالموروث والتراث، واستنباط الأعمال من بيئتنا وثقافتنا، يؤكّد الدغليس أنّ اهتمام دولة قطر ودورها الريادي في حاضر أمتنا، واجتذابها للفعاليات العَالَمية وعلى رأسها كأس العَالَم وحضورها اللافت في كلّ المحافل الدولية باقتدار بارز، لم يكن وليد اللحظة، بل إنّ وراء كلّ ذلك عقولاً مفكّرة، وثقافة ومعرفة وعلوماً وأداء ونشاطاً لافتاً ومنقطع النظير. فهو انتصار للثقافة بمفهومها الشامل والتفصيلي والتراثي المُعبِّر عن هويّة، بما يؤكّد كينونتنا.

وفي هذا يقول الدغليس إنّ ما حقّقته دولة قطر من تراكم للنشاطات العلمية والإعلامية والرياضية والثقافية والمنجزات الحضارية والمعمارية والجمالية ومن إحياء للتراث القطري والعربي، سيكون له أثرٌ ملموس على مجتمعاتنا العربية، وعلى سمعتنا وكينونتنا بشكلٍ إيجابي وعميق، فهو بالفعل يمثّل انتصاراً حضاريّاً لقطر وللعرب، فنحن في أعينهم أمّة واحدة، تجمعها لغة واحدة وهموم مشتركة، ولا بدّ أننا نُسْهِم في التطوُّر الحضاري والعلمي في مسيرة المعرفة العَالَمية.

ما بَعد «كأس العَالَم»..

يقول الدغليس حول تصميم ملعب الثمامة: إنّه ليس هناك مَنْ هو أقدر على معرفة وتحسس احتياجات أيّ أمّة من الأمم على ضوء المُعطيات المُتوفّرة والأهداف المُبتغاة، مثل أبنائها المُميَّزين ونخبها المُتمكّنين، في المجالات كافة، الثقافية والفنية والعمرانية وحتى المُجتمعيّة، فالمهندس إبراهيم الجيدة له خبرات معماريّة وفنيّة ورؤية جمالية ووظيفية كإنسان ينتمي لوطنه ويعشق تراثه، وهو ما انعكس على هذا المَعْلم بكلّ تفاصيله الداخلية أو وجهاته الخارجيّة وهيبته النابعة من شكله واسمه وموقعه.

تميّز ملعب الثمامة، بالإضافة لكونه انصهاراً للموروث الثقافي العربي مع العمارة الحديثة، أن تشييده تمَّ ليدوم إرثاً لمرحلة ما بعد فعاليات كأس العَالَم وليبقى معلماً حيّاً نشطاً تهفو إليه القلوب. وسيكون بمقدور هذا الملعب، كما يرى الدغليس، أن يصبح قبلةً للأجيال ومرتبطاً بذكرى عطرة مرَّت في حياتهم واستقرَّت في وجدانهم، حين تجتمع الرياضة والفنّ والجمال معاً، وبالتأكيد حين نبرز تراثنا وثقافتنا واحترامنا لذاتنا في تظاهرة عالَميّة كبيرة هي نسخة «كأس العَالَم» 2022 في قطر.

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

ليس مفاجئاً كل هذا الاهتمام بالنسخة المُرتقبة من بطولة كأس العَالَم، فالجهود المبذولة من قِبل دولة قطر لإنجاح هذه النسخة من البطولة أقلّ ما يمكن أنْ يُقال عنها هي إنها مبهرة وغير مسبوقة في تاريخ هذه البطولة، بدءاً من التجهيزات في البنية التحتية وشبكة المُواصلات الحديثة، وانتهاءً بالملاعب الثمانية الجديدة التي شيِّدت بالاستعانة بأحدث تقنيات الإنشاء والتنفيذ، وصُمِّمت من قِبل أفضل المُصمِّمين والمُهندسين المعماريين في العَالَم.

ولعلّ واحداً من أهم هذه الملاعب الجديدة والواعدة المُستضيفة لهذا الحدث الكروي الهام هو «استاد الجنوب» من تصميم المكتب الهندسي للراحلة المعمارية زها حديد بالتعاون مع شركة «أي كوم». والراحلة زها حديد غنية عن التعريف، فهي الأيقونة الاستثنائية الأكثر شهرة وحضوراً على صعيد العمارة المُعاصِرة والمُتجدِّدة التي تقوم على المدرسة التفكيكية. وهي المهندسة (العراقية-البريطانية) التي نفَّذت نحو 950 مشروعاً خيالياً ومتميِّزاً في 44 دولة حول العَالَم، لتحصل خلال مسيرتها المهنية الطويلة على العديد من الأوسمة والجوائز العَالَمية المرموقة، في طليعتها جائزة «بريتزكر» للعمارة عام 2004، والميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة «ريبا» للفنون الهندسية عام 2016، وجائزة «الآغا خان» للعمارة عام 2016، والعديد من الجوائز المعمارية العَالَمية المرموقة الأخرى.

شُيد استاد الجنوب في مدينة الوكرة الواقعة على الساحل الجنوبي الشرقي للبلاد وتبعد بما يقارب 22 كم عن شرق وسط الدوحة. تعدُّ مدينة الوكرة ثاني أكبر المدن ومن أقدم المناطق الحضرية المأهولة بالسكّان في البلاد. من الناحية التاريخية، كانت هذه المدينة تعتمد بشكلٍ أساسي على صيد الأسماك واللؤلؤ المُستخرج من جوف البحار، وشهدت خلال العقود القليلة الأخيرة تطوُّراً حضرياً ومعمارياً لافتاً ومهمَّاً، وهذا ما جعل المدينة أكثر تميُّزاً وحضوراً من خلال التباين والجمال المبهرين بين عراقة الماضي والتطوُّر المُعاصِر.

ويمكن ملاحظة دقة وإبداع العمارة التاريخية في بناء المدينة، خصوصاً في المناطق القديمة مثل مسجد الوكرة القديم والمنازل التراثية والقلاع التاريخية، وبالمُقابل نلاحظ جمال العمارة المُعاصِرة الحديثة في مناطق عدة من المدينة، وتعتبر كمُحاكاة وامتداد لعمارة المنطقة القديمة، فهي تنطلق منها وتعود إليها، وهذا هو سر جمال مدينة الوكرة. ويمكن القول إن استاد الجنوب هو التجسيد الأمثل لهذه الفكرة، فهو المُحاكاة المُعاصِرة التجريدية للماضي العريق.

تبلغ سعة الاستاد الحالية 40 ألف مشجِّع، ليخدم بذلك مباريات كأس العَالَم بدءاً من دور المجموعات، حيث ستجمع المُباراة الأولى بين منتخبي فرنسا وأستراليا، مروراً بدور الـ 16، وانتهاء بالدور ربع النهائي. واللافت في المشروع أن أعمال التنفيذ والبناء تمَّت بدقة وحرفية عالية، وفي وقتٍ قياسي أيضاً، حتى أن عملية فرش عشب الملعب (على سبيل المثال) اكتملت في 9 ساعات و15 دقيقة فقط. وافتُتح الملعب في 16 مايو/أيار 2019 بحضور شخصيات رياضية بارزة محلياً وعربياً وعالَمياً.

وبعد إطلاق صافرة النهاية وإسدال الستارة على العرس المُونديالي الكبير، سيتمُّ الاستغناء عن نصف عدد المقاعد في الاستاد، ليتمَّ منحها للدول النامية التي تفتقر للبنى التحتية الرياضية. وسوف يصبح الملعب عندئذ المقر الرئيس لنادي الوكرة الرياضي لكرة القدم.

وكغيره من الملاعب الأخرى التي سوف تستضيف مباريات كأس العَالَم، يتمُّ ربط ملعب الجنوب بشبكة من الطرق السريعة والجديدة التي توفِّر وصولاً سهلاً وسريعاً للمُقيمين والزوار على حدٍّ سواء إلى كل من الوكرة والدوحة. بالإضافة إلى ذلك، من المُنتظر أن يستضيف هذا الاستاد، الذي تمَّ تشييده كبناء متعدِّد الاستخدامات، فعاليات حضرية وثقافية متنوِّعة في المُستقبل.

الفكرة التصميمية

إنّ المفهوم العام لروح التصميم قائم على المُحاكاة التجريدية والانعكاس التراثي لأشرعة القوارب التقليدية القطرية، وذلك احتفاءً بالتاريخ العريق والتراث البحري لمدينة الوكرة كمركز للصيد والبحث عن اللآلئ. هذه المُحاكاة التجريدية هي محاكاة متعدِّدة الأوجه والقراءات، وهذه القراءات تصبح منسجمة ومتكاملة في نهاية المطاف.

وهذه المُحاكاة التصميمية تنعكس أيضاً في كافة التفاصيل، انطلاقاً من الشكل العام للتكوين التصميمي، فنرى الشكل العام للتكوين هو عبارة عن تشكيلات قشرية مدببة ومائلة على شكل مقاطع مطوية «وهو تجريد لأشرع القوارب المطوية». هذه التشكيلات القشرية تسير مع بعضها البعض ضمن مسارات منحنية، متباعدة تارةً، وملتقية مع بعضها البعض تارةً أخرى.

في الواقع، هذه المسارات المنحنية ليست عشوائية أو وليدة الصدفة، وإنما قائمة على محددات بارامترية ذكية وديناميكية، حيث استطاعت دمج التشكيلات القشرية وحوَّلتها لتكوينات لينة وسهلة التحويل والتشكيل، فنرى الجمال المُتناغم في التكوين المركب النهائي.. تكوين مبهر يمثل وكأنه الصدف البحري المُتلألئ الخارج من أعماق البحار.

تمَّت تغطية الاستاد بمظلة قابلة للطي والإغلاق بطول 92 متراً، ويمكن فتحها خلال 30 دقيقة فقط باستخدام أسلاك من التيتانيوم وكأنها أشبه بشراع مشدود لتسمح بالتخفيف من حدة أشعة الشمس وتأمين الظل والمأوى والمُحافظة على درجة الحرارة المُناسبة داخل الملعب.

وتمَّ التعبير عن إكساء القسم السفلي لواجهات الاستاد بألواح زجاجية بالتوازي مع خلق أنماط تكوينية مزخرفة ومشغولة ذات طابع برونزي معدني تحقِّق التباين بين الظل والنور وترمز لفن الحرف اليدوية والإسلامية.

والتصميم ككل منسجم مع محيطه ومتناغم معه، ولا يبدو في أي تفصيل من تفاصيله شاذاً مع الوسط المُحيط، القريب أو البعيد، حيث تتحوَّل الكتل المعمارية والمناطق الحضرية المُحيطة إلى تركيبة عضوية واحدة ومترابطة، ويصبح تصميم الاستاد بالمُحصلة تعبيراً حقيقياً عن تاريخ وثقافة المُجتمع العربي والإسلامي القطري.

الاستدامة الوجهة الأولى للتصميم

يمثِّل تصميم الاستاد تطبيقاً تكنولوجياً معاصراً لمُفردات العمارة المحلية والتراثية في إطار العمارة البيئية والمُستدامة. وفي الحقيقة يمكن القول إن تطبيق مبدأ الاستدامة الشامل هو العنوان المُناسب للتصميم، سواء لكيفية التعامل مع تصميم الملعب أو كيفية المُعالجة المعمارية والبيئية للمساحات الخضراء والحضرية المُحيطة به.

فاستاد الجنوب كان أول ملعب، ضمن الملاعب الثمانية المُخصَّصة لكأس العَالَم 2022 في قطر، يحصل على شهادات المُنظَّمة العَالَمية لتقييم الاستدامة «جي ساس»، حيث حصل الاستاد على ثلاث شهادات في الاستدامة شملت التصميم والبناء وإدارة التشييد ونسبة كفاءة الطاقة. ولم يكن هذا الأمر مفاجئاً أو مستغرباً، فقد تمَّ استخدام مبادئ التصميم السلبي والبيئي جنباً إلى جنب مع النمذجة الحاسوبية في دراسة المُتغيِّرات الحرارية المُحيطة وحركة الرياح لزيادة كفاءة نظام التبريد ولضمان راحة اللاعب والمُشجِّع على حدٍّ سواء.

كان التحدي الأول بالنسبة للملعب، وكذلك الأمر بالنسبة للملاعب الأخرى أيضاً، هو في كيفية التعامل مع المناخ الخاص بالمنطقة، وكيف يمكن إبقاء الهواء الساخن خارجاً بعيداً عن فضاء الملعب الداخلي. لمُواجهة هذا التحدي تمَّ تبريد المنطقة التي يشغلها المُشجِّعون في المدرجات عبر فتحات تهوية مثبتة أسفل كل مقعد، ليتدفق الهواء بطريقة لطيفة تسمح له بالوصول إلى المُشجِّعين والإحاطة بهم دون أن يشعروا بالانزعاج، أو بالحرارة أو البرودة الشديدتين.

أما بالنسبة للاعبين، فيتمُّ ضخ الهواء البارد فوق أرض الملعب عن طريق فوهات كبيرة موزَّعة على أطراف الملعب. ويؤكِّد خبير التكييف الدكتور مسعود عبد الغني الذي طوَّر هذا النظام المُبتكر أن زاوية فتحات التكييف واتجاهها تمنع تعرُّض اللاعبين لتيار الهواء بشكلٍ مباشر. وفي المُحصلة، تتكون فقاعة من الهواء البارد داخل الملعب لا يزيد ارتفاعها على مترين فوق سطح الأرض، وحين يسخن الهواء مرةً أخرى تمتصه مراوح للشفط في المنطقة الوسطى، ثمَّ يُعاد تبريده وتنقيته ليضخ مجدداً إلى كامل الملعب.

وتساهم في هذه العملية الميكانيكية المُتكاملة ألواح شمسية تعمل على امتصاص حرارة أشعة الشمس لتكوين الطاقة اللازمة لتشغيل هذه الأجهزة، وبالتالي تأمين الحماية من الانبعاثات الكربونية غير المرغوب بها والإسهام في تحقيق مبدأ التصميم المعماري السلبي. ومصطلح «السلبي» هنا هو مصطلح معماري يطلق على كل تصميم بناء ذي استهلاك طاقة منخفض للغاية، وهو ما يساهم في تحقيق الاستدامة، كما هو الحال هنا في تصميم استاد الجنوب.

ولتحقيق مزيد من التناغم والانسجام والاستخدام الأمثل للعوامل المُحيطة والداخلة في تكوين البناء، تمَّ تصميم السقف العلوي الذي يغطي الملعب لتوجيه تدفق الهواء بالطريقة المرغوب بها، كما أن لونه الفاتح يعكس أشعة الشمس وحرارتها، فيساهم بذلك أيضاً في الحفاظ على درجة حرارة مناسبة ومعتدلة داخل الملعب لا تزيد على 18 درجة مئوية.

وبالنسبة للمساحات الحضرية والخضراء المحيطة بالملعب، فقد تمَّ تجهيز المنطقة المُحيطة بمساحات خضراء ذات مناظر طبيعية مبهرة تستقبل الزوار عند الوصول وتأخذهم في أجواء فريدة لا تقل جمالاً عن أجواء الملعب من الداخل. وتضم هذه المنطقة أكثر من 800 شجرة جديدة ونباتات متوطنة لترشيد استهلاك المياه.

ويمتد مفهوم الاستدامة البيئية للاستاد ومحيطه ليشمل أيضاً الاستدامة الاجتماعية، فقد تمَّ إنشاء مرافق جديدة في المناطق المُحيطة للاستاد وهي مدرسة وقاعة للأفراح ومطاعم ومتاجر وأندية رياضية ومتنزهات، بالإضافة لمسارات لركوب الدراجات الهوائية والمشي وركوب الخيل، وهو ما خلق مناطق حضرية مليئة بالنشاطات المُجتمعية داخل الملعب وخارجه. وبهذه الطريقة، حتى خلال الأيام التي لا يكون فيها حرم الملعب مزدحماً ومسرحاً للمُنافسات الكروية الحامية، يقدِّم لزواره مساحة للتسلية والترفيه والمُتعة.

لا يختلف أحد حول روعة وأهمية هذا الاستاد الذي يلبِّي الطموحات ويستجيب للتحدّيات التي بدأت منذ اللحظة الأولى في مسيرة التحضير للمونديال الأجمل والأهم في العَالَم. ولا شكَّ أن هذا الاستاد سيصبح مكاناً ووجهةً لا تُنسى خلال منافسات بطولة كأس العَالَم- قطر 2022، والفترة التي ستليها، وسيبقى على الدوام أيقونة نابضة بالجمال في قلب مجتمع الوكرة.

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

«إحدى السمات الرئيسة للتصميم النهائي هي الأنماط والأشكال الزخرفية الخمسة الموجودة داخل واجهة الاستاد وحول البناء نفسه. تُقر هذه الأنماط بأهمية الأسرة في الثقافة القطرية، وتعكس أشكالاً مرتبطة بالصحراء والحياة البرية التي تزدهر هناك، كما تعكس أيضاً الأنماط التاريخية في قطر، والتي تعود أصولها إلى التجارة الدولية التي تكمن وراء النجاح الاقتصادي الذي حققته دولة قطر على مدى قرون. أما نمط الدرع، الذي يرتبط بنادي الريان نفسه، فينسج مع كافة الأنماط الأخرى رسالة تمثل الولاء والوحدة والمُثابرة».

لطالما ارتبط مشهد الصحراء بالقيم العربية الأصيلة، والشهامة والرجولة، والتحمُّل والصلابة، والضيافة والكرم، والتجارة والترحال، وحتى بالعشق والجمال. هذه النظرة الجمالية الاستثنائية لمشهد الصحراء، التي تسيطر عليها الشمس نهاراً والنجوم المُتلألئة ليلاً، وترسم فيها كثبانها الرملية أجمل الصور واللوحات، برزت وبقوة في ثقافتنا العربية، فكانت مادة خصبة لعدد كبير من الشعراء والأدباء، منذ عصر الجاهلية وحتى عصرنا الحديث.

ولكن هذه النظرة الشاعرية للصحراء لم تعد حكراً اليوم على الشعر والشعراء أو الأدب والأدباء، بل ذهبت أبعد من ذلك بكثير، لتصبح مادة دسمة لواحد من ملاعب كرة القدم الأكثر حداثة وجمالاً في العَالَم، ونقصد به هنا استاد أحمد بن علي، وهو أحد الملاعب الدولية الثمانية التي سوف تستضيف مباريات كأس العَالَم لكرة القدم، والتي سوف تُقام هذا العام للمرّة الأولى في بلدٍ عربي مسلم.

يقع استاد أحمد بن علي الدولي، أو ما كان يُعرَف سابقاً باسم استاد نادي الريان، على بعد نحو 20 كم إلى الغرب من العاصمة القطرية الدوحة، وسط بيئة صحراوية خاصة تجعل منه أيقونة استثنائية جميلة وواحة نابضة في قلب الصحراء. هذا الموقع الخاص، الذي يُشار إليه في كثير من الأحيان باسم «بوابة الصحراء»، يدفعنا لتسمية هذا الصرح المعماري الجميل مجازاً بالاسم نفسه.

