فرانثيسكو برينيس: الشعر هو قول أشياء مؤلمة

أعلنت جائزة «ثيربانتس» المرموقة، نوبل الأدب الإسباني، فوز الشاعر فرانثيسكو برينيس لعام 2020، عن مسيرته الإبداعية التي استمرَّت على مدار 60 عاماً، أضاف فيها للشعرية الإسبانية، وانتقل فيها من الحسِّية إلى الميتافيزيقا. تبلغ قيمة الجائزة 125 ألف يورو، وتُمنَح عاماً لكاتب من إسبانيا، وعاماً لكاتب من أميركا اللاتينية، لكنها، هذا العام، مُنِحت لكاتب ولشاعر إسبانيّين، لعامَيْن متتاليَيْن.

ينتمي «برينيس» إلى جيل الخمسينات الشعري، وهو الجيل الذي وُلِد في زمن الاضطراب السياسي، وعاش طفولته في الحرب الأهلية (1936 – 1939)، ثم بدأ الكتابة والنشر تحت رقابة الديكتاتورية الفرانكوية. نال الشاعر البالينثي التقدير منذ ديوانه الأوَّل، وفاز بالعديد من الجوائز المهمّة، مثل الجائزة الوطنيّة للأدب، في سنّ مبكِّرة، لذلك لم تكن مفاجأة أن تختاره لجنة جائزة «ثيربانتس» لجائزتها، بل إن الكثيرين رأوا أنها تأخَّرت.

بدأت مسيرتك الشعرية بديوان عن الشيخوخة: «الجمرات» (1960)، ويبدو فيه أن الزمن لا يمرّ. كيف استطعت أن ترتدي ثوب الشيخ وأنت في الثامنة والعشرين، حين نُشر الديوان؟

– في الثامنة والعشرين، نُشر الديوان، لكني كتبته قبلها بعام، بين الصيف والخريف. ينبغي أن أقول إنه ديواني الاستشرافيّ الوحيد: إذا كان الشاعر عرّافاً، فقد تمتَّعت بهذه القدرة في كتابي الأوَّل، فحسب. البطل الشعري، خاصّة في الجزء الأوَّل والأساسي في الديوان، هو رجل عجوز، يعيش وحيداً في البيت الذي أعيش فيه نفسه، منتظراً النهاية. وهذا ما تحقَّق، بالفعل: وصلت وحيداً إلى هذه القرية، إلى هذا البيت، وهو بيت الديوان نفسه، وفيه أنتظر النهاية؛ بهذا المعنى هو كتاب تنبُّؤي، رغم أنه، للمفارقة، كتابي الأوَّل المكتوب وأنا في السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين.

هل كنت تشعر، نفسيّاً، بأنك عجوز؟

– بعيداً عن السنّ، ما كنت أراه هو مصير العزلة الذي كنت أحتاج إلى التعبير عنه شعرياً لتحقيقه، رغم أني لم أقل ذلك في هذا الديوان أو أيّ ديوان آخر؛ لأن الشعر هو كشف معنى الوجود الإنساني، شيء نقف أمامه عمياناً. كلّ شيء، على الأقلّ الأشياء المهمّة، محض لغز، وهذا اللّغز يجبرني على طرح أسئلة أساسية تأتي وتذهب، ثم تعود بشكل موسوس، تقريباً. ولأن هذه الأسئلة، بطريقة أو بأخرى، لم تهجرني، لا أعتقد أن ثمّة تغييراً حدث في شخصيَّتي.

لماذا كتبت كلّ قصائد هذا الديوان بصوت الضمير الثالث؟ هل هي مسألة خجل؟

– أظنّ أننا، في نهاية المطاف، نحكي عن الذات: من منطقة الجسد ومن الروح التي ترافقه. الروح تعيش فيما يعيش الجسد؛ وحين يموت، تموت الروح كذلك. أؤمن بذلك، من وجهة نظري، وهي وجهة لا تؤمن، ولست سعيداً معها، لأن ما نختبره، في النهاية، هو هويَّتنا الذاتية، وهذا ما لا نتمنّى أن نفقده، أبداً: الوعي بالهويّة، الشيء الوحيد الذي نحتفظ به، ما دمنا على وجه الحياة. من ناحية أخرى، حتى وأنا أتكلَّم عن الذات، لم أعتبر أن ذاتي مختلفة عن ذات الآخر، قَطّ؛ إذ إن البشر متشابهون. السحري في الشعر أنه يجعلنا نقبل بشريَّتنا، ونقبل ما نحبّ أن نكونه، بدون أن نحصل عليه. وهكذا، عند قراءة الشعر، نقبل بحقيقتنا وحقيقة الآخر. هذه هي موضوعية الوجود أو جوهر ما هو إنساني؛ لذلك أعتقد أن «الأنا» لا ينبغي أن تبرز كما نفعل: الأهمّ هو «الأنت»، لأنك، بالنسبة إلى الآخر، لست «الأنا» بل «الأنت». أظنّ أن الكتابة بصيغة «أنت» أو «هو» ابتعاد عن الوقوع في فخّ الذات: ليس من أجل الإعلاء من شأنها، ولا الحطّ من شأنها، بل لمعرفتها كما تستحقّ. أعتقد أن الإنسان كائن مذهل، رغم أنه قد يكون عاراً. إمكاناته شبه لا نهائية، بحيث يمكن أن يكون بطلاً أو جباناً.

هل كان لك محاولات شعرية سابقة على ديوانك الأوَّل؟

– لي سوابق شعرية، عندما كنت في الرابعة عشرة، وكانت سنوات تعلُّم. حينئذ، لم يكن ممكناً النشر في مجلّات كالآن، وكنت، حينها، أرتاب فيما أكتب كما أكتب الآن. لكن، نعم.. كان لديّ رغبة في الكتابة، وهذا منحني سحر التقرب لمعرفة الشعر. كنت في الرابعة عشرة تلميذاً مراهقاً، وكنت أتمتَّع بخبرة الإجابة عن الأسئلة بحسب ما درست. كنت أجيب عن أسئلة أعرفها بالقراءة، وبقدر ما أستطيع. لكني، حينها، كنت وسيطاً، وسيطاً بين القراءة وبين خبرتي الشخصية. على سبيل المثال، لو سألوني في الخريف: أين قضيت الإجازة؟، فسوف أقول: على الشاطئ، ثم في الجبل بدايةً من سبتمبر. كنت أحلِّل من تجربتي ذاتها، وأحاول أن أفسِّر لنفسي بأني أحبّ الشاطئ أو الجبل، حيث كنت وحيداً، وأجيب بحسب هذا المنطق. لكن، مع الشعر، حدث شيء سحريّ لأن ما كنت أقوله لم أكن قد قرأته ولا جرَّبته: كان يخرج من داخلي، ولم أكن أعرفه إلّا بكتابته. هذا ما كان يبدو لي، ولا يزال يبدو، سحرياً. أكتب، الآن، كما كنت في الرابعة عشرة؛ لذلك لم أكتب قصيدة معَدَّة سلفاً في رأسي، إنما عاطفة أحتاج إلى اكتشافها عبر الكتابة. يتدخَّل الحدس، وهو الذكاء لا العقل: الذكاء القاتم حيث، عند الكتابة، يأتي ليصحِّح ويوافق بحسب التجربة التأمُّلية. أشطب وأصحِّح في حدود ميلاد القصيدة وشكلها الأوَّل؛ بمعنى أن التأمُّل ليس المكتشف بل المستعمِر: يأتي متأخِّراً. خلال زمن طويل كنت أكتب القصيدة من البداية إلى النهاية، حتى جاءت لحظة محدَّدة، بدأت فيها أكتب القصيدة، تاركاً مناطق أعرف أنها تحتاج إلى مراجعة؛ لأنها، في الكتابة الأولى، بدت أشبه بتقارير. الآن، في كتابي الأخير، أمامي ثلاث أو أربع قصائد للمراجعة. ليس لديّ حماس للمراجعة، لكني أتمنّى أن يتوافر لي الحماس لأنهي الكتاب.

أحياناً، ربَّما من أجل القرّاء السذَّج، يُقال -بإلحاح- إن الذات الشاعرة، التي تتحدَّث في القصيدة شيء، وأن الشاعر، المؤلّف الحقيقي، شيء آخر. ألا تعتقد أن هذا الفصل الذي صنعه المنظّرون والنقّاد أدّى إلى خلق صور شيزوفرينية للشاعر، مع أن الأصدق أن الشاعر شخص طبيعي في قصائده؟

– أنا أعتقد أن الشاعر، حين يكتب يرسم صورة شخصيّة: الدفتر مرآة يطلّ منها الشاعر كما يحدث في الأحلام، فيرى أشخاصاً مجسَّدين، لكن، في هذه اللحظة، تظهر وجوه أخرى. في الشعر، أيضاً، نطلّ على الورق، ونرى أنفسنا، لكن بوجه آخر. في القصيدة تخرج منا أشياء لا نعرفها، وفي المقابل، ثمّة أشياء نعرفها جدّاً، مهمّة ومعروفة، لكنها لا تظهر في القصيدة. الشعر يسحب، من العمق، أشياء يضعها على السطح، فيما يدفن أشياء أخرى.

كيف تعبّر عن الحميمية بهذه الدقّة وهذه الكثافة، مستخدماً لغة طبيعية جدّاً وعارية من كلّ زخرفة؟

– أظنّ أن الشعر الجيّد لم يكن، قطّ، حرفيّاً، رغم أن الحرفيّة قد تظهر -مثلاً- في الشعر السردي. الشعر يختلف عن النثر في كثافته المركَّزة. الشعر نبع الإيحاء والصدى؛ من هنا، تأتي صعوبة قراءته. مَن يقرأ الشعر مِن حرفيَّته لا يجد فيه شيئاً لافتاً، لأن الشعر ليس من أهدافه قول أشياء جديدة، إنما قول أشياء مؤلمة (مؤلمة بعمق أو ممتعة) بالنسبة إلى كلّ الناس، ومن ذلك، على سبيل المثال، الشعر العاطفي. كلّ الناس، تقريباً، شعروا بالحبّ؛ ليس الحبّ الجسدي، فحسب، بل غير الجسدي، أيضاً. مع ذلك، حين يجرِّبه فرد، للمرّة الأولى، لا تفيده تجارب الآخرين. وحين يعيد التجربة بتلك الكثافة، سيتمَّكن من رؤية حجمه. في الشعر، يحدث الشيء نفسه: يتناول موضوعات معتادة عن الحياة والموت والحبّ والألم، لكنه يقول ذلك بطريقة تحرّك مشاعر القارئ، ويتعلَّم من ذلك، أو يعيش التجربة التي لم يعشها؛ لذلك لا أظنّ أن الشعر يجب أن يقول أشياء جديدة ليحظى بالتقدير؛ والأكثر من ذلك، أعتقد أن عالِماً بنظرية جديدة يحتاج إلى النثر ليشرحها، ويعبِّر عن نفسه فيها أكثر من استخدام الشعر، لأن ما يبحث عنه القارئ، حينها، ليس الشعر، ولو تقدَّم العلم في شكل شعريّ فسيتعثَّر القارئ في فهمه، لأن الأشياء الموضوعية لا تهمّه. هذا الاستعراض للعلم يحتاج إلى دقّة ووضوح لا إلى صدى وتأمُّلات. ما تحتاجه اللّغة الشعرية هو السحر الكافي ليقول -حرفيّاً- ما لا يقال، لكنه يفعل ذلك بالإيحاء بطريقته. ثمّة قراءتان: الأولى حرفيّة، والثانية عميقة، وهي تتحقَّق حين يتَّصل القارئ بالقصيدة ويصير هو منتجها؛ يحدث ذلك لأنه يبتعد عن الحرفيّة، ليكون قارئاً وكاتباً في الوقت نفسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: كارلوس خابيير موراليس

المصدر:

مجلّة بويسيا ديخيتال

http://www.poesiadigital.es/index.php?cmd=entrevista&id=57

عدالت آغا أوغلو.. الأدب التركي يفقد زهرة خياله!

«سأرقد للموت. لو أن هناك أبدية.. أريد أن أكون الأبدية». هكذا، قالت الكاتبة المسرحية والروائية التركية «عدالت آغا أوغلو»، والتي رحلت عن عالمنا، في تموز الماضي، عن عمر يناهز التسعين عاماً، بعد مسيرة حافلة بالمعارك في ميادين الأدب والسياسة، لتصبح قنديل التنوير والتحضُّر لمجتمعها كما وصفها وزير الثّقافة التركي في نعيه لها.
تُعَدّ «عدالت آغا أوغلو» أحد أبرز رواد الواقعية الاجتماعية في الأدب التركي المعاصر، وهي من الرعيل الأوَّل لمثقَّفي الجمهورية، تمتَّعت كتاباتها بحسّ ساخر وعبثي، وهي أستاذة اللعب بتيّار الوعي وتنويعات المونولوج الشخصي في الرواية. تنهض كتاباتها على آثار التغيُّرات الاجتماعية، والثّقافيّة التي تركتها السياسة على المجتمع التركي، وتوابع الحداثة، ونموّ الفردية، والشعور بالاغتراب، ورصد القيم المتحلِّلة في الطبقة البرجوازية البارزة، إثر التغييرات الجذرية في عصر الجمهورية. أدخلت أشكالاً جديدة على الرواية التركية، فهي -كما أوضحت- قد سئمت من الرواية الكلاسيكية، واستطاعت استخدام اللّغة التركية، بشكل جعلها تنجح في استعادة بعض الألفاظ والمصطلحات، لينعكس انتشارها في اللّغة اليومية.
وُلِدت «عدالت آغا أوغلو» في 23 أكتوبر، عام 1923، لأبٍ يعمل في تجارة الأقمشة. انتقلت مع أسرتها إلى قلب مدينة أنقرة، فحظيت بفرصة التسجيل في مدرسةٍ إعدادية بالعاصمة، ومع تقدُّمها الدراسي ظهرت موهبتها الشعرية، لأوّل مرّة، في الثانوية، لكن سرعان ما جذبها المسرح، فاتَّجهت إلى الكتابة المسرحية، وظهرت أعمالها النقدية ودواوينها الشعرية، منذ أن كانت في الثالثة والعشرين من العمر.
درست الأدب الفرنسي في جامعة أنقرة، والتحقت للعمل في قطاع الإذاعة والتلفزيون التركي فور تخرُّجها عام 1950، محرِّرة نصوصٍ مسرحية، حتى وصلت إلى رئاسة القطاع، وظلَّت تعمل به حتى دفعها توغُّل يد الدولة العميقة، في ظلّ الحكم العسكري في شؤون ما يبثه راديو TRT، للاستقالة، عام 1970.
ساهمت، مع مجموعة من أصدقائها، في تأسيس أوَّل مسرح خاصّ، عام 1961م، باسم «ميدان»، لتصبح هذه أوَّل خطوة على طريق تحرير القطاع المسرحي من قبضة الدولة. عُرِضت أعمالها على مسارح الدولة، حتى منعت وزارة الثّقافة التركية، تحت الحكم العسكري، عرضَ مسرحيَّتها «الصدع الذي بالسقف» عام 1965م. اتَّجهت للكتابة بأسماء مستعارة منها: ريموس تلادا، وباركر كوينك. في عام 1973، نشرت روايتها الأولى «الرقود للموت»، التي ناقشت، خلالها، التغيُّرات التي طرأت على المجتمع التركي من بعد رحيل «أتاتورك»، عام 1938.
في عام 1976، أصدرت رواية «زهرة خيالي الرقيقة» والتي تصدَّرت المبيعات في تركيا طوال أربع سنوات، حتى صادرتها السلطات التركية عام 1981، ووجَّهت لها تهمة إهانة القوّات العسكرية، وظلّت محلّ مداولة حتى تمَّت تبرئتها عام 1983م. تزايدت شهرة الرواية، وتحوَّلت إلى فيلم سينمائي عام 1992، بعنوان «المرسيدس الصفراء» من إنتاج تركيا وألمانيا وسويسرا وفرنسا.
أعوام الموت
في عام 1975، فقدت أخاها في حادث مأساوي، وفي العام التالي يرحل والدها، وفي عام 1977 يسقط أخوها الأصغر مهزوماً بالسرطان، فتمرّ بفترة عصيبة، انعكس أثرها على قصص مجموعتها «الصوت الأوَّل للصمت». انتقلت، بعدها، للعيش في اسطنبول، عام 1984. وتوقَّفت عشرين عاماً عن كتابة المسرح، حتى عادت، عام 1991، بمسرحية «بعيد جدّاً، قريب جدّاً». وحصلت عنها على جائزة «إش بنك» الكبرى.
في تموز 1996، تعرَّضت لحادث سيّارة ألقت بها في البحر، في أثناء مشيها على الساحل، لترقد عامين وأكثر في المستشفى، تتعافى من عودتها من الموت، كما علَّقت في يوميَّاتها: «كانت أيَّاماً عصيبة، كأنها زلزال مدمِّر، قاتلت فيها وحدي. كانت كالحياة تحت الأنقاض. لقد رأيت جنازتي! وعدتُ مرّة أخرى، بفضل محبِيَّ وقرّائي وأطبّائي. وفي ذلك الحين، عرفتُ أن الكاتب لا يستطيع كتابة ألمه، ولا يأسه الخاصّ. فقط، يستطيع كتابة آلام الآخرين».
أتمَّت مجموعتها القصصية «طرق النجاة» كما أوضحت في لقاء تليفزيوني، بشكل يدوي، على سرير المستشفى، ثم أرسلتها بالفاكس إلى دار النشر. تقول «عدالت آغا أوغلو» في هذا اللقاء: «كنت على وشك الاستسلام للموت، وعرفت معنى العبودية والبطالة، ولكن ما دفعني لهزيمة الموت هو معرفة العاملين بالمستشفى بأعمالي، وقراءتهم لها، وتأثّرهم بها. حينها، استيقظت بداخلي، مرّة أخرى، المسؤولية الاجتماعية، وصمَّمت على أن أعود إلى الكتابة، مرّة أخرى، من أجل المجتمع». وقد كتب لها الشاعر التركي المعروف «جان يوجل»، أنذاك:  «أنتِ أجمل حادثة حدثت لتركيا».
لم تنفصل حياة «عدالت آغا أوغلو» الأدبية عن السياسية، فقد سئلت، في لقاء تلفزيوني، عن علاقة ترشُّحها للبرلمان عام 1999، بكونها أديبة، فأجابت أن الأدب سياسة، والسياسة تنعكس على كلّ شيء في حياتنا، وأن كلّ رواياتها مستلهمة من المجتمع وأحداثه السياسية. قُدِّمت ثلاث مرّات للمحاكمة بسبب أعمالها، ومرّة بسبب ترجمتها لمسرحية لفيلسوف الوجودية الأكبر «جان بول سارتر».
ساهمت «عدالت»، عام 1986، في تأسيس جمعية حقوق الإنسان في تركيا، لكنها، في يوليو، عام 2005، تقدَّمت باستقالتها قائلة إن المؤسّسة بدأت تتَّخذ مواقف قومية متطرِّفة وعنصرية.
كانت تتوخّى التوسُّط في مواقفها، وكم جلب لها ذلك السخط؛ فقد تَمَّ انتقادها لحصولها على جائزة رئيس الجمهورية للأدب، وعلى موافقتها على تغيير الدستور عام 2010م، إلى درجة أنها تعرَّضت للرمي بالبيض من إحدى الجماعات الطلّابية. وقالت في لقاء تليفزيوني: «أنا مواطنة تركية، وإن لم أذهب لدعوة رئيس الجمهورية، فلأمزق بطاقة هويَّتي، إذاً».
تقول، أيضاً: «لولا قرار «أتاتورك» بحبس كلّ من لا يرسل بناته إلى المدرسة؛ ما كنتُ تعلَّمتُ، وأصبحتُ كاتبة. لكن التغيير الجذري بدون بنية تحتية، هو شيء خطير، فقرار تغيير الحروف من العثمانية إلى اللاتينية جعل مثقّفي الأمس جَهَلة! تخيَّل أن تكون مثقّفاً، وفي اليوم التالي لا تستطيع القراءة، حتى اسمك لا تعرف كيف تكتبه!».
سئلت عن نصيحة تقدِّمها للكُتّاب المبتدئين، فأوصتهم بكتابة اليوميّات؛ ليس لأنها ستساعد في تطوُّر أسلوبهم، فحسب، بل لأنها شيء نابع من الكاتب، ويخصّه وحده، وليس كالرواية أو المسرحية، إذ يمكن للدولة التدخُّل وتغيير شيء فيهما. كما أوصتهم باستخدام اللّغة التركية بشكل صحيح، والحفاظ على رصانتها بعيداً عن مدخلات الكلمات الأجنبية المستحدثة، فقالت: «إن الحزن يولِّد الإبداع. كلُّنا حزانى في الأصل، ولكن من يسائل نفسه ويدرك المغزى هو القادر على الإبداع، ولو كنت سعيدة؛ ما كنت كتبت».
في عام 2010، تبرَّعت بكلّ أرشيفها ومكتبتها لجامعة «بوغازتشي»، وتَمَّ تسمية المشروع باسمها، وصار مفتوحاً للجميع، به جوائزها، ومكتبها، وأدوات الكتابة، وأصبح متحفاً بعد ذلك.
عام 2018، حصلت على الدكتوراة من جامعة «بوغازتشي»، الجامعة الأولى والأهمّ في تركيا، عن إسهاماتها خلال 70 عاماً في الأدب والفكر والتنوير.
استمرَّ زواجها بالمهندس «حليم»، 64 عاماً: «هذا الزواج نجح لأننا هدمنا معنى منظومة الزواج، فقرَّرنا ألّا ننجب حتى لا يكون الطفل عقبة في طريق حرَّيَّتنا. «حليم»، أحَبَّ كتاباتي قبل أن يحبَّني، وكنت أوقّع له أوّل نسخة من كلّ عمل. لقد وقَّعت له على إحدى الروايات 27 مرّة!».
تقول الكاتبة عن آخر عمل صدر لها، في 2018، عن عمر 89 سنة: «الآن، أصبحت الكتابة سمّاً أكبر من السيجارة، حتى أنني تركت التدخين بسهولة، ولم أستطع ترك الكتابة! منذ عامين، لا أخرج من البيت، ولكنني لم أستطع التوقُّف عن الكتابة. الحاجة إلى الكتابة مثل حاجتي إلى الماء».
وفي موضع آخر، تقول: «كتبت هذه المجموعة القصصية برغم تقدُّم السنّ والألم من أجل «حليم»، الذي أحبَّني كاتبةً، ويجب ان أظلّ كاتبة. سقطتُ ثلاث مرّات وأنا أحاول المشي، وكان «حليم» يساعدني على المشي، فأقول له: لن أمشي خوفاً من السقوط، وهكذا، وضعت اسم المجموعة القصصية. الخوف من السقوط ليس مادِّيّاً، فقط، فأنا أخاف،أيضاً، من السقوط المعنوي».
في 2018، بعد صدور مجموعتها القصصية الأخيرة، مات زوجها المهندس «حليم أغا أوغلو». وفي مقابلة لها مع مجلَّة «اسطنبول لايف»، في أوائل 2020، وقبل هجوم وباء «كورونا» على العالم، قالت: «انقطعت عن الكتابة وعن كلّ شيء بعد موت «حليم». لقد أصبحت نصفاً، سئمت من نفسي، أنتظر متسائلةً: لماذا لم يأتِ الموت حتى الآن!».
توفِّيت الكاتبة التركية «عدالت آغا أوغلو» في 14 يوليو، 2020، بعد رقودها ثلاثة أيام في العناية المركَّزة، بسبب خلل متعدِّد في وظائف الجسم، وخرجت جنازتها من جامعة «بوغازتشي»، في «اسطنبول»، إلى مسقط رأسها «أنقرة». ورثاها وزير الصحّة التركي على حسابه الرسمي في «تويتر»: «ذبلت زهرة خيالنا الرقيقة».
كما كتب المؤرّخ التركي «ألبير أورتايلي» مقالاً، ينعي فيه الكاتبة، في جريدة «حرِّيّت»، قائلاً: «كانت الأطول عمراً بين كتّاب الأدب الحديث، متَّقدة الذهن، تكتب وتناقش دائماً، لقد فقدَ الأدب التركي «عدالت أغا أوغلو»، ولكنني على يقين من أن أعمالها لن تُنسى». في حين صرَّح الكاتب المعروف «أحمد أوميت»: «اليوم، عرجت إلى الأبدية، واحدة من أعمدة الأدب. لقد كانت كاتبة عملاقة، أنارت لنا الطريق. ستبقى حيّة بحبِّنا، وبأعمالها، وبقرّائها».

