«أمازون» ابتكرت طرقاً لا حصر لها لتقسيم الرواية

بفضل حصتها المُذهلة في السوق الأميركية التي بلغت 50 % من الكتب المطبوعة وما يزيد على 75 % من الكتب الإلكترونية، غيَّرت «أمازون» الحياة الأدبية كما نعرفها. لكن متجر «كل شيء» لم يغيِّر فقط كيفية شراء الكتب: وفقاً لـ«ماكجورل»، أستاذ الأدب في «جامعة ستانفورد»، فقد غيَّر نظرتنا للكتب التي نقتنيها أو نقرأها أو نكتبها. في كتابه «كل شيء وأقل»، يكشف «ماكجورل» نموذج توزيع «أمازون» وذوبان الحدود بين الأنواع، مجادلاً بأن خوارزمية «أمازون» قد حوَّلت فعليّاً كل الخيال إلى خيال النوع. بأفكاره الواضحة، يستكشف «ماكجورل» الأنواع العديدة التي شكّلها المنطق الاستهلاكي لـ«أمازون».

في كتابه الأخير «كل شيء وأقل»، يناقش «مارك ماكجورل» تحوُّلات الخيال في عصر «أمازون»، من ذوبان الحدود بين الأنواع إلى الدور المُتغيِّر للمُؤلِّف.

خلال مقابلتي مع المُؤرِّخ الأدبي «مارك ماكجورل»، ألقيت نظرة خاطفة من النافذة فوقعت عيناي على شاحنة «أمازون» وقعقعة عجلاتها على الإسفلت أسفل العمارة، حيث أسكن. كانت استعارة مناسبة لمحادثتنا حول كتاب «كل شيء وأقل»، التاريخ الأدبي الجديد المُثير لـ«ماكجورل» حول دور «أمازون» في إعادة تنظيم عالم الخيال. كتب «ماكجورل»: «لقد تسلّلت «أمازون» في كل بُعد من أبعاد التجربة الجماعية للأدب في الولايات المُتحدة. فأصبحت المنصة الجديدة للحياة الأدبية المُعاصِرة بشكلٍ متزايد».

يثير كتاب «كل شيء وأقل» أسئلة منطقية حول ماضي الخيال وحاضره ومستقبله. تحدَّثت مع «ماكجورل» عبر (زووم) لمُناقشة عصر «أمازون» وتبعاته: تفكيك حدود النوع، الدور المُتغيِّر للمُؤلِّف، ودواعي التفاؤل رغم كل ذلك.

أدريان ويستنفيلد: من أين جاءت فكرة هذا الكتاب؟

مارك ماكجورل: في يوم من الأيام، أدركت أنني أصبحت عميلاً راسخاً في «أمازون». ثمَّ، كمُؤرِّخ أدبي، فكَّرت في بعض الحقائق الأساسية عن الشركة. بدأت «أمازون» كمحل لبيع الكتب، وهو أمر رائع بحدِّ ذاته. قبل 25 عاماً، لم تكن «أمازون» موجودة؛ الآن، هي بحكم الواقع قوة مهيمنة في صناعة نشر الكتب. يبدو أن هذا يستدعي بعض التحليل لما يعنيه صعود هذه الشركة. ليس بالمعنى البسيط، مثل أن تقول: ««أمازون» الآن تملي علينا تصوُّرها لشكل الأدب المُفترض». ليس الأمر بهذه البساطة أبداً، لكن «أمازون» تنير عالم القراءة. يتعايش الأدب الآن مع الكثير من الأشياء الأخرى في العالم التي لم تكن موجودة في الماضي؛ أما «أمازون» فهو المصباح الساطع الذي ينير هذه الحقيقة.

كيف تصف خصائص الرواية في عصر «أمازون»؟ ما هو نمط رواية «أمازون»؟

– هناك تنوُّع هائل في الخيال، لذا فإنّ المُهمَّة ليست تبسيط هذا التنوُّع. إنه سيركٌ بالخارج. من منظور «أمازون»، كل الخيال هو خيال النوع. في أوائل القرن العشرين، كان الأدب مقسَّماً بشكلٍ منهجي بين ما يسمَّى بخيال النوع -الخيال الترفيهي، وخيال الهروب، والخيال العلمي، والرومانسية، والغرب، وأفلام الإثارة، وما إلى ذلك- والخيال الأدبي. ما تقوم به «أمازون» هو إلقاء نظرة على المجال الأدبي والقول، «كل هذا يشكِّل نوعاً الآن». النوع هو القاعدة المُهيمنة للأدب في عصرنا.

عندما تقول إن «أمازون» تضع كل الخيال في سلّة خيال النوع، فهل تقصد أن رؤية «أمازون» بهذه الطريقة تقوم على الخوارزميات؟

– نعم فعلاً. أحد الأشياء المُدهشة في «أمازون» هو عدد فئات الأنواع الموجودة في المنصة. إنها بالآلاف حرفياً. هناك قوائم أكثر الكتب مبيعاً من النوع التقليدي، ولكن عندما تنظر إلى أسفل كل قائمة كتب على «أمازون»، سترى أنها مرتّبة في عدد معين ضمن فئات متنوِّعة بشكلٍ كبير، من روايات النساء المُطلقات إلى الخيال السويدي. ابتكرت «أمازون» طرقاً لا حصر لها لتقسيم الرواية لإنتاج شكلٍ جنيس. وهذا بالطبع مستمر مع التسويق. ظاهرة السوق الأوسع التي نتحدَّث عنها هي تمايز المُنتجات وتجزئة السوق. تدرك جميع الأسواق الكبيرة أن بعض المنتجات سوف تروق لجماهير معيَّنة. في الأدب، النوع يقوم على تسويق هذا العالم من الفوارق.

في بداية الكتاب، كتبت عن قصة بعنوان «صُوف» كتبها «هيو هاوي»، والتي بدأت في 58 صفحة قبل أن تصل إلى 1500 صفحة، بناءً على طلب القارئ. يمكنك استخدامها كمثال عن دور القُرَّاء المُتحمسين في تشكيل حياة عمل الخيال بشكلٍ مستمر. في هذا السياق، تذكّرت «شارل ديكنز» الذي ينشر روايات متسلسلة. عندما تدفع «أمازون» لمُؤلِّف ذاتي النشر على منصتها مقابل عدد الصفحات المقروءة، كيف يختلف ذلك كثيراً عن تقليد الدفع للمُؤلِّفين مقابل عدد الكلمات؟

 

– إنه استمرار لنفس التقليد. يمكن القول إن الفجوة الغريبة كانت في أوائل القرن العشرين حتى منتصف القرن العشرين، بالتزامن مع ظهور الحداثة الأدبية والافتراض السائد بأن الأدب يجب أن ينأى بنفسه عن السوق. ولكن على المدى الطويل من تاريخ النشر، كانت الكتابة للسوق هي القاعدة منذ القرن الثامن عشر. قصة «أمازون» في بعض النواحي مرتبطة بذلك، رغم اختلاف الآليات إلى حدٍّ ما. نحن لا نتحدَّث عن النشر المُتسلسل، حيث تنتظر شهراً للحصول على الدفعة التالية، ولكن هذا يعيدنا إلى ذلك الإحساس بالإنتاج التسلسلي. في بعض الجوانب، إنها حقّاً العودة الصاخبة لزمن «ديكنز» في التاريخ الأدبي. إذا كنت تريد أن تصنِّفه كاتباً وناشراً ذاتياً، فإن كتابة عمل واحد لن تفي بالغرض. حتى لو كان كتاباً عظيماً. الرهان يكمن في كسب بعض الجمهور من خلال كتاب جيّد حقّاً، ثمَّ الاستمرار في خدمة ذلك الجمهور. هذا ما حدث مع «هيو هاوي». لقد كتب قصة قصيرة رائعة، نجحت حقّاً. ثمَّ، لخدمة هذا الجمهور، كان عليه أن يستمر في كتابة المزيد من الأجزاء. حتى ألّف هذه الملحمة الضخمة، والتي يتم عرضها الآن على الشاشة. بالتأكيد لقد عادت روح «ديكنز»، برعاية «أمازون».

يبدو أن ذلك يلخّص دورة الحياة الكاملة للكتابة هذه الأيام. من النشر الذاتي، إلى النجاح الجامح، إلى العرض على الشاشة.

– يجب أن نفكِّر في التليفزيون. يمكن تحويل عدد قليل جداً من الروايات إلى سلاسل تليفزيونية، لكنها مع ذلك تكتسب شهرة حقيقية. يمكن أن تكون قناة (HBO) وجهة نهائية محتملة لعملك، والتي ستفجِّر شعبيته. نحن نعيش في عالم تسوده ثقافة الصورة، سواء كان ذلك عبر البث التليفزيوني أو الإنترنت. يجب أن يرتبط الأدب بذلك فقط كلما كان ذلك ممكناً. صحيح، أعتقد أن الكُتَّاب سعداء إلى حدٍّ كبير بهذا الأمر. بصفتك روائياً، يمكنك أن تطمح كثيراً إلى رؤية أو مشاركة عرض جيّد لقصتك.

بالحديث عن كونك مؤلِّفاً اليوم، فإنك تستخدم مصطلحاً جديداً: «مؤلِّف – رائد أعمال». ثمَّ تكتب: «في عصر «أمازون»، للكاتب مهمَّتان، كتابة الروايات وتسويقها». هل يمكنك أن تشرح الطرق التي توسّع بها دور الكاتب، وكيف استوعب المُهمَّة التي كان يقوم به الآخرون تقليدياً؟

– في العقود السابقة، كان من المُفترض أن يكتفي الكاتب بالكتابة، وتتكفل دار النشر بالباقي. يمكنك أن تظلَّ بعيداً عن كل الأعمال الإضافية، إلّا عندما يُطلب منك القيام بالقراءات. لا يتمتّع الكُتَّاب الذين ينشرون ذاتياً بهذه الرفاهية على الإطلاق. الأشخاص الذين يكسبون رزقهم من النشر الذاتي يعرفون الكثير من الأشياء عن تسويق الكتب أكثر من الكُتَّاب المُتميِّزين. بصرف النظر عن تأليف الكتاب، هناك الكثير من الأعمال الإضافية التي يتعيَّن عليهم القيام بها. يجب أن يعرفوا استراتيجيات التسعير، وتحضير قائمة البريد الإلكتروني، وتصميم الغلاف. كل هذه الأعمال مرهقة للغاية، ولهذا السبب يعمل النشر الذاتي مثل نظام المزرعة. الكاتب يستقطب جمهوراً، فيلاحظ محرِّر في دار نشر كبرى ذلك، وبعد ذلك سيقنع الكاتب بالعمل معهم. ما يستفيد منه هذا الكاتب هو التخلّص من أعباء كل الأعمال الإضافية. هذه هي الحُجة التي يتمُّ تقديمها لهؤلاء الأشخاص: «إنك تقضي كل هذه الساعات في تطوير قائمة بريدك الإلكتروني. هل تريد حقّاً القيام بذلك، بدلاً من التفرُّغ للكتابة؟» إن مستوى المعرفة الذي يجب أن يدركه الكاتب الذي ينشر ذاتياً يتجاوز الكاتب التقليدي بكثير.

بالنسبة للكُتَّاب الذين ينشرون بأنفسهم، أزالت «أمازون» الحواجز التقليدية أمام النشر. إذا كنت ناشراً ذاتياً، فأنت لست بحاجة إلى وكيل أو ناشر. ماذا يعني ذلك للعالم الأدبي؟ هل نتحرَّر بذلك من حرَّاس البوابة، أم أن المرور عبْر مرشّح الوكلاء والناشرين مهمٌّ؟

– في مرحلةٍ ما من الكتابة، في منتصف هذا الكتاب، أدركت أنني لن أحلَّ هذا اللّغز. أنا شعبوي بما فيه الكفاية، وديموقراطي بما فيه الكفاية، بحيث لا يسعني إلّا أن أشجّع على تجربة هذه المحاولة. من ناحيةٍ أخرى، لا أحد ينكر أن مراقبة الجودة مشكلة حقيقية. هناك الكثير من الهراء في الأعمال. هل تعيق الأشياء السيئة تقدُّمك نحو الأشياء الجيدة؟ هل تثق بخوارزميات التوصيات والمُراجعات لتوجيهك إلى أشياء جيدة بالفعل؟ توقفت في النهاية عن التفكير في حلِّ هذه المُعضلة. الجودة مهمَّة، ولا يجب أن نكترث لحقيقة أن الكثير من الكتب السيئة تجد طريقها للنشر، رغم تشجيعي لكل مَنْ يحاول الكتابة. الطريقة التي نفكِّر بها في النشر الذاتي الآن تشبه نهاية العالم للزومبي، حيث تأتينا العديد من الكتب في مجموعات زومبي، بما في ذلك العديد من روايات الزومبي! لا يمكنني القضاء على كل الزومبي. أعتقد أنها على قدرٍ كبير من الطاقة الإبداعية، على الرغم من أن الوقت الذي نوليه للأعمال المُتواضعة يكون محدوداً بالتأكيد، أو هكذا يجب أن يكون.

هذا السيل العرم من الكتب هل هو علامة على المزيد من الكتب السيئة في العالم، أم هو ببساطة مؤشِّر على الكمِّ الهائل من الكتب في المجموع، لذلك هناك المزيد من الكتب الجيدة والسيئة؟

– هناك المزيد من الأعمال السيئة والجيدة في العالم. وهناك المزيد من الكتب في العالم، وبعض الكتب الجيدة تأتي من موهبة مغمورة أتيحت لها الآن وسيلة أخرى لإثبات جدارتها. من المُؤكَّد أن تقليص البوابات يشجِّع الكثير من الأشخاص الذين لا يقدِّرون حجم موهبتهم، ولكن ما إذا كان ينبغي علينا القلق بشأن ذلك وإلى أي درجة فهذا سؤال معقَّد. لكن ما الغاية في ذلك؟ دع هؤلاء الناس يحصلون على فرصة. ما زلت أقرأ ما أرغب في قراءته. لديّ فضول لمعرفة ما تعنيه كل هذه الوفرة الأدبية.

يتوق العديد من الكُتَّاب إلى انهيار الحواجز بين الخيال الأدبي وخيال النوع لبعض الوقت. هل لـ«أمازون» فضل في «تراجع مراقبة الحدود»؟

– منح الائتمان ليس بالأمر الهيّن. تركِّز «أمازون» على ضرورات التسويق، وهو ما يعني فعلياً أن الحدود بين خيال النوع والخيال الأدبي أصبحت أكثر مسامية. مثال، «كولسون وايتهيد»، أحد أشهر الكُتَّاب في عصرنا، الذي كتب رواية بوليسية، ورواية زومبي، وأخيراً، رواية سرقة. لن يخطئ أحد في كونه كاتباً لخيال النوع المحض. ومع ذلك، من الواضح أن تقارباً ما قد حدث مع أشكال النوع في عمله. أو «سالي روني»: إنها لا تنكر أن أعمالها هي روايات رومانسية من نوعٍ معيَّن. وتحمل دائماً حكايات رومانسية في جوهرها، لذلك فهي تمتص بعضاً من تلك الطاقة لكن دون أن يتمَّ الخلط بينها وبين رواية «خمسين ظل من غراي». لا أعرف ما إذا كنت سأنسب الفضل لـ«أمازون

مارك ماكجورل

» في تراجع تلك الحدود. من المُؤكَّد أننا أمام ظاهرة أدبية في عصرنا بعد أن تحوَّلت «أمازون» إلى منارة الأدب الخاضع لاختبار قوة السّوق.

تقول بأن الخيال الأدبي هو نوعٌ خاص – أن كل الخيال هو خيال النوع في عصر الأمازون. ما هو الجنيس أو الصيغي بخصوص الخيال الأدبي؟ ما هي ثوابته؟

– من ناحيةٍ، ما نسميه الخيال الأدبي سيكون عموماً عملاً من أعمال الخيال الواقعي. هذا ليس هو الحال دائماً. هناك استثناءات للأعمال السحرية الواقعية، والتي لها صفة أدبية معيَّنة. خذ «جوناثان فرانزين» كمثال مهيمن على ما نسميه الخيال الأدبي اليوم. مهارته الكبيرة ككاتب تكمن في مراقبة أسلوب تصرُّف الناس في الظروف العادية. أعتقد أنها لا تزال ملاحظة رئيسية في ما يُعرف بالخيال الأدبي، رغم بعض الاستثناءات لهذه القاعدة. ختاماً، أعتقد أن الخيال الأدبي أقلّ تحديداً من النوع الأدبي. خيال النوع مؤثث جزئياً. رواية الجريمة سوف تنطوي على جريمة قتل. الرواية الرومانسية ستكون حول زوجين. هذه الأشياء غير قابلة للتفاوض، أو لن تكون ضمن هذا النوع. عندما تسمي شيئاً ما خيالاً أدبياً، فأنت تقول عنه أقلّ مما تقوله عندما تسمي شيئاً ما رواية جريمة. المُفارقة أن الموضوع غير محدَّد نسبياً. الخيال الأدبي هو النوع الذي يحاول ألّا يكون عاماً، حتى لو كان لا يسعه إلّا أن يكون كذلك، في جميع الأحوال. كل ما في الأمر أن الأساليب ليست واضحة مثل، على سبيل المثال، الإثارة الجيوسياسية. ولكن من وجهة نظر «أمازون»، الفكرة هي، «هل تريد شراء رواية بقدر معيَّن من المكانة، تتضمَّن أشخاصاً عاديين يقومون بأشياء عادية؟ سيكون هذا خيالاً أدبياً، وهذا يخدم سوقاً معيَّناً، تماماً كما تروق الأنواع الأخرى لأسواقٍ أخرى».

يمكنك أيضاً طرح بعض النقاط المُثيرة للاهتمام حول الإمكانات العلاجية للكتب في عصر «أمازون». ما الدور الذي لعبته «أمازون» في إيصالنا إلى هذا المكان، حيث غالباً ما يُنظر إلى الكتب كمجالٍ للهرب أو الرعاية الذاتية أو تحسين الذات؟

– كمُؤرِّخ أدبي، لا يسعني إلّا أن ألاحظ مدى اختلاف الخطاب المُحيط بالقراءة اليوم عما كان عليه في القرنين التاسع عشر والثامن عشر، حيث كانت قراءة الروايات محفوفة بالمخاطر. «يا إلهي، هؤلاء الفتيات يقرأن الروايات! إنهن فاجرات!» هذا الشعور، على حدِّ علمي، بالكاد موجود في عالمنا. اليوم، للقراءة فضيلة ضمنية، لأنها تتطلب مجهوداً أكبر بكثير من مشاهدة الترفيه عبر الفيديو. القول بأن الأدب من منظور «أمازون» هو مادة علاجية يعني فقط القول بأنه سلعة من سلع «أمازون» اللانهائية في متجر «أمازون» والتي قد تجعلك تشعر بتحسُّن. وقد تحسِّن علاقتك بالعالم. الخيال تقنية معزّزة تضفي على عالمنا معنى أكبر.

الجزء الأكبر من كتابك يدور حول التغييرات التي شهدتها الرواية من خلال ديناميكيات منصة «أمازون». لكني أريد أن أستكشف كيف تأثّرت الرواية بأسلوب «أمازون» في تجارة الأعمال. لقد حاربت «أمازون» الناشرين وبائعي الكتب، وقللت من أرباحهم، بل ودفعت بعضهم إلى الإفلاس. هذا العام فقط، رفع الناشرون الخمسة الكبار دعوى قضائية بدعوى أن «أمازون» تعمل على تحديد أسعار الكتب الإلكترونية. كيف غيَّرت ممارسات «أمازون» التجارية الرواية والنظام الأدبي؟

– من الجدير بالذكر أن توحيد صناعة النشر، بعيداً عن «أمازون»، تعتبر سمة مهمَّة في التاريخ الأدبي الحديث. أشار العديد من الأشخاص إلى أن إضفاء الطابع المُؤسسي على النشر السائد قد أدخل مجموعة من القيم على قطاع النشر لم تكن موجودة في العقود السابقة. إن التركيز على أفضل الكتب مبيعاً وتراجع القائمة المُتوسطة إلى لا شيء تقريباً، هذا ليس من عمل «أمازون». إنها الرأسمالية المُطبقة على النشر، بغض النظر عن «أمازون». دخلت «أمازون» إلى المشهد كقوة أخرى مؤثرة للغاية ولها قوتها الخاصة. وقد دخلت في صراعٍ مع تكتلات النشر للخمسة الكبار.

الآن، كان هناك وقت لتاريخ معقَّد لهذه العلاقة. تعود الخلافات المُتعلِّقة بتسعير الكتب الإلكترونية إلى الماضي، كل ذلك لأن «جيف بيزوس» اشترط، دون سببٍ واضح، أن تكون تكلفة الكتب الإلكترونية في الغالب 9.99 دولار. وقال الناشرون، «لا يمكننا تحصيل أي فائدة من بيع هذا الكتاب إذا كانت تكلفته 9.99 دولار. أنت تسرق الأعمال من الكتب الورقية». نجمت عن ذلك نزاعات قانونية ضخمة، مما أدى إلى تنازل «أمازون». يُسمح الآن للناشرين بفرض رسوم على ما يريدون من الكتب الإلكترونية. ومع ذلك، هذه ليست نهاية القصة، بسبب قدرة «أمازون» على القيام بكل شيء. «أمازون» تتحمل خسارة المال عندما تريد. من بعض النواحي، قصة «أمازون» بأكملها تتلخص في قصة شركة قادرة على خسارة المال لمدة عشرين عاماً حتى ينهار منافسوها. لتستيقظ بعد بضع سنوات وقد أحكمت قبضتها على السوق، ويمكنها الآن التحكُّم في السوق وجني الأرباح.

يشعر الكثير من الناس باليأس حيال «أمازون» والمخاطر التي تشكّلها. بالنسبة للمُستهلك، قد يشعر أنه أمام مشهد لداوود في مواجهة جالوت. وبالنسبة للذين يشترون الكتب من «أمازون»، هناك تنافر بين فائض الروايات المُتوافرة لهم وتقلص زمن القراءة المُتاح: «إنّ القارئ الإلكتروني المُتخم لـ(كندل) أو (آي باد) يُعَدُّ في نفس الوقت تكثيفاً قوياً للتجربة الأدبية المُحتمَلة، وقبراً صغيراً يتنبأ بدنوّ أجلنا». ما أملنا نحن كقرَّاء عصر «أمازون»؟ ثمَّ أن تكون حيّاً كقارئ، لماذا يُعَدُّ ذلك وقتاً فريداً أو ممتعاً؟

– هناك الكثير من الأسباب للقلق على أسس تقليدية حول مصير الأدب في عالمنا. مساحته التقليدية تتقلص باستمرار. تتضاءل السلطة التي كان يتمتع بها الأدب في المشهد الثقافي الأوسع.. من ناحيةٍ أخرى، حجم الرغبة في القراءة وإنتاج الأدب مذهل للغاية. إن المُقابل لهذا الشعور بالكآبة والعذاب هو مدى قوة الرغبة في القصة، مدى وجود هذه الرغبة في حياة مئات الملايين من الناس. نحن نعلم أن هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يقرؤوا كتاباً أبداً، لكن هناك الكثير من محبي القراءة. هناك مئات الملايين من الأشخاص الذين يعتبرون القراءة جزءاً أساسياً لتجربة حياة مُرضية. إنها مكمِّل ضروري للغاية لوجودهم اليومي. ذلك المكان الذي يصنعه عقلك عندما يحوِّل الكلمات إلى قصة. هذا عظيم أيضاً. أعتقد أن الاستمتاع بالوفرة المعروضة أمامك كقارئ هو أكثر الأشياء أملاً التي تستحق الذكر.