يقع الاستاد ضمن مشروع تطوير حديث يتضمن مجموعة من الحدائق ومواقف السيارات، بالإضافة إلى «مول قطر»، وهو أحد أكبر مراكز التسوق في الدوحة، ويتصل مع العاصمة بفضل شبكة من الطرق السريعة ومترو الأنفاق، الأمر الذي يجعل الوصول إليه من كافة الأرجاء في غاية السهولة واليسر، فالرحلة إليه عبر المترو من مركز مدينة الدوحة لا تستغرق أكثر من 25 دقيقة.

في الواقع، هذا الأمر ينطبق أيضاً على الملاعب السبعة الأخرى التي سوف تستضيف جميع مباريات كأس العَالَم، إذ لا تزيد المسافة بين أبعد ملعبين على 55 كم، الأمر الذي يجعل من متابعة المُباريات والتنقل بين الملاعب بالنسبة للجماهير المُشجِّعة، وحتى الفرق المُشاركة أمراً في منتهى السهولة والسرعة، وهذه ميزة رائعة تقدِّمها دولة قطر لعشَّاق الكرة المُستديرة في هذه النسخة من كأس العَالَم.

قصة استاد أحمد بن علي الدولي هي أشبه برواية مثيرة، فهو وفقاً للخطة الأصلية التي وُضعت في عام 2010 لم يكن مقرراً أن يشهد النور، بل كان من المُقرر الاحتفاظ بملعب الريان القديم الموجود بالأصل في الموقع واستخدامه كأحد الملاعب التي سوف تستضيف مباريات كأس العَالَم 2022 بعد إضافة نحو 20 ألف مقعد مؤقت وتجديد بنيته التحتية بشكلٍ كامل. ولكن، هذه الخطة تغيَّرت بشكلٍ جذري في عام 2014، عندما تمَّ اتخاذ القرار بهدم المُنشأة القديمة وبناء منشأة جديدة بالكامل. وبناءً عليه تمَّ تقديم التصميم النهائي للاستاد الجديد في أبريل/نيسان من عام 2015، وبدأ وضع الأساسات الرئيسة له في أواخر عام 2016، بينما تمَّ افتتاحه رسمياً في ديسمبر/كانون الأول 2020 بمُناسبة اليوم الوطني لدولة قطر.

وتبلغ سعة الملعب الحالية المُخصَّصة لمُباريات كأس العَالَم نحو 40 ألف مشجع، بينما سيتمُّ الاستغناء عن نصف هذه السعة تقريباً بعد الانتهاء من البطولة، لتبلغ سعة الملعب النهائية والدائمة حوالي 21 ألف مشجِّع. ومن المُقرر أن يستضيف الملعب ست مباريات خلال الدورين الأول والثاني من نهائيات كأس العَالَم.

من وحي الصحراء

يستمد استاد أحمد بن علي الدولي تصميمه الرائع الذي وضعته شركة باتيرن الدولية للتصميم وشركة رامبول الدنماركية من مشهد الصحراء، حيث يتماشى مشهد الكثبان الرملية الخارجية التي تمتد حتى مسافات شاسعة إلى الغرب من الموقع مع المرافق الخاصة والمُحيطة بالاستاد، والتي يعكس شكلها المُتموِّج أيضاً شكل هذه الكثبان. ولأن الريان تشتهر بحبها للتقاليد والثقافة، فقد تمَّ الأخذ بعين الاعتبار مثل هذه الاهتمامات أيضاً في عملية التصميم، والنتيجة كانت صرحاً معمارياً رائعاً ومنشأةً رياضيةً متكاملة، تروي في الوقت نفسه قصة الإرث والنهضة القطرية بطريقةٍ مذهلة ومبتكرَة.

لم يكن هذا التصميم، كما تقول الجهة المُصمِّمة، وليد الصدفة، بل جاء بعد استشارات مطوَّلة مع أهالي المنطقة والمُجتمع المحلي وإدارة نادي الريان أيضاً، الأمر الذي جعل هذا التصميم عملاً تشاركياً رائعاً يدعو للفخر، ليس للجهة المُصمِّمة فحسب، بل لجميع المُشاركين فيه. وهذا ما يؤكِّده «آلان تويدي»، مدير المشروع في شركة رامبول، الذي يضيف قائلاً: «كان احترام تاريخ كل من الريان وقطر هدفاً مهمّاً من أهداف التصميم. وبناءً عليه أمضى المُهندس المُصمِّم للاستاد وقتاً طويلاً في مرحلة الإعداد في البحث عن تاريخ وثقافة المدينة، وشمل ذلك التحقيق في تاريخ منطقة الريان نفسها».

يجمع مفهوم التصميم بين تكوين بسيط ومضغوط وواجهة قشرية تحقق الشفافية عبر أنماط تكوينية مفرغَة ومتكرِّرة تحيط بكافة أرجاء المبنى الرئيس، وسقف يرتكز حول حلقة فولاذية واسعة بيضاوية الشكل تحمل الجزء المُظلل الذي يغطي الجزء الأكبر من الملعب. ويمكن القول إن هذا التصميم، من خلال هذه الأنماط التكوينية المُفرَغة، يحمل الكثير من الجرأة والإبداع، حيث تكتسب واجهة المبنى بهذا الشكل قدرة ديناميكية هائلة في الاستقبال والعرض البصري والتباين بين المناطق المُظللة والمُضاءة.

كما يمتلك الملعب بنية موحَّدة نسبياً شبه مستطيلة، بينما تقع مناطق الضيافة والخدمات جزئياً خارج الاستاد في تكوينات تشبه أيضاً الكثبان الرملية، فهي كما ذكرنا مصدر الإلهام الأول والأهم في تصميم الملعب، وبهذا الشكل يبدو تكوين الملعب منفصلاً بصرياً، ولكنه متصل وظيفياً.

ولكن، أكثر ما يميِّز الملعب هو الواجهة المُضيئة التي تبلغ مساحتها 39 ألف متر مربع، والتي تتكوَّن من شاشات متعدِّدة الوسائط مغطاة بشبكة أنيقة ومزخرفة من الأسطح المرئية المعدنية الشفافة. وتعكس هذه الواجهة رؤية مبتكرة من قِبل الشركة المُصمِّمة في كيفية إعادة تخيُّل الرموز الثقافية المحلية وعرضها بطريقةٍ جذَّابة ومثيرة تلبِّي الذائقة الفنيّة المحلية والعَالَمية.

تعرض الواجهة المرئية القيم النبيلة التي تميِّز دولة قطر، فضلاً عن العناصر النموذجية للمناظر الطبيعية في هذا البلد، وتشمل القيم المُثلى للعائلة القطرية، وجمال الصحراء، والنباتات والحيوانات المحلية، والتجارة المحلية والدولية، وهي أيضاً مواضيع تشكِّل جزءاً من الرسالة النبيلة التي توجهها دولة قطر للعَالَم قاطبة من خلال استضافتها لنهائيات كأس العَالَم. وترتبط كل هذه الأشكال التي تميِّز الملعب وواجهته الخارجية بالعنصر الأخير والأهم وهو الدرع، الذي يرمز إلى القوة والوحدة.

هذه الرؤية يؤكِّدها «آلان تويدي» من شركة رامبول للتصميم، حيث يقول: «إحدى السمات الرئيسة للتصميم النهائي هي الأنماط والأشكال الزخرفية الخمسة الموجودة داخل واجهة الاستاد وحول البناء نفسه. تُقر هذه الأنماط بأهمية الأسرة في الثقافة القطرية، وتعكس أشكالاً مرتبطة بالصحراء والحياة البرية التي تزدهر هناك، كما تعكس أيضاً الأنماط التاريخية في قطر، والتي تعود أصولها إلى التجارة الدولية التي تكمن وراء النجاح الاقتصادي الذي حققته دولة قطر على مدى قرون. أما نمط الدرع، الذي يرتبط بنادي الريان نفسه، فينسج مع كافة الأنماط الأخرى رسالة تمثل الولاء والوحدة والمُثابرة».

من خلال شكلها الشبكي، لن تحجب هذه الواجهة والأنماط المُستخدَمة وصول أشعة الشمس إلى منطقة الفناء الخلفي للملعب. كما أن تصميم الواجهة باستخدام أدوات بارامترية متطوِّرة سوف يجعلها قادرة على القيام بدور إضافي في مهام التبريد السلبي للمبنى. ويضمن نظام التحكم الديناميكي للتبريد المُستخدَم في الملعب الحفاظ على بيئة باردة ضمن الملعب حتى ضمن أكثر أيام العام حرارة وشدة. بينما ستتمُّ الاستفادة من الألواح الشمسية الموجودة على السطح في توليد الطاقة الكهربائية لتنفيذ أعمال الصيانة اليومية للمُنشأة.

أما المُدرجات فتمَّ توزيعها بطريقةٍ رائعة تجمع بين اللونين الأحمر والأسود، بينما يجتمع هذان اللونان بطريقة جميلة ومتناسقة خلف المرمى ليشكلا سوية صورة ضخمة لوجه الأسد الذي يعتبر رمز وهوية نادي الريان الرياضي. بينما تمَّ الاعتناء بشكلٍ كبير في التصاميم الداخلية للممرات والقاعات وغرف الاستقبال بطريقة تتناسب بشكلٍ جميل ومتناغم مع التصميم الخارجي للملعب. ويزداد هذا الاهتمام حضوراً في غرف تبديل الملابس للاعبين، حيث أصبح تصميم هذه الغرف بطريقة جميلة ولافتة واحدة من أهم المُتطلّبات للملاعب الحديثة في العَالَم، لأن اللاعب يقضي فيها لحظاته الأهم قبل الدخول إلى المباراة.

تقدير محلي وجوائز عالمية

من أهم النقاط والخصائص التي تميِّز استاد أحمد بن علي الدولي هو تبنيه بشكلٍ كامل لمفهومي الاستدامة وإعادة التدوير خلال كافة مراحل التصميم والبناء. إذ تمَّت الاستفادة من حوالي 90 % من عناصر الملعب السابق وإعادة استخدامها في أماكن ومرافق أخرى ضمن الملعب وخارجه، مثل الأضواء الكاشفة والمقاعد والمُحوِّلات وساحة كأس العَالَم الحالية التي تقع في الموقع نفسه.

كما تمَّت إعادة استخدام الخرسانة المُهدمة في بناء الاستاد الجديد، وحتى التربة التي تمَّ حفرها لإزالة الأساسات فقد تمَّت إعادة استخدامها في مواقع أخرى أو حفظها لتنسيق الحدائق بعد إنشاء المُنشأة الجديدة. بينما تمَّ التبرُّع ببعض العناصر المُتبقية من المُنشأة القديمة لتنفيذ مشاريع فنيّة مختلفة. وستتمُّ إزالة ما يقرب من نصف مقاعد الملعب بعد البطولة ومنحها لمشاريع تطوير كرة القدم في العَالَم النامي. وسيتحول الاستاد بعد ذلك إلى مقر واحد من أقدم الأندية في قطر وهو نادي الريان، الذي سيتمكَّن من خلال الملعب الأصغر حجماً من الحفاظ على طابعه الحميمي المُنسجم مع الوسط المُحيط به.

ووفقاً للسيد عبد الله الفيحاني، مدير استاد أحمد بن علي، ستتحوَّل المرافق المُحيطة بالاستاد إلى مراكز رياضية حيوية تلبِّي احتياجات أفراد المُجتمع، في حين سيستفيد سكّان منطقة الريان من مجموعة واسعة من المرافق والتجهيزات الرياضية، من بينها ستة ملاعب لكرة القدم، وملعب لرياضة الكريكت، ومضمار لركوب الخيل، ومضمار للدراجات الهوائية، وأجهزة لمُمارسة التمارين الرياضية، ومضمار لألعاب القوى. وتقديراً لمُراعاته جوانب الاستدامة، حصل الاستاد حتى الآن على ثلاث جوائز وشهادات مرموقة في مجالات الاستدامة والحفاظ على البيئة.

يضع الاستاد الجديد مفهوم البيئة النظيفة في طليعة اهتماماته، حيث يستخدم المكان تقنية تبريد صديقة للبيئة عبر محطة مركزية بسعة تبريد تبلغ 16000 طن. وتقوم هذه المحطة بتزويد الاستاد بالمياه المُبرَّدة، من خلال محطة توليد الكهرباء، ومن هناك يتمُّ تحويلها إلى عددٍ كبير من وحدات معالجة الهواء المُنتشرة في الموقع لتوفير درجة الحرارة المطلوبة لمنطقة المُدرجات والملعب. في الوقت نفسه، فإن المبنى الجديد أكثر كفاءة في استخدام الطاقة بنسبة 20 % مقارنةً بالمباني الأخرى من هذا النوع، كما أنه يستخدم كمية أقلّ من المياه بنسبة 20 % مقارنةً بغيره من المباني الرياضية.

وهذا ما يؤكِّده مؤسّس ومدير شركة باتيرن للتصميم «ديبيش باتيل»، الذي يقول ختاماً في وصف هذه التجربة الرائعة: «نحن فخورون بتحويل هذا المشروع المُذهل انطلاقاً من مفاهيمه الأولية إلى الشكل النهائي والمُبدع الذي نراه عليه اليوم. يجسِّد هذا المبنى نهج شركة باتيرن الذي يستجيب للمناخ والثقافة بطريقةٍ مستدامة». والنتيجة هي صرحٌ معماري جديد يعكس النهضة العمرانية والثقافية في المنطقة، ومنشأة رياضية تعكس أهمية دولة قطر على صعيد الرياضة العَالَمية، ومنصة ثقافية تحمل الكثير من الرسائل والمفاهيم النبيلة إلى المُجتمع المحلي والعَالَم.

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

ملعب لوسيل هو واحد من بين ثمانية ملاعب في قطر خُصِّصت لاستضافة نهائيات كأس العَالَم لكرة القدم 2022، هذه المُسابقة العَالَمية الأكثر أهمية وشعبية على مستوى العَالَم، والتي سوف تُقام للمرّة الأولى في تاريخها في بلدٍ عربي. ويعتبر هذا الملعب الأكبر حجماً واستيعاباً للمُشجعين ليس على صعيد الملاعب المُخصَّصة لكأس العَالَم في قطر فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط أيضاً.

خلال زيارتي الخاصة لملعب لوسيل الدولي لكرة القدم، الذي سوف يستضيف المُباراة الختامية وعدد من مباريات كأس العَالَم لكرة القدم هذ العام، كان السؤال الأول الذي خطر على بالي وأنا أتابع التفاصيل المُدهشة لهذ الصرح المعماري الكبير، كيف يمكن لعشرات الألوف من المُشجعين والمُتابعين المُتواجدين في الملعب من كافة أنحاء العَالَم أن ينشغلوا بمُتابعة أحداث المُباراة وفي الوقت نفسه مقاومة الرغبة الشديدة بالتجوُّل في المكان والنظر مطوَّلاً إلى تفاصيله المُثيرة؟!

فالملعب الذي يتسع لأكثر من 80 ألف مشجع هو أقرب أن يوصف بالتحفة الفنّيّة الرائعة والصرح المعماري الفريد الذي يملك سحراً خاصاً وبصمة فريدة في كلّ تفصيل من تفاصيله الكثيرة. ولا شكّ أن هذا السحر يزداد تأثيراً وأهمية من خلال التمعُّن بالتصاميم الأساسية والتشكيلات الاستثنائية التي يتضمنها هذا الملعب الضخم، سواء من الخارج أم من الداخل.

يقع الملعب في مدينة لوسيل، وهي مدينة ساحلية حديثة يجري تطويرها على بُعد نحو 15 كيلومتراً إلى الشمال من العاصمة القطرية الدوحة وتستوعب نحو 250 ألف شخص. ويعتبر الملعب جزءاً هاماً من مخطط حضري كبير وعملاق لتحويل هذه المدينة إلى مشروع تطوير مستدام يمتد على مساحة 35 كيلومتراً مربعاً، ويتضمن أكثر من مرفأ بحري ومناطق تجارية وترفيهية ومناطق سكنية ومراكز تسوق ومدارس ومراكز طبية ومساجد مع أكثر من 25 ألف وحدة سكنية وملعبين للجولف.

قام بتصميم الملعب واحد من أهم مكاتب التصميم والعمارة على مستوى العَالَم، وهو مكتب فوستر وشركاؤه للمعماري البريطاني الكبير نورمان فوستر، وهو من أشهر المعماريين البريطانيين ومصمم عدد كبير من الجسور والمباني والمُؤسَّسات والصروح المعمارية الضخمة في كافة أنحاء العَالَم. كما أنه حاصل على العديد من الجوائز العالمية الرائدة في مجال العمارة، ولعلّ أهمها جائزة الآغا خان للعمارة (سويسرا) في عام (2008) عن مشروع جامعة بيتروناس للتكنولوجيا في ماليزيا، وجائزة أمير أستورياس للفنون من ملك إسبانيا خوان كارلوس في عام (2009)، وأخيراً جائزة بريتزكر للعمارة (الولايات المُتحدة الأميركية)، والتي تعتبر بمثابة جائزة نوبل في مجال العمارة، في عام (2019).

الأمر المُثير في هذا المشروع بالذات أن التصميم النهائي للملعب، كما يقول نورمان فوستر، «بقي سرياً لفترة طويلة من الزمن»، الأمر الذي جعل من هذا الملعب حالة خاصة استقطبت اهتمام ومتابعة وسائل الإعلام والمُهتمِّين في كافة أنحاء العَالَم لفترة طويلة من الزمن. وما زاد الموضوع إثارة وحماساً أن أعمال البناء في الملعب بدأت بالفعل في عام (2015)، واستمرّت على قدم وساق بنشاطٍ كبير حتى وصل البناء تقريباً إلى شكله الفعلي في عام (2017)، قبل أن يتمَّ الإعلان عن تصميم الملعب النهائي ضمن حفلٍ خاص أقيم في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام (2018).

تصميم يعكس عراقة التراث

يمكن القول بدايةً إنّ أهم ما يميِّز ملعب لوسيل الدولي أن تصميمه يعكس التراث الفنيّ العريق لدولة قطر، مستلهماً مفرداته من تداخل الضوء والظل في الفنار العربي التقليدي أو الفانوس. ويبدو هذا الأمر جلياً من خلال شكله الخارجي الذي يبدو من بعيد كوعاءٍ عملاق، أو كمركب شراعي قديم، يبدأ بمساحة محدودة من الأسفل ثمَّ يزداد اتساعاً وضخامة كلما ارتفع البناء نحو الأعلى. ويصبح الملعب أكبر حجماً وأكثر إثارة للإعجاب عند اقتراب المُشجِّعين والزائرين منه ووصولهم أخيراً إلى الباحة الرئيسة الكبيرة التي تحيط به بشكلٍ كامل وتسمح بالدخول والخروج من الملعب بكلِّ راحةٍ وأمان.