”وردة النار“ كارلوس زافون

وهكذا، في 23 من أبريل/نيسان، التفت سجناء الرواق لينظروا إلى «ديفيد مارتين»، الذي كان يضطجع في عتمة زنزانته، بعينيه المغلقتين، والتمسوا منه أن يحكي لهم قصّة يطردون بها الضجر، فقال: «سأحكي لكم قصّة». «قصّة كتب، وتنانين، وورود، مثلما يمليه التاريخ، ولكن، وعلى الأخصّ، قصّة ظلال ورماد، مثلما تفرض الأزمنة..».. (شذرات ضائعة من «سجين السماء»)

(1)

تحكي كتب الأخبار والتواريخ أنه لمّا وصل صانع المتاهات إلى «برشلونة»، على متن سفينة آتية من الشرق، كان يحمل معه بذرة اللعنة التي كان يجب أن تخضّب سماء المدينة بالنار والدم. كان ذلك خلال فصل الشتاء من عام النعمة (1454)، وفيه أهلكت جائحة الحمّى عددًا عظيمًا من السكّان، مخلّفة مدينةً محجّبة برداء من دخان أمغر، يتصاعد من النيران التي تحترق فيها جثث وأكفان مئات القتلى. كان بالإمكان رؤية دوّامة البخار العفن على مسافة بعيدة، وهي تزحف بين الأبراج والقصور لترتفع في تكهّن جنائزي يحذّر المسافرين ألّا يقتربوا من الأسوار، وأن يمرّوا دون توقٌّف. وكانت محكمة التفتيش قد أصدرت قرارًا بأن يتمّ إغلاق أبواب المدينة بالختم، وأسفر التحقيق بشأنها عن أن الوباء كان قد نشأ من بئر قريب من الحيّ اليهودي لـ«كال ساناوخا»، حيث أدّت مؤامرة شيطانية من قٍبَل مرابين إلى تسميم المياه، وذلك مثلما أثبتت الاستنطاقات بالحديد والنار، على مدى أيّام، بما لا يترك مجالًا للشكّ. وبعد مصادرة العديد من ممتلكاتهم، وإلقاء ما كان قد تبقّى من رفاتهم في مستنقع، لا يسع المرء إلّا أن يأمل في أن تعيد صلوات المواطنين الصالحين مباركة الرَّبِّ إلى «برشلونة». مع كلّ يوم يمضي، كان عدد القتلى يقلّ، وأكثر الناس يشعرون بأن الأسوأ قد بقي وراءهم. مع ذلك، أراد القدر أن يكون الأوّلون هم المحظوظين، وأن يكون على اللاحقين أن يحسدوا أولئك الذين تركوا وادي الأحزان. وحين تجرّأ صوت خافت على التلميح بأن عقابًا كبيرًا كان سينزل من السماوات لتطهير العار الذي ارتُكب باسم الربّ ضدّ التجّار اليهود، كان الوقت قد فات. ولم ينزل من السماء شيء، باستثناء الرماد والغبار. جاء الأذى دفعة واحدة عن طريق البحر.

(2)

شوهدت السفينة عند الفجر. رآها الصيّادون الذين كانوا يصلحون شباكهم أمام السور البحري، وهي تطفو من الضباب، والمدّ يسحبها. وعندما جنح مقدم السفينة إلى الشطّ، ومالت بهيكلها إلى اليسار، صعد الصيّادون على سطحها. كانت تنبعث من أحشاء المركب رائحة كريهة. وكان القبو مغمورًا بالمياه، وكانت عشرات التوابيت تطفو بين الأنقاض. لقد وجدوا «إدموند دي لونا»، صانع المتاهات، الناجي الوحيد خلال الرحلة البحرية، موثوقًا إلى الدفَّةِ، وقد أصابت الشمس جلده بحروق. في البداية، اعتقدوا أنه ميّتٌ، لكنهم، عند فحصه، استطاعوا أن يلاحظوا أن معصمَيْه ما زالا ينزفان بفعل الرباطات، وأن شفتَيْه تنفثان أنفاسًا باردة. كان يحمل في حزامه دفترًا جلديًّا، لم يتمكّن أحد من الصيادين من الاستيلاء عليه، ففي ذلك الحين وصلت فرقة من الجنود، وأمر قائدها، بناءً على أوامر من القصر الأسقفي، بنقل الرجل المحتضر إلى مستشفى «سانتا مارتا» القريب، كما وضع القائد رجاله، كلّ في موقعه، في حالة تأهُّب لحراسة حطام السفينة الجانحة في انتظار قدوم مسؤولي محكمة التفتيش لمعاينة السفينة، وتوضيح ما حدث. 

تمّ تسليم دفتر «إدموند دي لونا» إلى كبير المحقّقين «خورخي دي ليون»، نصير الكنيسة اللامع والطموح، الذي كان لديه اليقين بأن جهوده المثابرة في سبيل تطهير العالم، ستبذر لديه، قريبًا، شرط المتعبّد الناسك القدّيس، ونور الإيمان الحيّ. بعد افتحاص سريع، قرّر «خورخي دي ليون» أن الدفتر قد تمّ تأليفه بلغة غريبة عن المسيحية، وأمر رجاله بأن يمضوا بحثًا عن صاحب مطبعة اسمه «رايموندو دي سامبيري» الذي كانت لديه ورشة عمل متواضعة بجوار بوّابة «سانتا آنا»، ولأنه قد سافر كثيرًا في شبابه، كان يعرف من اللغات أكثر ممّا ينصح به لمسيحيٍّ طيب الخلق. وتحت التهديد بالتعذيب، تمّ إرغام «سامبيري»، صاحب ورشة الطباعة، على أن يحلف اليمين بأنه سيحفظ سرّ كلّ ما سيكشف له عنه. عندها، فقط، سُمح له بفحص الدفتر في قاعة يراقبها الحرس، في أعلى مكتبة بيت رئيس الأساقفة، بجوار الكاتدرائية. كان المحقّق «خورخي دي ليون» يراقب باهتمام وطمع. «أعتقد أن النصّ مؤلّف بالفارسية، قداسة المحقّق»، همهم «سمبيري» مرتعبًا. وصحّح المحقّق: «أنا لم أصِر، بعد، قدّيسًا، لكن كلّ شيء سوف يمضي». وهكذا، وبعد مضيّ ليلة بكاملها، شرع «سامبيري» طابع الكتب، يقرأ ويترجم لكبير المحقّقين اليوميّات السّرية لـ«إدموند دي لونا»، المغامر وحامل لعنة الشؤم الذي كان يجب أن يجلب الوحش إلى «برشلونة».

(3)

قبل ثلاثين عامًا، كان «إدموند دي لونا» قد رحل عن برشلونة، متّجهًا إلى الشرق؛ بحثًا عن العجائب والمغامرات. قادته رحلته، عبر البحر الأبيض المتوسّط، ​​إلى جزر محظورة لا تظهر على خرائط الملاحة، وإلى لقاء أميرات وكائنات غير قابلة للوصف، كما قادته إلى معرفة أسرار حضارات دفنها الزمن، وإلى فنّ بناء المتاهات؛ موهبة من شأنها أن تجعله شهيرًا، وبفضلها حصل على ثروة، لقاء خدمة السلاطين والأباطرة. ومع مرور الأعوام، لم تعد مراكمة الملذّات والثروات تعني أيّ شيء بالنسبة إليه. لقد أشفى غليله من الجشع والمطامح بما يتجاوز أحلام أيّ كائن فانٍ، وقد صار لديه، بعد كلّ هذا العمر، نضج كافٍ ليعرف بأن أيّامه تمضي نحو الأفول. وهكذا، وعد نفسه بالامتناع عن تقديم خدماته ما لم ينل، في مقابل ذلك، أعظم المكافآت، فالمعرفة ممنوعة. 

وعلى امتداد سنوات، رفض دعوات لبناء المتاهات الأكثر إدهاشًا وتعقيدًا، فلا شيء ممّا يُقدَّمُ له، كمقابل، كان مرغوبًا لديه. كان يعتقد بأنه لا وجود لكنز، في العالم، لم يُعرض عليه، قبل أن يصل إلى أسماعه أن إمبراطور مدينة القسطنطينية في حاجة إلى خدماته، مقابل منحه سرًّا ظلّ طيّ الكتمان، على مدى قرون. ضجرًا، وتحت إغراء فرصة أخيرة لإحياء جذوة روحه، قام «إدموند دي لونا» بزيارة الإمبراطور «قسطنطين» في قصره. كان «قسطنطين» يعيش على يقين بأن حصار السلاطين العثمانيين، عاجلاً أم آجلاً، سينهي إمبراطوريّتهم، وسيمحو، من وجه الأرض، المعرفة التي راكمتها القسطنطينية على مرّ القرون؛ لهذا، كان يتمنّى أن يعرض «إدمون» أكبر متاهة، لم يتمّ إنشاء مثيل لها، على الإطلاق: مكتبة سرّيّة، مدينة كتب يجب أن توجد متخّفية تحت سراديب كاتدرائية «آيا صوفيا» حيث يمكن حفظ الكتب الممنوعة وعجائب قرون من الفكر، إلى الأبد. وفي المقابل، لم يقدّم له الإمبراطور «قسطنطين» أيّ كنز. قدّم له قنّينة فقط، هي قارورة صغيرة من الزجاج تحتوي على سائل قرمزي كان يتوهّج في الظلام. ابتسم «قسطنطين» بغرابة، عندما سلّمه القارورة. أوضح له الإمبراطور: «لقد انتظرت سنوات عديدة، قبل أن أجد الرجل الذي يستحقّ هذه الهبة». «في الأيادي الخطأ، قد تكون هذه أداة للشرّ». فحصها «إدموند» متلهّفاً ومفتوناً. همس الإمبراطور: «إنها قطرة من دم التنّين الأخير»؛ «سرّ الخلود».

(4)

على مدى عدّة أشهر، عمل «إدموند دي لونا» على تصميم تخطيطات المتاهة الكبرى للكتب. كان يضع المشروع، ثم يعيده، من جديد، دون أن يكون راضيًا عنه، بتاتًا. كان قد أدرك، حينها، أنه لم يعد يهتمّ باستخلاص المقابل، لأن خلوده سيكون نتيجة ابتكاره لتلك المكتبة المدهشة، وليس نتيجة لجرعة سحرية مفترضة تنتمي إلى الأسطورة. كان الإمبراطور الصبور، لكن القلق، يذكّره بأن الحصار النهائي للعثمانيين، كان قريبًا، وأنه لم يكن ثمّة وقت لتضييعه. وأخيرًا، لمّا توصّل «إدموند دي لونا» إلى حلّ اللغز العظيم، كان الأوان قد فات. كانت جيوش محمّد الثاني الفاتح قد حاصرت القسطنطينية. كانت نهاية المدينة والإمبراطورية وشيكة. استلم الإمبراطور تخطيطات «إدموند» مذهولًا، لكنه أدرك أنه لا يمكنه، أبدًا، أن يبني المتاهة تحت المدينة التي كانت تحمل اسمه. ثم طلب، حينئذ، من «إدموند» أن يحاول تجاوز الحصار مع عدد آخر من الفنَّانين والمفكّرين الآخرين الذين سيغادرون نحو إيطاليا. «أعلمُ أنك ستجد المكان المناسب لبناء المتاهة، يا صديقي». وللتعبير عن الامتنان، سلّمه الإمبراطور القارورة بدم التنّين الأخير، لكنّ ظلًّا من القلق كان يلفّ وجهه بالغيوم، حين فعل ذلك. «عندما عرضت عليك هذه الهبة، ناشدت جشع العقل لكي أغويك، يا صديقي. أريدك أن تقبل، أيضًا، هذه التميمة المتواضعة، التي – ربّما – تناشد، في يوم ما، حكمة روحك، إن كان ثمن الطموح مرتفعًا جدًّا..».. انتزع الإمبراطور قلادة كان يحملها حول عنقه، ومدّها إليه. لم تكن الحلية تحتوي على ذهب أو جواهر، بل كانت مجرَّد حجر صغير يبدو كحبّة رمل بسيطة. «الرجل الذي أعطاني إيّاها قال لي إنها دمعة المسيح». قطّب «إدموند» جبهته عابسًا. «أعلمُ أنك لست رجل إيمان، يا «إدموند»، ولكن الإيمان يوجَدُ عندما لا يتمّ البحث عنه، وسيأتي في اليوم الذي يكون فيه قلبك، لا عقلك، هو الذي يتوق إلى تطهير الروح». لم يرغب «إدموند» في معاكسة الإمبراطور، فوضع القلادة حول عنقه. ودون أمتعة سفر، عدا تصاميم متاهته والقارورة القرمزية، رحل في الليلة ذاتها. سوف تسقط القسطنطينية والإمبراطورية بعد ذلك بوقت قصير، بعد حصار دامٍ، بينما كان «إدمون» يبحر عبر مياه الأبيض المتوسّط ​​بحثًا عن المدينة التي كان قد تركها في شبابه. كان يبحر مع بعض المرتزقة الذين كانوا قد عرضوا عليه تذكرة السفر؛ لأنهم حسبوه تاجراً ثريّاً، يمكن نهب أمتعته حينما تصير السفينة في أعالي البحر. وحينما اكتشفوا أنه لم يكن يحمل أيّة ثروة، على الإطلاق، أرادوا أن يلقوه في البحر، لكنه أقنعهم بالسماح له بالاستمرار على متن السفينة، من خلال حكي بعض مغامراته على طريقة شهرزاد. كانت الحيلة في أن يتركهم، دائمًا، والعسل على شفاههم، مثلما علّمه راوٍ حكيم في دمشق: «سيُكرهونك على ذلك، لكنهم سيرغبون في المزيد». في أوقات الفراغ، بدأ يكتب تجاربه في دفتر، ولكي يمنع عنه النظرة المتكتّمة على الأسرار لأولئك القراصنة، ألّفه بالفارسية، وهي لغة مدهشة، تعلّمها خلال سنواته في بابل القديمة. في منتصف الرحلة، صادفوا سفينة كانت تنساق مع التيّار دون ركّاب أو طاقم. كانت تحمل جرارًا كبيرة، حملوها على متن سفينتهم، والتي كان القراصنة يشربون مافيها، ويسكرون كلّ ليلة، في أثناء الاستماع إلى القصص التي يرويها «إدموند»، الذي لم يُسمح له بتذوُّق أيّ قطرة منها. وفي غضون أيّام قليلة، أخذ المرض يصيب طاقم السفينة، وسرعان ما بدأ المرتزقة يموتون واحدًا بعد الآخر، ضحايا السمّ الذي تناولوه في النبيذ المسروق. وكان «إدموند» هو الناجي الوحيد من هذا المصير، وكان يضعهم في التوابيت التي كان القراصنة يحملونها في القبو، نتيجة نهبهم لها. وبما أنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، على متن السفينة، فقد خشي من الموت ضائعًا بأعالي البحر، في أفظع عزلة؛ لذلك تجرّأ على فتح القارورة القرمزية، واستنشاق ما تحتويه، خلال ثانية. كانت الهنيهة كافية بالنسبة إليه، ليلمحَ الهوَّة التي كانت ترغب في ابتلاعه. وأحسَّ بالبخار الذي كان يزحف من القارورة إلى جلده، ورأى، خلال ثانية، يديه وقد غطّتهما الحراشف، وأظافره وقد تحوّلت إلى مخالب أكثر حدّةً وأكثر فتكًا من السيوف الأشدِّ إرعابًا. حينئذ، قبض بجماع يده على تلك الحبّة المتواضعة من الرمل، المعلّقة في عنقه، وتوسّل إلى مسيح لم يكن يؤمن بخلاصه. تلاشت الهوّة السوداء للروح، وتنفَّس «إدموند» مرّةً أخرى، عندما رأى- من جديد- يديه وقد عادتا إلى حالهما الأوّل حالَ أيادي البشر الفانين. أغلق الزجاجة مرّةً أخرى، ولعن ذاته بسبب سذاجته. وقد علم، حينئذ، أن الإمبراطور لم يكن قد كذب عليه، لكن ذلك لم يكن أجرًا مدفوعًا ولا نعمة مباركة: لقد كان مفتاح الجحيم.

(5)

حينما انتهى «سامبيري» من ترجمة الدفتر، كانت قد بزغت أضواء الفجر الأولى ما بين الغيوم. بعد فترة وجيزة، غادر المحقّق القاعة، دون أن ينبس بكلمة، ودخل الحارسان متشوقَيْن للبحث عنه؛ لاقتياده إلى زنزانته، التي كان على يقين من أنه لن يغادرها، أبدًا، وهو على قيد الحياة.