إنّ سلطة الأدب في العالم الأوسع تتضاءل بلا شك. هذا مهمٌّ لشخصٍ مثلي، أستاذ اللّغة الإنجليزية – يتعلَّق الأمر بالتسجيل وعدد تخصُّصات اللّغة الإنجليزية وكل هذه الأشياء. كل هذه القضايا تتعلَّق بمسألة ذات معنى أعمق حول سلطة الأدب في عالمنا. لكن إذا لجأت إلى الأدب باعتباره وسيلة الملايين من الناس للحصول على المال، ولجعل حياتهم أفضل قليلاً، فهذا لا يزال عظيماً جداً، وحيوياً للغاية.

دمقرطة الأدب يمكن أن تثلج صدورنا أيضاً. منذ وقتٍ ليس ببعيد في مقياس التاريخ البشري، لم تكن القدرة على القراءة والكتابة والنشر منتشرة.

– كان هناك تقدُّم ديموقراطي في عالم الأدب. مجرد إلقاء نظرة على تكلفة النصوص، من عالم الكتب ذات الطبقات الثلاثية في القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، حيث غالباً ما تكون النصوص الإلكترونية مجانية بشكلٍ أساسي. كانت معدلات القراءة والكتابة تتوسع باستمرار من القرن التاسع عشر فصاعداً. عدد الأشخاص المنخرطين في عالم الأدب أكبر بكثير مما كان عليه في الماضي. أجد هذا مثيراً للاهتمام، حتى لو كان يتعلَّق بمسائل الجودة والقيمة الأدبية. ما مصير نموذج الأدب الذي قدَّمه «هنري جيمس» أو «جيمس جويس»؟ الكُتَّاب الذين قالوا: «إذا كنت تريد معرفة ما لدي، أيها القارئ، فسوف يتعيَّن عليك القيام ببعض الأعمال»؟ أعتقد أنه من الصعب جداً العثور على المشاعر في العالم الأدبي اليوم. أشعر بالتناقض حول اختفاء ذلك لأنني، على سبيل المثال، كانت لدي تجارب قيِّمة للغاية في العمل الجاد للحصول على ما يحاول المُؤلِّف تقديمه لي. أعتقد أن نموذج «أمازون» يتحرَّك بعيداً عن مطالبة القارئ بفعل أي شيء. إنه يتجه نحو التفكير في المُؤلِّف كخادم للقُرَّاء، يمنحهم ما يريدون.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

https://www.esquire.com/entertainment/books/a37989860/how-amazon-changed-fiction-mark-mcgurl-everything-and-less/#sidepanel

يورغن هابرماس: على الفلسفة أن تواصل التخصُّص دون توقف

إنّه أحدُ أكثر الفلاسفة الأحياء الذين تخلقُ كلمتُهم صدى وتَجاوباً، لكنه أيضاً أحد أكثرهم استعصاءً على مستوى قراءة أعماله، في سنِّ الثانية والتسعين تحدَّث «يورغن هابرماس» إلى طاقم تحرير المجلة (مجلة فلسفة الفرنسية) باللّغة الألمانية بكيفية مفهومة على نحوٍ استثنائي، مباشرةً بعد صدور الجزء الأول من كتابته لتاريخ الفلسفة، حيث يعيد رسم مسار حياة كرَّسها للمثال الديموقراطي، حياة تشْهَدُ على مشروع فلسفي لا تضاهيه في دقة تحديده إلَّا سَعة طموحِه؛ إنه مشروع إنقاذ الاستخدام العمومي للعقل.

يُلَقّبُ في ألمانيا بـ«هيغل الجمهورية الاتحادية»، وبالفعل فلـ«يورغن هابرماس» من شموخ القامة ما لِإرثٍ تاريخي، فهو من بين أكثر الفلاسفة المُعاصِرين الذين يحظون بدرجة كبيرة من الاحترام، إنْ لم نقل أنه أكثرهم حظاً من المُتابعة والقراءة. وُلِدَ «هابرماس» سنة 1929، وقد مثَّل المُفكِّر لعَمليةِ إعادة البناء التي أعْقبت الحرب العالمية الثانية، ولازال يمثِّل وريثاً لتقليد فكري مزدوج؛ تقليد مدرسة فرانكفورت والتقليد الفكري لنظرية اللّغة، احتفظ من التقليد الأول بـ«النظرية النقدية» للمُجتمع الرأسمالي، التي صاغها بمعهد البحث الاجتماعي بمدينة فرانكفورت مع مُرشديه وبإشراف منهم: «ماكس هوركايمر» و«ثيودور أدورنو» و«هربرت ماركيوز»، وباستلهامه لـ«ماركس» سيدخُل في حوار مع فلسفة الأنوار لاسيما مع الفيلسوف «إيمانويل كانط»، أمَّا التأثير الكبير الثاني في فكره فهو الذي مارسه المُفكِّر الأميركي «جون ديوي» والتيار البراغماتي، الذي يَعتبِرُ الديموقراطيّةَ سيرورةً تشاركيَّةً أكثر من كونها حالةً، ويُعَدُّ الفيلسوف «كارل أتو أبل Karl-Otto Apel» أبرز ممثليه الألمان، وقد التقى به «يورغن هابرماس» في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، ليبلْوِرا معاً «أخلاقيات المُناقشة»، التي تتمثل في إرساء الشُّروط الكونية لإمكانات قيام مناقشة وتتيح التأسيس العقلاني للمعايير داخل فهم حواري للأخلاق.

عبْر المزج بين هذه الإسهامات المُختلفة -«كانط»، «ماركس وديوي»- منح «يورغن هابرماس» انعطافةً «تواصلية» للنظرية الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت، وهو ما يؤكِّدُه بقوله: «لقد انطلقت من السَّواد المُطلق للنظرية النقدية في بداياتها والتي تعاملت مع تجربة الفاشية وتجربة الشيوعية، وحتى لو كانت الوضعية، التي هي وضعيتنا بعد 1945، مختلِفةً، فقد مثَّلت نظرة مجرَّدة من الأوهام تمَّ إلقاؤها على القوى المُحرِّكَة لدينامية اجتماعية ذاتية الهدم، لتقودني بالدرجة الأولى إلى الانطلاق في البحث عن مصادر تضامن الفرد مع الأفراد الآخرين؛ تضامُنُ لازال لم يتم إطماره بَعْدُ بصورة كلية».

يدافع الفيلسوف «يورغن هابرماس» عن المُواطنة الدستورية باعتبارها تِرْياقاً لما تنطوي عليه النزعة الوطنية من مخاطر؛ فهو ينافح عن التَّعلُّق بالمُؤسسات الديموقراطية بديلاً عن التَّعلُّق بالحيِّز الترابي، كما أنه لازال إلى اليوم مُلتزماً من أجل تجاوز الدولة الأمة ومناصراً متحمساً للبناء الأوروبي. وأن يكون الفيلسوف مؤلِّفاً لعمل ضخم حول المُناقشة الناجحة فهو أمرُ لا يعدمُ صِلَةً مع كونِهِ شخصاً عانى الإعاقة؛ إذ خضع «يورغن هابرماس» وهو في طفولته لعملية جراحية لتجاوز تشوُّه خِلْقي يُعرَف بالشفة الأرنبية، خرج منها بصعوبات على مستوى النطق، كانت كافية لإقناعه بِسُمُوّ الكتابي على الشفهي، فكان أن انتهى به الأمر إلى صياغة أسلوب جزل بقدر ما هو دقيق، إنْ لم يكن أسلوباً جافاً، لكن في بَوْحِه لفريق تحرير «مجلة فلسفة» في ألمانيا، كانت نبرته مشحُونةً بارتياحٍ غير معتاد، وفي الوقت الذي صدر فيه الجزء الأول من آخر عمل كبير له -كتاب ضخم يحمل عنوان «تاريخ الفلسفة – histoire de la philosophie» (عن دار غاليمار)- اختار «هابرماس» أن يُفضي لنا وهو في سن الثانية والتسعين من العُمر بذكرياته وما يحمله من آمال لفئة الشباب، إلى جانب حافز طموحه الفلسفي الذي لم يصبه العياء.

تمَّ مؤخَّرا نشر الجزء الأول من كتابك الضخم «تاريخ الفلسفة»، حيث نجد فيه على الخصوص سؤال دور الفلسفة، فما هو هذا الدور؟

– إنّ العلوم تتقدَّم وتزداد تخصُّصاً أكثر فأكثر، دون أن تفقد خاصيتها العلمية، بل تجِدْها تنحو بالأحرى إلى تقويَّتِها، وهو ما يعني أن على الفلسفة أن تواصل بدورها التخصص دون توقف، باعتبارها تتأمل وتفَكّر في أشكال التقدُّم التي تحققها هذه المعرفة، لكنها ستكُفُّ عن أن تكون فلسفة إنْ هي فقدت «الكُلَّ» من مجال نظرها، وأنا لا أقصد بـ«الكل» هنا «العالم في مجموعه»، بل الخلفية المقدمة بكيفية ضمنية فحسب، أي خلفية عالم العيش، الذي نتساءل في مواجهته عمّا يعنيه التّقدُّم العلمي بالنسبة لنا، وهذه الإحالة إلى أشخاصنا بوصفنا أفراداً معاصِرين وكائنات إنسانية عموماً، تقيم تمييزاً بين الفهم الفلسفي للذات وبين العلوم التي تتجه منهجياً نحو ميادين الموضوعات الخاصة بكل واحد منها، وبكتابي الأخير أردت أيضاً أن أبرز الكيفية التي تشعَّب بها، مع «كانط» وهيوم، خطان فكريَّان صار يبتعد أحدهما عن الآخر مثل قارتين من غير هدى وبلا هدف؛ أحدهما يتصوَّر الفلسفة تخصُّصاً علمياً من بين التخصُّصات العلمية الأخرى التي تزداد تخصصاً -وهو الأمر الذي ليس بالخاطئ في شيء- في عملية إعادة تشكيل عقلانية لـ«تعرّفٍ» محدَّد وحدسي فقط، وتتخصَّصُ في الكيفية التي بها ندرك أو نحس بشيء ما، ونفعل فيه أو نتحدَّث عنه، والكيفية التي بها نمارس العلم أو نقول بها الحق، أما الاتجاه الآخر فيستخدم هذه المعرفة التي أُعيدَ بناؤُها كي يقدم، مع نظرة على المُشكلات الضاغطة للراهن، مساهمةً في الفهم العقلاني للعالم وللذات عيْنِها من قِبل الأجيال المُعاصِرة، وفضلاً عن ذلك يبقى كلا التوجهين المُتعاكسين فيما بينهما عُرضة لخطرين متكاملين، هما خطر النزعة العلموية وخطر السقوط في مجرَّد الهواية.

إنّ نظريتكم حول الفعل التواصلي (1981) تدعو إلى مِثَال المُناقشة العقلانية بين جميع المُواطنات والمُواطنين، فهل لا زالت شروط الحوار الهادئ مُجتمعة؟

– لقد لامستم بسؤالكم هذا موضوعةً عميقة جداً هي المُتمثلة في كون الشبكات الاجتماعية تفكك حتى شروط تنظيم مناقشة سياسية وبأن التواصل العمومي لم يعدْ بتاتاً ذاك الفضاء الذي يقوم فيه التمييز بين «الصحيح» و«الخاطئ»، والواقع أن المُناظرة العمومية من اللازم أن تتمَّ هيكلتها بكيفية تكون فيها الآراء المُتنافسة معبِّرَة عن الأسئلة (والمُشكلات) التي يتمُّ تحديدها وتعيينها من قِبل جميع الأطراف باعتبارها أسئلة ملائمة ومشتركة، لكن ما تقوم به المنصات الرَّقميّة هو تكوين كمٍّ من جزر التواصل تدور حول نفسها وتميل إلى فصل وعزل المُشاركين عن تدفُّقات المعلومات التي تكون موضوعاً للفحص والتحرير، فبحُكم ذلك يكون العالم الرَّقميّ مُقسِّماً للآراء العمومية الوطنية إلى حَدٍّ لا يتواجَهُ فيه المُواطنون إطلاقاً حول نفس الموضوعات، وفي أقصى الحالات هم لا يعيشون بتاتاً حتى في نفس العالم السياسي.

غالباً ما نؤاخذ اليسار على ارتباكه وحيرته داخل خطابات نخبوية حول سياسة الهوية وعن تَحمُّله لجزء من المسؤولية في نجاح اليمين المُتطرِّف، فهل من أساس لذلك بنظركم؟

– بخصوص العلاقة بالمُهاجرين أو، بصورة أعم، العلاقة بالأشخاص من أصل إثني أو ثقافي أجنبي، تبقى المُبادرات الصادرة عن ممثلي الدراسات المابعد كولونيالية مرحَّباً بها؛ فنقد الأحكام المسبقة والجرائم العنصرية يستند دائماً إلى مبدأ ذي نزعة كونية للاحترام المُتماثل الذي يكون واجباً علينا تجاه كل شخص. ذاك هو السبب الذي من أجله يتعيَّن علينا ألّا نزيد في إضفاء الخاصية الطبيعية على الاختلافات الثقافية، فليس صحيحاً أن الآخر الذي ننتَقِدُه هو، بشكلٍ من الأشكال، أسيرُ ثقافته أو سجين داخل السياق الخاص بأصله وتنشئته الاجتماعية، ذلك أن الثقافات المُختلفة لا تشكّل عوالم مقطوعٌ بعضها عن البعض بسدُود لا يمكن عبورها، كما أنها لا تتميَّز أبداً بـ«هويات» جامدة وغير متحرِّكة في علاقة بعضها ببعض.

لقد أظهرت أزمة (كوفيد) للعيان وجود توترات هائلة بين الحرّية الفردية والتنظيم والضبط الذي مارسته الدولة باسم الصحة، ما حُكمكُم على فعل الدولة خلال الجَائِحة؟

– إنّ النقاش حول السبيل الأفضل الذي يتعيَّن اتباعُه في مواجهة الجَائِحة قد هيمن عليه إلى حدود تاريخ قريب الخلاف بين المُدافعين عن الإجراءات الوقائية الصارمة وأنصار خط إزالة العوائق والانفتاح التحرُّري، وفي هذا السياق، لدينا نقطة عمياء مهمَّة مع سؤال خاص بفلسفة الحق هي المُتمثلة في معرفة ما إذا كان بإمكان دولة الحق الديموقراطية اتباع سياسات تَتلاءَم عبْرها مع أرقام انتشار العدوى والوفيات التي يمكننا تفاديها من حيث المبدأ. ففي ظل الأزمة اعتمدت الدولة على تعاون غير عادي من قِبل السكان، وهو ما فرض قيوداً صارمة على جميع المُواطنين، بل وفرض عليهم حتى تقديم خدمات شخصية بارزة، بمَنْ فيهم مختلف المجموعات التي لا تتحمل التكاليف على قدم المُساواة، ولم تكن الدولة مرغمة على فرض المزايا التضامنية عبر الطريق القانوني إلّا لأسبابٍ وظيفية، والإحراج الحاصل بين الإكراه أو القسر القانوني والتضامن إنما هو ناجم عن انفجار توتر إبَّان الجَائِحة، وهو التوتر الذي يبقى داخلياً بالنسبة لدستورنا ذاته وملازماً له، بين مبدأين حاملين، ذاك الذي يوجد من جهة بين السلطة الديموقراطية التي تبسُط ولايتها على المُواطنين بغرض متابعة مجمل الأهداف الجماعية، ومن جهةٍ أخرى، الضمان المُؤكَّد من قِبل الدولة للحرّيات الذاتية، والعنصران معاً يتكاملان فيما بينهما كلما كان الأمر متعلِّقاً في وضعية عادية وبإعادة الانتاج الداخلي للمُجتمع، لكنهما يفتقدان التوازن كلما كان الجهد الجماعي الاستثنائي الهادف إلى صدّ خطر طبيعي يهدِّد «من الخارج» حياة المُواطنين مُسْتَلْزِماً أفعالاً تضامنية منهم تتجاوز المُستوى المُتواضع الذي يطبع التوجُّه نحو الخير المُشترك والذي ننتظره منهم في الحالة العادية. أعتقد بأن هذا الالتماس غير المُتَقَايس لتضامن المُواطنين على حساب حرّياتهم الذاتية المضمونة بدورها، إنما يجد تبريره في ما تطرحهُ على كاهلنا الوضعية الاستثنائية من تحدّيات، لكن الأكيد هو أنها لا تكون لها مشروعية سوى لفترةٍ محدودة.

لقد ظهر بفضل الأزمة الصحية، نوعٌ جديد من الاحتجاج الشعبي يؤكِّد نفسه على المشهد السياسي، فكيف تصفونه؟

– عندما نعكف على حالة وعي هؤلاء الناس، فإننا نصطدم في واقع الأمر بتناقض غريب، فمن جهةٍ هم يستخدمون نظريات المُؤامرة كي يسقطوا ألوان قلقهم المكبوتة حول القوى الظلامية التي يُفْترَض أنها تستعمل سلطة المُؤسسات القائمة؛ فالعنصر أو المُكوِّن السلطوي لهذه التصوُّرات المُنغلقة للعالَم والمُتأثرة في الأغلب بنزعة معاداة السامية تكشف عن جذور اليمين المُتطرِّف لهذا الإمكان، ومن جهةٍ أخرى نجد أن استنكار النظام الذي تمَّ وضعه قد أتاح للمُشككين في كورونا تقديم أنفسهم بلباس النزعة المُضادة للتسلط Anti-autoritarisme؛ بحيث تعطي مواكبهم الاحتجاجية المظهر التحرُّري للحركات الاحتجاجية للشباب، بهذا الشكل أمكن للمُحتجين أن يتظاهروا ويعملوا على تقديم أنفسهم باعتبارهم المُدافعين الديموقراطيين «الحقيقيين» عن الدستور الذي تمَّ انتهاكه من قِبل حكومة يَتَمُّ الزَّعم بأنها متسلطة. والواقع أن الشيء الوحيد الذي يرشح من هذه الوضعية التحرُّرية، هو الدفاع الخالص والمحض عن المصالح الشخصية الذي يتوقع المرءُ أن يجده عادةً عند ممثلي الليبرالية الاقتصادية الجذرية، لكن ما يوجد في هذه الحالة، هو نزعةُ التمركز حول الأنا الخاصة بالضّعفاء والمُهمشين، لا تلك الخاصة بالأقوياء. ولو وَثِقْتُ في انطباعي، لَقُلت بأن إمْكَانَ الاحتجاج هذا لازال سيشغلنا لفترة أطول، وبكيفية مستقلة تماماً عن العامل الذي أطلَقَهُ المُتمثل في الجَائِحة وأفترض أنه يعبِّر عن هذا النوع من عدم الاندماج الاجتماعي ذي الأصل النسقي والذي أجاد الرئيس الأميركي «جو بايدن»، دون أدنى شك، في تشخيص مُسبِّباته بعد الهجوم على الكابيتول الأميركي وهو يحاول لحدود الآن محْوَهُ من خلال محاولته العودة إلى برامج «روزفلت».

ما رأيك في الاستجابة الأوروبية للأزمة الصحية؟

– لا شيء يبعث على الاندهاش في ما أبانت عنه الدول الأمم، أثناء جائِحة «كوفيد – 19»، من قدرة على التصرُّف ككيانات بشكلٍ فعلي وحقيقي، على الرغم من نشاط التنسيق الذي قامت به المُنظمات الدولية لاسيما منظمة الصحة العالمية، ومع ذلك لازالت المفوضية الأوروبية مسؤولة، نيابة عن الدول الأعضاء، عن اقتناء اللقاحات النادرة وتوزيعها، فبذلك استطاعت أن تتجنَّب، في نطاق مجالها التراتبي المُتميِّز عالمياً من زاوية اقتصادية، تفاوتات قوية في التزوُّد بالأدوية الحيوية، كانت ستظهر بين الدول الأعضاء المُتفاوتة في قوتها، لكن تزامن الكارثة التي عصفت بإيطاليا في بداية الجَائِحة مع المُشاورات حول الميزانية هو ما دفع على الخصوص كلا من «ماكرون» و«أنجيلا ميركل» إلى فرض مبادرتهما من أجل برنامج مشترك للمُساعدة على الصعيد الأوروبي وإذا كانت خطة الإنعاش لافتة في تميُّزها، فلأنها أتاحت للمفوضية تحمُّل الدُّيون الأوروبية المُشتركة، حتى وإنْ لم يكن ذلك في لحظة أولى إلّا بهدف التّحكُّم في ما نجم عن الوباء من عواقب، لكن منذ تاريخ توقيع اتفاقية «ماستريخت» إلى الآن، يبقى قرار تحمُّل الدَّين بصورةٍ مشتركة هو الخطوة الجدية الأولى نحو توحيدٍ أكثر تقدُّماً.

تخيَّل لو أنَّ شاباً في غمار طرحه لأسئلة على نفسه بخصوص العَالَم، حَصل أن التقى بك، ما هو المُؤَلَّف الفلسفي الذي ستنصَحُه بقراءته أولاً؟

– لن أوصيه بأي واحدة من تلك الطلقات (وعمليات القصف) الاندفاعية التي نُسْلم أنفسَنا لها عندما يكون الأمر متعلّقاً بتقديم صور تشخيصية للحقبة التاريخية، بل سأنصحه، من باب تحفيزه من أجل الاطلاع على الفلسفة، بقراءة صفحتين ونصف وصَلتَا إلينا من كتابة «هيغل»، تحت عنوانٍ به شيء من الخداع: «أقْدَمُ برنامج نسقي للمثالية الألمانية»، وحتى لو سارع أحدهم إلى القول بأن طالبة شابة في قسم البكالوريا لا يمكنها فهمُ سياق هذه الأسطر، فإن ما ستشعر به هو تلك القوة المُتعالية لفكر شعري فلسفي (péotico-philosophique) التي كان يحملها الأصدقاءُ الثلاثة: «هيغل» و«شلينغ» و«هولدرلين» في تلك الحقبة، أي سنوات بعد الثورة الفرنسية، لأن هذه الأسطر هي التي انحدرت منها أعمال فلسفية وأدبية هزَّت العالَم ولا زالت تُحرِّكُهُ إلى يومنا هذا، وإذا تعلَّمت هذه الشرارة الفلسفية، سأنصحُها عندئذ، هي أو صديقها المهْتم، بقراءة «كتابات الشباب» لـ«هيغل»، نعم هي نصوص محيِّرَةُ، لكنها أيضاً الخُطى تقود على الطريق الصحيح، وفي نهاية المطاف سيكون الاثنان قد اكتشفا معاً مفهوم الحرّية ومفهوم «الحب»، أي سيكونان قد اكتشفا التبادلية التي تطبع العلاقات البينذاتية بوجهٍ عام، وهما مفهومان لن يغيبا عن ذهنهما أبداً، مهما كانت الوجهة التي يأخذهما صوبها فِكرُهما الخاص.

