انسابَ الزمنُ العربي وصولاً إلى لحظة صار فيها هذا الوطن المُفتَّت يلملم جراحاته ويحاول الالتئام مرّةً أخرى «حول مشترك ما»، وكالعادة تكون كرة القدم هي الوسيلة وفُسحة التنفس، لكن الفسحة هذه المرّة جزء من أرض هذا الوطن العربي، إنها رئته؛ إنها قطر 2022، قطر الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بسَعة رؤيتِها وسماحتِها، وهي ترسم بجهودها للوطن العربي إلى العَالَمية منفذاً، وتقتطع للعَالَم سَعة فرح وسرور من ضيق خريف الأزمة ويأس الحروب.
«لمَنْ سنرفعُ صراخ الحماسة والمُتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجّج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه وعلى أملنا فيه من الانكسار؟».
ذاك بعض من انسكاب الشعرية في نثرِ مقال خصّ به الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أسطورة كرة القدم العَالَميّة «دييغو مارادونا» عقب بطولة كأس العَالَم لسنة 1986، حيث تُوِّج مع منتخب بلاده الذي أحرز هذه الكأس للمرّة الثانية في تاريخه، لكنه بعد أن عاود المُشاركة معه برسم نفس البطولة سنة 1994 وطُرِدَ، ما كان من مواطنه في القارة؛ الصحافي الأورغواني، إدواردو غاليانو، إلّا أن كتب مختصراً مساره في ثلاثة أفعال: «لعب، فاز، خسِر. كشف التحليل عن وجود إيفدرين وأنهى مارادونا موندياله عام 1994على أسوأ حال»(1)؛ أليس ذلك تجلّياً للمبدأ الهولوغرامي، إنْ شئنا استعارة تعبير ومفهوم إدغار موران، الذي يسمح بإدراك الجزء داخل الكل ووجود الكل داخل الجزء، وهو مبدأ يوجد في العَالَم الفيزيائي كما البيولوجي وفي العَالَم السوسيولوجي أيضاً»(2)، فهذا المبدأ هو ما يسوِّغ إدراك مسار نجوم اللعبة، الذي يضطرهم إلى القطع مع أسلوب الحياة العادية والمألوفة، ومع العلاقات المُعتادة، من أجل العيش ضد الوقت، وبالتالي ضد المكان وداخل عالَم لا يعود فيه أي معنى يذكر للمجال الخصوصي»(3)، إدراكه بوصفه يحمِلُ في ذاته تركيزاً وتكثيفاً للُّعبة نفسها؛ من بدايات، ثمَّ صعود وتوهج، يعقبه انطفاء، واسترجاع، عبر الحنين لزمن لا يفتأ يبتعد، واستنهاض بالعقاقير المُنشّطة، لأجسامٍ ما عادت تستجيب؛ فـ«قوانين المردودية التي تستدعي الربح بأي حال، تضطر الكثير من اللَّاعبين إلى التحوُّل إلى صيدليات تركُض، والنظام نفسه الذي يجبرهم على ذلك، هو الذي يدينهم أيضاً من أجله، كلما انكشفت المسألة»(4) كما قال الحارس الألماني شوماخر، ونفس المبدأ الهولوغرامي يبرِّرُ إدراك اللعبة بوصفها، تركيزاً وتكثيفاً للكل الاجتماعي، وهو ما يُقرأ من عنوان كتاب موران: «الرياضة تحمل كل المُجتمع في ذاتها»(5) الذي يضمُّ بين دفتيه، الحوار الذي أجراه معه فرانسوا ليفونيت بـ«المعهد الوطني للرياضة والخبرة والأداء» (INSEP)، والصادر سنة 2020 عن دار النشر (Le Cherche Midi).