وأجمل ما في التصميم هو الجدار الخارجي للملعب الذي زُيِّنَ بنمطٍ مثلثي أنيق للغاية ونقوش ذات تفاصيل دقيقة تذكِّرنا بأوعية الطعام القديمة والأواني التقليدية وغيرها من القطع الفنّيّة الجميلة التي انتشرت في أرجاء العَالَم الإسلامي خلال عصره الذهبي. وتتوالى المُثلثات بأحجامٍ متفاوتة وبأشكالٍ مسطحة ومنحنية، وتتباين بطريقة رائعة وانسيابية مما تضفي جمالية خاصة وتجعل الشكل الخارجي للبناء يبدو متناسقاً بطريقة مدهشة. وعندما يتمُّ تسليط الأضواء على الملعب في المساء يزداد المنظر جمالاً وسحراً، خاصة مع التباين الرائع الذي يفرضه التصميم بين الأجزاء المُنارة والمُظللة.

لكن، الأمر الذي يُثير الانتباه إلى حدٍّ أكبر هو السقف المُظلل الهائل للملعب الذي تمَّ تصميمه على شكل سرج يطفو فوق وعاء الجلوس الخرساني. ووفقاً للجهة المُصمِّمة، تدعم حلقة من الأعمدة المقوسة هيكل السقف، والذي يمكن سحبه من المركز، بشكلٍ خفي بينما تسمح فتحات السقف القابلة للتشغيل بانكشاف الملعب أو تغطيته بالكامل دون الحاجة إلى تحريك السقف. ولا شكّ أن هذا التصميم يضفي جمالية كبيرة إلى المكان، خاصة مع التباين الرائع بين الأجزاء المُضاءة والمُظللة، ناهيك عن الأشكال التي تعكسها هذه الفتحات في كافة أرجاء الملعب عبر مرور أشعة الشمس من خلالها.

في الداخل، ما أن يضع المُشجِّع أو الزائر أولى خطواته في المكان حتى يلفت انتباهه صحن الملعب البيضاوي الكبير الذي يضفي على الملعب سحراً إضافياً ومشهداً ممتعاً للنظر، سواء للاعبين أو المُشجعين على حدٍّ سواء. ومع ارتفاع البناء نحو الأعلى واتساعه يزداد هذه المشهد روعة وجمالاً، بينما تزداد الإثارة والمُتعة حضوراً بالنسبة للمُشجِّعين بالطبع كلما ازدادت المُدرجات قرباً من أرضية الملعب.

تمَّ اختيار اللون الأبيض في كافة الأروقة والممرات وحتى غرف تغيير الملابس في الملعب، فيما يبدو، لتوفير الإضاءة الكافية في المكان من جهةٍ، ومنح اللاعب الراحة النفسية والشعور بالثقة والتفاؤل والتركيز الذي يحتاجه قَبل المُباراة من جهةٍ أخرى. وتعكس الزخارف المُتعدِّدة الموجودة في الأروقة والممرات ومرافق الملعب الطراز الفنيّ للحضارة الإسلامية العريقة، بينما يتكرَّر النمط المُثلثي الذي يميِّز التصميم العام للملعب من الخارج في الأسقف الداخلية للممرات والمرافق، في لمسة إضافية تضفي المزيد من الجمال إلى البناء.

باختصار، يمكن القول من نظرة مورفولوجية إن تصميم الملعب يقوم على مبدأ الوحدة المُتكرِّرة، حيث يتمُّ تكرار الوحدة الأساسية في التصميم بطريقةٍ سلسة وليِّنة في كافة أرجاء الملعب من الداخل والخارج، مُولِّدة في هذه الحالة علاقةً رائعة ما بين التصميم الداخلي والخارجي. وبهذه الطريقة، لم تعد العناصر الداخلة في التصميم صلبة ومنفصلة وإنما ليِّنة ومتصلة مع بعضها البعض، خاصةً في الأجزاء المُنحنية، مما يعكس قوة وجمالية الموقع. كما أن من ميزات هذا التصميم الاعتماد على الخطوط الانسيابية البعيدة عن الأشكال الهندسية الصريحة.

أما السقف العلوي للملعب فيمكن القول إنه أقرب لأسلوب التصميم البارامتري، من خلال وجود تكوينات تتغيَّر باستمرار خالقة مساحاتٍ متباينة بين الظلِّ والنور. وأخيراً يضمن توجيه الملعب من الشرق إلى الغرب تظليل الملعب بالكامل، وهذا الأمر يخدم بشكلٍ كبير المفهوم الأساسي الذي يقوم عليه التصميم من خلال إيجاد التباين بين المساحات المُظللة والمُضاءة، مما يمنح جمالية إضافية للموقع ويبتعد عن التكرار والرتابة.

الاستدامة هي العنوان

بعيداً عن التصميم الرائع والمُتميِّز لملعب لوسيل الدولي، الذي ينافس دون شكّ أكبر وأروع الملاعب في العَالَم، يبدو موضوع الاستدامة والحفاظ على البيئة واحداً من العناوين الرئيسة لهذا الصرح المعماري الكبير، خاصة في مدينة لوسيل التي تشهد نمواً كبيراً ونهضةً عمرانية واقتصادية واجتماعية متزايدة.

ضمن هذا الإطار يعتمد الملعب على نظام تشغيلي صديق للبيئة وموفر للطاقة، كما يتميَّز بإمكانيته للتعامل مع الظروف الجوية المُحيطة في أغلب أوقات السنة، مثل الحرارة المُرتفعة والرطوبة العالية والرياح الجافة، وغيرها الكثير من الظروف الجوية القاسية التي تؤثر سلباً على المُشجعين واللاعبين على حدٍّ سواء، مما يسمح باستخدام الملعب على مدار العام. وللوصول إلى هذه الغاية يتمُّ استخدام تقنيات تبريد صديقة للبيئة لتوفير درجة حرارة معتدلة داخل الملعب، بحيث لا تزيد على 27 درجة مئوية، حتى عندما تزيد درجة الحرارة في الخارج على 40 درجة مئوية.

أما المظلات التي تظلل مرافق الخدمة ومواقف السيارات فيتمُّ الاستفادة منها من خلال شبكة من ألواح الطاقة الشمسية التي تعمل على توليد الطاقة الكهربائية لإنارة وتشغيل مرافق الملعب بشكلٍ أساسي، ومن ثَمَّ توفير الكهرباء للمباني المجاورة عندما لا يكون الملعب قيد الاستخدام. ويمكن القول إن هذه التجربة تعتبر من التجارب الرائدة على صعيد المنطقة العربية، والتي تقوم فيها منشأة رياضية بتوليد طاقة كهربائية نظيفة للمُجتمعات المُحيطة بها.

وعلى مقربة من ملعب لوسيل تمَّ بناء عدد من الفنادق لاستضافة زوار المدينة والمُشجِّعين خلال فترة المُونديال العَالَمي الكبير وفي المُستقبل. كما تمَّ الأخذ بعين الاعتبار تأمين شبكات الطرق ووسائل النقل العامة والخاصة وحتى المترو لتأمين وصول المُشجِّعين إلى الملعب. وبفضل مرونة هيكله من المُنتظر أن يتحوَّل الملعب في المُستقبل إلى مركز مجتمعي وثقافي، كما سيكون قادراً على استضافة العديد من الأحداث والفعاليات الرياضية والثقافية والاجتماعية في قطر بعد عام 2022.

ويمكن القول إن هذا الملعب بكل إمكانياته وخصائصه المُميَّزة والفريدة سوف يكون إضافة كبيرة وهامة لمدينة لوسيل، وسيعمل على جذب المزيد من الاهتمام إلى المدينة، كما سيروِّج لأفكار جديدة رائدة وصديقة للبيئة في المنطقة العربية والعَالَم. وهذا ما أشار إليه سعادة الشيخ محمد بن حمد بن خليفة آل ثاني، رئيس لجنة ملف قطر لكأس العَالَم 2022 الذي تحدَّث في وقتٍ سابق عن هذا الصرح المعماري الكبير قائلاً: «إن ملعب لوسيل المُتميِّز سيكون المكان المثالي لافتتاح ونهائي كأس العَالَم، كما أنه سيكون مصدر إلهام لجيل جديد من الملاعب الرياضية الإقليمية والدولية، وسيجسد تقنيات تبريد صديقة للبيئة لضمان الأجواء المثالية للاعبين والمُتفرِّجين على حدٍّ سواء».

في الختام، لا شكّ أن ملعب لوسيل هو إنجاز كبير ومصدر فخر ليس لدولة قطر فحسب، بل للأمة العربية قاطبة، والأمر نفسه ينطبق على استضافة دولة قطر لكأس العَالَم. وإنّ استضافة نهائي كأس العَالَم في هذا الاستاد الرائع، كما يقول نجم كرة القدم الأسترالية تيم كيهل، ستمثِّل دون شكّ تجربةً فريدة لكل مَنْ يحالفه الحظ بحضور المُباراة النهائية ومشاهَدة تتويج الفائز بلقب أول نسخة من المُونديال في العَالَم العربيّ.

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

في نوفمبر/ تشرين الثاني من هذا العام ستتوِّج قطر سلسلة نجاحاتها وإنجازاتها، وسيستضيف استاد البيت الزوار القادمين من جميع أنحاء العَالَم بأذرع مفتوحة، مما يوفر لهم فرصة عيش تجربة فريدة من نوعها مليئة بالحيوية والإثارة. ليس هذا فحسب، بل سيتيح لهم فرصة التعرف على التقاليد القطرية الأصيلة عن قرب، وهو السبب الرئيس الذي دفع القائمين على المشروع لاختيار هذا التصميم من ضمن قائمة الاقتراحات التي قدَّمتها الشركة المُصمِّمة، شركة (دار) للتصميم.

الخيمة العربية القديمة، هي تجسيد للتراث العربي الأصيل، وهي رمزٌ لحسن الضيافة والكرم، وهي دليل على وحدة العائلة والمُجتمع. هي البيت الذي سكنه أجدادنا على مر التاريخ وحملوه معهم في ترحالهم وأسفارهم بحثاً عن أراضٍ خصبة ومياه وافرة ومناطق صالحة للعيش والنمو والازدهار. الخيمة هي تاريخنا، وهي فخرنا وعزّنا، منها انطلقت رسالتنا مع بزوغ فجر الإسلام، وفيها وُلد الكثير من الأبطال والأدباء والشعراء والعلماء المرموقين.

ورغم الثورة العمرانية التي يشهدها العَالَم العربي اليوم وتوجهه باندفاع نحو الحداثة والمدنية، إلّا أنه يجب ألّا نغفل أبداً عن التمسك بتراثنا وتاريخنا. وما أجمل أن نعكس هذا التراث الغني في مشاريع معمارية حديثة، تؤكِّد على عراقته وأصالته من جهةٍ، وتقدِّم وجهاً مشرقاً وحضارياً يتناسب مع الثورة العمرانية والتكنولوجية الاستثنائية التي نعيشها من جهةٍ أخرى.

هذه الرغبة الاستثنائية، والتي تبدو صعبة المنال للوهلة الأولى، تمَّ تنفيذها بكل معانيها في واحد من الملاعب الثمانية التي خصَّصتها دولة قطر لاستضافة نهائيات كأس العَالَم في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. والحديث هنا عن استاد البيت الذي استمد اسمه وتصميمه من خيام بيت الشعر التاريخية العربية التي سكنها منذ القِدم أهالي البادية في قطر ومنطقة الخليج العربي عموماً، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة التقليدية القطرية التي تتميّز بالأخوة وكرم الضيافة وحُسن الاستقبال.

التحدي الصعب

قطر، هي أول بلد عربي يستضيف كأس العَالَم لكرة القدم ويقبل التحدي الصعب بتنظيم بطولة عالمية على هذا القدر من الثقل والأهمية. ولكن قطر، كعادتها، فاجأت الجميع وأثبتت للعَالَم أجمع، من شرقه إلى غربه، أنها على قدر التحدي والالتزام بتحويل المُستحيل إلى واقع، وتجسَّد هذا الأمر بوضوح من خلال إنشاء ثمانية ملاعب فريدة من نوعها تنافس الملاعب العَالَمية، من بينها هذا الاستاد الأيقونة، استاد البيت.

تمَّ البدء ببناء هذا الاستاد التاريخي في شهر مايو/ أيار من عام 2016، وانتهى العمل به وافتُتح رسمياً في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ضمن مهرجان فني وكروي ضخم بمُناسبة افتتاح بطولة كأس العرب 2021، وذلك بحضور أمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، الذي حاول جاهداً انتقاء بعض الكلمات والتحدُّث باللّغة العربية، ربما بسبب سحر المكان وطابعه التراثي الخاص.

تبلغ مساحة الاستاد الإجمالية نحو 200 ألف متر مربع، ويملك طاقة استيعابية تقدَّر بحوالي 60 ألف مشجع، ويعتبر ثاني أكبر الملاعب الثمانية بعد استاد لوسيل. ومن المُقرر أن يستضيف هذا الاستاد المباراة الافتتاحية لكأس العَالَم وعدداً من مباريات الدور الأول (دور المجموعات)، ودور الـ 16، وواحدة من مباريات الدور ربع النهائي والدور نصف النهائي أيضاً.

شُيد استاد البيت في مدينة الخور التي تبعد حوالي 35 كيلومتراً إلى الشمال من الدوحة. اشتهرت هذه المدينة بموقعها الجغرافي الذي كان يعدُّ على الدوام وجهة لصيادي السمك والغواصين الباحثين عن اللؤلؤ، وهو السبب الذي دفع أهالي البادية، والمجموعات السكّانية منذ فجر التاريخ، للترحال والاستقرار في هذه المنطقة الساحلية. من جهةٍ أخرى تتميّز مدينة الخور أيضاً بتعدُّد مشاربها الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي جعل منها خياراً مثالياً لتشييد أحد الملاعب المُخصَّصة لاستضافة كأس العَالَم لكرة القدم 2022.

يحاكي تصميم الاستاد جزءاً مهمَّاً من ماضي قطر العريق وإرثها التاريخي وحاضرها في آنٍ واحد، ويعكس التناغم بين وسائل الراحة والحداثة المعمارية من جهةٍ، مع التركيز على المُتطلبات المُجتمعية المُستقبلية في المنطقة من جهةٍ أخرى. وقد يبدو الاستاد من الخارج كخيمة بدوية ضخمة أقرب إلى الخيال، ولكنها بالتأكيد ليست كباقي الخيام.

يهيمن اللون الداكن على الواجهة الخارجية الشبيهة بقماش السدو التقليدي المُستخدَم في إنشاء الخيام وبيوت الشعر الخاصة بالقبائل والعوائل البدوية، مع خطوط بيضاء وسوداء واضحة شديدة التباين. كانت الخطوط في الخيام الأصلية تشير إلى القبيلة أو العائلة التي تنتمي إليها الخيمة، بينما تعكس الخطوط على واجهة الاستاد الخارجية، المدينة المُضيفة، حيث يشعر المُشجِّعون لدى دخول الملعب بحفاوة الترحيب من خلال هذه النقوش النابضة بالحياة.

ولا يختلف الأمر كثيراً في التصميم الداخلي للملعب، بل تزداد الصورة اكتمالاً والترحيب حفاوة، حتى تشعر لوهلة أنك في خيمة حقيقية من خيامنا العربية القديمة، ويزداد هذا الشعور ألفة وروعة مع منظر الجدار الداخلي للملعب الذي يحاكي بدقة وجمال منقطع النظير القماش الداخلي في الخيام التقليدية ذات اللون الأحمر الدافئ والمريح.

من الناحية الهيكلية، يتكوَّن ملعب البيت من كيانين منفصلين: وهما صحن الملعب الرئيس والخيمة. يتضمن هيكل الصحن الرئيس ثلاثة طوابق سفلية مزوَّدة بأنفاق خاصة لدخول وخروج المركبات بطريقة سهلة وآمنة، وطابق أرضي وثلاثة طوابق عليا ومناطق جلوس منفصلة عن بعضها البعض.

أما الخيمة فيزيد طولها على 372 متراً وعرضها على 310 أمتار، وتغطي كامل الملعب. ويتكون هيكل الخيمة من نسيج قابل للشد متصل بكابلات ودعامات فولاذية، بالإضافة إلى دعامات خرسانية، متباعدة بشكلٍ متساوٍ في محيطها، وتعمل ككتل تثبيت للكابلات التي تمسك بالخيمة والسقف الذي يمكن فتحه وإغلاقه في عشرين دقيقة فقط. وتمَّ استخدام مواد متقدِّمة وقابلة لإعادة التدوير في كامل البناء، حيث تمَّ الاعتراف بها من قِبل نظام تقييم الاستدامة العَالَمي (GSAS).

ولضمان راحة المُشجِّعين في جميع الأوقات، تمَّ بناء محطة تبريد موفِّرة للطاقة تضم مبردات تعمل بالطرد المركزي ومبردات غليكول وخزانات ثلج ومرافق تخزين الطاقة الحرارية. علاوة على ذلك، تمَّ اتخاذ تدابير فعَّالة لمُواجهة الحرائق أو انبعاث الدخان في الملعب لتحسين توزيع الهواء والوصول إلى مستويات الراحة المطلوبة. كما اهتمَّت الشركة المُصمِّمة بمرافق البنية التحتية والأنظمة التي تخدم الاستاد، وشمل ذلك الأنظمة المُختلفة ذات التيار المُنخفض وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والأمن، والأنظمة السمعية-البصرية، بالإضافة إلى نظام الصرف الصحي، للحماية من ارتفاع المياه الجوفية، ونظام شامل لإدارة النفايات الصلبة.

وعند الحديث عن التصميم لا يمكننا أيضاً أن نغفل عن ذكر واحد من أهم المرافق في الملعب وهو نفق دخول الفريقين الموجود في الطابق الثالث تحت الأرض، الذي يعتبر إنجازاً ليس فقط على مستوى التصميم، بل على الصعيد الإنساني أيضاً، لأنه يعتبر مساحة رائعة تعكس رغبة الدولة المضيفة في تكريم العُمَّال الذين قاموا بأعمال البناء على مدى السنوات الماضية، والبالغ عددهم 11 ألف عامل من مختلف الجنسيات، حيث استطاعوا بسواعدهم وجهودهم إنجاز هذه التحفة المعمارية الاستثنائية. وللاحتفاء بهم، تمَّ وضع صور جميع العُمَّال المُشاركين بالعمل ضمن تشكيلات ضخمة على جدران المدخل وعلى طول النفق، لتشكِّل صورتهم مجتمعة قطعةً فنيّة متجانسة تمَّ نسجها من قماش السدو الأصيل.