أنت أحد آخر المُفكِّرين الذين عرفوا الفيلسوف «ثيودور لودفيغ فايسنغرند أدورنو» شخصياً، هل تتذكرون هذا اللقاء؟

– عند أول لقاء بيننا في يناير/كانون الثاني 1955 لم يكن «أدورنو» قد صار بعد «أدورنو» كما هو في أعين الجمهور، أتذكره شخصاً بحركات رشيقة، عميقاً في تفهُّمِهِ لكنه يحمي، في ذات الوقت، نفسَه من الخارج، هذا الشخص الذي رأيته فيما بعد، استقبلني بمكتب «هوركايمر» بتودد ملحٍّ بقدر ما هو مستعصٍ على كلِّ اختراقٍ، لقد صارت الذهنية الشفافة، طبيعة ثانية له، فمن لغته وخَطَابَتِه اللاَّذعة ينكشف، ربما عنصر أو مكوِّن مصطنع يسبب اندهاش الزائر غير المُستعد. لم يكن بمقدروي في تلك الحقبة التكهُّن بما الذي كانت ستعنيه بالنسبة لي السنوات الأربع ونصف السنة الموالية من العلاقة شبه اليومية مع هذا الذهن العظيم والهش، الأعزل من كل دفاع والفائق الحساسية تجاه المؤسسات؛ بمعنى ما الذي كانت ستعنيه تلك السنوات في تطوُّري الفلسفي وبصورة أعمّ في تطوُّري الذهني. لقد كان «أدورنو» شخصاً لا يمكنه إلَّا أن يفكِّر، إذْ كان أقربَ ما يكون إلى العيش تحت وطأة التوتر بشكلٍ يومي، وهو ما كان ينطوي تقريباً على شيء من الألم، وفي الأمسيات التي كانت تجتمع فيها حلقة الوُد المُصغَّرة كان يبذُل لنا فيها ما هو أكثر من واجب الضيافة، ولما كان يشعر صاحب البيت بالأمان، كانت تلك الليالي تطول أكثر، لقد كان «أدورنو» يعيش حياة بورجوازية، فعند منتصف النهار يدخل لتناول غدائه في بيته، ثمَّ يعود إلى المعهد عند الساعة الثالثة زوالاً تماماً، من شارع «كيليتنبرغ» القريبة جداً، رفقة زوجته «جريتيل».

عندما تتذكرون هذه الحقبة التاريخية هل تجدون فيها بعضاً من صور التوازي مع حقبتنا نحن؟ أم تُرانا أمام عالَم مختلف تماماً؟

– بكيفية تطبعها المُفارقة سأجيب بنعم عن سؤاليْك معاً؛ فالناس وحاجاتهم وصور قلقهم وآمالهم وتطلعاتهم لا تتغير بشكل سريع جداً، اللهم إلّا إذا كان ذلك بكيفية سطحية جداً على غرار ما تتغير أشكال الموضة. وبالمُقابل نجد أن شروط الحياة والظروف السياسية قد شهدت تحوُّلاً ظاهرياً في أعقاب تسارُع التغيُّر التكنولوجي والاجتماعي. أكيد أن وعي السكان الذين ينتمون إلى نفس الوطن في تلك الحقبة كان غارقاً في الإطار الوطني وكان رجعياً إلى حدٍّ ما، لكنه كان وعياً متّجهاً نحو المُستقل. ومع الدفعة المُواتية التي حملتها الانطلاقة الاقتصادية، وعلى الرغم من صور الاتصال والاستمرارية على صعيد الذهني والشخصي كانت ضاغطة مع حقبة الوطنية الاشتراكية، على الرغم من ذلك كنا نشعر بأن شيئاً ما في طور التحسُّن. أما اليوم فنجد الوعي قد اهتز وارتجَّ من مدة طويلة وسقط في حالة دفاعية، والجَائِحة ما هي، بالأحرى، إلّا عَرَضٌ لذلك؛ إنّ عولمة التهريب والإنتاج وَرقْمَنةَ علاقات العمل والتَّواصُل، والآثار القاسية والمُدمرة للأزمة المناخية تحديداً لا تبعث على الأمل؛ فما أبرزته الإيكولوجيا تحديداً هو أن أشكال المنافذ التحليلية تتغير في ذات الوقت الذي تتغير فيه الظواهر. ومن جانب آخر نجد أن المُشكل القديم هو المُتمثل في معرفة الكيفيّة التي يمكن بها، لضبط وتنظيمٍ تتولّاه الدولة، تدبيرَ المُشكلات التي أفرزتها الرأسمالية، إلى جانب التفاوتات وعدم المُساواة الاجتماعية المُتزايدة التي لم تخْتفِ، بل ازدادت حدَّةً وخطورةً في أعقاب العولمة الاقتصادية والأزمة المناخية، ومع أن هذا المُشكل لم يتم التَّحكُّم فيه دائماً وضبطه، فإنّ إدراكه يتمُّ باعتباره مشكلاً تافهاً ومبتذلاً داخل مجتمع صار أكثر غِنى في المُتوسط، ليتم تركه في ذيل الخطة ووضعه على آخر سلم الأولويات، كما أن السياسة قد تخلَّت عن التوجيه وعن الإرادة الخلّاقة والمُبدعة وعن المنظور أو الأفق المُستقبلي، وصارت تتكيَّف بانتهازية مع التَّعقيد المُتزايد الذي صار يَسمُ الوضعيات المُقلقة، دون أن تمتلك بالبث والمطلق أيَّ إرادة واضحة.

قدَّم «برتراند راسل» نصيحتين للأجيال المُستقبلية؛ إحداهما فكرية والأخرى أخلاقية؛ فأما الإشارة الفكرية فمضمونها وُجُوب التَّركيز على الوقائع وحدها وما تنطوي عليه من حقائق. وأما الإشارة الأخلاقية فتتمثل في أننا نعيش في عالَم يصير أكثر فأكثر تعولماً (globalisé) مما يستوجب تكويناً جماعياً على التعاطف والتسامح، فما النصائح التي تقدِّمها أنت؟

– أوافق «راسل» على كلتا النقطتين، لكنني أَسْند إشارته الأخلاقية بوقائع: الوقائع التاريخية، مثل إلغاء العبودية وتجاوز الهيمنة الاستعمارية وإدانة التعذيب وإلغاء عقوبة الإعدام وضمان التسامح الديني وحرّية الرأي أو المُساواة في الحقوق بين الجنسين، فهذه الوقائع كلُّها تمَّ التّرحيب بها بصورةٍ واضحة باعتبارها صور تقدُّمٍ على طريق مَأْسَسة الحُرّيات، وهو أمرٌ حاصلُ ليس داخل منظورنا الغربي المحدود. وإلى جانب ذلك لا أحد يشكك في ما حقَّق العلم من تقدُّم، كما أننا راكمنا تقدُّماً أيضاً على صعيد استخدام العقل العملي؛ غير أن ذلك لا يمكِّنُنا من ضمانة مؤكَّدةٍ على أننا سنحُلُّ المُشكلات الراهنة، التي تبدو، بصورة خالصة وبكامل البساطة، عقباتٍ يتعذَّر تذليلُها، لكن يمكنها على أقل تقدير تشجيعنا على المضي في اتجاه «تعلم الأمل» (Docta Espoir)، واستخدام عقلنا العملي من أجل تحسين العالَم، ولو كان ذلك بالأقل، واليوم لا زال بإمكان الفلسفة أن تقدِّم أدواتٍ جيدةً لدعم وإسناد هذا الفكر الذي يُفصِح عن نفسه في أعمال «كانط» أكثر من أي فيلسوفٍ آخر.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

Philosophie Magine,N°155, decembre2021 / janvier2022.
حوار: ليزا فرايدريش. تقديم: سيدريك انجالبرت. الترجمة الأصلية: أوليفييه مانوني

ميشيل مافيزولي: الإدارة بواسطة الخوف تؤدِّي إلى ترسيخ الفردانية

«ميشيل مافيزولي» غَنيٌّ عن التعريف، فهو عَالِم اجتماع، فيلسوف، أستاذ فخري بجامعة السوربون وعضو بالمعهد الجامعي الفرنسي. عن سنِّ السادسة والسبعين، لم يفقد هذا الأبيقوري شيئاً من حرّيّته في التعبير، ولم يُصَبْ بعدوى الفكر الواحد. إذ يُقدِّم لنا في مقالته الأخيرة تحليلاً رصيناً لتحوُّل «البراديغما» الذي بتنا نشهده اليوم.

حسب تحليلك، نحن اليوم نعيش نهاية عصر ونشهد بالتالي نقلةً نوعية. ما هي التحوُّلات التي تجري حالياً؟

– ميشيل مافيزولي: إنه واحد من المواضيع التي دأبت على الخوض فيها منذ سنوات عديدة. أنا أبيِّن إجمالاً أنه في كلّ ثلاثة أو أربعة قرون، المُحرِّك الذي ترتكز عليه الحضارة يتوقَّف عن العمل. النظام يبلى ويتآكل. ومن وجهة نظري نحن نعيش حالياً آخر أنفاس العصر الحديث. ما يُسمَّى بالحداثة هو ما بدأ مع «ديكارت» في القرن السابع عشر، وتعزّز طوال القرن الثامن عشر في أوروبا مع فلسفة التنوير، وتم إضفاء الطابع المؤسّسي عليه في القرن التاسع عشر. ثم حَلّ القرن العشرون الذي بدَّد رأس المال، ولم يخلق الكثير وعاش على ما تركته القرون الثلاثة التي سبقته. فمنذ منتصف القرن العشرين، انتهى عصر الحداثة، وبدأ عصر آخر أصفه بـ«ما بعد الحداثة».

ما الذي يميِّز الحداثة عن ما بعد الحداثة؟

– إن الحامل الثلاثي للقيم الحديثة الكبرى يتشكَّل من الفردانية والعقلانية والتقدُّمية. وهذا ما يشكِّل أساس جميع التأويلات والمُؤسَّسات الكبرى والقيم التعليمية والوجدانية والصحية والاجتماعية والسياسية والنقابية… إلخ. كلّ هذه المُؤسَّسات تطوَّرت انطلاقاً من هذا الثلاثي. وفرضيتي، مع الأخذ بعين الاعتبار أصل كلمة «عصر»، هي أن هذا «القوس» يُقفَل الآن. ولكي نفهم الأمر جيّداً، من الواجب علينا معرفة أن العصور المُختلفة تفصل بينها فترات. العصر يدوم لثلاثة أو أربعة قرون، والفترة تستمر لأربعة أو خمسة عقود. يمكننا أن نشبه الفترة بوقت الغروب الذي نستشعر من خلاله ما الذي سيزول، ولكننا لا ندرك جيّداً البديل الذي هو في مرحلة النشأة. وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على الأجيال الشابة، التي لم تعد تجد المعنى في القيم التي أشرت إليها للتو، وتطمح في الوقت نفسه إلى أنواعٍ أخرى من القيم.

ما هي قيم ما بعد الحداثة الوليدة؟

– اسمح لي أن أتكلَّم بحذر. في رأيي، ثلاثي ما بعد الحداثة الوليدة لن يكون الفردانية، ولكن سيكون ضمير الجمع المُتكلِّم «نحن»؛ لن يكون ما هو عقلاني، ولكن ما هو عاطفي؛ ولن يكون التقدُّمية من أجل الغد، وإنما فكرة الحاضر. ما يحدث حالياً وما نستشعره جميعاً هو الانزلاق من ثلاثي إلى آخر.

وفي السياق الحالي للأزمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، أنت تتحدَّث عن «الإدارة بواسطة الخوف» على مستوى الدولة. هلا وضحت لنا ذلك؟ وهل ينطبق الشيء نفسه على وسائل الإعلام أيضاً؟

– في الوقت الذي يجري فيه هذا التحوُّل، ولفترة محدودة من الزمن، فإن ما أسميه أنا النخب، أي أولئك الذين لديهم القدرة على القول والفعل: السياسيون والصحافيون والخبراء، أولئك الذين نراهم كلّ يوم على القنوات التلفزية، هذه الأوليغاركية الإعلامية والسياسية الصغيرة تظلّ متمسّكة بالقيم المنتهية صلاحيتها. والصحافة، من جانبها، تنقل ما يطلب منها السياسي أن تنقله. وعندما تكون النخبة ماضية في طريق الاندحار، فإنها تعمد إلى ما أسميه «الإدارة بواسطة الخوف». في العصور الوسطى، كان الخوف من الجحيم. أمّا حالياً، فلدينا استراتيجية الخوف من المرض. إذ يجري تسليط الضوء على هذا الوباء، الذي أسميه أنا وباءً نفسياً. يتلخَّص الأمر في خلق نوع من الهلوسة الجماعية، أو نوع من الذهان. في نهاية العصور الوسطى، كان هناك الطاعون الأسود. والغريب أنه كلّما اقتربت في التاريخ نهاية شيء ما، تظهر لنا هلوسة جماعية وينصب الاهتمام على تدبيرها. واليوم، باسم هذه الأزمة الصحية، يجبر الناس على ارتداء الأقنعة، والتزام التدابير الاحترازية. ما هو دورها؟ إنه ببساطة، الحفاظ على الفردانية. نريد أن نحافظ على هذه القيمة الفردية، في حين أن ما ستفرز عنه التحوُّلات الجارية الآن يمتاز ببعده القبلي والجمعي ويتكلَّم بضمير الجمع المُتكلِّم «نحن». وفي كتابي، أنا لا أتحدَّث عن ارتداء القناع، ولكن عن «ارتداء الكمامة»…

أنت تصف في كتابك دولة منفصلة عن الناس وعن العَالَم الحقيقي. ما الذي ينبغي عليها فعله لتكون منسجمة مع المُجتمع والرأي العام؟

– فرضيتي هي أنه عندما تصل النخبة إلى مرحلة التدهور فإنه سيتم استبدالها، وهذا أمرٌ حتمي. لقد تحدَّث عالم اجتماع واقتصادي إيطالي مغمور، اسمه «فيلفريدو باريتو»، عن «تداول النخب». فعندما تصير النخبة عاجزة عن مسايرة الإيقاع العام، يحدث التداول. ولكن الأمر يستغرق منّا بضعة عقود قبل أن نتنبَّه إلى حدوث مثل هذه القطيعة. بالنسبة للأشخاص الذين هم في مثل سني، من اللافت أن نرى بأنه قبل ثلاثين عاماً، تمَّ فقد الثقة بالمُثقَّفين، ثمَّ في وقتٍ لاحق، تمَّ فقد الثقة بشكلٍ متزايد في السياسيين. وفي الوقت الحالي، انعدام الثقة هذا أصبح يتزايد تجاه الصحافيين ووسائل الإعلام بشكلٍ عام. وقد كان «مكيافيلي» يقول بوجود تناقض بين «فكر القصر وفكر الساحة العامة». وهذا ما يحدث الآن. ربما أكون مخطئاً، لكن فرضيتي هي أن المُستقبل سيشهد اندلاع أشكال من الانتفاضات.

ما هو رأيك وتحليلك بشأن كلّ ما نقرؤه ونسمعه عن نظريات المُؤامرة؟

– هذه أمر لا أحبه على الإطلاق! إنها وسيلة مباشرة لمنع التفكير، حيث نسمي «منظري المُؤامرة» أولئك الذين لا يتبنّون الأفكار الرسمية والعلمية التي تحظى بالمقبولية. عادة، في البلدان الديموقراطية، في الفترات المتوازنة، يكون هناك نقاش، أي ما كان يسمّى في الماضي بـ«الديسبوتاسيو – disputatio». أمّا اليوم، وهذه ظاهرة حديثة، فإذا قلنا شيئاً لا يتفق مع الكلام الرسمي، يتمُّ اتهامنا على الفور بأننا نؤمن بنظرية المُؤامرة أو نروِّج لها. لذلك فهذا أمر غير لائق بالنسبة لي، لأنه يقودنا إلى التخلي عن جميع الحُجج المُناقضة لكي نتفادى النقاش الذي أصبح غير محمود العواقب.

ما الذي يمكن للفكر الفرنسي أن يقدِّمه في هذا السياق، وخاصة الفلاسفة وعلماء الاجتماع؟

– بقدر ما كانت فرنسا تعتبر المكان والمُختبر الذي كانت تُصنَع فيه الأفكار حقّاً -في زمن «ميشيل فوكو» و«جيل دولوز» وآخرين ممّن قاموا بتكوين الجيل الذي أنتمي إليه والذين كانت أسماؤهم شامخةً ومعترفاً بها دولياً- بقدر ما شهد العقدان أو الثلاثة عقود الأخيرة، هدراً كبيراً. وأنا أستثني هنا صديقي «إدغار موران» الذي يحتفل هذا العام بعيد ميلاده المئة. هذا فيما يخص الجانب المُتشائم. أمّا الجانب المُتفائل فكما هي العادة دائماً حين يحدث تداول للنخب، يجب أن نراهن على الأجيال القادمة. عندما نرى على شبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية أن هناك مجموعات مناقشة فلسفية واجتماعية واقتصادية حقيقية، نرى أيضاً أبحاثاً حقيقية يجري تطويرها. أعتقد أن هذا هو المكان الذي تتبلور فيه الآن الثقافة الفرنسية الجديدة على مستوى الأفكار. المشكلة الوحيدة هي أن كلّ ذلك يتم تحت غطاء غير رسمي، ولم تضف عليه الرسمية بعد.

ما هو رأيك في انتشار الأخبار الكاذبة والمُزيَّفة، وخاصة على الشبكات الاجتماعية؟

– يمكن في كثير من الأحيان تشبيه وسائل الإعلام الرسمية بالببغاوات، لأنها تكتفي بتكرار ما تطلب منها السلطة قوله. فكأن هاتين السلطتين مرتبطتان، على المُستوى الرمزي، بنوع من زواج الأقارب. إنه مجتمع صغير ومنكفئ على ذاته. وهذا المُجتمع منقطع عن الحياة الحقيقية، عن «النّحن»، عن القرى البعيدة عن العاصمة. إن هناك انفصالاً حقيقياً عن الناس. ففي قريتي الصغيرة في منطقة الهيرو، يحدّثني الناس باستمرار عن تمسرح السياسيين الذين يشاهدونهم في البرامج التليفزيونية. توجد لدينا «مسرحقراطية théâtrocratie» حقيقية. وبديل ذلك هو تعدُّد هذه الشبكات الاجتماعية (تويتر، فيسبوك، انستغرام، لينكد إن…). أعتقد أن من المُبالغ فيه قليلاً الحديث عن الأخبار الكاذبة والأخبار المُزيَّفة… إلخ. لأن هذه الثقافة السيبرانية توجد الآن في حالتها الوليدة، لا بدّ أن نرى ذلك بوضوح. لذلك فهناك الأفضل والأسوأ. ونحن نرى الأسوأ على الدوام، لكننا لا ننتبه جيّداً للأفضل. لا يجب علينا أن نركِّز دائماً على نصف الكأس الفارغ، لأن هناك نصفاً ممتلئاً كذلك. يجب أن نكون حذرين بشأن هذه الثقافة السيبرانية، ولكن سواء أأعجبنا الأمر أم لا، هذا هو البديل. فقد عاشت البشرية نفس المُشكلة مع «غوتنبرغ» والطباعة في القرن العاشر. وذلك لأن الرهبان كانوا يحتكرون الكتابة في ما سبق. ومنذ اللحظة التي تمكَّن فيها الإنسان من الطباعة، ظهر ردّ فعل سيئ للغاية. بطريقةٍ ما، التاريخ يعيد نفسه مرّةً أخرى. هناك نوعٌ من الوصم لما هو غير رسمي، لأنه يُكره النخب على التخلّي عن احتكارها. وأنا أعتقد على العكس من ذلك، بأننا يجب أن ننتبه لهذه الثقافة السيبرانية وأن نتعهدها بالمُصاحبة ونعمل لصالحها كي لا يتحوَّل الحلم إلى كابوس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: فاليري لوكتان

العنوان الأصلي والمصدر:

Michel Maffesoli: le management par la peur pousse à l’individualisme

المجلة الفصلية «Question de philo» العدد (23) (أكتوبر- نوفمبر- ديسمبر 2021).

ميشيل أغلييتا: فرصة أخيرة لإنقاذ المناخ

في مواجهة تغيُّر المناخ، بآثاره الملموسة كلّ يوم، دعا «ميشيل أغلييتا»، مستشار في مركز الدراسات المُستقبلية والمعلومات الدولية (CEPII)، إلى إنشاء بيئة سياسية عاجلة، تتمثَّل في دمج معايير الاستدامة في السياسات المالية والنقدية والتنظيم المالي وحوكمة الشركات. في هذه المُقابلة يقدِّم الباحث تفاصيل هذه الاستراتيجيات من خلال الإجابة عن أسئلة «إيزابيل بن صيدون»، الخبيرة الاقتصادية ومساعدة مدير (CEPII).

إن السيناريوهات التي أصدرتها الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيُّر المناخ (IPCC) هذا الصيف مقلقة للغاية. هل ما زالت هناك طرق للخروج؟ هل أحرز مؤتمر (COP26) الأخير أي تقدُّم؟

– إن الرسالة المُلحة لتقرير الفريق الحكومي الدولي الأخير تقول إن أزمة المناخ قد وصلت إلى عتبة حرجة. لقد فُوجئ العلماء بهذا التسارع مع بداية الأحداث المُتطرِّفة منذ أواخر عام 2019. وهذا هو السبب في أن إمكانية العودة إلى ما قبل هذه الأزمة «الطبيعية» تبدو وهماً خطيراً.

ومع ذلك، لا يزال من المُمكن العمل على احتواء الزيادة في درجة الحرارة، مقارنة بما كان عليه في المُتوسّط بين عامي 1850 و 1900، إلى 1.5 درجة بحلول عام 2050. ولكن يجب أن نتصرَّف بسرعة، حتى نتمكَّن من تقليل صافي انبعاثات غازات الدفيئة (GHG) إلى الصفر بحلول عام 2050.

في هذا الصدد، أحرز مؤتمر (COP26) تقدُّماً، بالاتفاق على التخلُّص من غاز الميثان الكربوني، والذي يجب استبداله بإنتاج الميثان الأخضر عن طريق التحليل الكهربائي، وكذلك بشأن إعادة التحريج والتشجير، وبالتالي الحدّ من «تصنيع التربة»، لكن هذا لن يكون كافياً على الإطلاق.

لتحقيق هدف صافي انبعاثات غازات الدفيئة الصفرية في عام 2050، سيكون من الضروري تحقيق تقدُّم عام في استخدام الكهرباء في استخدامات الطاقة وتعزيز الهيدروجين الأخضر، حيث لا يمكن تحقيق إزالة الكربون من خلال الكهرباء فقط. يجب أيضاً تطوير تقنيات مختلفة لالتقاط الكربون وتخزينه للتعويض عن عملية إزالة الكربون غير الكاملة.