بينما كان «سامبيري» يصطدم بعظامه في زنازن السجن المظلم، تحت الأرض، ذهب رجال كبير المحقّقين إلى حطام السفينة الغارقة، حيث كان يجب أن يعثروا على القارورة القرمزية المخبّأة في صندوق معدني. كان «خورخي دي ليون» ينتظرهم في الكاتدرائية. لم يتمكّنوا من العثور على القلادة بالدمعة المفترضة للمسيح، والتي كان قد ألمح إليها نصّ «إدموند»، لكن المحقّق لم يكن لديه أيّ تردُّد، فقد كان يشعر أن روحه لم تكن تحتاج إلى أيّ تطهير. وبعينين سمّمهما الطمع، أخذ المحقّق القارورة القرمزية، ورفعها فوق المذبح ليباركها، شاكرًا الربّ والجحيم على تلك الهبة، ثم تناول الشراب الذي تحتويه دفعةً واحدة. مرّت بضع ثوانٍ دون أن يحدث أيّ شيء. حينئذ، شرع المحقّق يضحك. نظر بعض الجنود إلى بعضهم الآخر، في حيرة وارتباك وهم يتساءلون عمّا إذا كان «خورخي دي ليون» قد فقد عقله!.. بالنسبة إلى معظمهم، كانت تلك آخر فكرة قد تتبادر إلى الذهن في أثناء حيواتهم. رأوا كيف كان المحقّق يهوي جاثيًا على ركبتيه، واجتاحت الكاتدرائيةَ هبَّةُ ريح جليدية عاصفة، وهي تسحب المقاعد الخشبية، وأسقطت الصور والشموع المشتعلة. وبعدئذ، سمعوا كيف كان جلده يتمزّق، وأعضاؤه تتكسّر، وكيف كان صوت «خورخي دي ليون» يغرق بين عويل الاحتضار في زئير الوحش الذي كان ينبثق من جسده، وهو ينمو، بسرعة، في كتلة عجين دموي من الحراشف والمخالب والأجنحة، وذيل تتخلّله حوافّ حادّة مثل فؤوس كانت تمتدّ في أكبر الثعابين. ولمّا استدار الوحش، وأبرز لهم وجهه المتشقّق بالأنياب، وعيونه المشتعلة نارًا، لم تكن لديهم، تقريبًا، الشجاعة للانطلاق في الركض. فاجأتهم النيران وهم واقفون بلا حراك، فاقتلعت لحمهم عن عظامهم مثلما تقتلع الريح العاتية أوراق الشجر. حينها، نشر الوحش جناحيه، وحلّق المحقّق «سان خورخي»، التنّين، عاليًا، مقتحمًا البناء المعماري الكبير للكاتدرائية، الوردي الشكل، في عاصفة من زجاج ونار، ليرتفع فوق أسطح برشلونة.

(6)

زرع الوحش الرعب خلال سبعة أيّام وسبع ليالٍ، مدمِّرًا المعابد والقصور، ومضرمًا النار في مئات المباني، ممزّقًا، بمخالبه، الكائنات المرتجفة التي كان يلتقيها، وهي تبتهل متوسّلة الرحمة، بعدما اقتلع السقوف من فوق رؤوسها. كان التنّين القرمزي ينمو يومًا بعد يوم، ويلتهم كلّ ما يصادفه خلال عبوره. كانت الجثث الممزّقة تمطر من السماء، ويتدفّق لهيب أنفاسه، عبر الشوارع، مثل سيول من الدم. في اليوم السابع، عندما كان الجميع في المدينة يعتقدون أن الوحش سيدمّرها بأكملها، ويبيد جميع سكّانها، خرجت شخصيّة منفردة للقائه: كان «إدموند دي لونا» الذي لم يتعافَ بعدُ، وما زال يعرج.. صعد السلالم التي كانت تؤدّي إلى سطح الكاتدرائية. وهناك، انتظر أن يلمحه التنّين، وأن يأتي من أجله. ومن بين سحب الدخان السوداء والجمر، انبثق الوحش في تحليق منحدر فوق أسطح «برشلونة». كان حجمه قد تنامى بشكل كبير، إلى درجة أنه صار، فعلًا، يضاهي حجم المعبد الذي كان قد خرج منه. لقد استطاع «إدموند دي لونا» أن يرى انعكاسه في تينك العينين الشاسعتين مثل برك من الدم. فتح الوحش حلقومه لابتلاعه، وهو يحلّق، الآن، فوق المدينة مثل قذيفة مدفع، مقتلعًا السطوح والأبراج في أثناء عبوره. أخرج «إدموند دي لونا»، آنئذٍ، حبّة الرمل البائسة المعلّقة في عنقه، ثم ضغط عليها بقبضته، وتذكّر كلمات «قسطنطين»، وقال لنفسه: إن الإيمان قد عثر عليه، أخيراً، وإن موته كان ثمناً صغيراً جدّاً لتطهير روح الوحش السوداء، والتي لم تكن سوى روح جميع البشر. وهكذا، رفع القبضة التي كانت تمسك دمعة المسيح، وأغلق عينيه، وقدّم نفسه قربانًا. ابتلعه الحلقوم بسرعة الريح، وارتفع التنّين إلى الأعلى، متسلّقًا السحب. 

أولئك الذين يتذكّرون ذلك اليوم، يقولون إن السماء قد انشقّت إلى نصفين، وإن وهجًا كبيرًا أشعل السماء. بقي الوحش ملفوفًا في سعير اللهب الذي كان ينزلق ما بين أنيابه وخفقات جناحيه؛ وهو ما ألقى صورة وردة كبيرة من النار غطّت المدينة بكاملها. عمّ الصمت حينها، ولمّا عادوا إلى فتح أعينهم مّرةً أخرى، كانت السماء قد انحجبت مثلما في الليلة الأشدّ حلكةً، واندفع مطر بطيء من ندف الرماد المتلألئ من الأعلى، وهو يغطّي الشوارع والخرائب المحترقة ومدينة القبور والمعابد والقصور، بوشاح أبيض كان يُبطل الملامسة، والتي كانت تفوح برائحة النار واللعنة.

(7)

في تلك الليلة، تمكّن «ريموندو دي سامبيري» من الفرار من زنزانته، والعودة إلى البيت للتحّقق من أن عائلته، وورشته لطباعة الكتب، قد نجتا من الكارثة. عند الفجر، اقترب صاحب ورشة طباعة الكتب من السور البحري. كانت بقايا حطام السفينة التي أعادت «إدموند دي لونا» إلى برشلونة ما تزال تتأرجح فوق مياه المدّ. وكان البحر قد شرع في تفكيك هيكل السفينة، واستطاع أن يلِجَها كما لو تعلّق الأمر ببيت تمّ اقتلاع أحد جدرانه. وهو يجوب أحشاء السفينة في ضوء الفجر الطيفي، عثر صاحب ورشة الطباعة، أخيرًا، على ما كان يبحث عنه. لقد أكل الملح الصخري جزءًا من الرسم، لكن تخطيط المتاهة الكبرى للكتب كان لايزال سليمًا، كما كان قد تصوّرها «إدموند دي لونا». جلس على الرمال، ونشرها.. لم يكن عقله يستطيع أن يستوعب التعقيدات والحسابات التي كانت تدعم ذلك التخيّل. لكن، يُقال إنه سوف تأتي عقول نيّرة شهيرة قادرة على إضاءة أسرارها. وحتى ذلك الحين، حتى يتمكّن آخرون، أكثر حكمةً، وأرجح عقلًا، من العثور على طريقة لإنقاذ المتاهة، وتذكُّر ثمن الوحش، سوف يحتفظ بالتخطيط في صندوق الأسرة، حيث سيجد (لم يكن لديه أدنى شكّ في ذلك، في يوم من الأيّام) صانع متاهات يستحق تحدّيًا بهذا الحجم. 


وُلِد كارلوس رويث زافون في برشلونة، عام 1964. بعد تعليمه الابتدائي والثانوي، التحق بالجامعة، ودرس علوم الإعلام. وفي السنة الأولى تلقّى عرضًا للعمل في عالم الدعاية. وصار، فيما بعد، مديرًا إبداعيًّا في إحدى أهمّ وكالات «برشلونة» الرئيسية في مجال الدعاية والإعلام، حتى حدود سنة 1992، عندما قرّر التخلّي عن العمل في هذا المجال، ليكرّس نفسه للأدب وللكتابة.

بدأ مساره الأدبي بكتابة رواية للشباب، بعنوان «أمير الضباب»، التي نُشرت سنة 1993، وحقّقت نجاحًا كبيرًا، وحصلت على جائزة «إيديبي». كان «كارلوس رويث زافون»، منذ طفولته، مفتونًا بالسينما، وبلوس أنجلوس؛ لذلك وظّف المال الذي جناه من الجائزة لتحقيق حلمه، فغادر إسبانيا، واستقرّ في الولايات المتّحدة، وأمضى السنوات الأولى هناك، يكتب نصوص السيناريوهات للسينما، ويواصل إصدار روايات جديدة، إذ خصَّصَ الأعمال الثلاثة التالية، أيضًا، للقرّاء الشباب: قصر منتصف الليل (1994) – أضواء سبتمبر (1995) (من هذين العملين، ومن روايته الأولى، سيتمّ تشكيل ثلاثية الضباب التي ستُنشَر، لاحقًا، في مجلّد واحد)، ثم سينهي هذه المرحلة برواية أخرى، بعيدًا عن الثلاثية، هي «مارينا» ( 1999). 

وقد جاء تكريس اسم «زافون» واحدًا من الكتّاب الأكثر مبيعًا في يناير، 2002، مع نشر روايته الأولى «للكبار»، بعنوان «ظل الريح». وهي الرواية التي تُرجمت إلى العديد من اللغات، وإحدى الروايات الإسبانية الأكثر مبيعاً في العالم (أكثر من 15 ملايين نسخة). وقد ظهرت روايته الثانية الموجّهة للكبار «لعبة الملاك» عام 2008. وبالنظر إلى نجاح رواية « ظلّ الريح» ، بلغ عدد نسخ الدفعة الأولى من طبعة «لعبة الملاك» مليون نسخة، وقد صاحبتها حملة إعلامية غير مسبوقة، لكن توقُّع الناشر لم يكن، على الإطلاق، مخطئًا، فتُحَوَّل الرواية، توًّا، إلى الكتاب الأكثر مبيعًا. وتُعتبر هاتان الروايتان جزءًا من رباعية كرّسها «كارلوس رويث زافون» لمدينته «برشلونة»، وقد عَنْوَنها بـ«مقبرة الكتب المنسية».ّ أما الكتاب الثالث فعَنْوَنه بـ«سجين السماء» (2011)، وأغلق الرباعية برواية «متاهة الأرواح» (2016). توفّي «كارلوس رويث زافون» في 19 يونيو، 2020، في «لوس أنجلوس»، بسرطان القولون، الذي ظلّ يعاني منه منذ سنة 2018.

رحيل كارلوس زافون.. أشهر الروائيّين الإسبان

في التاسع عشر من شهر يونيو/ حزيران الماضي، تُوفي بـ«بيفرلي هيلز»، بمدينة «لوس أنجلوس» الأميركيّة، الروائيّ الإسبانيّ «كارلوس رويز زافون»، عن عمر لا يتعدَّى الخامسة والخمسين سنة، بعد مرضٍ عُضال لم ينفع معه علاجٌ منذ سنتين. ويُعَدُّ الروائيّ البرشلونيّ «كارلوس زافون»، الكَاتِب الإسبانيّ المُعاصِر الأكثر حضوراً ضمن قوائم أفضل المبيعات على الصعيدِ الدوليّ، ممّا جعل منه رائداً لحقبة جديدة من السردِ الروائيّ الإسبانيّ خلال العقدين الأولين من هذا القرن. كما تُعَدُّ روايته (ظِلّ الريح)، الصادرة سنة 2001، والتي تجاوزت مبيعاتها خمسة عشر مليون نسخة، أكثر الأعمال الروائيّة الإسبانيّة شهرةً وتداولاً بين القُرَّاء في العَالَم، بعد خالِدة (دون كيخوطي) لـ«سرفانتيس».

 (إنه ليوم حزين لدى كلّ أفراد طاقم «بلانيتا» الذين يعرفون المُتوفَى حقَّ المعرفة، وقد تعاملوا معه طيلة عشرين سنة، نسجوا خلالها مع الفقيد أواصر صداقة تجاوزت حدود المجال المهنيّ). هكذا نعتْ دار النشر الإسبانيّة العريقة (بلانيتا)، لجمهور القُرَّاء، خبر وفاة «كارلوس زافون»، واصفةً رحيله بـ(أفول نجم أحد أفضل الروائيّين المُعاصِرين في العَالَم). 

وُلِدَ «كارلوس رويز زافون» سنة 1964 بمدينة «برشلونة» التي سيجعلها أحد أبطاله الروائيّين في بعض أعماله السرديّة. بدأ أولى محاولات الكتابة وهو في سنِّ المُراهقة. ومن طريف الصدف، أن أوّل محاولة روائيّة كتبها «زافون»، تقدَّم بها إلى «فرانسيسكو بورّوا»، ناشر رواية (مئة عام من العزلة) لـ«غابرييل غارسيا ماركيز». وبطبيعة الحال، رفض «بورّوا» نشر الرواية، لكنه بالمقابل، نصح «زافون» الشاب، بمواصلة مُغامَرة الكِتابة. بعدها تفرَّغ لدراسة علوم الإعلام، ثم اشتغل بعددٍ من كبريات شركات الإشهار والإعلانات. وفي عام 1993 ، نشر أول أعماله السرديّة تحت عنوان (أمير الضباب)، التي فازت بجائزة (إيديبي) المُخصَّصة لأدب الشباب. 

بعدها، سيغادر «زافون» عالَم الإعلانات والإشهار، ليتفرَّغ نهائيّاً إلى الكِتابة الروائيّة والبصريّة. ونظراً لانشغاله بالمجال السمعيّ – البصريّ، سينتقل للإقامة بولاية «كاليفورنيا» الأميركيّة، وتحديداً بمدينة «لوس أنجلوس» الأميركيّة، وإنْ كانت صلته بـ«برشلونة» لم تنقطع بفعل تنقله الدائم بين المدينتين. وعقب النجاح الباهِر الذي حقَّقته رواية (ظِلّ الريح)، الصادرة سنة 2001، سوف يستقرّ «زافون» نهائيّاً بـ«بيفرلي هيلز»، إحدى المُقاطعات الشهيرة التابعة لمدينة «لوس أنجلوس»، حيث يقيم عددٌ من نجوم «هوليوود». داخل هذه المدينة الباذخة، يمتلك «زافون» إقامةً مزدوجة: واحدة منفردة، حيث كان يقضي فيها الساعات الطويلة منهمكاً في القراءة والكِتابة، وأخرى عائليّة لم يكشف عنها يوماً للصحافة والإعلاميّين.

كانت انطلاقة «كارلوس زافون» من داخل إسبانيا، حيث حقَّقت أعماله الأُول نجاحاً تجاريّاً ملحوظاً على مستوى المبيعات، ثمّ ما لبث أن انطلق سريعاً في رحلة إشعاعه الدوليّ، خاصّة بعد أن تُرجِمت أعماله إلى عددٍ من لغاتِ العَالَم، لتصبح رواياته المُتعاقِبة، تحتلّ صدارة المبيعات في عددٍ من البلدان، كإيطاليا والولايات المُتحدة وأستراليا والصين، كما حظيت هذه الأعمال باحتفاءٍ وتقديرٍ نقديٍّ كبير من لدن عددٍ من الهيئات والمُؤسّسات الثقافيّة العَالَميّة، التي أفردت أعمال «كارلوس زافون» بجوائز خاصّة، كمُؤسّسة (لارا)، أثناء تكريمها لأفضل كِتابٍ أجنبيّ منشور داخل فرنسا، والمكتبة العموميّة لمدينة «نيويورك» التي منحت «زافون» جائزة (أفضل كِتاب لعام 2004). كما نالت أعماله جائزة (بورنسون) للجدارة والاستحقاق الأدبيّ بالنرويج. 

تُعَدُّ روايته (ظِلّ الريح)، الصادرة سنة 2001، عملاً روائيّاً استثنائيّاً، ونقطة تحوُّل كبرى في المسار الأدبيّ لـ«كارلوس زيفون»، إذ نقلته من كاتِب ناجح لروايات الفتيان والشباب، إلى الروائيّ الأكثر مبيعاً في مجال الكِتابة السرديّة المُوجَّهة إلى الكبار. فمنذ صدورها، حقَّقت (ظِلّ الريح) نجاحاً تجاريّاً منقطع النظير؛ إذ تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة، وأعيد طبعها وتوزيعها في خمسين دولة، كما بِيعت منها أكثر من خمسة عشر مليون نسخة بمختلف جهات العَالَم، لتصبح بذلك، العمل السرديّ الأكثر تداولاً لكاتِبٍ إسبانيّ خارج إسبانيا منذ الانفتاح الديموقراطيّ الذي شهدته البلاد ابتداءً من منتصف سبعينيّات القرن الماضي، بل يرى كثيرٌ من النُقَّاد، أن (ظِلّ الريح)، هي الرواية الإسبانيّة الأكثر ذيوعاً في العَالَم بعد رائعة (دون كيخوطي) لـ«ميغيل دي سرفانتيس». أمّا بعضهم، فيصنِّفها ضمن خانة الروايات المُتفرِّدة، التي تمتلك تلك القدرة النادرة على استدراج قرَّاء لا تدخل القراءة ضمن عاداتهم المُستحَبة. 

فازتْ الرواية بعددٍ من جوائز الاستحقاق الأدبيّ. وتمَّ اختيارها ضمن لائحة أفضل مئة رواية مكتوبة باللّغة الإسبانيّة خلال الخمس وعشرين سنة الأخيرة، التي أشرف على إعدادها، في عام 2007، واحد وثمانون كاتِباً وناقِداً من إسبانيا ودول أميركا الجنوبيّة. كما أشاد بالرواية كُتَّاب غير لاتينيّن، في مقدِّمتهم رائد الرواية الأميركية المُعاصِرة «ستيفن كينغ». 

(ظِلّ الريح)، هي الإصدار الأوّل من رباعية روائيّة تحمل اسم (مقبرة الكُتب المنسيّة). وهو عنوان يُحيل على فضاء فانتازيّ متخيّل، تتكدَّس داخله آلاف الكُتب والمطبوعات المنسيّة والمُهمَلة. استوحاه الكاتِب من ذاكرته الطفوليّة بـ «برشلونة»، أيام كان يجوب شوارع المدينة بحثاً عن كُتب ومجلات يُشبع بها نهمه القرائيّ، ويُشفي بها لوعة عشقه للكلمة المطبوعة. ومن بين الأماكن التي كان يتردَّد عليها في صغره، أملاً في العثور على كِتابٍ نادر، أو مجلّة طريفة، مكتبة (سرفانتيس كانودا) بقلب «برشلونة»، وقبوها المُظلِم المُشبع بالرطوبة الذي يضمُّ ركاماً من الكُتب والمجلات المُهمَلة والقديمة. 

رباعية (مقبرة الكُتب المنسيّة)، التي تشمل كذلك (لعبة الملاك) 2008، و(أسير السماء) 2011، و(متاهة الأرواح) 2016، تؤلِّف في مجموعها حبكةً روائيّة غاية في التشابُك والتعقيد، وهي وإنْ كانت تنهج نفس الاستراتيجيّة الحكائيّة واللُّغويّة، للسرديّات التجاريّة والقصص الميلودراميّة التي شاعت في العقود الثلاثة الأخيرة، فضلاً عن تأثرها الواضح بالرواية الأميركيّة السوداء التي سادت خلال سنوات الثلاثينيّات من القرن الماضي، إلّا أن ما يميِّز رباعية «زافون»، هو الفضاءات التي تجري فيها الوقائع والأحداث، إذ ينقلنا السردُ إلى أجواء مدينة «برشلونة» السحريّة والخفيّة، ليرسم لنا صورةً دقيقة للوجه الأدبيّ الداكن لهذه المدينة الميتروبوليّة، من بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا، ممّا يدعو القارئ إلى وقفة تأمُّل عميق لواقع الكِتاب والكِتابة الأدبيّة، في سياق التطوُّر التكنولوجيّ الحالي، وتغيُّر عادات القراءة لدى الجمهور. 