أما قسم الضيافة، فيتضمن 96 غرفة بمساحات مختلفة مخصَّصة كأجنحة للضيافة، وهي ذات خصوصية ومواصفات عالية تحقق أعلى درجات الراحة والرفاهية للضيوف، وتتواجد هذه الغرف في نفس الطابق المُخصَّص لكبار الشخصيات، والذي يتمُّ الدخول إليه من خلال مدخل خاص، ويضم ردهات وقاعات استقبال وشرفات رائعة تعبِّر عن الكرم وحسن الضيافة القطرية.

كما يضمُّ الاستاد أربع غرف لتبديل الملابس تمَّ تصميمها على شكل المجلس العربي، وزودت بأحدث التقنيات لتوفِّر جواً من الراحة والاسترخاء للاعبين، وفي الوقت نفسه مساحة داخلية تسمح للاعبين بإجراء بعض تمارين الإحماء والاستعداد قبل الدخول إلى أرضية الملعب.

معيار في الاستدامة

كان الالتزام بتحقيق مفهوم الاستدامة واحداً من الالتزامات الرئيسة التي قدَّمتها دولة قطر ضمن ملفها الخاص لاستضافة بطولة كأس العَالَم لكرة القدم، ونعني هنا الاستدامة في التصميم، والاستدامة خلال عملية التنفيذ، وأيضاً الاستدامة عند تشغيل جميع المُنشآت والملاعب بعد البطولة. وبناءً على ذلك، تمَّ تصميم الخيمة بطريقة عملية للغاية، كما تمَّ تطبيق مفهوم الاستدامة في كل مرحلة من مراحل البناء، الأمر الذي جعل من هذا الاستاد أنموذجاً يحتذى به لمشاريع البناء الصديقة للبيئة.

ولأنه من الضروري أن تكون الخيام، التي يستمد منها استاد البيت رؤيته وتصميمه، مريحة ومستدامة ومناسبة لطبيعة الصحاري التي تتواجد فيها، كان من البديهي تطبيق المبدأ نفسه في الخيمة التي تحيط باستاد البيت. إذ على الرغم من بساطتها، من حيث التصميم، إلّا أن خيمة استاد البيت تلبِّي عدداً من المُتطلبات الأساسية وفي طليعتها الاستدامة، كما تحقق في الوقت نفسه الراحة والأمان والمُتعة للمُشجِّعين واللاعبين على حدٍّ سواء.

من ناحيةٍ أخرى، يحقق الاستاد حالة من الانسجام والتناغم مع البيئة المُحيطة به من خلال التكامل في عملية التصميم، واستخدام تقنيات ومواد البناء المحلية والمُتوفِّرة في المنطقة. ونتيجة لذلك، حصل تصميم وبناء استاد البيت على أعلى الدرجات وأفضل التقييمات من هيئة نظام تقييم الاستدامة العَالَمي، كما تمَّ منح الاستاد درجة خمس نجوم للتصميم والبناء، إلى جانب تصنيف عملية البناء ضمن الفئة (*A)، وأخيراً حصل على شهادة الامتثال لنسبة كفاءة الطاقة الموسمية.

وكغيره من الملاعب الأخرى التي ستستضيف كأس العَالَم، سيتمُّ تفكيك جزء من الاستاد بعد انتهاء المُسابقة ويُعاد تجميعه في أماكن أخرى، بينما سيتمُّ خفض القدرة الاستيعابية من 60 ألفاً حتى 32 ألف مشجِّع، وسيتمُّ تحويل غرف الضيافة إلى غرف فندقية، وقسم من المبنى إلى مراكز تسوُّق ونشاطات أخرى. أما الحلقة الثالثة من البناء فقد تمَّ تصميمها وبناؤها من النجارة المعدنية، ليتمَّ تفكيكها بعد البطولة والتبرُّع بها لعدد من الدول النامية التي تحتاج إلى بنية تحتية رياضية.

بهذه الطريقة، ستنتشر الروح الأخوية التي تحدَّث عنها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، جياني إنفانتينو، عندما قال في حفل افتتاح هذا الاستاد: «البيت هو المكان الذي يتحد ويجتمع فيه الجميع، إنه رمزٌ لما تمثله كأس العَالَم. اليوم، تمثل كأس العرب ما سوف تمثله بطولة كأس العَالَم في العام القادم، حيث يجتمع الناس سوية، ويتحد الناس سوية من كل أصقاع الأرض. لذلك، إن إقامة المُباريات في مثل هذا الملعب الجميل، في مثل هذا الملعب الرمزي، هو شيء يجب أن نعتز به وسيكون أمراً حاسماً في نجاح كأس العَالَم».

 

 

اقرأ في هذا الملف:

استاد 974.. في بيان الاستدامة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة

استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل

استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء

استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».. اِرتيابُ الحكاية في حدَثها ونِسبَتها

تَتّخِذ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»(1) قيمتها من قيمةِ الأدب الأساسيّة ومن حَيويّته الوُجوديّة الضروريّة. فالأدبُ حارسٌ من حُرَّاس الارتياب، ومُؤتمَنٌ على عُمْقه. إنّهُ ارتيابٌ يُوسِّعُ مفهومَ الحياة، ويُمكّنُ المَعنى من بُعده اللانهائيّ ومن أُفُقه المَتاهيِّ ذي الصِّلة المَكينة بليْل الكتابة، ويُتيحُ، فضلًا عن ذلك، تَفكيكَ أيِّ تَصلّب قد يَتسرَّبُ إلى علاقة «الواقعيّ» بالخياليّ. لعَلّ جانبًا من نُبْل هذا الارتياب هو ما صاغَهُ عبد الفتاح كيليطو في كتابه الجديد من داخل عالَمه الكتابيّ، واعتمادًا على طَرائقِ الحَكي والتأويلِ التي تحملُ دَمغتَهُ الشخصيّة ونَبرتَهُ الحاملةَ لمَلامحه.

مِن المفهومات التي عوَّلَ عليها الأديبُ عبد الفتاح كيليطو في صَوغ نَبْرَته الكتابيّة وإغناء قُدرَته الحكائيّة والتأويليّة، ثمَّة، تمثيلًا لا حصْرًا، مفهوم اللَّبْس، ومفهوم الهَذيان، ومفهوم سُوء الفهْم، ومفهوم النّسْخ والتناسُخ. اِستندَت عنايةُ كيليطو بهذه المفهومات إلى الحرْص على الانشغال المَعرفيّ بقَلْب الرّؤية إليها، والعمَل على تَحريرها من الحمولة القدْحيّة، بغاية العُبور بها، حَكيًا وتأويلًا، صَوب معنًى يقومُ على ردّ الاعتبار لها، وإبراز طاقتها التحليليّة وقُدرَتها على إمْداد الحَكي بما يُشعّبُهُ، وبما يُقوّي فيه حكمةَ الارتياب. بهذا العُبور، واستنادًا إلى مُمْكناته في الحَكي والتأويل، من جهَة، وإلى خلفيّاته وتَعدُّد مَرجعيّاته، من جهة أخرى، واصلَ كيليطو إنتاجَ معرفةٍ أدبيّة من داخل هذه المَفهومات، إذ لمْ يتوَقّف، في مَساره الكتابيّ الذي انطلقَ مُنذ سَبعينيّات القرن الماضي، عن الحفْر فيها والحفْر بها في الآن ذاته، على نحو هيّأ لها تَمديدًا حيَويًّا لا يَنفكّ يَتشعّبُ في كتابة كيليطو، حتى غدا اشتغالُ هذه المفهومات في مُنجَزه من السِّمات المُحدِّدة لنبرَة هذا الأديب الكتابيّة. تبعًا لذلك، غدَتْ هذه المفهوماتُ جُزءًا من التعاقُد الذي بناهُ الكاتبُ مع قارئه، إذ يتساءلُ القارئُ، كلّما نَشرَ كيليطو عملًا جديدًا، عن المنطقة التي منها شغّلَ هذا الأديبُ، مرّةً أخرى، المفهومات الأثيرةَ لديه. فحِرْصُ كيليطو على الاحتكام، في إنتاج نُصوصه، إلى المَفهومات السابقة وغَيرِها يُوَجّهُهُ رهانُهُ على قارئ يُشاركُهُ تَمديدَها، واستثمارَها في التأويل وفي فتْح دُرُوب المَعنى وتَوسيعها. من ثمّ، لا تَبْني هذه المفهوماتُ نَبرةَ الكاتب الذاتيّة وحسب، بل تُشكّلُ أيضًا الوَديعةَ التي يأتمِنُ الكاتبُ قارئَهُ عليها مثلما كان كيليطو نفسُهُ مُؤتمَنًا على وَدائع «المقامات» و«ألف ليلة وليلة» وغيْرها من النّصوص التي انجذبَ إلى تَمديدها بالحَكي والتأويل. فكتابةُ كيليطو تُسْهمُ في خلْق قارئ يَنخرطُ معها في مهمَّة نَسْج الخُيوط التي تُقيمُها هذه الكتابةُ بين الحَكي والتأويل، وتُقيمُها، بناءً على المفهومات السابقة وعلى غيرها، بَين قديمِ الثقافة وحديثِها.

(1)

خلخلة مفهوم الحدث وزعزعة نِسبة الحكاية

في سياق التمديد الذي تَشهدُه الطرائقُ المُعتمَدة في تَشغيل المفهومات المُشار إليها لدى كيليطو، تكشفُ روايتهُ «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» عن استثمار مُتعدِّدِ الأبعاد لمَفهوم اللبْس ومفهوم الهذَيان ومفهوم التناسخ بوَجْه خاص. وهو ما تبدَّى مُنذ عُنوان الرّواية الذي يَعتمدُ في تَركيبه اللُّغويّ صيغةَ «يقين»، ولكن كي يُضيءَ، على نحو مُفارق، ارتيابًا لا يَكفّ عن التنامي عبْر المفهومات المُشار إليها. اللافتُ في هذا العُنوان أنّه مَصوغٌ بتَركيب يَرومُ تَرسيخَ يَقين بشأن نسبَة الحكاية، ويَبتغي إزالةَ لَبْس بصدَدها، فالقَسمُ وأداتَا التوكيد («إنّ» و«اللام الواقعة في جَواب القَسم») يُرَجِّحان ذلك، غير أنّ الرّواية بكاملها تَنهضُ، خلافًا لظاهر عُنوانها، على لَبْس مَنسوج بارتياب مَكين. ارتيابٌ يَتوزّعُ كلَّ مَشاهدِها ويُوَجِّهُ نُمُوّها. أبْعَد من ذلك، فالحكاية، بما هي مَوضوعةٌ رَئيسةٌ في هذه الرواية، ترتابُ في حدَثها، وفي ذاتها، وفي نِسبة الحدَث إلى الشّخوص. كما لو أنّ الرواية لا تَسرُدُ حكايتَها، وهي تبحثُ عمّن تُنْسَبُ وقائعُها إليه، (أثمّة أصلًا وقائع في هذه الرواية أم يَتعلّقُ الأمرُ بحَكي مُضاعَف أو بتأويل يَتحوّلُ إلى حكاية؟)، إلّا كي تَنسجَ ارتيابًا فكريًّا من داخل مُمْكنات الحَكي.

ليس هذا الارتيابُ «المُتعارضُ»، بقصْديّة مَدروسة، مع العُنوان مُجرّدَ افتراض قرائيّ، بل هو رهانٌ كتابيٌّ بيّنٌ، إذ تمَّ الاحتكامُ إليه وَفق اشتغال مُتأنٍّ مُنذ أوّل جُملة في الرّواية قبْل أن يَسريَ في أدقّ تفاصيلها، حتى بدَت الروايةُ كما لو أنّها لا تَنْمو إلّا بغايةِ تَقوية الارتياب. لعَلّ هذا الاشتغالَ المُتأنّيَ هو ما جعلَ كلَّ عبارة في الرّواية مُنطويَةً على أصداء بَعيدةٍ، مانعةً بها انتسابَ حكايتها إلى حدَث واضح المَعالم وإلى شَخص مُحدَّد، لأنّ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» لا تَروي أساسًا إلّا عن كُتُب وعن حكايات قادمة من مَصادرَ عديدة. وهي بذلك تَنمو عبْر تأوُّلها للطرُوس، التي تُشكّلُ خَلفيّةَ الحَكي، أكثر من نُموّها عبْر وقائع، بل لرُبّما لمْ تَعْمَل الرواية إلّا على تَوليد وقائعَ مِن هذه الطّروس، أي تَوليد الوقائع من الكُتُب بوَجه خاصّ، ضمْنَ قلْب ذي امتدادات فكريّة، به تُسائلُ الروايةُ علاقة «الواقعي» بالخَيالي، وعلاقة المَعيش بالكتاب. لذلك كلّه، تتطلّبُ قراءة رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، من بين ما تتطلّبهُ، التركيزَ على التفاصيل الصّغرى، لِما تَنطوي عليه هذه التفاصيلُ مِن مُضمَراتٍ شديدَةِ التكثيف. فقد صيغَتْ هذه المُضمَراتُ بتأنٍّ فكريّ يَستدعي صُورةَ الصائغ في إحكامِ العَمل وإتقانه وتَجويده. فالرواية لا تتّخذُ من علاقة الكاتب بالصّائغ مَوضوعةً من مَوضوعاتها وحسب، بل إنّ كيليطو نفسَهُ يُمارسُ الكتابةَ انطلاقًا من وَعي مَكين بما يَصلُ الكاتبَ بالصّائغ، وبما يَصِلُ أيضًا الكتابةَ بالخياطة. عُمومًا، فالانشغالُ بالتفصيل الصّغير خَصيصةٌ كتابيّةٌ في أعمال كيليطو جَميعِها، إذ تحتفظُ فيها كلّ عبارةٍ بأصدائها البَعيدة. أصداء قادمةٌ من أصْواتٍ غابرَةٍ أو من أصوات مُبْهَمَةٍ يُوَلّدُها التأويل.

تَسردُ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» حكايَتَها فوقَ طِرْس رَئيس هو حكاية حسن البصري الصائغ، الواردة في كتاب «ألف ليلة وليلة»، وتُضاعِفُها بحكاية حسن ميرو، التي تُمدِّدُها الرّوايةُ بحكاية مُحسن في رواية «عُصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، وبحكاية الأستاذ ع. وحكاية يوليوس موريس، وبمَقاطع من حياة الراوي (ولربّما مِن حياة كيليطو نفسه)، وبأصداء أخرى قادمَة من كتابات كيليطو السابقة. لا تعملُ هذه الطروسُ إلّا على زَعزعة اليَقين الوارد في عبارة العُنوان، وتَوسيع احتمالات الإحالة في ضَمير المُتكلّم الواردة في هذه العبارة، وتَقوية التباسه، إذ لم تَقُم الفِقرةُ المُثبَتةُ في ظَهر غلاف الرواية، وهي تَنسبُ، بطريقة لا تَخلو من ارتياب، ضَميرَ المُتكلّم في العُنوان إلى شهريار اعتمادًا على ما تفرّدَت به خاتمة إحدى نُسَخ الليالي، سوى بتَعميق الالتباس. فتعدُّدُ الطروس جَعلَ نسبَةَ الحكاية مُلتَبسة، وجعلَ الفاصلَ بين «الواقعيّ» والمُتخيّل فيها واهيًا، حتّى ليُمكن للتأويل أنْ يعدّ خَلخلةَ هذا الفاصل أحدَ المُوَجّهات الرّئيسَة في رواية كيليطو، إذ يَبدو الحَدثُ  كما لو أنّه هو نفسُه ليس سوى حكاية، وهذا أمرٌ غيرُ غريب عن نَمط الرواية التي يكتُبها كيليطو؛ رواية تتّخذُ من الأدب مَوضوعًا لها. لذلك غالبًا ما يكونُ بطلُها أديبًا(2)، ويكونُ الراوي أيضًا أديبًا، على نحو يَجعلُ مَوضوعَ الرواية و«أحداثها» غيرَ مُنفَصلة عن الكُتُب وأسئلتِها وقضايا تأويلها، بل إنّ الحديث عن الكُتُب وتَحليلها وتأويلها يكونُ، في الغالب العامّ، العُنصُرَ الرّئيس في نُمُوّ الرواية. لذلك، لا غرابة أن يكونَ الكتابُ هو البَطل، مثلما هي الحال في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».

تبدأ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» بجُملة تَضطلعُ بتأطير دالّ، إذ يُقيمُ هذا التأطيرُ صِلةً بين ما «يحدث» في الحكاية وحياة الراوي، انطلاقًا من الإيهام بحدَث ذي جذور واقعيّة تبدّتْ من حِرْص الراوي على الإشارة، منذ الاستهلال، إلى أنّ «الحدث» جَرى في منزل والديْه. في هذه الجُملة الاستهلاليّة، يقولُ الراوي: «يَحدثُ هذا، مرّةً أخرى، في بيت والديّ: ساحة مُربَّعة مفتوحة على السّماء(3)». لا تبدأ الرواية بكلمة «يَحدث» عبثًا؛ لا تبدأ بهذه الكلمة إلّا لتتّخذَ من مفهوم «الحدَث» نَفسِه مَوضوعًا لبناء اللّبْس وتَعميق الارتياب، إلى حدّ مَنْعِ «الحَدث» من أنْ يَستقيمَ في صُورة ثابتة. وهو ما يَسمحُ، وَفق مَسار قراءة أخرى مُمْكنة، بتأوّل نُمُوّ الحكاية، في مُختلف تفاصيلها، انطلاقًا من اعتبارها تفكيكًا فكريًّا لمفهوم الحَدث بمطرَقة الحَكي. قد تتسنّى هذه القراءة باقتفاء التفكيك والتّتبُّع التّفصيليّ لحِرْص الرواية على جَعْل الحَكي يَنهَضُ بالتقويض الذي يَضطلعُ به الفكرُ، لكن اعتمادًا على لعِب مُحَصَّن بالخَيال والإمتاع. إنّه أمرٌ لم يكُفّ كيليطو عن تَرسيخه مُنذ أنْ أرساهُ في خاتمة مؤلَّفه «الكتابة والتناسخ»، التي خَصّها للمُستَنبح القادم من مقامة الحريري الكوفيّة. إنّهُ المُستنبحُ الذي تكفّلَ، في هذه الخاتمة، بإضاءَة التشعُّب الفكريّ لمَسألة الازدواجيّة اللُّغويّة، اعتمادًا على كتابةٍ نُسِجَتْ وهي تُقيمُ لقاءً مَرِحًا بين الفكر والخيال. لربّما أمكنَ القول إنّ هذا الإرساءَ، الخاصّ باشتغال الفكر من داخل الحَكي، تكشّفَ في كتابة كيليطو مُنذ أطروحَته عن «المقامات»، أي قبل مُؤلَّف «الكتابة والتناسخ». لقد تسلّلَ الخيالُ إلى هذه الأطروحة، التي عملَ فيها كيليطو، بجُرأة علميّة، على إدماج الخيال في البحث الأكاديميّ. أصداءُ تأمّل هذا الإدماج بَيّنة في مَوضوعة الإشراف على البُحوث الجامعية، التي شكّلت مَوضوعة من مَوضوعات رواية «أنبئوني بالرؤيا» ورواية «والله إنّ هذه  الحكاية لحكايتي»، بل إنّ الروايتيْن تضمّنَتا، في سياق سُخريّة نقديّة، تصريحًا بحَيويّة التشويش على الأسلوب الأكاديميّ في البحث.