ومن ثَمَّ فإن الأمر يتعلَّق بعمليّات إعادة توجيه جذرية يجب أن تكتمل بتحوُّل في أنماط الاستهلاك نحو الرصانة في البلدان الغنيّة، والخيارات التقنيّة التي تحمي البيئة والموارد، والمُساعدات المالية الكبيرة للبلدان النامية الأكثر هشاشة.

أخيراً وليس آخراً، يجب المُوافقة على الأداة الرئيسية لدفع عملية إزالة الكربون والزيادة التدريجية في سعر الكربون وتطبيقه في جميع الصناعات والمباني والنقل على نطاق كوكبي. بعد ذلك، سيتعيَّن تحويل عائدات الضرائب، التي ستسمح بها ضريبة الكربون، إلى السكّان المُعرَّضين للخطر داخل الدول ومن البلدان الغنيّة إلى البلدان الفقيرة على المُستوى الدولي، لمنع هذه الأخيرة من توقيع عقود في هياكل منتجة ذات كثافة عالية من الكربون، والتي من شأنها أن تمنعهم من الاستجابة لحالة الطوارئ المناخية. فالمناخ، بالأساس، هو مصدر قلق عالمي.

هل هذا يعني تحوُّلاً جذريّاً في مجتمعاتنا؟

– إن زيادة درجة حرارة العالم بمقدار 1.5 درجة مئوية تنطوي على تكلفة انتقالية كبيرة، حيث تتطلَّب تغييراً جوهرياً في موقف الحكومات تجاه لوبي الكربون.

يُقدِّر مقال نُشِر في المجلة العلمية «Nature» في سبتمبر/أيلول 2021، أن 60 % من احتياطيات النفط والغاز، و90 % من احتياطيات الفحم يجب التخلُّص منهما بحلول عام 2050، أي أنه سيتعيَّن عليهما البقاء في الأرض، وإلى الأبد. وهذا يعني أن إنتاج النفط والغاز يجب أن ينخفض بنسبة 3 % كلّ عام، وأن ينخفض إنتاج الفحم بنســبة 7 % حتى عام 2050. ومع ذلك، في غياب تسعير الكربون، لم تعلن أي دولة منتجة للنفط والغاز عن هدفها لخفض الإنتاج.

طالما لم يتم تحديد زيادة كبيرة ودائمة في سعر الكربون، فلن يكون من المُمكن تحقيق بيئة سياسية تقوم على دمج اعتبارات الاستدامة في تنظيم التمويل وفي حوكمة الشركات، ودمج الهدف المناخي المُتمثِّل في صافي الانبعاثات الصفرية في السياسات المالية والنقدية.

يتطلَّب هذا التحوُّل الجذري أيضاً أن تعيد الحكومات اكتشاف معنى التخطيط الاستراتيجي لتقديم مسار طويل الأجل للشركات الخاصة في جميع القطاعات وكسب ثقة المُواطنين، حتى ينخرطوا في تغيير أنماط الحياة.

هل لاحظتم وعياً سياسياً في مواجهة حالة الطوارئ المناخية هذه؟ تبدو أوروبا سبَّاقة في هذا الشأن.

– صادقت الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، على اتفاقية باريس لعام 2015 والتزمت بحياد الكربون في عام 2050، لكن عدم تحرُّكها في تنفيذ النوايا المنصوص عليها في هذه الاتفاقية ظلّ للأسف مؤثِّراً للغاية.

هذا هو السبب الذي جعل المفوضية الأوروبية تأخذ زمام المُبادرة. قدّمت خطّة طموحة في 14 يوليو/تموز، «السقف 55»، والتي تحدِّد الإجراءات المطلوبة بحلول عام 2030 للامتثال لاتفاق باريس. الهدف هو خفض انبعاثات غازات الدفـيئة بنســبة 55 % بحلول عام 2030 مقارنة بعام 1990، أي انخفاض بنسبة 40 % مقارنة بعام 2005، من أجل تحقيق الحياد الكربوني في عام 2050. هذه الأهداف ليست فقط طموحات، ولكنها التزامات سيتم تضمينها في قانون المناخ الأوروبي الأول، الذي من المبرمج أن تصدره رئيسة المفوضية «أورسولا فون دير لاين» في مارس/آذار 2022.

بفضل التوجُّه نحو الطاقة النووية، أصبحت فرنسا دولة خالية من الكربون أكثر بكثير من جيرانها. لذلك من المُمكن أن تحقِّق الحياد الكربوني من خلال مزيج الطاقة النووية / المُتجدِّدة، بشرط تمديد المصانع الحالية وبناء محطَّات الجيل الثالث من المفاعلات (EPR2) لاستبدال المُفاعلات تدريجياً في نهاية عمرها الافتراضي. هذه هي الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون».

ومع ذلك، فإن هذا التحوُّل البيئي ينطوي على مخاطر اجتماعية كبيرة للغاية. هل يؤخذ هذا البُعد في الاعتبار بشكلٍ كافٍ؟

– حتى يكون الانتقال عادلاً، يجب أن يكون التضامن ضرورة قاطعة، سواء على مستوى الدول أو على مستوى الصفقة الخضراء الأوروبية. هذا هو السبب في أن المفوضية تخطط لإنشاء صندوق مناخ اجتماعي جديد، من أجل تقديم الدعم المالي للمواطنين الأكثر تضرُّراً من الارتفاع المُؤقَّت في تكاليف الطاقة والتنقُّل.

سيتم دعم هذا الصندوق من خلال الزيادة في الإيرادات الضريبية المُتوقَّعة من توسيع نظام تداول الانبعاثات إلى المباني والنقل، مع استكمال جزء من الإيرادات من ضريبة الكربون على الحدود. وبالتالي يجب أن يتضمَّن 72.2 مليار يورو بالأسعار الحالية للفترة 2025 – 2032.

يتطلَّب انتقال الطاقة أيضاً تنسيق الإجراءات بين الدول الأوروبية ودعم البلدان ذات المُستوى المعيشي المُنخفض وحصة أكبر من الوقود الأحفوري وكثافة أعلى للطاقة، وذلك بفضل صندوق التحديث.

هل يمكننا التوفيق بين التحوُّل البيئي والنمو الاقتصادي؟ ألا يجب تخفيض النمو؟

– لا، سيكون الانخفاض كارثياً على السكّان. على العكس من ذلك، يجب أن تسير عمليتا إزالة الكربون والنمو جنباً إلى جنب. للقيام بذلك، سيتم إنشاء صندوق تجديد، لإزالة الكربون من القطاعات التي تغطيها آلية تعديل الحدود، لتمويل استثمارات الشركات الصغيرة والمُتوسطة الحجم (SMEs) في الطاقات النظيفة واستخدام هذه الطاقات. تهدف اللجنة إلى توليد 260 مليار يورو من الاستثمارات الإضافية سنوياً في الطاقة النظيفة لتدفئة المباني، أو من خلال بناء مضخَّات حرارية تقضي على تسخين الزيت، أو من خلال المُساعدة في تمويل الانتقال في النقل (الذي يمثِّل 25 % من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في أوروبا والتي تعدُّ السبب الرئيسي لتلوُّث الهواء).

يجب أيضاً القيام باستثمارات ضخمة لتحويل مزيج الطاقة وخفض كثافة الطاقة، نظراً لأن استخدامات الطاقة تمثِّل 75 % من الانبعاثات في أوروبا. ولهذه الغاية، فإن الهدف الذي توقَّعه التوجيه الأوروبي للطاقة المُتجدِّدة هو زيادة حصة مصادر الطاقة المُتجدِّدة في مزيج الطاقة من 20 % في عام 2019 إلى 40 % في عام 2030.

التحوُّل الأخضر يجب أن يقوم أساساً على حلّ أزمات المناخ والتنوُّع البيولوجي معاً لاحترام إمكانيات الكوكب. استعادة التنوُّع البيولوجي تعني تحسين أداء النظم البيئية، وبالتالي إنتاجية رأس المال الطبيعي، وزيادة القدرة على التقاط مصارف الكربون. وهذا هو سبب الحاجة إلى استراتيجية للغابات ومبادرة زراعية لتحقيق ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: إيزابيل بن صيدون

المصدر:

https://theconversation.com/reorienter-leconomie-une-derniere-chance-pour-sauver-le-climat-171634

 

جدل البيو.. حماية للصحة أم انتهازية تجارية؟

دفعت جائِحة كورونا الناس إلى إعادة النظر في مجموعة من العادات اليومية بما في ذلك استهلاكهم من الأغذية. فتوجَّهوا، بحثاً عن تقوية مناعتهم، نحو منتوجات الفلاحة البيولوجية الخالية نظرياً من المواد الكيماوية التي تؤثِّر على الصحة. وساهم الحَجْرُ الذي تمَّ فرضه خلال سنة 2020 على كلِّ سكّان العَالَم تقريباً في تغذية هذا التوجُّه، عبر تخصيص جزء من نفقات التغذية التي كانت تتمُّ في المطاعم لشراء المنتوجات البيولوجية ذات الأسعار المُرتفعة عادةً وإدخالها في وجباتهم.

لماذا تشجّع عدد من الدول التحوُّل الفلاحي إلى المنتوجات البيولوجية التي تخلق نوعاً جديداً من الاستهلاك في الوقت الذي يصارع فيه العَالَم لإنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام الأعداد المُتزايدة من السكّان؟ ففي ظرفية عالمية تشهد تغيُّرات مناخية لا تخفَى، ونمواً ديموغرافياً متسارعاً، يبدو أن هناك حركةً عكسية تسعى إلى تقليص حجم المواد المُستعمَلة في الفلاحة لتضخيم المنتوج الفلاحي من أسمدة ومبيدات، وأيضاً من مكمِّلات غذائية لتسمين الحيوانات. ولقد عمَّقت الأزمة الصحيّة، نتيجة انتشار فيروس كورونا، هذا التوجُّه وأصبح المُستهلكون أكثر ميلاً للمنتوجات البيولوجية، باعتبارها الأفضل صحيّاً. ذلك أنه منذ بداية الجَائِحة لم يتوقَّف الحديث عن أنه في غياب دواء ناجِع تبقى التغذية الصحية وسيلةً لزيادة المناعة الطبيعية للوقاية من الإصابة، إلى جانب الإجراءات الاحترازية المعروفة.

تشير الإحصائيات إلى أن نحو (186) بلداً تشهد ارتفاعاً مطرداً للفلاحة البيولوجية. وضاعف ارتفاعُ عدد البلدان، في هذا السياق، من المساحات المُخصَّصة لهذا النوع من الفلاحة إلى أكثر من (71 مليون هكتار) مخصَّصة بالكامل للمنتوجات الخالية من المواد الكيماوية التي تؤثِّر على النظام البيئي في الأماكن التي تستعمل فيها، وقد تكون لها، على المدى البعيد، آثارٌ سيئة على صحة المُستهلكين وعلى جودة التربة. كما سجّل هذا القطاع النامي بوتيرة متسارعة، في ظلّ الاهتمام الذي يحظى به على مستوى المُواكبة والدعم تشريعياً ومالياً، رقم معاملات يناهز (100 مليار دولار) على مستوى العَالَم في عام 2018 .

لكن، ما المُثير في موضوعٍ كهذا من المُمكن التعامل معه باعتباره تنويعاً في النشاط الفلاحي، يوفِّر موارد غذائية إضافية، ويساهم في امتصاص البطالة ويوسِّع الاستهلاك؟ إن اعتباره كذلك ما هو إلّا ظاهر الأمر فقط، لأن هناك أسئلةً مبعثُها عدد من المُفارقات التي ينطوي عليها. ومن هذه المُفارقات، أن مواطني الدول «الشبعانة» هم الأكثر إقبالاً على استهلاك مواد الفلاحة البيولوجية، سواء في البيوت أو في المطاعم العامة. ففي فرنسا، مثلاً، تشكل هذه المواد (6.5) في المئة من النفقات الغذائية للأسر، وما يقارب (188 يورو) لكلّ فرد في السنة، وحقَّقت تجارة هذا القطاع سنة 2018 أكثر من (9 مليارات دولار) مقابل نحو (11 ملياراً) في ألمانيا، وأكثر من (40 ملياراً) في الولايات المُتحدة. إن هذه الدول تعيش ما يسمِّيه بعض المُهتمّين بالموضوع مرحلة انتقال غذائي أو فلاحي، انطلاقاً من وعيها أولاً بالتغيُّرات المناخية وتأثيرها السيئ على وفرة المياه، وبضرورة الحفاظ على المياه الجوفية من التلوُّث وعلى صحة مواطنيها أيضاً، عبر التقليل من المواد الملوّثة، خاصة المبيدات والأسمدة الكيماوية، أو في حالات أخرى عبر منع المنتوجات الفلاحية المعدَّلة وراثياً درءاً لأضرارها المُحتمَلة.

تكمن المُفارقة هنا في المُقارنة مع الدول الأخرى «الجائِعة»، التي لا تجد المجال للتفكير إلّا في ضرورة توفير الطعام للأعداد المُتزايدة من سكّانها، وبالتالي تخرج حماية الصحة والمُحافظة على البيئة من الأولويات في برامجها الاقتصادية والاجتماعية، والتنموية بشكلٍ عام. فإذا كانت المجموعة الأولى تعتبر الفلاحة البيولوجية أحد العناصر الأساسية للسيادة الغذائية، فإنّ المجموعة الثانية تظلّ بلا سيادة بشكلٍ مطلق نتيجة ارتهانها إلى أساليب الفلاحة التي تستنزف الأرض وتلوِّث المياه، وتلجأ إلى الأسمدة الكيماوية لتكثير المحصول، وإلى المُساعدات التي تجود بها الدول الأخرى الغنية التي تحقِّق فائضاً.

ليس هذا فحسب، بل إن هذه الدول، إذ تعاني الأمرَّين في الاستجابة للحاجيات الغذائية لسكّانها، يعمل بعضها على تسريع وتيرة الفلاحة البيولوجية لتلبية طلبات أسواق الدول الغنية المُستورِدة. ذلك أن هذه الأسواق ما فتئت تتوسَّع وتعبِّر عن نهمها، كما هو الشأن بالنسبة للولايات الأميركية التي تمثِّل هذه المنتوجات نحو (16) في المئة من مجموع وارداتها الفلاحية، وأيضاً بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي التي استوردت أكثر من (3.2 مليون طن) سنة 2018، والصين التي أنفقت أزيد من (52 مليار يورو) على وارداتها من المنتوجات البيولوجية المُوجَّهة في أغلبها للأطفال.

لكن حتى هذا الطموح يواجَه بمُنافسة شرسة من الدول الكبرى المُصدِّرة ممثَّلةً في الدول المُستورِدة نفسها، فالولايات المُتحدة تحتلُّ الصدارة في هذا المجال، وأيضاً دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، بينما تأتي دول مثل الهند في رتبٍ لاحقة. وهذا يعني أن الفجوة القائمة بين الدول الفقيرة والغنية في مجال التغذية لا يمكنها إلّا أن تتعمَّق أكثر، خاصة مع تداعيات التدابير التي اتُّخذت لمُواجهة جائِحة كورونا التي فاقمت أعداد الفقراء في العالَم بأكثر من (100) مليون شخصٍ إضافي، أغلبهم بالتأكيد في الدول الفقيرة (البنك الدولي يتحدَّث عن جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء خاصة).

المُفارقة الأخرى المُرتبطة بموضوع الفلاحة البيولوجية، هي أن التوجُّه المُتزايد لاستهلاك منتوجاتها، يطرح سؤالاً بقطبين متنافرين. هل يتعلَّق الأمر بالصحة أم بالتجارة؟ وهو تقريباً السؤال ذاته الذي رافق، في سياقٍ آخر، منتوجات علامة «حلال» التي بدأت باللحوم قبل أن تمتدَّ لتشمل منتوجات فلاحية أخرى لا تطرح أي إشكال، فقد كان النقاش دينياً قبل أن تتحوَّل العلامة إلى ماركة تجارية محض. في ظلّ هذه الثنائية، هناك أصواتٌ تنظر إلى الفلاحة البيولوجية باعتبارها قطاعاً للاستثمار والاستهلاك، وبالتالي تنويعاً في النشاط الاقتصادي قد تكون له تأثيرات إيجابية على الصحة العامة. قد يكون هذا صحيحاً، بيد أن أسعار هذه المنتوجات مرتفعة جدّاً بالمُقارنة مع الفلاحة التقليدية، أي أنها في متناول فئة قليلة من ذوي القدرة الشرائية العالية، لذلك تبقى مسألة المُحافظة على الصحة كهدفٍ فيه نظر، لأنه، عملياً، لا يشمل كلّ السكّان.

تؤكِّد دراسة فرنسية نُشرت سنة 2020، أن أسعار المنتوجات «البيو» أعلى في المُعدّل بـ (75) في المئة مقارنةً مع المنتوجات الأخرى، علماً أن دراسة مماثلة نُشرت سنة 2017 خلصت إلى أن هذا الفارق كان في حدود (64) في المئة. ولَعَلّ هذا التطوُّر يؤشر إلى أن القطاع يتجه أكثر ليشكِّل أحد مظاهر الفوارق الاجتماعية، ويكرِّس الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل المُجتمع الواحد، كما بين الدول. وعندما أثارت إحدى الجمعيات المُهتمَّة بالمُستهلكين الانتباه إلى أن المُوزِّعين الكبار يساهمون في ارتفاع الأسعار بـ(46) في المئة مطالبةً بإعادة النظر في طريقة بناء السعر الذي يؤدِّيه المُستهلك النهائي وواصفةً هذه الطريقة بالانتهازية، لم تقم الوكالة الفرنسية المُكلّفة بمُواكبة القطاع بردِّ فعلٍ إيجابي للبحث في الموضوع، على العكس من ذلك، قالت إن هذا النوع من الفلاحة مكلّف، ومردوده ضعيف ومتطلّباته أكثر في ما يخص اليد العاملة، يُضاف إلى ذلك أن مصاريف المُراقَبة والإشهاد على المنتوجات يؤدِّيها المُنتِج. بشكلٍ ما دافعت الوكالة عن فيدرالية التجار والمُوزِّعين التي اعتبرت الدراسة المذكورة (2017) منحازة وغير موضوعية!

بعيداً عن جدل الفقر والغنى، والصحة والتجارة، هناك جدلٌ من نوعٍ آخر. جدلٌ أخلاقي محوره السؤال التالي: إلى أي حدّ هذه المنتوجات بيولوجية فعلاً؟ هناك حديث عن المنتوجات البيولوجية، والشبه بيولوجية والبيولوجية المُزيَّفة. بمعنى آخر هناك احتمالات واسعة للغش في ما يتمُّ تسويقه تحت علامة «بيو» الخضراء نتيجة صعوبة مراقبة جميع مواقع الإنتاج وجميع المنتوجات. لذلك، تحوم شكوك وشائعات بشأن استعمال موادّ في العناية بالنباتات والماشية تتضمَّن عناصر ضارة كالتي تستعمل في الفلاحة الأخرى. ولهذا فإذا كانت الدول التي انخرطت في التوجُّه نحو الفلاحة البيولوجية تجتهد في إقرار قوانين واعتماد برامج وخلق مؤسَّسات لتحصين القطاع وتقدِّم الدعم للمُنتجين لتشجيعهم، فإنها من جانبٍ آخر، لا تمضي إلى النهاية لحماية المُستهلكين من خلال تشديد المُراقَبة على ما يدخل إلى أجسامهم من جهة، ومن جهةٍ أخرى من خلال إجراءات تروم تأمين وصول الفئات ذات القدرة الشرائية المُتدنية إلى المنتوجات البيولوجية بشكلٍ ينسجم مع الخطاب المُبشِّر بفضائل الفلاحة البيولوجية في ما يتعلَّق بالسلامة الصحية على المدى البعيد.

من جانبٍ آخر، على سبيل الخاتمة، هناك طلبٌ متزايدٌ، وهناك عرض غير كافٍ. ولن يتأتَّى حلّ هذه المُعادلة إلّا بزيادة الأراضي المُخصَّصة للفلاحة البيولوجية، وأيضاً بضخ أموال إضافية لدعم المُنتجين، ولكن أيضاً يبدو التوجُّه نحو البلدان الفقيرة للاستثمار في هذا القطاع ضرورياً، لأسبابٍ كثيرة منها مساعدة هذه الدول على الانخراط في الحفاظ على ثرواتها المائية، وعلى المُساهَمة في المجهود الدولي لمُواجهة التغيُّرات المناخية، وكذلك على توفير موارد إضافية متأتّية من صادرات القطاع، وأيضاً المُساهمة، من خلال نقل الاستثمارات إليها، في تنشيط سوق الشغل وتخفيف وطأة الفقر فيها.

حرب الخوارزميّات بعد سَكتَة الفيسبوك

يوم الاثنين 4 أكتوبر/تشرين الأول 2021 ليلًا «سكتت» منصّةُ فيسبوك عن الكلام المُباح. توقّف نصفُ الفضاء الأنترنوتيّ عن العمل. كَفّت الأرضُ عن الدوران. خُيِّلَ إلى الكثيرين أنّهم يقتربون من نهاية العالَم فازدهرت «نظريّة المُؤامرة». ثمَّ تَمَاهَى متصفِّحُ الفيسبوك مع صفحته فأحسّ بأنّ الهجوم يستهدفه شخصيًّا. كذا تشكَّلت كلّ العناصر المُؤسِّسَة لحدثٍ تراجيديّ بامتياز.

إلّا أنّ التعاطف مع فيسبوك سرعان ما تمخَّض عن نقيضه. يكفي أن نتابع تصريحات فرانساس هوغن «المُوظّفة» السابقة. لقد تغيَّرت «زاويةُ التبئير» في يومين: تمَّ استباقُ محاولةِ فيسبوك تأويلَ الأمر على أنّه اختراقُ معلومات أو اعتداءٌ على الحرّيّات، وتمَّ إظهارهُ في صورة الدفاع عن «الديموقراطيّة الرشيدة»: يمتلك «زوكربرغ» 55 بالمئة من حقّ التصويت في مؤسَّسته. هكذا تمَّ الجزم بأنّه صاحبُ القرار النهائيّ في اختيار «الخوارزميّات» التي تدمّر الصحّة الذهنية للشباب وتخرّب المُجتمع وتفضّل الربح على سلامة العامّة! إنّه يمثّل «منوالاً» اقتصاديًّا واجتماعيًّا غير ديموقراطيّ. وبوصفه «ديكتاتورًا» فإنّه المسؤولُ الأوّل عن خطّ فيسبوك التحريريّ و«مخاطره»!

***

لماذا تمَّ التركيز أميركيًّا على «مخاطر الفيسبوك» بهذا الإجماع تقريبًا وفي هذا التوقيت تحديدًا؟ وهل كانوا غافلين عن هذه «المخاطر» إذا صحّ وجودها؟ أم أنّ «الكلّ يعلم أنّ الكلّ يعلم» والكلّ لديه في «عِلْمِهِ» مآرب أخرى؟!