عموماً، تظلُّ (مقبرة الكُتب المنسيّة)، برواياتها الأربع، مشروعاً سرديّاً ضخماً، كلّف كاتِبها عشرين عاماً من التخطيط والبناء والتدقيق، لينتهي إلى تشييد هذه المَعلَمة الروائيّة العتيدة، بقوة شخصيّاتها، وبراعة هيكلها المعماريّ، وسحر أجوائها المُشوِّقة الفاتنة. هذا فضلاً عمّا تزخر به الرباعيّة من حواراتٍ حادّة، ومنظوراتٍ إنسانيّة عميقة، ولمسات فكاهيّة ساخرة، وحب طافح لمدينة «برشلونة»، وشغف غير منقطع بالقراءة وبالكِتاب. ولعَلَّ هذا ما دفع بدار النشر الأميركيّة (بينغوين)، أثناء إصدارها في عام 2015، لسلسلةٍ خاصة تحت عنوان (كلاسيكيّون خالدون)، إلى إدراج اسم «كارلوس زافون»، رغم صفته المُعاصِرة، ضمن كبار الكُتَّاب الذين طبعوا ببصماتهم تاريخ الرواية العالميّة، أمثال الفرنسيّيْن «مارسيل بروست» و«غوستاف فلوبير»، والإيرلنديّ «جيمس جويس»، والألمانيّ «هيرمان هيس»، وغيرهم. ولم تشمل السلسلة غير عددٍ قليل من الروائيّين المُعاصِرين، كان من بينهم، إلى جانب الإسبانيّ «كارلوس زافون»، البريطانيّان، «كازو إيشيغورو» اليابانيّ الأصل، و«سلمان رشدي» الكشميريّ الجذور.

على المستوى الفنّيّ والجماليّ، يقدِّم «زافون» رباعيّته الروائيّة بأسلوبيْن روائيّين مختلفين: الفانتازي والأسود. وهما الأسلوبان الروائيّان اللذان كانا يحظيان بقبولٍ واسع لدى نصف جمهور القُرَّاء بالعَالَم، خاصّة في الولايات المُتحدة الأميركيّة التي انتقل «زافون» للإقامة بها منذ سنة 1994، ليشتغل سيناريستاً في القطاع السمعيّ – البصريّ بمدينة «لوس أنجلوس». وقد اختار لرباعيّته لغةً نثريّةً شفيفة، تجري بسلاسة على لسان الشخصيّات، عبر حواراتٍ تعكس صفاتها الخلقيّة وحالاتها النفسيّة. وهو أسلوب، يعترف «زافون» نفسه بأنه من تأثير اشتغاله المُباشر بالمجال السمعيّ – البصريّ. 

وخلف هذه السهولة والرشاقة اللُّغويّة الظاهرة، تكمن خاصيّة أخرى تُميِّز الأسلوب الروائيّ لـ«كارلوس زافون»، وتتمثَّل في هذا التداخُل والتشابُك الذي يميِّز البناء السرديّ لأعماله. فإذا ما نظرنا إلى الروايات الأربع التي تؤلِّف (مقبرة الكُتب المنسيّة)، وجدناها شبيهة بلعبة «الدمى الروسيّة»، حيث تختفي قصص وحكايات الرباعيّة داخل بعضها البعض، عبر سيرورة زمنيّة متطوِّرة كرونولوجيّاً. وهذا ما يؤكِّده «إيميلي روساليس»، الكاتِب والناقِد والناشِر بدار (بلانيتا)، الذي يعود إليه الفضل في اكتشاف «زافون» وتقديمه إلى جمهور الكبار، عندما وافق على نشر روايته (ظِلّ الريح)، بعد النجاح الكبير الذي حقَّقه «زافون» في مجال التأليف للشباب. يقول «روساليس» ردَّا على مَنْ يقول ببساطة الأسلوب الروائيّ في رباعية «مقبرة الكُتب المنسيّة»: (إنها روايات لا تخلو من تعقيد؛ فبناؤها السرديّ يُقحم القارئ داخل متاهة مغلقة. إنّ الرباعيّة شبيهة بصرحٍ شامخ، يتألَّف من أربعة أجنحة متداخِلة بوقائعها ومشاهِدها وطبقاتِها الزمنيّة. إنها بمثابة أربعة مداخل، تؤدِّي كلّها إلى نفس الفضاء الحكائيّ). 

أما شخصيّات أعماله الروائيّة عموماً، ومنها شخصيّات الرباعيّة، فهي كائناتٌ يائسة ومحبَطة، مُحمَّلة بقصصٍ وحكايات تخفي بين جوانحها حقائق روحيّة عميقة. شخصيّات تغمرها الكآبة والقنوط، تعكس إلى حَدٍّ ما شخصيّة مُبتكِرها الذي عُرِفَ بميوله المُحافِظة وطبعه المُنغلق. كان «كارلوس زافون» مُقلّا في خرجاته الإعلاميّة، حريصاً على عدم الإفصاح عن المعلومات الحميمة المُتصلة بحياته الشخصيّة. لم يكن يحبِّذ اللقاءات المُباشرة مع الصحافة وجمهور قرَّائه، فهو، وإنْ لم يكن يرفضها على الإطلاق، كبعض المُعتزلين النُسَّاك من أدباء القرن العشرين، أمثال «جيروم سالينجر» و«توماس بينتشون»، إلّا أنه كان يحصر مثل هذه اللقاءات في بعض المُناسبات المُحدَّدة، كحفلات توقيع رواياته، وفعاليّات بعض الندوات واللقاءات الأدبيّة المعدودة. 

كان «كارلوس زافون» مولياً ظهره لعَالَم الشهرة والنجوميّة والظهور الاستعراضيّ على صفحات المجلات وقنوات التلفاز. (لا أحبّ التظاهر، ولا أريد أن أقول هراء)، هكذا كان يبرِّر دائماً عزوفه عن الخروج العلنيّ إلى الجمهور، وتفضيله للخلوة والعُزلة عن الناس. وحتى إنْ اضطرَّ للجلوس إلى حوارٍ أو نقاشٍ، فلا حديث يستهويه غير حديث الكِتابة والكُتب. لم تفارقه قطّ روح الفُكاهة والمرح، لكن تربيته الدينيّة، وإحساسه الفنيّ والأدبيّ المُرهَف، جعلاه حريصاً دائماً على حفظ المسافة الاحترازيّة بينه وبين بقية العَالَم. إنها صورة «المختلف»، و«الغامض»، و«المُعتزل»، التي عمل «زافون»، طيلة عمره، على ترسيخها لدى قرَّائه وجمهوره. لقد كان «شخصيّة أسطوريّة»، كما يصفه الناشِر «إيميلي روساليس».

تزوَّج «زافون» من رفيقة عمره، الناقِدة والمُترجِمة «ماري كارمن بيلفر»، ليؤلِّفا معاً (وحدة مثنوية) كما نعتها في الإهداء الذي يتصدَّر روايته الشبابيّة (لعبة الملاك). وقد صرَّح «زافون» في بعض حواراته، بأنَّ زوجته «بيلفر»، هي أول قارِئة وناقِدة لكافة نصوصه الروائيّة. لم ينجب منها أولاداً، لكنها ساهمت إلى جانبه في إنجاب ورعاية رصيدٍ وافر من المُؤلَّفات، ليس فقط تلك التي كتبها «زافون»، وإنما تلك التي قرأها أيضاً، وتقاسم قراءتها مع زوجته «بيلفر»؛ فقد كان «كارلوس زافون» يتبنَّى مقولة «بورخيص» الحكيمة: (أنْ تقرأ، خيرٌ لك من أنْ تكتب)، كما كان يُشاطره الرأي في أنّ حياةً مكرَّسةً للقراءة، هي حياةٌ نحياها بالفعل، وعلى أكمل وجه. 

منذ 2018، توقَّف «كارلوس زافون» عن نشاطِه الكِتابيّ، ربّما بسبب إصابته بالسرطان، أو لشعوره بثقل المسؤوليّة بعد مسارٍ كتابيٍّ متألِّق طويل. لقد كانت (أمير البارناس)، الصادرة سنة 2018، آخر أعماله الروائيّة التي وجدت طريقها إلى الجمهور. وربما استكشافه الصادم، قبل عامين، للداء الفتَّاك، جعله يفكِّر بإتمام مشاريع روائيّة كانت قيد الإنجاز، والتعجيل بإعدادها للنشر.

محسن الموسوي.. «السِّياق الإسلامي لألف ليلة وليلة»

هذا الكتاب موضع ترحيب، وإن كان المؤلف مبالغاً في تقديره، في بعض الأحيان. وبما أن معظم الدراسات التي تناولت «ألف ليلة وليلة» حتى الآن، قد ركزت على التاريخ الأدبي والنقد النصي، فإن تحليل الموسوي المواضيعي تحليل جديد ومثير للاهتمام، وإن كان مؤرخو الأدب وعلماء اللغة سوف يعارضون العديد من افتراضاته.

يعطي عنوان كتاب محسن الموسوي انطباعاً جيداً عن موضوعه الذي يؤكد فيه أهمية «العامل الإسلامي» في مجموعة حكايات «ألف ليلة وليلة». فلماذا أهمل الدارسون والطلاب، بشكلٍ كبير، «السياق الإسلامي» لعمل أدبي تم إنتاجه في سياق إسلامي؟ فالازدراء المتوارث الذي مارسه علماء ومثقفون مسلمون تجاه «ألف ليلة وليلة» وقصص التسلية والترفيه، بشكلٍ أعم، أمرٌ معروف تماماً (يمكننا أن نضيف أن ازدراء هذا النوع من القصص لم يقتصر على المسلمين، فقط، فقد مورِسَ في ثقافات أخرى)، وقد يكون صحيحاً أنه ليس هناك اهتمامٌ كبير، في مجموعة حكايات الكتاب، بالقضايا التي كانت موضع عناية الفقهاء ورجال الدين وعلماء اللغة عادة (رغم أن الكتاب يتضمن الكثير مما قد يتوقعه المرء من قضايا الفقه واللغة). وقد اتّبع الدارسون الغربيون هذه الدعوى إلى حدٍ كبير. ويبدو أن هناك ردة فعل عكسية ضد مزاعم القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر، في النظر إلى «ألف ليلة وليلة» بوصفه «مرآة للعالم الإسلامي»، وإلى ترجماته المتضمنة للشروح (التي قام بها إدوارد لاين، وهنري بريتون)، بوصفها أدلة ميدانية وإثنوغرافية؛ لذا فإن العمل على دراسة «السياق الإسلامي» لـ «ألف ليلة وليلة»، هو موضع ترحيب خاص.

يغلُب على معالجة الموسوي، في هذا الكتاب، طابع المنافحة، «فالإسلام» يتوافق مع المُثُل العامة للمحبة والأخوّة والعدالة والمساواة بين الجنسين، وغير ذلك من الفضائل الليبرالية الحديثة. ويدَّعي أن هذه الفضائل كانت الأبرز في بغداد العصر العباسي الأول، ولم ينجح الفقهاء (معظمهم كانوا من الشاميين) في تجاوزها إلا في القرون المتأخرة (أي أن «الفقهاء الأوائل كانوا أكثر انفتاحاً وتقبلاً للتغيير من الفقهاء المتأخرين» [ص84]). 

إن تحديد مختلف العواطف والمُثُل العليا، ووضعها ضمن رؤية «عَالَم إسلامي» هو، في الجزء الأكبر منه، أمر واضح المعالم. وفي بعض الأحيان، تُلْقِي معالجةُ الموسوي بأضواء كاشفة واستفزازية، وأحياناً محيّرة، كما هو الحال عندما يذكر أن حكاية الإطار [حكاية شهريار وأخيه شاه زمان] «تكشف عن عدم المساواة والتمييز». قد يكون الاختلاط أو الحب بين الجنسين، والطبقات، والأعراق في حكاية الإطار، مرعباً بالنسبة إلى الأزواج والملوك الذين تعرضوا للخيانة، ولكن «من دون موضوعات الخيانة وأدلة الانحراف، كان يمكن أن تكون القصة متوافقة مع «السياق الإسلامي»، فالتأكيد على المساواة، بقطع النظر عن اللون والعرق، هو ما تُشدِّد عليه السُّنّة النبوية» (ص 41 – 42). ولا بدَّ لي من الاعتراف بأنه لم يخطر ببالي، أبداً، أنه يمكن النظر إلى الحفلات المختلطة العابرة للأعراق على أنها تدعم المثل العليا للسنّة النبوية! كما لم يخطر لي التفكير في حكاية الإطار من دون «موضوعات الخيانة»؛ ما الذي قد يبقى من الحكاية، إذا استثنينا الخيانة والانحراف؟

لكن من حسن الحظ أن معالجة الموسوي تمضي إلى ما هو أبعد من مجرد المنافحة؛ إذ يوضح، في عدد من الحكايات، خلفية بنية الدولة الإسلامية التي تتمحور حول حكمة الخلفاء وسلطتهم، كما تجسّدت (مثاليّاً) في الخلافة العباسية المبكرة، خاصّةً في خلافة هارون الرشيد. إنها عالم يقوم على نمط من النظام والسلطة، ولكنهما (النظام والسلطة) يخضعان للتذبذب في نطاقهما وفعاليتهما وقواعدهما الاعتبارية والأخلاقية والدينية. يلتقط الموسوي، بشكل رائع، الطرائق التي تنطوي فيها فنون السرد على التوتر بين «إيديولوجية دينية تتطلب بنية قوية تعطي للنظام مزيةً على العدالة، وبين «مدينة فاضلة» حيث يمكن للمظلوم أن يتوقع أن تكون الغلبة في نهاية المطاف لنوع من العدالة. كما يربط المؤلف بين موضوع الفدية في سرد القصص، والعلاقة بين الخليفة والفقيه. ولعل الفصل السادس المُعَنْوَن بـ «الإطار العام لتنظيرات السرد الإسلامي» هو الأكثر قيمة في الكتاب، وبالرغم من أنه يحمل عنواناً مضللاً، فإن المؤلف يُقدِّم فيه قراءة رائعة للتغيير الذي طرأ على الأذواق الأدبية، والدور الذي لعبه «القارئ» في هذا التغيير. وهنا تتجلى معرفة الموسوي بمصادر العصر العباسي الأدبية والعصور اللاحقة، كما يُقدم لنا رسماً تخطيطياً مشوّقاً ومضيئاً لدور النثر الأدبي، ووظيفته فيما يتصل بالشعر والوسط الحضري ومطالب الجمهور وتراجع ثروات الدولة المركزية (لكن يتوجب عليَّ القول إن الصلات بين «ألف ليلة وليلة» والأعمال التي نوقشت في هذا الفصل، قد لا تكون واضحة أو مباشرة كما تبدو عليه افتراضات المؤلف).

تهيمن مجموعة من العناصر على قراءة الموسوي، ولكن أهمها البيئة الحضرية، وخاصة العاصمة الكوزموبوليتانية (بغداد)، والوسط المتعدد الثقافات والأعراق في الحاضرة العباسية. يتم التشديد على الطبيعة الحضرية للحكايات، على امتداد الكتاب؛ الإغراءات والفرص المتاحة، وحالات الإبعاد، ولَمّ الشَّمْل، والتباين بين المدينة والريف وطبيعة حدودهما، وتعايش المجموعات المتنافسة، والضغوط. على سبيل المثال، يعتبر الموسوي حكايات الدراويش الثلاثة «نسخاً متمدنة من حكايات الصوفية»، فهي حكايات تبناها جمهور حضري من التجار. فالمُثُل الإسلامية في الحاضرة العباسية، عرضة للتقلبات والتعديلات؛ فمن ناحية، تشكل هذه التقلبات والتعديلات المادة الخام لسرد القصص كله، ومن ناحية أخرى، يرى الموسوي أن هناك العديد من الطرق التي تصطبغ بها تقلبات الوجود الحضري بالمنظور الإسلامي؛ ما يكشف عن نقاط التقاء بين السلوك البشري والعقيدة الدينية بطريقةٍ فريدة من نوعها (وفق تقديري). وبالنسبة إلى كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي تمت قراءته في ترجماته على نطاق أوسع من قراءته في لغته العربية، إن إعادة التركيز على السياق الثقافي لنسَخه الأصلية تعدُّ بمنزلة قوة دفع مضادةٍ ومفيدة للاتجاه السائد في النظر إلى الكتاب بوصفه أدباً عولميّاً أو عالميّاً.

يربط الموسوي بين القصص و»الإسلام»، على عدة مستويات. وكثيراً ما يستحضر نظرية ابن خلدون في الصعود والسقوط الدوري للمصائر السياسية، بوصفها خلفية لتقلبات الحب، والثروة، والسلطة التي تظهر في حكايات الكتاب. فعلى مستوى التفاصيل السردية، مثلاً، يشير إلى حالات المعاملات المالية التي يتم تنفيذها طبقاً للشريعة الإسلامية، وعلى وجه التحديد خصائص الشخصية الإسلامية، مثل الالتزام «بالأمر بالمعروف». والأمر الأكثر إثارةً للاهتمام هو أنه يحدد نقاط تقاطع الإسلام «الرسمي» مع هذا الأدب غير الرسمي في الأمور التي يشغلها «المُحْتسِب» (مفتش السوق). وبما أن كتاب «ألف ليلة وليلة» يبدو، بشكلٍ عام، في جزء منه، وكأنه نتاج فئة/ جماعة تشتغل بالتجارة، فإن السوق لا بد أن يكون مكاناً خصباً للسعي إلى إثارة المخاوف والتوترات التي تخيم على الحكايات، فضلاً عن المجتمعات التي أنتجتها. إن إشارات الموسوي المقتضبة إلى كتيبات الحسبة توحي بأن هذا المجال قد يكون مثمراً لإجراء دراسة أكثر منهجية، مستقبلاً.

وعلى الرغم من كل هذا، فالكتاب مخيّب لآمال القارئ، فهو يفتقر إلى العمل التحريري الدؤوب، إذ يكثر فيه التكرار والإشارات والتلميحات غير المسوّغة والأخطاء الوقائعية البسيطة؛ فأسلوب المؤلف يتسم بالكثافة وعدم الانتظام.

تبدأ هذه النغمة من فقرة الكتاب الافتتاحية حيث يتحدث المؤلف عن مجموعة الحكايات: «لكن بمجرد أن تمت كتابة الحكايات، جرى التلاعب بها وتمحيصها، وكانت محتوياتها تخضع للرقابة بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال، تتضمن طبعة بولاق (1835) حكاية، يظهر فيها مصطلح «رافضي»، لم يستخدمه القصاصون السابقون، كما نجد، مثلاً، في نسخة أنطوان جالان من القرن الرابع عشر» (ص1). وهذا يعني أن الحكاية التي عُثر عليها في إحدى النشرات المطبوعة في القرن التاسع عشر قد تغيرتْ عن نسختها السابقة في أقدم مخطوطة معروفة (هي المخطوطة التي حصل عليها أنطوان جالان، وترجمها) لتضاف إليها تلك الإشارة. فالملاحظ أن الموسوي لا يحيل، في اقتباسه المذكور، إلى أية مراجع، ولكن مصطلح «رافضي»، بحسب علمي، لم يظهر إلا في حكاية «علاء الدين أبو الشامات» التي لم تكن، قط، جزءاً من مجموعة جالان. وهذا يعني أن إدعاء الموسوي بأنه «تم التلاعب بالحكايات» و«خضوعها للرقابة» (لستُ متأكداً من خضوعها للتمحيص الدقيق) لا يؤيده المثال المشار إليه خلافاً للعادة، و – من ثمَّ – يدفع القارئ إلى التساؤل عمّا إذا كان الاتهام يتمتع بأية مصداقية، على الإطلاق. قد يبدو المثال تافهاً، لكن هناك أمثلة كثيرة مشابهة، والموسوي لا يعود، أبداً، إلى هذه المسألة. (وإذا كنتُ مخطئاً بشأن ورود مصطلح «رافضي» في مخطوطة جالان، فيسعدني تصحيح هذه المعلومة)

ينشأ القدر الكبير من هذا الخلط، نتيجة الرغبة في دراسة «ألف ليلة وليلة» بكل تجلياتها عبر العصور، بوصفها كياناً واحداً متناسق الأجزاء. وهذا المنظور، الذي يركّز على الغابة لا على الأشجار، إلى جانب معرفة الموسوي الواسعة بالثقافة الأدبية العربية، يتيح له إجراء التحليل المواضيعي الواسع الذي يمثل نقاط القوة في الكتاب. بيد أن هذا المنظور التاريخي قد يغدو عائقاً عندما يُستخدم لتعزيز الحجج التاريخية.

دعوى الموسوي أن مجموعة أساسية من الحكايات كما نتداولها، اليوم، جرى تداولها بشكل مماثل جدّاً في بغداد القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وهذا أمر غير مرجَّح، على الإطلاق، لأنه ليس بحوزتنا أية آثار حول تاريخ مجموعة الحكايات تظهر لنا التحولات المهمة بين التاريخ الذي يذكره الموسوي والتاريخ الذي تعود إليه أقدم مخطوطة معروفة لدينا( ربّما قبل القرن التاسع التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي). وبشأن ما ورد عن الشاطبي (المتوفّى سنة 790هـ/ 1388م) في «حكاية الحلاق»، يكتب، ببساطة، أن ذلك «يطرح عدداً من المشاكل. فإما أنها مفارقة تاريخية، أو أن المخطوطة التي جلبها جالان معه كانت مكتوبة في ذلك الوقت» (ص120). لكن الموسوي، بشكل عام، مستعد لأن يفترض أنه في حال تم تحديد حكاية ما في بغداد هارون الرشيد، فمن الممكن أن تُعامل على أنها نتاج ذلك الزمان، وذلك المكان. 