بنموّ رواية «والله إنّ هذه  الحكاية لحكايتي» وتَوالي تآويلها(4) لا أحداثها، يَشعرُ قارئُها بتَلاشي الماهيّة الواقعيّة للحدَث، إلى حدّ يقودُ إلى افتراض أنّ الكاتب حَرصَ بصورَة ضمنيّة على خَلخلة مفهوم «الحدث» بدقّة مَدروسة منذ جُملة الاستهلال. بَعد تأطير جُملة الاستهلال للحدَث مُفترضَةً وُقوعَهُ في المكان ذاته الذي سَبقَ لحدَث آخَر أن وقعَ فيه (يُلمحُ كيليطو بذلك، من بين ما يُلمِحُ إليه، إلى روايته «أنبئوني بالرؤيا»)، تكفّلت الصّفحةُ الأولى من الرواية برَسْم المَشهد – النّواة قبْل تَفريعه عبْرَ ارتياب مَدروس بصَرامة، ومَصُوغ في انسياب الحكْي. يَتعلّق الأمرُ في المشهد – النواة بشخصيّة نورا وهي تَرتدي ثوبًا من الريش، مُنتظرةً مُنذ الفَجر استيقاظ حسن ميرو كي تُوَدّعَه، ولمّا تسنّى لها ذلك بَعد أنْ فُتِحَ بابُ الحُجرة، حلّقتْ ثمَّ اختفَتْ، ليُلقيَ حسن باللوم على والدته، مُرجِّحًا أنّها هي مَنْ أخبَرَ نورا بالمكان الذي خبّأ فيه معطف الرّيش. هو ذا مَشهدُ الافتتاح الذي شرعَ الراوي في «تفسيره» وتَمديده بالحَكي، وعملَ عبْرَهُ على خَلخلة مفهوم الحدث، مُعتمدًا، في مُنطلَق الرواية، على سلسلة من التعليقات سَعَتْ جَميعُها إلى استنبات اللَّبْس والارتياب.

أ- في التعليق الأوّل على المشهد – النواة، يُوردُ الراوي مجموعةً من الأسئلة، إذ يقول: «ليس هذا المَشهدُ عديمَ الفائدة، لكن ما دخْلُ والديّ في الأمر؟ وإلى أيّ مدى هُما مَعنيّان بما حدث؟ والأسوأ أنّه إذا كانا مُتورّطيْن، فأنا، أيضًا، ضالعٌ في الحكاية… لكنّ حسنًا ميرو لم يَضَع رجْليْه في عتبة مَنزلنا، لا هو ولا زَوجته، ناهيك عن ولديْه. من المُحتمَل أنّني تحت تأثير رُؤيا سابقة… أيّة رُؤيا؟ وفي أيّ سياق؟ ماذا حدَث بالتحديد، في منزل والديّ(5)». لا يَقومُ هذا التعليقُ إلّا بإبعاد الحدَث عن واقعة من الوقائع، أي بتَجريد الحدَث من واقعيّته ومن إمكان أن يكونَ قد وَقعَ فِعْلًا، وذلك استنادًا إلى خَلخلة مَدروسة لمَفهوم الحدَث نَفسه، وإلى الحرص على وَصْله برُؤيا، على نحو يُسيّجُه ضمْن الخيال. لعَلّ هذا الوَصْلَ هو ما هيّأ به الراوي لطرْح سُؤال إشكاليّ يَتجاوَزُ سياقَ هذه الرواية كي يَشملَ ما يَربطُ الحكيَ بالحدث بوَجه عامّ. إنّه السّؤال الذي صاغهُ الراوي في قوله: «ماذا حدث بالتحديد؟». مَن يَقوى، في كلّ حكاية، على تقديم ما حدَث «بالتحديد»؟ وهل يَرومُ الحكيُ، أصْلًا، روايةَ ما حدَث «بالتحديد»؟ أليْست المسافةُ بين الحدَث وحكايته هي مُسوّغُ كلّ حكاية؟ ألم تكُن الحاجة إلى الحكاية، في الأصل، سوى رغبةٍ في إبعاد الحدث عن ذاته وتَمكينه من استعادات تجعلُهُ مُختلفًا عن نَفسه؟ ألا تغدو الحكاية، أيُّ حكاية، وهي تَنمو في الزّمن وفي التاريخ وفي استعاداتِها المُختلفة، مُتلوّنةً بما به تَنمو؟ ألا يكُفُّ كُلّ حدَث بمُجرّد حُدوثه، عن أن يكونَ واقعَةً كي يَصيرَ حكايةً بصيغَة الجَمع؟ ألا يَغدو الحدثُ، حتّى في استعادَة الفرد لقصّته الشخصيّة، سلسلةً من النُّسَخ المُتباينة، على نَحو ما عاشتْهُ أكثرُ من شَخصيّة في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»؟ أليس مَصيرُ كلّ حدَث أن يَصيرَ حكاية؟ ألا تصيرُ الحكايةُ هي الماهيّةَ المُمكنة للحدَث؟ وماذا لو كان أصْلُ الحدَث نفسُه حكايةً أو «مُجرّدَ» مُنَمنمَة مَرسومة فوق حكاية؟ على نَحو ما هو مُرجّحٌ في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، بما يُفضي إلى خَلخلةٍ تُسائلُ العلاقة بينَ الحدث والحكاية، وتمتدُّ حتى إلى مفهومهما، بما يُعيد النظرَ بشأن أيّهما يُوَلِّدُ الآخَر؛ أيُولِّدُ الحدَث الحكاية أم أنّ الحكاية هي ما يُوَلِّدُ الحدث؟ إنّ السّؤال الذي طرَحهُ الراوي في سَعْيه إلى الإمْساك بما حدثَ على وَجه «التحديد» يَحتملُ أن يكونَ الحدثُ هو الحكيَ ذاتَه لا ما وَقع (ماذا وقع؟ أثمّة واقعةٌ أصلًا خارج الحكاية التي شكّلت مَوضوع الرواية؟)، بصُورَةٍ تَكشفُ الماهيّة الحكائيّة للحدَث بوَصفها ماهيّتَهُ المُمْكنة.

ب- في التعليق الثاني على المَشهد – النواة، يُواصلُ الراوي أسئلتَهُ ويَعملُ على إخراج الحدَث من منطقة «التحديد»، التي كانت مُوَجِّهَ السؤال الإشكاليّ السابق، إلى منطقة «الترجيح»؛ وهي المنطقة الأقرَب لتأمّل أيّ حدَث. يقولُ الراوي في هذا التعليق: «حدَثَ ذلك، على الأرجَح، غداة رُجوع حسن من سَفر طويل نسبيًّا(6)». الانتقال من التحديد إلى الترجيح حَيَويٌّ في مَسار بناء الارتياب، إذ يُعيدُ هذا الانتقالُ النظرَ في سبَب القرار الذي اتّخذَتْه نورا بشأن علاقتها بحسن ميرو، أي قرار الانفصال أو «التحليق» حسب ما تَضَمّنَهُ المشهدُ – النواة. فسبَبُ انفصالها عنه يعودُ، وَفق ما يُتيحُهُ الترجيح، إلى الوَهلة التي رأتْه فيها لأوّل مَرّة. يقولُ الراوي: «لقد كرهَتْهُ فورًا بينما كان مُتيّمًا بها إلى حدّ الجُنون. بمُجرّد أن رأتْهُ انفصَلتْ عنه بالفِعل(7)». بهذا الترجيح ذي الأصداء المُبْهَمَة، يَتراجَعُ إمكانُ الحَكي عن «الحدث» بصيغَةٍ تُفيدُ «التحديد». هكذا يَغدو الحدثُ مُزاحَمًا بحكاية تُنافسُهُ في ماهيّته، أي يَغدو قابلًا لاحتمال أنْ يكونَ في الأصْل نابعًا من حكاية. يَشعرُ القارئُ، في ضَوء هذا الترجيح، بصَدى كلّ الحكايات التي كانت تحملُ انفصالَ رجُل وامرأة في لحظةِ انطلاق علاقتهما، أي كُلّ العلاقات التي كان طيفُ «معطف الرّيش» يُلازمُها ويَجعلُ التحليقَ أو الانفصال احتمالها المُنتظَر(8). قد يَستحضرُ القارئُ، حتى قبْل أنْ يَكتشفَ إعجابَ حسن ميرو برواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، ما وقعَ في هذه الرواية بين مُحسن وسوزي التي ارتبطَت به مُدّةَ أسبوعيْن وهي تعرفُ، مُنذ اللقاء الأوّل، أنّها ستنفصلُ عنه، لأنّها كانت مُتعلِّقة بهنري، أي أنّها كانتْ تَنتظرُ، مثلما هي حال الجنّيّة المُجنَّحة في حكاية حسن البصريّ في الليالي، لحظة العُثور على «معطف الريش»، وَفق المَعاني الجديدة التي يُمكنُ أن يَحتمِلَها هذا المعطفُ وهو يَبتعدُ عن حكايات «ألف ليلة وليلة». ما لهُ دلالة في هذا السياق هو أنّ التعليقَ الثاني للراوي على المَشهد – النواة أفضَى إلى التّرجيح، الذي به انزاحَ الحدثُ عن «منطقة التحديد» وَفق زَعزعةٍ تمَسّ، استنادًا إلى ما سَبقت الإشارة إليه، مفهومَ الحدَث ذاته.

ج- في التعليق الثالث على المَشهد – النواة، انتقلَ الراوي إلى منطقة الارتياب التي كان يُهيّئ لها، دون أنْ يوقِفَ آلية الترجيح الذي جعلَ الحكيَ يَبتهجُ، في مُختلف أطوار الرواية، بالاحتمالات المُخَلخِلة لثبَات الحدَث على أصْل واحد. ثمَّة، إذًا، تدرُّجٌ يَنمو، وَفقَ نأي وتأنٍّ دقيقيْن، مِنَ التحديد إلى الترجيح، ثُمَّ مِنَ الترجيح إلى الارتياب الذي ظلّ يقتاتُ احتمالاتِ الترجيح باستمرار. يقولُ الراوي في التعليق الثالث: «بَيد أنّ هذا ليس حقيقةً مُؤكّدة، والأمورُ ليسَت بهذه البَساطة. فالسّفرُ المُفترَض، والذي تَحومُ حَوله شبْهةٌ ما، ليس له علاقة بحَسن. لم يُفكّر أبدًا في القيام به، ولم يكُن لديه داعٍ مهنيّ أو شخصيّ للسّفر بَعيدًا عن أُسرته. لا شكّ أنّ الأمْرَ يتعلّقُ بشَخص آخَر، شَخص يَحملُ الاسمَ نفسَه. لنكُن حَذرين، لنَحرص على عدم الخلْط بين الحكايات، لنتجنَّب التأثّر بأوجُه شَبه مُبْهمة(9)». يَخضعُ هذا التعليقُ الثالث ذاتُه إلى تدرُّج مَدروس، إذ يَنطلقُ من فَصْل الحدَث عن حقيقة مُؤكّدة، وإبعادِه عن البَساطة، وتقريبه من الاشتباه والارتياب، وزَعزعةِ نسبَته إلى شَخص مَعلوم، فلم يَعُد الحدَث، بذلك، هو وَحدهُ المَشكوك في ماهيّته، بل حتّى مَن وقع له، على نحو يُوَلِّدُ لدى القارئ السّؤال التالي: حكاية مَن هذه الحكاية التي صاغَ عُنوانُ الرّواية نِسبَتها بصيغَة القسَم والتوكيد؟

لن يَتوَقّف التّرجيحُ عند هذا الحدّ، بل واصلَ الراوي توليدَ الاحتمالات عبرَه، انطلاقًا من سَعيٍ دقيق إلى إبعاد الحدث عن أصْل ثابتِ الصّورة. في سياق ذلك، يُرجعُ الراوي الحدثَ إلى أصلٍ ليس هو ذاتُه سوى نُسخَة. فالمشهدُ النواة، لا يُحيلُ، في ترجيح جديد، إلّا على رَسْمٍ في مُنَمنمَةٍ تُصَوّرُ حكايةً ما. لم يَعُد الحدث، تبعًا لهذا الترجيح، مُنبثقًا من نصّ، بل من مُنَمنمَة مَرسُومة استنادًا إلى نصّ. الانتقالُ في هذا الترجيح إلى أصل -نُسخة يُوغلُ بالحدث في البُعد، كما لو أنّ نُمُوَّ الحَكي يَرومُ جَعْلَ الحدث يشطُّ في البُعد. يقولُ الراوي عن المشهد- النواة في هذا الترجيح الجديد: «ليس هذا، على الأرجح، سوى لوحة شاهَدْتُها في مكان ما، في متحف رُبّما، أو بالأحرى مُنَمنمَة في كتاب. أيُّ كتاب يا تُرَى؟ ومَنْ هو الرّسّامُ الذي أنجَزَها؟ ومَنْ أوحى له بها؟ نصّ ما بالتأكيد، حكاية قامَ بتصويرها. لكن، هل هُناك نصٌّ؟ لو كان مَوجودًا، لتذكّرتُ الحكاية. غير أنّني قرأتُ ما لا يُحصَى من الكُتُب، ما لا يُعدُّ من الحكايات، إلى درجة أنّني نَسيتُ العديدَ منها، وأنّها تختلطُ في ذهني(10)». لا يُوَلِّدُ الراوي، وهو يُبعدُ الحدثَ عن أصل ما، سوى الارتياب. إنّهُ يَحكي بارتياب عن الارتياب. يَبدو الراوي كما لو أنّهُ مَنذورٌ، وَفق ما تداخلَ في لاشعوره القرائيّ، لأنْ يَحكي اعتمادًا على السّؤال. ليس من إمكان للحَكي سِوى الاسترشادِ بالسّؤال الذي لا يَقودُ إلى أيّ يقين. إنّ السؤال، على العكس، يُغذّي الارتيابَ ويُقوّيه.

إنّ ثمَّةَ حرصًا، مُنذ البَدء، على تَفتيت الحدَث عبْر تنويعِ احتمالاتِ أصْله ومَصدَره، حيث يَغدو الحدَث، في تَفتّته، شَبيهًا بشَذرات لا تَحتفظُ بها الذاكرةُ اعتمادًا على وقائع، بل اعتمادًا على كُتُب وحكايات. تتعدّدُ أصولُ الشذرات، التي هي الصّورَة المُمكنة للحدَث؛ إذ منها ما هو مُنبثقٌ من حكاية من حكايات «ألف ليلة وليلة»، ومنها ما هو مَشدودٌ إلى رواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، ومنها ما هو مُرتبط برُسوم مُنَمْنَمَةٍ من المُنَمْنَمات، ومنها ما لهُ صلةٌ بالمقامات، ومنها ما يَنطوي على أصداء قادمةٍ من كتابات كيليطو السابقة ومن مَقروئه بوَجه عامّ. تَمنعُ الشذراتُ الحدَثَ من أنْ يَحتفظ بأصل ثابت، ومن أنْ يُسنَدَ إلى شَخصيّة مُحدّدَةٍ بوُضوح. بناءً على هذا التّفتيت المَصوغ بدقّة عالية، وبالإمكانات التي يُتيحُها اللقاءُ المَرِحُ بين الحَكي والفكر، تَنفتحُ نِسبةُ الحكاية على احتمالاتها، أي تغدو قابلةً لأنْ تَنتَسِبَ إلى مَن راهنَ على أن يَجعلَ حدثَ رواياته قادمةً من حكايات الكُتُب. لذلك، يُمكنُ للقراءة أن تَسمعَ في عُنوان الرواية، أي في عبارة «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، بَعد الإنصات لأطوار الرواية، صدًى بَعيدًا يَسمحُ للتأويل بأنْ يُرجّحَ أنّ الضّمير(11)، في عبارة العُنوان، قد يَعودُ على كيليطو، الذي عاشَ كي يَحكي حكايةً انفصلَتْ عن حدَث واضحِ المَعالم، بَعد أن صارَت مُنشغلةً بحدَث الحَكي المَنسُوج من أصداء حكايات لا حدّ لها(12). إنّ للأمر صلةً، في العُمْق، بتصوُّر كيليطو للكتابة، مثلما له صِلة بحيَاةِ هذا الأديب الذي اقتسمَ مع شُخوص الرّواية ارتهانَ حَياته بالكتاب.

ثمَّة، في المَسار الذي اتّخذهُ الحكيُ والتأويل داخل رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، مُرتكزٌ معرفيٌّ يَمَسُّ مفهومَ الكتابة نَفسَه. فالحكيُ يَنمو بمُوَجِّه قلْب المَنحَى المُعتاد، أي المَنحَى الذي فيه تُصاغ حكايةٌ عن حدَث ما، حيث تَغدو الوجهَةُ، التي يأخذُها الحَكيُ، على النحو التالي: الانطلاق من حكاية بغاية تَحويلها إلى «حدث». بهذا التّحويل لا يَستحضرُ الحكيُ الوقائعَ إلّا كي يَرتابَ فيها، لأنّه لا يَستحضرُها، أصلًا، إلّا من داخل حكايات. فيغدو التأويلُ الحكائيّ، الذي تَخضعُ له الحكايةُ المُشكِّلةُ لنصّ الانطلاق، هو الحدَث. مِنْ حكاية الحدَث إلى الحكاية – الحدث تَوَجُّهٌ كتابيٌّ يَستندُ إلى مُوَجّهات معرفيّة عن نَمط الرّواية التي يكتُبُ كيليطو، وإلى تَصوُّر عن رواية تتحقّقُ من داخل التأويل، وتعَدّ فعلَ التأويل رَئيسًا في تحديد ماهيّتها وفي سَيرورَةِ حَكْيها.

(2)

القراءة بالخلط والتماثلات المُبْهَمة

بَعد التكثيف الذي انطوى عليه التعليق الثالث على المشهد – النّواة، اعتمادًا على تقويةِ نبرة الارتياب، انتهى التعليقُ، وَفق ما سَبقَت الإشارة إليه، بتَحذير دالّ، جاء فيه: «لنَحرص على عَدَم الخلْط بين الحكايات، لنَتجَنَّب التأثّرَ بأوجُه شَبَه مُبْهَمة». التحذيرُ من الخَلط والدّعوة إلى عدم الالتفات إلى أوجُه شَبَه مُبهمَة أمْران حيَويّان في كتابة هذه الرواية، وفي الاحتمالات المَفتوحة أمام قراءتها وتأوّلها. لابدّ، إذًا، من مُصاحبَةِ احتمالاتهما الدّلاليّة في الرّواية، لاقترانهما بخَصيصةٍ من صَميم كتابة كيليطو بوَجه عامّ.