***

لنتّفق أوّلاً على أنّنا أمام نوعٍ من المُؤسَّسات الربحيّة القائمة على مبدأ «اقتصاد الانتباه» (économie de l’attention).

هذا يعني أنّك كلّما أطلت وقتَ المكوث أمام الشاشة أمكنَ لهذه المنصات أن تحوّلك إلى مصدر ربح من خلال بيع فضاء إعلاني معادل لذلك الوقت. ذاك هو المبدأ الأساسيّ الذي تبني عليه هذه المنصات وفيسبوك تحديدًا «مُودِيلَها» الاقتصاديّ. من ثمَّ أهمّية أن يدور فيها خطاب حاقد أو فضائحي أو مؤامراتيّ، فهذا هو الخطاب المثير للانتباه بامتياز. لقد أثبت التحليل العلميّ اليوم أن الخبر المُزيَّف أو الكاذب يروَّج ستّ مرّات أسرع وأوسع من الخبر الدقيق. وحين نعلم أنّ معدّل الانتباه لا يبلغ عشْرًا من الثواني فإنّنا ندرك كيف يحتدم الصراع بين المنصّات على تلك الثواني العشر. صراع تُستخدَم فيه الخوارزميّات أساسًا. فهي طريقة تحويل الانتباه إلى «مادّة رقميّة». الأمر معروف وثابت ولم يكن في حاجة إلى الوثائق المُسَرَّبة.

تلك هي المسألة إذن! كيف نضع اليد على خوارزميّات هذه المنصّات التي خرج «مُودِيلُها» عن السيطرة؟

ليس من باب الاتّفاق أنّ يحدث هذا بَعْدَ «تسونامي الربيع العربيّ»، و«الثغرات» التي سجّلتها انتخاباتُ أميركا وروسيا وفرنسا، و«صراع الديكة» بين بوتين وترامب. لقد ساهمت كلّ هذه المُعطيات في تغيير «طاولة اللعب» بين الصين وسائر حيتان العالم. كلّ ذلك على خلفيّة فيروس الكورونا وهو يتمخّض عن إنسانه الجديد: «الهُومُو كُوفِيدُوس».

تعاضدت هذه المعطيات لتجعل الديموقراطيّين والجمهوريّين في أميركا يتّفقون بشكلٍ غير مسبوق على مهاجمة فيسبوك وغيرها من المُؤسَّسات الكبرى التي يُطلَق عليها اسم «الغافا»، على الرغم من كونها مؤسَّسات أميركيّة تسيطر على مواطني العالم وتجعلهم بالتالي تحت سيطرة أميركا. وما كان لذلك أن يحصل لولا اشتراك النّخب الحاكمة في المصالح وانتباهها «مُؤَخّرًا» وبعد كلّ ما حدث وفي ضوء ما قد يحدث، إلى أنّ «سياسيّ الهُومُو كُوفِيدُوس» المحكوم بقواعِد التواصل عن بُعد والاقتصاد عن بُعد، إذا أرادَ أن «يَحْكُمَ»، سيكون محتاجًا إلى «التحكُّم» ولو بنسبةٍ معيَّنة في هذه المنصّات.

آدم فتحي (تونس)
آدم فتحي

لقد باتت هذه المنصّات «مطمع» السياسيّين، الأمر الذي جعلهم يتقاتلون للسيطرة عليها ويتعاضدون على عدم تركها تحت تصرُّف «جماعات أو أفراد غير مضمونين» يسيّرونها عن طريق خوارزميّات قد تخرج عن السيطرة. هكذا اتّضح أنّ المسألة هي أوّلاً وأخيرًا مسألة حرب خوارزميّات تُخاض بالخوارزميّات وعلى الخوارزميّات.

***

أدركَ «زوكربرغ» المسألة بحذافيرها ولم يجد دفاعًا أفضل من استراتيجية «النيران المُضادّة» لتسيير الانتباه في اتّجاه آخر. فهو في نهاية الأمر أحد سادة «اقتصاد الانتباه»! هكذا كشف عن مشروع «الميتا فيرس» وعمد إلى إطلاق «تسميته» الجديدة في هذا التوقيت تحديدًا. إنّها حرب الخوارزميّات. و«الميتا فيرس» عالم الخوارزميات بامتياز. ولفيسبوك وغيرها من المنصّات في هذا العالم أسبقيّة المُبادرة في هذا المجال. وكان من الطبيعيّ أن ينقل المعركة إلى هناك. إلى ملعبه، حيث ظلّت السلطات الحاكمة متخلِّفة بعدَّة «نقلات» على «الرقعة التشريعيّة». وهذه السلطات عاجزة حتى الآن عن سدّ جميع الثغرات في الإبّان، غير قادرة على التحكّم في هذه المُؤسَّسات العابرة للقارّات والحدود الفيزيائية، فما بالك بالحدود الرقميّة؟!

***

ظهرت فكرة «الميتا فيرس» في أدب الخيال العلميّ منذ ثمانينيات القرن العشرين لكنّ الفكرة لم تكتسب تسميتها إلّا في التسعينيات. نحن هنا أمام شيء شبيه بعالم الميتافيزيقا لولا أنّه يعني ما وراء العالم الرَّقميّ نفسه، حيث «الديميورج» رقميٌّ والمجرّاتُ سيبرانيّةٌ والحياةُ حسبَ خوارزميّات.

عالَم متعدِّد متشابك تتمُّ «رقمنة» كلّ شيء لتصبح جديرةً به. بما في ذلك الخير والشرّ. عالم لا يعترف بحدود بينه وبين العالم الفيزيائيّ. إنّه عالم التفاعل والتداخل بواسطة فتوحات تقنيّة بعضها لم يخرج من الورشات وبعضها دخل حيِّز الاستخدام، كالطابعات ثلاثيّة الأبعاد وخوذات «الواقع المُعزّز» وتقنية الهولوغرامات، وغير ذلك كثير.

الكلُّ سيتجسّس على الكلّ عن طريق نوع من «القرصنة العفويّة». الكلُّ سيراقب الكلَّ رقميًّا في هذا العالم على جميع المُستويات، بما يعنيه من بُنى تحتية وأيديولوجيات ودوائر معرفية وإيطيقا ممثَّلةٍ في مجموعات متزايدة من «الهاكرز» يسمّون أنفسهم اليوم «القراصنة الأخلاقيّون» ولا أحد يدري كيف سيتسمّون في الغد.

لكن ماذا يعني «الميتا فيرس» في معجم «مارك زوكربرغ» في هذا التوقيت تحديدًا؟

قد لا يخلو الأمر من جوانب نفسانيّة طبعًا. العالمُ الواقعيّ خيَّب ظنّ «زوكربرغ» وفيسبوكِهِ وضيَّق عليهما الخناق. وليس أمامه إلّا الفرار (بمنخرطيه) إلى «العالم الافتراضي». عالم «الميتا». عالم «الما وراء، حيث لا أحد يتحكَّم في الديميورج الأكبر. وفي الخيال، وحيث يمكن حتى الآن على الأَقلّ أن يتمَّ استغلال الصمت القانوني (أكاد أقول الفقهي) الذي يتيح انتشار ديانة جديدة أو صوفيّة مبتكرة، يقوم فيها الإبحار مقام الصلاة ويقوم فيها الانتباه مقام التأمُّل والتفكير!

في هذا العالم لن يأتي مَنْ يزعج «زوكربرغ» (أو هكذا يحلم) ليمنعه من البيع، حيث يحلّ البيع محلّ التقوى في «الميتا فيرس». بيع كلّ شيء وأيّ شيء: الخصوصيات. الأحلام. الآلام. الأحقاد. شهوة الفتك بالآخر من وراء القناع أو «الآفاتار». وبيع الوقت تحديدًا. تبيع أنت وقتك لهذه المنصات، وتبيع هذه المنصات وقتك لحيتان رأس المال. مع فارق أنّك الآن في «الميتا فيرس» أو في «ما وراء» الكون الرَّقميّ أو الديجيتالي أو السيبراني، حيث لا حدود ولا قوانين ولا إكراهات تقوم بتعديل النهم الوحشيّ إلى الربح بشكلٍ لا نهاية له إلّا قيامة العالم.

نحن بصدد الفرجة على ميلاد «ديانة» جديدة. محكومة بنفس نقاط الضوء والعتمة. تبدأ بالظهور في مظهر جنّة من جنان الحرّيّة والتسامح وحريّة الفرد في اعتناق ما يريد، ثمَّ تتحوَّل إلى جحيم عن طريق التنكيل بالآخر وإقصائه وتكفيره. كلّ ذلك عن طريق كهنوت مخصوص، أكثر فأكثر عنفًا، وأكثر فأكثر تحجُّرًا. كهنوت يُملَى أفكاره في الكنيسة الفيزيائيّة عن طريق التعاليم وفي الكنيسة الرقميّة عن طريق الخوارزميّات.

***

ليس من شكٍّ في أنّ لمنصّات التواصل الاجتماعيّ أكثر من مزيّة. وليس من شكٍّ في وجود مزايا لا تُحصى ولا تُعدُّ للتقدُّم التكنولوجيّ والعلميّ ولعالم الديجيتال، لكنّ المشكلة تتمثّل في أنّنا نقتحم كلّ ذلك بمعزل عن ضمانة الإيطيقا التي ترسم لنا ملامح القيم التي تحمي إنسانيّة الإنسان، وتجلس على أصابعنا حين نكتب الخوارزميّات وحين نختارها.

علينا أن ننتبه إلى أنّنا كائنات إيطيقيّة. وليست منصّات التواصل الاجتماعيّ سوى انعكاس لثقافتنا العميقة. الخوارزميّات المبنية على «اقتصاد الانتباه» ستسعى إلى استقطاب الانتباه عن طريق العنف. وإذا صحَّ أنّ العنف بنسبة معيَّنة هو بُعدٌ طبيعيٌّ فينا، فإنّ علينا أن نحرص في تربيتنا وتعليمنا وفي ثقافتنا عمومًا على ألّا يتجاوز ذلك العنف نسبته الطبيعيّة كي لا يتحوَّل إلى حالة باثولوجيّة. والحقّ أنّنا حتى الآن عنيفون باثولوجيًّا. نحبُّ الفرجة على حادثة يسيل فيها الدم وتنتهك الأعراض. يسهل علينا التكالب على كاتبٍ أخطأ أو ارتكب سرقة أدبيّة، لكنّنا نتقاعس عن التعليق على كتاب جيّد أو فيلم جميل. نحن نستعيد غرائزنا الوحشيّة والكانيباليّة بأسرع ممّا ننقر على لوح المفاتيح. وهذه مسألة ذات علاقة بثقافتنا قبل أن تكون على علاقة بمواقع التواصل الاجتماعيّ وخوارزميّتها.

إنّ ما يحدث حتى الآن هو للأسف، تلويث كلّ مساحة علميّة نكتسحها بنفس «الأدواء» التي أفسدت علينا المرحلة السابقة. ضيَّق الإنسان على نفسِه الأرض فلوَّث السماء، وها هو يضيّق على نفسه عالم الديجيتال فيشرع في اقتحام عالم الميتاديجيتال بنفسِ قيم العنف والتوحُّش والفساد.

يهرب إنسان الفكرة والحلم إلى عالم «الإمكان» ظنًّا منه أنّه هناك يتحقّق ويحافظ على شعلة حرّيّته. يهرب إلى ذهنه ومخياله، حيث له حرّيّة الضمير والتفكير والتعبير والإبداع، لكن حرب الخوارزميّات تنذر باللحاق به ومحاصرته في عالم «الما وراء الرَّقميّ» أيضًا.

لقد أفسدَ الإنسان الفيزياء بجغرافيتها وتاريخها، ثمَّ لوَّث الميتافيزيقا بحروبه الكنائسيّة الأيديولوجيّة. وها هو ينذر بتلويث «الميتاديجيتال» أو «الما وراء الرَّقميّ» وتحويله إلى نوعٍ من «الغيتو» المُنتِج لشتَّى ضروب القصوويّات.

فكِّر مثل الفيروس

كان «فريديريك كيك Frédéric Keck» يتعقَّب، لأكثر من عقدٍ من الزَّمن، صيَّادي الفيروسات ويُلاحظ، من خلال ممارساتهم، العلاقات الأصليَّة التي تتشكَّل بين البشر وغير البشر. وألقت جائِحة (كوفيد – 19) من جديد الضَّوء على أهمّية أبحاثه.

هو طالب سابق بالمدرسة العليا، ومُبرَّز في الفلسفة، وحائز على الميداليَّة البرونزيَّة من المركز الوطنيّ للبحث العلميّ CNRS، ومدير أبحاث في مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة (CNRS/ كوليج دوفرانس Collège de France/ EHESS مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيَّة) … مسار فريديريك كيك يبعث على الإعجاب! لكن الرَّجل، الذي يتمتَّع بقدرٍ كبير من الوِدِّ، سيستقبلنا بكلِّ بساطة حول فنجان قهوة في منزله، على حافة غابة Fontaine bleu، فمنذ بداية وباء (كوفيد – 19) كان على اتصال مستمر مع وسائل الإعلام. ورغم ذلك، فهو لا يفقد سعادته في مناقشة أبحاثه السَّابقة والحاليَّة والمُستقبليَّة. ويروي أنَّه بدأ بأعمال ترتبط بتاريخ الأنثروبولوجيا الفرنسيَّة في علاقاتها بالفلسفة («ليفي بروهل Lévy-Bruhl»، و«دوركايم Durkheim»، و«بيرجسون Bergçon»، و«ليفي شتراوس Lévi-Strauss»). وبعد ذلك، وبسرعة، وبعد انضمامه إلى المركز الوطنيّ للبحث العلميّ CNRS في عام 2005، شرع في إجراء دراسات استقصائيَّة إثنوغرافيَّة في آسيا عن الأزمات الصحيَّة المُتَّصلة بالأمراض الحيوانيَّة. وهنا طوَّر مفهوم «الحارس»/ Sentinelle لوصف الحيوانات التي تُبلِّغ عن خطر العدوى الذي يُهدِّد الحياة. «إنَّ المغزى من الانتقال من الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا، كما يُقرّ ببساطة، هو أنَّنا نجد مفاهيم في المُمارسات التي نلاحظها!». وعمله ذو أهميَّة بالنسبة للفلسفة. وسيراً على نهج عالِم الأنثروبولوجيا «فيليب ديسكولا Philippe Descola»، يُعتَبر «ف.كيك» جزءاً من جيل جديد من الأنثروبولوجيّة الفرنسيَّة التي تسعى جاهدةً إلى التفكير في مجتمعات «تتجاوز الطبيعة والثقافة». لقد قاده اهتمامه بالعلاقة بين البشر والفيروسات، بواسطة الحيوانات، إلى سرد قصَّة عالميَّة للإنسانيَّة انطلاقاً من حدودها مع الأنواع الأخرى. وهذا هو عنوان العمل الجماعي الذي نُشِر في شهر مارس/آذار الماضي: «الخفافيش. في الحدود بين الأنواع/ Les chauve-souris. Aux frontières entre les espèces. إنَّه برنامج عمل واسع النطاق.

فريديريك كيك

كيف كان ردّ فعلك عندما أصبح موضوع دراستك، الوباء، حالةً علميَّةً «آخِذَة في الظهور»؟

– لعِدّة سنوات، قِيل لي:«أنتَ تعمل على الأوبئة، إنَّه أمرٌ ممتعٌ للغاية!»، فأجبتُ: «أنا لا أعمل على الأوبئة، بل على الأمراض الحيوانيَّة/ zoonoses؛ أي مجموعة من الأمراض الـمُعْدِيَة التي تنتقل طبيعيّاً من الحيوانات إلى البشر»، بمعنى العمل على عبُور مُسبِّبات الأمراض للحواجز التي تحُول بين الأنواع، إذْ يمكن لهذه الأمراض الحيوانيَّة أنْ تُسبِّب الأوبئة لأنَّنا لا نملك مناعةً كاملةً لمُسبِّبات الأمراض التي تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان. لقد استفدنا من قَرْنَين من المناعة الصِّناعيَّة بفضل باستور Pasteur والصحة العموميَّة، لكن نتيجة للتَّغيُّرات في الظروف المعيشيَّة للحيوانات البريَّة والأليفة، فإنَّ الأمراض الحيوانيَّة آخِذة في الازدياد، وتؤدي إلى خطر الجَائِحة. ولطالما اعتبرت الوباء أُفقاً افتراضيّاً، وطريقةً لتعميم قضيَّة محليَّة تهمُّني. في عام (2009)، كان وباء (H1N1) أوَّل تحقُّق للسيناريو، دون حدوث اضطرابات عالميَّة كبيرة، في عالَم مُصاب بالأنفلونزا/ un monde grippé، اقترحتُ إذاً الفرضيَّة القائلة بأنَّ الوباء أسطورة، بمعنى قصّة كارثيَّة تتطلَّب الاهتمام بظروف انتقال مُسبِّبات الأمراض من الحيوانات إلى البشر. في عام 2020، أصبحت الأسطورة حقيقة، لقد حدث سيناريو الكارثة بالفعل! كنتُ مندهشاً مثل الجميع. يفاجئنا الوباء دائماً بقدرته على قلب كلّ شيء. كنتُ أعملُ منذ خمسة عشر عاماً مع علماء الفيروسات الذين أخذوا هذا السيناريو على محمل الجدّ.

هل يمكننا الاستعداد لمثل هذا «الخطر» الوبائي؟

– في هونغ كونغ Hong Kong، وتايوان Taiwan، وسنغافورة Singapour، تمكَّنتُ من ملاحظة بعض المُمارسات التي دفعتني إلى الإصرار على الاستعداد بوصفه أسلوباً استراتيجيّاً. هذا النَّوع من التَّحضير يؤدّي إلى محاكاة الأوبئة في المُستشفيات، أو قرارات الصحة العموميَّة مثل تخزين اللقاحات والأقنعة. وخلافاً للمبدأ الوقائي، فإنَّ الاستعداد لا يحسب المخاطر، ولكنَّه يتخيَّل أنَّ الكارثة موجودة بالفعل ويرسم أفقاً للعمل وفقاً لذلك. ويتصدَّى لتهديدات مثل الهجمات النَّوويَّة، أو الإرهابيَّة، أو الأمراض الـمُعْدية النَّاشئة، أو اضطرابات تغيُّر المناخ. فرضيَّتي هي أنَّ المبدأ الوقائي، كما تمَّ تحديده في أوروبا، يقوم على توازن دقيق بين تقييم المخاطر وإدارتها، وقدرة الخُبراء وصُنَّاع القرار.

فمن ناحيةٍ، نفتح المجال للمُناقشة بالقول إنَّ هناك خطراً جديداً ينبغي تحديده من خلال تقاسم المعارف. ومن ناحيةٍ أخرى، يتمُّ إغلاقه من خلال المُطالبة، على سبيل المثال، بالذَّبح الجماعيّ للحيوانات الـمُصابَة. إنَّها مرحلة انتقاليَّة بين الوقاية، حيث تُؤكِّد الدولة سيطرتها على السّكان بواسطة سلطة الخبراء، والاستعداد، الذي يدعو إلى التَّشكيك في قُدرات الدَّولة. وبدلاً من ذلك، يستند التَّحضير إلى أساس تقاسم المعارف بدءاً من كتابة سيناريو الكارثة التي نحاول تفاديها.

في كِتاب حُرَّاس الأوبئة / Les Sentinelles des pandémies، تقترح «جينيالوجيا موازية للأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة والطّب البيطري». ماذا سنكتشف من خلال هذا التاريخ الـمُوازي للتَّخصُّصات؟

– لقد كتبتُ هذه الجينيالوجيا لأنَّ الطب البيطري والصحة العموميَّة يستدعيان الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة لمُحاسبة سلوك الـمُربِّين عندما تظهر أمراض جديدة عند الحيوانات. إنَّها فكرة فهم العقبات المعرفيَّة من أجل تحديد السلوكيّات التي يمكن تغييرها. ومنذ القرن التاسع عشر وُجِّه هذا الطَّلب إلى الأنثروبولوجيا «التَّطوُّريَّة»، لكن هذا يعطي الأولويَّة للقواعد النَّظريَّة على السلوك «البدائي» والشَّعبي. يرمي تاريخ الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة إلى انتقاد الفكرة القائلة بأنَّ الـمُربِّين لا يعرفون كيفيَّة التعامل مع المرض. في المُمارسة العمليَّة، يبني المُربُّون معرفتهم الخاصَّة بالأمراض، لذلك يجب أن نحاول مقارنتها بالمعارف العِلميَّة. تسمح الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة ببناء مجال أوسع من الترجمة بين المعرفة العالِمَة والشَّعبيَّة من خلال الحيوانات الموجودة على الحدود بين الحيوانات الأليفة والمُفترسة. هذه هي الحيوانات التي أسمِّيها «الـحُرَّاس»، والتي، في كلِّ المُجتمعات، تمكِّننا من إدراك علامات التَّحذير مسبقاً، ثمَّ تسعى الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة إلى مقارنة الكيفيَّة التي يتمُّ بها توزيع هذه العلامات المُشتركة بين البشر وغير البشر حسب المُجتمعات.

داخليّاً، وظيفتي هي تحديد الطرائق المُختلفة لإدراك إشارات التَّحذير. وخارجيَّاً، أحاولُ أنْ أوضِّح أنَّ الظواهر الأنثروبولوجيَّة الرَّئيسيّة تلعب دوراً في عمليَّات عبور حواجز الأنواع. ما يهمُّني هو أن أرى كيف يؤدِّي عبور حواجز الأنواع، في بيئات مختلفة، إلى إصدار إنذار بشأن التهديدات العالميَّة اعتماداً على الظروف المحليَّة، وهذا ما أفعله مع الجمعيَّات التي تكافح العنف ضد الحيوانات، أو المُربِّين الذين يريدون منَّا أن نشرح لعامَّة النَّاس أهميَّة الأمراض الحيوانيَّة بالنسبة للأنواع في بيئتها.

كيف توصَّلتَ إلى فكرة «حارس» الأوبئة؟

– عندما كنتُ أقوم بدراسات استقصائيَّة في هونغ كونغ، بناءً على أسئلة حول إدارة الأمراض الحيوانيَّة، اكتشفتُ ممارسات الحُرَّاس هذه في المزارع، حيث يتمُّ اكتشاف الأمراض التي يمكن أن تصبح وبائيَّة أو حتى وباءً مسبقاً. فعلى سبيل المثال، يتمُّ وضعُ بعض الدَّجاج غير الـمُلقَّح في مكانٍ خاص في المزرعة، ويولي الـمُربِّي اهتماماً خاصّاً لِفكِّ تشفير الإشارات، ثمَّ اكتشفتُ بعد ذلك أنَّ المنطقة برُمَّتها كانت تُعَرَّفُ حينها بِوَصْفِها حَارسةً فيما يتعلَّق بالصين. وحتى في مفهوم الجهاز المناعي، نجد «خلايا حارسة» تلتقط مُسبِّبات الأمراض لِنَقْل معلوماتها إلى بقيَّة الجهاز المَناعي. ومن هناك، قمتُ بتعميم كلّ هذه السّمات من خلال التَّأكيد أنَّ الحارس هو كائن حيٌّ ينتقل إلى الحدود، حيث يرى علامات التَّهديدات التي سوف يُبلِّغ بها بقيَّة الجماعة (كائن حي، إقليم، مجموعة، أو حتى عالَم). إنَّه مثل الجندي الذي يذهب إلى خطّ الجبهة ويبلِّغ عن إشارات العدو. يقع مصطلح الحارس عند مفترق طرق تقنيَّات المُربِّين وتهديدات الصحة العموميَّة والمخاوف العسكريَّة، وكلّها تتموضع في قلب أنظمة الأمن البيولوجيّ، لكنني سعيتُ إلى تجريد هذا المفهوم من الصّفة العسكريَّة لجعله بالأحرى أساس شكل من أشكال التضامن بين البشر وغير البشر الذين يواجهون تهديدات مشتركة.

