علي قندي.. أيقونة شعر السبعينيات

شهدت القاهرة، منذ السنوات الأولى في عقد السبعينيات، ظهور حركة الشعراء، وجمعتني- على المستوى الشخصي- صداقة حميمة بالشاعرين: علي قنديل، وحلمي سالم، أكَّدت لي أن هناك جيلاً جديداً من الشعراء الجدد، في القاهرة وفي الأقاليم، يكتبون برؤًى متقاربة ومختلفة عن قوانين الكتابة الشعرية السابقة، ومن خلال أساليب وتقنيات لم تألفها الكتابة الشعرية من قبل، حتى أن كثيراً من النقّاد المعروفين شاركوا في الحملات التي وُجِّهت ضدّ الجيل الجديد، سواء من قِبَلِ مؤسّسات ثقافية أو مجلّات وصفحات ثقافية في الصحف. كان شعراء السبعينيات جميعاً يحسّون، منذ البداية، بوجوب تلاقيهم لكي يتمكّنوا من الاستمرار، ومن طرح مالديهم من رؤى وتصوّرات، آمنوا بها وناضلوا لأجلها. ارتبطتُ بهذين الشاعرين بقوّة، وحضرنا معاً مجموعة كبيرة من الندوات الشعرية في قصور الثّقافة وفي جامعات مصر، وفي أماكن أخرى، أهمّها الندوة التي أقامها المركز الثّقافي الروسي في أوائل فبراير/شباط 1975، والتي فوجئنا فيها، عندما دخلنا إلى المنصّة المُقامة على خشبة المسرح، بجمهور ضخم، لم نعهد مثله من قبل؛ فقد امتلأت الصالة عن آخرها، كذلك (البلكون) في الطابق الثاني، وقد نجحت هذه الندوة نجاحاً ساحقاً، لازال عدد من المثقَّفين يذكرونه حتى الآن. 

وعلي قنديل ابن قرية الخادمية، مركز كفر الشيخ. كان شاعراً متفوِّقاً بين أقرانه السبعينيّين، فهو الذي سبق الجميع بتلمُّسه لخصائص الرؤية الشعرية الجديدة، على الرغم من أنه توفّي عن عمر يناهز اثنين وعشرين عاماً، بعد أن صدمته سيارة طائشة، في السابع عشر من يوليو/تموز، 1975م، وكان وقتها يدرس في كلّيّة طبّ القصر العيني. 

يعدّ علي قنديل أحد روّاد قصيدة النثر الجديدة، وقد ترك ديواناً وحيداً، هو «كائنات علي قنديل الطالعة»، وقد كتب مقدِّمته الشاعر محمد عفيفي مطر، وصدرت طبعته الأولى عقب وفاته مباشرةً، وقد طُبِع، بعد ذلك، عدّة مرّات. 

تبنّى المبدعون، في السبعينيات، فكر الحداثة، وطرح المثقَّفون، في التوقيت نفسه، معنى التعدُّد في السياسة، وفي الفكر، وفي الأدب؛ فالرؤية الحداثية تتجاوز الأحادية الفقيرة، وتخلق نوعاً من التفاعل بين مستويات عديدة، وبادر الشعراء بإجراء الحوار مع التراث العربي والتراث الإنساني، من خلال لغة القرآن الكريم، وأجواء الشعر العربي القديم، وأحاديث القدماء، ومن خلال الاهتمام بالأيقونات القبطية، وأحاديث القدّيسين.. وهكذا. واهتمّ شعراء السبعينيات بالاستعاريات الرمزية، حتى جعلوا المتنبّي- على سبيل المثال- يعيش في المنزل العصري، ويجلس في المقهى، ويتجوّل قي المتحف.. إلخ. وكان هناك حوار مع الغرب، في الوقت نفسه، واستفادات من فكر ماركس، وبيكاسو، وسان جون بيرس…

في هذه المرحلة، وعلى ضوء هذه التحوّلات، تكوّنت، في مصر، جماعتا «إضاءة 77»، و«أصوات». وكان هناك عدد كبير من الشعراء المستقلّين، وتوطّدت العلاقات مع الشعراء الحداثيّين، في الخليج، وبيروت، والمغرب. وارتبط الحداثيون بالأيديولوجيا، وتفاعلوا مع الثوريين، وتعاطفوا مع مظاهرات الطلَبة، في عام 1968 وما بعده.

سبق الشاعر علي قنديل أبناء جيله جميعاً (برغم حداثة عمره) في اكتشاف طبيعة الرؤية الحداثية، بحيث تكون هذه الرؤية قادرة على التعبير عن خصوصية واقعنا المحلّي، وقدَّم أشكالاً شعرية تعتمد المجاز اللّغوي الكثيف، والاستعارة، وكان هذا- في حَدّ ذاته- تعبيراً حداثياً يبحث عن التعدُّد، هرباً من الأحاديّات التاريخية التي استتبَّت في الفكر وفي الإبداع، حتى أن عفيفي مطر وَصَفه بأنه الساحر الكاهن الشاعر الطبيب، لأنه استطاع- بالفعل- أن يستخدم الطاقة السحرية للّغة، من خلال تركيباته اللّغوية شديدة الخصوصية، من قبيل: (عروق الصحراء، ومساحات الأوجه الميِّتة، وبقعة النور التي تنمو كوردةٍ)، وغيرها، كما في هذا المقطع: 

يمكن لعبق النارنج أن ينبُتَ بين عروق الصحراء 

وأن يكتبَ تاريخهُ على مساحات الأوجه الميِّتة 

حين يسقط الظلّ كاشفاً عن بقعة النور التي 

تنمو كوردةٍ تمتدّ في كلّ اتجاه… ويستدرجُ 

الساحرُ الآدميّ شمسهُ من مدارات الغروب.

ولَدى قنديل قدرة مذهلة على تقمُّص الروح التراثية، واستثمارها إبداعياً، بشكل شديد الوعي، و- بخاصّة- في نصوص التصوُّف الإسلامي. وفي تجربته، يستخدم، بشكل عامّ، ألفاظاً وتراكيب لغوية، من مثل : (العرش- لا أفق يُبصرني- الرجاء- إشراقة- مخاطبات- لا أفق يدركني ولا سماء- أبقى أنا السرّ وحدي- ماعاد سرّاً خبيئاً- منذ ابتداء الزمن…). ولديه هذاالمقطع الذي يفيض بالمعنى المستفيد من الحسّ الصوفي: 

تأتي لكلّ قارئ قراءة

وكلّ مبصر تأتيه شمعةٌ مضاءة

ومن أباح الحبّ.. ملكه السماء

ومن تطهَّرَ قلبه بالدمع.. أشعل الفضاء.

وعلى الرغم من الحسّ المجازي والاستعاري المستشري في كتابة الشاعر، والاستفادة الكبيرة من المعاني الصوفية، إلا أن دوافعه الجمالية مرتبطة بالواقع اليومي المعيش، وبحياته الفعلية، بكلّ مافيها من تفاصيل حَيّة، ومعطيات مرتبطة بالواقع، وقصيدته (القاهرة)- على سبيل المثال- مثال واضح على هذه القضيّة، وحين نقرأ المقاطع الأخيرة منها، سنكتشف أن النصّ يحكي عن الإحساس بازدحام المدينة العنيف، لكن، بالمقـــــابل،  يتضمَّن- في الوقـــت نفسه- إحساساً حضارياً عنيداً يرى أن على المثقَّف الكبير أن يفهم التعقيد المديني الحديث، وأن يعرف كيف يعايشه، وكيف يقيم علاقاته الإنسانية داخل هذا التعقيد.

القاهرة تُحكِم قيودها، والزمن يسير باتِّجاه عكسي لما يريده الشاعر، هندسة الوجود تسيطر على رائحة الحياة، وتدور الذات في متاهة الحياة اليومية المخيفة، ويصبح القتل رمزاً لكلّ أشكال القهر، ويقيم المونتاج الشعري غابة من التداخل بين معطيات الحياة، مازجاً بين ما هو شخصي، وما هو جمعي. 

ويستعرض الشاعر، بشكل شعري رفيع المستوى، تفاصيل حياته اليومية الواقعية التي هي رموز للحياة في المدينة العصرية : (أتوبيس124 – كلّيّة الطب – دخان الغليون في الكافيتريا – بعض المثقَّفين- كبريت – ساعة تدقّ – شريط القطارات – الشوارع…)، ويظلّ معنى الازدحام عبئاً، بامتداد النصّ، يطرح إحساسه الشخصي الدائم بالاختناق، وبالوحدة داخل هذا الازدحام، وبأنه منفيّ داخل وطنه. ومن هنا، يكون مبدأ الرفض الذي يبرّر المعنى الفلسفي الذي يستنكر وجود القاهرة، بل وجوده الشخصي نفسه. لكن، بالرغم من كلّ شيء، يظلّ الشاعر البعيد كلّ البعد عن العدميّة، يحلم بالاندماج بتاريخ مصر، وبماء نهر النيل:

صلصلة قيودي تجرُّني،

في الصباح:

أتوبيس 124،

كلّيّة الطب – دخان الغليون في

الكافيتريا – بعض المثقَّفين.

وتتضخَّم دائرة/ زنبقة وحشية

ياالله ! زنبقة وحشية!

 

النيل – حوار:

ساجد

من بدأ أوّل وردة قامت وصمتك ضفّتان؟

عطش السنين صفاؤك السطحي، أم بدأ الحوار؟!

رأيت.. أدركت، اختبأت مقلِّداً حزن اليمام موحِّّدا.

ساجد

من بدأ أوَّل وردة قامت وصمتك موتتان:

أرق السنين نسيمك المطوي، أم شوك الديار؟

سبحت في الزمن.. استبحت تمثُّل الموت، انقطعت

عن الكلام مُسَهَّداً.

إني وحيدٌ مثل وحدتك الطويلة.. 

شدّني لخلودك المعقود.

 

ساجد

من بدأ أوَّل وردة قامت وصمتك طعنتان؟

لا شمس،

لا كبريت،

لا تبغي الحوار.

 

رأيت.. يا ما قد رأيت، ولم تحرِّكك المنى

لم تغرك الأشعار

لم تضطرب للريح،

لم تصعد لأعلى.

 

(آه من لحن الفرار:

صار منفاي الوطن

وطني صار الفرار)

يقترب..

دخان يقترب

ساعة، على عكس إيقاعات القلب تدقّ

لكنني أرى: 

أرى يوماً – ربَّما قريب كأصابع اليد – يأتي

يقف العالم معصوفاً، ويثبت كلّ ذي حال

على حاله:

اليد القاتلة يشهد عليها دم القتيل،

والكتاب الخائن تنحلّ عنه أحرفه،

والماء المغتصب ينتفض،

الذبائح تستيقظ، والخوف يصير التيّار الجارف

النهر الذي سكت ينطق، ومن تكلَّم يسمع

يوماً.. ربَّما قريب كدم محتقن.

اقتربْ، يا دخان،

ويا عرباتُ، ازحفي،

وانطرق- يا حديد- على قبرة القلب.

 

لا القاهرة تبقى قاهرة

ولا الدلتا دلتا

ولا الشاعر مسجوناً في لسانه. 

 

ساعة تدقّ

«الوقت متأخِّر»

والسماء تترك الغرفة للأجنحة السوداء، ينثرها

طائر الرعب الأليف،

 

آه، شريط القطارات،

يخرجون للشوارع نزفاً من جرح أبله،

يسابقون الضوء الخائب،

ويقومون من سقطة إلى أخرى، كالديدان المشرقة..

ما أبهج المرارة!!

 

نام المقطّم فوق جفني،

وظلّ قفص الصدر يحبسني

غيباً وعصفوراً خريفياً

اقذف حصان النار يرفسني،

أو صبَّني في النهر محلولاً هلاميّاً.

رحيل إرنيستو كاردينال.. شاعر الثورة السندينية

في‭ ‬بداية‭ ‬مارس‭/‬آذار‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬رحل‭ ‬شاعر‭ ‬نيكاراغوا‭ ‬الأوّل‭ ‬إرنيستو‭ ‬كاردينال‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬ناهز‭ ‬95‭ ‬عاماً،‭ ‬بعدما‭ ‬‮«‬أمضى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬والعلاجات‭ ‬في‭ ‬المستشفيات‭ ‬لم‭ ‬يتوقَّف‭ ‬أبداً‭ ‬خلالها‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬ونشره‮»‬‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬تصريح‭ ‬الكاتبة‭ ‬لوث‭ ‬مارينا‭ ‬أكوستا‭ ‬مساعدة‭ ‬كاردينال‭. ‬وما‭ ‬بين‭ ‬الدموع‭ ‬والأحاديث‭ ‬الحزينة‭ ‬تجمع‭ ‬الناس‭ ‬ليودّعوا‭ ‬شاعر‭ ‬الثورة‭ ‬السندينية‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬أشعاره‭ ‬الملتهبة‭ ‬والعميقة‭ ‬تتردَّد‭ ‬على‭ ‬الأفواه،‭ ‬ملهمة‭ ‬حماس‭ ‬شعب‭. ‬رحل‭ ‬الشاعر‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬المواجهة‭ ‬ضد‭ ‬الطغاة‭ ‬جارحاً‭ ‬مثل‭ ‬شوكة‭ ‬في‭ ‬الحلق‭ ‬أعداء‭ ‬شعبه،‭ ‬فنال‭ ‬احترام‭ ‬العدو‭ ‬قبل‭ ‬الصديق،‭ ‬فقد‭ ‬أشار‭ ‬بيان‭ ‬الرئاسة‭ ‬الموقَّع‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬دانييل‭ ‬أوتيغا‭ ‬وزوجته‭ ‬روساريو‭ ‬موريو‭: ‬‮«‬إننا‭ ‬نعترف‭ ‬بإسهاماته‭ ‬في‭ ‬نضال‭ ‬الشعب‭ ‬النيكاراغوي،‭ ‬كما‭ ‬أننا‭ ‬نعترف‭ ‬أيضاً‭ ‬بجميع‭ ‬مزاياه‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنِّيّة‭ ‬والأدبية،‭ ‬وبشعره‭ ‬الاستثنائي‮»‬‭. ‬

ولد‭ ‬إرنيستو‭ ‬كاردينال‭ ‬في‭ ‬غرناطة‭ (‬نيكاراغوا‭) ‬في‭ ‬20‭ ‬يناير‭/‬كانون‭ ‬الثاني‭ ‬1925‭. ‬وهو‭ ‬الوريث‭ ‬لتقاليد‭ ‬شعرية‭ ‬عريقة‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬بارزين‭ ‬مثل‭: ‬روبين‭ ‬داريو،‭ ‬كارلوس‭ ‬مارتينيث‭ ‬ريباس،‭ ‬بابلو‭ ‬أنطونيو‭ ‬كوادرا،‭ ‬كلاريبيل‭ ‬أليغريا،‭ ‬فرانسيسكو‭ ‬دي‭ ‬أسيس‭ ‬فرنانديث‭ ‬وجيوكندا‭ ‬بيلي‭…‬

درس‭ ‬كاردينال‭ ‬الأدب‭ ‬والفلسفة‭ ‬في‭ ‬ماناغوا‭ ‬وفي‭ ‬المكسيك،‭ ‬وتابع‭ ‬دراسات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتَّحدة‭ ‬وأوروبا‭. ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1965،‭ ‬تمّت‭ ‬تسميته‭ ‬‮«‬كاهناً‮»‬‭ ‬وفيما‭ ‬بعد‭ ‬سيستقر‭ ‬في‭ ‬أرخبيل‭ ‬سولينتينامي‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬بحيرة‭ ‬نيكاراغوا‭ ‬العظمى،‭ ‬حيث‭ ‬سيؤسّس‭ ‬مجتمعاً‭ ‬من‭ ‬الصيادين‭ ‬والفنَّانين‭ ‬البدائيين،‭ ‬وهو‭ ‬مجتمع‭ ‬سيصبح‭ ‬مشهوراً‭ ‬عالمياً‭. ‬هناك‭ ‬سوف‭ ‬يكتب‭ ‬الشاعر‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬إنجيل‭ ‬سولينتينامي‮»‬‭. ‬ويعتبر‭ ‬هذا‭ ‬الأرخبيل‭ ‬محج‭ ‬أتباع‭ ‬الشاعر‭ ‬المخلصين‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬إرنستو‭ ‬كاردينال‭ ‬يقضي‭ ‬عطلته‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الجزر،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يقرأ‭ ‬أعمال‭ ‬روبين‭ ‬داريو‭ ‬الكاملة،‭ ‬ويكتب‭ ‬أشعاره‭ ‬أو‭ ‬يترأس‭ ‬قداس‭ ‬عيد‭ ‬الفصح‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬القرية‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬ستصير‭ ‬أحد‭ ‬المعاقل‭ ‬الأساسية‭ ‬المعارضة‭ ‬لنظام‭ ‬سوموزا‭. ‬من‭ ‬هنالك‭ ‬سيُطرد‭ ‬كاردينال‭ ‬ومجتمعه‭ ‬الصغير،‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬حرس‭ ‬سوموزا‭ ‬الذي‭ ‬اجتاح‭ ‬الجزر‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وهاجم‭ ‬ودمَّر‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬شيّده‭ ‬الفلّاحون‭ ‬والصيادون‭ ‬والفنَّانون‭ ‬المتحلِّقون‭ ‬حول‭ ‬الشاعر‭.‬‭.. ‬سيغادر‭ ‬كاردينال‭ ‬ليتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬لسان‭ ‬ناطق‭ ‬باسم‭ ‬الثورة‭ ‬السندينية‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬السياسية‭ ‬وفي‭ ‬المهرجانات‭ ‬الشعرية،‭ ‬بحيث‭ ‬سيلقي‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬سنتياغو‭ ‬بالشيلي‭ ‬وبسان‭ ‬خوسيه‭ ‬بكوستاريكا‭ ‬وبالعديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬الأوروبية‭ ‬وغير‭ ‬الأوروبية،‭ ‬هكذا‭ ‬ستتردَّد‭ ‬على‭ ‬الأسماع‭ ‬قصائد‭ ‬ملتهبة‭ ‬بحمى‭ ‬الثورة،‭ ‬مثل‭ ‬قصيدة‭: ‬‮«‬سماء‭ ‬مفتوحة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬سوموزا‭ ‬يزيح‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬تمثال‭ ‬سوموزا‭ ‬في‭ ‬ملعب‭ ‬سوموزا‮»‬‭… ‬وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬يدعم‭ ‬بشعره‭ ‬الحماسي‭ ‬السندينيين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زياراته‭ ‬لجبهات‭ ‬القتال،‭ ‬وبإيصال‭ ‬صوت‭ ‬الثائرين‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬إلى‭ ‬باقي‭ ‬العالم‭ ‬فاضحاً‭ ‬تجاوزات‭ ‬دكتاتورية‭ ‬سوموزا‭ ‬وفسادها،‭ ‬وانتهاكاتها‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬وبعد‭ ‬انتصار‭ ‬الثورة‭ ‬وسقوط‭ ‬النظام‭ ‬العسكري‭ ‬السابق‭ ‬ورموزه‭ ‬تحمّل‭ ‬إرنيستو‭ ‬كاردينال‭ ‬مسؤولية‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ (‬1979‭ – ‬1987‭) ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬السندينية‭ ‬لدانييل‭ ‬أورتيغا‭ ‬الأولى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أجَّج‭ ‬غضب‭ ‬الفاتكان‭ ‬عليه‭ ‬باعتباره‭ ‬‮«‬كاهناً‮»‬،‭ ‬وجعل‭ ‬البابا‭ ‬يوحنا‭ ‬بولس‭ ‬الثاني‭ ‬يبعده‭ ‬سنة‭ ‬1984‭ ‬بالقانون‭ ‬الكنسي،‭ ‬لكن‭ ‬كاردينال‭ ‬واصل‭ ‬مشروعه‭ ‬التنويري‭ ‬ضمن‭ ‬حكومة‭ ‬نيكاراغوا‭ ‬الحرّة،‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬محطَّاته‭.‬

ترجمت‭ ‬أشعار‭ ‬إيرنستو‭ ‬كاردينال‭ ‬إلى‭ ‬عدّة‭ ‬لغات‭ ‬نذكر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭: ‬‮«‬ساعة‭ ‬الصفر‮»‬،‭ ‬‮«‬إنجيل‭ ‬سولينتينامي‮»‬،‭ ‬‮«‬صلاة‭ ‬مارلين‭ ‬مونرو‭ ‬وقصائد‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬‮«‬أهجيات‮»‬،‭ ‬‮«‬مزامير‮»‬‭ ‬و«هكذا‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬مثلما‭ ‬في‭ ‬السماء‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬ترجمت‭ ‬له‭: ‬‮«‬حياة‭ ‬ضائعة‮»‬،‭ ‬‮«‬سنوات‭ ‬غرناطة‮»‬،‭ ‬‮«‬الثورة‭ ‬الضائعة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬لغة‭.‬

سنة‭ ‬2018‭ ‬بادرت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤسَّسات‭ ‬الثقافية‭ ‬وشخصيات‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الفنّ‭ ‬والآداب‭ ‬والسياسة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ترشيح‭ ‬الشاعر‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب،‭ ‬وكان‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬للأوروغواي،‭ ‬بيبي‭ ‬موخيكا‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬المروّجين‭ ‬لملف‭ ‬ترشيح‭ ‬إيرنستو‭ ‬كاردينال،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تبني‭ ‬مهرجان‭ ‬ميلانو‭ ‬الدولي‭ ‬للشعر‭ ‬للملف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مديره‭ ‬ميلتون‭ ‬فيرنانديث،‭ ‬وكانت‭ ‬اللجنة‭ ‬الداعمة‭ ‬تتكوَّن‭ ‬من‭ ‬الطبيب‭ ‬جيوسيبي‭ ‬ماسيرا،‭ ‬والشاعر‭ ‬غيدو‭ ‬أولداني،‭ ‬والصحافية‭ ‬أندريا‭ ‬سيمليتسي،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الترشيح‭ ‬تلاشى‭ ‬مع‭ ‬الفضيحة‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬نوبل‭ ‬كمؤسَّسة،‭ ‬وكان‭ ‬كاردينال‭ ‬قد‭ ‬اقتُرِح‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬رسمياً‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الجمعية‭ ‬العامّة‭ ‬للمؤلِّفين‭ ‬والناشرين‭ ‬في‭ ‬إسبانيا،‭ ‬لكن‭ ‬الشاعر‭ ‬النيكاراغوي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المناسبة‭ ‬أخبر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬أن‭ ‬الجائزة‭ ‬لا‭ ‬تهمه‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬كاردينال‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬يحتفون‭ ‬كثيراً‭ ‬بالجوائز‭ ‬الشعرية‭ ‬ويترصَّدونها،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬استلم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬على‭ ‬الأَقلّ‭ ‬جائزتين‭ ‬شعريتين‭ ‬مهمّتين‭ ‬هما‭: ‬جائزة‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا‭ ‬سنة‭ ‬2009،‭ ‬وجائزة‭ ‬الملكة‭ ‬صوفيا‭ ‬للشعر‭ ‬الإيبيروأميركي‭ ‬سنة‭ ‬2012،‭ ‬وإبّان‭ ‬ترشيحه‭ ‬الأوّل‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬كان‭ ‬الشعراء‭ ‬المشاركون‭ ‬في‭ ‬المهرجان‭ ‬الدولي‭ ‬السادس‭ ‬للشعر‭ ‬بغرناطة‭ (‬2010‭) ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الشاعر‭ ‬الإسباني‭ ‬دانيال‭ ‬رودريغيث‭ ‬مويا،‭ ‬قد‭ ‬أقرّوا‭ ‬بقيمة‭ ‬الشاعر‭ ‬إيرنستو‭ ‬كاردينال‭ ‬باعتباره‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬وفي‭ ‬العالم،‭ ‬وهذه‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يجادل‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬لأن‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬عرفت‭ ‬خلال‭ ‬تاريخها‭ ‬الحديث‭ ‬شاعرين‭ ‬أساسين،‭ ‬هما‭ ‬روبين‭ ‬داريو‭ ‬وبابلو‭ ‬نيرودا،‭ ‬اللذان‭ ‬عملا‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬قالب‭ ‬معياري‭ ‬للقصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أي‭ ‬شاعر‭ ‬أن‭ ‬يزحزحه‭ ‬بعدهما‭ ‬قبل‭ ‬نيكانور‭ ‬بارا‭ ‬وإيرنستو‭ ‬كاردينال‭.

مختارات‭ ‬شعرية

 

هنا‭ ‬كان‭ ‬يعبرُ‭ ‬على‭ ‬قدميه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع،

بلا‭ ‬عمل‭ ‬أو‭ ‬منصب‭ ‬وبلا‭ ‬مال‭.‬

وحدهم‭ ‬الشعراء‭ ‬والغاضبون‭…‬

عرفوا‭ ‬أشعاره‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬أبداً‭ ‬في‭ ‬الخارج‭.‬

كان‭ ‬سجيناً‭.‬

والآن‭ ‬قد‭ ‬مات‭.‬

وليس‭ ‬له‭ ‬أي‭ ‬نصب‭ ‬تذكاري‭ …‬

لكن

تذكروه‭ ‬لمَّا‭ ‬تكون‭ ‬لديكم‭ ‬جسور‭ ‬خرسانية،

عنفات‭ ‬ضخ‭ ‬مَة،‭ ‬وجرارات،‭ ‬وحظائر‭ ‬من‭ ‬فضة،

وحكومات‭ ‬جيّدة‭.‬

لأنه‭ ‬صَفَّى‭ ‬في‭ ‬قصَائدِهِ‭ ‬لغَة‭ ‬شعْبِهِ،

التي‭ ‬في‭ ‬يومٍ‭ ‬ما‭ ‬سوفَ‭ ‬تُكتَبُ‭ ‬بها‭ ‬اتفاقياتُ‭ ‬التجارةِ،

الدُّستورُ،‭ ‬ورسائلُ‭ ‬الحُبِّ،

والمراسيمُ‭.‬

سوموزا‭ ‬يزيح‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬تمثال‭ ‬سوموزا‭ ‬في‭ ‬ملعب‭ ‬سوموزا

 

ليس‭ ‬أنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الشعبَ‭ ‬أقامَ‭ ‬لي‭ ‬هذا‭ ‬التمثالَ

لأنني‭ ‬أعرف‭ ‬أفضل‭ ‬منكم‭ ‬أنني‭ ‬أصدرت‭ ‬الأمرَ‭ ‬بذلك‭ ‬بنفسي‭.‬

ولا‭ ‬أنني‭ ‬أدعي‭ ‬أن‭ ‬أنتقل‭ ‬عبرها‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة

لأنني‭ ‬أعرفُ‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬سوف‭ ‬يهدمُها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭.‬

ولا‭ ‬أنني‭ ‬كنتُ‭ ‬أرغبُ‭ ‬أن‭ ‬أرفعَ‭ ‬ذاتي‭ ‬منتصبا‭ ‬في‭ ‬الحياة

لأني‭ ‬لحظة‭ ‬سأموتُ‭ ‬لن‭ ‬ترفعوني‭: ‬أنتم

لكنِّي‭ ‬نصبتُ‭ ‬هذا‭ ‬التمثال‭ ‬لأنني‭ ‬أعلم‭ ‬أنكم‭ ‬تكرهونه

‮ ‬

الحرس‭ ‬الوطني‭ ‬يمضي‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬رجل‭.‬

رجل‭ ‬ينتظر‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الحدود‭.‬

اسم‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬غير‭ ‬معروف‭.‬

ثمّة‭ ‬رجال‭ ‬عديدون‭ ‬مدفونون

في‭ ‬خندق‭.‬

عددُ‭ ‬واسمُ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬ليس

معروفاً‭.‬

ولا‭ ‬يُعرفُ‭ ‬مكان‭ ‬ولا‭ ‬عدد

الخنادق‭.‬

الحرس‭ ‬الوطني‭ ‬يمضي‭ ‬بحثاً‭ ‬

عن‭ ‬رجل‭.‬

رجل‭ ‬ينتظر‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬أن‭ ‬يغادر

نيكاراغوا‭.‬

هكذا‭ ‬في‭ ‬الأرضِ‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬السَّماءِ

 

(مقطع)

كُلُّ‭ ‬ما‭ ‬خُلِق‭ ‬مِنَ‭ ‬الإلَهِ

مَعَنَا‭ ‬يَعُودُ‭ ‬إلى‭ ‬الإلَهِ

الكُلُّ‭ ‬مَولودٌ‭ ‬مِنْ‭ ‬اثْنَيْنِ

مَخْلُوقٌ‭ ‬مِنَ‭ ‬الحُبَّ

لَيْسَتِ‭ ‬النُّجُومُ‭ ‬فِي‭ ‬الأعْلَى

هِيَ‭ ‬ذَرَّاتٌ‭ ‬مِثْلَنَا

نَحْنُ‭ ‬المُوَلَّدُون‭ ‬مِنْ‭ ‬غُبَارِ‭ ‬النُّجُومِ

ومِنْ‭ ‬ذاكَ‭ ‬الغُبَارِ‭ ‬هِيَ‭ ‬أيْضاً

مَلايينُ‭ ‬النُّجُومِ‭ ‬مُدْرِكَةٌ

قَرابِينُهَا‭ ‬تَلْتَمِعُ‭ ‬خلالَ‭ ‬اللَّيْلِ‭ ‬كُلِّهِ

انفِجَارُ‭ ‬المُسْتَعِراتِ‭ ‬العُظْمَى

وَهِيَ‭ ‬تُعَلِّمُنَا‭ ‬كَيْفَ‭ ‬نَمُوتُ

الموتُ‭ ‬ضَرُوريٌّ‭ ‬لأجْلِ‭ ‬التَّطَوُّرِ

الجُرْثُومَةُ‭ ‬وهِيَ‭ ‬تنْقَسِمُ‭ ‬لا‭ ‬تَمُوتُ‭ ‬أبَداً

ولا‭ ‬تتطَوَّرُ

الزَّمَنُ‭ ‬فِي‭ ‬اتِّجاهٍ‭ ‬وَحِيدٍ

مِنَ‭ ‬المَاضِي‭ ‬السَّاخِنِ‭ ‬إلى‭ ‬الآتِي‭ ‬البَارِدِ

القَانُونُ‭ ‬الثَّانِي‭ ‬للدِّينَامِيَّةِ‭ ‬الحَرَارِيَّةِ

أنَّ‭ ‬كُلَّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬يَحِبُ‭ ‬أنْ‭ ‬يَمُوتَ

غَرِيبٌ‭ ‬أنْ‭ ‬يَكُونَ‭ ‬ثَانِياً‭ ‬لِشَيْءٍ‭ ‬ما

قَانُونٌ‭ ‬أعْلَى‭ ‬سَمَّاهُ‭ ‬إدِينْغْتُون

انْبِعَاثُ‭ ‬المَوْتَى‭ ‬يَعْنِينِي

قَدْ‭ ‬جَعَلَ‭ ‬نَفْسَهُ‭ ‬مُتَضَامِناً‭ ‬مَعَ‭ ‬المَوْتَى

‭ ‬إنْ‭ ‬كَانَ‭ ‬قَادِراً‭ ‬عَلَى‭ ‬كُلِّ‭ ‬شَيْءٍ

ومَا‭ ‬أجْمَلَ‭ ‬أنْ‭ ‬يَكُونَ‭ ‬الكُلُّ‭ ‬قَادِراً

قادِراً‭ ‬ضِدَّ‭ ‬المَوْتِ

المَوْتُ‭ ‬حَقٌّ

لَكِنَّهُ‭ ‬ليسَ‭ ‬نِهَائِيّاً

لا‭ ‬يَمُوتُ‭ ‬كُلُّ‭ ‬شيْءٍ‭ ‬مَعَ‭ ‬المَوْتِ

أمَحْكُومُونَ‭ ‬بالتَّلاشِي‭ ‬الحَتْمِيِّ؟

وَهَلِ‭ ‬التَّلاشِي‭ ‬الكَامِلُ‭ ‬للكَوْنِ

هُوَ‭ ‬أنْ‭ ‬يَنْتَهِيَ‭ ‬الكُلُّ‭ ‬إلى‭ ‬عَدَمٍ؟

أمْ‭ ‬خُلِقَ‭ ‬لِكَيْ‭ ‬يَتِمَّ‭ ‬تَحْوِيلُهُ؟

الشَّمْسُ‭ ‬سَوفَ‭ ‬تُحْرِقُنَا

إنْ‭ ‬صَارَتِ‭ ‬احْمِرَاراً‭ ‬هائِلاً

وسَيَثِيرُ‭ ‬المَدْفُونونَ‭ ‬في‭ ‬الأرْضِ

دَفِينِي‭ ‬الشَّمْسِ

وبعدئذٍ‭ ‬سَوْفَ‭ ‬تَصِيرُ‭ ‬صغِيرَةً

قَزَمَةً‭ ‬بَيْضَاءَ

ولا‭ ‬كَوْكَبَ‭ ‬سَيَكُونُ‭ ‬قابِلاً‭ ‬للسَّكَنِ

هَلْ‭ ‬سَنَسْتَطِيعُ‭ ‬الهُرُوبَ‭ ‬إلى‭ ‬المرِّيخِ؟

وهُوَ‭ ‬ما‭ ‬يُمْكِنُ‭ ‬أن‭ ‬يَكُونَ‭ ‬مُجَرَّدَ‭ ‬تَأجيلٍ‭ ‬للنِّهَايَةِ

حَقّاً‭ ‬مَوْتُ‭ ‬الكَوْنِ

وقَدْ‭ ‬صَارَ‭ ‬بلا‭ ‬أرْضٍ‭ ‬وبلا‭ ‬شَمْسٍ‭ ‬وفَقَط

بَحْرٌ‭ ‬مِنْ‭ ‬نُجُومٍ‭ ‬مَيِّتَةٍ

بِدُونِ‭ ‬هِيدْرُوجِينٍ‭ ‬من‭ ‬أجْلِ‭ ‬نُجُومٍ‭ ‬أكثَر

كَوْنٌ‭ ‬بَارِدٌ‭ ‬فقط

مِنْ‭ ‬ثُقُوبٍ‭ ‬سَوْدَاءَ

ونُجُومٍ‭ ‬مَيِّتَةٍ

حينَ‭ ‬تَنْطَفِئُ‭ ‬نَجْمَةٌ

تغْرَقُ‭ ‬فِي‭ ‬ثُقْبٍ‭ ‬أسْوَدَ

وهِيَ‭ ‬أيْضاً‭ ‬نَجْمَةٌ‭ ‬سَوْدَاءُ

وَلَنْ‭ ‬تَكُونَ‭ ‬فَقَط‭ ‬نِهَايَةُ‭ ‬الشَّمْسِ

بَلْ‭ ‬أيضاً‭ ‬نِهَايَة‭ ‬كُلِّ‭ ‬الكَوْنِ‭ ‬

كلُّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬بِبِدَايَةٍ‭ ‬لَهُ‭ ‬نِهَايَةٌ

كيفَ‭ ‬سَيَكُونُ‭ ‬الحَالُ‭ ‬بلا‭ ‬كَونٍ؟

هَلْ‭ ‬سَيَتأمَّلُ‭ ‬الإلهُ‭ ‬فِي‭ ‬هُدُوءٍ‭ ‬نِهَايَتَه؟

ويَكُونَ‭ ‬مَرَّةً‭ ‬أخْرَى‭ ‬المُتَوَحِّدَ‭ ‬الضَّجِرَ‭ ‬للأبَدِيَّةِ

لا

لنْ‭ ‬يُعِيدَ‭ ‬الكُلَّ‭ ‬إلى‭ ‬الفَرَاغِ‭ ‬الذي‭ ‬مِنْهُ‭ ‬أتى

سَوْفَ‭ ‬يَجْعَلُ‭ ‬خَلْقاً‭ ‬جَدِيداً‭ ‬قَالَ‭ ‬لنَا‭ ‬

عالماً‭ ‬جَدِيداً‭ ‬بِدُونِ‭ ‬دَرَجَةِ‭ ‬تَعَادُلٍ‭ ‬حَرَارِيٍّ

لَيْسَ‭ ‬ذَاكَ‭ ‬الذي‭ ‬فيهِ‭ ‬كُلُّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬يُسْتَنْفَدُ

مُتَحَرِّرُونَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الزَّمَنِ‭ ‬ذلكَ‭ ‬الوَهْمُ

‭ ‬الذي‭ ‬قالَهُ‭ ‬أينشتاين

فِي‭ ‬الحَاضِرِ‭ ‬المُتَأبِّدِ

مُتَحَوِّلُونَ‭ ‬عَبْرَ‭ ‬الحُبِّ

إلى‭ ‬أنْ‭ ‬نَصِيرَ‭ ‬نَوْعاً‭ ‬جَدِيداً

فِي‭ ‬انتظارِ‭ ‬خَلْقٍ‭ ‬جَدِيدٍ

سَانْتا‭ ‬تيريسا‭ ‬دي‭ ‬ليزيو

مَاتَتْ‭ ‬بِغِوَايَةِ‭ ‬هَرْطَقَةٍ

لَكِنَّهَا‭ ‬هَزَمَتِ‭ ‬الغِوَايَةَ‭ ‬بِقَوْلِهَا

حَتَّى‭ ‬لَوْ‭ ‬لَمْ‭ ‬تَكُنْ‭ ‬مَوْجُوداً‭ ‬فَأنَا‭ ‬أحِبُّكَ‭.‬

مجيد طوبيا.. شكل آخر  من الكتابة

في‭ ‬أعقاب‭ ‬حرب‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭/‬حزيران‭ ‬1967م،‭ ‬أخذت‭ ‬نصوص‭ ‬متعدّدة‭ ‬من‭ ‬المدوّنة‭ ‬السردية‭ ‬المصرية‭ ‬المعاصرة‭ ‬تتجاهل‭ ‬مقولات‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬تارة،‭ ‬وتناوشها‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬مقولاتها‭ ‬المحلّيّة‭ ‬التي‭ ‬تؤكِّد‭ ‬هويّتها‭ ‬وإشكالاتها‭ ‬الخاصّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬خصوصية‭ ‬محيطها‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي‭ (‬العربي‭) ‬في‭ ‬آن‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬كلّ‭ ‬من‭: ‬جمال‭ ‬الغيطاني،‭ ‬وبهاء‭ ‬طاهر،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬أصلان،‭ ‬ومحمَّد‭ ‬البساطي،‭ ‬وصنع‭ ‬الله‭ ‬إبراهيم،‭ ‬وعبدالحكيم‭ ‬قاسم،‭ ‬ويحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله،‭ ‬وخيري‭ ‬شلبي،‭ ‬ومحمَّد‭ ‬إبراهيم‭ ‬مبروك،‭ ‬وعبد‭ ‬الفتاح‭ ‬الجمل،‭ ‬وعلاء‭ ‬الديب،‭ ‬وأحمد‭ ‬الشيخ،‭ ‬وصبري‭ ‬موسى،‭ ‬وصالح‭ ‬مرسي،‭ ‬ومحمَّد‭ ‬جبريل،‭ ‬ومحمود‭ ‬دياب،‭ ‬ويوسف‭ ‬القعيد،‭ ‬وآخرين،‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬سرديّته‭ ‬الخاصّة،‭ ‬استطاع‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭- ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬العلامات‭ ‬البارزة‭ ‬في‭ ‬السردية‭ ‬المصرية‭- ‬ابتكار‭ ‬شكل‭ ‬آخر من‭ ‬الكتابة‭ ‬القصصية،‭ ‬أفلت‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬أسلوب‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬الواقعي،‭ ‬فجاءت‭ ‬كتابته‭ ‬مزيجاً‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬والفانتازيا‭ ‬والسخرية‭ ‬السوداء‭.  