إنَّ الرياضة بمثابة نقطة هولوغرامية ثلاثية الأبعاد تحمل في ذاتها المُجتمع برمته، لكنها تحمل تفرُّدها المُتمثِّل في أنها لعبة، وبذات الكيفية التي يتولّى فيها الحَكَمُ مهمَّة التحكُّم في خطر تحوُّلها إلى عنف وضبطه، نجد التصويت يتحكَّم في العملية الديموقراطية دون أن ينفي وجودَها على تُخم اللَّايَقين الذي يفتحها على خطر وصول حزب له تطلُّع توتاليتاري شمولي إلى السلطة بكيفية شرعية، وهذا ما يجعلها «أقلّ أنظمة الحكم سوءاً» على حدِّ تعبير وينستون تشرشل، أمَّا الرياضة فخصوصيتها كامنة، بحسب «موران»؛ في أن العنف حتى لو حام، إنْ جاز القول حولها، لاسيما منها تلك الرياضات التي تثير حماسة الجماهير، والتي تَتحقّقُ فيها ذروة الهيجان والفوران الجماعي، كما هو الحال بالنسبة لكرة القدم على سبيل المثال، وحتَّى حين تشتعل شرارة العنف في ميادينها، فإن السَّبَب في إيقادها عادةً ما لا يدور في فلك العوامل الرياضية البحتة، بل يصدر عن عوامل خارجية بالنسبة لها وغريبة عن منطقها، سواء أكانت عوامل سياسية أو اجتماعية أو غيرها؛ بحيث لا يمكن أن نجد التنافس بين الفرق الرياضية هو ما يؤدّي بوضوح إلى أشكال العنف الحدِّية والمُتطرفة، في حين تحضُر هذه الأخيرة بقوة حين يكون الأمر متعلِّقاً بالتنافس والصراع، سواء بين الحركات السياسية أو الطوائف والتيارات الدينية، وهنا يمكن أن نجازف بالتأكيد على أن ما أُلْقي من قنابل وما حصل من تفجيرات في أماكن العبادة أكثر بكثير مما حصل في الملاعب الرياضية، وحتَّى حين يحدث ذلك لا يكون الفاعل فيه هُم الرياضيُّون؛ لاعبين كانوا أم جمهوراً، بل هم أول الضحايا!
إنَّ هذه النظرة المُركَّبة للرياضة عموماً، ولكرة القدم خصوصاً التي يستند إليها إدغار موران في تقديم جُلّ أمثلته، تهدف أساساً إلى تَجْنِيب الرياضة الوقوع ضحية المُقاربة الاختزالية والأحادية، التي تركِّز في التفسير على استدعاء عامل واحد، أو تغليبه في مقابل العوامل الأخرى، ولأن الإنسان ليس عاقلاً فحسب (Homo sapiens) ولا صانعاً (Homo Faber) ولا هو إنسان الانفعالات والأهواء ولا إنسان اللعب (homo ludens) فقط، بل هو كل هذه الأبعاد وأخرى مجتمعة، فإنَّ الرياضة عموماً، ولاسيما كرة القدم، «التي هي مرآة لكل شيء تعكس هذا الواقع»(6)، على حدِّ تعبير إدواردو غاليانو، فلا عجب، إنْ كانت عاكسة للحب وللشعور بالانتماء والتماهي، وهنا يمكن التفكير في ما تحظى به كرة القدم من أهمية في تقوية التماسك الاجتماعي وتعميق سرديّة الانتماء الوطني، بالنسبة لكل شعوب الأرض لاسيما شعب البرازيل، تماماً مثل عكسها لمشاعر الكراهية والغضب، ولقيم التسامح والروح الرياضية، وللقيم الاقتصادية التي يسعى وراءها الإنسان ككائن عقلاني يبحث عن الربح، أي باعتباره إنساناً اقتصادياً (L’homo œconomicus)، حين توظفُها الشركات وتخضعها لمنطق السوق تأويجاً للأرباح.