(1.2)

التحذير من الخَلط  

اللافت، بالنّسبة إلى تَحذير الراوي منَ الخَلط بين الحكايات، أنّ الحَكيَ في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» لا يَقومُ إلّا على هذا الخَلط، بل إنّ قوّةَ هذه الرواية نابعةٌ أساسًا من نَسْجها للخَلطِ بإحكامٍ شديد، إذ به انبنَتْ نَبرةُ الالتباس والارتياب. ليس تَحذيرُ الراوي، تبعًا لذلك، سوى تَوجيهٍ مَعكوس، أي أنّ التّحذيرَ، في الأصل، تحريضٌ على قراءة الرّواية استنادًا إلى هذا الخَلط. لا يتمّ التحذيرُ من الخَلط إلّا بغايةِ التحفيز على اعتماده. للتحذير، من هذه الزاوية، صلةٌ بمَوضوع الفُضول، الذي شغلَ كيليطو كثيرًا في تأويله لنُصوص «ألف ليلة وليلة»، إذ أشارَ هو نفسُهُ، في سياقات عديدة، إلى أنّ التحذير من أمْرٍ ما يَنطَوي على تَوليد الفُضول لخَرقه. أيتوَجّهُ الراوي بتَحذيره إلى نَفسه أم إلى القارئ؟ أيًّا كانت وجهَةُ تحذير الراوي، فإنّ مَنطوقَ قوله لا يَستقيمُ إلّا بخَرقه، لأنّه لا يَحكي هو أيضًا إلّا بنَسْجِ خَلطٍ مدروس.

لا يُمكنُ للراوي، بوَصفه أديبًا، أن يَحكيَ إلّا من داخل مَقروئه، وهو مَقروءٌ شاسعٌ كما اعترفَ هو نفسهُ في سياق تقويَته لاحتمال أنْ يكونَ الحدثُ مُنبثقًا من الحكايات التي قرأها واختلطَت في لاشعوره القرائيّ، إذ قال، كما سبَقت الإشارة: «قرأتُ ما لا يُحصَى من الكُتُب، ما لا يُعدُّ من الحكايات، إلى دَرجة أنّني نسيتُ العديدَ منها، وأنّها تختلطُ في ذهني». لا يُعوِّلُ الراوي في حَكيه سوى على ما «اختلط» في ذهنه من حكايات، أي على وَعيه بأنّ الحكيَ لا يَستقيمُ إلّا بهذا الخَلط الإبداعيّ الخلّاق. ثمَّ إنّ الحكيَ عن الالتباس لا يَتسنّى إلّا بخطاب مُلتبس؛ خطاب يُحفِّزُ ويُوَلِّدُ الفضول، ولكن بصيغَة معكوسة تتبنَّى التّحذير. يَحكي الراوي عن الالتباس بنَبرة مُلتَبسة؛ مُستندًا إلى التباسِ الحكايات في ذهنه، فيَغدو حكيُهُ، اعتمادًا على التباسها، حكيًا، في الآن ذاته، عن هذا الالتباس. بالالتباس يتمّ الحكيُ عن الالتباس. وهو أمرٌ يقومُ به الراوي لا مُنساقًا وراء ما اختلطَ في ذهنه، بل وَفقَ نسيان فعَّال، ووَفق تدبير خاضع، في إحكامه، لصَرامةٍ حاسمَة في الحكي الذي يَضطلعُ به الرّاوي وفي تَحديد نبرة الكتابة نَفسِها لدى كيليطو أيضًا. كما لو أنّ كيليطو كان مُنشغلًا، وهو يَصوغ شَخصيّة الراوي، بالكيفيّة التي تُمَكّنُ هذه الشخصيّة من القُدرة على صَوغ حَكي مُلتبس قائم على خَلط أدبيّ، وراسمٍ، في الآن نَفسه، لنبرَة الكتابة لدى خَالق هذه الشخصيّة. فالخَلطُ يقومُ، مثل الصياغة والخياطة، بإتقان مُحكَم.

إذا كان الراوي يَحكي وَفق الخَلط واستنادًا إليه، فكيفَ للقارئ ألّا يَنخرطَ في تتبُّع الصّرامة التي بها يُنسَجُ الخَلط، وكيف له ألّا يُسْهمَ في تَمديد اللّبْس؟ إنّ التحذير السابق إذًا مقلوبٌ، فالمُرادُ منه عكسُ ظاهره، إنّه تنصيصٌ على أنّ كلّ قراءة من خارج الخَلط لن تَستوعبَ مُرتكَزًا من أهمّ أسُس النّبرة الكتابيّة في هذه الرواية، وفي أعمالٍ أخرى لكيليطو. كما لو أنّ الراوي يَدعو القارئَ إلى اعتماد الخَلط، لأنّ ما يُكتَبُ بناءً على خَلط خلّاق لا يُقرأ إلّا في ضَوء تَمديد هذا الخَلط والمُشاركة في صَوغه. لربّما يعودُ الأساس المَعرفي البَعيد لهذه الدّعوة، التي تَنشدُ قراءةً بالخلط وتُحفِّزُ عليه، إلى حاجة هذا النمط من الرواية إلى لاشعور قرائيّ خَصيبٍ بشُسوع نُصوصه، كما يعودُ، من زاوية أخرى، إلى تصوُّر يَرى كُلّ حكاية خِلْطًا مَصيرُهُ أن يَحيَا داخل أخلاط أخرى. إنّهُ المصيرُ الذي يُؤمِّنُ لكلّ خِلطٍ حَياتَه. المصيرُ الحَتميُّ لكلّ حكاية كي تَدومَ في الاختلاف هو أن تُعاودَ الظهورَ داخل حكايات أخرى، كما لو أنّ كلّ حكايةٍ ليسَتْ سوى خِلطٍ مَنذور، كي يَحظى بحَيَوات أخرى، لأنّ يَندمجَ في أخلاط تُماثله وتؤمِّنُ اختلافَه في آن. كي تَحيا الحكاية، في أيّ قراءة وفي أيّ كتابة، لابدّ أنْ تَصيرَ خِلطًا يُنادي أخلاطًا أخرى تُبقيه وتُديمُهُ. إنّ إدامةَ الحكايَة لحَياتها لَفي تناسُخها اللامُتناهي وهي تَختلطُ بحكايات أخرى. يَتعلَّقُ الأمرُ، إذًا، بخَلط خلّاق يَحتكمُ إلى أسُس مَعرفيّة، ويَعتمدُ طرائقَ صارمةً في تحقّقه، على نحو يُعيدُ الاعتبارَ لمَفهوم الخَلط، في القراءة وفي الكتابة، ويُبعدُهُ عن الحمولة القدحيّة اللصيقة بمَعناه المُعتاد.

ليسَ للخَلْط معنى واحد. إنّهُ مُتعدِّد. كما أنّ مَرجعيّاته عديدةٌ. لرُبّما تُشكّلُ «المقامات» أحدَ أهمّ هذه المَرجعيّات بالنّسبة إلى كتابة كيليطو بَعد أن صاحبَ نُصوصَها طويلًا وأخضَعها لتأويل من قلب الثقافة الحديثة. فالخَلطُ، في «المقامات» كان عُصُرًا بنائيًّا، بحُكم الدّور الذي يُؤدّيه، مثلًا، أبو زيد السروجي في مقامات الحريري. كيليطو نفسُهُ تَوَسّلَ بالخَلط في قراءته قبْل أن يَتحوَّلَ الخَلطُ إلى آلية كتابيّة لديْه. لقد اعتمدَهُ في تحليله لمقامة الحريري الكوفيّة التي أفردَ لها كتاب «الغائب». في هذا التحليل، اتّخذ كيليطو من الخَلط المُنطلَقَ الرّئيس في فكّ خُيوط المقامة الكوفية لمّا انتبهَ إلى الوَشيجَة التي تَربط ليلةَ السّمَر، في هذه المقامة، بشخصيّة أبي زيد السروجي. كان أديمُ هذه الليلة ذا لونيْن، شأنُها شأن أبي زيد السروجي، وهو التلوُّن الذي كان مشدودًا إلى خَلطٍ أصيل في المقامة وفي شخصيّة بَطلها. عن اختلاط لَونَي الليلة، يقول كيليطو: «إنّ امتزاجَ لَونيْن على صفحَتِها عبارةٌ عن شَوْب، عن خلط، والشّوْب ضدّ الصفاء، وهذا ما يجعلُ أمرَها مشكوكًا فيه. ألا يُقالُ للمُخلّط في القول والعمل: هو يَشوب ويَرُوب(13)». صدى هذا الخَلط، وأصداء أخرى قادمة من مَرجعيّات عديدة، سارٍ في كتابة كيليطو، وقد بلغَ مستوى عاليًا في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». الراوي نفسُهُ واعٍ بالخَلط ومُدركٌ لمُتطلّباته، بل إنّ إحدى مهامّه الرئيسَة في هذه الرواية أن يَحبك خلطًا معرفيًّا مُحكَمًا ويَصوغَهُ في حَكي ارتيابيّ. فقد صرّحَ هو نفسهُ، في سياق التّرجيحات المُولِّدة للاحتمالات، قائلًا: «أرى أنّني أخلطُ بين قصّتَيْن(14)»، وهي عبارةٌ ينبغي أن تُقرَأ بالمَعنى الفعَّال للخَلط في الكتابة لا بمَعناه القدحيّ. يتعلَّقُ الأمرُ بخَلط ذي وشائج لا نهائيّة، لأنّه قائمٌ على «ما لا يُحصَى من الكُتُب» التي قرأها الراوي. فتعدُّدُ الوشائج، التي يَنطوي عليها اللاشعور القرائيّ للراوي، هي ما يُمكنُ أنْ يُظهرَ الحكيَ كما لو أنّه هذيانٌ. لذلك لم يَستبعد الراوي هذا الاحتمال لمّا قال «ليس الأمر كذلك، إنّني رُبّما أهذي(15)». غير أنّهُ هذيانٌ مُحصّنٌ باللانهائيّ، بل يكاد يكونُ معنى الهذيان، في هذا السياق، دالًّا على تمكين الحكاية من نَسَبها اللانهائيّ، وعلى توليد تماثلاتها المُتناسِلة في سَيرورَةِ تناسُخٍ لا حدّ له.

(2.2)

التماثلات المُبهَمة

ليسَت دَعوةُ الراوي إلى تَجنُّب «التأثّر بأوجُه شَبَه مُبهَمة»، المُشار إليها في أحَد الشواهد السالفة، سوى استطرادٍ مَدرُوس، به يُمدّدُ التحذيرَ السابق ويُقوّي المَعنى العَكسي المُضمَّن فيه، بما يُعضّدُ نَبرَةَ الالتباس في الحَكي عن المُلتبس، مادام الالتباسُ، في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» نَبرةَ كتابةٍ ومَوضوعَةً روائيّةً في آن. يَرومُ هذا الاستطراد، القائمُ على المَعنى العكسيّ، تَوجيهَ اهتمام القارئ إلى إحدى أهمّ خَصائص الكتابة في هذه الرواية، وفي كتابة كيليطو بوَجه عامّ. يتعلَّقُ الأمرُ بأيّ شبَهٍ مُبهَمٍ يُمكنُ أن يُطلّ من اللاشعور القرائيّ لراوٍ قرأ، باعترافه هو نَفسه، «ما لا يُحصَى من الكُتُب». فالراوي لا يقومُ إلّا بتتبُّع الأصداء القادمة من مَقروئه الشاسع، والحرص على العُثور فيها على تماثلات، أي على أوجُه شَبَه مَهْما بَدَت مُبهَمة. إنّ مهمَّة الراوي، بالمُواصَفات التي تَحدَّدَ بها في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، هي تحويل المُبْهَمِ إلى احتمال له قوّتُه داخل الأدب. أبْعَد من ذلك، فمهمَّته، التي هي إحدى خصائص كتابة كيليطو، أن يبتكرَ التماثلات، ويخلقَ أوجُهَ شَبَه مُبهَمة، ويُقنعَ بالوشائج الخَفيّة التي تحكُمُها، لأنّ الحكيَ الذي يضطلعُ بإنجازه غير مفصول عن التأويل بوَصفه ابتكارًا للوشائج. لذلك تعدَّدَت التماثلات، في هذه الرواية، حتى لقد تَجاوزَت، كما هو دأب الكتابة عند كيليطو، أوجُهَ الشبَه بين الحكايات التي تداخَلت في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، إذ امتدَّت التماثلاتُ إلى أوجُه شبَه قادمة من الأساطير ومن المُتخيَّل البعيد.

للتماثلات تجذّرٌ أصيلٌ في كتابة كيليطو التي يَرتكزُ جانبٌ من نَبرتها على ابتكار أوجُه شَبَه مُتشابكة، وعلى استثمار هذه الأوجُه في خَلق أصداءَ عديدة داخل النّصوص. شكّلت هذه التماثلات، التي ما دَعا الراوي إلى تَجنُّب أثرها إلّا كي يَلفتَ الاهتمامَ إليها، عُنصُرًا بنائيًّا في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، حتّى لقد تَحوَّلَ التماثلُ أو أوجُه الشَبَه إلى مَوضوعة من مَوضوعات الرّواية، على نحو ما تبيّنَ، تمثيلًا لا حصرًا، من المَقاطع التي رَصدَ فيها الراوي القواسمَ المُشترَكة بين حسن البصري وحسن ميرو، وعلى نحو ما تبيّن أيضًا من تقاطُع شُخوص الرواية في مَصير يُقرّرُهُ الكتاب. يُمكنُ لقارئ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» أنْ يُمَيِّز فيها، اعتمادًا على بنيَتها وعلى المُوجّهات الرّئيسَة في كتابة كيليطو بوَجه عامّ، بين ثلاثة أنماط من التماثل تنتَظمُ وَفق تشابُك قويّ.

أولًا، التماثل الأفقيّ. وهو ما يَحكمُ العلاقة بين الحكايات داخل الرواية. تُجسِّدُهُ أوجُهُ الشبَه بين حكاية حسن البصري وحكاية حسن ميرو وحكاية مُحسن، في «عصفور من الشرق»، وحكاية يوليوس موريس وحكاية الراوي التي ظلّت «بابًا» مُواربًا لم يُفتَح فتحًا تامًّا. لهذا التماثل الأفقيّ، في رواية كيليطو، وَشيجةٌ تربطُهُ بطَريقةِ الحكي في «ألف ليلة وليلة»، التي فيها يَنمو الحكيُ عبْر توليد حكاية من داخل أخرَى بناءً على تماثلات ظاهرَة أو خفيّة. فمهمَّة شهرزاد في الحكي لم تكُن مُنفصلةً، بمعنى ما، عن تَمديد الحكاية الإطار، أي تمديد حكاية شهريار اعتمادًا على تَشقيق تماثلات لا حدّ لها وتفريعها. ألمْ تعمَل، في كلّ ما حَكتْهُ، على خلْق تماثلات «مُبْهَمَة» بين حكاية شهريار والحكايات التي رَوتْها له قصْدَ مُصالحَته مع حكايته، أي مع ذاته؟ وهو ما احتملَ، في بعض التآويل، عدّ الليالي حكاية شهريار التي أنصتَ لها في حكايات غيريّة؛ حكايات مُماثلة لحكايته بصورة مُبهَمة.

ثانيًا، التماثل العَموديّ. وهو الذي تُوَلّده الرواية وتبتكرهُ انطلاقًا من حرصها على وصْل تفاصيلَ في حكايات التماثل الأفقيّ، أي الحكايات المتقاطعة في الرواية، بمُتخيَّل سَحيق يمتدّ إلى الأساطير البَعيدة وإلى كُتُب الأديان، وحرصها، أبعد من ذلك، على التوغّل بهذا المُتخيَّل إلى زمن البدايات، حتى لقد أطلّ، في هذه الرواية، مرّةً أخرى طيفُ آدم(16)، بَعد أنْ خصّهُ كيليطو  بكتاب كامل سابقًا. بَيّنٌ أنّ هذا النّمطَ الثاني منَ التماثل مَشدودٌ إلى خَلفيّة أنثربولوجية تَسري في قراءات كيليطو وفي كتابته. وهو ما يُفسّرُ الأصداء البعيدة التي تخترقُ نصوصه. لعَلّ أوّل تجلٍّ من التجلّيات العديدة لهذا النّمط من التماثل، الذي يُصادفُه بكثافة قارئُ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، يُجَسِّدُه الوَصلُ الذي أقامَهُ الراوي بين ظَفَر حسن البصري بمعطَف الريش الذي مكّنهُ من الظّفَر بالجنّيّة المُجنّحة، وظفَر جازون، في الأسطورة، بالفروة الذهبيّة(17)، التي كانت تحرُسها أفعى في بلاط الملك أيتييس بَعد أنْ ساعدتْ ميديا جازون في سرقة الفروة. هو ذا التجلّي الأوّل للتماثل العموديّ في الرواية، وبنُمُوِّ الحَكي توالَت الأصداءُ ذات المَنحى العموديّ بصورة تكشفُ أنّ هذا التماثل عُنصرٌ حاسمٌ في التشابك الذي يُقيمُه كيليطو بين الحكي والتأويل. من تجليات هذا النمط، ما يصلُ نظرةَ الجنّيّة المُجنّحة المُسبّبة للهلاك بنظرة الغورغون، وما يصلُ عقاب الانتهاك، في حكاية حسن البصري، بمنفى آدم وحواء، وبالعمى في أسطورة أوديب، وبالمسخ والتحوُّل إلى فريسة في أسطورة أكْطيون(18) وغيرها من أوجه الشبَه التي تبتكرُها الرواية وهي تحكي بالتأويل. إذا كان التماثلُ العموديّ خصيصةً قرائيّة وكتابيّة عند كيليطو، فإنّ هذا النمط جسّدَ، أيضًا، حرص كيليطو على تأويل «ألف ليلة وليلة» في ضَوء مَكاسب العُلوم الإنسانيّة، وخُصوصًا الأنثربولوجيا.