لكن يبدو أنَّ الحارس يعيش فقط ليُبلِّغنا بالتَّهديدات التي تعرَّض لها والتي نريد حماية أنفسنا منها…

– يجبُ أن نميِّز فأر التَّجارب عن الحارس؛ ففأر التَّجارب هو جزء من بروتوكول لدينا سؤالٌ بشأنه، ونملك إجابةً مُسبقة عنه. والحارس هو جزء من مجموعة، وبالتالي يتمُّ تجنيده للمُراقبة، حيث نعلم أنَّ هناك تهديدات دون أنْ نعرف ما نوعها. الموت ليس الإشارة الوحيدة التي يرسلها. يمكننا فكّ شفرة الإشارة انطلاقاً من عيِّنات بسيطة كما نفعل في حالة الفيروس غرب النيل. وهناك أيضاً طيور الحراسة التي نراقبها لمعرفة ما إذا كانت تلتقط البكتيريا المُقاومة، كما نفعل في جزر أوسترال Australes.

لكن يظل الحارس فكرة محفوفة بالمخاطر. وهناك مجموعات بشريَّة يمكن أنْ تطلب منها أن تكون حُرَّاساً. وبوسعنا أن نتصوَّر سياسة بيولوجيَّة مُرعِبَة: مُنظَّمة استراتيجيَّة تضم مجموعات سكانيَّة مَحْميَّة في المركز، وعلى الهوامش مجموعات حِراسة مُعرَّضة للخطر، والتي يتمثَّل دورها في إبلاغ المعلومات إلى المركز.

لإعطاء معنى لهذا الوباء، قام البعض من تلقاء أنفسهم بتعبئة مُخيّلَة عِقابِيَّة للطبيعة أو تَخيُّلٍ بوليسيّ عن المُؤامرة. ماذا يعني هذا لعلاقة مجتمعنا بالطبيعة؟

– في حالة القصَّة من نوع «انتقام الطبيعة»، فإنَّها تُقدَّم على أنها قُوَّة سعينا إلى تَطوِيعها، ولكنَّها تمرَّدتْ من خلال الطفرات العشوائيّة. إنَّها بلا شكّ رسالة إيكولوجيَّة قويَّة، لكن عيبها هو أنَّها تقترح تفسيراً أُحادي الجانب يُشير إلى «الطبيعة فقط». وفي حالة قصَّة المُؤامرة، يُقال إنَّ الوباء اخْتُرِع لتلبيَّة الصناعات الصَّيدلانيَّة، والدول البوليسيَّة، وما إلى ذلك. قد تكون رسالة سياسيَّة، لكن هذه المرَّة لها عيبٌ هو كونها في جانب واحد من الطَّبيعة. أعتقد أنَّه يمكننا الوقوف، مع علماء البيئة، وعلماء الفيروسات، وعلماء الطيور، على العتبة الفاصلة بين البشر وغير البشر لنرى المُمارسات التي تضطلع بها. يدفعنا الخيال نحو الجنون إذا اختصرناه في مساحاتٍ شاسعة مثل الطبيعة أو الدولة! ولكن يمكنه أن يصبح شكلاً من أشكال العمل إذا تمَّ وَضعه على حدود هذه المجالات، من خلال تَصوُّرات دقيقة تعطينا معرفة أفضل به.

أهميَّة الخيال هذه، هي ما يُفسِّر كذلك اهتمامك بأعمال الفنَّانين المُختلفة في كتابك الأخير: إشارات التَّحذير/ Signaux d’alerte؟

– لقد أدهشني بالفعل عمل الفنَّانين الذين يستخدمون الخيال بطريقةٍ غير استراتيجيَّة، مثل فنَّانة الشارع إنفادير Invader، التي تُنتج صوراً فيروسيَّة، أو لينا بوي Lena Bui، التي تتخيَّل نفسها طائراً عندما ترى سكَّان قرية فِيتنامِيَّة يتلاعبون بالرِّيش. وبدلاً من تتبُّع الفيروس، فإنَّهم يُغيِّرون وجهة النَّطر من خلال جعل الفيروس رؤية إلى العالَم البشريّ. إنَّهم يلعبون بخيال انتقام الطَّبيعة، ولكن بطريقة تُخلِّف تأثيراً لا مركزيّاً من خلال تَبنِّي وجهة نظر الفيروس أو الحيوان. فمن الـمُغْري السَّعي إلى اعتماد منظور الفيروس، لأنه يحتوي على حمولة تخريبيَّة قويَّة من خلال طمس الحدود الفاصلة بين الأحياء وغير الأحياء. ومع ذلك فالفيروس عدوّ يسعى إلى التَّعايش معنا. أنا أحاول القيام بعمليَّة مماثلة على نحوٍ أكثر مفاهيميَّة: رؤية من منظور فيروس أو طائر أو خفَّاش. هذا أيضاً هو نهج المُجتمعات الشَّامانِيَّة من خلال طقوسها: يجب على الصَّياد توقُّع نتيجة الصَّيد من خلال أخذ وجهة نظر الحيوان الـمُطَارَد، مع منع الحيوان الـمُصَاد من الانتقام.

هل يمكن للدولة أنْ تصبح صيَّاد فيروسات؟

– من الواضح أنَّ هذا الوباء أَحْرَج الدُّول؛ فهو يتطلَّب منها أن تُدبِّر الأمور بطريقة تستبق الأحداث، على سبيل المثال في مشكلة مخزون الأقنعة. وهذا يتعارض مع المنطق الليبيراليّ الجديد الذي يُفضِّلُ التَّداول بدلاً من التَّخزين. الدولة الحديثة مَبْنِيَّة على الوقاية، من خلال تقييم توزيع المخاطر بين السُّكان. إنَّ الحاجة إلى التَّحضير تُفسِد هذا المنطق، لأنَّه من الضَّروري أنْ تكون هناك مرونة بالِغَة في التَّصدّي لطفرات الفيروسات، إذ إنَّها يمكن أنْ تنتقل إلى حيوان وتعود إلينا في شكلٍ آخر. وهذا لم يتم دَمْجُه في نهج الدول الحديثة. ولهذا السَّبب يجب أنْ تنفتح على بُعدٍ تاريخيّ أكثر رحابةً بكثير. فقد أدَّى التَّحوُّل من مجتمعات الصَّيد إلى المُجتمعات الرَّعوِيَّة إلى شكلٍ من أشكال إدارة مخاطر الأمراض، ولكن بما أنَّ الأمراض الجديدة تأتي من تحوُّلات عالَم الحيوان، فيجب أنْ نجد شيئاً من قوة فنّ الصيد، والقدرات المعرفيَّة، وبالتالي القدرات السياسيَّة لمُجتمعات الصيد قصد مواجهتها.

وآمُلُ أن يكون لدينا شيء نتعلَّمه من تجارب مجتمعات مثل التَّايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، وبلا شكّ العديد من البُلدان الأخرى، وتشكِّل هذه المُجتمعات أقاليم حِراسة لأنها اضطرَّت إلى ابتكار أشكالٍ سياسيَّة لكي تتكيَّف مع التَّغيُّرات البَيْئيَّة التي كانت تمرُّ بها. تايوان، على سبيل المثال، تشكِّل نموذجاً للحَكَامَة: مجتمع مُتعدِّد الثقافات وديموقراطيّ.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: ليو فابيوس

المصدر:

مجلة «Sciences Humaines» الفرنسية، عدد (336)، مايو 2021، ص: (26 – 27 – 28 – 29).

الأرض ستفرغ قريباً من سكّانها!

لن يكون الرهانُ الحاسم في العقود المُقبلة مرتبطاً بالاكتظاظ السكّاني، بل على العكس بتراجع كبير في ساكنة المعمورة، حيث يوضِّح الباحثان الكنديان «جون إبيتسون» و«داريل بريكر» في مقالتهما الآسرة «الكوكب الفارغ»(1) بأن معدَّل المواليد أصبح بالفعل يعرف انحداراً سريعاً في جميع القارات تقريباً، وستكون لذلك نتائج راديكاليّة جيوسياسيّة واقتصاديّة وأخرى متعلِّقة بحركة المُهاجرين. ومنذ صدور كتابهما هذا في عام 2020، ما فتئت المُعطيات الجديدة تؤكِّد هذه الأطروحة التي تقلب جميع أفكارنا المسبقة رأساً على عقب.. الحوار:

منذ ظهور «نظرية مالثوس»، أصبحنا جميعاً نخشى الاكتظاظ السكّاني، ولكن أطروحة كتابكما تقول بعكس ذلك، أي أن الحدث الأهم في القرن الحادي والعشرين سيكون هو التراجع الحتميّ للديموغرافيا العالميّة…

– داريل بريكر: وفقاً لتوقُّعات الأمم المُتحدة، ينتظر أن يبلغ عدد السكّان ذروته في نهاية القرن الحادي والعشرين بنحو 11 مليار نسمة. ولكن هذا النموذج لا يبدو واقعياً. وبدلاً من ذلك، من المُتوقَّع أن يبلغ عدد السكّان ذروته عند 8 إلى 9 ملايير نسمة بحلول منتصف القرن، قبل أن يشهد انخفاضاً كبيراً بعد ذلك. ولا أحد يعرف إلى أي مدى سيذهب هذا الانخفاض. بكلّ بساطة لأننا نحن البشر قد اخترنا أن لا ننجب قدر ما كان ينجبه أسلافنا من الأطفال. وثمَّة عنصرٌ رئيسيٌّ آخر هو أن حجم سكّان العَالَم ليس وحده الذي سيخضع لتغيُّرات جذريّة، بل أيضاً بنيته، وبالتالي فإننا سوف نواجه الشيخوخة السريعة. كما أن رحيل جيل طفرة الإنجاب، أي الذين وُلِدوا قبل منتصف الستينيات، سيكون بمثابة انقراض جماعي. (يضحك). ولذلك لن نشهد انخفاضاً تدريجياً، بل هبوطاً حادّاً. نحن حقّاً بحاجة إلى إعادة النظر في مستقبلنا، لأن تصوُّراتنا الحالية خاطئة تماماً.

أكَّدت دراسة نُشِرت العام الماضي في مجلّة «لانسيت» أنه يمكن الوصول إلى ذروة السكّان انطلاقاً من عام 2064.. هل سيعزِّز «كوفيد- 19» هذا التوجُّه؟

– داريل بريكر: أصبحت فكرة الكوكب الذي سيفرغ من سكّانه تفرض نفسها أكثر وأكثر. وحتى الأمم المُتحدة قامت بمُراجعة توقُّعاتها في عام 2019، حيث توقَّعت انخفاضاً سكّانياً مقارنةً بالأرقام التي سبق وأعلنت عنها يصل إلى 300 مليون نسمة بحلول نهاية القرن. أمّا بالنسبة لـ«كوفيد»، فقد أظهرت الإحصائيات في الصين والمملكة المُتحدة وفرنسا انخفاضاً كبيراً في عدد الولادات خلال الجَائِحة. وفي الولايات المُتحدة، قدَّرت مؤسَّسة «بروكينغز إنستيتيوشن» أن هناك (300.000) طفل لم يولدوا بسبب «كوفيد- 19». وبعد الجَائِحة شاهدنا ارتفاعاً طفيفاً في معدَّل الولادات، إنما من المُرجَّح جدّاً أن يكون «كوفيد» قد كشف فقط عن اتجاه دائم، وهو انخفاض معدَّلات الخصوبة. ويجب أن ندرك بأن استمرار عدد سكّان العَالَم في النمو اليوم لا يرجع السبب فيه للزيادة في عدد الولادات، بل لأن البشر أصبحوا يعيشون لمدة أطول من ذي قبل.

الكوكب الفارغ، داريل بريكر وجون إبيستون، منشورات ليزارين، 04 مارس 2020.

ما هي برأيك الأسباب الرئيسيّة لهذا الانخفاض الكبير في معدَّلات الخصوبة في جميع أنحاء العَالَم؟

– جون إبيتسون: الجواب بسيط؛ إنه التمدين. ففي عام 1950، كان 30 في المئة فقط من سكّان العَالَم يسكنون بالمدن. أمّا في 2007، ولأول مرّة في التاريخ، تجاوز عدد سكّان المدن عدد سكّان المناطق الريفيّة. وبحلول عام 2050، من المُتوقَّع أن يعيش ثلثا ساكنة العَالَم في المناطق الحضريّة. والحال أن الأطفال في الريف يمثِّلون رصيداً اقتصاديّاً وسواعد للعمل في الحقول. ولكن عند الانتقال إلى المدينة فهم يتحوَّلون إلى عبءٍ مالي.

وعلاوة على ذلك، وربّما الأهم من ذلك، فإنّ التمدين يعزِّز فرص تعلُّم النساء من خلال النظام المدرسي، والإنترنت، والمكتبات، ووسائل الإعلام، وأيضاً وجود نساء أخريات. وبمجرَّد أن تحصلن على الحرّيّة، ترغبن في التحكم بحياتهن وبأجسادهن كذلك، ممّا يعني إنجاب عددٍ أَقلّ من الأطفال.

سمحت الصين مؤخَّراً للأزواج بأن ينجبوا ثلاثة أطفال في محاولة منها لوقف انخفاض الولادات.. هل سيكون لهذا الإجراء أيُّ أثر؟

– داريل بريكر: السماح للناس بأن ينجبوا أطفالاً هم لا يرغبون أصلاً في إنجابهم لن يغيِّر كثيراً من الوضع. (يضحك). قد يكون له بالمُقابل تأثيرٌ ضئيل على معدَّلات الخصوبة في المناطق الريفيّة، ولكنه لن يعكس الاتجاه. والصين مثالٌ نموذجيّ لبلد تمدَّن بسرعة. ففي عام (1960)، 16 في المئة فقط من سكّان هذا البلد كانوا يعيشون في المناطق الحضريّة. واليوم وصل هذا الرقم إلى 54 %.

يتوقَّع أن تصير الولايات المُتحدة القوة العُظمى الوحيدة التي سيزداد عدد سكّانها بحلول نهاية القرن نتيجة للهجرة.. هل يشكِّل ذلك ميزة مهمَّة؟

– جون إبيتسون: سوف تشهد الصين تراجعاً سريعاً. وإذا تأكَّد معدَّل الخصوبة البالغ (1.3) حسب إحصاء 2020، فإنّ هذا البلد قد يفقد نصف سكّانه خلال هذا القرن، من (1.4) مليار نسمة إلى 700 مليون. روسيا، التي لديها معدَّل ولادة منخفض، وأمد حياة منخفض أيضاً، لديها اليوم فعليّاً عدد سكّان أَقلّ ممّا كان عليه في نهاية الحقبة الشيوعيّة. أمّا الولايات المُتحدة فتمثِّل تاريخيّاً القوة العُظمى الأكثر انفتاحاً على الهجرة. وإذا استمرَّت الأمور بالسير في هذا الاتجاه -وهو أمرٌ غير مؤكَّد في ضوء المُعارضة المُتزايدة لموضوع الهجرة من جانب بعض الأميركيّين- فإنّ عدد سكّانها يمكن أن يرتفع ببضعة ملايين من السكّان في عام 2100. وسيكون لذلك بالطبع تأثيرٌ جيوسياسيّ واضح.

في اليابان، البلد الأكثر شيخوخة في العَالَم، ينتمي مواطن واحد من أصل أربعة إلى فئة كبار السن. هل يمكن للروبوتات والذَّكاء الاصطناعيّ تعويض ما ينتج عن ذلك من انخفاض في عدد السكّان النشطين؟

– داريل بريكر: يمكنك بالتأكيد تعويض الإنتاجية بالتكنولوجيا، ولكن لن يمكنك أن تفعل شيئاً لمُواجهة انخفاض الاستهلاك. فمَنْ الذي سيشتري المُنتجات الجديدة حين ينخفض عدد سكّان اليابان، كما تقول التوقُّعات، من 125 إلى 80 مليون نسمة، أو حتى إلى 60 مليون نسمة في عام 2100؟ يتوفَّر هذا البلد حقّاً على أكبر عدد من الروبوتات الخادمة في العَالَم، ولكن الآلات لا تملك أيّة قوة شرائية. ووفقاً لـ«تشارلز جونز»، الخبير الاقتصاديّ في جامعة ستانفورد، فإنّ انخفاض عدد السكّان سوف تكون له نتيجتان سلبيتان رئيسيّتان. الأولى هي أن انخفاض عدد المُستهلكين يعني انخفاضاً في النمو. وهذا أمرٌ لا مفَرّ منه. والثانية هي خطوة إلى الوراء في مجال الابتكار.

من المُتوقَّع أن ينخفض عدد سكّان المجر بأكثر من (10 %) بحلول عام 2050. ما يفسِّر اهتمام زعيمها «فيكتور أوربان» بالديموغرافيا وسياسته الهادفة إلى الرفع من عدد الولادات…

– داريل بريكر: «أوربان» لديه إرادة قويّة لِسَنّ سياسات تشجِّع على الزيادة في عدد المواليد، ولكن البيانات الواردة من بلدانٍ أخرى تبيِّن أنه يمكنك إبطاء وتيرة انخفاض الولادات، ولكن من الصعب عكس الاتجاه كلياً. وهذا ما يعرف باسم «فخ الخصوبة المُنخفضة»، حيث بمجرَّد ما يصبح إنجاب طفل أو طفلين هو القاعدة، فإنه يظلُّ كذلك. وبالإضافة إلى انخفاض معدَّل المواليد، تواجه المجر مشكلة أخرى وهي هجرة شبابها. هناك جالية مجرية كبيرة في جميع أنحاء أوروبا. ونتيجة لذلك، شهد سكّان هذا البلد انخفاضاً منذ الثمانينيات. وأنا لا أعتقد أن الإعانات المُشجِّعة على الإنجاب ستُحدِث فرقاً كبيراً في هذا الأمر.

لازالت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء تمثِّل استثناء اليوم. فبلد مثل النيجر لا زال يسجِّل معدَّل خصوبة يفوق (7)…

– داريل بريكر: هذا الجزء من العَالَم لن يفلت هو الآخر من انخفاض معدَّل الولادات. السؤال الحقيقيّ الوحيد يرتبط بالسرعة التي سيحدث بها ذلك. لقد استغرق الأمر من أوروبا مئة وخمسين عاماً للوصول إلى معدَّلات الخصوبة الحالية. وبالنسبة لأميركا اللاتينيّة، استغرق الأمر خمسين عاماً. وفي إفريقيا، سيؤدِّي التمدين السريع وزيادة فرص الحصول على التكنولوجيا إلى جعل هذا التحوُّل يحصل في وقتٍ أقصر. فنحن نرى، على سبيل المثال، بأن هذا المعدَّل في كينيا كان يقدر بـ(8) خلال الستينيات في حين لم يعد يتعدَّى (3) اليوم. إنها مسألة وقت فقط.

ولكن خلال هذه الفترة، ستشهد إفريقيا جنوب الصحراء طفرةً ديموغرافيّة.. هل ينبغي لنا إذن أن نتوقَّع موجات هجرة أقوى من تلك التي نشهدها اليوم؟

– داريل بريكر: على عكس الاعتقاد السائد، فقد انخفضت نسبة المُهاجرين من العدد الإجماليّ لسكّان العَالَم، ويرجع ذلك جزئياً إلى زيادة الثروات. وقد انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقرٍ مدقع من (1.8) مليار في عام 1990 إلى أَقلّ من (800) مليون في عام 2015. إنما على الرغم من ذلك، سيكون هناك دائماً أشخاصٌ يبحثون عن فرص أفضل في أماكن أخرى. بعض الأماكن على هذا الكوكب جذَّابة للغاية، وتجذب المُهاجرين. فإذا كنت تعيش في «لاغوس»، فإن سعيك للهجرة إلى باريس يمكن أن يكون أمراً منطقياً. ولكن إذا استمرَّت التنمية الاقتصاديّة في إفريقيا واستقرَّت الأنظمة السياسيّة فيها، فإنّ ضغط الهجرة سيكون أَقلّ حدة.

في انتظار ذلك، تمثِّل الهجرة اليوم واحداً من أكثر المواضيع إثارةً للخلاف في قلب المُجتمعات الغربيّة…

– جون إبيتسون: لا يتعيَّن علينا ككنديّين أن نحدِّد ما ينبغي أن تفعله البلدان الأوروبيّة بشأن الهجرة. نحن نعلم تماماً أن هذا الموضوع يخلق توترات ثقافيّة وهويّاتيّة قويّة. إنّ بلداً مثل اليابان يفضِّل مواجهة انحدار ديموغرافيّ مؤكَّد بدلاً من تبنِّي سياسة مفتوحة في مجال الهجرة. ويبدو أنّ الكوريّين الجنوبيّين قد اعتمدوا النهج نفسه، في الوقت الذي نزل فيه معدَّل الخصوبة لديهم ولأول مرّة إلى أَقلّ من (1). لذلك فالمُعادلة اليوم بسيطة جدّاً: إمّا أن نقبل الهجرة والتعدُّدية الثقافيّة، أو نستسلم للتقهقر الديموغرافيّ.

يبدو أن تراجع عدد السكّان يشِّكل خبراً ساراً للبيئة أو التعليم، وخبراً سيئاً للاقتصاد…

– داريل بريكر: فيما يخصُّ مسألة البيئة، أعتقد أننا بحاجة إلى تغيير أفكارنا بسرعة. لأنك إذا ركَّزت على الاكتظاظ السكّاني واعتقدت أن البشر يدمِّرون الكوكب، فما الذي سيحدث عندما ينخفض عدد السكّان بشكلٍ كبير في غضون بضعة عقود؟ مسألة التغيُّرات المناخيّة لا تأخذ -عادةً- في الاعتبار هذا التطوُّر الأساسيّ. ونحن لا نزال حبيسي المنطق الذي تمَّ الترويج له في نهاية الستينيات من قِبل عالِم الأحياء «بول ر. ايرليش» في كتابه الذي لاقى نجاحاً كبيراً «قنبلة السكّان»، والذي تنبَّأ فيه بموت الملايين من سكّان العَالَم جرَّاء المجاعة التي سيتسبب فيها الانفجار السكّاني…

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: توما ماهلر

العنوان الأصلي والمصدر:

La terre va bientôt se vider de ses habitants

مجلة «L’Express» عدد 1 يوليو 2021.