زمن‭ ‬الستّينيات‭ ‬وأفول‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬

بعد‭ ‬نكسة‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭/‬حزيران‭ ‬1967،‭ ‬طالت‭ ‬أركان‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬هزّة‭ ‬عنيفة‭ ‬سلبت‭ ‬الشباب‭ ‬الثائر‭ ‬طموحهم‭ ‬بالتغيير،‭ ‬وأجهضت‭ ‬حلمهم‭ ‬بالقومية‭ ‬العربيّة،‭ ‬وزعزعت‭ ‬ثقتهم‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬حتى‭ ‬انسرب‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬إلى‭ ‬متون‭ ‬الأدب‭ ‬شعراً‭ ‬وسرداً،‭ ‬وكان‭ ‬أبلغ‭ ‬تجسيد‭ ‬له‭ ‬هو‭ ‬ابتكار‭ ‬طرائق‭ ‬فنّيْة‭ ‬وجمالية‭ ‬خلقتها‭ ‬النصوص‭ ‬القصصية‭ ‬والروائية‭ ‬لمعالجة‭ ‬الأزمة،‭ ‬سواء‭ ‬بطرق‭ ‬مباشرة‭ ‬وغير‭ ‬مباشرة؛‭ ‬فطفا‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬‮«‬جَلْد‭ ‬الذات‮»‬،‭ ‬وتفتّتَتْ‭ ‬اللحظة‭ ‬الآنية،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬تفكَّكَتْ‭ ‬بنية‭ ‬الحدث‭ ‬الروائي،‭ ‬وتشظَّى‭ ‬الزمن،‭ ‬وتداخل‭ ‬الواقع‭ ‬مع‭ ‬الحلم،‭ ‬وتخلَّى‭ ‬الرواة‭ ‬عن‭ ‬كليّة‭ ‬المعرفة‭ ‬أو‭ ‬كليّة‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬دانت‭ ‬له‭ ‬كثيراً‭ ‬الروايات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬حتى‭ ‬المرحلة‭ ‬الواقعية،‭ ‬واعتمدت‭ ‬روايات‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬وقصصها‭ ‬القصيرة‭ ‬سرديّة‭ ‬مكثّفة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬وحدات‭ ‬قصصية‭ ‬متقطّعة‭ ‬تتناوب‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ماضٍ‭ ‬حميم‭ ‬وحاضر‭ ‬غامض‭ ‬ومستقبل‭ ‬مبهم،‭ ‬في‭ ‬بنيات‭ ‬ومشاهد‭ ‬متناثرة‭ ‬لا‭ ‬يجمعها‭ ‬سوى‭ ‬عقل‭ ‬القارئ‭ ‬ومخيّلته‭. ‬لقد‭ ‬استطاع‭ ‬رواة‭ ‬هذه‭ ‬السرود،‭ ‬ومن‭ ‬ورائهم‭ ‬المؤلّفون،‭ ‬قول‭ ‬ما‭ ‬يريدون‭ ‬قوله‭ ‬دون‭ ‬التعرّض‭ ‬المباشر‭ ‬لبطش‭ ‬الحاكم،‭ ‬فكانت‭ ‬سرديّات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ (‬الزيني‭ ‬بركات‭) ‬لجمال‭ ‬الغيطاني،‭ ‬و‭(‬الهؤلاء‭) ‬لمجيد‭ ‬طوبيا،‭ ‬و‭(‬في‭ ‬الصيف‭ ‬السابع‭ ‬والستين‭) ‬لإبراهيم‭ ‬عبد‭ ‬المجيد،‭ ‬و‭(‬أيّام‭ ‬الإنسان‭ ‬السبعة‭) ‬لعبد‭ ‬الحكيم‭ ‬قاسم،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬تنتسب‭ ‬إلى‭ ‬كتّاب‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭. ‬كان‭ ‬ثمّة‭ ‬سقوط‭ ‬مدوٍّ‭ ‬للسرديات‭ ‬الكبرى،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬سردية‭ ‬بديلة‭ ‬تلائم‭ ‬طبيعة‭ ‬كلّ‭ ‬كاتب‭ ‬منهم،‭ ‬وهم‭ ‬القادمون‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬شتى‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬مصر‭ ‬وجنوبها‭. 

البحث‭ ‬عن‭ ‬سرديّة‭ ‬خاصّة‭ 

اتّجه‭ ‬أغلب‭ ‬كتّاب‭ ‬الستينيات‭ ‬إلى‭ ‬مجاوزة‭ ‬الأشكال‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬العربي؛‭ ‬فعكفوا‭ ‬على‭ ‬استقراء‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬واستلهموه‭ ‬في‭ ‬عناصر‭ ‬وأبنية‭ ‬جمالية‭ ‬وثقافية‭ ‬متباينة،‭ ‬فذهب‭ ‬كلّ‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬مذهباً‭ ‬مستقلاً‭ ‬حسب‭ ‬مرجعيّاته‭ ‬الثقافية‭ ‬أو‭ ‬موهبته‭ ‬الفطرية،‭ ‬حاولوا‭- ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭- ‬تأسيس‭ ‬سرديّات‭ ‬مغايرة،‭ ‬فاتّجه‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬لاكتشاف‭ ‬عناصره‭ ‬الحية‭ ‬ومواطن‭ ‬قابليته‭ ‬لإعادة‭ ‬الحكي‭ ‬والتنصيص‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬سردية‭ ‬وثقافية‭ ‬راهنة‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬كتب‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ (‬تغريبة‭ ‬بنى‭ ‬حتحوت‭) ‬التي‭ ‬استلهمت‭ ‬تراث‭ ‬السيرة‭ ‬الشعبية‭ ‬العربيّة‭ ‬وعناصرها‭ ‬السردية،‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬اشتملت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬وعجائب‭ ‬وغرائب‭ ‬وحكايات‭ ‬وأمثال‭ ‬وأشعار‭ ‬وأغان‭ ‬ومواويل‭. ‬ينسج‭ ‬طوبيا‭ ‬تغريبته‭ ‬السردية‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬‮«‬تغريبة‭ ‬بنى‭ ‬هلال»؛‭ ‬فيقسّمها‭ ‬إلى‭ ‬تسعة‭ ‬عشر‭ ‬جزءاً‭ ‬يشكّل‭ ‬مجموعها‭ ‬رحلة‭ ‬بنى‭ ‬حتحوت‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬السودان‭ ‬التي‭ ‬دامت‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬تعرّض‭ ‬خلالها‭ ‬أبطال‭ ‬مرويّته‭ ‬لما‭ ‬تعرّض‭ ‬له‭ ‬بنو‭ ‬هلال‭ ‬في‭ ‬رحلتهم‭ ‬الطويلة‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬مصاعب‭ ‬وأهوال‭ ‬شتّى‭. ‬أمّا‭ ‬في‭ ‬روايتي‭ ‬طوبيا‭ (‬دوائر‭ ‬عدم‭ ‬الإمكان‭) (‬1975‭) ‬و‭(‬حنان‭) (‬1981‭) ‬فإنه‭ ‬سيوظّف‭ ‬فيهما‭ ‬نصوص‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬الحاملة‭ ‬للمعتقدات‭ ‬والتصوّرات‭ ‬والطقوس‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬نصّ‭ ‬معاصر‭ ‬يحمل‭ ‬أسئلة‭ ‬الراهن‭ ‬وهموم‭ ‬الواقع‭ ‬المعيش‭. ‬في‭ ‬روايات‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬سوف‭ ‬يختلط‭ ‬الواقع‭ ‬بالحلم،‭ ‬والحقيقة‭ ‬بالخيال،‭ ‬وستظهر‭ ‬الفانتازيا‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أنصع‭ ‬أشكالها‭ ‬دون‭ ‬تكلّف‭ ‬أو‭ ‬غموض‭. ‬

تُعدّ‭ (‬تغربية‭ ‬بني‭ ‬حتحوت‭) ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الرواية‭ ‬العربيّة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الخمسين‭ ‬الماضية،‭ ‬حيث‭ ‬تُرجِمت‭ ‬إلى‭ ‬عدة‭ ‬لغات،‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬باسم‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السرد‭ ‬العربي؛‭ ‬إذ‭ ‬تقع‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬أجزاء‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬ثم‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لاستنباط‭ ‬شكل‭ ‬روائي‭ ‬جديد‭ ‬يستلهم‭ ‬التراث‭ ‬المصري‭ ‬الحكائي‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬الأحداث‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬والسير‭ ‬الشعبية‭ ‬و«ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬ويأخذ‭ ‬القارئ‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬زمكان‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬وأثناءها،‭ ‬وفيها‭ ‬يتغرّب‭ ‬بنو‭ ‬حتحوت‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬مصر‭ ‬المحروسة‭ ‬من‭ ‬المنيا‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬والفيوم‭ ‬وأسوان‭ ‬والإسكندرية،‭ ‬في‭ ‬سرديّة‭ ‬ملحمية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والتوثيق‭ ‬ورحلة‭ ‬الإنسان‭ ‬المغترب‭ ‬الأبدي‭. ‬

أمّا‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬الهؤلاء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تتقاطع‭ ‬مع‭ ‬هموم‭ ‬مجايليه‭ ‬من‭ ‬كُتّاب‭ ‬الستّينيات،‭ ‬سيخوض‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬معاناة‭ ‬مواجهة‭ ‬القهر‭ ‬السياسي‭ ‬واستبداد‭ ‬السلطة‭ ‬وتعرية‭ ‬النفاق‭ ‬والتطبيل‭ ‬وتزييف‭ ‬العقول؛‭ ‬فتراه‭ ‬يفضح‭ ‬‮«‬الهؤلاء‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يندسّون‭ ‬كالجراد‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬أو‭ ‬يتنكّرون‭ ‬في‭ ‬أيّة‭ ‬هيئة‭ ‬ممكنة،‭ ‬لكنهم‭ ‬يظلّون‭ ‬دائماً‭ ‬‮«‬الهؤلاء‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يترصّدون‭ ‬ويراقبون‭ ‬ويدوّنون‭ ‬التقارير‭ ‬السرّية‭ ‬ويتلصّصون‭ ‬على‭ ‬المحيطين‭ ‬بهم‭. ‬وهنا،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬سيلجأ‭ ‬طوبيا‭ ‬إلى‭ ‬سردية‭ ‬الرمز‭ ‬أو‭ ‬سردية‭ ‬القناع‭ ‬أو‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬الذين‭ ‬يمكنهم‭ ‬قول‭ ‬ما‭ ‬يريدون‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطالهم‭ ‬سيف‭ ‬الرقيب‭. ‬

بين‭ ‬الرواية‭ ‬والسينما‭ ‬

تنوّعت‭ ‬أعمال‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬والرواية‭ ‬وكتابة‭ ‬بعض‭ ‬الأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬وبعض‭ ‬الكتب‭ ‬الثقافية‭ ‬والمقالات‭ ‬المتعدِّدة‭. ‬فمن‭ ‬الأعمال‭ ‬القصصية‭ ‬نجد‭ ‬له‭: ‬‮«‬فوستوك‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬القمر‮»‬‭ (‬1967‭)‬،‭ ‬و«خمس‭ ‬جرائد‭ ‬لم‭ ‬تُقرأ‮»‬‭ (‬1970‭)‬،‭ ‬و«الأيام‭ ‬التالية‮»‬‭ (‬1972‭)‬،‭ ‬و«الوليف‮»‬‭ (‬1978‭)‬،‭ ‬و«الحادثة‭ ‬التي‭ ‬جرت‮»‬‭ (‬1987‭)‬،‭ ‬و«مؤامرات‭ ‬الحريم‭ ‬وحكايات‭ ‬أخرى‮»‬‭ (‬1997‭)‬،‭ ‬و‮«‬23‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‮»‬‭ (‬2001‭). ‬ومن‭ ‬الروايات‭ ‬أصدر‭ ‬طوبيا‭: ‬‮«‬دوائر‭ ‬عدم‭ ‬الإمكان‮»‬‭ (‬1972‭)‬،‭ ‬‮«‬أبناء‭ ‬الصمت‮»‬‭ (‬1974‭)‬،‭ ‬‮«‬الهؤلاء‮»‬‭ (‬1976‭)‬،‭ ‬‮«‬غرفة‭ ‬المصادفة‭ ‬الأرضية‮»‬‭ (‬1978‭)‬،‭ ‬‮«‬حنان‮»‬‭ (‬1984‭)‬،‭ ‬‮«‬عذراء‭ ‬الغروب‮»‬‭ (‬1986‭)‬،‭ ‬‮«‬تغريبة‭ ‬بني‭ ‬حتحوت‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الشمال‮»‬‭  (‬1978‭)‬،‭ ‬‮«‬تغريبة‭ ‬بني‭ ‬حتحوت‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الجنوب‮»‬‭ (‬1992‭)‬،‭ ‬‮«‬تغريبة‭ ‬بني‭ ‬حتحوت‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬البحيرات‮»‬‭ (‬2005‭)‬،‭ ‬‮«‬تغريبة‭ ‬بني‭ ‬حتحوت‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬سعد‮»‬‭ (‬2005‭). ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬الدراسات‭ ‬مثل‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬يحيى‭ ‬حقي‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬القناديل‮»‬‭ (‬1999‭)‬،‭ ‬و«التاريخ‭ ‬العريق‭ ‬للحمير‭ ‬وابتسامات‭ ‬أخرى‮»‬‭ (‬1996‭)‬،‭ ‬و‮«‬غرائب‭ ‬الملوك‭ ‬ودسائس‭ ‬البنوك‮»‬‭ (‬1998‭)‬،‭ ‬وقصتين‭ ‬للأطفال‭ ‬هما‭ ‬‮«‬مغامرات‭ ‬عجيبة‮»‬‭ ‬و«كشك‭ ‬الموسيقى‮»‬‭ (‬1980‭)‬،‭ ‬ومسرحية‭ ‬هزلية‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬بنك‭ ‬الضحك‭ ‬الدولي‮»‬‭ (‬2001‭)‬،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والمقالات‭ ‬المتعدّدة‭. ‬

من‭ ‬زاوية‭ ‬مقابلة‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬طوبيا‭ ‬وقصصه‭ ‬القصيرة،‭ ‬تتجسّد‭ ‬صورة‭ ‬المدينة‭ ‬الحديثة‭ ‬بوصفها‭ ‬ساحة‭ ‬للتحرّر،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬حسين‭ ‬حمودة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬والمدينة‭: ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الستّيينات‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬ريم‭ ‬تصبغ‭ ‬شعرها‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترسم‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭ ‬بمنحى‭ ‬جزئي‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التضاد‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬المجتمع‭ ‬الشرقي‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬المجتمع‭ ‬الصعيدي،‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬تشبه‭ ‬سيرة‭ ‬شخصية‭ ‬للفتاة‭ ‬‮«‬ريم‮»‬‭ ‬ابنة‭ ‬الرجل‭ ‬الصعيدي‭ ‬المزواج‭ ‬وثمرة‭ ‬زواجه‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬‮«‬بحراوية‮»‬‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬دلتا‭ ‬مصر‭. ‬كأنّ‭ ‬ريم‭ ‬هذه‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الفتاة‭ ‬‮«‬فتحية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هربت‭ ‬من‭ ‬زوجها‭ ‬حامد‭ ‬التي‭ ‬يلاحقها‭ ‬شباب‭ ‬المدينة‭ ‬ويتهافتون‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬قصّة‭ (‬الندّاهة‭) ‬ليوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬ريم‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التحرّر‭ ‬سوى‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬المتمثّل‭ ‬في‭ ‬إطلاق‭ ‬شعر‭ ‬الفتيات‭ ‬المدينيات‭ ‬على‭ ‬حرّيّته‭ ‬السافرة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تربطها‭ ‬بهذا‭ ‬العالم‭ ‬صلة‭ ‬انتماء‭ ‬حقيقي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الاغترابية‭ ‬الباردة‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تحضر‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬للمدينة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬دوائر‭ ‬عدم‭ ‬الإمكان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬المدينة‭ ‬النائية‭ ‬في‭ ‬جانبها‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬بحيث‭ ‬يصل‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬عالم‭ ‬الريف‭ ‬‮«‬قطار‮»‬‭ ‬ينبني‭ ‬عليه‭ ‬مقياس‭ ‬الزمن‭ ‬ومؤشّر‭ ‬التوقيت‭ ‬اليومي،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬بعض‭ ‬مجايليه‭ ‬مثل‭ ‬محمَّد‭ ‬البساطي‭ ‬في‭ ‬روايتيه‭ ‬‮«‬أصوات‭ ‬الليل‮»‬‭ ‬و«ويأتي‭ ‬القطار‮»‬‭. ‬أمّا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬السينمائية‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬طوبيا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أفلام‭ ‬روائية‭ ‬هي‭ ‬‮«‬أبناء‭ ‬الصمت‮»‬‭ ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬محمَّد‭ ‬راضي،‭ ‬و«حكاية‭ ‬من‭ ‬بلدنا‮»‬‭ ‬إخراج‭ ‬حلمي‭ ‬حليم،‭ ‬و«قفص‭ ‬الحريم‮»‬‭ ‬إخراج‭ ‬حسين‭ ‬كمال‭. ‬ويُعدّ‭ ‬‮«‬أبناء‭ ‬الصمت‮»‬‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬السينما‭ ‬المصرية‭ ‬والعربيّة‭ ‬التي‭ ‬تصوّر‭ ‬واقع‭ ‬الحروب‭ ‬وحياة‭ ‬الجنود‭ ‬المحاربين‭ ‬على‭ ‬الجبهة؛‭ ‬إذ‭ ‬ضمّ‭ ‬آنذاك‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬النجوم‭ ‬الشبان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬مثل‭ ‬أحمد‭ ‬زكي‭ ‬ونور‭ ‬الشريف‭ ‬ومحمَّد‭ ‬صبحي‭ ‬والسيد‭ ‬زيان‭ ‬وميرفت‭ ‬أمين‭ ‬ومديحة‭ ‬كامل‭ ‬ومحمود‭ ‬مرسي‭ ‬وآخرين‭. ‬

قصص‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬النقد‭ ‬

اللافت‭ ‬للنظر‭ ‬هو‭ ‬انشغال‭ ‬النُقَّاد‭ ‬كثيراً‭ ‬بروايات‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا،‭ ‬واختزاله‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التقريب‭ ‬في‭ ‬عملين‭ ‬اثنين؛‭ ‬أحدهما‭ ‬روايته‭ ‬الرباعية‭ ‬‮«‬تغربية‭ ‬بني‭ ‬حتحوت‮»‬‭ ‬وثانيهما‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أبناء‭ ‬الصمت‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬ذيوعها‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬أعدّه‭ ‬بنفسه‭ ‬للسينما‭ ‬عام‭ ‬1974‭ ‬مع‭ ‬رفيق‭ ‬دربه‭ ‬المنتج‭ ‬والمُخرج‭ ‬محمَّد‭ ‬راضي‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إليه‭ ‬هنا‭ ‬يتمثَّل‭ ‬في‭ ‬القيمة‭ ‬الفنّيّة‭ ‬والثقافية‭ ‬الرفيعة‭ ‬لقصص‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬القصيرة،‭ ‬فأغلب‭ ‬مجموعاته‭ ‬القصصية‭ ‬تقتضي‭ ‬درساً‭ ‬نقدياً‭ ‬خاصّاً‭ ‬ومستقلّاً‭ (‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬بعض‭ ‬الإشارة‭ ‬سيّد‭ ‬حامد‭ ‬النساج‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬أصوات‭ ‬في‭ ‬القصّة‭ ‬القصيرة‭ ‬المصرية‮»‬،‭ ‬وخيري‭ ‬دومة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تداخل‭ ‬الأنواع‭ ‬في‭ ‬القصّة‭ ‬المصرية‭ ‬القصيرة‭: ‬1960‭ – ‬1990‮»‬‭)‬،‭ ‬لما‭ ‬تتمتَّع‭ ‬به‭ ‬قصصه‭ ‬من‭ ‬كثافة‭ ‬سردية‭ ‬رفيعة‭ ‬المستوى،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬التقاء‭ ‬المشاهد‭ ‬القصصية‭ ‬المتناثرة‭ ‬كمشاهد‭ ‬السينما‭ ‬المتتالية‭ ‬بحرفية‭ ‬ملموسة،‭ ‬وقدرة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬نحت‭ ‬لغة‭ ‬قصصية‭ ‬مكتنزة‭ ‬التراكيب‭ ‬مشبعة‭ ‬الدلالة،‭ ‬لغة‭ ‬غير‭ ‬عارية‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يكتب‭ ‬عنهم‭ ‬طوبيا‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬أو‭ ‬العمّال‭ ‬أو‭ ‬الفلّاحين‭ ‬والتجار‭ ‬أو‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬أجاد‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬رسمها‭ ‬وتشخيصها‭ ‬بهدوء‭ ‬وخبرة‭ ‬سوسيولوجية‭ ‬ملموسة‭. ‬في‭ ‬قصص‭ ‬طوبيا‭ ‬القصيرة‭ ‬نحن‭ ‬بصدد‭ ‬عالم‭ ‬يستغل‭ ‬براءة‭ ‬الأطفال،‭ ‬وواقع‭ ‬اجتماعي‭ ‬متفسّخ،‭ ‬يحيا‭ ‬على‭ ‬الخرافة‭ ‬ويطحن‭ ‬الإنسان‭ ‬ويعيد‭ ‬إنتاجهما‭ ‬بأشكال‭ ‬عدّة،‭ ‬ويتخذ‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬مواقف‭ ‬تنتصر‭ ‬لحرّيّة‭ ‬الإنسان‭ ‬وقيمته‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬شعارات‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬النزوع‭ ‬الطبقي‭ ‬أو‭ ‬الزيف‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نضرب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أمثلة‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬القصص‭ ‬الأثيرة‭ ‬لديه،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬فوستوك‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬القمر‮»‬،‭ ‬و«خمس‭ ‬جرائد‭ ‬لم‭ ‬تُقرأ‮»‬،‭ ‬و«الأيام‭ ‬التالية‮»‬،‭ ‬و«طرح‭ ‬جمع‮»‬،‭ ‬و«الوليف‮»‬،‭ ‬و‮«‬الحادثة‭ ‬التي‭ ‬جرت‮»‬‭ ‬وغيرها‭. ‬في‭ ‬قصص‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭ ‬القصيرة‭ ‬إمكانات‭ ‬سردية‭ ‬ودرامية‭ ‬مشحونة‭ ‬ببلاغة‭ ‬التمثيل‭ ‬والرمز،‭ ‬قصص‭ ‬تتناول‭ ‬الإنسان‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬المحبّ‭ ‬للحياة‭ ‬التوّاق‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭.