لذلك كانت النظرة الأقرب إلى الدُّنو من ماهية الظاهرة الرياضية، هي المُقاربة المُتعدِّدة التخصُّصات والعابرة لها في آن، لأجل إحاطة تكون أقربَ إلى الشمول بما يطبعها من تعقيد وتركيب يجعل منها تحدياً مرفوعاً للعلوم الاجتماعية، لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الغاية وعلاقة هذه العلوم بالرياضة عامة وبكرة القدم خاصة، تنطوي على ضرب من المُفارقة، يتجلى في أن كرة القدم «التي تتربع، دون منازع، على عرش الرياضة الأكثر شعبية في العَالَم بأسره، سواء ارتبط الأمر بممارسيها أو بجمهورها أو بمَنْ يتابعونها عبر شاشات، فهذه اللعبة التي شهدت ميلادها في إنجلترا أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، كما يُشير إلى ذلك اسمها، سرعان ما انتشرت في أوروبا وأميركا اللاتينية، ثمَّ غزت إفريقيا قبل أن تلج إلى آسيا حديثاً، خاصة الصين، ووحدها الولايات المُتحدة الأميركية لا زالت تُظهر نوعاً من المُقاومة تجاهها»(7)، لم تشفع لها أهميَّتُها بوصفها «واقعة اجتماعية (تمتلك كل المظاهر المُميزة لـ«الواقعة الاجتماعية الكلية»، إن شئنا الحديث بعبارات مارسيل موس)، وظلّت تشغل مكانة هامشية داخل حقل العلوم الاجتماعية (خاصة في فرنسا)، لاسيما السوسيولوجيا؛ فكيف لنا بتفسير هذه الفجوة بين ممارسة شعبية جداً وبين التردُّد القوي للسوسيولوجيا الفرنسية في تناولها كموضوع والعمل لأجل الإحاطة بها؟»(8).
ذاك هو منطوق المُعاينة التي يفتتح بها كل من «ستيفان بو» و «فريدريك راسيرا» كتابهما الذي يحمل عنواناً طموحاً: «سوسيولوجيا كرة القدم»، لأن موضوع كرة القدم بإقرارهما ربما يكون الموضوع الأَقلّ تمتعاً بالمشروعية والأهلية لمُقاربة العلوم الاجتماعية، إذ طالما اعتُبر موضوعاً مبتذلاً وغير نبيل بما يكفي ليكون موضوعاً للدراسة السوسيولوجية، وهو ما يرجع في جزء منه إلى الاستعلائية التي يبديها المُثقَّف تجاه ما يحرِّك الحشود، وفي هذا السياق يمكن ذكر تشبيه «أمبرتو إيكو» للاعبي كرة القدم بـ«بعض الكائنات الوحشية»، والذين صُنعوا ليصبحوا أبطالاً بلا روح، تحيط بهم جماهير مبتهجة تتفرَّج عليهم لترى كيف يحرِّكون أجسادهم، ويتعلّق الأمر هنا بنوعٍ من الاستبداد المعنوي، الذي يفرض على الأغلبية نسيان جسدها لتُعْجب بجسد أقلية»(9)، أمَّا عن الجمهور الذي يتعصَّب لفريقه، فيقول: «عبر بيوتهم أدرك مكان اجتماعهم الأسبوعي، والملاعب يوم الأحد، حيث أسخَر مما يحدث، وحيث لن يكون الأمر أكثر سوءاً فيما لو أسرع الهوليغان في النزول إلى الملعب، لأن هذه الوقائع تلهيني، ولكونها من ألعاب السيرك بقدر ما يسيل من دماء»(10).
إنَّ عبارات «إيكو» تعبِّر عن لسان قسم كبير من المُثقَّفين يزدري كرة القدم مؤمناً بيقين «أن عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المُصابة بمسّ كرة القدم تفكِّر بأقدامها، وهذا من خصائصها، وفي هذه المتعة التبعية تجد نفسها، فالغريزة البهيمية تفرض نفسها على الجنس البشري، والجهل يسحق الثقافة، وهكذا تحصل الدّهماء على ما تريده»(11).