ثالثًا، التماثل المُضمَر في حُلم كيليطو بكتابة نصّ ليليّ. ثمَّة، في المسار الكتابيّ لهذا الأديب، ما يُتيحُ اقتفاءَ آثارِ حُلمه بصَوغ نصٍّ ذي نَسَب إلى الليالي، اعتمادًا على تداخُل أصيل بين مُمارَسةِ القراءَة ومُمارَسةِ الكتابة. لقد تبدَّى هذا الحُلمُ، القائمُ على تماثل لا يُفرّطُ في الاختلاف، بجَلاء في رواية «أنبئوني بالرؤيا» من زاويتيْن على الأقلّ. الزاوية الأولى، اتّخاذُ رواية «أنبئوني بالرؤيا» من كتابة خاتمةٍ لـ«ألف ليلة وليلة» مَوضوعةً رَئيسةً، وصَوْغ احتمالات عديدة لإنجاز هذه الكتابة، حتى لقد اتّفقَ الأستاذ ك.، في الرواية، مع إسماعيل كملو على أن يُضيفَ كملو لعُنوان بَحثه «الجنون الثاني لشهريار» عُنوانًا فرعيًّا هو «خاتمة للّيالي لم يَسبق نشرها(19)». الزاوية الثانية، استثمار رواية «أنبئوني بالرّؤيا» لُعبةَ المخطوط، التي أتاحَتْ لكيليطو أن يَصوغ نصًّا ليليًّا و«يَدُسّه» في نُسخة «ألف ليلة وليلة» بترجمة رتشارد فرنسيس بيرتون التي اشتراها إسماعيل كملو في أميركا. وقد كان لافتًا أنّ إسماعيل كملو أخضعَ المخطوط، في الرواية، لتحليل أبرزَ فيه ما يَصلُ هذا المخطوط بنُصوص «ألف ليلة وليلة» وما يَفصلهُ عنها. لربّما، في هذا السياق، يُمكن العُثور، من داخل التماثل الذي يَعي استيعابَه للاختلاف، على ما يُضيءُ إشكالَ نسبةِ الحكاية، الذي طرَحَتْهُ، فيما بَعد، رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». إنّ بذرة هذه النِّسبَة مَبثوتةٌ مُنذ لُعبة المَخطوط في «أنبئوني بالرؤيا». ففي تحليل كملو للمخطوط، وَرَدَت ملحوظتان قد تُسعفان في حَلّ لُغز عُنوان «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». جاء في الملحوظة الأولى: «هذه ليسَت حكاية من الليالي»، ووَرَدَ في الملحوظة الثانية: إنّها «حكاية من الليالي لم يَسبق نشرها(20)». وبذلك، قد تبدُو عبارة عُنوان الرواية الجديدة «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» من صَميم انشغال المَلحوظتيْن، ومن صَميم الإشكال المُتعلِّق بمَخطوط مَدسوس في الليالي. مخطوطٌ مُضمِرٌ لحُلم كيليطو بإنتاج نصٍّ مُنتسِبٍ إلى الليالي ومُختلف عنها في الآن ذاته. ذلك أنّ التماثل، بوَجه عامّ، يَقومُ على اختلاف جوهريّ يحكمهُ. اللافتُ، في هذا السياق، أنّ هاجسَ كتابة نصّ ليليّ تحوَّلَ هو ذاته إلى مَوضوع للتأمّل داخل رواية «أنبئوني بالرؤيا». لقد ذهبَت الرواية، من زاوية تَماثلٍ آخَر يَتعلَّقُ بما يَصِلُ القراءةَ بالكتابة في نمط النّصوص التي يَكتبُها كيليطو، إلى حَدِّ اعتبار التأويل قُدرةً على كتابةِ النصّ المُؤوَّل، كما لو أنّ مَنْ لا قُدرة له على كتابة النصّ المُؤوَّل لا قُدرةَ له على قراءَته وتأويله. ذلك ما صاغهُ كيليطو على لسان إسماعيل كملو في قوله «ليس جَديرًا بتأويل عمل أدبيّ، الليالي في هذه الحالة، إلّا القادر على كتابته(21)». لربّما، تبعًا لذلك، كان المخطوط المَدسوس، الذي هو في الأصل نصٌّ سبقَ لكيليطو أنْ نشرَه في كتاب آخَر، تجسيدًا للحُلم بإنتاج نصٍّ ليليّ يُماثلُ نصوصَ الليالي ويَختلفُ عنها في آن. ولربّما تُشكّلُ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، في السياق ذاته، عتبةً عُليا لهذا التّجسيد، الذي يقومُ على قراءةِ نصٍّ ليليٍّ وإعادةِ كتابَته اعتمادًا على حكاياتٍ شديدةِ القُرب منه بقدْرِ شدّةِ بُعدها منه في الآن نفسه، لأنّها لا تُماثلهُ إلّا لتختلفَ عنه.

ليس ما تقدَّمَ من إشاراتٍ بشَأن رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» سوى مَدخلٍ، من بين مداخل أخرى مُمكنة، لتأمُّل ما يقودُ إليه الخَلطُ الإبداعيّ القائمُ على ابتكار التماثلات، أي تأمُّل التناسُخ الذي يَحكمُ هذا النّمط من الرواية ويُوجِّهُ جانبًا رئيسًا من نَبرة كيليطو الكتابيّة بصورَة عامّة. لا حدّ لمَنافذ التناسخُ في كتابة كيليطو وفي هذه الرواية على وَجه التحديد. لقد تقدَّم الإلماحُ إلى أحَد هذه المنافذ، أي اعتمادُ التأويل والحكي على الخَلط الخلّاق، الذي يَجعلُ النصَّ خِلطًا قابلًا لأنْ يَتحوَّلَ ويأخذ صورةً أخرى وَفق الأخلاط الذي يَعبرُ إليها، أي قابلًا للتناسُخ. فبدُون خَلطٍ مُستَنِدٍ إلى بناءِ التماثُلات وإلى أوجُه الشَبَه المُبهَمَة، لا يَتسنّى للكاتب تحويل التناسُخ إلى آليّة كتابيّة. عديدةٌ هي تجلّياتُ التناسُخ، في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، يُمكنُ الإشارة إلى أحَدها بتَشقيق نمَط رابع من التماثُل؛ نمَط قائم هذه المَرّة على أوجُه شبَهٍ بين أعمال كيليطو نَفسها. أعمالٌ تُسمَعُ فيها الأصداءُ الداخليّة، وتُرى فيها أوجُهُ التناسُخ التي تَخضعُ لها النّصوص، بما يَسمحُ لمقاطعَ من نُصوص سابقة بأنْ تظهرَ في صُورة جديدة، ويَسمحُ لنُصوص كاملة إمّا بأنْ تُعاودَ الظهورَ مُختلفة عن صُورتها الأولى أو بأنْ تُغادرَ مكانَها الأوّل نحوَ مكان جديد، داخل سَيرورَةِ تَحوُّلٍ تحتكمُ فيها الكتابةُ إلى التناسُخ. فإذا كانت رواية «أنبئوني بالرؤيا»، مثلًا، قد استعادَت، في فَصلها الرابع، مَوضوعة الانتحال من زاوية التناسُخ وَفقَ ما وَرَدَ عن هذه المَوضوعة في مؤلَّف «الكتابة والتناسُخ»، فإنّ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» تستعيدُ، من داخل المُؤلَّف نفسه ومن الزاوية ذاتها، لا مَوضوعة الانتحال، بل مَوضوعة التناسُخ ذاتها، ولكن بتحويلها إلى نَبرة كتابيّة. نبرةٌ تجسّدَت في قابليّة الحكاية الواحدة لأنْ تتناسخَ داخل الرواية، ولأن تظهرَ بأكثر من وجه دُون أن تَبقى في الآن ذاته هي نَفسها. إلى جانب ذلك انشغلت رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» بظهور اسم متناسخ، الذي ليس هو أيضًا سوى، تَجلٍّ من تجلّيات الالتباس. فمثلما تضمّنَتْ رواية «أنبئوني بالرؤيا» اسْمَ امرأة قائمًا على التناسُخ (إيدا أو آدا، أو عايدة، أو إيدّا)، استعادَت رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، هي أيضًا، التناسخَ ذاتهُ اعتمادًا على امرأة ظهرَت باسم نورا، ونورما، ونور. فلا غرابة، إذًا، أن تتضمَّن هذه الرّواية فصلًا بعُنوان «هي أنتِ، وليسَتْ أنتِ»، فهو من صُلب عَوالمِها. أبعد من ذلك، يُمكنُ مُقاربة إدماج الرواية للحَيوان، في سيرورة الحَكي، بِعَدِّ هذا الإدماج مُنطَويًا على وَشيجةٍ تصِلهُ بالتناسُخ. ففي سياق تذكُّر الراوي لطُفولته، استحضَرَ، من بين الحَيوانات التي استحضرَها، طائرَ اللقلاق، لأنّ حكاية الراوي قائمةٌ، في مَشهدها – النواة، على معطف من الرّيش وعلى مَوضوعة التحليق، ولمّا تحدَّثَ الراوي عن اختفاء اللقلاق في فترَة من السّنة وعودَته في فترَة أخرى، تساءلَ، من قلب التناسُخ، قائلًا «أكان الذي يَعودُ هو اللقلاق نفسُه؟!(22)». لعَلّ عُمقَ هذا السّؤال هو ما يَسمحُ، مِنْ قلب التناسُخ دومًا، بتَمديده ليشملَ ما لا يكفُّ عن مُعاوَدةِ الظهور في كتابةِ كيليطو. تمديدٌ يُمكن صَوغُه على النّحو التالي: أما يُعاودُ الظّهورَ في كتابة كيليطو هو النّصّ الأوّل نفسُه؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

1 – عبد الفتاح كيليطو، والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، 2021.

2 – إنّه أحدُ الأنساب التي تجمعُ كتابة كيليطو بالمقامات التي نَهضَت على اتّخاذ الأديب بطلًا لحكاياتها.

3 – والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، ص 11. يفتحُ كلّ جُزء من أجزاء هذا الشاهد، الذي انطوى على أهمّ الدروب التي شقّتْها الرواية، مَسلكًا للتأويل ولإضاءة هذه الدروب. فعبارةُ «مرّةَ أخرى»، مثلًا، تُقيمُ علاقة بين فضاء «ما يَحدُث» بفضاءات «أحداث أخرى» في نُصوص كيليطو السابقة. يعتمدُ الراوي عبارة «مرّةً أخرى» وليس «مرّةَ ثانية»، بما يحتملُ أنّ «ما حدثَ» خاضعٌ لتكرار مُستمرّ، أي لعَود لا يَنفكّ يحدُث، انسجامًا، من جهة، مع مَصير «حدث» هو في الأصل حكاية كما سيأتي بيانُ ذلك، وتجاوُبًا مُنذ البدء، من جهة ثانية، مع مَوضوعة التناسخُ السارية في الرواية، والصامتة في ثنايا عبارة «مرّة أخرى». إلى جانب ذلك، تكشفُ الساحة المفتوحة على السماء، في الشاهد، مُنذ البَدء هي أيضًا، أنّ للسّماء حُضورًا دلاليَّا يوَجّهُ التأويلَ صَوب الطيور (للخطاطيف واللقلاق حُضورٌ في الرواية) وصَوب كلّ ما له صلة بالسّماء، مادامت الرواية تحكي عن امرأة مُجنّحَة وعن معطفٍ من ريش، ومادامت السماءُ هي ما ولَّد لدى الراوي، في طفولته، الشعورَ باللانهائيّ. ص 24.

4 – لنمط الرواية التي يكتُبها كيليطو خُصوصيّته. فروايتُهُ تنمو لا اعتمادًا على مُتواليات الحدَث، بل اعتمادًا على تدرّج يَخضعُ له التأويل الذي تحرصُ الرواية على بنائه. إنّ ما يَبدو، في الرواية، مُتوالياتِ حدَثٍ ما ليس سوى تحوُّلٍ شَهدتْهُ خطواتُ التأويل.

5 – والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، ص 12.

6 – نفسه، الصفحة ذاتها.

7 – نفسه، الصفحة ذاتها.

8 – يبدو الانفصال في العلاقة بين رجُل وامرأة، في رواية «والله إن هذه الحكاية لحكايتي»، كما لو أنّه قرارٌ يَصدرُ عن المرأة تحديدًا.

9 – والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، ص 12.

10 – نفسه، ص 13.

11 – في حكي يَتولَّدُ من الترجيح، لا يُمكنُ للتأويل هو أيضًا أن يُعوّلَ إلّا على التّرجيح.

12 – تحتملُ عبارة «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، من بين ما تحتملُهُ، مَعنيَيْن على الأقلّ. لرُبّما تعلَّق الأمرُ، في المَعنى الأوّل، بمَنْ صاغ الحكاية، وهو ما يُرجِّحُ رَبْطها بما أنجزهُ كيليطو في كتاباته، إذ يُمكنُ أنْ يُفهَمَ من عبارة العنوان، في هذا المعنى الأوّل، أنّ صاحبَ القسَم يُقرّ بأنّهُ هو مَنْ نسَجَ الحكاية وأنّها مِن إنتاجه لا من إنتاج غيره. إنّها حكايتُهُ التي صاغها. ورُبّما تعلَّق الأمرُ، في المَعنى الثاني، بمُحتوى الحكاية، وهو ما يترتّبُ عليه أنّ صاحبَ القسَم يُقرُّ بأنّ ما جَرى في الحكاية يخُصّ حياتَهُ هو بالذات، أي أنّ الحكاية تروي عمّا عاشهُ، وحتّى في هذه الحالة، يظلّ طيفُ كيليطو حاضرًا في احتمالات الإحالة التي يُمكنُ أن يَقترنَ بها ضَميرُ المُتكلّم في العُنوان، مادامت الرواية تتحدّثُ عن الكتاب الذي يحسمُ مصيرَ الحياة، ومادام كيليطو قد نذرَ حياتَهُ للكُتُب وقرن مصيرَه بها. دون أن نَنْسى، في هذا السياق، الندّمَ الذي به تصدَّرَت الرواية اعتمادًا على قول لكافكا، جاء فيه: «ما كان يَنبغي أن أعيشَ على هذا النّحو».

13 – عبد الفتاح كيليطو، الغائب، دراسة في مقامة الحريري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1987، ص 29.

14 – والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، ص 16.

15 – نفسه، ص 15.

16 – ألمحت الرواية إلى آدم في سياق تماثل عموديّ أنجزَهُ الراوي بشأن العقاب الذي يترتّبُ على انتهاك المحظور، مادامت الرواية تتخذ من الباب الممنوع فَتْحه موضوعةً من مَوضوعاتها. والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، ص 66.

17 – نفسه، ص 18.

18 – نفسه، ص 66.

19 – عبد الفتاح كيليطو، أنبئوني بالرؤيا، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار الآداب، بيروت، ط1، 2011، ص 52.

20 – نفسه، ص 33 و 34.

21 – نفسه، ص 63.

22 – والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، ص 23.

عبد الفتاح كيليطو في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»: أحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام

إذا كان لعَالَم «ألف ليلة وليلة» عجائبه، وغموضه، فإن لعَالَم الحكاية في زمنها المُعاش تأمُّلاته والتباساته أيضاً. مؤلَّفات عبد الفتاح كيليطو تتخلل العَالَمين، ومع ذلك يبدو للوهلة الأولى أن كتاب الليالي هو الأكثر إثارة للاهتمام، بصورة تسائلنا ما إذا كان هذا الاتصال بكتاب أَزَلِيّ يبقى ضرورياً وكافياً حتى وإن تعلَّق الأمر بقراءة عميقة ومضاعفة؟ بشكلٍ أو بآخر يجيب كيليطو بأن: الليالي معين لا ينضب للإبداع الأدبي، لكن بشرط الابتعاد عنه بقدر الاقتراب منه.

يصرح كيليطو بأنه «مؤلِّف كتاب واحد لا ينفك يُعاد ويعود»، وكقُرَّاء أو نقَّاد، لطالما أوقفتنا تلك العودة إلى مؤلَّفاته السابقة، ذلك الصدى الذي يخلفه: «مرور الراوي من عَالَم أليف إلى عَالَم غريب». على هذا النحو يأخذنا كيليطو، في روايته «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» الصادرة حديثا عن منشورات «المتوسط»، إلى عَالَم سردي عجيب، ينتهي«في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام».

وباعتباره كاتِباً باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، تأسَّست للأديب المغربي عبد الفتاح كيليطو قاعدة واسعة من القُرَّاء العرب والأجانب، تجعل كل إصدار جديد له بمثابة حدث أدبي بارز يدعونا للتوقُّف عنده.

في هذا الحوار، يجيب كيليطو عن أسئلة الأستاذ خالد بلقاسم التي يمكن عدها قراءة مضاعفة تنضاف إلى سلسلة قراءاته السابقة:

اتّخذَتْ روايتُك الأخيرة «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» عتبةً لها قولة «كافكا» التالية: «ما كان ينبغي أن أعيشَ على هذا النّحو». لربّما يَسمحُ النّدمُ الذي يَتخلّلُ القولة باستحضار صَدَى كتابك السابق على هذه الرواية، الحامل لعُنوان «في جوّ من الندَم الفكريّ»، وبذلك يَغدو القارئُ أمام ندَميْن غير مُنفصليْن. أيتعلّقُ الأمرُ في هذه العَتبة بندَمٍ يَخصّ مَصيرَ حَياة ما والمَنحَى الذي اتّخذَهُ مَن عاشَها؟ وما مُسوّغُ ذلك؟ فالندّمُ الفكريّ أمرٌ مُستساغٌ لأنّه شَرطُ الفكر، لكنّ الندمَ على الحياة التي عيشتْ يَظلُّ أمرًا مُبهمًا. ما العلاقةُ بين الندميْن، خُصوصًا أنّ القارئ يَعرفُ أنّ الحياةَ التي تحدّثَ عنها كيليطو، في مُجمَل تآليفه، لم تكُن مُنفَصلةً إطلاقًا عن الحَياة بين الكُتُب ومع الكُتُب، بحيثُ يتمنّعُ الفصلُ بين الندميْن؟ فحتّى رواياتُك لا تتحدّثُ إلّا عن الكُتب.

– العلاقة بين خطاب العتبة في «والله»، وعنوان «في جو من الندم الفكري»، مقصودة ومخطط لها. بصفة عامة، أحاول ربط اتصال بين كتبي بهدف تكثيف الدلالة العامة وإثرائها. كلّ كتاب لي يحمل صدى لسابقيه، وفي النهاية أرى أنني مؤلِّف كتاب واحد لا ينفك يعاد ويعود.

عَطْفًا على السّؤال السابق، يَبدو أنّ الكتابَ كان حاسمًا في مَصير الحَياة التي عاشتْها شَخصيّة «حسن ميرو» في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». فقراءتُه لرواية «عُصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم هي التي رَسمَتْ هذا المَصيرَ وَفقَ ما تُقرّ به الروايةُ ذاتُها في نهايَتها، وهو ما حاولَ الراوي أنْ يَربطَهُ بالمَصير الذي عاشهُ حسن البصري في «ألف ليلة وليلة»، دُون أنْ نَنسى أيضًا تجلّيات هذه المَوضوعة في الرّواية؛ مَوضوعة الكتاب المُحدِّد لمَصير حَياة ما، سواء تعلّق الأمرُ بتجلّيها في الدّور الذي اضطلعَ به كتاب «مثالب الوزيريْن» للتوحيدي في تَوجيهِ العلاقة بين الشخصيّات، أو بتجلّيها في تَحديد حكاية حسن البصري لمَصير حياة يوليوس موريس. ما مَعنى أن يكونَ الكتابُ حاسمًا في مَصير حياة ما؟ وهل يَمتلك الكتابُ كلّ هذه القوة في تَوجيهِ الحياة؟

– واضح أننا حين نقرأ رواية نندمج مع جوها فنشاطر شخوصها حياتهم، مشاكلهم ومشاغلهم، ننسى أنفسنا وباندماجنا معهم، نتقمَّص هويّات جديدة نسكنها طيلة مدة القراءة. وغالبًا نشعر بحزن عندما ننهي القراءة ونعود إلى أنفسنا. هذا ما كنت أحس به بشدّة حين كنت صغيرًا. كنت طبعًا أتوق إلى نهاية الرواية التي أقرؤها وفي ذات الوقت أتمنّى أن تؤجّل.