عبد العزيز آل محمود: الوصول إلى الجوائز العالمية يحتاج إلى بنًى تحتيّة، لا نملكها

حينما انطلق الروائي القطري عبد العزيز آل محمود، مبحراً في فضاءات السرد، بروايته «القرصان»، 2011، لم يكن يتخيَّل الكثيرُ من متابعيه، أنه سوف يعود إلى الإبحار، مرّة أخرى، في المياه المتلاطمة الأمواج ذاتها، بـروايته «الشراع المقدَّس»، 2014، لكن الرجل العاشق للتاريخ أدهش الجميع، وأعاد الكَرّة مرَّتَيْن، ثم اختفى عن الأنظار فجأةً، دون أيّة مقدِّمات، إلى أن جاء موعد الإعلان عن اسمه، ضمن الفائزين بجائزة الدولة التقديرية والتشجيعية في مجال الراوية، فانتهزنا المناسبة لملاحقته وإقناعه بإجراء هذا الحوار، بعدما طال غيابه عن الصحافة، بحجّة أنه ليس لديه ما يقوله.

بدأ اهتمام عبد العزيز آل محمود بالتاريخ البحري للخليج العربي، والتداعيات السياسية للقرصنة، في عام 1996م، عندما اكتشف في مكتبة، بالمملكة المتَّحدة، مخطوطاً يرجع إلى القرن التاسع عشر، حول ساحل القراصنة، دفعه إلى البحث عن تاريخ الخليج العربي، وألهمه كتابة رواية «القرصان». تدور أحداث الرواية حول السياسة البريطانية والقرصنة في منطقة الخليج العربي، خلال القرن التاسع عشر، وكانت الشخصية المركزية شخصية القرصان العربي «رحمة بن جابر الجلهمي»، وقد أصبح الكتاب واحداً من الكتب القطرية الأكثر مبيعاً. وجاءت روايته التاريخية الثانية بعنوان «الشراع المقدَّس». وهي رواية رومانسية تنتصر للإنصاف والحرِّيّة، من خلال أحداث مؤامرة تتعلَّق بامرأة شابّة تقع في حبّ زعيم قبيلة عربيّة.

ما سرّ اهتمامك بالرواية التاريخية؟ 

أحبّ التاريخ، وجلّ قراءتي في التاريخ. أجده آسراً، يحمل الكثير من العبر والأسرار، ونحن مبنيّون على التاريخ؛ عقولنا، وكلّ تصرفاتنا مبنيّة على تاريخنا. هكذا هي كلّ الشعوب، لكن الفرق هو مدى تأثُّر الشعوب بتاريخها؛ فهناك شعوب تعيش التاريخ، وهناك شعوب تستفيد من التاريخ، وشتّان بينهما.

هل تصنِّف أعمالك التاريخية بأنها تنتمي إلى أدب البحر؟

لا، هي ليست أدب البحر، لكن البحر هو الطريق الذي شكَّل حياة الناس على سواحله، فالبحر هو مصدر الرزق، وهو خطّ التجارة، وهو الطريق الذي جاءنا، من خلاله، المحتلّ. كتابة أيّ تاريخ عن جغرافيا تقع على البحر مرتبط بالبحر، فهل نستطيع أن نكتب عن تاريخ بريطانيا بدون ذكر البحر، ودوره؟ أو هل نكتب عن أميركا مع تجاهل البحر؟ هي دول قامت على البحر، بسبب البحر. 

لماذا لم يشغل البحر الواسع، الذي يحيط بالعالم العربي، بالَ الروائيِّين العرب؟

الكتابة عن أحداث البحر تحتاج إلـى معرفة بالحضارات المحيطة، وتحتاج إلى معرفة بالمصطلحات البحرية، وإلى قراءة القليل عن أنواع السفن وأساليب صناعتها وأسمائها، وهي مسألة فيها بعض التعقيد، يحاول بعض الروائيِّيْن عدم الخوض فيها، لكن البحر عالم آخر، فهو خطوط المواصلات لكلّ شيء، بدءاً بالتجارة وانتهاءً بالغزو، ومثله يجب ألَّا يهمل.

هل أَثَّر العمل الصحافي، الذي أخذ جزءاً كبير من حياتك، بشكل أو بآخر، على مشروعك الروائي؟

لا أظنّ أن العمل الصحافي يمكن أن يصنع روائيّاً، لكن كثرة القراءة قد تعبِّد الطريق للكاتب ليكون روائيّاً. أمّا العمل الصحافي اليومي فهو عبارة عن طاحونه، لا يوقفها الزمن، ولا أظنّها ستصنع روائياً. إن الصحافة، في رأيي الشخصي (وأرجو ألّا يحاسبني أحد عليه) الصحافة مهنة مؤقَّتة في حياة الشخص، وليست مهنة دائمة، فالصحافيعادةلا يجد الوقت حتى للجلوس مع أطفاله، فما بالك بالكتابة الروائية؟.

ماذا يعني حصولك على جائزة الدولة التشجيعية؟

الجائزة لها قيمة معنوية كبيرة، فهي تعني أن هناك من قرأ إنتاجك، وقَيَّمه، ووجده يستحقّ التكريم، وهذهبحدِّ ذاتهادفعة معنوية عالية. وأنا أشكر كلّ من ساهم في ترشيحي لهذه الجائزة .

كتَّاب الخليج حصدوا جوائز مهمّة، خلال السنوات الأخيرة. هل نحن أمام إعادة تشكيل خريطة القراءة العربيّة؟

هذا السؤال يحمل، في طيّاته، الكثير من التفاؤل، مع أني لست متفائلاً في هذه المرحلة؛ فما زال الإنتاج الأدبي، عندنا، شحيحاً مقارنةً بالآخرين، ومازال القارئ، عندنا، نادراً، ومازالت أغلب الدول العربيّة تعاني من أزمات اقتصادية تمنع المواطن من شراء الكتاب الذي يُعتَبر ترفاً.

هل ترى أن الجوائز الأدبية تضيف للكاتب، أم يمكن اختزال قيمتها في المردود المادّي، فقط؟

قيمة الجائزة هي بما تضيفه معنويّاً لصاحبها، والقيمة المادِّيّة، مهما ارتفعت فلن تغيِّر كثيراً من الوضع المادّي لصاحبها .

هل تتوقَّع أن يفوز كاتب عربي بجائزة نوبل؟

يجب أن نعرف أن أيَّ عمل، لن يكون ناجحاً بمفرده، فحتى يخرج من نجاحه الجغرافي يجب أن تتضافر عدّة عوامل ليصبح ناجحاً عالمياً. دعني أضرب لك مثالاً: لو كان مبتكر تطبيق (فيسبوك) يعيش في أحد دول أميركا اللاتينية، فهل سينجح كما نجح، الآن؟ ولو كان صاحب فكرة (ماكدونالد) في الهند، فهل سينجح المشروع كما هو ناجح، الآن؟ 

يجب أن ينجح المنتج في موطنه، قبل أن يخرج إلى العالم، وهذا الموطن يجب أن يكون مؤثِّراً في العالم حتى يوصل نجاحاته إلى الآخرين. نحنمع الأسفشعوب على هامش الثقافة، وقد يكون لدينا منتج يُعَتدّ به، لكننابالمجمللا نؤثِّر في الآخرين، وليس لدينا وسائل العرض؛ فمن سيهتمّ بكتاب صدر في أحد الدول العربيّة، إن لم تكن لدينا وسيلة تسويق معتبرة؟

برأيك، لماذا انخفضت معدَّلات القراءة في العالم العربي، رغم الإنتاج الادبي؟

أغلب الدول العربيّة تعاني من أزمات سياسية، واقتصادية مؤلمة، حتى أصبحت الحياة ذاتها صراعاً يوميّاً، فمن سيجد المال لشراء كتاب أو الوقت لقراءته؟ أوضاعنا لا تسرّ، فقد حضرت معرض الكتاب الأخير الذي أقيم في إسطنبول، وكان الباعة يشتكون من قلّة الشراء، وهذا طبيعي؛ فمعظم الذين كانوا في ذلك المعرض من اللاجئين الذين يرون أن هناك أموراً أهمّ تستحقّ مالهم .

هل انخفاض معدَّلات القراءة، في عالمنا العربي، وراء ترجمة روايتك «الشراع المقدَّس» إلى البرتغالية؟

لا، طبعاً؛ إن رواية «الشراع المقدَّس» اشترت حقوقها دار نشر في البرتغال، خلال معرض كتاب فرانكفورت، فمعارض الكتب الغربية، سواء في لندن أو في فرانكفورت، تعمل بشكلٍ مختلف عمّا اعتدنا عليه في عالمنا العربي، فهي دور لشراء الحقوق، لا لبيع الكتاب للقارئ.

الرواية القطرية سجَّلت ربع قرن من مسيرتها الإبداعية، فما هو تقييمك لها؟

أستطيع أن أقيِّم رواية بعينها، حين يُطلب مني ذلك، لكني لا أستطيع أن أبدي رأيي في الرواية القطرية؛ لأني لم أقرأ كلّ الإنتاج ألقطري، ولكن لي رأي خاصّ في أيّ منتج روائي، فأنا أقيّم الرواية بحسب الجهد المبذول في كتابتها، ولا أقصد ناحية تنطُّع اللّغة، بل من ناحية الخلفية التاريخية التي يجب أن يطَّلع عليها الكاتب قبل الشروع في الكتابة. وأنا أرفض الكتابة باللهجة العامّية، ولا استطيع إكمال أيّ كتاب مكتوب بها، لكن لابأس، بذلك، في مجال التراث .

لماذا لم تُتَوَّج الرواية القطرية، على مدى هذه السنوات، بجوائز عربية أو دولية؟

هناك أسباب عدّة لذلك، فالجوائز العربيّة غير شفّافة في آليّة التقييم والاختيار، ويغلب عليها التدخُّلات السياسية والمناطقية وحتى العائلية. أمّا الجوائز العالمية فالوصول إليها يحتاج إلى بنًى تحتيّة، لا نملكها نحن، فليس لدينا دور نشر تستطيع تسويق الكتاب بطريقة محترفة، وليس لدينا قاعدة قرّاء مؤثِّرة، وليس لدينا وسائل سهلة وسريعة لتوزيع الكتاب، ودفعه لينافس عالمياً.

ماذا تكتب الآن؟، وهل لديك عمل روائي جديد؟ 

كتبت مقدِّمة لكتاب، منذ حوالي سنتَيْن، ثمّ توقَّفت لأسباب كثيرة. وقد عدت، من جديد، إلى هذه المقدِّمة حتى أعيد لذاكرتي حيويَّتها، وبدأت في جمع المصادر التي أهملتها، ولعلي أعود إلى الكتابة من جديد، قريباً. أمّا ماذا أكتب، الآن، فلن أستطيع أن أقول حتى أقطع فيه شوطاً، لأن الكاتب كالمسافر، لا يعلم متى سيغيِّر طريقه.

أحمد الصفريوي.. في مواجهة عبد الكبير الخطيبي وكاتب ياسين

ثاني اثنَيْن، إذ هما يبذران بذور «الأدب المغاربي المكتوب باللُّغة الفرنسية» في المغرب الأقصى. كتب عبد القادر الشطّ روايته المتواضعة «فسيفساء بلا لمعان»، ونشرها سنة (1932)، ونشر الصفريوي «سبحة العنبر» سنة (1949)، ثم نشر (النسر الطائر) إدريس الشرايبي، روايته الصاعقة «الماضي البسيط» سنة (1954) التي صعقت الأوساط الأدبية، والأوساط السياسية، وأذهلتها في كلٍّ من المغرب وفرنسا.. وساد الاعتقاد أن الصفريوي كاتب محافظ، لكن قراءة كتابات الرجل، بمعزل عن هذا الحكم السائد بلا سند، تكشف الجمر تحت الرماد. كان الصفريوي قليل الحديث، ونادراً ما يُجري حوارات. التقيت به ثلاث مرَّات: مرَّتَيْن في طنجة، وثالثة في الرباط، بدعوة منه.

فيما يلي، جزء من الحوار الذي دار بيننا، والذي تنفرد مجلّة «الدوحة» بنشره، لأوَّل مرّة:

قلت لي، ذات مرة، إنك كنت فرانكوفونيا قبل أن يصبح الفرنسيون فرانكوفونيين..

– كنت فرانكوفونيّاً لأنني حالما التحقت بالمدرسة رغبت في أن أقلّد، على الفور، معلِّمي. وأتذكَّر، وأنا صغير جدّاً، قبل التحاقي بالمدرسة أني ذهبت إلى حديقة عمومية رفقة أمّي، حديقة يوجد فيها حوض به سمك، وكان حارس الحديقة فرنسيّاً، فأردت أن أدهشه لمّا سمعته يتحدَّث، ورأيته يعبِّر بحركات، ولم أكن في ذلك الوقت أعرف أيّ كلمة باللُّغة الفرنسية. قمت واقتربت منه، وألقيت خطاباً عجيباً.

باللُّغة الفرنسية أم بالعربية؟

– أحاكي أصوات اللُّغة الفرنسية (ضاحكاً)، وقد تساءل: أليس هذا الطفل الذي يقلّد كلامه وحركاته مجنوناً؟، ثمّ طبطب على كتفي وأعطاني قطعة نقدية، فبدا لي، منذ ذلك الحين، أن معرفة لغة أجنبية، يدرّ دخلاً (ضاحكاً)، ولم أكن أعرف يومها أيّ شيء عن اللُّغة الفرنسية.. وهكذا، أوليت اهتماماً كبيراً باللغة الفرنسية، وقلت، بيني وبين نفسي، إنها باب الخلاص؛ فقد كنت أنتمي إلى أسرة فقيرة جدّاً، وكنت شرعت أفكِّر في وضع الأسرة، فقلت إن والدي أرسلني إلى الكُتّاب، وقد بلغت الثانية عشرة من عمري، وقد ألتحق بالقرويين، ثمّ ماذا بعد ذلك؟ هل سأصبح بائعاً صغيراً للطحين، أم أحفظ ما يتيسَّر من القرآن لقراءة آيات منه، على القبور؟. لن يكون والدي قادراً على إطعامي، يجب علي أن أتعلَّم لغة أجنبية… 

رهانك على لغة المستعمر كان رهان المقامر الرابح، فقد مكَّنتك من الرقي الاجتماعي، ومن دخول حقل الكتابة، وترسيخ قدمك بين المبدعين. لماذا تكتب؟

– أكتب لأوجد، ولأخلِّص نفسي من الجهل، والفقر. كتبت لأقول للفرنسيين من نحن، وأصحِّح أكاذيبهم على أنفسهم، وعلينا، وعلى الغير من القرّاء، في حال ترجمة نصوصي.

كيف تقيِّم تجربة «الأدب المغاربي المكتوب باللُّغة الفرنسية»؟

– إنه قضيّة، يصعب الحديث فيها جدّاً. لقد قلت، دائماً، إنه يجب أن يكون هناك كُتّاب، وأن يكونوا أكثرية. لكن، هناك صنفان من الكُتّاب (سواء أولئك الذين يكتبون باللُّغة العربية، والذين يكتبون بالفرنسية)، كُتّاب لديهم ما يقولون، لكنهم يقولونه بشكل رديء، وهناك كُتّاب يكتبون جيّداً، لكن ليس لديهم ما يقولونه. ويمكن أن أذكّرك بأحسن تعريف للأدب؛ ما يعني أنه يجب أن تكون هناك أشياء يجب قولها، ويجب أن نقولها بشكلٍ جيّد. ويجب أن ألحّ كثيراً على طريقة الكتابة، وليس على ما نكتبه… بالأمس، قال لي أحدهم: «قرأ تلامذتي قصّة «الـحمّام» الواردة في «صندوق العجائب»، وقالوا: ماذا تقدِّم هذا القصّة؟ إنها لا تقدِّم شيئاً». فقلت له: اسمع. إنها مكتوبة بطريقة جيّدة، لأنني أعرف أنها مكتوبة بطريقة جيّدة، إنها تضيف شيئاً على المستوى الجمالي. ثمّ إنه، فيما يُستَقبّل من أيّام، سيختفي الحمّام، ثمّ إن الحمّام- كما رآه أحمد الصفريوي- ليس كالحمّام الذي رآه شخص آخر، وهذا ما يجب أن تفسِّره لتلامذتك. يمكن للكاتب أن يسترجع أيّ مضمون تمَّت معالجته من قبل، وإذا ما كان يتمتَّع بموهبة حقيقية فسوف يكون قادراً على تشبيع ذلك المضمون، وإغنائه، والإضافة إليه.

هل يمكن الحديث عن إعادة الاعتبار للصفريوي؟

– بالطبع، بالطبع. فمن الأكيد أن الوضع قد انقلب على عكس ما كان عليه في السابق؛ وهذا أمر جيّد، وإشارة طيِّبة. في الجزائر، لمّا نشرت رواية «بيت العبودية»، والتي لم تُنشَر هنا، في المغرب، طلبت الجامعة أعداداً كثيرة من الكِتاب، لكنها لم تتوصَّل بها، طبعاً، لأن شكل طبع الجزائريين للكتاب كان يدعو للرثاء، فقد صدر في طبعة رديئة، ومن دون استشارتي، ومن دون تصحيح النسخة. وقد كان في نيَّتي تغذية هذا الكتاب بإضافة جزء ثالث. في البداية، قرَّرت أن يشتمل الكتاب على ثلاثة أجزاء، لكن صدر منه جزءان، فقط، ولكنني سأعيد نشره في ثلاثة أجزاء، وسيكون حال الكتاب، في المرّة القادمة، أحسن من الطبعة الحاليّة. وكان هناك عقد جيّد يربطني بالجزائريِّين، لكنهم لم يحترموا عهدهم، ولم أحصل على أيّ (سنتيم) بعد نشر هذا الكتاب، وسأعيد نشر هذا الكتاب في مطبعة «لارماتان» (الفرنسية)، أيضاً، على غرار الحكايات التي بعثتها لهم، أيضاً.

وقد كان الناقد «مارك كونطار» أوَّل مَنْ نَدَّد بالصمت المضروب حولي، أو بهذا الكفن الذي لفَّني به كثير من الكتّاب والنقَّاد. إنه الوحيد الذي تجرَّأ وصدح بذلك الرأي، لأوَّل مرة، ثمّ كان هناك لحْسَن موزوني وفريق آخر من النقَّاد. بعد ذلك، شرع الطلبة يهتمّون بأدبي. كلٌّ كان يهتمّ بالجانب الذي يعنيه أكثر، وبما يناسب مستوى ثقافته، فهناك من عُنِي بالغوص وراء ما يوجد في أعماق الكتاب، وهناك مَن اكتفى بالعناية بالشكل، والوصف.

ما ظروف كتابتك لنصَّيْك الرئيسيَّيْن؛ أقصد كتابَيْك: سيرتك الذاتية «صندوق العجائب»، ومجموعتك القصصية الأولى «سبحة العنبر»؟

– بالنسبة إلى «سبحة العنبر»، كتبتها لأن الحرب كانت على أشدّها، سنة (1941)، وكانت كتب وجرائد ومنشورات كلّ النخبة الفرنسية، الموجودة- خاصّة- في الجزائر، قد بحثت عن ملاذ هناك، وأحاطت بالناشر الذي سيشغل مدير المركز الثقافي الفرنسي في طنجة، فيما بعد (متذكّراً الاسم).

تقصد «إدمون شارلو»؟

– (مقاطعاً) نعم، أحاطت بمطابع «شارلو»، وكانت هناك جريدة عنوانها «TAM»، أي تونس، والجزائر، والمغرب لتغطية أخبار المغرب العربي. شرعت أكتب، في البداية، مقالات في هذه الجريدة، ثمّ أنشر فيها حكاية كلّ شهر. وعندما تطلب مني مجلّة أو غيرها نصّاً، كنت أكتبه لها. وقد تجمَّع لي خمس أو ستّ قصص نُشِرت في مجلّات وجرائد مختلفة، عدا القصص التي سيشملها الكتاب أو المجموعة، ثمّ جمعت كلّ تلك الحكايات، عندما تَمَّ الإعلان عن جائزة المغرب، وبعثت بالمُسَوَّدة، مُسَوَّدتي. وقد أثار الأمر استغراب الفرنسيِّين، فلم يحدث، إطلاقاً، أن حصل مغربيّ على جائزة المغرب (تنظّمها سلطات الحماية الفرنسية، يومها). لابدّ أنه كان للأمر وقع الصدمة الأولى عليهم.