هذا ما يفسِّرُ جزئياً ملاحظة «ستيفان بو» و «فريدريك راسيرا»، والعامل الآخر الذي ربما يكون أسهم بقسطٍ كبير في تهميش الرياضة وجعلها موضوعاً غير مستساغ من لدن العلوم الاجتماعية، يتمثَّل التأويلات المُتعسِّفة للتيارات الماركسية، التي شهدت سنواتها الظافرة في القرن العشرين، والتي تحدَّدت كرة القدم في عُرفها باعتبارها «أفيون الشعوب» ؛ فهي لا تعمل إلّا على إلهاء الجماهير وعَصْب وعْيها عن التفرُّس في أسباب استغلالها؛ فالعُمَّال «المُنوَّمون بالكرة التي تمارس عليهم سحراً خبيثاً، يُصابون بضُمور الوعي، ويتيحون لأعدائهم الطبقيين أنْ يسوقوهم كالقطيع»(12)، فهي، بداخل هذا المنظور لا تعدو أن تكون «جهازاً أيديولوجياً للدولة يتحدَّد كليةً بعلاقات الإنتاج الرأسمالية وجهاز الدولة البورجوازية»(13). وجميع الكتابات التي نحت ولا زالت تنحو هذا المنحى الجذري في نقد الرياضة عامة وكرة القدم خاصة، إنْ كانت لها من مزيَّة فهي، على الأَقلّ، فضيلة التشكيك في الأطروحة التي تزعُم نقاء الرياضة من السياسة وتجرُّدها من كل شوائبها، والتي شكَّلت حرب أوكرانيا مؤخَّراً أنكى دحضٍ وتفنيد، لكن حتَّى، مع امتلاكها لهذه الفضيلة، تظلّ هذه الأعمال مفتقرة للجوانب الأمبريقية التي تثبت صدق دعاواها التنظيرية.
وفي مقابل هذه الشيْطنة لكرة القدم، نجد توجُّهاً آخر يذهب إلى جعلها حاملاً لكل الفضائل وموئلاً لكل المزايا، فهي بنظره عامل من عوامل تحقيق السلم على الصعيد المحلي كما العَالَمي وأداة من الأدوات الفعَّالة للتربية والتنشئة الاجتماعية والإدماج الاجتماعي..، بل هناك من المُثقَّفين مَنْ ذهب، عكس «إيكو»، بعيداً في التأكيد على ذلك، كما فعل «ألبير كامو»، الذي مارس لعب كرة القدم كحارس مرمى، مؤكِّداً بأنه تعلّم من ذلك «أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وهو ما ساعدني في الحياة، خصوصاً في المدن الكبيرة، حيث عادةً ما لا يكون الناس مستقيمين، وتعلَّم أنْ يفوز دون أن يعتريه الشعور بأنه قوة خارقة، وأنْ يخسر دون أنْ ينتابه الإحساس بأنّه قمامة»، وبالإجمال، وكما يقول: «أنا مدين لكرة القدم بكل ما أعرفُهُ عن الأخلاق»(14).
بين هذين الحدَّين المُتطرفين في مقارَبة كرة القدم يتخذ موقف «بيير بورديو» النقدي موقعه، إذ على الرغم من أنه لم يكتب الكثير عن الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً، فإنه قد وضع مع ذلك برنامجاً لسوسيولوجيا الرياضة، من خلال ما نشره من مقالات حول الموضوع(15) والأعداد التي خصَّصها له من مجلة «Actes de la recherche en sciences sociales»، بحيث يمكن القول إنّ إسهام «بورديو» في هذا الباب صار في اتجاه مقارَبة المُمارسات الرياضية في علاقتها بالهابتوس الخاص بالطبقة الاجتماعية، إذ أوضح وثاقة الصلات