وتعدّ معالجة «قصة الجارية تودُّد»(غير موجودة ضمن مخطوطة أنطوان جالان) أنموذجاً جيداً لمقاربة الموسوي للتاريخ الأدبي. يفترض الموسوي أن أقدم وقت ممكن يرجع إليه تاريخها هو القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، ويربط القصة بالاحتجاجات ضد السلطة غير المرضية في خلافة سامراء، ويرى فيها المسعى التخريبي لتحقيق المساواة نفسه، الذي كان وراء ثورة الزنج (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) (ص 24 – 25). إن ذكر الحُلَل والعباءات التي تنازل عنها العلماء كتكريم للجارية «تودُّد» والإقرار بفوزها يفضي إلى إشارات عن أهمية اللباس في اثنين من المصادر الفقهية، من القرنين: الثامن، والرابع عشر الميلاديين؛ ومن ثمَّ، يذهب الموسوي إلى القول إن القصة تمثل استعادة الدين من السلطة المؤسّسيَّة. و«يغدو الإسلام، في الحكاية، ملكيةً مشتركة، ويتحول الدين إلى عقيدة يتم تطبيقها وممارستها من قِبَل جميع المسلمين الذين يسعدون بتعاليمه المتعلقة بالمساواة، وينعمون برحمته غير المحدودة»(ص75). ومن المؤكد أن هذا التصور مخالف لوجهة النظر الأكثر معياريةً، التي ترى أن مضمون الحكاية العقائدي، وطبيعتها المركبة لا يمكن أن يظهرا قبل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، كما تُشدِّد وجهة النظر هذه على أن العناصر التي تتكون منها الحكاية (رجل يخسر جاريته ثم يستعيدها؛ السرد القائم على الأحجية؛ امرأة يثبت تفوقها على الرجل) عُرِفت جيّداً في مواضع أخرى في الأدب العربي بشقَّيْه: الرسمي، والشعبي، وأن قصة الجارية «تودُّد» نفسها وُجدتْ في نسخ مختلفة. يُسلِّم الموسوي بأن القصة قد تعرضت للتغيير مع مرور الوقت: «فهناك مخطوطة في بغداد، تعود إلى أواخر القرن التاسع لا تتطابق مع مخطوطة أخرى جرى تداولها في القرن الثاني عشر في الشام أو القاهرة» (ص25). لن أجادل في ذلك، ولكن عندما يعود تاريخ أقدم مخطوطة معروفة لحكاية الجارية «تودد» إلى مطلع القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، فإن عبارة الموسوي المذكورة، آنفاً، عبارة مضلّلة في أفضل تقدير. وهناك أمثلة كثيرة مماثلة. 

يمكننا الانتهاء إلى القول: إن كتاب «السياق الإسلامي لـ «ألف ليلة وليلة» يتضمن العديد من النقاط المثيرة للاهتمام والاستفزازية، وأن المشروع كله، والذي أُطْلِقُ عليه «إعادة أسْلَمة» «ألف ليلة وليلة» (المصطلح لي وليس للموسوي)، هو موضع ترحيب، وإن كان المؤلف مبالغاً في تقديره، في بعض الأحيان. وبما أن معظم الدراسات التي تناولت «ألف ليلة وليلة»، حتى الآن، قد ركزت على التاريخ الأدبي والنقد النصي، فإن تحليل الموسوي المواضيعي تحليل جديد ومثير للاهتمام، وإن كان مؤرّخو الأدب وعلماء اللغة سوف يعارضون العديد من افتراضاته.


كاتب المقال: بروس فادج (أستاذ الدراسات العربية بجامعة جنيف)

رياض الصالح الحسين.. أسطورتنا الحيّة!

من يصدِّق: رياض الصالح الحسين، الشابّ اليافع الذي غادر العالم في عمر (28)، صار في 2016/3/10، كهلاً في عمر (62)؟ الجواب: «لا أحد»؛ ذلك أن شعورنا جميعاً أن (رياض)، لم يمت، فحسب، بل أنه مازال في عمر (28)! وأجد، الآن، في هذه المناسبة، فرصة لمعاودة المحاولة. أنا أحد أشدّ المقربين له، حياتياً وشعرياً، وأستطيع الادّعاء، بتبيان الأسباب التي تجعلنا نقول هذا وكأنه حقيقة، الأسباب نفسها التي تجعله يحتلّ هذه المكانة الاستثنائية في المشهد الشعري السوري خصوصاً، والعربي عموماً. وإذا كان يحلو للبعض (وأنا منهم) أن يعدّ موته الفاجع، عن ذلك العمر المبكِّر، قد لعب- لا ريب- دوراً كبيراً في ولادة ما يشبه الأسطورة، وإقامة ذلك التمثال العجيب الذي، بحركته الدائبة، يجاري جسم رياض المرن، وهو يمشي ويركض ويرقص، فإن ما يهمّني، هنا، هو أن أعود لأؤكِّد على دور ما أَطلقتُ عليه (الخلطة السحرية) التي ركَّبها رياض لأهمّ مؤثّرات القصيدة السورية في السبعينيات من القرن الماضي: أوَّلاً: الإغواء الذي لا يقاوَم لأدوات محمد ماغوط الشعرية، هو المؤثِّر الطاغي على قصيدة النثر السورية. وثانياً: العفوية الشديدة التي اتّصفت بها قصيدة بندر عبدالحميد، والتي كنت أعدّها استسهالاً، إلاّ أنه تبيَّن لي، منذ زمن ليس ببعيد، خطئي في هذا، لأن بساطة قصيدة بندر، ليست أقلّ (ولا أكثر) من صورة مطابقة له تعكسها مرآته. وثالثاً: الانفعال والاضطرام اللذان ميّزا شعر نزيه أبو عفش، تفعيلة كان أم نثراً، هو الذي كان- برأيي- المثال الأعلى: الشعري، والإنساني لرياض الصالح الحسين، وإن لفترة من الزمن. هذه التركيبة التي أوحت للكثيرين بقدرتها على تحويل أيّ كلام إلى شعر. كلّ هذا- برأيي- كان له الدور الأكبر في اعتبار قصيدة رياض، بدورها، المثال الأعمّ لقصيدة النثر السورية؛ وذلك لأنها تلاءمت، على نحو مباشر وآخر غير مباشر، مع الجوّ الثقافي والجوّ السياسي السائد في سورية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم، وبالتحديد: من أواسط عقد السبعينيات إلى نهاية عقد التسعينيات؛ حيث كان السوق الثقافي السوري مغلقاً في وجه التجارب الشعرية العربية الطليعية، أساليب ومضامين، في آن معاً!. رافق هذا تململ سوري ظاهر على هذين المستويَيْن، بالذات، وخاصّةً بالنسبة إلى الجيل الذي كان يقف عند عتبة تجاربه الإبداعية، وبصعوبة يسمح له بالدخول؛ الأمر الذي أدّى إلى تفشّي هذه الوصفة وتعميمها مذ ذاك اليوم، حتى راح يمكننا القول إن قصيدة رياض مازالت تُكتَب، وإن تجربته مازالت تتابَع وتتقدَّم، راسمةً، إلى اليوم، إيجاباً وسلباً، أكثر ملامح القصيدة السورية انتشاراً ورسوخاً. 

قد يجد البعض أن هناك قدراً كبيراً من المبالغة، في إطلاق صفة الأسطورة على رياض الصالح الحسين! بالتأكيد، أوافق على هذا، فقد كنت، دائماً، أعترض على أسطرة الناس، إلاّ أنني منساق إلى مفهوم رياض بالذات، ومفهومي أنا أيضاً، بأن عمل الشعر، في أحد أهمّ وجوهه، هو أسطرة الواقع، وتحويل الهامشي إلى متن، ورفع المهمل والمتروك إلى رفّ الصمديّات، وتجميع فتات زمننا وخلق حياة..؛ الأمر الذي جعله يختار (أساطير يومية) عنواناً لمجموعته الثانية. 

قصيدة من كلّ مجموعة:

لا أظنّني أحتاج أعمال رياض الصالح الحسين الشعرية الكاملة، التي صدرت عن دار المتوسِّط، رغم أنني مَنْ أعَدَّ سيرة رياض، وشهادات الشعراء في مقدِّمتها، لأنتقي منها مختارت من شعره، فلديّ الطبعات الأولى لمجموعاته الأربع، وعلى الثلاث الأولى إهداءاته، بخطّ يده، وهذا لا يمكن أن يقارن بشيء. كما أظنها موفّقة، إلى حَدّ بعيد، المختارات التي نشرها الشاعر السوري علي سفر، في مدوّنته الإلكترونية الخاصّة، إذ اختار قصيدة واحدة من كلّ مجموعة من مجموعات رياض الأربع، إلا أني فضّلت قصيدة (غرفة صغيرة وضيّقة، ولا شيء غير ذلك) من مجموعة (بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدَّس)، ذلك لأنه خصَّني فيها بالذكر، وهذا ما يشاركني به، من أصدقاء رياض، مالا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة. وأنا، رغم ماردّدته في العديد من المناسبات، من أن مجموعة (وعل في غابة) تتضمّن أفضل ما كتبه رياض، أرى أن أكثر ما يمثِّله هو القصائد التي كتبها في مجموعاته الثلاث الأولى غير مكترث بشيء، سوى بما يتدفّق حارّاً وصاخباً في شرايينه، مخرِّباً دورته الدموية:


1 – دُخان

من«خراب الدورة الدمويَّة»

كئيباً ومنفتحاً كالبحر، أقف لأحدِّثكم عن البحر

مستاءً وحزيناً من الدنيا، أقف لأحدِّثكم عن الدنيا.

متماسكاً وصلباً ومستمرّاً كالنهر،

أقف لأحدِّثكم عن النهر.

وعندما يصبح للنافذة عينان تريان يأسي،

وللجدران أصابع تتحسَّس أضلاعي،

وللأبواب ألسنة تتكلَّم عنِّي..

وعندما يصبح للماء طعم الماء،

وللهواء نكهة الهواء،

وللحبر الأسود هذا رائحة الحبر..

وعندما تهيِّئ المطابع الأناشيد للقرّأء بدلاً من الحبوب المنوِّمة،

وتهيِّئ الحقول القمح بدلاً من الأفيون

وتهيِّئ المصانع القمصان بدلاً من القنابل…

سأقف، أيضاً، سأقف لأحدِّثكم عنِّي.

لأحدِّثكم عن الحبّ الذي يغتال المراثي

عن المراثي التي كانت تفتح دفترها الملكي.

لتسجّل أسماءكم في قائمة القتلى،

عن القتلى المتشبِّثين بالضمّاد، والميكروكروم

الذي لم يأتِ

وسأقف، أيضاً، سأقف

لأحدِّثكم عنّي

مثلما يتحدَّث الديكتاتور عن سجونه

والمليونير عن ملايينه

والعاشق عن نهدَيْ حبيبته،

والطفل عن أمِّه،

واللصّ عن مفاتيحه،

والعالم عن حكّامه،

سأحدِّثكم بحبّ، بحبّ، بحبّ

بعد أن أُشعِل سيجارة!.


2 – بعد ثلاثة أيّأم

من «أساطير يوميَّة»

ما الذي سيحدث، في هذا الضياء الواسع،

إذا لم تشرق الشمس

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

 * * *

ما الذي سيحدث، في هذا الفضاء الواسع،

إذا توقَّفت العصافير عن الزقزقة

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

* * *

ما الذي سيحدث، في هذا الجحيم الواسع،

إذا تعطَّلت أجهزة اللاسلكي

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

ما الذي سيحدث، في هذا المستنقع الواسع،

إذا توقَّفت الضفادع عن النقيق

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

* * *

ما الذي سيحدث، في هذا القبر الواسع،

إذا فُقِدتِ السجائر من الأسواق

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

* * *

ما الذي سيحدث، في هذا الخنجر الواسع،

إذا توقَّفت أمريكا عن أكل لحوم البشر

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

 * * *

ما الذي سيحدث، في هذا العالم الواسع،

إذا أضربنا عن اليأس

لمدَّة ثلاثة أيّام؟

 * * *

وما الذي سيحدث، في قلبي الواسع،

إذا لم أحبّك

بعد ثلاثة أيّام؟

* * *

منذ القبلة الأولى على رقبتك الطويلة،

وحتَّى الحرب العالميَّة الثالثة

التي لم تأتِ بعد،

كنت أوزِّع الحبّ على النازحين،

وهم يوزِّعون بطاقات الإعاشة!

كنت أوزِّع الحبّ على السجناء،

وهم يوزِّعون الصدمات الكهربائيَّة!

كنت أوزِّع المصانع في الصحاري،

وهم يرصدون سجناً لكلّ مصنع!

منذ انبثاق النار من احتكاك حجرين

وحتَّى اختراع القنابل العنقوديَّة،

كنت أوزِّع الحبّ في القلوب

كما يوزِّعون الرصاص!

كنت أنثر الأغاني في الطرق الجبليَّة

كما ينثرون الألغام،

منذ أن جلس بوكاسا على عرشه العريض،

وأنا أحاول أن أحبَّهُ

بعدَ ثلاثة أيّام،

بعد ثلاثة أيّام،

ستقابل عاملة في مصنع للنسيج

رجلاً يصنع التوابيت.

بعد ثلاثة أيّام،

السماء ليست سوداء

والأحاديث ستكون أجمل.

بعد ثلاثة أيّام،

ستقابل العاملة رجلاً

هي لا تحمل حقيبة

وهو لا يضع ربطة عنق حمراء!

بعد ثلاثة أيّام،

ستحدث مهزلة بسيطة

-رغم أنَّ كلّاً منهما لا يملك أجرة تكسي-

عندما تقول له: 

لا أستطيع أن أحبّك

إلاّ بعد ثلاثة أيّام!


3 – غرفة صغيرة وضيّقة، ولا شيء غير ذلك

من «بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدَّس»

غرفة صغيرة صالحة للحياة.

غرفة صغيرة وضيّقة صالحة للموت.

غرفة صغيرة ورطبة، لا تصلح لشيء

غرفة صغيرة فيها: 

امرأة تقشّر البطاطا واليأس

عامل باطون، لا ينام أبداً

بنت تبكي كثيراً بدون سبب

وأنا.. ولد مشاكس وغير لئيم

لديّ كتب وأصدقاء،

ولا شيء غير ذلك.

* * *

ومنذ أن ولدت بلا وطن

ومنذ أن أصبح الوطن قبراً

ومنذ أن أصبح القبر كتاباً

ومنذ أن أصبح الكتاب معتقلاً

ومنذ أن أصبح المعتقل حلماً

ومنذ أن أصبح الحلم وطناً،

بحثت عن غرفة صغيرة وضيّقة،

أستطيع فيها التنفُّس بحريّة.

* * *

على الرفّ، في الغرفة، كتب وأصدقاء

وهناك- أيضاً- حزمة جافّة من البرسيم

صورة لغيفارا ولوحة سوداء لمنذر مصري.

عندما أجوع، ألتهم الكتب وأقول للأصدقاء: 

أيّها الأصدقاء، تعالوا لنتحاور.

وأصدقائي كثيرون..

الذين يحبُّونني لا يتركون لي فرصة للموت،

والذين يكرهونني لا يتركون لي فرصة للحياة

وغداً، على الأرجح،

سألْتهِمُ الأصدقاء

كما التهمت الكتب وقرارات الأمم المتّحدة.

وغداً، على الأرجح،

سأكفُّ عن الحلم

مثلما كفّت الآنسة (س) يدها عن شؤون قلبي.

وغداً، على الأرجح،

سأترك للغرفة تأسيس حياتي،

بجدرانها الخمسة المدمّاة

ونافذتها الوحيدة المشرَّعة.

* * *

في غرفة صغيرة وضيّقة صالحة للبكاء

في غرفة صغيرة وضيّقة صالحة للحبّ

في غرفة صغيرة وضيّقة صالحة للمؤتمرات،

لم أستطع أن أتآمر على أحد

لم أستطع أن أفعل شيئاً.

في غرفة صغيرة وضيّقة صالحة للكتابة،

لم أستطع إلاّ كتابة وصيّتي الأخيرة.

الغرفة الصغيرة الضيّقة

الممدّدة كجثّة فوق سرير الأرض

قابلة، مثلي، للتشريح

ومثلي، قابلة للإبادة.

في الغرفة الصغيرة الضيّقة،

أقرأ الصحف والمذابح.

في الغرفة الصغيرة الضيّقة،

أعوي كعاصفة، 

وأغرِّد كسنبلة.

أنا في الغرفة الصغيرة الضيّقة: 

نهر مكسور،

و- أحياناً- أمّة مضطهَدة.

أين ذهبت المرأة؟

– لتموت في الغرفة الصغيرة الضيّقة.

 أين قرّرْت الحزن؟

– في الغرفة الصغيرة الضيّقة.

 كم عمرك؟

– غرفة صغيرة ضيّقة.

 ما هي الأرض؟

– غرفة صغيرة ضيّقة.


 4 – الخنجر

من «وعل في الغابة»

الرجل مات

الخنجر في القلب

والابتسامة في الشفتين.

الرجل مات

الرجل يتنزّه في قبره

ينظر إلى الأعلى

ينظر إلى الأسفل

ينظر حوله:

لا شيء سوى التراب،

لا شيء سوى القبضة اللامعة 

للخنجرفيصدره.

* * *

يبتسم الرجل الميّت،

ويربِّت على قبضة الخنجر

الخنجر، صديقه الوحيد

الخنجر

ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى.

هيلاري مانتل: لماذا أصبحتُ روائية تاريخية

«هل هذه القصّة حقيقية؟». القرّاء، لا محالة، يسألون. في أولى محاضراتها، من سلسلة محاضرات «ريث-Reith» التي تقدمها هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، تستكشف المؤلِّفة الحائزة، مرتين، على جائزة «مان بوكر» العلاقة المعقَّدة بين التاريخ، والحقيقة، والخيال.

يقول القديس أوغسطين: الموتى غير مرئيين. إنهم ليسوا غائبين. لستَ بحاجة لأن تؤمن بالأشباح حتى ترى أن هذا صحيح. إننا نحمل جينات أسلافنا وثقافاتهم، وما نعتقده بحقَّهم يشكِّل الطريقة التي نرى بها أنفسنا، والطريقة التي نستوعب بها زماننا ومكاننا. أهذه عصور طيّبة، أم عصور سيئة، أم عصور شائقة؟ نعتمد على التاريخ ليخبرنا. التاريخ والعلم، كذلك، يساعدانا على أن نضع حيواتنا الصغيرة في سياق، لكن إن أردنا لقاء الموتى، وهم في هيئة الأحياء، فإننا نتجه إلى الفنّ.

هناك قصيدة لـ «و.ه. أودن» تدعى «بينما تمشيتُ ذات مساء»:

تدقُّ كتلةُ الجليدِ بالدولاب،

تتنهدُ الصحراءُ في السرير،

والشرخُ في فنجان الشاي يشقُّ

ممرّاً نحو أرض الموتى

هذه المحاضرة غرضها السؤال عمَّا إن كان هذا الممر هو شارعٌ ذو اتجاهين. إننا، في المخيلة نطارد الموتى صارخين: «عودوا!». قد تشتبه الأصوات التي نسمعها بصدى لصوتنا، وتشتبه الحركة التي نراها بظلنا، لكننا نستشعر قوةً حيويةً، ما يزال الموتى يمتلكوها. إن لديهم شيئاً ليخبروننا به، شيئاً نحتاج لفهمه. مستخدمين الأدب والدراما، نحاول اكتساب ذلك الفهم. 

في هذه المحاضرات، آمل أن أبيّن أنه توجد أساليب نستطيع استخدامها. أنا لا أدعي أنه يمكننا سماع الماضي أو رؤيته، إنما أقول: بإمكاننا الإنصات والنظر.

هَمّي- بصفتي كاتبة- هو الذاكرة، الذاكرة الفردية والجماعية: الأموات المؤرَّقون بتفنيد ادعاءاتهم. عائلتي تاريخها شحيح. ذات مرّة، قال لي واحدٌ من الجمهور: «أنا آتٍ من سلالة طويلة من النَكِرات». ففكرت: نعم، وأنا أيضاً. إنني لا أستطيع العودة إلى أبعد من أُمّ جدتي، من ناحية الأم. لكني أود أن أعرّفكم بها، كمثال، لأنها اجتازت الزمن من نهاية القرن التاسع عشر، كي تكوّن وعيي بذاتي، في هذه اللحظة من القرن الحادي والعشرين، حتى النكرات يمكنهم فعل ذلك.