(مقاطعاً، لاستقصاء رأيه في الأمر) قد يكون للأمر، أيضاً، ما يبيح التفكير في ضرب آخر من المقاومة.

– (غير راغب في التعليق، ومسترسلاً في سرد الوقائع) قد يكون ذلك.. بالطبع، بدأت أحصل على التهاني من جهات مختلفة، وتوصَّلت- خاصّةً- برسائل من الناشرين يطلبون فيها مني أن أبعث إليهم بمُسَوَّدتي «لتصفُّحها، ولقراءتها». وهكذا، طلب مني الناشر «جيليار – Julliard»، ولم ألتمس منه ذلك إطلاقاً، نشرَ الكتاب، فصدرت الطبعة الأولى منه سنة (1949)، وقد حاز كتاب «سبحة العنبر» نجاحاً منقطع النظير، إذ كتبت عنه أكثر من أربعمئة مقالة، ثمّ حصل، فجأةً، على جائزة هي «جائزة رئيس الجمهورية». الرئيس هو «أوريول» الذي كان أسَّس هذه الجائزة. وفجأةً، أصيب رجال «الشؤون الأهلية» بالذعر والجنون، فاتَّصلوا بي، ليلاً، ليقولوا لي: «يجب أن تجيء إلى باريس لتحصل على جائزتك، ويسلِّمها لك رئيس الجمهورية شخصياً». لم يكن عندي جواز سفر (ضاحكاً)، فأخبرتهم بالأمر، فقالوا لي: «تحصل عليه في رمشة عين». حصلت عليه يوم الغد، ثم سُلِّمت إليَّ تذكرتا الذهاب والإياب، وهأنذا أمتطي الطائرة في اتِّجاه «باريس» للقاء المسيو «أوريول»، رئيس جمهورية فرنسا، الذي دعاني إلى شرب القهوة معه. وعندما وصلت إلى قصر «الإليزيه»، كان كلّ أعضاء اللجنة الذين منحوني الجائزة حاضرين. كان معظم الأعضاء من الأكاديميِّين، ومن بينهم الماريشال «جوان» (مقيم عام في المغرب، 1947 – 1951) لأنه أكاديمي، أيضاً. لقد كانت تلك اللحظة تاريخية. وأنا أنزل من قصر الإليزيه عشت الشهرة الحقيقية: كان هناك صحافيّون، وأصحاب كاميرات، ومصوِّرون، وجنود.. وقد أحسست بالخوف من كلّ ذلك. نسيت أن أقول لك إنني لمّا وصلت إلى باريس وجدت سيّارة خاصّة بي، في انتظاري مع ممثّل فرنسي.. حدث حقيقي يثير الخوف في قلب أيّ إنسان، وقد أعقب كلّ ذلك حوارات يومية للإذاعة وللتلفزة، ثم نداءات عبر الهاتف. كلّ ذلك أرعبني، ولم أقدر على تحمُّله، ولست رجلاً من تلك الطينة التي يعجبها كلّ ذلك. ولمّا عدت إلى البلد، إلى المغرب.. قضيت سنتَيْن من دون أن أكتب أيّ شيء؛ خوفاً من أن تكون هناك عواقب أو تبعات.

عواقب سياسية؟

– لا أقصد الإزعاج. تعلم أنني شخص هادئ، وأحبّ أن أبقى في بيتي. لا أحبّ أن أعرِّض نفسي لألاعيب الحياة الاجتماعية القائمة على البهرجة. هذا أمر غير ممكن لأنه لا يتوافق مع طريقة عيشي، مع حياتي. باختصار: لم أكن أرغب في الشهرة، وانقطعت عن الكتابة مدّة طويلة، ثم قلت لزوجتي، ذات يوم: «سأعود إلى الكتابة.» وكتبت «صندوق العجائب». عانيت صعوبة كبيرة قبل الشروع في كتابة «صندوق العجائب»، لكني ما إن بدأت كتابته حتى استعدت عافيتي؛ فقد كتبَ إليَّ صديقي «إيمانويل روبلس» (الروائي الفرنسي)، قائلاً إنني أنشأت سلسلة تدعى «كتابات متوسِّطية»، وكنت على علم بوجودها، تابعة لدار نشر «السوي»، وما تكتبه يوافق ما أقوم بنشره ضمن السلسلة. فبعثت إليه بـ«صندوق العجائب» فنشرها. وبعد سنة- تقريباً- كتب إليَّ قائلاً: «ألا ترغب في إعادة نشر «سبحة العنبر»؟ لأن دار «جيليار» لم تقم بأيّ جهد إشهاري لدعم الكتاب.. فقبلت، مقترِحاً إضافة قصص أخرى، وحذف مقدِّمة «فرانسوا بونجان». وقد كان الأمر صعباً جدّاً لفسخ العقدة الخاصّة بـ«سبحة العنبر» بيني وبين دار «جيليار»، وتطلَّبَ الأمر وقتاً طويلاً. فسخت العقدة، وذهبت إلى دار «السوي»، لكنهم هناك غضبوا مني، حيث خاب ظنُّهم فيَّ؛ لأنني لم أنشر عندهم أيّ نصّ آخر، ولم أكتب أيّ شيء آخر يمكن أن يوافق السلسلة التي تشرف عليها الدار. بعثت إليهم بكتابي «بيت العبودية»، فتوصَّلت برسالة متحمّسة جدّاً من «إيمانويل روبليس»، يقول فيها: «هذا كتاب رائع».. وغير ذلك.. فاعتقدت أن الأمر انتهى، وأن الكتاب سيرى النور هناك. لكني، بعد أيّام تلقَّيت رسالة، من مصدر آخر، ممّا جاء فيها «إن لجنة القراءة تطلب منك أن تغيِّر كذا وكذا، وتضيف شخصيّات من النوع الفلاني»، فقلت بيني وبين نفسي: «هذا الصنف من لجنة القراءة أستصغره، ولا يهمّني التعامل معه»، فطلبت منهم إعادة المُسَوَّدة، ثم قطعت علاقتي مع دار «السوي». وضعت المُسَوَّدة في درج من مكتبي، قائلاً في نفسي: سأنشرها ذات يوم. في تلك الفترة كنت منشغلاً جدّاً بالندوات واللقاءات الخاصّة بعملي حول المباني التاريخية، وإذا بي أجد نفسي في الجزائر العاصمة. هناك، التقيت بمالك حداد سنة (1963)، فيما أعتقد، فعاتبني قائلاً: «لماذا لم تعد تكتب؟». فقلت له إنني منشغل جدّاً بالمجال الذي هو موضوع زيارتي، ولكنني أتوفَّر على مُسَوَّدة. حكيت له قصَّتها، ثمّ قلت له إذا كان الأمر يهمّك فسأبعثها لك لقراءتها ومعرفة رأيك فيها، ثمّ- فيما بعد- قد نفكِّر في النشر. بعثت إليه بمُسَوَّدة «بيت العبودية»، ولم أتلقَّ خبراً مدَّة ستّة أشهر، وهي مدّة كافية لكي يلقي نظرة على النصّ، ثمّ كتبت إليه رسالة أقول فيها: «قل لي رأيك في الكتاب، وابعث إليَّ بالمُسَوَّدة». فكتب إليّ: «إنها توجد في الـ(S N E D)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، فقد سلَّمتها لها، مباشرةً». كتبت إلى الشركة قائلاً: «إن مالك حداد قد سَلَّمكم مُسَوَّدة لي. هل قرَّرتم نشرها؟».. توصَّلت بالرسالة، وكان الجواب: «لقد تَمَّ طبع الكتاب». قلت لهم: «مستحيل! والشروط؟». كتبوا لي: سنرسل لك عقدة. بعثوا لي عقدة، بعد شهر، وكانت رائعة حقّاً (نظرياً)، لكن.. لم يبعثوا لي المُسَوَّدات لتصحيحها، ولم يناقشوا معي شكل الكتاب ولا ألوانه ولا حجمه.. وبعد أيّام توصَّلت بعدد من النسخ. لم يعجبني الأمر طبعاً، فكتبت إليهم، وكان ردُّهم: «سنعنى بكلّ هذه الأشياء في الطبعة الثانية، لكننا قد بعثنا لك (شيكاً) مقداره كذا»، ولم أتوصَّل بأيّ (شيك)، وقد اختفت دار النشر تلك (ضاحكاً)، ويجب عليَّ أن أقوم بنشر كتاب «بيت العبودية». حتى الآن، لم ينشر الكتاب، فقد صحَّحت ما نشروه من أخطاء، وأضفت بعض الأشياء، وأنتظر صدور الحكايات لأتبعها بكتاب «بيت العبودية»، بعد أن أعدت فيه النظر، وصحَّحته. 

البعض يتحدَّثون، في كتاباتك، عن الغرائبية، ويبدو لي أنك عندما تستعمل الدارجة المغربية، وتشرح معناها للقارئ الأجنبي، كأنك تريد أن تفرض هويَّتنا على الآخر، وتجعله يعترف بها/بنا كما نحن.. ومنه المستعمر.

– تماماً، بالضبط. وقد سألني كثير من المغاربة: لماذا يبقى وجود الأجنبي منعدماً في نصوصك؟. أولاً، يتعلَّق الأمر بنفي أو رفض أو إنكار لوجود الأجنبي، و- ثانياً- من الوجهة الجمالية الصرف، نرى الكتاب مثل اللوحة يجب أن يكون له أسلوب، ثم إنه لا يمكنني أن أرى، فجأةً، داخل مسجد، شخصاً غربياً. يجب أن يكون هناك صفاء في الأسلوب. كتاباتي تدور داخل المدينة القديمة، داخل البيوت.. فلماذا نتساءل: آه، لماذا لا يوجد الفرنسيون، هناك؟ لايمكن أن نراهم! لأننا نحن- المغاربة- لم نكن نراهم. 

يتمّ الحديث، بصدد كتاباتك، عن الطابع الغرائبي، ويراد به نقد كتاباتك لا التعبير عن الحضور البريء والإيجابي لهذا الطابع، وهناك، اليوم، عودة أو استعادة لتيمة الغرائبي في الرواية الأميركية اللاتينية، مثلاً، وفي النقد.

– طبعاً، تماماً. وقد سمّوا ذلك بالخيال، لكن الأمر- بالنسبة إلينا- لا يتعلَّق بالخيال، بل يتعلَّق بالحياة اليومية، والطابع العجائبي جزء من هذه الحياة، وإلّا كانت الحياة صعبة وموحشة ومتموِّجة، ولن تعرف تلك النعومة والطابع المخملي اللذين يضفيهما العجائبي عليها. ثم إن للعجائبي دلالاتٍ كثيرة؛ فعبر توظيف العجائبي يمكن أن ترسل رسائل عدّة أكثر ممّا يمكنك نقل الحياة اليومية من إرسالها.

قد تكون هذه الأشياء هي التي سمحت لي بأن أسألك: هل يمكن الحديث عن إعادة الاعتبار للصفريوي؛ ذلك أن معطيات جديدة تَمَّ اكتشافها، عند آخرين، في الآداب العالمية، وكان لها حضور في أدبك، وكان حضورها في كتاباتك موضوع انتقاد؟

– بالضبط، تماماً. مثلاً، عندما أتحدَّث عن الحياة اليومية يقال إن الأمر يتعلَّق بالإثنوغرافيا وبالفلكلور، وعندما يتحدَّث كاتب ياسين عن الحياة اليومية في «نجمة»، وهذا يحدث في روايته هذه، يقال إن ذلك شيء مبتكر وعبقري.

قد يعود الأمر، في حالة كاتب ياسين، إلى الحضور السياسي في كتاباته وإلى الالتزام، أيضاً.

– (مقاطعاً) بالتأكيد، بالتأكيد. ثم إنه عثر على ناقد يسانده، ويدعمه هو «جان ديجو»، هذا القسّ المزيَّف، لأنه قسّ مزيَّف، حقيقة، وليس قسّاً حقيقيّاً. إنه كان يساند الكتّاب الجزائريين قبل أن يساند الكتّاب المغاربة، مبدئيّاً؛ لأنه كان يقيم في الجزائر، ويعيش فيها، ثم تمّ تمجيد كتابات كاتب ياسين وصحبه. قبل قليل، كنت أودّ أن أشير إلى رشيد بوجدرة، وهو أكثر رزانةً وجدِّيّةً، ولو أنه بدأ يتراجع عن ذلك، مؤخّراً، عندما شرع يكتب أو يقوم بتجارب تخصّ الكتابة باللُّغة الدارجة، ولم يتابع مشواره الجدّي والرزين في الكتابة، بالطريقة التي يكتب بها. 

كيف تبدو لك هذه التجربة التي أقدم عليها بوجدرة؟

– يبدو لي أن الأمر مثير للرثاء. إن لبوجدرة أشياء قويّة ليقولها، فليقلها بالطريقة التي دأب على قولها بها؛ فبين يديه وسيلة هي التي تبلِّغ ما يريد قوله.

لكن، يبدو أن هناك مبرّراً لإقدامه على ما أقدم عليه؛ وهو أن معظم مواطنيه لا يعرفون تلك اللُّغة، وهو يشعر، في أحضانها، أنه منفي.. ألا ترى أن هذا الأمر جدِّي؟

– لا أراه جدِّيّاً، البتة. تعلم أن لكلّ واحد مهنته؛ المدّاحون، الشعراء الشعبيون الذين يبدعون بالعامِّيّة، لا يعرفون لغتنا. إنهم يقومون بتطويرها وتعميق البحث فيها لأنهم يعبِّرون بها. فكلّ شخص يكتب قصيدة، باللُّغة العامّية، يكون أرقى تعبيراً من شخص آخر يريد أن يتميَّز فيفعل مثله، بشكلٍ إرادي. هذا غير ممكن، لأوضِّح الأمر أقول: هناك كتاب باللُّغة العامّيّة، وهناك كتاب باللُّغة الفرنسية مثل بوجدرة، وآخرين. لكلّ واحد مهنته.. طريقة تعبيره.

كأني بك معجب بأعمال بوجدرة، ومقدِّر لها!

– بوجدرة.. نعم، أقدّر أعماله لأنه يكتب أعمالاً جيّدة، لا يمكن إنكار ذلك.

وكاتب ياسين؟ كلّ النقَّاد الكبار والقرّاء الحقيقيين يقدِّرون روايته «نجمة»، ويعتبرونها عملاً رائعاً.

– لا، لا..

أعتقد أنها عمل رائع، حقّاً.

– لا أحد منّا كتب عملاً يمكن تصنيفه بكونه رائعاً. كن مرتاح البال.

تحدَّثت، قبل قليل، عن الجانب الشكلي، وكلّ الذين درسوا- بجدِّيّة- «نجمة» لاحظوا فرادة شكلها الذي استفاد كثيراً من تقنية الرائد «وليام فولكنر».

– لكن هذا الأمر ليس تلقائياً،  وهو ما أشرت إليه، من قبل، التلقائية، وكتابة الذات، لا التقليد، واقتفاء أثر الآخر. 

عندما نقارن بين كتابة جيلك، أي كتابتك لأنك- بمعنى من المعاني- مؤسِّس أو رائد، («هذا صحيح» يعلِّق الصفريوي) وجيل الخطيبي، نلاحظ أنك تبقى حِرفيّاً، صانعاً.

– بالتأكيد، بالضبط.. وابن حِرفيّ، وكتبت عن مجتمع الحِرفيِّين..

الآخرون يبقون تقنيِّين لأنهم يعنون عناية قويّة بالجانب الشكلي؛ لذلك قد تخلو كتابتهم من القبض على عناصر من روح بلدهم.

– من حظّي أنني لم أكن جامعياً، مثلما هناك كتّاب فرنسيّون كبار غير جامعيِّين، منهم «برنادوت»، بينما الآخرون متأثِّرون جدّاً بالنقد الذي يُكتب عنهم، أو عن زملائهم، يأخذون به، ويتبعون تعاليمه، ثم إنهم يقرأون، ويريدون أن يعكسوا، في كتاباتهم، قراءاتهم. أنا أقرأ كثيراً، باستمرار، لكنني أقرأ كفنّان؛ ومعنى ذلك أنني أقرأ بوعي، وأعنى بالشكل وطريقته، لكنني لا أقرأ كتقني، أو لأتبع صرعة أدبية أو أنقلها.. كلّ ما في الأمر أن لي أشياء، أريد قولها، وأقولها بطريقتي الخاصّة، وأختار لها الشكل المناسب، وأعتقد أن هذا المعنى هو الذي ذهبت إليه في ملاحظتك. لن أذهب مذهب «جورج سيمونون» الذي قال: «لا ينبغي أن يتمتَّع الكاتب بأيّة ثقافة ليقدر على الكتابة»، وقد كانت ثقافته متواضعة، لكنه أبدع عدّة شخصيات، وخلق عدّة أجواء ومناخات.

(مقاطعاً) وكتب كمّاً هائلاً من الروايات، عدد منها كان ساحراً..

– (مقاطعاً) بالفعل، وقد تقاعد الآن، لأنه تجاوز الثمانين حولاً، ولم يعد يكتب. هو، الآن، شيخ يتنقَّل على متن كرسيّ متحرِّك، وهو وضع يثير الشفقة بالنسبة إلى كاتب من عيار «سيمونون». وقد أخذ المشعل بعده، في فرنسا، الآن، «فريديريك دار» (سان أنطونيو)، الذي ينشر كتباً بإيقاع غير مألوف، تماماً، وثقافته متواضعة جدّاً.

لو عدنا إلى الانتقادات التي وُجِّهت إلى كتاباتك، يقال إن كتاباتك تُشيع مناخاً من الخضوع.. ألاحظ أن ما سمِّيَ عندك (بنزعة الخضوع) قد غطّى على شعرية سرودك، بينما غياب الخضوع وسيادة خطاب الغضب، في نصوص إدريس الشرايبي، وضعاه في موقع متقدِّم، وجعلاه يستقطب الاهتمام؛ الأمر الذي جعل نصوصكما تمثِّلان عالمَيْن متناقضَيْن.

– جعل ذلك الوضع، من الشرايبي، نجماً، بالتأكيد، في الغالب الأعم. ردّ الفعل ذلك، المتميِّز بالشوفينية هو مصطنع، يتبعه الإنسان لأنه يجاري صرعة معيَّنة أو يظهر مزاياه أو ليدَّعي لنفسه مزايا لا يملكها، ولا يسلم الكُتّاب المعاصرون من ذلك، لا يسلمون ممّا يحيط بهم، ولا من المضيّ في طريق تحقيق ما صمَّموا عليه. فالكاتب سرحان عبد الحقّ الذي حكى- مثل مولود فرعون- قصّة قريته، يعمد إلى إضافة مشاهد جنسية، عن قصد، للَفْت انتباه القرّاء؛ ليُقبِلوا على النصّ، فيصبح الأمر مفتعلاً، وفي غير محلِّه. وقد قلت له إن هذا الابتذال لا يضيف أيّة قيمة إلى النصّ، بل قد ينتقص من قيمته. 

يمكن النظر إلى كتابات الصفريوي، وكتابات الشرايبي من زاوية تكاملهما في تقديم صورة عن المغرب، لا النظر إليهما على أنهما يمثِّلان عالمَيْن متناقضَيْن.

– بالفعل، هما عالمان متكاملان. وهناك وجوه مختلفة للمجتمع، وكلّ واحد منا يقدِّم وجهاً معيَّناً ومختلفاً للمجتمع ذاته، وللحياة ذاتها.

هل يمكن أن نقول إن كتاباتك هي ردّ فعل على الصورة التي يقدِّمها الأدب الفرنسي عن المغربي أو العربي، وقد يمكن اعتبار تمجيد المغرب التقليدي، في نصوصك، تمجيداً للأصالة، والخصوصية، والروح الجماعية والتضامن، وعبق التاريخ، تلك التي حاربها المحتلّ؟

– نعم، فهناك ذلك الفرنسي الذي اشتمَّ شيئاً عميقاً جدّاً في المجتمع المغربي، وخاف منه.

(مقاطعاً) مِمَّ خاف؟

– خاف من تلك القيم التقليدية، الثابتة، الراسخة رسوخ الجبل. وهكذا، أحسّ الفرنسيون بأنفسهم أجانب في بلدنا. وقد حاول كُتّابهم أن يطمئنوهم قائلين إن تلك القيم ليست شيئاً ذا بال. كلّ ما هنالك هو المواقع الرائعة، والجمال الغرائبي.. وعندما نتعمَّق في الأمر لا نجد شيئاً. وأنا أقول العكس، تماماً؛ قد تكون هناك المواقع الرائعة، وعندما ننقّب ونتعمَّق في الأمر، نجد أشياء عميقة جدّاً، ومتعدِّدة؛ وهذا ما كان يهمُّني جدّاً، لا أحبّ أن تكون الشخصيات بسيطة وساذجة، لكنها شخصيات مهمّة جدّاً وأصيلة. نعم، أصيلة. عندما أقدِّم شخصية نسَّاج، فلأنه إنسان ذو قيمة، على المستوى البشري وعلى المستوى الروحي. إنه يمثّل شيئاً مهمّاً، الحقيقة يمكن أن يجسِّدها رجل بسيط يصنع النعال، أو أيّ إنسان مهما كان مظهره الخارجي بسيطاً، ولا يعكس المظهر الخارجي شيئاً عن حقيقة هذا الرجل الذي هو حكيم حقيقي.