التي تجمع التفضيلات، في هذا المجال، بالجسد وبالعَالَم الاجتماعي، مما يفسِّر التوزيع غير المُتكافئ لهذه المُمارسات داخل الفضاء الاجتماعي، بل إن اهتمام «بورديو» بالجانب الرياضي تجاوز ذلك إلى حدِّ التماسه للأمثلة والاستعارات الرياضية لأجل إيضاح ما الْتَبس واستشكل من مفاهيمه على الأفهام، كما هو الحال بالنسبة لنظريته حول الفعل، فحتَّى يقرِّبَ معنى مفهوم الحس العملي (le sens pratique)، نجده يقارنه بحسِّ اللعب (le sens du jeu) الذي يبرهن عليه الرياضي، حين يعرف حيث يتعيَّن عليه التموضع، وأين ومتى يتعيَّن عليه وضع الكرة أو الامتناع عن ذلك، وهو ما لا يتمُّ بفضل حسابٍ واعٍ أو خضوعٍ وامتثالٍ لقاعدة، بل يجري بوصفه تعديلاً فورياً، تسبقه تجربة طويلة من اللعب، فيكون كاشفاً بذلك لجملة من الاستعدادات؛ ما يجعل الحس العملي شبيها بتحكم اللَّاعب المجرّب في الوضعية، فهو يتصرَّف في ظلّ أزمة ظرفية عبر إظهاره لاستجابات مناسبة دون أن تمُرّ هذه الأخيرة ضرورةً عبر مصفاة الوعي، والرياضة لا تفيد فقط ببعدها البيداغوجي في بيان معنى الحس العملي، بل هي تُمثّل صورةً وشكلاً له؛ لأنها إلى جانب بعض الفنون، مثل الرقص والمسرح، تمثِّلُ فضاءً للتَّعلم الجسدي بامتياز – لذلك كانت موضوع «بورديو» الأثير لبيان الكيفية التي تتجسَّد بها الاستعدادات.
وفضلاً عن هذا وذاك انشغل «بورديو» بالكيفية التي يتشكَّل بها فضاء الممارسات الرياضية، بحيث يسْتقلّ بمنطق اشتغال خاص تُؤمّنُه هيئات بعينها، ما دفعه إلى التفكير في الشروط الاجتماعية والرمزية التي دعمت ظهور الشكل الرياضي ونشأته وهنا لم يكن له بدُّ من العودة إلى السوسيولوجي الألماني «نوربرت إلياس»، هذا الأخير الذي لا يمكن القفز على إسهامه، أو التغاضي عن أطروحته حين التفكير في كيفية مقاربة السوسيولوجيا للرياضة عموماً ولكرة القدم منها على وجه التَّخصيص، إذ إليه يعود الفضل، إلى جانب «دونينغ»، في جعل كرة القدم موضوعاً سوسيولوجياً بامتياز، فقد درس من منظورٍ تاريخي أشكال الألعاب الشعبية بدءاً من العصور الوسطى، مبرزاً الفروق بينها وبين كرة القدم، باعتبارها عنواناً للرياضات الحديثة، لأن ما كان يمارَس في الأزمنة القديمة وفي العصور الوسطى من ألعاب، تميَّز بدمويَّته وقسوته ودلالته الدينية، في مقابل كرة القدم والرياضات الحديثة التي تتميَّز باستنادها إلى قواعد محدَّدة بدقة، حيث خضعت الرياضة الحديثة في القرن التاسع عشر لعملية تحديد نوعية أخدت صورة تغييرات، جسَّدت بدورها «سيرورة الحضارة» داخل الرياضة، وقد تمثَّلت أبرز تلك التغييرات في انخفاض منسوب العنف المسموح به في اللعب، ووجود قواعد مكتوبة ومنظمة تقنِّنُ ممارسة اللعبة، ثمَّ إكساب اللعب استقلاليته عن المُواجهة الحربية والمُمارسات الطقسية(16).