Planète vide, Darrell Bricker, John Ibbitson, Ed. Les Arènes, 04 mars 2020

موسوعة تحرير العالم.. الباب المفتوح لـ «ويكيبيديا»

هناك قصَّتان، يمكن أن ترويهما عن «ويكيبيديا»؛ الأولى أنه، قبل 20 عاماً، تَمَّ إطلاق «مورد ويب»، فهدَّد الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام، وأزاح مصادر المعرفة القائمة. كانت موسوعة يمكن لأيٍّ كان تحريرها: من أطفال، وجهلة عنيدون، وأزواج سابقون غاضبون. إذا قمتُ بتحرير الصفحة الخاصّة بفيزياء الجسيمات، وأدّعي أنها تتعلّق بدراسة «طائر البط»، فسيتمّ نشر التغيير على الفور. وإذا قمت بتحرير صفحتك، واتُّهِمت فيها بانتهاك حرمة الأطفال، فسيتمّ نشر ذلك أيضاً. والأسوأ من ذلك أنه يمكن لأي شخص تعديل المحتوى، إلا أن الجميع لا يفعل ذلك: فالمحرّرون هم مجموعة ممَّن اختاروا أنفسهم لهذه المهمّة، وهم من المتحذلقين وأصحاب المعرفة بكلّ شيء، ومن الرجال، بأغلبية ساحقة. أدى كلّ هذا إلى التحيّز في ما أصبح يعرف بأوَّل مصدر في العالم للبحث عن أيّ شيء. دون تردّد، اعترف «لاري سانجر»، المؤسّس المشارك للموقع، بأن «المتصيّدون قد استولوا على المنفذ، والسجناء يبحثون عن اللجوء».

لكن هناك قصّة أخرى أكثر قابلية للتصديق، وهي أن «ويكيبيديا» هي آخر معقل لمثالية الشبكة العالمية الأولى. منذ لحظة تقديم ورقة «تيم بيرنرز» لي، عام (1989)، ومقترحها حول كيفية ربط المعلومات، وإتاحتها عبر ارتباط تشعُّبي، بدأ الحامون في تخيّل نوع من الديموقراطية العالمية، حيث يمكن لأيِّ كان، في أي مكان، استخدام الكمبيوتر لاكتشاف العالم. وسط سلسلة من التطوُّرات المعروفة باسم «Web 2.0»، التي لم تسمح للجميع باستهلاك المحتوى، فحسب، بل حتى إنشائه، كان البعض يحلمون بأن يصبح الجميع مواطنين رقميّين، ويزعزعوا سلطة الأثرياء على وسائل الإعلام القائمة، وغيرها من التدرُّجات الهرمية النخبوية.

لكن، شيئاً فشيئاً، خذلتنا معظم مواقع الويب. نعم. لقد حصلنا على صوت، لكنه لم يأتِ مجّاناً. تحصد مواقع الويب مثل (فيسبوك)، بياناتنا من أجل استقطاب المعلِنين، وقد أصبح المشهد السائد: إدمان الشاشة، والقبليّة المستعرة، والتصيّد، والتضليل. كما أصبح المليارديرات في مجال التكنولوجيا، أكثر ثراءً ممّا كان عليه أباطرة الصحافة القدامى، والبقية مجموعات إلكترونية متمكِّنة، والشركات التي تريد استهدافنا تحصّلت على بياناتنا.

ولكن، رغم أنها سابع أكثر المواقع زيارةً في العالم، في عام (2020)، لا تزال «ويكيبيديا» مختلفة عن المشهد السائد. إنها المؤسّسة الوحيدة غير الربحية في المراكز العشرة الأولى، حيث لا توجد إعلانات، ولا تجميع بيانات، أو مدير تنفيذي ملياردير. يقوم مئات الآلاف من المتطوِّعين بصيانة الصفحات، وإنشائها مجّاناً، ويصحّح بعضهم للبعض الآخر، ويسهرون ليكون الموقع على درجة عالية من الموثوقية. في وقت مبكِّر من عام (2005)، كشفت المجلّة العلمية «Nature» أن «ويكيبيديا» تضاهي، في دقَّتها، (Encyclopedia Britannica)، عبر الإنترنت، (وهو ما أثار استياء محرّري بريتانيكا). في ذلك الوقت، تضمّنت «ويكيبيديا» الفتيّة أربعة أخطاء لكلّ مدخل علمي، مقابل ثلاثة في «بريتانيكا». ربَّما لم تصل «ويكيبيديا» إلى العالم المثالي في نظر «جيمي ويلز»، المؤسّس المشارك الأبرز للموقع، «عالَم، يُمنح فيه كلّ شخص على هذا الكوكب حرِّيّة الوصول إلى مجموع المعارف البشرية»، لكن ليس ببعيد. في فبراير (2020)، صنّفت «Wired» موقع «ويكيبيديا» بأنه «آخر أفضل موقع على الإنترنت».

وبينما تغادر «ويكيبيديا» سنوات المراهقة، يأتي السؤال: أيّ القصَّتَيْن أكثر موثوقية؟

قد يبدو منشئو «ويكيبيديا» كثوّار غير متوقّعين. كان «جيمي ويلز»، الذي نشأ في هنتسفيل، ألاباما، حيث ولد في عام 1966، مغرماً بموسوعته الشخصية. كان يجلس مع والدته المنشغلة بتحديثات الدخول التي يرسلها الناشر، والتي تحيل القارئ إلى مدخل أكثر دقّةً في إصدار لاحق، متحدّثاً من علِّيّة منزله في «كوتسوولدز». في أثناء الإغلاق الأخير، أخبرني «ويلز» أن أحد المدخلات يحتاج إلى التحديث، وهو مدخل القمر، ولسبب وجيه هو أن «الناس قد هبطوا على سطحه لأوَّل مرّة».

درس «ويلز» الماليّة، ثم عَمِل متداولاً. كان يستند، في فكره، على الروائي والفيلسوف «آين راند»، ورجل اقتصاد السوق الحرّة النمساوي «فريدريك هايك»، صاحب كتاب «طريق إلى العبودية»، المفضّل لدى «مارجريت تاتشر». قضى وقتاً كبيراً من فراغه على الإنترنت المبكِّر، يتسلّى بألعاب خيالية، ويتصفَّح الإنترنت، وأعجب بإمكاناته. استقال من وظيفته، وأسّس مع شريكَيْن موقع «Bomis»، كدليل للمعلومات في البداية، لكنه تطوَّر إلى موقع للإثارة، لاحقاً.

قرّر «ويلز» إنشاء موسوعة افتراضية مجّانية يمكن تحديثها في الوقت، ومتاحة للجميع، وهي، مثل سابقاتها، ستكون مصدراً ثانوياً لا أوَّليّاً، وسوف تستشهد بمعلومات من وسائل الإعلام أو الأوراق الأكاديمية، بدلاً من نشر بحث أصلي، وستكون الموافقات صارمة. يقول: «لقد كان مشروعاً رسمياً للغاية، ومن أعلى إلى أسفل، وكان لا بدّ من الحصول على الموافقة لكتابة أيّ شيء، وكان من المتوقَّع أن يقدّم المتطوّع مقالة كاملة». تَمَّ إطلاق («Nupedia») في أكتوبر (1999)، مع «لاري سانجر»، وهو طالب دراسات عليا في الفلسفة، التقى به «ويلز» عبر الإنترنت عبر القوائم البريدية للفلسفة، بوصفه رئيس تحرير.

بالنظر إلى طول عملية التقديم، نشر الموقع (21) مقالة، فقط، بعد عام. في غضون ذلك، توصل «سانجر»، و«ويلز» إلى مفهوم «الويكي» – صفحات ويب تعاونية وقابلة لإعادة الكتابة بحرِّيّة، ويمكن استخدامها لتشغيل مشاريع جماعية أو جمع الملاحظات أو تشغيل قاعدة بيانات («ويكي»، تعني «السريع» في هاواي). على سبيل التجربة، أسّسا موسوعة أخرى في (15) يناير (2001)، مهّدت الطريق لمقاربة تشبه الويكي: ويكيبيديا.

تَمَّ تصميم الموقع الجديد ليكون ضمن العرض الجانبي لـ«Nupedia». يتذكّر «ويلز»: «أحد الأشياء المثيرة للاهتمام أن الناس، في الأيّام الأولى، بدأوا في كتابة أشياء جيِّدة جدّاً. لقد كانت قصيرة جدّاً، وبسيطة، وخالية من الأخطاء». يوجد، الآن، أكثر من (300) موقع «ويكيبيديا»، بلغات مختلفة، وأكثر من ستّة ملايين مدخل على موقع اللّغة الإنجليزية، فقط. بمرور الوقت، وضعت ثلاث سياسات أساسية: يجب أن تتَّخذ الصفحات وجهة نظر محايدة؛ لا تتضمّن أيّ بحث أصلي، وتكون قابلة للتحقّق؛ ما يعني أنه يمكن للزوّار الآخرين التحقُّق من المعلومات المتأتِّية من مصدر موثوق. ومن المثير للاهتمام أن أيّاً من هذه المبادئ تضمَّنت جانب «الدقّة»: فالموقع يستعين بمصادر خارجية، بالأساس، من خلال الاعتماد على الاستشهادات.

تعطَّل اثنان من خوادم الموقع في يوم عيد الميلاد عام (2004)، واضطرَّ «ويلز» إلى إبقاء الموقع «يتعرّج» وحده. بعد فترة وجيزة، أطلق حملة لجمع التبرُّعات. اليوم، تجلب الحملات النشطة المنتظمة، والتي تظهر، بشكل كبير، عند النقر على (إدخال)، أكثر من (100) مليون دولار، سنوياً، لويكيبيديا ولغيرها من مشاريع مؤسَّسة و«يكيميديا» ​​المشرفة، معظمها من التبرُّعات الصغيرة – بمتوسِّط (15) دولاراً.

ورغم صفحاتها الهائلة، يوجد عدد أقلّ ممّا نعتقد من المحرّرين النشطين: على موقع «ويكيبيديا»، باللّغة الإنجليزية، قام (51.000) محرّر، فقط، بإجراء خمسة تعديلات أو أكثر في ديسمبر (2020). وجدت دراسة عام (2017) أنه، في العقد الأوَّل للموقع، كان (%1) من محرّري «ويكيبيديا» مسؤولين عن (%77) من تعديلاتها. يمكن أن يكون التعديل صغيراً كالتعديل في التنسيق، أو يمكن أن يكون إنشاء صفحة جديدة.

الآن، أصبح الموقع شاسعاً، يتضمّن أكثر من (55) مليون مقالة – يمكن أن يؤلِّف محتوى «ويكيبيديا»، باللّغة الإنجليزية، وحده، (90) ألف كتاب؛ ما يمنحه حجماً مشابهاً (لكن ليس، دائماً، بالجودة المطلوبة) لمكتبة كلِّيّة «أوكسبريدج» النموذجية، وهو متاح، مجَّاناً، لجميع مستخدمي الإنترنت، سواء أكان المستخدم مزارع أرز في بنغلاديش، أو طالب فيزياء بكتب مدرسية قديمة. الأكثر مدعاة للإعجاب هو سرعة الموقع: يتمّ تحرير المقالات (350) مرّة في الدقيقة. يقول «ويلز»: إن إحدى اللحظات الأولى التي رأى فيها، حقّاً، إمكانات «ويكيبيديا»، كانت في (11) سبتمبر، فبينما كانت الأخبار التلفزيونية تنقل لقطات للأبراج المتساقطة، كانت شبكة المتطوِّعين في «ويكيبيديا» تعكف على شيء مختلف: «كان الناس يكتبون عن الهندسة المعمارية لمركز التجارة العالمي وتاريخه».

حقّق الموقع نجاحاً كبيراً في أثناء وباء «كوفيد – 19»، أيضاً، حيث يتحرَّك بسرعة أكبر بكثير من المنشورات المعمول بها: منذ ديسمبر (2019)، كان هناك ما يعادل (110) تعديلات، في الساعة، على مقالات «كوفيد – 19»، بواسطة (97000) محرِّر، تقريباً.

إن شغف محرّري «ويكيبيديا» وتفانيهم في العمل، لا يَخْفيان على أحد، لكن هذا لا يعني، بالضرورة، أنهم بارعون، دائماً، في مهامِّهم. أحد الاكتشافات الحديثة والمروّعة تتعلَّق بإدخالات في اللّغة الأسكتلندية، وهي قريبة إلى اللغة الإنجليزية، يتمّ التحدُّث بها، بشكل أساسي، في الأراضي المنخفضة الأسكتلندية (يجب عدم الخلط بينها وبين الغيلية الأسكتلندية). تَمَّ إنشاء الآلاف من صفحات «ويكيبيديا» باللّغة الأسكتلندية، من قِبَل شخص لا يتحدَّث بها؛ إنه مستخدم مراهق يسمّى «أمارلس جاردنر» من ولاية «كارولينا» الشمالية. كانت بعض الكلمات لا تزال باللّغة الإنجليزية، ويبدو أن البعض الآخر ترجم إلى الأسكتلندية عبر قاموس ضعيف، على الإنترنت. اعتقد «أمارلس جاردنر» أن ذلك كان مفيداً، وعلّق على موقع «ويكيبيديا» أنه بدأ في تحرير الصفحات عندما كان في الثانية عشرة من عمره، لكنها «دُمِّرت» بسبب احتجاج و(إساءة استخدام) كما اعتبره محرِّرون آخرون. يخبرني «ريان ديمبسي»، وهو متحمّس للُّغة الأسكتلندية من أيرلندا الشمالية، والذي أبلغ عن الأخطاء، لأوَّل مرّة، على Reddit، أنه كان يعتقد أن الأخطاء لم تصحّح لفترة طويلة لأن الاسكتلندية غير متداولة على نطاق واسع، ولا تزال أقلّ اللّغات قراءةً، وبأن «أولئك الذين يتحدَّثونها، بطلاقة، من المرجَّح أن يكونوا أكبر سنّاً أو من الريفيِّين؛ لذا يكون حضورهم أقلّ على الإنترنت». بعد استبعاد «أمارلس جاردنر»، عُرف أن هناك «العديد من المحرّرين الآخرين الذين كانوا أسوأ بكثير»، على موقع الأسكتلنديين.

انتشرت القصّة في جميع أنحاء العالم، لكنها ليست أفضل مثال على فاعليّة «ويكيبيديا»: الترجمات الخاطئة (خاصّة في اللّغات قليلة القراءة)، من المرجَّح أن تظلّ أكثر من الأخطاء الواقعية، نظراً لشرط الاستشهاد بالحقائق، بكلّ دقّة .

ومع ذلك، حدثت العديد من الخلافات الأخرى حول دقّة المحتوى. تعرَّض اللورد «جاستيس ليفيسون» لانتقادات شديدة عام (2012)، بعد أن أدرج تقريره عن الثّقافة والأخلاق (والدقّة) في الصحافة البريطانية، من أحد مؤسّسي صحيفة «إندبندنت»، على أنه «بريت ستراوب»، شخصية غير معروفة، ظهرت بالخطأ على صفحة «ويكيبيديا» في الجريدة.

المشكلة الأخرى في سياسة تحرير الباب المفتوح لويكيبيديا؛ هي أنه لا يوجد الكثير لإيقاف أولئك الذين لديهم مصلحة خاصّة من التأثير على الإدخالات. تحذِّر إرشادات «ويكيبيديا» من تحرير صفحتك الخاصّة، أو نيابة عن العائلة أو الأصدقاء أو صاحب العمل، لكن هذا الأمر صعب التحقّق في أرضية تعتمد الأسماء المجهولة، ويمكن أن يكون الإغراء قويّاً. في الواقع، انكشف جدل هزلي، عندما قام «ويلز» بتغيير المدخل الخاصّ به لمحو كلّ إشارة إلى «سانجر» كمؤسّس مشارك لويكيبيديا، ومن ثَمَّ يصبح هو المؤسّس الوحيد. تمّ استدعاؤه في عام (2005)، وعبّر عن أسفه، لاحقاً، لـ «Wired»: «أتمنّى لو لم أفعل ذلك. إنه ليس من الذوق». كشف مكتب الصحافة الاستقصائية في عام (2012) عن إجراء آلاف التعديلات على «ويكيبيديا» من داخل مجلس العموم. اعترفت النائبة السابقة «جوان رايان»، التي تركت حزب العمل لصالح مجموعة «إندبندنت»، بتحرير صفحتها الخاصّة، بداعي تصحيح «معلومات مضلِّلة أو غير صحيحة».

وبينما يركّز النقد والثناء، غالباً، على الادّعاء بأن التحرير مجّاني للجميع، لم يعد الحال كذلك، تماماً. يكشف «توماس ليتش»، مؤلِّف «ويكيبيديا U»، أن «فولكلور ويكيبيديا يكمن في أنها موسوعة الجميع. والممارسة ديموقراطية، ويمكن لأيّ كان التحرير. هذا ليس صحيحاً؛ فبهدف التعديل لا يمكنك أن تكون شخصاً قام بتصحيح صفحة، أو تَمَّ تصحيحها بشكل خاطئ، من وجهة نظر «ويكيبيديا»، بشكل متكرّر، ممّا يؤدّي إلى حظرك؛ أو شخصاً أساء إلى محرّر. يجب عليك التفكير أو التصرُّف وفقاً للقواعد الموضوعة، حتّى تتمكَّن من التعديل على «ويكيبيديا».

بينما يمكن لأيّ شخص إنشاء حساب «ويكيبيديا»، والنقر فوق «تحرير» على أيِّ صفحة، تقريباً، فمن المحتمل أن يتمّ إبطال تعديلك بواسطة محرّر آخر، إذا لم يلتزم بمعايير معيَّنة. وإذا نشأت نزاعات (عند إجراء تعديلات وإبطالها، بشكل متكرّر، أو انتقل النقاش، بشكل سيِّئ، إلى صفحات المناقشة المصاحبة لكلّ مقالة) يمكن، حينها، حظر المستخدمين من قِبَل المشرفين، أو يمكن «تعطيل» كلّ عمليات التحرير غير الخاضعة للإشراف.

قد تكون العيون الصارمة للمحرّرين ذوي الخبرة مبرّرةً في بعض الحالات، لكن هناك عواقب وخيمة. تُظهر الاستطلاعات أن المحرّرين على موقع اللّغة الإنجليزية، هم، بأغلبية ساحقة، من الشباب؛ وهذا يتطابق كثيراً مع سياسات وادي السيليكون.

حدّدت «مؤسّسة ويكيميديا – Wikimedia Foundation» هدفاً في عام (2011)، يتمثَّل في الوصول إلى (25) في المئة من التحرير، بواسطة الإناث، على مدار أربع سنوات. في عام 2014، اضطُرَّت المديرة التنفيذية «سو غاردنر» للاعتراف بأنها «فشلت» في ذلك. في عام (2018)، كان تسعة من كلّ (10) محرّرين من الذكور.

وكشف «ويلز» عن خيبة أمله من التقدُّم «غير الكافي»، واعتبر أن المؤسّسة «لا يزال أمامها الكثير لتتعلَّمه». كان يأمل في أن يؤدِّي العمل بمحرّر النصوص المرئي (أي أن تظهر الصفحة التي تقوم بتحريرها كنسخة منشورة) إلى جذب المزيد من المحرِّرين المتنوِّعين، لكن ذلك لم يحدث.

ما هو على المحكّ مع التنوُّع، بكلمات «ويلز» الخاصّة، ليس فقط «دقّة السياسية العشوائية، بل التأثير في المحتوى». عندما يهيمن المساهمون الذكور، تحصل على أنواع معيَّنة من الإدخالات والتعديلات: في عام (2013)، لاحظت «أماندا فيليباتشي»، الصحافية في «نيويورك تايمز»، أن شخصاً ما، أو مجموعة من الأشخاص، كانوا ينقلون النساء، تدريجيّاً، من فئة «الروائيِّين الأميركيِّين» إلى فئة أخرى تُسمّى «الروائيّات الأميركيّات»؛ ما يعني أن القائمة الرئيسية للمؤلِّفين الأميركيِّين تتألَّف من الذكور، فقط.

في ظلّ عدم وجود استمارة لكونك محرِّراً، ومع احتمال أن تكون ملفّات التعريف مجهولة، ومن دون جنس، تظلّ هذه المشكلة قائمة أمام المراقبة التصحيحية التقليدية. «جيسيكا وايد»، عالمة الفيزياء ومحرّرة «ويكيبيديا»، تلقي باللوم، نتيجة هذا الانحراف، على عالم التكنولوجيا الذي يهيمن عليه الذكور، والذي منه نشأ الموقع: «عندما تأسّس المجتمع، لم يكن متنوِّعاً، ولم يرحّب بأشخاص من المجموعات الممثّلة تمثيلاً ناقصاً».

عندما تحاول النساء أو الأقلِّيّات التعديل (بحسب قولها)، يمكن أن يواجهن أياديَ قديمة «لا تشجّع الناس بما يكفي لحثّهم على البقاء. لا يمكن أن يصمد كلّ شخص إذا تمَّ إخباره بأن الصفحة التي أدرجها هي القمامة، أو أنه لم يقتبس شيئاً بشكل صحيح».

بعد أن انخرطت في تحرير «ويكيبيديا» بنفسها، صُدمت «وايد» بقلَّة إدخالات العالِمات. لقد حدّدت لنفسها هدفاً صعباً: إنشاء صفحة جديدة لعالمة أو عالمة من الأقلِّيّات، كلّ يوم. وبدءاً من أوائل عام (2018)، كانت تعمل على ذلك، دون انقطاع. أثار مشروعها بعض التذمّر، ودفعها أحد العلماء للتشكيك في نفسها: «قالوا إنني كنت بصدد إضعاف «ويكيبيديا»، وإلحاق ضرر بالمجتمع، من خلال وضع هذه الإدخالات هناك. لقد أزعجني ذلك، حقّاً». لكنها سرعان ما تستدرك، مع ذلك، أن غالبية المجتمع داعمة لها، وبأن متعة التعاون، والاستيقاظ بعد ليلة من التحرير، ورؤية المساهمين على الجانب الآخر من العالم، وقد أضافوا تعديلات أو صوراً مفيدة إلى مشاركتك، تغنيك عن سلبيّاتها.

أمّا الانحراف المهمّ الآخر في مساهمات «ويكيبيديا»، فهو التوزيع الجغرافي: حوالي (68) في المئة من المساهمين هم من أميركا والمملكة المتَّحدة؛ يتوقَّع «ويلز» أن التغييرات الكبيرة في «ويكيبيديا» للعشرين عاماً القادمة، ستكون غير مرئية، إلى حَدّ كبير، على الموقع الإنجليزي: «ويكيبيديا في لغات العالم النامي [ستكون] جزءاً كبيراً، حقّاً، من مستقبلنا – كيف ندعم أيّ قيود تكنولوجيّة قد يواجهها الأفراد؟»

يعتقد «ويلز» أن «سمعة «ويكيبيديا» قد تحسَّنت بشكل كبير، على مرّ السنين». في البداية، تبيّن أن العواصف المتعلّقة بالتعديلات الفردية السخيفة كانت محبطة، لكنها تراجعت، الآن. «هذا يشبه المجموعة الكاملة من القصص حول موقع «eBay»: شخص يبيع سلاحاً، أو أب يبيع أطفاله، أو يبيع روحه. قبل أن يدرك الجميع أنه يمكنهم نشر أيّ شيء يريدونه على موقع «eBay»، ثم يقوم شخص آخر بالإبلاغ عنه، ويتمّ حذفه. الأمر ليس بهذه الإثارة».