كانت أم جدتي ابنةً لباتريك، وزوجةً لباتريك، وأُمّاً لباتريك. لا جوائز لأجل تخمين أصولها، إذاً(1). كان اسمها كاثرين أوشيه، وحياتها المبكرة أمضتها في بورتلو-Portlaw ، قرية قائمة حول مطحنٍ قرب «ووترفورد- Waterford» في جنوب أيرلندا. كانت بورتلو مكاناً اصطناعيّاً، أُنشئ لغرض من قِبل عائلة تتبع جمعية الأصدقاء الدينية(2)، وتدعى عائلة مالكولمسون، أفرادها يعملون في الشحن والذرة والقطن والكتان. افتُتح المطحن عام 1826. في وقت من الأوقات، كانت بورتلو نشطة جدّاً، حتى أنها استقدمت عمالة من لندن.

كان آل مالكولمسون رأسماليين أخلاقيين، ومولعين بالتحكّم في الحياة الاجتماعية. أُعدَّت قريتهم وفق تخطيطٍ كان مثاليّاً للمراقبة، فبُنيت بحيث يمكن لشرطي واحد متمركز في الميدان، أن يرصد الشوارع الخمسة جميعها. أسس آل مالكولمسون مجتمع ادّخار(3)، ومجتمع إمساك عن الخمر، وصرفوا لعمالهم الأجور، جزئيّاً، في هيئة إيصالات من ورق مقوى، قابلة للاستبدال عند متجر الشركة. حين لمّحت جريدة محلّية إلى أن هذا نوعٌ من العبودية، فقاضاها آل مالكولمسون، وربحوا.

ما إن انقضى القرن التاسع عشر، حتى تراجعت المنسوجات، وخسر آل مالكولمسون أموالهم. وفي عام 1904، أُغلق المطحن؛ الوقت الذي- بحلوله- كانت عائلتي، مثل كثيرين آخرين، قد بدأت هجرةً متثاقلةً، على مراحل.

اثنان من إخوة كاثرين رحلا إلى أميركا، وعلى الطريقة العريقة لم يأتِ منهما نبأٌ، بعد ذلك، مطلقاً. كاثرين كانت شابة متزوّجة، عندما جاءت إلى إنجلترا، إلى قرية أخرى تقوم حول مطحن، هي «هادفيلد – Hadfield». كانت مثل بورتلو، خضراء رطبة ومظلَّلة بالتلال. بقدر ما أعرف، لم تغادرها أبداً؛ لذا لا بدّ من أنها تساءلت: هل العالم كلّه على هذه الشاكلة؟.

بيتها الأوّل كان في شارع يدعى «ووترسايد – Waterside»، لسنوات عديدة، مسرحاً لمعارك طقوسية في ليالي الجُمعات، بين عصابات المحلّيين والوافدين. إنني لا أعرف أي شيء عن حياة كاثرين، تقريباً. أظن أنه عندما يكون لدى امرأة عشرة أطفال، فإنها تقضي على احتفاظها بحياة خاصة. صورة واحدة تبقى لها. تقف عند عتبة منزل مرصوص بجوار غيره، ومبنيّ بالحجارة، تغطيها تنورتها من الخصر إلى الكاحل، شالها الممزق يغطي البقية. لا أستطيع أن أقرأ وجهها أو أن أجد له صلةً بوجهي.

أتصور أنني أعرف أين التُقطت الصورة. كان هناك صف من المنازل المطلة على ووترسايد، ظهرها ضِمن أسوار المطحن. في وقتٍ ما هُدمت المنازل، لكن توجَّب بقاء الواجهات قائمةً؛ لأنها كانت جزءاً من جدار المطحن. سُدَّت النوافذ والأبواب بقوالب من الحجارة؛ وبمرور الوقت، لأكون على قيد الحياة وأراها، كانت هذه الحجارة الجديدة بلون المطحن نفسه: أسود. لكن، كان بإمكانك أن ترى أين كانت الأبواب والنوافذ. عندما كنت طفلة، صعقتني تلك المنازل كنذير شؤم: صورة للخداع والفقدان.

بابُ منزلٍ ما ينبغي أن يؤدِّي إلى بيت. لكن، وراء هذا الباب كان الحيّز العام لباحة المطحن. عن طريق دراسة التاريخ- لنقُل تجربة الهجرة، أو تجارة المنسوجات- يمكنني أن أحدد مكان كاثرين على المستوى العام، لكني عاجزة عن الوصول إلى أفكارها. أُمّ جدتي لم تكن تستطيع القراءة أو الكتابة. بقي قولٌ من أقوالها: «جُعل النهار للأحياء، وجُعل الليل للأموات».

أفترض أن هذا ما كانت تقوله لتحافظ على الأطفال العشرة منضبطين، بعد حلول الظلام. بعد سنواتها الأولى، حسبما أفهم، لم تعد كاثرين تعمل في المطحن، لكن بلغني أنه كان لديها دور محدد في محيطها: كانت المرأة التي تجهّز الموتى قبل الدفن.

لمَ نفعل هذا، أو نعيّن أحداً لفعله؟ لماذا نغسل وجوههم ونلبسهم ثياباً مألوفة؟ إننا نفعل هذا كرمى للأحياء. حتى إن لم يكن لدينا معتقد، فلا نزال نؤمن بأن من هو إنسان يجب أن يظل يُعامل كإنسان. لاحظ السخط إذا دُنّس جثمان، وعذاب أولئك الذين لا أجساد بحوزتهم ليدفنوها. إنه- تقريباً- تعريف أن نكون بشراً: نحن الحيوانات التي تقيم الحِداد. واحد من أهوال الإبادة العنصرية هو المقابر الجماعية، مراكمة الإنسان المحبّ الحييّ مع شيء مشاع ملتبس مجرَّد من الاسم.

التأبين عملية حيوية، وكثيراً ما تكون محل جدال. عندما نخلّد ذكرى الأموات، إنما نكون تواقين، أحياناً، للحقيقة، وأحياناً لوهمٍ مُعَـزٍّ. نحن نتذكر بطريقة فردية، بدعوى الأسى والحاجة. نتذكر، كمجتمع، بأجندة سياسية؛ ننقب في الماضي عن الأساطير المؤسِّسة لعشيرتنا، لأمتنا، ونرسخها بالفخر أو نرسخها بالمظلومية، لكن قلّما نرسخها على حقائق فاترة.

إن الأمم تُبنى على نُسخٍ طموحةٍ من أصولها: قصص من نوعٍ أو آخر، كان أسلافنا فيها عمالقة. هكذا، نعيش في العالم: رومانسيين. يوماً ما، كانت الرومانسية، في معارف أرستقراطيين وهيئةٍ سرّية، هوى أن تكون جزءاً من صفوة. الآن، الرومانسية في الحرمان، والاغتراب، في المسافة الممتدة بين هناك وهنا: أو- لنقُل- بين أم جدتي وأينما أكون أنا، اليوم. إن للحقائق رواجاً أقل، وتأثيراً أقلّ على ما نكونه وما نفعله، ممّا لدى الخيالات التي نصنعها لأنفسنا.

حالما نموت، نصير ضمن عالم الخيال. فقط، اطلبْ من فردَي عائلةٍ، مختلفين، أن يحكيا لك عن أحدٍ توفي مؤخَّراً، وستفهم ما أقصد. ما إن نفقد قدرة التعبير عن أنفسنا، حتى نُؤوَّل. وحين نتذكّر- مثلما يخبرنا كثيراً علماء النفس- أننا لا نعيد إنتاج الماضي، بل نبتكره. بالطبع، قد تقول: بعض الحقائق غير قابلة للفصال، وقائع التاريخ ترشدنا، والوثائق- بالفعل- تأتي ببعض الوقائع والشخصيات التي لا تقبل الخلاف. لكن المؤرِّخ «باتريك كولينسون – Patrick Collinson» كتب: «إنه لمن الممكن أن يصل مؤرِّخون أكفاء إلى استنتاجات مختلفة جذريّاً، استناداً إلى الدليل نفسه. لأن، 99 % من الأدلة، وعلى رأسها الكلام غير المسجَّل، ليست متاحة لنا، بطبيعة الحال».

الأدلة، دائماً، جزئية. الوقائع لا تمثِّل الحقيقة، وإن كانت جزءاً منها؛ فالمعلومات ليست هي المعرفة. والتاريخ ليس الماضي؛ إنه النمط الذي طورناه لتنظيم جهلنا بالماضي. إنه سِجلّ ما تبقَّى مسجَّلاً. إنه مخطَّط المواقع المتخَذة في أثناء الرقص، عندما نوقف الرقصة لندوّنهم. إنه ما يبقى في الغربال حين تكون قد نفذت، خلاله، القرون: القليل من الأحجار، قصاصات من كتابة، قصاصات قماش. إنه ليس «الماضي» إلّا إنْ كانت شهادة الميلاد بمثابة ميلاد، أو أن نَـصّاً هو بمنزلة أداء، أو أن خريطة هي بمنزلة رحلة. إنه التضاعف لأدلة شهود متحيزين وغير معصومين من الخطأ، مخلوطة مع سرديات ناقصة، لأفعال لم تُفهم كليّاً من قِبل مَن قاموا بها. إنه لا يعدو أن يكون أقصى ما بوسعنا، وفي كثير من الأحيان نعجز عن الوفاء بذلك.

المؤرّخون، أحياناً، مدقّقون وواعون بأنفسهم، أحياناً مهملون أو متحيّزون. مع هذا، في كلتا الحالتين، لا نكاد نتبين إحداهما من الأخرى، إننا نتنازل لهم عن المسؤولية الأخلاقية. همّ لا يختلقون عن عمد، ونحن نصدّق أنهم يحاولون تبليغ الحقيقة، لكن الروائيين التاريخيين يواجهون أسئلةً- كما هو متوقَّع- عمّا إذا كان عملهم شرعيّاً. ما من نوع آخر من الكتّاب عليه أن يوضح حرفته مراراً، هكذا، فالقارئ يسأل: أهذه القصّة حقيقية؟.

ذلك يبدو سؤالاً بسيطاً، لكن يجب علينا أن نكشف عنه غطاءه. في كثير من الأحيان، يسأل القارئ: هل بإمكاني أن أتأكد من هذا في كتاب تاريخ؟ هل يتوافق مع سرديات أخرى؟ هل كان سيقرّه معلمي القديم للتاريخ؟

قد تكون الفكرة المحرّكة للروائي هي تفكيك النسخة السائدة، لكن القرّاء مخلصون، بشكلٍ يثير الشفقة، لأوّل تاريخ تعلّموه، وإنْ أنت طعنتَ فيه، فكأنك تسلب منهم طفولتهم. بالنسبة إلى شخص ينشد السلامة والصلاحية الرسمية، فإن التاريخ هو المكان الخطأ لإعمال النظر. أي تاريخٍ ذي شأن يكون في حالة دائمة من المساءلة الذاتية، تماماً، مثلما هو أي أدبٍ ذي شأن. القارئ، إذا سأل الكاتب: «هل لديك أدلة تدعم قصتك؟»، ينبغي أن يكون الجواب: نعم. لكنك تأمل أن القارئ سيكون متفطناً للأنواع العديدة الموجودة من الأدلة، وكيف يمكن استخدامها.

من غير الممكن وضع قاعدة أو معيار للممارسة القويمة، لأنه توجد أنواع عديدة للغاية من الرواية التاريخية. لدى البعض الطابع الوثائقي، آخرون أقرب إلى الخيال. لا يُشغِل كلُّ كاتبٍ نفسَه بالأشخاص الحقيقيين والأحداث الحقيقية. في سلسلة رواياتي الحالية عن أسرة تيودور(4)، أتتبّع- بدقة- السجل التاريخي حتى يتسنى لي تقديم العالم الخارجي بأمانة، رغم هذا، أخبر قارئي بالشائعات، وألمّح إلى أنّ الأخبار، أحياناً، تكون مفبركة.

لكن انشغالي الأساسي يكون بالدراما الداخلية في حيوات شخصياتي. من التاريخ، أعرف ماذا هم فاعلون، لكن لا يمكنني- بأي تأكُّد- معرفة ما يفكرون به أو يشعرون. أية رواية، ما إن تنتهِ منها حتى تعجز عن فصل الواقع عن الخيال. إنها أشبه بمحاولة إرجاع المايونيز للزيت وصفارِ بيض. إن أردتَ أن تعرف كيف أُنشئتْ، سطراً بسطر، فإن ما أخشاه هو أن يكون أملك الوحيد أن تسأل المؤلف.

لهذا السبب، بعض القراء مرتابون- بشدة- من الرواية التاريخية. يقولون: إنها، بطبيعتها، مضللة. لكنني أزعم أن القارئ يعلم طبيعة العقد. عندما تختار روايةً لتحكي لك عن الماضي، فإنك تضع، بين قوسين، السرديات التاريخية، التي قد يتوافق بعضها مع بعضٍ أو لا يتوافق، وتطلب، عازماً، تأويلاً شخصيّاً. أنت لا تشتري مستنسَخاً، ولا حتى نسخةً مصوَّرة أمينة(5). أنت تشتري لوحة فيها ضربات باقية من الفرشاة. للمؤرّخ، يقول القارئ: «خذ هذه الوثيقة، القطعة، الشخص. أخبرني ماذا يعنون؟». للروائي، يقول: «الآن، أخبرني ماذا يعنون أيضاً؟».

تعرف الروائية موقعها. إنها تمضي في عملها عند نقطة تلاقي ما هو قائم بما هو حلم، عند تلاقي السياسة بعلم النفس، وحيثما يلتقي الخاص بالعام. إنني أقف بصحبة أم جدتي عند العتبة. أقتحم السور الزائف. على الجانب الآخر، أربط قصتي الشخصية بالقصّة الجماعية. أتحرك خلال الحيّز المنزلي، وأخرج نحو الحيز التجاري الجامح لباحة المطحن: السوق، ومحل تداول النميمة، والشارع، ومبنى البرلمان.

بدأتُ كتابة الروايات في السبعينيات، عند النقطة التي اكتشفت فيها- للمفارقة- أنني أريد أن أكون مؤرّخة. فكرت أنني بسبب حماقتي، وأنا في عمر السادسة عشرة، لم أكن أعرف ما أكتبه في استمارة تقديمي للجامعة، فقد ضيعت فرصتي؛ لذلك إن كنت أريد العمل مع الماضي، يتعيَّن علي أن أصير روائية، وهو الأمر الذي يمكن، بالطبع، لأي أحمق، أن يفعله.

خلال السنة الأولى أو السنتين الأوليَيْن، تعرضت لشعورٍ بالدونية الحضارية. شعرت بأنني- أخلاقيّاً- أدنى من المؤرخين، وأدنى- فنيّاً- من الروائيين الحقيقيين الذين بوسعهم نسج الحبكات، في حين كان عليَّ، فقط، أن أعرف ماذا حدث.

في تلك الأيام، لم تكن الرواية التاريخية محترمةً أو جديرة بالاحترام. كانت تعني رومانسية تاريخية. لو قرأتَ رواية عبقرية كرواية «أنا، كلوديوس – I, Claudius»، التي تدور أحداثها في روما القديمة، فإنك لا تصمها بالنوع الأدبي؛ تنظر إليها باعتبارها أدباً فحسب؛ لذا كنتُ أخجل من تسمية ما أفعله. على أي حال، لقد بدأت. أردت أن أجد رواية تستهويني عن الثورة الفرنسية. فلم أجد، فشرعت بكتابة واحدة.

لم أكن في سعيٍ لنتائج سريعة. كنت مستعدة للنظر في جميع المواد التي يمكنني العثور عليها، حتى مع علمي أن ذلك قد يستغرق سنوات. لكن الذي لم أكن مستعدة له، كان الفجوات، والمحو، ولحظات الصمت حيث كان ينبغي وجود أدلة.

هذه اللحظات من الصمت والمحو جعلت مني روائية، لكني، في أول الأمر، وجدتها- ببساطة- مربكة. لم أحب أن أختلق أشياء؛ ما سبَّب لي نقطة ضعف. في النهاية، هرعت نحو وضعٍ انتقالي أرضاني. لسوف أختلق لرجلٍ عذاباته الداخلية، لكن ليس، مثلاً، لون ورق الحائط في حجرة الرسم الخاصة به؛ لأن أفكاره يمكن، فقط، تخمينها، حتى إن كان مدوّناً لليوميات أو كاتب اعترافات، فقد يكون ممن يُخضِعون أنفسهم للرقابة الذاتية. أمّا ورق الحائط، فشخصٌ ما، في مكانٍ ما، قد يعلم الشكل واللون، وقد أعرف إذا واصلتُ السعي إليه. وحينها، عندما يعود ثائري إلى بيته مرهقاً، بعد مناظرة دامت 24 ساعة في المؤتمر الوطني(6)، ويرمي بحقيبته في أحد الأركان، سيكون بوسعي أن أدير النظر في الحجرة، من خلال عينيه. حينما صدر كتابي، في نهاية المطاف، بعد سنوات عديدة، إذا بناقدٍ خبيث- وكان يُلزِمني حدودي بوصفي امرأة تكتب عن رجال يخوضون في شؤون سياسية جادة – يشتكي أن في الكتاب الكثيرَ عن ورق الحائط. صدقوني، كنت أعتقد- بكلّ أمانة- أنه أقل كثيراً مما يكفي.

في الوقت المناسب، فهمت أمراً، هو أنك لا تصير روائيّاً لكي تغزل أكاذيبَ مسلية، إنك تصير روائيّاً لتتمكن من قول الحقيقة. أنا أبدأ في ممارسة حرفتي عند النقطة التي تنهار فيها القَناعات تجاه الرواية الرسمية. إن بعض القصص تحتمل أن يعاد حكيها. إنها تفرض إعادة حكيها فرضاً. خذ، مثلاً، الأيام الأخيرة في حياة آن بولين – Anne Boleyn: تستطيع أن تحكي تلك القصّة تم تحكيها مرات عديدة. أن تُخضِعها لمئات التعديلات، ولكن يظل بادياً أن هناك قطعة مفقودة من الأحجية. تقول: «أنا واثقٌ من أنني أستطيع أن أبلي بلاءً أفضل، المرة القادمة»، يم تبدأ من جديد. تنظر إلى النتيجة، فتدرك، مرةً أخرى، أنه بينما كنتَ توثّق وثاق جزءٍ من الحقيقة، فرَّ جزءٌ آخر إلى البرّية.

مع هذا، تطلَّب الأمر مني وقتاً كي أصل إلى أسرة تيودور. خلال غالبية مسيرتي المهنية، كتبتُ عن أناسٍ غريبين وهامشيين: وسطاء روحيين، أو متدينين، أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، ونزلاء المصحّات والإصلاحيات ودور الرعاية، أو أخصائيين اجتماعيين، أو فرنسيين. قرّائي كانوا عُصبةً صغيرةً ومنتقاة، إلى أن قررت التقدم نحو منتصف ساحة التاريخ الإنجليزي، وغرستُ راية.

الحقبة التيودورية، بالنسبة إلى الباحثين، لا تزال بؤرةً لجدلٍ محتدم، أمّا بالنسبة إلى العامّة فهي تسلية سائغة. وهناك رفوف كانت ملأى بروايات عن هنري الثامن وزوجاته. لكن لا يمكن لروائي أن يقاوم زاوية غير مستكشَفة. غيّرْ زاوية الرؤية، وستكون القصّة جديدة. من بين كُتاب الأدب القصصي، لم ينازعني أحدٌ على هذه المنطقة. الكل كان مشغولاً، يزرع لنفسه مكانةً كدخيل.

سنوات عديدة، ونحن مهمومون بنزع المركزية عن «سرديتنا الكبرى grand narrative». قد أصبحنا عاطفيين حيال المقطوعين من شجرة، المكسورين، أولئك الذين بلا صوت، ومتشككين حيال الرجال العظماء، مستخفين بالأبطال. هكذا، تطوّر تقصِّينا للدراما البشرية: بدايةً تذهب الآلهة، ثم يذهب الأبطال، ثم إذا بنا متروكون صحبة أنفسنا المدنَّسة المفضوحة.

فيما تكتسب معرفةً وتقنيةً بصفتك كاتباً.. فيما تكتسب وعياً ذاتيّاً ضروريّاً بخصوص حرفتك، تفقد بعضاً من متانة علاقتك بالماضي النابعة من الطفولة. حين كنت طفلة، كان الماضي يبدو لي أنه قريب، وكان يبدو لي أنه أمر شخصي. تحت كلّ تاريخ، يوجد تاريخ آخر، يوجد- على الأقلّ- حياة المؤرِّخ. لهذا دعوتُ أمّ جدتي لهذه المحاضرة، لأنني أعرف أن حياتي تؤثِّر في عملي. بإمكانك اعتبار الروايات جميعها تعويضاً نفسيّاً عن حيواتٍ لم تُعَش؛ فالرواية التاريخية تَنتُج عن نهمٍ في خوض التجارب. فضول عنيف يدفعنا، يأخذنا بعيداً عن زمننا، بعيداً عن شاطئنا، وكثيراً ما يكون خارج نطاق بوصلتنا.