مَوضوعة الكتاب أصيلةٌ في نُصوصك، وقد أعادَت رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» تناوُلَ هذه الموضوعة من زاوية «الكتاب المَلعون» التي سبقَ أنْ قارَبْتَها في كتاباتك السابقة، وهي الزاوية التي تحكّمَتْ في جعْل كتاب «مثالب الوزيريْن» للتوحيدي بَطلًا في الرّواية. أبعادُ هذه اللعنة المُصاحِبَة لسُمعة الكتاب تتكشّفُ من قضايا عديدة، منها الخَوف من القراءة، والحِرْص على حمايةِ مَصير الحَياة من لعْنةِ الكتاب، وتحوُّل القلق من مَشاغل الحَياة العادية إلى قلق نابعٍ من أسرار الكُتب ومُقترنٍ بها. غير أنّ اللافتَ في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» ربْطُها لهذه اللعنة بالشائعة، وبالدّور الذي يُمكنُ أن تُؤدّيَهُ الشائعةُ في تَوجيهِ مَصير الكتاب. ما دورُ الشائعة، الأستاذ كيليطو، في تاريخِ القراءة بوَجهٍ عامّ؟

– الكتابة اليوم في متناول الجميع، لكنها في غابر الأزمان كانت موقوفة على طبقة محدودة وتكتسي صبغة أسطورية وقد ترتبط بطقوس سحرية، كما تكون محل ريبة غامضة. وإلّا لماذا اعتُبر الكتاب في بعض تجلياته شيئًا رهيبًا قد يؤذي ويؤدّي إلى الهلاك؟ تدور رواية «والله» حول كتاب ملعون، موضوع فرض نفسه عليّ وكان نقطة انطلاق، ثمَّ مرّ بمنعرجات مختلفة ومتشعبة إلى أن بلغتُ الخاتمة. سبق أن تطرقت إلى هذا الموضوع، بصيغة مختلفة، في «العين والإبرة»، عندما درست حكاية في «الليالي» عن كتاب مسموم يميت مَن يقلب أوراقه. والمُثير للانتباه أن كتاب «الليالي» نفسه قِيل إن مَن يقرأه بالكامل يُصاب بأذى. غير أن هذه الشائعة لم تثبط عزيمة القُرَّاء الذين أقبلوا عليه بنهم، لم يكن لها تأثيرٌ ولم يُروَ فيما مضى أن شخصًا أصيب بمكروه إثر قراءته. وعلى العكس فإن «مثالب الوزيريْن» لأبي حيان التوحيدي حصل بين يدي شخص متميِّز، ابن خَلِّكان، صاحب «وفيات الأعيان»، فأعلن أنه عانى الأمرَّين بعد قراءته، وأضاف أن العديد من معارفه تضرَّروا بسببه. لم يسبق حسب علمي أن تناول المُؤلِّفون هذه الشائعة. وعودة إلى «الليالي» فإن بورخيس في إحدى قصصه وصف آلام شخص قرأها في الترجمة الألمانية لِـ«غوستاف فايْل»، وكانت نهايته مأساوية.

مِنَ المَوضوعات الرّئيسَة في مُعظَم كُتُبك مَوضوعة «الباب» و«العتبة»، وقد كان لمَوضوعة الباب حُضورٌ لافتٌ في كلّ أطوار الرواية، لأنّ لهذه المَوضوعة دورًا حَيويًّا في حكاية حسن البصري التي شكّلتْ طِرْسًا رئيسًا لروايتك، ولربّما هذا الحُضورُ هو ما تحكّمَ في عَنونةِ أحد فصول الرواية بـ«قدَر المفاتيح». لعَلّ المُثيرَ في الرواية هو التّماهي الذي تحقّقَ بين «الباب» و«الكتاب». ما العلاقة التي تربطُ بين الباب والكتاب؟

– إنه المرور من العالم الأليف إلى العالم الغريب. حين نفتح كتابًا لا ندري أي أرض سنطأ فنشعر برهبة مكتومة لأننا نجهل أين ستقودنا خطواتنا وهل سيكون في مستطاعنا الاندماج مع أجوائه ومع ساكنيه؟.. إنها رحلة إلى بلاد أجنبية لها طقوسها ومقومات وجود خاصة بها. قد يتيسر الاندماج حالًا وقد لا يحصل إلّا بعد بذل مجهود، كما هو الشأن مع روايات بَلْزاك. وأحيانًا يفشل اللقاء بصفة مروعة رغم محاولات متكرِّرة للانخراط في العالم الموصوف. ذلك ما حدث لي مع رواية «أسفل البركان» لِـ«مالكُوم لُوري» التي أثارت الاهتمام وأشاد بها النُقَّاد. بشيءٍ من الخجل أضيف أنني لم أستطع قراءة «الأمير الصغير»، كتاب «سان إكزوبيري» الذي أعجب به الملايين من القُرَّاء أيما إعجاب.

تسمحُ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، وهي تُدمجُ في بنائها روايةَ «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، بإعادة قراءة رواية الحكيم في ضَوء حكاية روايتك. وإذا جازَ أن نربط رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» بكتاب «مَن نَبحثُ عنه بعيدًا يَقطنُ قربنا»، باعتبار النّسَب الذي يَجمعُهما، أيُمكنُ القول إنّ روايتك ترومُ، من بين ما ترومُه، إضاءةَ حكاية حسن البصري اعتمادًا على رواية «عُصفور من الشرق»؟ خُصوصًا أنّ رواية الحكيم كانت، من جهة، قائمةً على علاقة مَنذورة للانفصال لأنّ شخصيّة سوزي كانت تتحيّنُ لحظة بغاية «التحليق»، كما شكَّلت الأبوابُ في الرواية، من جهة ثانية، أهمّيّةً بالغة، وشكّلت فيها مَوضوعة التحليق، من جهة ثالثة، عُنصرًا محوريًّا على نحو ما تبدَّى من عُنوانها، ومن هَديّةِ مُحسن لسوزي لمّا اختارَ أن يُهديَها طائر الببّغاء.

– أظن أنني قرأت في فترة من حياتي جلّ ما ألّف توفيق الحكيم، كنت مولعًا بما صنف، وعلى الأخص برواياته. كان لا بد أن أختار في روايتي الحديث عن «عصفور من الشرق»، التحليق والطيران، لانسجامها مع الجو العام لما قصدت. ذكرتها في المكانين المهيمنين في الكتاب، أي في البداية والنهاية. وغني عن القول إنه لم يكن من المُمكن الاعتماد على «عودة الروح» أو «يوميات نائب في الأرياف».

مُنذ حكاية المُستَنبِح، في كتابك «الكتابة والتناسخ»، اتّخذَ الحيوانُ حيّزًا حيويًّا في بنائك للمَعنى وفي تَمديد الخيال. وهو الحيّز الذي لم يكُف عن التنوُّع، ففي كتابيْك «الغائب» و«لسان آدم»، كان للحَيّة دورٌ رئيسٌ في التأويل، وفي روايتك «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» يَعثرُ القارئُ على السّلحفاة، والنمل، والضفدع، واللقلاق، والخطاطيف، وهو ما يجعلُ حُضُورَ الحيوان في كتاباتك حُضورًا أصيلًا، دون أن نَنسى مُصاحبَتك الطويلة لـ«كتاب الحيوان» للجاحظ. لماذا هذا الحرصُ على إدماج الحيوان في التأويل وفي الحَكي؟

– المُدهش في الحيوان أنه رغم كونه لا يتكلَّم فإن له لسانًا نفهمه فنتواصل معه إلى حدٍّ ما. إنه يجعلنا وجهًا لوجه مع اللّغة ويحثنا على كشف بعض أسرارها، وذلك ما حاولت الإشارة إليه في حكاية المُستَنبِح التي أشرتَ إليها. أحد الأصدقاء كان له كلب من نوع شْناوْسَر. اختفى فجأة ذات يوم وانقطع خبره، ثمَّ عاد بعد ثمانية شهور وكأن شيئًا لم يكن. منذ ذلك الوقت والصديق يسعى إلى تجاذب الحديث معه في محاولة يائسة لمعرفة أين كان طيلة تلك المدة. كان الكلب ينظر إليه بحزن وكأنه متأسف لكونه لا يستطيع أن يجيب، أن يروي ما جرى له. بالرجوع إلى «والله»، يلاحظ أنها تبتدئ بذكر طيور مختلفة الأنواع وتنتهي بالإشارة إلى سلحفاة، حيوان غريب يحمل مسكنه على ظهره، يختفي لمدة طويلة ثمَّ يظهر من جديد، لا يزعج أحدًا وشعاره التستر والقناعة والصمت.

يُثيرُ الشعرُ في حكاية حسن البصري أسئلةً بشأن اختراقه الكبير للحكاية، وهو أمرٌ عرَضتْ له رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» في استقصائها للصِّلات المُمْكنة بين حسن البَصري وحسن ميرو، وقد أقرّ الراوي وهو يتأمّلُ وضعيّة الشعر في حكاية حسن البصري أنّ الأبيات الشعريّة كانت مُتاحة على الدوام، لذلك كان تأليفُ أبيات جديدة «خارجَ أُفق الحكاية». لا يَعثرُ القارئ في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» على أبياتٍ شعريّة، خلافًا لما وردَ في روايتك «أنبئوني بالرؤيا»، علمًا أنّ طِرْسَ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» يقومُ بصُورةٍ لافتةٍ على الشعر الذي كان حاضرًا على امتدادِ الحكاية. لِمَ لمْ تُدْمجِ الرّوايةُ الشعرَ في إعادَةِ كتابةِ طِرْسها؟

– لا تحتمل الرواية الشعر ولا تطيقه، فلا يرد فيها، إنْ ورد، إلّا خلسة المختلس. ذلك ما قد يلاحظ في «أنبئوني بالرؤيا»، حيث وصفت شاعرًا وذكرت بعضًا من شعره. وعلى العكس فإن مقامات بديع الزمان والحريري تدمج النظم بالنثر، وفي «الليالي» تتخلّل الحكايات مقاطع شعرية قد لا يتوقَّف عندها القارئ المُتسرِّع لأنه يكون راغبًا في معرفة ما تؤول إليه الأحداث المُتتالية.

مع أنّ الشعر في الرواية لم يكُن محوريًّا في إعادة كتابة حكاية حسن البصري، فقد كان صَداه ساريًا انطلاقًا من أقوال مُكثّفة صاغتْها الرواية بعُمقٍ كبير، منها تَحديد الشعر بوَصْفه فزعًا من الكون (ص. 24)، وتَحديد القصيدة بوَصفها أرضًا أجنبيّة (ص. 125). أيُمكنُ، الأستاذ كيليطو، أن تُضيءَ أكثر هذيْن القوليْن المُكثّفيْن؟

– يتعلّق الأمر بسر الوجود وحتمية الموت، كما يظهر ذلك جليًّا في ملحمة «جلجامش». ويبدو لي أن «لزوميات» أبي العلاء تدور حول السؤال المحير: لماذا الوجود وليس العدم. وقد يكون هذا هو المعنى العميق لعبارة «لزوم ما لا يلزم»، إنها مفارقة مذهلة.

يُمكنُ عدّ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، في تَرجيحٍ قرائيٍّ، تأويلًا من داخل الحَكي لحكاية حسن الصائغ البصري في «ألف ليلة وليلة»، حتى ليُمكن للقارئ أن يعتبرَ شَخصيّة «نورا» تجسيدًا لشخصيّة «منار السنا» في حكاية الليالي، غير أنّ نهاية الرّواية قائمةٌ على انفصال وفَقْد، بخلاف ما انتهَت به حكاية الليالي التي انتهَت باستعادَة حسن البصري لزَوجته بعد تجشّم الأهوال من أجل ذلك. في روايتك، حلّقَتْ «نورا» بصورَة نهائيّة دون عَودة. وهو ما شدّدَ عليه الراوي في المَشهد الأخير من الرواية الذي افتتحَهُ بعبارةٍ تتجاوَبُ مع ما وردَ في مُستهلّ الرواية. يقولُ الراوي في افتتاح المَشهد الأخير بنَبرة تحرَّرَت من الارتياب: «ومع ذلك، فإنّ المَرأة المُجنّحة تُوجدُ فوق السطح»، أي في فضاء التّحليق. أبسَبَب هذا الفَقْد لمْ تَنشغل روايتك إلّا بالقسم الأوّل من حكاية حسن البصري؟ لِمَ اقتصَرتْ الرواية على هذا القِسم الأوّل دون الثاني؟ ألِلْأمر صلةٌ بضَمير المُتكلّم المَوجود في عُنوان الرواية؟ وما مُسَوِّغُ الحَذف في التأويل؟ خُصوصًا أنّك اخترتَ في مُجمَل كتاباتك التأويلَ بالحَكي أو الحكيَ اعتمادًا على أسُس تأويليّة.

– تروم «والله» إعادة كتابة قصّة حسن البصري، وترتب عن ذلك الانتقالُ من زمن الحكاية إلى زمن الرواية، من سياقٍ إلى سياقٍ آخر، ومن لغةٍ إلى لغةٍ مختلفة. وفي هذا الصدد ترد مسألة الترجمة، مفارقة الترجمة ومآلها، فلقد قام حسن ميرو بترجمة «حسن البصري» إلى الفرنسيّة، كما شرع «يوليوس موريس» في ترجمة «مثالب الوزيريْن» إلى الإنجليزية. وفي كلتا الحالتين تصبح الترجمة مستحيلة فتتوقَّف أو تظلّ مشروعًا لا ينجز إلّا جزئيًا. ثمَّ إن ما يصدق على الحكاية لا يصدق على الرواية، فأحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام.

ظلّت حكايات «ألف ليلة وليلة»، إلى جانب المقامات، مدارَ انشغالك مُنذ كتابك الأوّل «الأدب والغرابة» الصادر مَطلع ثمانينيّات القرن الماضي. لقد خصّصتَ لهذا الانشغال، الذي ظلّت أطيافُهُ سارية في كلّ ما كتبْتَه، كُتبًا بعيْنها، هي «العين والإبرة»، و«أنبئوني بالرؤيا»، و«مَن نبحثُ عنه بعيدًا يقطن قربنا»، و«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». وفي كلّ عودة إلى كتاب الليالي، يَتناولُ كيليطو موضوعةً من موضوعات هذا الكتاب أو حكاية من حكاياته، وبذلك يُمكنُ القول إنّ الليالي، ومعها المقامات، شكّلت نصّك اللانهائيّ الذي لا ينفكّ يَعودُ بصورة مُتجدِّدة في كتاباتك. لِمَ هذا «العود الأبديّ» المُتجدِّد لحكايات «ألف ليلة وليلة» في أعمالك؟ ألأنّ الكتابَ يَتمنّعُ على الكتاب الواحد، أم لأنّك اختَرتَ وَفقَ ما سَمّيتَهُ أنتَ نفسُك، استهداءً بمونطيني، باعتماد التفكير بالقفز والوثب خَلفيّةً لمُقارباتك؟ أم لأنّ كتاب الليالي ذاتَه لا يَستقيمُ تأويله إلّا بناءً على التفكير فيه بالقفز والوَثب أم أنّ الأمرَ أبْعد من ذلك؟ ألا يُخفي هذا الأمْرُ رَغبةَ كيليطو في كتابةِ نصّ ليليّ ذي نسَب إلى كتاب الليالي ومُختلفٍ عنه في الآن ذاته؟

– «ألف ليلة وليلة» كتاب يستدرجك للحديث عنه والتعليق على حكاياته، حتى مَن لا يقرأه يخوض في الحديث عنه. لكلّ مَن يكتب عنه أو يستلهمه قصّة خاصة معه، إنه معين لا ينضب للإبداع الأدبيّ، بشرط الابتعاد عنه بقدر الاقتراب منه.

حكاية مَن هذه الحكاية التي اعتمدَتْ صيغة القسَم في عُنوان الرواية كي تُحدّد نِسْبَتَها، التي ظلّتْ مَفتوحةً على ضَمير مُتكلّمٍ مُبْهَم؟

– تحيل العبارة الواردة في العنوان إلى شهريار، في إحدى طبعات «الليالي» المعروفة بطبعة هابخت. فخلافًا للنسخة المُتداولة والتي تعود إلى طبعة بولاق، فإن نسخة هابخت تتميَّز بكون شهرزاد تحكي في النهاية لشهريار قصته، أي ما ورد في افتتاحية «الليالي». والغريب أن الملك لا ينتبه إلى ذلك إلّا والحكاية على وشك الانتهاء، فيصرخ: «والله إنّ هذه الحكاية حكايتي». إنها خاتمة عجيبة تتفوَّق في نظري على النهاية الواردة في طبعة بولاق. ولقد سبق أن أشرت إليها في كتاب «في جو من الندم الفكري». لا يكاد يخلو حديثنا اليومي من عبارة «والله»، نردّدها بلا كلل، وفي الغالب دون أن ننتبه إلى ذلك. وحين يستعملها شهريار فلإقناع نفسه أن الحكاية حكايته، وبفعله هذا يتملّكها بعد أن ضاعت منه لمدة طويلة. فكأنه يسترجع ذاكرته. وبالجملة فإن ما فاه به يفتح آفاقاً متعدِّدة للتفكير.

في روايتك «أنبئوني بالرؤيا»، كان اسمُ إحدى الشخصيات الأستاذ (ك). وفي رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، تعودُ هذه الشخصية، وَفقَ ما يُمكنُ أن يُرجّحَهُ التأويل، للظهور من جديد، ولكن تحت اسم الأستاذ (ع). أيتعلّقُ الأمرُ بالشخصيّة ذاتها؟ خصوصًا أنّ لهذه الرواية وشائجَ كثيرةً تربطها برواية «أنبئوني بالرؤيا». وما علاقة هذه الشخصية بكيليطو نفسه؟ لا سيما أنّ الشخصيّة تسمّت في «أنبئوني بالرؤيا» بالحرف الأوّل من اسمك العائليّ، وفي رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» بالحَرف الأوّل من اسمك الشخصيّ.

– ذلك ما يُسمَّى مفعول الواقع، عدم ذكر الاسم كاملًا أمارة توهم القارئ بأنه يتحرَّك في الواقع وبأن ما يقرأ ليس وليد الخيال.