وفي الوقت نفسه، إن قصص المحاضرين الذين يحذّرون الطلّاب من الاستشهاد بويكيبيديا، ينسون أنهم سيقولون الشيء نفسه عن أيّة موسوعة أخرى، لأنها ليست من المصادر الأوَّلية. أوصي العديد ممن تحدَّثت إليهم بانتظام، بالرجوع إلى «ويكيبيديا» بصفته موقعاً متميّزاً لبدء البحث في أي موضوع، لأنها تمكّنك من الوصول إلى المصادر الأولية من خلال الروابط. جعل «إليس جونز»، أستاذ علم الاجتماع، تحريرَ صفحات «ويكيبيديا» الخاصّة بمنظِّرين اجتماعيِّين، جزءاً من منهجه الدراسي: «إنها أحد أكثر الأشياء إثارةً في الدورة، بالنسبة إلى الطلاب؛ تسمح لهم بالمساهمة ببعض المعرفة الصغيرة للجمهور، رغم أنهم ليسوا خبراء».

ويجادل «ليتش»، مؤلِّف «ويكيبيديا U»، بأن الهديّة العظيمة لويكيبيديا هي الطريقة التي تعلِّمنا بها التشكيك في مصادر السلطة. «نعم. بالطبع، علينا طرح أسئلة حول «ويكيبيديا». ولكن، بينما نحن في صدد هذا الموضوع، ألا ينبغي لنا أن نطرح تلك الأسئلة حول التعليم الليبرالي في جميع صوره الرمزية؟ «خذ عمليّة مراجعة الأقران، على سبيل المثال: وجدت دراسة أُجريت عام (2017) تضمَّنت مجموعة من التحيّزات: كانت المرأة ممثّلة تمثيلاً ناقصاً، ويميل كلّ من الرجال والنساء إلى تفضيل العمل، بحسب جنس كلٍّ منهم.

«لا تكن شرِّيراً»، كان شعار «غوغل» السابق، وقد اتَّخذته «ويكيبيديا» شعاراً لها. وبدلاً من وصف «Wired» لويكيبيديا على أنها «آخر أفضل مكان على الإنترنت»، أفضّل وصف «توم فورث»، أحد محرِّري «ويكيبيديا» بأنها «أقلّ الأماكن سوءاً على الإنترنت»، فيها من العيوب الكثير، لكنها أقلّ بكثير من المواقع الضخمة الأخرى.

ومن المفارقات بالنسبة إلى أولئك الذين يعتبرون «ويكيبيديا» أداة معطّلة، أن بعضاً من أكبر مشاكلها تنبع من المؤسّسات القديمة التي تعتمد عليها في الاستشهادات. «معايير الجدارة» الخاصّة بها، تعني أن المصادر «حسنة السمعة» يجب أن تدرك أهمِّيّة الموضوع قبل «ويكيبيديا». عندما سألت «جيمي ويلز» عن مخاوفه بشأن الأخبار المزيَّفة، ذكر لي مشكلة أكبر بكثير: الانخفاض الحادّ في وسائل الإعلام المحلِّيّة؛ ما يعني أن الموقع لا يمكنه تغطية الموضوعات المحلِّيّة، على الإطلاق.

ومع ذلك، ليست العلاقة بين المورد والعالم الذي يعكسه طريقاً أحادي الاتِّجاه. قد يتبادر إلى ذهن المستخدم أنه إذا لم يجد ما يبحث عنه في «ويكيبيديا»، فلن يجده في أيّ مكان آخر. على العكس من ذلك، يمكن للصفحات الأحدث كالتي أنشأتها «جيسيكا وايد» لفائدة العلماء من النساء والأقلِّيّات العرقية، بأساليب بسيطة، التخلّص من التحيّزات في العالم بأسره. في (2020)، شرعت الأخيرة، وعالِم آخر في إنشاء صفحات «ويكيبيديا» للباحثين في الوباء، وسرعان ما لاحظت انخفاضاً تدريجيّاً في التحيّز للخبراء من الذكور البيض، الذين يتمّ الاستشهاد بهم في وسائل الإعلام.

إحدى الصفحات الأولى التي كتبتها «جيسيكا وايد»، كانت عن «غلاديس ويست»، العالِمة الأميركية من أصل أفريقي والرائدة في تقنية GPS. كانت الصفحة صغيرة في البداية، حيث لم يكن يُعرف سوى القليل عن حياتها، ثم تطوَّرت على مرّ السنين، وتَمَّ التعريف بها، مؤخَّراً، في صحيفة «الغارديان». بالنسبة إلى «وايد»، هذا الأمر يجسّد متعة التحرير: «عندما أرى صفحات لأشخاص أنشأتها لهم، وحصلوا على التقدير والتكريم والاحتفاء، يسرّني ذلك. إنه أفضل يوم على الإطلاق. هذا أعظم شيء على الإطلاق. القوّة التي تكتسبها من الجلوس ليلاً مع الكمبيوتر المحمول، استثنائية».

هناك جانب رومانسي لا يمكن إنكاره؛ عندما يقوم آلاف الأشخاص بتجميع معارفهم عبر الإنترنت؛ ليس من أجل المال أو الشهرة، بل لهدف أسمى. أرسل لي أحد المحرّرين الذين تحدَّثت إليهم رابطاً يقود إلى موقع «استمع إلى ويكيبيديا»، وهو موقع «ويب» يعزف النوتات الموسيقية كما يبدو، في الوقت الفعلي، وتصاحب الصفحات التي يتمّ تحديثها: أصوات أجراس للإضافات، وأوتار للحذف، ونوتات أعمق للتعديلات الكبيرة، ونغمات أعلى للتعديلات الصغيرة، وموسيقات عامِّيّة متنوّعة، وكلمات بِلُغات لا أفهمها بسرعة. كلما شاهدت أكثر، تبيّن لي أنه أقلّ الأماكن سوءاً على الإنترنت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة المقال هي باربرا سبيد، محرِّرة التكنولوجيا والثّقافة الرقمية في «i.newspaper».

المصدر: مجلّة Prospect، مارس (2021).

بيتر أدامسون: الفلسفة الإسلاميّة جزءٌ من الفلسفة الغربيّة

«بيتر أدامسون» أكاديمي أميركيّ وأستاذ الفلسفة العربيّة والقديمة المُتأخرة بجامعة «لودفيج ماكسيميليان» في ميونخ. أصدر عدداً من الكُتب المُهمَّة في الفلسفتين القديمة والقروسطية؛ لاسيما الأفلاطونيّة المحدثة «Neoplatonism» والفلسفة في العالَم الإسلاميّ، من بينها سلسلة من الكُتب بعنوان «تاريخ للفلسفة من دون ثغرات» كان آخرها كتاب عن «الفلسفة الهنديّة الكلاسيكيّة» (2020)، و«الفلسفة في العالم الإسلاميّ: مقدمة موجزة» عن دار نشر جامعة «أكسفورد» (2015)، و«دراسات في الفلسفة العربيّة القديمة» عن دار «روتليدج» (2016)، وآخر كُتبه «إياك أن تفكِّر بنفسك: السلطان والاعتقاد في الفلسفة القروسطيّة» عن دار نشر جامعة «نوتردام»، وكتاب«الرّازي» الذي صدر في مارس/آذار الماضي (2021) عن دار نشر جامعة «أكسفورد».

هل كان مرماك الرئيس من شرح الفلسفة الإسلاميّة بلغةٍ سهلة في كتابِك «الفلسفة في العالَم الإسلاميّ» (المُجلّد الثالث من كتاب «تاريخ للفلسفة من دون ثغرات») الترويج للفلسفة الإسلاميّة، أم استمالة الباحثين في الحقل الأكاديمي أيضاً؟

– أدامسون: يستهدف الكِتاب القارئ العادي لحدٍّ بعيد، لكنّي أظن رغم ذلك أنّ النهج المُفصَّل الذي اتبعه الكِتاب يجعله مفيداً للمُتخصِّصين؛ ذلك أنّي أودُّ على نحوٍ خاص أن يتبنّى باحثون آخرون بعض الأفكار المطروحة في الكتاب، مثل دمج دراسة الفلسفة اليهوديّة ضمن تصوُّر الفلسفة في العالم الإسلاميّ، وإيلاء مزيد من الاهتمام بالتفكير ما بعد الكلاسيكيّ، خاصّة كلّ ما جرى بعد القرن الثاني عشر الميلادي.

في رأيك ما هي أسباب إهمال الفلسفة الإسلامية طيلة التاريخ الحديث؟

– لم تُهمَل الفلسفة الإسلاميّة في كلّ البقاع بطبيعة الحال؛ إذْ دائماً ما كانت البلدان الإسلاميّة تشهد اهتماماً بالأعراف الفلسفيّة القديمة. لكن في أوروبا برزت رغبة لتبجيل الشخصيّات التي تُرجمت كتاباتها إلى اللّغة اللاتينيّة إبّان القرون الوسطى، مثل ابن سينا وابن رشد؛ بسبب ما لتلك الشخصيّات من تأثير على الفلسفة الأوروبيّة. أمّا الفلاسفة العظام الذين جاءوا لاحقاً مثل فخر الدين الرازي أو صدر الدين الشيرازي؛ مِمَّنْ لم يُترجَم لهم شيء لأي من اللُّغات الأوروبيّة، فلم يسترعوا انتباه الباحثين بتلك اللُّغات.

هل ترى أنّ فلسفات كثير من الثقافات لم تُدمج في تاريخ الفلسفة في الغرب؟ أو أنّ الفلسفة الإسلاميّة طُرحت هنا باعتبارها أحد «فلسفات العالم» إلى جانب الفلسفات الصينيّة والبوذيّة والهنديّة، وغيرها من الفلسفات؟

– نعم، هذا صحيح؛ إذْ لا يزال هناك اتجاهٌ في أوروبا وشمال أميركا لجمع كلّ التقاليد غير الأوروبيّة في شيء واحد أطلقوا عليه اسم «الفلسفة غير الغربيّة» أو «الفلسفة العالميّة» (World Philosophy). لا اعتراض لديَّ على ذلك من بعض النواحي؛ إذْ تبدو خطوة أولى مفيدة في سبيل جذب الاهتمام إلى تلك الفلسفات. لكن الاطلاع على الفلسفة الهنديّة لا تربطه صِلة حقيقيّة بالاطلاع على الفلسفتين الإفريقيّة أو الأميركيّة اللاتينيّة، وما نحتاج إليه في واقع الأمر هو بحث أكاديمي ينقطع لدراسة كلّ فلسفة على حِدة، وهذا ما يجري الآن بصورةٍ متزايدة. لكن وضع الفلسفة الإسلاميّة يُثير العجب بشكلٍ خاص؛ حيثُ يُنظر إليها في الغالب باعتبارها واحدة من الفلسفات غير الغربية، رغم أنّها -أي الفلسفة الإسلاميّة- ردٌّ على الفلسفة الأوروبيّة لحدٍّ كبير، ولا سيما أرسطو، على نقيض ما نجده في الهند أو الصين أو إفريقيا أو الأميركتين فترة ما قبل الاستعمار.

هل لاصطلاح «الفلسفة الغربيّة» دلالة حقّاً؟ وهل ترى أنّ الاصطلاح ليس سوى إحالة لذهنية كولونياليّة؟

– إشكالية هذه العبارة هي التباس ما ينبغي أن يندرج تحت «الفلسفة الغربيّة»، فلو كان المقصود إحالة لمنطقة جغرافيّة؛ بمعنى كلّ الفلسفات التي ظهرت في أوروبا، وبعدئذ في أميركا الشماليّة والبلدان «الغربيّة» الأخرى، فلابد آنئذ أن تشمل «الفلسفة الغربيّة» جانباً كبيراً من الفلسفة الإسلاميّة؛ لأنّ المُسلمين ببساطة حكموا إسبانيا لفترةٍ طويلة، وبعض المُفكِّرين المُسلمين واليهود ألَّفوا كُتباً هُناك باللّغة العربيّة، ومع ذلك لا تُعَدُّ الفلسفة الإسلاميّة في الغالب جزءاً من الفكر«الغربيّ». أمّا لو كان المقصود من «الفلسفة الغربيّة» كلّ الفلسفات التي تعود أصولها للإغريقيّين، فلابدّ أن تندرج تحتها شخصيّات مثل ابن سينا الذي عاش في آسيا الوسطى؛ وهي منطقة شهدت نفوذاً هائلاً للثقافة الهلينيّة.

كيف ترى ما ذهب إليه (المُؤرِّخ والكاتِب الفرنسي) «أرنست رينو Ernest Renan» أنّ الفلسفة الإسلاميّة «تحتقر» العلم، رغم ما قاله نبي الإسلام محمد (صلّى الله عليه وسلّم): «فضل العالِم على العابِد كفضلي على أدناكم»، و: «العلماء ورثة الأنبياء»؟

– فكرة أنّ الفلسفة أو العلم يدعمهما الوحي تعود إلى القرون الوسطى في واقع الأمر؛ إذْ تستطيع أن تجدها في كتابات ابن رشد على سبيل المثال، وبوجهٍ عام لا شكّ أنّه إبّان الفترتين الكلاسيكيّة والقروسطيّة اعتقد كثيرٌ من المُفكِّرين المُسلمين أنّ الإسلام يحثّ على الاستكشاف العقلانيّ للعالم. لكنّي أودُّ أن أتحرَّى الدقة هُنا ولا أفترض غياب اتجاهات أخرى داخل الإسلام. فعلى سبيل المثال ظهر فقهاء آخرون لم يشجعوا على الاستعانة بالمصادر العلميّة الأجنبيّة، أو قالوا إنّ كلّ ما نحتاجه من معرفة موجود في الوحي القرآني والأحاديث النبويّة. ومن ثَمَّ فالمشهد معقَّد.

كيف برَّر الفلاسفة المُسلمون دراسة أفلاطون وأرسطو؟ تُشير إلى ردّ الكندي على منتقديه الذين عارضوا الاستعانة بالنصوص الفلسفيّة الإغريقيّة، وتقول إنّ الكندي حاجج بضرورة احترام الحقيقة أينما نجدها. لكن رغم أنّ الفلاسفة لم يشكّكوا في الوحي، إلّا أنّهم اضطروا لتوضيح لِمَ كانت دراسة الفلسفة الإغريقيّة ليست زائدة على الحاجة؛ حتّى وإن كانت تعاليمها صحيحة. بكلماتٍ أخرى؛ ألا تكفي دراسة القرآن والكتاب المُقدَّس؟ هذه مسألة جوهريّة لفهم تفاعل العالَم الإسلاميّ مع الفلسفة الإغريقيّة.

– هذه حقيقة. وكما قلت فقد عارض بعض الفقهاء في حينه دراسة الفلسفة الإغريقيّة. نحنُ نجهل هويّة الرجل الذي كان يردّ عليه الكندي بدفاعه عن الاستعانة بالحكمة الإغريقيّة، لكنّ هناك مثالاً آخر يتعلَّق بالجدل الذي دار حول قيمة المنطق. فهَهُنا النحوي أبو سعيد السيرافي الذي نفى وجود ما يدعو لدراسة المُؤلَّفات التي وضعها الإغريق عن المنطق.

أظنُّ أنّ ثمَّة شكلين اثنين في حقيقة الأمر يُمكن أن تتبنّاهما مناوأة الفلسفة الإغريقيّة: الأول هو التشكّي ممّا بين الفلسفة الإغريقيّة والإسلام من تعارُض، إذْ تؤكِّد الأولى على أبدية العالَم مثلاً في حين يؤمن المُسلمون أنّ العالَم مخلوق، والثاني هو أنّ الفلسفة الإغريقيّة زائدة على الحاجة، لأنّ كلّ ما فيها من حقائق موجود في الوحي أيضاً. وقد ردّ الفلاسفة على كلتا التهمتين بطبيعة الحال؛ من خلال تقديم حجج فلسفيّة ضد أبدية العالَم، أو إنكار تقيُّد القرآن بعالَم زائل. أمّا بالنسبة لتهمة الزيادة على الحاجة، فإنّ ردّهم المُعتاد هو المُحاججة بأنّ الفلسفة أداة مفيدة في واقع الأمر لفهم وتأويل القرآن، وأنّ الفلاسفة ربّما هم أفضل مَنْ يفسّرونه. هذا هو ما رأينا ابن الرشد يفعله لاحقاً على سبيل المثال، كذلك كتب الكندي أطروحتين حول استعمالات الفلسفة في تفسير القرآن.

هل ترى أنّ يحيى بن عدي جسر بين الفلسفة الإسلاميّة وورثتها في الفلسفة المسيحيّة؟

– ليس لهذا الحدّ، لكن ابن عدي يُظهر أنّ الفلسفة في أواخر عصر التكوين القروسطي كانت مشروعاً متعدِّد الأديان؛ ذلك أنّ المسيحيّين واليهود تعاونوا مع المُسلمين في ترجمة وتأويل الفلسفة اليونانيّة. ولِكم يسترعي الانتباه كذلك المدى الذي بلغه استعمال الفلسفة في النقاشات بين الأديان المُختلفة، مثل تفنيد ابن عدي لمآخذ الكندي على التثليث.

هل ترى أنّ نظرة «هيجل» للتاريخ باعتباره تقدّم الوعي بالذات، يُمكن تبريرها تاريخيّاً؟ أو بشكلٍ أكثر تحديداً، هل يمكن تمييز الفلسفة إلى عصرين اثنين؛ عصر الفلسفة القديمة وعصر الفلسفة المسيحيّة الحديثة، ومن ثَمَّ المثالية الألمانيّة؟

– كلا، لا أقبل بهذه المُقاربة الغائية لتاريخ الفلسفة؛ إذْ لا أعتقد أنّ الفلسفة ترتقي وفق مسار مُقرَّر سلفاً، أو حتّى متوقَّع، صوب بتّ «Resolution» قاطع ما.

في واقع الأمر، لم يكن «هيجل» وحده مَنْ يظن أنّ الفلسفة تتجه صوب بتٍّ ما. إذْ يُمكن العثور على هذه الفكرة في كتابات فلاسفة التحليليّة الجُدد، الذين يفترضون أنّ مقاربتهم تجعل كلّ الفلسفات السابقة عليهم منقضية، ولعَلّ مردّ ذلك استرشاد الفلسفة التحليليّة بالعلوم الحديثة. لكني لا أقبل هذه النظرة أيضاً، بل أعتقد أنّ لكلّ عصر وثقافة في تاريخ الفلسفة حكايته الخاصّة، وأنّه في احتياج لتقييمه وفق مفرداته الخاصّة؛ ذلك أنّ النواميس المُختلفة تُثير أسئلة مختلفة بدلاً من محاولة الإجابة عن نفس الأسئلة دائماً.

كيف ترى الدهرية؟ وهل تعتقد أنّ أبا بكر الرازي مثلاً كان يُنكر النبوة؟

– لديَّ قراءة مُغايرة لموقف الرازي، مفادها أنّه لم يكن يتطاول على النبوة إجمالاً في واقع الأمر، بل أراد الهجوم على مذاهب بعينها داخل الإسلام يبدو أنّ الشيعة الإسماعيليّة واحدة منها، ذلك أنّه كان يعتقد أنّ هذا النهج يعول على سلطان الأئمة أكثر ممّا يلزم. ومن ثَمَّ أرى أنّ خصوم الرازي من الإسماعيليّين شوهوا نقاشاً مشروعاً داخل إطار الإسلام، وصوروه على أنّه يتطاول على الوحي وعلى النبوة.

أغفلت في الجزء الخاص بالفلسفة الإسلاميّة الحديثة في الكِتاب، بعض أهمّ الفلاسفة المُعاصِرين من أمثال أحمد فارديد ومرتضى المطهري وجواد طباطبائي وحسين نصر. لِمَ لَمْ تتناول الفلسفة الإسلاميّة المُعاصِرة؟ هل لإغراقها في السياسة؟

– أشرت في واقع الأمر إلى طباطبائي ونصر، لكن ما تقوله صحيح عن مروري السريع على فلسفة القرن العشرين، وإغفالي الفلسفة الإسلاميّة خلال القرن الحادي والعشرين. ومردُّ ذلك سببان اثنان؛ أولهما أنّي لست على دراية واسعة بالموضوع، وثانيهما اتّساع مادته الهائل. وأتصوَّر أنّ الكتابة بشكلٍ صحيح عن الفلسفة الإسلاميّة المُعاصِرة تحتاج إلى كتابٍ كامل منفصل. لذلك حاولت التعليق على بعض المُفكِّرين المُحدثين الذين استلهموا المرويات التاريخيّة المُبكِّرة التي غطّاها الكِتاب؛ مثل محمد أركون ومحمد عبده وحسين نصر.

ما هو هدفك التالي؟ وهل تودُّ الاستمرار بنفس النهج؟

– هذا هو الكِتاب الثالث من سلسلة طويلة أطمح في الانتهاء منها في المُستقبل. وقد صدر منها حتّى الآن خمسة كُتب، منها كتاب عن الفلسفة الهنديّة المُعاصِرة شارك في تأليفه «جوناردون جانيري Jonardon Ganeri». وسوف تتضمَّن الكُتب القادمة الفلسفة الإفريقيّة والصينيّة، إضافة إلى التطوُّرات اللاحقة التي شهدتها الفلسفة الأوروبيّة.

في رأيك، ما هي الأوضاع الراهنة للفلسفة الإسلاميّة؟

– حسناً؛ مرّة أخرى، لست مُلمّاً على نحوٍ كاف بالوضع الراهن للفلسفة الإسلاميّة، لكن لديَّ انطباع أنّه يختلف كثيراً من دولةٍ لأخرى. إذْ لا يزال لدى إيران مثلاً تقليد لافت للنظر هو الاشتباك مع أفكار الماضي؛ لاسيما في المدرسة الصدرية، حيثُ لا تزال شخصيّات مثل السهروردي وابن سينا مؤثِّرة هُناك. لكن ثمَّة باحثين إيرانيين أيضاً يُمارسون الفلسفة التحليليّة أو يدرسون «كانط» و«هايدجر»، وتقترن أحياناً هذه الدراسة باستحضار صدر الدين الشيرازي. وهذه إيران فحسب!

أعتقد بوجهٍ عام أنّ الفلسفة في العالَم الإسلاميّ ديناميّة ومتشابكة كما هو الحال في أوروبا أو أميركا الشماليّة. لكن ما أودّ أن أراه هو مزيد من الحوار والتبادل بين العالَمين (الغربيّ والإسلاميّ)؛ كي تتعلَّم الأوساط الأكاديميّة من بعضها البعض. ولهذا سرّتني كثيراً الدعوة للحديث معك، لهذا السبب تحديداً!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حاوره: أمير علي مالكي

المصدر:

مجلّة «Philosophy Now»، العدد (143)، أبريل – مايو 2021م.

https://philosophynow.org/issues/143/Peter_Adamson