يجعلك السعي وراء الماضي، سواء أكنت روائيّاً أم مؤرخاً، تعي مخاطر لامعصوميتك وتحيُّزك المتأصّل. إن كاتب التاريخ هو أثرٌ يمشي على قدمين، هو شخصٌ مغترب، يستخدم أساليب اليوم ليحاول معرفة أشياء عن الأمس لم يعرفها الأمسُ عن نفسه. يجب عليه أن يحاول العمل متثبِّتاً، مستمعاً إلى كلمات الماضي، متواصلاً لكن بلغةٍ يفهمها الحاضر. المؤرِّخ وكاتب السير وكاتب الروايات يعملون ضمن حدود مختلفة، لكن على نحو مكمِّل، لا متضاد. حرفة الروائي ليست اختلاق الأشياء، فحسب، إطلاقاً.. وحرفة المؤرِّخ ليست تكديس الوقائع، ببساطة، إطلاقاً؛ فحتى أكثر الأبحاث جموداً واعتماداً على البيانات، تتضمّن عامل تأويل. إن بحثاً عميقاً داخل الأرشيفات يمكن تأديته في هيئة جداول أو قوائم، بواسطة مؤرخين فيما يخاطب بعضهم بعضاً. لكنهمّ، لمخاطبة جمهورهم، يستخدمون الأدوات نفسها التي يستخدمها الحكّاءون: الانتقاء، والدمج، والتنسيق الخلاق. قال مؤرِّخ القرن التاسع عشر، «اللورد ماكولي – Lord Macaulay»: «التاريخ يجب أن ينطبع في المخيلة، قبل أن يمكن تلقّيه بالعقل». إذاً، كيف نعلّم التاريخ؟ هل الأمر عبارة عن مجموعة من القصص، أم مجموعة من المهارات؟ كلاهما، أعتقد. نحتاج أن ننقل القصص، وأن نمنح المهارات- أيضاً- لكي نفسِّخ القصص، ونصنع قصصاً جديدة.

لنستعيد التاريخ، نحتاج إلى صرامة، ونزاهة، وإخلاصٍ سخي، ونزوعٍ إلى الشك. لنستعيد الماضي، يُتطلَّب منا كل تلك الفضائل، وشيءٌ زيادة. إن أردنا قيمةً إضافية (أن نتخيل ليس، فقط، كيف كان الماضي، بل كيف بدا من الداخل) فإننا نختار رواية. المؤرِّخ وكاتب السير يقتفيان آثاراً من أدلة، آثاراً ورقية، عادةً. يفعل الروائي هذا، أيضاً، ثم يؤدّي عملاً آخر: يعيد الماضي إلى سيرورته، إلى الحركة، يحرّر الناس من الأرشيف، ويتركهم يهيمون، يجهلون مصائرهم، حيث كلّ أخطائهم لم تقع.

ليس بوسعنا أن ننحّي التنظير جانباً. إنه لمن المستحيل، الآن، كتابة رواية تاريخية ذكية، دون أن تكون رواية تأريخية، رواية تأخذ في الحسبان طريقةَ عملٍ خاصّة بها. لكنني حاولت أن أجد سبيلاً للتحدث عن الماضي دون أن أستعمل، يوميّاً، مصطلحات مثل «التأريخ». لقد أصبحت روائية لأختبر الفضيلة بكلماتٍ، كانت لتتعرف عليها أمّ جدتي، من تلك الرحلة التي قطعتها من أيرلندا إلى إنجلترا، من مكان أخضر رطب إلى آخر: كلماتٍ مثل: خيط، ونول، ولُحمة، وسَداة(7).. كلماتٍ مثل: رصيف الميناء، وسفينة، وبحر، وحجر، وطريق، وبيت. 


المصدر:

أُذيعت عبر راديو بي بي سي، ونُشرت في الغارديان البريطانية، بتاريخ 3 يونيو 2017.

الهوامش:

(1) اسم «باتريك – Patrick» يعتبر أكثر شيوعاً في أيرلندا حيث نشأ، ويُنسب إلى القديس باتريك.

(2) جمعية الأصدقاء الدينية «الكويكرز» هي حركة مسيحية تأسَّست حوالي عام 1650، انتصرت لـ«النور الداخلي»، ورفضت كل أشكال الشعائر والكهانة.

(3) مجتمع يشجع على التقشف والتوفير بحجة استثمار المدخرات لصالح أصحابها.

(4) أسرة تولّت عرش إنجلترا، منذ عام 1485 حتى 1603.

(5) المستنسخ – replica، يكون نسخة مرسومة لتُطابق اللوحة الأصلية. أما النسخة المصورة – photographic reproduction، فتكون صورة فوتوغرافية ملتقطة للوحة الأصلية، ذات جودة عالية، وتُطبع على خامات خاصّة.

(6) المؤتمر الوطني يُعتبر أوّل حكومة بعد الثورة الفرنسية. تأسس في 1792، واستمر حتى 1795.

(7) السداة: الخيوط الطولية في النسيج، عند الحياكة بالنول. اللحمة: الخيوط العرضية في الحياكة.

بصمات علي قنديل

رُبَّما كان قَدَر الشاعر المصري علي قنديل (1953 – 1975) أن يتموقع بين شوائب جيلَيْن: جيل ما قبل الخمسينيات، وجيل ما بعدها، وهو- في الحقيقة- جيل واحد، هناك مَنْ رأى أنه من المجحف وضعه داخل السّلة نفسها، وآخرون لم يجدوا، إلى اليوم، حرجاً في اتِّهامه بأنه جيل الانقلاب على نفسه، على نحو ما أَمْلته الظروف السياسية. في قلب هذا السياق، ظهر علي قنديل، متسلِّلاً بحزمة قصائد، عبر ترعة، من الراجح أن لا أحد من أنداده أدركَها في تلك الآونة، وكأنه أراد، بذلك، تهريبها نحو الحلم والمستقبل الغيبي.

في مقدَّمة آثاره الشعرية، التي جُمِعت بعد رحيله بفترة، نَحَت الشاعر عفيفي مطر شاهدة في حقّ رفيقه الملهَم، جاء فيها: «يكوِّن علي قنديل، بحياته، وموته، وكتاباته، ظاهرة خارقة للاستيعاب والفهم المبكِّرَيْن، وسؤالاً عظيماً، ما يزال مطروحاً بعد أن رحل…».

في بداية السبعينيات كان أفق القصيدة العربية الحديثة، بكلّ أنواعه، قد اكتمل أو في طور اكتماله، ولم يكن أمام الموجة الثالثة إلّا التمرد والخروج على السياق الذي تمّ تكريسه، فظهرت الخروجات حادّة وصريحة: في العراق، في «مدرسة كركوك»، و- بالأخصّ- في تجربة سرجون بولص وصلاح فائق، وفي لبنان في تجربة وديع سعاده وعباس بيضون، بينما ظلّ السياق الشعري، في مصر، على حالته، باستثناء الشاعر «محمد عفيفي مطر» الذي شكّل، وحَده، خروجاً حادّاً، وأسّس لنصّ جديد يتناقض كلّيّاً مع شعرية الروّاد.

أما السبعينيون فقد لعبوا على إعادة إنتاج نصّ الحداثة، بأنماطه المتعدّدة، فمنهم من أعاد إنتاج شعريّة «صلاح عبد الصبور»، مثل محمد سليمان، ومنهم من استلهم أداءات أدونيس الشعرية وقيمه الروحية، رغم ما بينهما من اختلافات، مثل «عبد المنعم رمضان»، أما الخروج الحقيقي فقد كان لعلي قنديل وحلمي سالم.

وعندما استطاعت الحركة الشعرية، في مصر، إنتاج نصّ جديد، يتقاطع ويتناقض، في الآن نفسه، مع الميراث الروحي ومع أشكال التعبير المتاحة مع الموجة الرابعة، في بداية الثمانينيات، شارك بعض السبعينيين في إنتاج هذا النصّ، مثل: محمد صالح، وأحمد طه، ومحمد آدم، وفريد أبو سعده، كلّ بحسب معرفته وتقنياته التي اكتسبها من الكتابة المتكرّرة.

وتميَّزت شعريّة «علي قنديل» الذي توفِّي مبكراً- عن اثنين وعشرين عاماً- بالرؤية النافذة، إذ أدرك حقيقة الصراع في المجتمع، وما يحدث فيه من كوارث، ليس عن طريق المعرفة فقط، بل بالحدس والمعايشة.

وقد تأثَّرت هذه الرؤية بموروث الجماعة الروحي أو الوعي الكلّي الذي يحكم سلوك الأفراد والجماعات، ويهيمن عليه، وهي غنائية ومثالية، في مجملها، وذات إيقاع ساحر، لا ينتمي إلى الإيقاع الخالص، كما لا ينتمي إلى النثر الخالص، وهي روح متألِّمة، لكنها ليست مأساوية، وهي أقرب إلى ما هو بدائي أو فطري لدى الإنسان. كما يظهر هذا التسامي في أخوّة الإنسان مع الحيوانات والجمادات أو مع الطبيعة، بشكل عامّ، إذ شكّلت الطبيعة، بمفرداتها الكثيرة، محوراً أساسياً لدى الشاعر، سواء في الخيال، وفي  الدلالة، وفي المسمّيات التي تنتمي إليها.

فالتجربة كلّها تقوم على إدراك أهمّيّة الصراع في كلّ شيء: في العالم، وفي المجتمع، وفي الذات، إلّا أنها تأخذ، في كلّ نوع، شكلاً مميَّزاً؛ ففي إطار الصراع العامّ يقول:

«هنا الأرض صومعة، تتقلَّب في كفّ وحش البراري، وترقص للحلم فارغة. والنهاية تنداح في موجة من الجَزْر، والبحر جُروف وتفّاحة من عصير الخديعة».

فالعالم كلّه سجن صغير «صومعة»، وهذه الصومعة ليست للعـبادة، أو لتخزين الغلال، بل تتقلَّب في كفّ وحش من البراري، ولا يتحقّق أحلام الجماعة البشرية فيها، وهم بين الموت والخديعة.

أمّا الصراع الدائم في المجتمع، فإنه لا ينتهي، ولا حدود له، وقد كشفه الشاعر بطريقة مباشرة وجارحة- أيضاً- إذ يقول:

«أيّام الفقر زاعقة كالحريق، بطيئة كخيبة الأمل.

مجرم من يفتقر 

مجرم من يغتني 

لكنما الأشدّاء أولو البأس هم الصابرون على العوز، الحازمون على البطون، الحازمون على الشرف». 

أمّا عذابات الذات وصراعها مع كلّ القوى التي تسيطر، وتدفع المصائر البشرية إلى الهاوية فإنها محور التجربة الأساسي، و إن أخذت أنماطاً في الأداء متنوِّعة، بحسب ما يمرّ به من اختبارات، فأحياناً يقول:

«لا أفق يبصرني 

لا أسماء 

مزروعة خطاي في تهدُّج الرثاء 

غداً، تشقّني الرياح رافداً للدمع 

خفق اللهيب بعضي، 

وبعضي القريب»

هذه الذات الهشّة والضعيفة، والتي لا تحقّق وجودها الإنساني، تأتي كثيراً في النصوص إلّا أن الشاعر يحدّد، في نصّ آخر، ما يعانيه من الوحدة:

في الوحدة يعرف صدري أن يفتح ذاته، وتأمن كلّ القرون المخبوءة فيه، فتخرج لا تخشى الحديد الذي ينطلق في الشوارع، ولا العيون الخبيثة التي على اللحظة، ولا العكارة التي لا تستريح، وليس لها شاغل إلّا إفساد اشتهائي وإفساد دمعي.

بدأت تجربة علي قنديل متأثِّرة بالنصّ الشائع، وبالمعرفة السائدة، وهذا أمر ضروري حتى يتعرّف بالأنموذج الذي يختاره، ويظهر هذا في القسم الأوَّل من ديوان «الآثار الشعرية الكاملة» تحت عنوان «قصائد أولى» (1970 – 1973)، وكان من أكثر الاصوات المؤثِّرة فيه صلاح عبد الصبور وعفيفي مطر.و رغم ما بينهما من تناقضات، فقد تأثَّر بقدرة عبد الصبور على التأمُّل القريب والبناء النثري للجمله الشعرية، مثل: 

يا ليل،

يا محيطنا المقدَّس النبيل، 

الشمس خلف بابنا تكاد أن تبين، 

ونحن في ظلامك الأمين 

نخاف نورها وزهرها الجريء

أمّا معايشته لعفيفي مطر وصداقته الدائمة له، فقد أثَّرت في معرفته أوَّلاً، حتى أنه حدّد انحيازاته مبكِّراً، سواء الاجتماعية والشعرية، ومن أهمّها اهتمامه بالثقافة المصرية القديمة ورموزها الفاعلة، مثل:

حوريس يطلع بالشعير وبالغلال

بمواسم الأرزّ السخيّة 

متعالياً مثل النخيل 

حرّاً كأطراف البحيرات القصيّة، 

لكنه عند الهضاب 

ما زال ظلّاً واغتراب

وكذلك اهتمامه بالتصوُّف، وإن جاء أكثر شفافيةً وأكثر وصولاً للأشياء والحالات من عفيفي مطر؛ إذ إن لغة علي قنديل كانت واضحة وغير مركَّبة، وتعتمد على الدلالة القريبة، ولم يظهر ذلك إلّا في القسم الثاني من التجربة، وتأثَّر، كذلك، ببعض المفردات المركزية في تجربة عفيفي مطر الأولى، وكانت تلعب دوراً في توالد شعرية ما لديه، مثل:

كنت طفلاً، والظهيرة 

استحمَّت في المطر 

حين كان الظلّ يزرعني بعينيك يمامة، 

ويجبرني على كفَّيك خطّاً لاهثاً 

فرساً فخوراً بالوسامة

أمّا تجربته المهمّة، فائقة القيمة، فقد ظهرت في القسم الثاني من الديوان «قصائد متأخِّرة» (1974 – 1975)، إذ اكتشف ذاته مرّة أخرى، وبطريقة جديدة، ففي قصيدة «هوية» يقول:

أنا الشعر

والشعر ياقوتتي الأنثوية. 

هل الكون يعلم أني أغنّي لآخر ما 

بعثرته جياد البرّيّة؟

هذا هو تكوين الإنسان الكامل، الذي يجمع الذكورة والأنوثة معاً، ويحمل رسالة روحية لكلّ المعذَّبين والمتألِّمين في الأرض. ورغم هذا الاكتمال، فإنه يعاني من قلق وجوديّ، أقرب أن يكون جزءاً من طبيعته، فهو يجمع بين المتناقضات في المعرفة والحياة: يجمع بين الحقيقي والأسطوري، يجمع بين المدنَّس والمقدَّس. وربّما، تكون قصيدة «العصاقير الطليقة» أوّل نصوصه الكبيرة، ومنها بدأ تميُّزه الشعري؛ إذ تقوم على فكرة تحرُّره من كلّ القيود والاحتياجات، والاقتراب من الرؤية الصوفية، التي تعتمد على الحدس والقدرة المذهلة على الفعل، وإن كان في اللّغة، فقط.

والنصّ كلّه قائم على الاستجابة الداخلية لما يحدث في الخارج، معتمداً على الفيوضات أو التداعي الحرّ للغة والدلالة معاً:

كلّ شيء سوف ينزل ساحه الإشراق 

يجذب مغنطيس الدم مهجته، 

فيصعد ساخناً لدناً، فلحظة بدئه دقّت، 

ودقّ القوم رايتهم، وكان الرمل دفئاً 

كانت الأشجار أكثف من مواعيد الهوى 

وتصل هذه الرؤية ذروتها في قصيده «القاهرة»، وهي تمثِّل اللحظة الفارقة في تطوُّر شكل الكتابة الشعرية في مصر؛ إذ تقوم على البناء السردي الخالص في تتابع وحدات السرد، بدءاً من قريته، ثم الرحلة، ثم محطّة الوصول (القاهرة)، واكتشافها من جديد. كلّ ذلك تمّ من خلال خيال مدني حديث، يعتمد على ما هو مدرَك بالحواس، وعلى اللّغة الحيّة، ذات الدلالات المادّيّة، مثل:

شريط القطارات كان يوازي تفجُّر وردة، 

وكان المساء خواتم ذهبية في الأصابع 

تورد للقلب ما يعجز الصمت أن يحتويه.

ثم يصل إلى القاهرة:

انغرست لافتة أولى

القاهرة 

دخان يقترب 

سماء مدرجة في قائمة الأعمال. 

وفيما بين الحلم ومائدة الإفطار

توابيت تتناسل 

فطر يتناسل 

والساعة، في عكس إيقاع القلب، تدقّ.

ثم القاهرة تؤذّن لصلاة العصر:

تشبّ المآذن فوقاً.. لماذا؟

يسائلني رأسه الكربلائي، وهو قطيع عن الجسد العربي، 

أنظر حولي 

لا طير حَيّ

لا طير مقتول.

كانت تجربة علي قنديل الخاطفة والعميقة مجرَّد إشارة قويّة على شيء كبير، لم يكتمل، و- ربَّما- لم يستطع أحد أن يطوّر هذه التجربة إلّا في الحدود الضيِّقة في بعض نصوص الشاعر الكبير «حلمي سالم».

إنها حالة خاصّة في مجملها، وإن تقاطعت، في تفاصيلها، مع المبدعين الكبار.

لويس سِبّولْفِيدا.. أن تحكي يعني أن تقاوم

في الـ 16 من أبريل عام 2020، أسلم «لويس سبولفيدا» الروح في مدينة «أوفييدو» الإسبانية، متأثراً بتداعيات إصابته بفيروس كورونا (كوفيد – 19) عن سن تناهز السبعين؛ قضى سحابتها في النضال دفاعاً عن القضايا التي يؤمن بها، مرتحلاً من مكان إلى آخر لا يكاد القلم يفارق يُمناه، ولا الكراسة يُسراه، لاعتقاده الراسخ بقوة الكلمة ودورها المحوري في النضال.. لقد كان يؤمن، حتى النخاع، بقولة «غيماراز روزا» التي أوردها في كتابه «جنون بينوشيه»: «أن تحكي يعني أن تقاوم»؛ وهذا ما ظل يقوم به طيلة سنوات حياته.

عرفت سنة 1992 حدثاً أدبياً مهمّاً على المستوى العالمي، تمثلَ في صدور الترجمة الفرنسية لرواية «العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية»، للروائي الشيلي «لويس سبولفيدا – Luis Sepulveda» (صدرت، بالإسبانية، سنة 1989، ونقلها الدكتور «عفيف دمشقية» إلى اللغة العربية، سنة 1993). بفضل هذه الرواية، أصبح اسم كاتبها رائجاً متداولاً بين قراء الأرض؛ بوصفه الشيلي الغريب ذي الأسلوب البسيط الساحر الجذاب، الملتزم بقضايا عصره، لاسيما تفرده بتناول القضايا الإيكولوجية سرديّاً (إعادة النظر في علاقتنا مع الطبيعة)، وانتقاده للأنظمة الشمولية الديكتاتورية (نظام «أوغيستو بينوشي – Augusto Pinochet»، بالخصوص). كانت روايته تلك تحكي قصة الإكوادوري «أنطونيو خوسيه بوليفار – Antonio José Bolivar»، العجوز الذي انزوى لعيش ما تبقى له من حياة في إحدى القرى الأمازونية الصغيرة المأهولة بالهنود الشُّواريين (Shuars)، مكتشفاً متعة الروايات الغرامية التي كانت، بالنسبة إليه، المتنفس الذي -بانغماسه فيه- ينسى بربرية الإنسان، وتجرده من إنسانيته. غير أن حادث مقتل أحد المغامرين البيض ممن يبحثون عن الذهب، ويطاردون الحيوانات والسلالات النادرة، جعله -لظروف معينة- يضطر إلى مغادرة متعته للقيام ببحث شبه بوليسي، ليكتشف، في النهاية، الجاني: أنثى نمر غاضبة تثأر، لا شك في ذلك، ممن حرمها صغارها. وقبل أن يجدها، يسبقه الصيادون إليها، ويردونها قتيلة، ليبكيها «بوليفار» بحرقةِ من عاين، بالملموس، وحشية الإنسان ولامبالاته حتى بالقيم الإنسانية السامية في سبيل تحقيق مآربه. 