في هذا السياق تأتي مقارَبة كرة القدم من زاوية سوسيوتاريخية، حيث نشأت وشهدت ميلادها في المدارس التي كان يرتادها أبناء النخب الإنجليزية في أواسط القرن التاسع عشر، لكن منذ الثمانينيات من نفس القرن، صارت تُمارسها الطبقات الشعبية على نطاقٍ واسع، لتبتعد عن الطبقات العليا، بداخل منطق كلاسيكي للتمايز الاجتماعي(17). وما قُدِّم من تفسيرات للانتشار الواسع الذي عرفته كرة القدم في الأوساط الشعبية الإنجليزية بحثَ عبثاً عن سبب ذلك في طبيعة ممارسَتِها، المُرتبطة ببساطة لعِبِها الذي لا يستلزم إلّا النزر اليسير من الأدوات والمُعدات، وفي الأخير الدور الاجتماعي الذي لعبته الأندية الناشئة الخاصة بهذه الرياضة، ومع مطلع القرن العشرين، ستنتشر كرة القدم خارج إنجلترا، وفي باقي بلدان القارة الأوروبية قبل أن تشيع في باقي دول العَالَم، لتدخل بفعل ذلك طورها الاحترافي في العشرينيات والثلاثينيات من نفس القرن.
ولمَّا صارت كرة القدم حرفة، كان لِزاماً على العلوم الاجتماعية لا سيما منها، علم الاجتماع، مقارَبة كيفية ولوجها، والعوامل التي يمكنها تسهيل ذلك أو إعاقته، وما حدود الاستعدادات الفطرية في تلك العوامل وما حصة الاكتساب وما تضطلع به المُؤسَّسات الاجتماعية من وظائف، ثمَّ الثقل الذي يمكن أن يلعبه الانتماء الاجتماعي، إلخ.
كثيرة هي الأبعاد التي يمكن للسوسيولوجيا مقارَبتها في الرياضة عموماً وفي كرة القدم خصوصا، لأنها «ليست بالعَالَم الذي يوجد منعزلاً تماماً ومستقلاً، ولا هي عبارة عن منطقة سِلْمٍ، إنها لعبة اجتماعية قبل أن تكون لعبة رياضية، إنها تعبِّرُ عن علاقات تتجاوز تلك التي تأتي للعين من على رقعة اللعب، لأن هذه الأخيرة لا تعكس تلك العلاقات كما لو كان إسقاطاً مكانياً لها، بل هي رموز تشير إليها وتدل عليها، ما يجعلها تكثيفاً لعوالم من العلاقات وإيماءة إليها من أجل الكشف عنها وزيادة الحفر فيها وتلك هي مهمَّة العلوم الاجتماعية، خاصة السوسيولوجيا، قبالة كرة القدم بوصفها ظاهرةً اجتماعية كلية «فما يتمُّ لعبه بين فريقين هو أكثر من مجرَّد دوري أو بطولة؛ فما يلعبه، على سبيل المثال، فريق نابولي وتورينو الإيطاليان، ليس هو البطولة فحسب، لأنّ ما يحضر في هذه المُواجهة هو كل الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية والرمزية بين شمال شبه الجزيرة وجنوبها»(18).
ولئن تأكَّد أن كرة القدم والرياضة عموماً لا يمكن فصلها عن تعقيد العَالَم الإنساني بما يعتمل في جوفه من صراعات وما يحرِّكه من نزوعات وتجاذبات، صار من اللَّازم التخلي عن محاولة بلوغ تأويلات نهائية أو أحادية الجانب بخصوصها، والركون إلى المزيد من التواضع، عبر دراستها داخل سياق بعينه، لبيان كيفية امتزاجها بظواهر اجتماعية أخرى واختلاطها بها، دون أن يقلل ذلك في شيء من حقيقة كونها تمثِّل ممارسة قائمة بذاتها، وبطابعها ذاك تكتنزُ المعنى الذي تضفيه عليها المجموعات الاجتماعية المُختلفة وتكشفُه في الوقت نفسه، وتسهم في تجْليَّة التوترات القائمة أكثر مما تسهم في خلقِها، ووضعُها هذا هو ما يجعلُها بالطبيعة مفتوحةً أمام مقارَباتٍ من آفاقٍ مختلفة، وحاملةً في الوقت نفسه لرهانات سياسية حقيقية غالباً ما تُصرُّ بعض الخطب الحماسية على إخفائها.