تنعت كتاباتك بالإثنوغرافية والغرائبية، للانتقاص من قيمتها!

– أعتقد أن الأدب الغرائبي هو الأدب الذي كتبه فرنسيون، أولئك الذين يكتبون عن بلد لايعرفونه، ولا يعرفون ما يموج في داخله. وهم غرباء عن الإنسان الذي يكتبون عنه، وعن الأرض، والتاريخ، والدين… جميعاً. والغرائبية تعني- بكلّ بساطة- البعد الخارجي، والمواقع الرائعة والمثيرة، والشخصيات الشاذّة أو الغريبة كالگرّابَة (مفرد: گَرَّابْ وهو بائع الماء الذي يحمل قربة) والسُّقاة في الساحات العمومية.. وقد قدَّمت شخصيات مثل هذه: گرّابة، ورواة قصص في الساحات العمومية لكن من الداخل، وبطريقة مختلفة تماماً؛ معنى ذلك أننا نتعرَّض، بنوع من العمق، لنفسية هذه الشخصيات، ونشير إلى دلالاتها ورموزها. لعلّ وجود كُتّاب من أبناء البلد، باللُّغة الفرنسية، يعود- أساساً- إلى مقاومة هذا الأدب الغرائبي. في البداية، كنّا نقرأ ما يكتبه هؤلاء الأجانب عنّا، وكنّا نلاحظ أن تلك الكتابات تشوِّه واقعنا، وأن واقعنا يختلف عن مضمون تلك الكتابات، وأن هؤلاء الكتاب لم يفهمونا، واستبدَّت بنا الرغبة في أن يعرفونا جيّداً، وأن يفهمونا جيّداً، لأننا لسنا، فقط، كما يقدّمنا هؤلاء الكُتّاب الأجانب (حتى الذين سَلمَ قَصْدهم). أمّا الذين ساءت نيَّتهم فلا نتحدَّث عنهم.. وبدأنا نكتب، لنعرِّف الفرنسيين: من هو المغربي، وما معنى المسلم، وما الحكمة التي تلفّ حياة الكائن المغربي، وما أبعاده الروحية التي لا يدركها كاتب الامبراطورية الاستعمارية.. وكان هناك، أيضاً، كُتّاب متميِّزون، (من الفرنسيِّيْن)، موهبتهم لا جدال فيها، كالإخوة «طارو» الذين كتبوا عن المغرب كتباً عدّة.. لكن، تبقى هناك مسافة بيننا وبينهم: هم ينظرون إلينا كأننا حيوانات، يدرسوننا كأننا حشرات، وحتى عندما يدركون بعض الحقائق الخاصّة بنا، فإنهم يؤوِّلونها تأويلاً غير صحيح. لقد أردنا مقاومة هذه النزعة، وهذا الواقع، وهذا في رأيي يوضِّح من نحن، لذلك فإن كتب الكتّاب المغاربة، باللُّغة الفرنسية (كما درج على تسمية ذلك التيّار)، هي كتب تتَّخذ شكل شهادات، وهي موجَّهة إلى قرّاء الخارج، إلى الفرنسيين خاصّة، وعبر الترجمة إلى قرّاء دول أخرى. إن كتابتنا ليست بحثاً عن هويَّتنا، فهويَّتنا ثابتة؛ ذلك أننا مغاربة، ونحن مَنْ نحن، وليس هناك شيء تغيَّر في هويّتنا. لكن، مادام الآخر لا يرانا بشكل موضوعي، فقد حاولنا- بلغته- أن نفسِّر له من نحن، هذا من جهة، و- من جهة ثانية- دفعنا إلى الكتابة أمر آخر: هؤلاء الفرنسيون، الذين كانوا يتجاهلوننا، وقد تملَّكوا، وعرفوا- عبر الإعلام- من نحن، أو ما يعتقدون أنه نحن. وقد رغبنا أن نؤكِّد لهم، ونجعلهم يدركون أننا نحن- أيضاً- نعرفهم، لأننا نعرف لغتهم، ونعرف أدبهم، ونعرف عقليَّتهم، و- بالنتيجة- يجب عليهم أن يتعاملوا معنا، بطريقة مغايرة تدرك الإنسان فينا، وهذه خطوة أولى في طريق الاعتراف بوجودنا، وهذه خطوة تقول لهم: حذارِ.. فقد كنتم، حتى الآن، تتعاملون معنا ومع عقليَّتنا بنوع من الفضول، وتصرَّفتم، نتيجة ذلك، بنوعٍ من الأبوية، وقلتم في أنفسكم: «نعم، إننا نعرف أبناء البلد، الآن». لكنكم لا تعرفوننا بما فيه الكفاية، لأنكم وضعتم بين أيدينا- بالرغم منكم- أداة خطيرة، هي لغتكم الخاصّة، وعبر لغتكم يمكن أن نزعم أننا نعرفكم- أيضاً- جيّداً.

وهذا نوع من التناقض الداخلي الذي يقع فيه المستعمر..

– (مقاطعاً) بالطبع؛ لذلك لمّا شرع عبد الكبير الخطيبي وصحبه يتحدَّثون عن كتاباتي قائلين إنها مجرَّد إثنوغرافيا، كتابة سطحية وإلى غير ذلك من هذا الكلام.. لم يدركوا أن المعنى الحقيقي للأدب هو أنه أدب يتمتَّع بمستويات عدّة، فهناك جانب يمكن أن يدركه معظم الناس، بمن فيهم الأطفال الذين لا ينبغي أن يُحرموا من أيّ صنف من الأدب، وهناك جانب عميق، الجانب الذي يدرس الروح المغربية، والروح المغربية موجَّهة- بشكل نهائي، ومنذ عهد بعيد- نحو البعد الروحاني، الديني، وهذا هو البعد الذي أردت أن أعكسه في «صندوق العجائب»، وفي «سبحة العنبر»؛ لأن كلّ حركة في حياتنا هي حركة روحانية، مقدَّسة: تصوُّرنا لبيئتنا ولمحيطنا، مثلاً؛ لذلك نقول إن مدينة فاس مدينة مقدَّسة، ومعنى ذلك أنها روحانية مع دلالة واضحة ترى أن جزءاً منها هو مركز العالم، وهو جامعة القرويين؛ أقدم جامعة في العالم. كلّ شيء في حياتنا روحي، موجَّه نحو الداخل، تصورنا لبيوتنا يقوم على أنها ليست لها واجهة؛ لسنا في حاجة إلى رؤية الآخر لنا، وكلّ واحد منا في بيته الخاصّ به، وكلّ واحد منّا لم ينسَ أن يُوجِد لنفسه جزءاً أو قطعة من السماء، يظلّ على اتِّصال به، لكلّ منا (سماؤه) الخاصّ (يقصد بَهْوَ الدور التقليدية المطلّ على السماء)، لا ينبغي أن ننساه أبداً، أو ننسى علاقتنا به. بينما يقوم التصوُّر الغربي للبيت على حماية النفس من البرودة، ثم الواجهة التي تعكس بعض ما يوجد في الداخل. في حين أن أدوات التزيين، عندنا، نحن- المغاربة والعرب والمسلمين- توجد في الداخل، ولا تنعكس في الخارج.. (موجِّهاً أصابعه نحو الزليج الذي يزيّن جدران القاعة التي كنّا نجلس بها). انظر- مثلاً- إلى هذا الزليج الذي أمامنا، إن له دلالة تجريدية، لكنه- في الآن ذاته- يمثِّل نوعاً من التكرار كنوع من الذكر، يحيل على عالمنا الروحي الذي لا تدركه عين الأوروبي. كلّ شيء له دلالة، كلّ شيء له صدى؛ رجع خاصّ، على المستوى الروحي.

إليف شافاق: عندما تصوَّفت فُتِحَتْ لي نافذةٌ جديدة

استطاعت أن تغزو العالم العربي بمؤلَّفاتها ورواياتها المتحرِّرة من كلّ القيود. الكاتبة التركية «إليف شافاق» التي تُترجم أعمالها باستمرار إلى عدّة لغات، تحلِّق فوق مدن العالم، بشهرة كبيرة؛ تخرج من وطنها وتعود إليه في كل رواية…التقينا بها لتفتح لنا صندوق حكايتها، حصرياً عبر هذا الحوار الخاصّ بمجلّة «الدوحة».

في البداية، نحبّ أن نرحِّب بك، ونعود، بالزمن، إلى الوراء، حينما كنتِ طفلة، وكانت والدتك تعمل في الحقل الدبلوماسي، وتتنقَّلون كثيراً من بلد إلى آخر. أخبرينا: كيف أثَّر ذلك في طفولتك، وفي انتمائك إلى بلدك؟

– لقد نشأت طفلة وحيدة لوالدي ووالدتي، ولم يكن لي أشقّاء، ولم أكن، آنذاك، أحبّ الألعاب العاديّة. كانت نشأتي، إلى جانب والدتي، وبحكم عملها الدبلوماسي، غريبة إلى حَدّ كبير، فكنت أميل إلى الكتابة كثيراً، ونظراً لتنقُّلها المستمرّ، من بلد إلى آخر، وجدت صعوبات عديدة بسبب اللّغة، فلم أكن أفهم لغة الشارع والنكات والأمثلة؛ فمثلاً عندما ذهبت إلى أسبانيا، وكان عمري  أحد عشر عاماً، وجدت -رغم صغر سنّي- أنني لابدّ أن أتعلَّم العديد من اللّغات، و-على الرغم من بعدي عن تركيا، في تلك الفترة- أردت تعلُّم اللّغة التركية، فأتقنتها، في ذلك الحين، قراءةً وكتابةً، وقد ساعدتني أميّ -بالطبع، على ذلك، وأتذكَّر جيِّداً أن أولى العبارات والكلمات التي عرفتها كانت كلمات الترحيب بالآخر، ولم يؤثِّر بعدي عن تركيا في عشقي لها، وقد تأثَّرت كتاباتي بالحياة هناك، دائماً.

قبل أن نستمرّ في طرح الأسئلة، نودّ معرفة شيء خاصّ؛ ما هو آخر خبر جميل تلقَّيتِه، أو تنتظرينه، عمّا قريب؟

– آخر خبر جيِّد لي هو الأصداء الجيِّدة والناجحة التي حقَّقَتها روايتي الجديدة «بنات حوّاء الثلاث» ، فأنا أعتبر أن مؤلَّفاتي هم أبنائي، وأكون سعيدة، للغاية، بعد ميلاد كلّ رواية، وخروجها إلى النور والقرّاء، وخاصّةً عندما تحقِّق نجاحاً بترجمات ولغات عديدة.

لا شك في أن الاحتكاك بتعدُّد الثقافات، وتشابكها، هو نتيجة حتمية لهذا التنقَّل، وهو ما يغني -أيضاً- المعرفة والخبرة الإنسانية في الحياة. كيف تواجهين كلّ هذا، في أثناء البحث عن أسلوبك الخاصّ في الكتابة، سواء على مستوى اللّغة والمضامين الثّقافيّة؛ ففي المقابل، هناك خطر الوقوع في فقدان الخصوصية المحلِّية التي هي الأدب الحقيقي، في النهاية؟ أليس كذلك؟

– لقد عشت في عدّة بلدان، وعشت في إسبانيا أربع سنوات، قبل أن أعود إلى أنقرة. وحينها، كنت أتعلَّم التركية، ولم يكن لي أصدقاء أتراك هناك، وقد اكتسبت -بالطبع- خبرة في الحياة من الناس، من هنا وهناك، و-بالفعل- دخلت إلى ثقافات مختلفة، تماماً، عن المجتمع التركي، لكنني استطعت أن أحافظ على هويَّتي التركية، وكان لوالدتي دور كبير في ذلك، ويتَّضح ذلك في مؤلَّفاتي. ربَّما كان الأمر صعباً قليلاً إلّا أنني فخورة بأنني نجحت في ذلك، لكنني لا أنكر أن الفترة التي عشتها في أسبانيا، قد أثَّرت فيَّ؛ بأن أصبحت أكثر حدّة، مع القليل من القسوة، على عكس ما كنت عليه، عندما انتقلنا للعيش هناك.

يتعامل القرّاء مع روايتك «حليب أسود»، باعتبارها سيرتك الشخصية الحقيقية. لكن، لنفترض أن مساحات الخيال لا مفرَّ منها، فهل تكفي قراءة هذا العمل لنتعرَّف إلى سيرة «إليف شافاق»، كما وقعت، أم أن مساحات الخيال، في الرواية، هي أهمّ الوقائع التي عايشتها، بالفعل؟

– الوقائع، في تلك الرواية، أكبر من مساحة الخيال، وتمثِّل شطراً كبيراً من حياتي التي تغيَّرت -فجأًة- بعد أن وقعت في الحبّ، وتزوَّجت، ثم أنجبت ابنتي «زيلدا»، والاكتئاب الذي تملَّكني بعد ذلك، أنا التي كنت أرفض فكرة الزواج، وكنت أرى أن مؤلَّفاتي هي أبنائي، وحبيبي هو القلم، لكن المرأة لا تدري متى ستقع في الحبّ، ولا تدري -أيضاً- ما الذي يمكن أن يفعله هذا الحبّ في حياتها.

تسرد رواية «حليب أسود» فترة ما قبل ولادتي لابنتي، وما بعدها، وهي فرصة جيِّدة لكل من يريد أن يبحث عن ذاته، ويكتشف نفسه، بشكل جيِّد، وغالباً ما تبحث المرأة عن عدّة شخصيات بداخلها، إلى أن تكتشف ذاتها الحقيقية التي تمثِّلها فعليّاً. وأريد أن أضيف أنني بحثت، يوماً، عن الاستقلال الذاتي، ثمَّ عن تكوين أسرة، ولاغنى للمرأة عن الأمرين سويّاً؛ لكي تشعر بقيمة ذاتها، على هذين المستويين، وتظلّ المرأة -بفطرتها- تبحث عن الأمومة.

ثمّة سؤال، تبدو الإجابة عنه صعبة، على المستوى العملي، يتعلَّق بروايتَيْن، هما «لقيطة إسطنبول»، و«شرف»؛ ففي الروايتين، هناك عودة إلى الذاكرة الجريحة، الماضي الذي لم يتمّ تصفيته والمصالحة معه. إذا كنّا نتَّفق على أن الجمال والقيم النبيلة من بين ما يبرز، بشكل عظيم، في مرآة الأدب، فهل يمكن للأدب -في رأيك- أن يسهم في تحقيق المصالحة مع الماضي، والصفح والنسيان؟ وإذا أمكنه ذلك، فكيف؟

– مع الأسف، لا يوجد مصالحة مع الماضي، فالماضي حزين وكئيب ومؤلم. لكن، لابدّ أن نعرف الكثير والمزيد عن الماضي، خاصّةً أن الأمَّهات والجدَّات هنّ مَنْ ينقلن الماضي إلى الأجيال الحديثة، وكُلّ بحسب هواه.. وأنا أردت أن أصل الماضي بالحاضر، للقرّاء، وأرى أن دور الأدب الرئيسي يتجلّى عندما يكون حرّاً، ويعطي دروساً، ويبرز حقائق للقرّاء وللعالم.

يتَّضح المنحى الصوفي في أكثر من روايةً؛ بدايةً من «الصوفي» مروراً بـ«مرايا المدينة»، وصولاً إلى «قواعد العشق الأربعون»؛ الرواية الأشهر عند القارئ العربي… إلى حدٍّ ما، يمكن طرح سؤال مركَّب، في هذا الصدد، الشقّ الأوَّل منه: ما جدوى انحيازك إلى الثّقافة الصوفية، في عصر، تهيمن عليه ثقافة المادِّيّات و(البريستيج) وكلّ أمراض الاستهلاك: المنطقية، وغير المنطقية. والشقّ الثاني فيرتبط بالاغتراب الذي يعيشه شباب اليوم، والذي مردُّه -كما يرى علماء الاجتماع والنفس- إلى العولمة وأنماط التواصل القائمة على التقنيات الحديثة.. بالنسبة إليك، ألا تُعتَبر العودة إلى عالم التصوُّف نوعاً من الهروب من الواقع ومواجهته، مثلما كان يفعل أنصار الهيبيزم، في السبعينات؟

– الصوفية مصدر إلهامي، منذ روايتي الأولى «بينهان». والقرّاء الذين تابعوني، منذ بدايتي، يعرفون ذلك جيِّداً. أنا قرأت كثيراً، ودرست التصوُّف جيِّداً، وعندما تصوَّفت وجدت أن هناك نافذة جديدة، تماماً، قد فُتحت في عقلي وقلبي، ورأيت الحياة بمنظور مختلف، ولم أنحَزْ إلى الصوفية، بل صارت جزءاً من قلبي وروحي. ليتنا جميعاً نهرب من الواقع إلى التصوُّف؛ فهذا مذاق خاصّ، لا يعرفه إلا المتصوِّفون.

هناك سؤال بديهي، في هذا السياق: هل من الضروري أن يكون للكاتب، اليوم، حياتان: الأولى شخصية متحفّظة، والثانية شخصية أدبيّة مُزَوَّقة بعناية، خاصّةً أننا في عصر الحياة الإلكترونية؟

– لابدَّ أن يعيش الكاتب الحياة التي اختارها لنفسه كأيّ إنسان عاديّ وإيجابي، وينشر الوعي الثقافي، والفكري بين القرّاء. وأؤكِّد أنني ضدّ أن يكون للكاتب (خاصّة) وللإنسان (عامّة) حياتان، وأنا ضدّ التحفُّظ، بشكل كبير؛ فلماذا لا يعرف القرّاء كاتبهم المفضَّل، بشخصيَّته الحقيقية؟.

«إليف شافاق»، لا تكتفي بالكتابة، بل تنخرط في أكثر من مجال: أنت عضو مؤسَّس في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR)، وعضو في مجلس الأجندة العالمية في المنتدى الاقتصادي العالمي المعنيّ بدور الفنون في المجتمع، وعضو في لجنة التحكيم لجائزة القصّة القصيرة في صحيفة «سنداي تايمز» عام (2014)، وسفيرة العمل الثّقافي في أوروبا عام (2010)، والمبعوثة الخاصّة لبرنامج «الجسور الثّقافيّة» التركي-الأوروبي عام (2010)، كما مُنِحت فخريّة «Chevalier» للفنون والآداب، في العام نفسه، كما كنتِ عضواً في لجنة جائزة «الإنديبندنت» لأدب الخيال الأجنبي، عام (2013)، وأنت -أيضاً- شخصية نشِطة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولديك متابعون كثُر على «تويتر»، علاوةً على أنك متحدِّثة في موقع (Ted).

– نعم. وإنه من دواعي سروري أن أساهم في تلك الأنشطة، وأنضمَّ إلى تلك المنصّات. وأنا أعتقد أن الكاتب أو الشخصية العامّة لابدّ أن يكون لها حضور في الأنشطة العامّة، ومشاركة في كلّ المجالات المتاحة، وأن يكون ذلك الكاتب ملكاً لجمهوره، ويتواصل معهم، على أوسع نطاق.

لديك جمهور واسع من القرّاء العرب، من خلال الترجمة. كيف تصلك أصداء ترجمات رواياتك إلى اللّغة العربيّة؟

– بالطبع، كان لترجمة مؤلَّفاتي إلى اللّغة العربيّة الفضلُ في الانتشار والنجاح الذي حقَّقته في الوطن العربي، وكنت سعيدة، للغاية، لوصول مؤلَّفاتي إلى القرّاء العرب. على الرغم من أنني لا أجيد اللّغة العربيّة، أعرف أصداء نجاح مؤلَّفاتي، بواسطة دور النشر المسؤولة عن الترجمة والمبيعات في الوطن العربي، وأتمنّى أن أظلّ عند حُسْن ظنّ جمهوري وقرّائي، دائماً.