وُلد «لويس سبولفيدا» في الرابع من أكتوبر، سنة 1949، بمدينة «أوفال» في الشيلي. انخرط مبكراً في مسيرة النضال، قبل أن يَزج به نظام «بينوشي» في السجن، سنة 1973؛ وقد استعاد «سبولفيدا» هذه الفترة المظلمة القاتمة من حياته في كتابه «جنون بينوشيه» الصادر سنة 2003. وبعد صراعات مريرة مع النظام الحاكم، سيغادر ليمضي فترة من الزمن متنقلاً بين عدة مناطق في أمريكا الجنوبية. وقد مكنته مشاركته في بعثة لليونسكو للبحث في آثار الاستعمار الإسباني والبرتغالي للسكان الأصليين/ الهنود الحمر، من فهم الإنسان الأمريكي الجنوبي متعدد الثقافات، بصفة خاصة، والإنسانية جمعاء، بصفة عامة؛ وهو ما تجلَّى واضحاً في نِتاجه الأدبي، قبل أن يهاجر إلى ألمانيا ممارساً مهنة الصحافة (عمل مراسلاً في عدة مناطق في العالم)، ومناضلاً في منظمة «السَّلام  الأخضر – Greenpeace»، لينتقل بعدها إلى الاستقرار في إسبانيا.

تنوعت كتاباته -عبر ما يناهز الثلاثين مُؤَلَّفا- بين الرواية، والمقالة الصحافية، والقصة القصيرة، والقصة الموجهة للأطفال. ومن أهم ما عُرف به، عالميّاً، بالإضافة إلى الرواية الآنف ذكرها (العجوز الذي…)، رواية «عالم أقاصي الأرض»، والرواية القصيرة «خط ساخن» (نقلها إلى العربية «محمود عبد الغني» سنة 2008)، والرواية القصيرة «قطار باتاغونيا السريع» (نقلها إلى العربية «إلياس فركوح» سنة 2008)، والرواية القصيرة «مذكرات قاتل عاطفي» (نقلها إلى العربية «إسكندر حبش» سنة 2002)، والقصة الموجهة للأطفال «قصة النورس والقط الذي علَّمه الطيران» (نقلها إلى العربية «رفعت عطفة « سنة 1999)… ملتزماً فيها، بأكملها تقريباً بالأسلوب نفسه الذي يجمع البساطة، بالبحث شبه البوليسي، بهاجس الارتحال الدائم، وبالالتزام بالقضايا الإيكولوجية، وبالتشويق. 

تأثر «سبولفيدا»، في حياته، بمجموعة من الأدباء العالميين؛ منهم: «جول فيرن»، و»جاك لندن»، و»إرنيست هيمنجواي»، و»روبرت لويس ستيفنسون»… مؤكِّداً، في أحد حواراته؛ أن الفضل يعود، أساساً، إلى جده الذي كان مولعاً بالقراءة، فنقل شرارتها، من ثَمَّ، إليه، وبفضله تعرَّف بالكاتب الشيلي «فرانسيسكو كولوانا» (1910 – 2002) الذي ترك فيه وفي أعماله عظيم الأثر. وبالنظر إلى ممارسته للأدب الملتزم، فهو يجاهد من خلال أعماله الإبداعية إلى أن يصل قراؤه إلى الخلاصات نفسها التي تتوصل إليها شخصياته الحكائية، دون أن يكون في ذلك مصادرة لحرياتهم أو فرض وجهة نظر الكاتب عليهم، بل هي مناسبة، بالنسبة إليهم، لاكتشاف ثقافات جديدة، وعلاقات بمعايير مخصوصة، ودفعهم -من ثَمَّ- إلى إعادة التفكير في شرطهم الإنساني. لكلّ هذه الأسباب، ولغيرها، تُرجمت أعماله إلى عدد كبير من اللغات فاق الأربعين لغة.

لم يكن نشاط «سبولفيدا» مقتصراً على الأدب، فحسب، بل إنه شارك -بشكل واسع- في مجال إغناء الثقافة البصرية، من خلال إخراجه لأربعة أفلام، على رأسها فيلم «لا مكان»، الذي نال، بفضله، جائزة الجمهور في مهرجان مارسيليا، سنة 2002. كما كتب خمسة سيناريوهات، أهمها مشاركته في كتابة سيناريو فيلم «أرض النار»، سنة 2000. ولم يكتف «سبولفيدا» بهذا، بل إنه أنتج، وصوَّر، ومثَّل، كذلك، مذكِّراً إيّانا بمواطنه «أليخاندرو جودوروفسكي»، عملاق التجريب الموسوعي.

عبد الوهاب عيساوي: أنتمي إلى جيل لا يهتم بالتاريخ كثيراً

عبد الوهاب عيساوي، روائي جزائري (مواليد 1985)، مهندس دولة الكتروميكانيك، يعمل بمهنة مهندس صيانة. فازت روايته الأولى «سينما جاكوب» بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية، العام 2012. وفي العام 2015، حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر، عن رواية «سييرا دي مويرتي». وفي العام 2016، شارك في «ندوة» الجائزة العالمية للرواية العربية (ورشة إبداع للكُتّاب الشباب الموهوبين). فازت روايته «الدوائر والأبواب» بجائزة سعاد الصباح للرواية (2017). كما فاز بجائزة «كتارا» للرواية غير المنشورة، العام 2017، عن عمله «سفر أعمال المنسيين». وفي 14 أبريل 2020، فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية في طبعتها الثالثة عشرة، عن روايته «الديوان الإسبرطي» الصادرة عام 2018، عن «دار ميم» بالجزائر، قبل أن تصدر في عدة طبعات عربية، ليكون أوّل جزائري يفوز بالجائزة. في هذا الحوار، يتحدث عيساوي، إلى مجلة «الدوحة»، عن روايته المتوجة بالبوكر، وعن النقاط التي أثارتها، وعن تجربته في كتابة الرواية التاريخية، وأسباب اِهتمامه بالتاريخ واستحضاره وتوظيفه سردياً، مؤكداً، في هذا السياق، أنّ راهنَ الإنسان العربي يُجبرنا على العودة إلى التاريخ من أجل إعادة قراءته، وأنّ الرواية تجيدُ وبشكلٍ كبير، هذه القراءة.

أوّل كاتب جزائري يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية، «بوكر» دورة 2020، عن روايتك «الديوان الإسبرطي»، كما فزتَ -سابقاً- بجوائز أدبية مُهمة، سواء على المستوى المحلي أو العربي. لكن جائزة البوكر جاءت لتتوّج تجربتك. كيف اِستقبلت هذا التتويج؟ وكيف تنظر إلى الجوائز؟، وما الّذي تُضيفه هذه الأخيرة إلى مسار الكاتب؟

– كما هي التتويجات، دائماً. بكثير من الفرح، هذه المرّة، اِستقبلتُ تتويجي الأفضل بجائزة «بوكر»؛ لقيمتها الأدبية، ولكونها إضافة مختلفة تَمنح الروائي قدراً مُهماً من الاِنبثاق والتألق، وتُثمِّن المشروع الروائي للكاتب، بعد سنوات من المُمارسة والاِشتغال والبحث.. الأكثر من ذلك، هي تُقدّمك للقارئ العربي والقارئ العالمي على أحسن صورة، من خلال التوظيف الإعلامي المُمنهج، والمُتابعة المُستمرّة التي لا تنتهي باِنتهاء حفل التتويج لأنّها تفتح باباً فعلياً لقراءة النّص بلغات مُختلفة، من خلال الترجمة الاِحترافية للعمل الفائز مستهدفةً قارئاً مُختلف الثقافة والرؤية، ومُجسِّدة صورةً مُثلى عن محمولاتنا الثقافيّة لدى الآخر، بكلّ تمثلاته.

 الرواية ركزت على الحيز الزمني المُمتد من 1815 إلى غاية 1833، مُتكئةً على وجهات نظر لخمس شخصيات روائية مختلفة ومتعدّدة في اِنتماءاتها وأفكارها، وفي مواقفها وقراءاتها وقناعاتها. هل يمكن القول إنّ هذا الحيز الزمني تناول حقبة إشكالية، غفلَ عنها السرد أو المتن الروائي الجزائري، ولهذا واجهتْ الرواية بعض الاِنتقاد؟

– لم تحظَ الفترة الأخيرة من حُكم العثمانيين، في الجزائر، وبدايات الاِستعمار الفرنسي، بقراءات روائية عربية (على الأقلّ، فيما أعرفه)؛ من هنا، تُعتبر الفترة أرضية خصبة يتكئ عليها أي روائي من أجل قراءتها قراءةً روائية تخييلية، مُستعيناً بالتاريخ، لكنّه لا يقوله، ولا يقدم حُكماً نهائياً وإلاّ فسيصير مُؤرخاً! بالتأكيد، سيكون هناك تباين في المواقف، عند تلقّي النّص، بين مؤيد ومعارض، غير أنّ الموضوعة التاريخية -بوصفها معاملاً فنّياً- تُتيح للسارد مُمارسة فِعل التخييل، والتأثيث، والمناورة، بعيداً عن التقيّيد التاريخي الصارم.

إنّ طبيعة الموضوع حساسة، خصوصاً في المُتخيل العربي، لكنّ تسليط الضوء على هكذا أحداث، من منظور فنّي، يجعل العمل محطّ الأنظار، ومن الطبيعي أن يُثير كثيراً من الأسئلة، وكثيراً من «التجنّي»، أيضاً، لكنّه يبقى -في النهاية- عملاً فنّياً بعيداً عن «الأدلجة» والأحكام المُسبقة، فالرواية عملٌ حكائي يُحرض على فتح الأسئلة، وكشف «المسكوت عنه»، وتقديم وجهات النظر كلّها دون تحيُّز إلى جهة، فليست الرواية كِتاب تاريخ. 

وجهات نظر مختلفة طرحتها شخصيات الرواية. بعضها تمّ اِلتقاطها أكثر، ووظّفَتْ بشكل مُساءلة أو بشكل إدانة لكَ، بصفتك كاتباً. كيف تُفسر هذا الاِلتقاط، وهذا التوظيف المُدين، والمُسائِل؟

– تُروى رواية «الديوان الإسبرطي» على لسان خمس شخصيات: شخصيتان فرنسيتان، وثلاث شخصيات جزائرية، من بينهم اِمرأة مغلوب على أمرها، عبّرت عن شهادتها اِنطلاقاً من ثقافتها الشعبية البسيطة، بينما عبرّ (ابن ميار) عن رؤيته التي تتبنى وجهة النظر العثمانية، بوصفه رجلاً من الأعيان مُقرباً من البلاط، بالإضافة إلى الشخصية الثالثة لشاب من الوسط الشعبي، يرفض أن يحكمه حاكم غير جزائري، سواء أكان عثمانياً أم كان فرنسياً. كلّ شخصية، في الرواية، عبّرت عن وجهة نظرها باِقتناع، إذ يجد القارئ نفسه مُقتنعاً بوجهة نظره الشخصية، فيتعاطف معه، ويتبنى رأيه إلى غاية اِنتقاله إلى الشخصية التي تليها. هذه الطريقة في البناء، الّذي يَقترب أكثر من المحاورات، تُعطي الفن مصداقية (وجهة نظري، على الأقل) في طرح كلّ الأفكار، سواء التي نتفق لها أو نختلف؛ هناك، دائماً، تقاطب مبنيّ على: مع أو ضد، أو -ربَّما- القول تضادات أو توافقات مفاهيمية بين الشخصيات. كُتبَ النصّ قصداً، بهذه البنية الكورالية أو البوليفونية، ليحتمل الحدث أكثر من رواية، ويُنظر إليه من زوايا مُتعددة، فالحقيقة ليست واحدة، ومفهوم الشيء يختلف من المنظور الّذي يُرى منه؛ ومن هنا يكون الروائي، في هذا البناء، مثل «مايسترو» يُنسق بين أصوات الكورال، دون السماح بالنشاز، أو أن يتجاوز أي صوت حجمه الّذي يخلق الاِنسجام الكلي للنصّ.

الكثير من القُراء لديهم لَبْس بين الروائي والشخصية الروائية، ويقرأون الرواية مثل الكِتاب التاريخي، فيضعون الكل في كفة واحدة، بالإضافة إلى سيطرة الكثير من الأيديولوجيات، كلٌّ يحاول أن يُؤدلج الرواية، مُؤوِّلاً إياها حسب وجهة نظره، رغم أنّ الرواية اِنفتحت على جميع وجهات النظر، ولم تُغفل أي جهة؛ هي رواية تستوعب الكل مثل الحياة، ولم تغلِّب جهة على أخرى، حتى وجهات النظر الغربية، كانت متقاطبة، بين شخصيتين لا تكادان تتفقان حول نقطة واحدة، في علاقتهما بموضوع الرواية. أظن أنّ التضييق السياسي أسهم، أيضاً، في جعل الكثير من الشعوب تعتقد (لا شعورياً) بالرؤية الواحدة، وأصبح الاِختلاف مثار شك، أو حالة سوء فهم دائم. 

هل بناء شخصيات مُتخيلة، في عمل روائي، أسهل من توظيف شخصيات حقيقية، خاصةً أنّ توظيف شخصيات حقيقية، في أعمال روائية، كثيراً ما يُقابَل ببعض الجدل؟

– قبل أن تُبنى الشخصية الروائية، يُفصل في المفهوم الّذي تحمله، ورأيها في الأحداث التي سترويها في الرواية؛ من هنا، اِنطلاقاً من هذا المفهوم، يبدأ الروائي في بناء هذه الشخصية، باحثاً عن أخرى حقيقية تُوازيها، أو تتبنى موقفها، ومن عديد الشخصيات الحقيقية تتشكل الشخصية التخييلية. بالتأكيد، ستبقى هناك فراغات، يملؤها الروائي بِمَا يُناسب رؤيتها، اِنطلاقاً من أبحاثه أو توثيقه حول طبيعة المرحلة التي يكتب عنها، والناس الذين عايشوها، والظروف الاِجتماعية، والسياسية لتلك المرحلة. أمّا الكتابة عن شخصية حقيقية، فهذا أمرٌ مُختلف، إذ يكون الروائي أقل حريّةً، وستواجهه الكثير من الحدود التي يصعب عليه تجاوزها، مثلما لم تسلم رواية كُتبت عن شخصية حقيقية، من النقد.

في «الديوان الإسبرطي»، كما في رواياتك السابقة، تُعيد تحيين الأسئلة من خلال التاريخ. إلى أي حد يمكن للكاتب أن يُوَفَّق في هذا التحيين، وفي إسقاطه على الراهن؟

– الرواية تُرهِّن المفاهيم لا الأحداث، وفي الأخير يبقى التاريخ مُتكأً؛ وذلك للعلاقة القائمة بين الرواية والتاريخ (كلاهما سرد يقدم معرفة)، غير أنّ الرواية تختلف عنه في النظرة المُتعددة، فهي لا تؤمن بيقين واحد، بينما يُكتب التاريخ وفق وجهة نظر تكاد تكون أحادية، وتستفز الرواية على القراءة المتعددة، لأنّها تؤمن بالاِختلاف. نحن نفتقر إلى الكثير من الحرية السياسية والفكرية في الحياة، والرواية تحاول الاِشتغال على بثّ هذا المفهوم في القارئ، بوصفه حالة قابلة للتلقّي والتفاعل، الأمر كله منوط بحرية القراءة والتفكير بعيداً عن الأدلجة.

اعتمدت الرواية على تجميع مصادر وأرشيف وخرائط ومذكرات الوجود العثماني في الجزائر، لكن عنصر التخييل حاسم في سرد حكاية. كيف كان الاتصال والانفصال بين ما هو توثيقي وما هو تخييلي، في أثناء الاشتغال على هذا العمل؟

– يستدعي بناء عالم حكائي مُقنع الاِستعانة بالوثائق والخرائط، فالمفاهيم لا تتجول، بحرية، في النصّ، بل تحملها شخصيات مُتخيلة، يجب أن تكون أكثر إقناعاً لدى القارئ، وكلما كانت الشخصية مُقنعة في علاقتها بالزمن الّذي تعيشه، وحيّة في المكان الّذي تملؤه، وحقيقية تجاه الأحداث التي تشهدها، يكون خطابها مُبرراً، ووجهة نظرها معقولة لدى القارئ، ويبقى الخيال للتوليف بينها وبين خطاباتها، وملء الفراغات التي لا يمكن للتاريخ الرسمي أن يشملها؛ أقصد تلك التفاصيل الهامشية، والاِجتماعية، والنفسية من حياة الناس، أو ما يمكن تسميته (التاريخ الاِجتماعي للإنسان).

هل يمكن إعادة الوهج للتاريخ، من خلال السرد؟

– يصوغ الروائي العالم حسب وجهة نظر شخصياته، ولا يكتب تاريخه الرسمي، بل رؤية أخرى موازية، وهو إمكانٌ قد يتحقق أو لا يتحقق، هي فكرة أقرب منها إلى الفلسفة، يمكن قراءة رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ كتاريخ اِجتماعي لشخصياته البسيطة، وليس كتاريخ رسمي. في الأخير، ذلك ليس بحثاً عن مجد يبتغيه الروائي، بل هو محاولة لإبراز المُغيّب من الحقائق التاريخية، خصوصاً الاِنتصارات الوهمية، والهزائم المفبركة.. لأنّ تاريخنا العربي، في كثير من محطاته، كَتبه المستشرقون، أو -بعبارة أخرى- المنتصرون.. وقد تكون الرواية تاريخاً للمهزومين. 

ما الّذي يدفع الجيل الجديد للاِشتغال على التاريخ وتوظيفه، واِستحضاره، واِستثماره في الرواية؟

– ربّما، لأنّنا لم نفصل، بعدُ، في علاقتنا بالتاريخ، أو -بالأحرى- لم نُحدد علاقتنا به، واعتقدنا أنّ كلّ أسئلتنا الراهنة هي راهنة بالفعل، بالرغم من أنّها قد طُرحت قبل مئات السنين، ولم تُحسم، بعدُ، الإجابة عنها، يضطر الروائي، حينئذٍ، إلى العودة إليها، في الزمن الّذي تولدت فيها، يفلسفها في فضائها الأوّل، محاولاً إيجاد قراءات مختلفة لما يحدث اليوم.

المُلاحظ، في تجاربك الروائية، أنّها تتكئ على التاريخ. لماذا هذا الاِستنطاق، وهذا النبش من كاتب شاب ينتمي إلى جيل (الميديا)، بكلّ حمولاتها وطفراتها؟

– ربّما، أنتمي إلى جيل لا يهتم بالتاريخ كثيراً، ولكني -بصفتي روائياً- أرى أنّ الأمر يختلف؛ لأنّ راهنَ الإنسان العربي يُجبرك على العودة إلى التاريخ من أجل إعادة قراءته. أشياء كثيرة بقيت على حالها، وأسئلة راهنة عميقة تتعلق بالكثير من الصراعات الهوياتية، واللغوية، والحضارية (خاصة في الجزائر) تطفو كلّ يوم، ويُعاد تحيينها، ولكن في شكل جدالات متواصلة. الأمر ليس اِختياراً، بل هو اِنسياق معرفي/سوسيولوجي، وربّما وجداني، أيضاً، فقد علمتني الرواية الحفر في المُضمر والمُغيّب، مهما كانت الموضوعة؛ فما بالك إذا تعلق الأمر بالتاريخ؟ إنّ الفضول «الروائي» –إن صحَّ التعبير– يدفعني، دائماً، إلى البحث عن أجوبة لكثير من الأسئلة العالقة، الأسئلة التي لا يمكن مناقشتها إلاّ في نصّ روائي منفتح على رؤى متعددة، ومُستوعب للكل، دون تحيّز.

هل من مهام الروائي مُساءلة التاريخ واستنطاقه؟

– ليس من مهام أحد مُساءلة التاريخ أو «محاكمته»، طبعاً. حتّى المؤرخ له مناهج تحكمه، ووثائق لا ينبغي له تجاوزها أو القفز عليها، إلاّ أنّ الرواية هي التي تتّسم بها بالمرونة كما الفنون الأخرى، بوصفها عملاً تخييلياً يتمتّع بهامش أكبر للحرية، يمنحها مساحةً أوسع للإيغال في هكذا نقاط ظلّ. فالرواية التاريخية -بتعبير المغربي عبد اللطيف محفوظ- لا تحفل كثيراً بإبعاد شُبهة المزج بين الواقعي والتخييلي، ولا تحفل باِلتزام الأمانة، لأنّ طبيعتها تفرض المراوحة بين الواقعي والمُحتمل..؛ من هنا يمكنني القول إنّ النقاط التي أثارتها روايتي «الديوان الإسبرطي» لا ينبغي أن تخرج عن هذا الإطار الفنّي، بعيداً عن الشحن الإيديولوجي، والإعلامي، فالفنّ معادلٌ للحرية، وليس من شأنه أن «يتأدلج» أو «يتسيّس» أو«يحاكِم» التاريخ إلاّ بِمَا تقتضيه العملية الفنّية، فحسب.. والروائي في هذا «الزّخم» يُمثل عنصر الحياد، بعيداً عن كلّ تأويل.