ذاك هو الدرب الأجدر بالعلوم الاجتماعية والإنسانية في وطننا العربي ركُوبه، إذ فضلاً عن المُبررات السابق ذكرها تدليلاً على ما للظاهرة من أهمية وغنى ما يمكن أن تُسفر عنه مقارَبتُها من نتائج، في مقدورها تمكين الباحث العربي من اقتصاد الجهد والموارد التي تبقى شحيحة، وذلك بحكم ما لها من دورٍ تكثيفي يركِّزُ رهاناتٍ عديدةً ويعبِّر رمزياً عنها، ألمْ يكتب الراحل محمود درويش في ذات المقال الذي افتتحنا بمقطع منه: «إنّ كرة القدم هي ساحة التعبير التي يُوفِّرُها تواطؤ الحاكِم والمحكوم في زنزانة الديموقراطية العربية المُهدّدة بخنق سجانها وسجانيها معاً، هي فسحة تنفس تتيح للوطن المُتفتت أنْ يلتئم حول مشتركٍ ما».
ومن تاريخ كتابة درويش لهذا القول إلى الآن، جرَت مياه كثيرة تحت جسور المُمكن الديموقراطي على امتداد الرّقعة العربية، حيث رُفعت شعارات واشتدّت قبضات وارتخت أخرى، صدحت حناجر وخُنِقت أخرى، وتربَّصت عيون حاقدة، واتسعت أحداق أخرى بنور الأمل والرجاء في غَدٍ أفضل ووطن يستوعب كل أبنائه، ليس في الاقتتال وتبادل الإفناء، بل في البناء والنماء..
هوامش:
1 – إدواردو غاليانو، كرة القدم في الشمس وفي الظلّ، ترجمة صالح علماني، (طوى) للنشر والإعلام (بدون تاريخ)، ص.
2 – إدغار موران، الفكر والمُستقبل، مدخل إلى الفكر المُركَّب، ترجمة أحمد قصور ومنير الحجوجي، دار (توبقال) للنشر، 2004 ـ ص 75.
3- Goffman Erving, Asylums. Essays on the Condition of the Social Situation of Mental Patients (1961), p.199.
4 – إدواردو غاليانو، كرة القدم في الشمس وفي الظلّ، ترجمة صالح علماني، (طوى) للنشر والإعلام (بدون تاريخ)، ص 147.
5 – يمكن الاطلاع على الكتاب، كما يمكن متابعة فيديو الحوار في موقع اليوتيوب على الرابط التالي:
6 – إدواردو غاليانو (مرجع مذكور)، ص 149.
7- Stéphane Beaud, Frédéric Rasera, Sociologie du football, Paris, La Découverte, coll. «Repères», 2020, p.4.
8- Ibid.
9 – أمبرتو أيكو؛ الموت لكرة القدم، حوار مع مجلة «GLOBE» – ع. 58 – يونيو 91 – ص 85/84 ترجمة، المصطفى السهلي.
10 – أمبرتو إيكو، كيفية السفر مع السلمون، معارضات ومستعارات جديدة، ترجمة حسين عمر، مراجعة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء (2007)، ص 124.
11 – إدواردو غاليانو (مرجع مذكور)، ص 29.
12 – إدواردو غاليانو (مرجع مذكور)، ص 29.
13- Brohm Jean-Marie, Les meutes sportives. Critique de la domination, Paris, L’Harmattan(1993), p.57.
14 – إدواردو غاليانو (مرجع مذكور)، ص 153.
15 – منها مقالة: «كيف يمكن للمرء أن يصبح رياضياً؟»، التي أعاد نشرها في كتاب: «مسائل سوسيولوجية، ترجمة د. هناء صبحي، (مشروع كلمة، 2012)، ص 281.
16 – Heinch Natalie, La sociologie de Norbert Elias. Paris. Ed. La Découverte. 1997.
17- Bourdieu Pierre, La Distinction. Critique sociale du jugement, Paris, Les Éditions de Minuit, 1979.
18- C. Bromberger, Le Match de football. Ethnologie d’une passion partisane à Marseille, Naples et Tunis, Éditions de la Maison des sciences de l’homme, 1995.