إذا كنت مشرفة على ورشة للكتابة الأدبيّة، ما الجملة التي ستتكرَّر كثيراً، على لسانك، كنصيحة أو توجيه للكُتّاب الشباب؟

– طالما أعجبني الكُتّاب الشباب، وأحبّ حماسهم كثيراً. لكن، لديَّ عدة نصائح لهم؛ أهمّها أن يحترموا عقل القارئ، ولابدَّ أن يعرفوا، تماماً، أن الكتاب الجيِّد ينجح، ويتبادله الأصدقاء، ويمكن الترويج أو التسويق له تلقائياً، من خلال العمل الجيِّد، وقد أصبح تداول الكتب أسهل بسبب (الإنترنت)، ولاأطيق الكاتب الذي يستخفّ بعقل القارئ، ويستصغره، بالإضافة إلى أنني أجد العديد من الكُتّاب الشباب أكثر تحفُّظاً، وأكثر انغلاقاً، وهذا ضدّ الإبداع؛ لذلك لا تجد أعمالهم الصدى المنتظَر.

محمَّد لفتح.. كاتب بلا ضجيج!

وُلِد الروائي المغربي المعبِّر بالفرنسية، محمَّد لفتح، في مدينة سطات (قرب الدار البيضاء)، سنة 1946، وتابع تعليمه الثانوي في الدار البيضاء حيث ستشاء الصدف أن يكون أستاذه في مادّة الفلسفة، في ثانوية محمَّد الخامس، هو إدمون عمران المالح الذي سيسطع نجمه في سماء الرواية، في وقت لاحق.

واصل لفتح اليافع دراسته الجامعية حتى حصل على إجازة في علوم الرياضيات، أي في مجال، هو أبعد ما يكون عن الذائقة الأدبية، وبعد أن تنازل عن رغبته في أن يكون طيّاراً، كما كان يحلم في صباه، قرَّر الرحيل إلى فرنسا للتسجيل في مدرسة للهندسة، حيث اختار التخصُّص في الأشغال العمومية. وقد صادف هذا الانتقال أحداث مايو/أيار، 1968 الشهيرة، فشهد لفتح الغليان السياسي، والاجتماعي، بل انخرط فيه، قلباً وقالباً، بحكم ميوله اليسارية الموروثة عن تجربته المريرة خلال أحداث الدار البيضاء في مارس، 1965 . في هذا المناخ الصعب، سيلتقي لفتح بزوجته الفرنسية (ميشال) التي ستنجب له ابنته (نزهة)، وهما المرأتان اللتان سيكون لهما شأن في تجربته الكتابية، (سلباً، وإيجاباً)، كما سنرى.

بعد ذلك، سيقرِّر لفتح التخلَّي عن دراسة الهندسة، وينتهي بالحصول على شهادة في البرمجة الرقمية، قبل أن يشدّ الرحال إلى المغرب، ليعمل في العديد من المؤسَّسات البنكية والمالية، التي لم تسعفه ميوله الطبيعية على المكوث فيها طويلاً؛ لأن مزاجه الأدبي سيقوده- تدريجياً- إلى الابتعاد عن ذلك الميدان، والاتِّجاه نحو الصحافة(الصحافة الثقافية،تحديداً) حيث ستتبلور اهتماماته الكتابية لتظلّ موزعة بين الحقل الأدبي، والنشاط الإعلامي.

ومن جملة الأشياء ذات الدلالة، أنه سيكتب، وهو يافع، في قسم البكالوريا، نصّاً سردياً طويلاً في موضوع عاطفي، عَرَضه- بوصفه رواية- على أستاذه الفرنسي، ليمدّه برأيه فيه، غير أن هذا الأخير سيأخذ المخطوطة في رحلته إلى بلده التي لن يعود منها أبداً؛ وبذلك تضيع- إلى الأبد- أوَّل محاولة للكاتب الطموح الذي كان يهجع داخله، وتجهز على قطاع حيوي من رغبته في أن يصير مؤلِّفاً مشهوراً. 

غير أنه لم يترك هذا الشعور المحبط يستولي على كيانه، بل انصرف- خلال الفترات اللاحقة- إلى رعاية مواهبه الأدبية، ومواصلة القراءة والكتابة، بوتيرة منتظمة، وإن زهد في النشر العمومي، إلى أن هلَّت التسعينيات، والتقى في باريس بأستاذه القديم عمران المالح، فاستودعه رواية كان قد فرغ لتوّه من تحريرها، وخلع عليها عنواناً مثيراً هو «آنسات نوميديا».قرأ الأستاذ الرواية، واقتنع- فوراً- بالقيمة الأدبية التي تنطوي عليها، ومن حسن الصدف أن هذا الأخير، كانت له، في تلك الفترة، علاقة صداقة بفرنسية تدير داراً للنشر (لوب/ الفجر)، اقتنعت، هي الأخرى، بالعمل، وتولّت طبعه بلا انتظار، غير أنه- لأمر ما- لم ينتشر هذا الكتاب في أوساط القرّاء إلّا في حدود جدّ ضيقة- ربَّما- لأنه لم يحظَ بتوزيع ملائم، في أعقاب خلاف نشبَ بين المؤلِّف والناشرة.

ويتّفق النقّاد على أن هذه الرواية البكر تتأكَّد فيها المعالم الأساسية لأسلوب في الكتابة، سوف يحافظ عليه المؤلِّف محمَّد لفتح في جميع أعماله السردية، ويقع هذا الأسلوب في منطقة وسطى بين الواقعية الانتقادية التي ترفع شعار الإدانة لكلّ ما هو فجّ وقبيح في المجتمع، والالتزام بمواجهة قوى المحافظة والخذلان التي تكبّله وتشدّه إلى الوراء، و- من جهة أخرى- محاولة التبشير بجمالية تعبيرية جديدة تمتزج فيها الرقّة الأكثر تفتُّحاً مع الوصف الأكثر عنفاً، واستعمال لغة حسّاسة ودقيقة تمنح للمعنى مدلولاً لاذعاً يوقظ الضمائر الغارقة في سباتها، ويقلق سكونها بالأسئلة المحرجة حول الحياة والوجود. 

في جميع الأحوال، إن ما أثار انتباه المتتبّعين هو أن لفتح الذي جاء إلى الرواية متأخِّراً (بعد أن بلغ السادسة والأربعين من عمره، وهو في ذلك يشبه أستاذه المالح) قد واصل الكتابة بغزارة وانتظام، في صمت تامّ، مع إصراره الغريب على عدم شغل نفسه بهاجس نشر نصوصه في أيّ مستوى من المستويات.

لقد اقتحم لفتح المشهد الأدبي الفرانكوفوني في المغرب على حين غرّة، ودون ضجيج يُذكَر، وصارت له مكانة مرموقة بين الكتّاب المغاربة المعبِّرين بالفرنسية، وذلك في أعقاب واقعة جديرة بأن تروى.

حدث أن تعرَّف الكاتب المغربي سليم الجاي، برواية لفتح الأولى المذكورة آنفاً «آنسات نوميديا»، عندما كان يعدّ كتابه «معجم الكتّاب المغاربة»، بين سنتَيْ 2004 و2005، ولم يستطع كتم حماسه لهذا العمل الاستثنائي، فأعلن إعجابه به، بقوّة، عندما استضافه الإعلامي عمر سليم في برنامجه الأدبي، على القناة المغربية الثانية (2 M) بمناسبة صدور معجمه المذكور.. وقد صادف أن شاهد محمَّد لفتح الحلقة شخصياً، وكان يقطن، حينئذ، في القاهرة، فاتَّصل بابنته نزهة، المقيمة في الضاحية الباريسية، ودعاها إلى الاتِّصال بهذا (الزميل المتحمّس)، وتمكينه من مجموع مخطوطاته التي ظلَّت قابعة في رفوف بيت الزوجية منذ بداية التسعينيات، مؤمّلاً أن يحالفه الحظّ فيجد لها ناشراً يقبل خوض مغامرة طرحها في المكتبات.

وقد تمكَّنت نزهة من اللقاء بسليم الجاي، في معهد العالم العربي في باريس، وأبلغته رغبة والدها في أن يتولَّى نشر أعماله الثمانية، وهو- بدوره- ما لم يتأخَّر عن القيام بذلك، دون إبطاء، عن طريق الاتِّصال بدار النشر (لاديفيرانس: الاختلاف) التي رحَّبت بالمشروع، وباشرت تحقيقه والكاتب على قيد الحياة، ابتداءً من 2006، بادئة بإعادة نشر رواية «آنسات نوميديا» متبوعة برواية «سعادة النسيان»، والمجموعة القصصية «زهرة في الليل»، ثم رواية «عنبر أو تحوُّلات الحبّ»، ثم، في سنة 2007، نشرت له رواية «طفل من رخام» والمجموعة القصصية «شهيد من زماننا»، ثم أصدرت، في مستهلّ سنة 2009 أي بعد وفاة المؤلّف، كتابين آخرين هما: «يوم فينوس»، و«سقوط لانهائي»، و- أخيراً- تُتَوَّج هذه التجربة بنشر روايته «المعركة الأخيرة للقبطان نعمت» التي أثارت أكبر قدر من الضجيج والجدل، في كثير من الأوساط.

والخلاصة، من جميع هذه الوقائع، أن لفتح قد قضى حياته يؤلِّف روايات وقصصاً محكوماً عليها ألّا تظهر إلا بعد وفاته، وهو- خلال كلّ ذلك- كان يجد الشجاعة الكافية للإبداع غير أنه كان عاجزاً عن التوافق مع متطلَّبات الناشرين، وانتهى بأن زهد- تماماً- في تلك العملية التقنية المعقَّدة، وإن كانت ضرورية لجميع المشتغلين بالكتابة والتعبير. 

وعلاوةً على ذلك، يؤكِّد رفاقه والباحثون في سيرته (خاصّةً صديقه الكاتب عبد الله بيضا) أن مخطوطات كثيرة للمؤلِّف ماتزال تنتظر النشر إلى اليوم، وهي من أنواع متعدِّدة، فهناك مجموعة قصصية بعنوان «تأمّل الشجرة»، يصوغ فيها الكاتب، عبر عشر قصص، ما علق في ذهنه من ذكريات حياته وانطباعاته أو تأمُّلاته المستمَدّة من قراءاته، ووقائع من الحياة اليومية القاهرية، إلى جانب أحلامه واستيهاماته، وهناك نصّ آخر بعنوان «هوى، أو أغنية حيّ البوسبير»، وهو يتَّخذ هيئة ملحمة يتغنّى فيها الكاتب بهذا الحَيّ القديم سيِّئ السمعة من أحياء الدار البيضاء، ويستحضر أجواءه السحرية، والجنسية، والشعرية، والتراجيدية، ويرى من اطَّلع على هذه الرواية الأخيرة أنها تمثِّل الأسلوب الأدبي للكاتب، بل عبقريَّته، خير تمثيل.

ومن بين المخطوطات التي خلَّفها الكاتب الراحل، كذلك، جملة كتاباته الصحافية التي تنتظم في ثلاثة مجلَّدات؛ يضمّ الأوَّل حواراته التي أجراها مع مفكِّرين ومثقَّفين من العالم العربي، مثل عبد الله العروي، ومحمَّد أركون، وجمال الغيطاني، ويشتمل الثاني على مطالعاته الأدبية وتأمُّلاته النقدية، بينما يشتمل الثالث على أبحاثه في قضايا الثقافة العربية والفكر الإسلامي، إلى جانب كتاباته الصحافية الأخرى التي يضيء فيها الواقع الثقافي، ويستحضر الإرث الفلسفي والإرث الثقافي. ويذكر الأستاذ بيضا- أيضاً- أنه وقف على دراستَيْن نقديَّتَيْن ألّفهما لفتح: الأولى بعنوان (نشيد ما وراء الذاكرة)، تناول فيه تجربة الكاتب اليهودي المغربي إدمون عمران المالح الذي تلقّى على يده دروس الفلسفة وهو تلميذ، والثانية كرّسها للكاتب الأميركي «بول بولز» المقيم في طنجة، والذي كان شديد الإعجاب بأسلوبه ومواجهته للتابوات.

إجمالاً، إن ما نُشِر من إنتاج محمَّد لفتح، حتى الآن، ينحصر في الروايات والقصص، وهما الجنسان الأدبيان المفضَّلان لديه، بكلّ تأكيد، ويشكِّلان عالماً متفرّداً وأسلوباً جديراً بالاهتمام، لكننا ما نزال بحاجة إلى الانفتاح على تراثه المخطوط، وهو ذو طابع فكري ومظهر تأمُّلي، سيساعدنا الاطِّلاع عليه- بلاشكّ- في الاقتراب من عوالم هذا الكاتب الرائد الذي فقدناه قبل أن نسعد بالتعرُّف إليه.

واليوم، صار لفتح معروفاً ومعترفاً به، بوصفه كاتباً موهوباً ومبدعاً راسخاً، خصَّصت له كبريات الهيئات الصحافية في فرنسا، مثل (لومند، ولومانيتي، وليبيراسيون) مقالات تقريظية تحيّي- بالإجماع- حيوية أسلوبه المتميِّز وأصالته الإبداعية، غير أنه ما يزال شبه مجهول في بلده الأصلي؛ فإذا استثنينا نخبة قليلة من المغاربة تقرأ له وتعجب بإنتاجه، فإن عموم القرّاء لا يجدون السبيل إلى نصوصه التي ما تزال طبعاتها جدّ محدودة، وليست في متناول الجميع، كما أن المترجمين لم يبذلوا جهداً يُذكَر لنقله إلى اللّغة العربية ليصير متاحاً للقارئ المغربي والقارئ العربي، يضاف إلى ذلك جملة من سوء تفاهمات عديدة، ليس أقلّها أن معظم الصحافيين المغاربة قد اعتبروا رواياته فضاءً للفتنة والرغبات المحرَّمة وجنون الكلمات، بينما هو لم يتوقَّف عن اعتبار أن الوظيفة الأولى للأدب هي (وعد بالسعادة للجنس البشري)، والرواية هي السلاح الناجع ضدّ البرابرة الجدد الذين يمارسون المنع وخنق الحرِّيات.

وفي رأي زميله الكاتب محمَّد نضالي، إن كتابة لفتح تقدّم نفسها كفضاء للسحر والافتتان، حيث السارد الذي يتطابق- أحياناً- بالمؤلِّف، يشبه رسَّاماً يضع لوحة لامتناهية من الرغبات والصبوات، أو صائغاً يصوغ الجمل الواحدة تلو الأخرى، بكامل المهارة والصبر، وحيث تكون اللفظة دقيقة وشعرية وموحية و- أحياناً- ذات دلالة مستحدثة، والنبرة صحيحة، والصورة مكثَّفة مومضة، والاستعارة رائعة، والتشبيهات لا مثيل لها… ويجري اختيار أسماء الشخصيات (النسائية، خاصّة) من سجلّ طافح بالإيحاءات البديعة كأسماء الأزهار والعطور؛ ما يحملنا على الحلم: مسك الليل.. ياسمين- وردة- نكتارين- قرنفل- زهرة- عنبر..، بينما يخلع على الرجال، من شخصيّاته، ألقاباً محلِّيّة غريبة تدلّ- بقوّة- على طبيعتها، من قبيل سبارتاكوس، والدانماركي…

وإذا رغبنا في أن نستجمع ما يميّز السرد الروائي، عند الكاتب محمَّد لفتح، أمكننا أن نوجزه في النقاط الآتية: 

– ابتعاد لفتح، في رواياته، عن الطريقة التقليدية ذات السرد الخطّي في الحكي، والميل- بدلاً من ذلك- إلى تجريب طرائق مبتكرة، و- أحياناً- غير مسبوقة بشهادة النقّاد، تتلاشى فيها الحدود بين الأجناس الأدبية، وتتجاور الأساليب النثرية والشعرية والسردية؛ بحيث نصير أمام جنس هجين هو خلاصة الصفحة الأدبية المشرقة التي جاء بها الكاتب.

– يعطينا لفتح الدليل، في كلّ صفحة من صفحاته، على أنه (يكتب بواسطة الكتب)؛ أي عن طريق استضافة مقروءاته وتجاربه الذهنية وتأمُّلاته، ففي روايات لفتح تتعايش، في تناغم كامل، مختلف النصوص والمرجعيات، وتزدهر الأقواس والاستشهادات والاستذكارات والاستشرافات، والاستطرادات: الأدبية، واللُّغوية، والمعجمية؛ ومن هنا ذلك القدر الهائل من التناصّ الذي يخترق كتاباته، ويجعل منها مختبراً حيّاً يستقطب المؤلَّفات: القديمة، والحديثة، ويتحاور معها، في إشارة إلى حقيقة ما تدين به الكتابة للقراءة.

– هناك- أيضاً- الملمح الأوتوبيوغرافي الخادع الذي يظهر من خلال مشاركة السارد في الأحداث التي يقوم بسردها، ما يمنحنا الانطباع بأن الأمر يتعلَّق بسرد ذاتي، والحال أن المؤلِّف إنما يقف موقف الملاحظ لما يجري، فحسب، ومصدر هذا الالتباس أن (أنا) الكاتب تظلّ تتغلغل وسط الشخوص، تصير، أحياناً، هي نفسها شخصية قائمة الذات، بل إن القارئ نفسه سيكون مدعوّاً للعب دوره في هذا الطقس الدلالي، والفكري الذي هو الكتابة السردية عند لفتح، وسيكون هذا الصنيع وسيلته إلى الانتصار للأدب، في سعيه المثير للإمساك بالأساطير المؤسَّسة لإنسانيتنا، وطريقته للغوص المجازي في التاريخ المقبور لأحلامنا المصادرة.

لقد اختار لفتح، في أواخر أيّام حياته، أن يلقي بعصا الترحال في مصر، حيث قرَّر أن يستقرّ في أحد أحياء القاهرة الأكثر ملاءمةً لمزاجه وذائقته الأدبية (حيّ المعادي) حيث أقام فيه مكرِّساً كامل وقته للكتابة محاطاً بعزلة اختيارية، لا تدفِّئها سوى ذكريات الماضي السحيق التي ظلَّت تواصل العيش معه في حاضره، وتلهمه كتابة رواياته وقصصه.

في يونيو/حزيران من سنة 2008، سيشعر بتوعُّك مفاجئ، ويدخل المستشفى، حيث ستكشف التحليلات إصابته بسرطان المريء، وتجرى له عملية جراحية لم تكلَّل بالنجاح، فيغادر عالمنا يوم الأحد: 20 يوليو/تموز، 2008، وهو في الثانية والستّين من العمر.

(تستفيد هذه الورقة التقديمية من المعطيات البيوغرافية، والنقدية الواردة في الكتاب التأبيني الجماعي، الذي أشرف عليه الكاتب عبد الله بيضا، وصدر بالفرنسية، سنة 2009، عن (منشورات طارق) المغربية تحت عنوان «محمَّد لفتح أو سعادة الكلمات»).

خالدة سعيد: لا أعرف كيف يكون النقد نسويّاً أو ذكوريّاً!

تُعرِّف الناقدة والكاتبة خالدة سعيد بنفسها لبنانية من أصلٍ سوري. وصلت إلى بيروت أواخر عام 1956، جاهزةً لبدء سيرتها النقديّة في الشعر، على صفحات مجلّة «شعر»، إذ كانت الناقدة الوحيدة التي رافقت صدور مجلّة «شعر» منذ العام 1957، وكانت توقّع مقالاتها باسم خزامى صبري. بدءاً من عام 1963 دخلت فضاء الدراسات الأكاديمية، لكن هذا الفضاء الذي خبرت فيه المعايير، لم يجعل نقدها، فيما بعد، تنظيرياً محضاً، كما هو السائد، وإنما اتَّصف أسلوبها بالتطبيق وفحص النصوص من الداخل؛ وهذا مَكّنها من الكتابة عن تجارب مختلفة، في الآن نفسه، فقد كتبت عن عن معظم شعراء مجلّة «شعر»: أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، وسواهم. وعلى الرغم من أنها كانت في معمعة معركة القصيدة الحديثة إلّا أنها رفضت إثارة الغبار بين المتخاصمين المختلفين حول كتابة الشعر: عموداً أو تفعيلة أو نثراً، كما لم تُدِخْل نفسها في خانة النقد النسوي أو الـ«feminism»، على خِلاف ناقدات كثيرات.

واليوم ترى صاحبة: «فيض المعنى، في البدء كان المثنى، حركيّة الإبداع، البحث عن الجذور…» أن سؤال الحداثة وقصيدة النثر قد انتهى عهده. وهي، الآن، بصدد اللمسات الأخيرة على الجزء الثاني من كتابها «يوتوبيا المدينة المثقَّفة». وفي هذا الحوار الشامل والمثير تقول خالدة سعيد إنها -إذا سمح العمر- ستضع جزءاً ثالثاً، كما ستكتب سيرتها الذاتية.

– كنت الناقدة الوحيدة التي رافقت صدور مجلّة «شعر» منذ العام 1957، وكتبتِ عن شعرائها، وشاركتِ في ثورتها، وعشتِ في صميم حركتها، وكنتِ توقّعين دراساتك باسم خزامى صبري، وكأنك كنت تخشين إعلان هويّتك واسمك. كيف تستعيدين الناقدة التي كنتها، في تلك الفترة الذهبية؟ ماذا عن خزامى صبري المتحمِّسة لثورة الحداثة وقصيدة النثر؟

– كنتُ الناقدة الوحيدة، لكنني لم أكن الناقد الوحيد. كان هناك نقّاد محترَمون وبعضهم اشتُهر من خلال مقالاته النقدية في مجلّة «شعر»، أقدر أن أذكر لك ناقداً كبيراً هو- في الوقت نفسه- شاعر كبير. وقد عرّفنا نحن- المشرقيين- بشعراء عرب أفارقة كبار، وكان بالغ الكرم، لا يغفِل اسماً محتَرَماً، ويمكنك أن تراجعي أعداد مجلّة «شعر». إنه الشاعر أنسي الحاج. وبالطبع، لن أنسى الناقد الكبير والروائي والمترجم والشاعر جبرا إبراهيم جبرا، الذي أفدتُ منه كثيراً. كما أقدر أن أذكر لك الدكتور أسعد رزوق، في دراسته الشهيرة حول الشعراء التمّوزيّين، وأذكر- بكثير من الاعتزاز- الدكتور عادل ضاهر في دراسة شهيرة عن أدونيس، تتجاوز ما كتبتُه عنه. ولا يمكن أن أستقصي الآن جميع الأسماء. ربما يُذكَر اسمي، في بعض الأحيان، لأنني امرأة، وهو ما كان قليلاً أو نادراً،كما أنّ حكايتي وتغيير اسمي إلى خزامى صبري أحدث بعض الغموض.

صحيح أنني كنت حاضرة ومتابعة، وكانت مقالاتي جديدة في مقارباتها، مقروءة وذات تأثير، إذ ينبغي ألاّ تنسي أننا كنّا في معركة القصيدة الحديثة، وكنت أعتزّ عندما يقول قارىء مثقّف إنه اقتنع، تماماً، برؤيتي لقصيدة النثر، ولم يعُد معادياً لها. أريد أن أقول إنّ لي تاريخاً خاصّاً مع القراءة، بمعنى التأمُّل في النصّ وإعادة قراءته مرّات، ومساءلته، وهذا جزء من مسيرة حياتي الخاصّة.

لكنني لم أكن- رسميّاً- من جماعة «شعر». كانوا خمسة، ولم يكن مناسباً أن يكون بين هذا العدد القليل زوجان، علاوة على أن اسمي لم يكن يعني شيئاً قبل أن أكتب في المجلّة، وتُحدِث مقالاتي تأثيرها. وفي الحقيقة، لم تكن لي يومها أيّة ألقاب علمية أو أدبية. كنت قد حصلت على البكالوريا منذ وقت قصير، وأنهيت السنة الجامعية الأولى في دمشق، ثم تزوّجت وجئت إلى بيروت. 

اسم خزامى صبري ساعدني على التنكُّر في البداية، ثمّ جاءت قراءة القارىء وحكمه لدعمي.

في سؤالك الأوّل هذا مجموعة أسئلة. بدأت كتابة النقد مباشرة وبلا سابق تجربة. سمعني يوسف الخال في مناقشات مجلّة «شعر»، واقترح عليّ الكتابة. 

أريد القول، هنا، إنني في تلك المرحلة كنت أقرأ للشيخ عبدالله العلايلي، وهو- بالمناسبة- أكبر محلّل للنصّ الأدبي والنصّ اللّغوي، وأعدّه أستاذي الأوّل، قبل رولان بارت وقبل دريدا وغيرهما. إذا قرأ أو شرح نصّاً أضاءه من جهات لا تُحصَر، واكتشف فيه أبعاداً وأعماقاً، بل أقول إنه حين يكتب عن شاعر، يعيد اكتشافه؛ وهذا ما حصل في قراءته للمعرّي، مثلاً. ويصحّ هذا على ما يُعَدّ معجمه، وهو ليس بمعجم، بل موسوعة دلالية أنثروبولوجية، تعود بالمفردة إلى جذورها القديمة، من سريانية أو غيرها، وتتقصّى ما تلقّته من مؤثِّرات وما ترسَّب فيها من دلالات التعبير. ولهذا سمّى المعجم «موسوعة لغوية علمية فَنّية». وقد  أعادت نشره- مشكورةً- «منشورات دار الجديد». كلّ ما قرأته في النقد الفرنسي، خاصّة، وفي النقد الأميركي وفي النقد الإنجليزي، جاء بعد ذلك.

أمّا سؤالك عن حماستي لثورة الحداثة وقصيدة النثر، فهو سؤال ذهب عهده. اليوم، يعرف الجميع أن الشعريّة لا تقوم في الوزن أو أيّ شكل محدّد آخر؛ إنها تقوم في سحرية حركة اللّغة والمجاز، دون انفصال عمّا يُسمّى المضمون أو المعنى، بل لا وجود للمضمون قبل التعبير أو بدون التعبير؛ المضمون هو التعبير، والتعبير هو المضمون.

– مروحتك النقدية كانت واسعة حقّاً، فأنت كتبت عن معظم شعراء مجلّة «شعر» الذين بدوا مختلفين، بعضهم عن بعض: أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، وسواهم. ما سرّ هذه الرؤية النقدية المنفتحة والمتعدِّدة المقاربات؟ كيف يمكن- مثلاً- الكتابة، بحماسة ووعي، عن شاعرين يختلفان كل  الاختلاف: أدونيس، وأنسي الحاج، لا سيّما في ديوان الأخير «لن»، حتى لتبدو دراستك عنه بين أهمّ ما كُتِب حتى الآن؟

– الآن، إذ أجيب عن أسئلتك، نتكلّم عن زمن مجلّة «شعر» وبدايات كتابتي للنقد. لم أكتب عمّا لا يعجبني أو يؤثّر فيّ. وما كان يؤثّر فيّ أو يدهشني لم يكن ينحصر في أسلوب. لا أعرف إن كانت مقالتي، أو مقالاتي، أهمّ ما كُتِب عن أنسي الحاج. لقد كُتِبَتْ حوله أطروحات لمثقَّفين، لهم قيمة أدبية كبيرة. 

نجاحي في النقد يعود إلى أنني كنت قارئة، أساساً، ومنذ صغري؛ ليس بمعنى أنني قرأت كتباً جميعها مهمّة أو تحليلية، فيمكنني أن أقول إنني قرأت المهمّ وغير المهمّ. عمليّة القراءة تمتلك- في حدّ ذاتها- سحراً. وأنا، بين الثامنة والحادية والعشرين، عشت، دائماً، في مدارس داخلية بعيدة عن بلدة الأسرة، فكانت القراءة نافذتي وطريقي للسفر والحياة.  

في مدرسة داخلية دمشقية قديمة جدّاً (مكتب عنبر)، مثلاً، جدرانها شديدة الارتفاع؛ بحيث لم نكن نرى من السماء إلّا رقعة محدودة، عشت بين عمر الثانية عشرة والسابعة عشرة (1944 ـ 1949). لم أكن أعبر الباب الموصل إلى الشارع والمدينة إلّا مرّتين في السنة، ولم يختلف الأمر كثيراً بين 1949 و 1952، في مدرسة لاحقة.

في ذلك الإطار، وذلك العمر، وماضيّ الغريب، كانت القراءة ملاذي، كانت وسيلتي لثقب الجدران. لكنّ الكتب التي حرص أبي على تزويدي بها بقيت، على تنوّعها وكثرتها وأهمّيّة عدد كبير منها- دون الكفاية. هكذا، كنت أقرأ الكتاب قراءة أولى سريعة للتنفّس وملء الوقت، ولا ألبث أن أواجه الفراغ، فأعود إلى كتاب مقروء، المرّة بعد المرّة. مع توالي القراءات، كان يتراجع بُعْد التشويق وجاذبية الموضوع، ويبدأ التأمّل واكتشاف النصّ اللّغوي وأسراره، حتى أصبحت هذه الإعادات والمساءلات نوعاً من اللعب، أو الإدمان. عام (1955 ـ 1956) جاءت مرحلة تالية صعبة، وكنت في الثالثة والعشرين. فاستعنت بذخيرتي من الكتب، واستأنفت دفاعاتي القديمة.

سحر القراءات المتكرّرة  وضعني أمام نصوص تضيئني، نصوص تتوالد، وتتفتّح، وتفتتح الآفاق، وتلتقي بخفايا المنابع الشخصية والمنابع الثّقافية للكاتب والقارئة. 

هكذا، وصلت إلى بيروت في أواخر ديسمبر/كانون الأول، 1956، جاهزةً لبدء مقالاتي في نقد الشعر. في محيط مجلّة «شعر» وجماعتها واجتماعاتها اكتشفت أضواء جديدة وآفاقاً للإبداع الشعريّ والتأمّل النقديّ، ثم جاءت دراساتي الجامعية بدءاً من عام 1963.

– كتبت الكثير عن أدونيس، الشاعر، والزوج، والرفيق. هل تشعرين بإحراج في الكتابة عن شخص هو شديد القرب منك؟ هل يمكن التفرقة بين الشاعر والشخص الذي هو القرين، قرين الحياة والروح؟

ـ حين أكتب لا أخاطب صاحب النصّ، ولا أتوجّه إليه؛ تدور العملية بيني وبين النّصّ. الكتابة عن نصّ نوعٌ من التملّك والتبنّي. ولا معنى لكتابتي النقدية إذا خنتُ نصّ المبدع؛ أي خنت نصّي النقديّ الخاصّ. نصّي هو خصوصيّتي وكلمة الشرف الموجّهة لنفسي وللقارىء في وقت واحد. نصّي هو كلمة الذّات الكاتبة وكلمة الشراكة بيني وبين الكاتب والقارىء. فأنا- أيضاً- قارئة مثله، والذي يقرأ النقد لا يفعل ذلك ليتسلّى أو يطرب؛ يقرأ من منطلق المعرفة والتجاوب والمساءلة والإضاءة، وحتى الهيام. 

ثم إننا (أنا وأيّ ناقد) لا نكتب لقارىء جاهل، بل لقارىء عارف، ما يحمِّل الناقد المسؤولية عن المعرفة التي يقدّمها. وهذا النوع من الغشّ، (أعني المُحاباة أو التَّحامُل) يخون الأطراف الثلاثة: القارئ، والكاتب، والشاعر، أو- على الأقلّ- الشعر. 

ثمّ، إذا كان أدونيس سيتدخّل أو يبدي أيّ ملاحظة على نقدي لفلان أو فلان، معنى ذلك أنني أفقد صدقيَّتي، بل أفقد صوتي ورؤيتي واستقلاليّتي ومبرّر كتابتي، ويكون الأفضل أن أكتب الدراسات النظرية حول الشعر، ولا محلّ، هنا، للكلام على أمر بديهيّ، هو عزّة نفس أدونيس وترفّعه. فنحن، هنا، في ميدان المعرفة والإبداع، واحترام هذا الإبداع وصاحبه، وصيانة صدقية العلاقة بين الناقد والمبدع، هما من الأولويّات. 

وبالمناسبة، أدونيس كتب عن شعراء، مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وجورج شحادة والسياب وغيرهم، ولم يسأله أحد إن كنت أتدخّل فيما يكتب. هذا السؤال الاتّهامي يتضمّن حكماً مسبقاً بخضوع المرأة (حتى على المستوى الأدبي) للزوج، كما أنه حكم مسبق على الزوج بأنه لا يحتمل حتى الحرّيّة الفكرية لزوجته. ولستِ أوّل من طرح عليّ هذا السؤال. إنه سؤال مرفوض قطعاً، ويمسّ روعة العلاقة الإبداعية وتبادل الإضاءة بين الناقد والنصّ، كما يمسّ شخصية النّاقد.

– هل أخذت على شعر أدونيس الشاعر المكرّس عالمياً بضعة مآخذ نقدية؟ هل تناقشينه في هذه المآخذ؛ هو الذي يثق بك كلّ الثقة، ويعدّك سابقة إيّاه- كما أعرف- مراراً؟

– إنه «يعدّني سابقة»؛ تهذيباً، فهو رفيع التهذيب واللباقة.

أمّا عن المآخذ النقدية، فربّما أبديت ملاحظة كما يبديها أيّ صديق مخلص. ولكنني لا أمارس دوري كناقدة إلا كتابةً، كما أمارسه مع أيّ نصّ آخر؛ فكتابتي تحليلية وليست انتقادية. أنا لا أعلّم أحداً.

عندما ألقى أدونيس محاضرته الشهيرة، بعنوان «بيروت… هل هي مدينة حقّاً، أم أنّها مجرّد اسم تاريخي؟» في ملتقى «أشكال ألوان»، وأثارت جدلاً إعلامياً وآخر ثقافياً، ما كان رأيك بذلك؟ وهل وافقتهِ الرأي حينها، خصوصاً أنك تبدين مولعة ببيروت؟

ـ أدونيس- أيضاً- عاشق لبيروت، ولن أزايد عليه. وكان كلّما زار بيروت حزن للأوضاع التي ظلّت تتراجع منذ الحرب الأهلية التي لم تنتهِ عمقيّاً. أمّا تلك العبارة فكانت سوء تعبير عن الألم الشديد، لا قلّة محبّة وتقديس، بل كانت فرط محبّة. مع ذلك، حذّرتُه من أنّها لن تُحمَل على المقصود منها حقّاً، ولا يمكن أن تُفهَم بحسب غايته منها. هو أرادها صدمةً؛ فصدَمَت؛ كأنّما كان يقول: ماذا فعلتم ببيروت؟ لكن، بحسب صيغتها تلك، فُِهمت هجاءً لبيروت. وكان هناك من استغلّها وزاد في التّهويل، وبدل العتاب والتصحيح أُعلِنَت الحرب. لم يكن الزمن، يومذاك، كما هو اليوم. ربّما لو كانت قيلت اليوم (لكن ليس للكتّاب، بل للسياسيّين) لَما صدَمَت.

– يتميّز نقدك  بخصائص عدّة: علميّته، وطابعه الأكاديمي، وخلفيّته الثّقافية، و- أيضاً- لغته التي تبدو أقرب إلى اللّغة الإبداعية؛ وهذا ممّا يضفي على نصوصك النقدية متعة القراءة، التي نادراً ما نجدها لدى النقّاد العرب الأكاديميّين. ماذا عن سرّ الوجه الإبداعي لنقدك؟ هل تعتقدين أنك تخفين في ذاتك مبدعة شاعرة أم روائية لم تخرج إلى العلن؟

– في عائلتي شعراء. في عائلتي حبّ للشعر وللشعراء: أختي سنيّة صالح كانت شاعرة مُجيدة، وتزوّجت شاعراً مجيداً، وخالي كان شاعراً تقليديّاً، وابنة خالي أمل الشريف شاعرة كلاسيكية. والشعراء- أيضاً- عديدون بين إخوة أدونيس وأبناء إخوته و- أيضاً- والده وأخواله. والآن، هناك شاعرة مجيدة صاعدة هي ابنة أخيه، واسمها فرات إسبر، لكنني لا أرث هذه العائلة، وإن أحببتها. 

حبّي للشعر معروف؛ قرأت الشعر بانتظام منذ طفولتي، بل حاولت كتابة الشعر في عمر مبكّر جدّاً. ثم وجدت رسائلي وموضوعاتي في الإنشاء أجمل بكثير من تلك المحاولات، فتوقّفت. لعلّ ذلك الشوق أطلّ عبر النقد الذي أكتب، ثمّ إنّ حبّي للشعر وامتداد قراءته، على مدى خمسة وسبعين عاماً، وقراءة الدراسات حوله، قد ترك أثره، بلا ريب. ولا تنسي أنني لا أكتب عن شعر لا أحبّه.

– هل تفكِّرين في كتابة سيرتك الذاتية التي ستكون- إذا ما كتبتِها- سيرة شاملة لمرحلة ولمكان وزمن، لشخص ولجماعة؟ لماذا لا تكتبين هذه السيرة الذاتية؟

– ربّما أكتبها، إذا سمح الزمن بذلك.

– في كتابك «يوتوبيا المدينة» بدوتِ كأنك تكتبين سيرة لبيروت، مدينة الحداثة والثّقافة، مدينة التحرُّر والحرّيّة، مدينة التحوّلات والانفتاح… وبدت بيروت هي مدينتك بامتياز، وكتبت عنها أفضل ممّا كَتب عنها لبنانيون كثر. ما سرّ علاقتك ببيروت؟ هل يزعجك أن أقول عنك إنك لبنانية اكثر ممّا أنت سوريّة؟

– كيف يزعجني؟ بل هذا يشرّفني. أعرّف عن نفسي بأنني لبنانية من أصل سوري. ولا أنكر أصلي، بل أعتزّ به. وفي النهاية: مَن وضع هذه الحدود؟ ولأيّة اعتبارات وأهداف؟ وبمناسبة هذا السؤال أخبرك بأنني أضع، الآن، جزءاً ثانياً من كتاب «يوتوبيا المدينة المثقَّفة»، وإذا سمح العمر سأضع جزءاً ثالثاً.

– حتى كتابك القيّم عن المسرح اللبناني يكاد يكون الوحيد في تأريخ المسرح اللبناني الحديث، ونقده، وتحليله، وبدوت فيه قريبة كلّ القرب من الحركة المسرحية. لماذا اخترت المسرح اللبناني؟ هل تعتقدين أنه كان في طليعة الحركة المسرحية العربية؟

– كنت، منذ ستينيات القرن العشرين، أتابع المرحلة الحديثة في المسرح اللبناني. وفي السبعينيات بدأت أكتب عن أقطاب فيها، بل كنت أُعدّ كتاباً حول المسرح، عندما كلّفتني لجنة مهرجانات بعلبك الدوليّة، بشخص السيدة الراحلة سعاد نجار، كتابة بحث حول المسرح الذي رَعَتْه، وما كان يمكن أن أقصر البحث حول مسرح المهرجانات وحده. هكذا، شملت الدراسة كل ما عُرِف بالمسرح الحديث. وصدر الكتاب الآخر، بعد ذلك، عن دار الآداب، بعنوان «الاستعارة الكبرى»، ليتناول مراحل سابقة.

– خالدة السعيد من النقّاد القلائل الذين رافقوا أجيال الشعر العربي الجديد والراهن، وكتبت عن شعراء شباب، غالباً ما يقصّر النقد الشعري عن مرافقتهم. كيف ترين، الآن، المشهد الشعري العربي الراهن في ابتعاده عن منابر الشعر الريادي وبنائه أفقاً متفرّداً بلغته وأدواته الشعرية؟

– لا أحبّ أن أتكلّم حول موضوع بالغ الأهمّيّة، بينما أنا عاجزة عن متابعته. إنني، الآن، متفرِّغة، تماماً، لإصدار ما تجمّع من كتاباتي. لكن الشعر يبقى ما بقي الإنسان. ولا بدّ من أن نثق بالشبّان، ولا تنسي أفواج الشاعرات الشابّات اللواتي سيحملن إلى عالم الشعر أنفاساً جديدة وذروات جديدة، كما أرجو.

– فضلتِ- بوصفك ناقدة- ألّا تدخلي في سياق النقد النسوي أو الـ «feminism»،  على خلاف ناقدات كثيرات. كيف تنظرين إلى المدرسة النسوية في النقد؟ ولماذا لم تكتبي في هذا الميدان؟

– اعذريني لأنني لا أعرف شيئاً اسمه (المدرسة النّسوية في النقد)، ولا أعرف كيف يكون النقد نسويّاً أو ذكوريّاً. كبيرات النّاقدات العربيات، و- الأحرى- كبيرات النقد العربي عالمات في النقد وقراءة النصّ، وهنّ حاضرات: من لبنان وسورية ومصر والعراق وفلسطين والأردن وبلدان المغرب العربي. 

– في كتابك «في البدء كان المثنّى» تقدِّمين مقاربة فريدة، عمادها فكرة «المثنّى» في الأدب والثّقافة. ما كان الحافز الذي دفعك إلى معالجة هذه القضية؟

– «المثنّى» ليس فكرة، بل طبيعة وواقع. وبكلمة المثنّى قصدت التوحيد بين الرجال والنساء. إنه الإنسان الواحد، بجنسَيْه، كما خلقه الله: بلطفٍ واحد، وحكمة واحدة، في لحظة واحدة، كنوع واحد وتكوين متكامل، وليس كائناً بمستويَيْن أو رتبتَيْن أو درجتَيْن أو فصيلتَيْن.

– لو سألتك لأي شاعر تقرئين باستمرار؟ فهل يكون أدونيس؟

– قرأت لكثيرين، طبعاً: قرأت لأدونيس، وهناك مَن قرأت لهم ولم يُتِح لي الزمن أن أكتب عنهم، والبركة في الناقدات والنقّاد الحاليّين والقادمين. الآن، أتفرغ لإنهاء كتاباتي قبل أن يفاجئني الحَين.