عاد النقاشُ مجدَّداً إلى الساحةِ الفنِّيّة والثقافيّة، حول علاقة بعض المُؤلِّفين المُتورطين في قضايا سياسيّة أو أخلاقيّة، بأعمالهم وإبداعاتهم، مثل «رومان بولانسكي – Roman Polanski»، «بيتر هاندكه – Peter Handke»، «ميشيل ويلبيك – Michel Houellebecq»، «غابرييل ماتزنيف – Gabriel Matzneff»، وهو ما يذكِّر بحالات أخرى سابقة، مثل حالة «سيلين – Céline» أو حالة «هايدغر – Heidegger». ماذا عن مصير أعمال هؤلاء، وما هو الموقف الذي يجب اتخاذه إزاءها؟ هل يجب قبولها كاملةً كأعمال، بغض النظر عن التورُّط الأخلاقيّ أو السياسيّ لأصحابها، أم يجب رفضها والإعراض عنها كما يميل إلى ذلك أنصار ثقافة المحو والإلغاء؟
هل يحقّ للزوجةِ السابقة للكاتِب «إيمانويل كارير Emmanuel Carrère» منعه من استحضارها وذكرها في مؤلَّفاته؟ وهل وجب منح «رومان بولانسكي» جائزة «سيزار – César» في الوقت الذي يُتابَع فيه بتهمة الاغتصاب؟ وكذا منح جائزة نوبل لـ«بيتر هاندكه» وقد ساند الصرب خلال حرب يوغوسلافيا؟ وهل فلسفة «هايدغر» معادية للسامية؟ هل يجب منع إعادة نشر كتيبات «سيلين»، وفرض الرقابة على أغاني الراب المُروِّجة لكراهية النساء للرابور «أورلسان – Orelsan»، وسحب لوحات «غوغان Gauguin» من المتاحف بذريعة أنه أساء إلى عارضاته الصغيرات؟ هل ويلبيك معادٍ للإسلام؟ وهل كان نقَّاد الأدب مذنبين في تساهلهم إزاء بيدوفيليا الكاتِب غابرييل ماتزنيف؟ اللائحة طويلة لأمثال هذه «القضايا» التي نودُّ أن يكون لنا فيها موقفٌ أخلاقيّ سديد وحازم وقابل للتعميم. إلّا أن مثل هذا الموقف لا يمكن أن يقوم على ثنائية من «مع» ومن «ضد»، وإنما على أساس أن كلَّ حالة يجب معالجتها على حدة، رغم أنها، جميعها، تضعنا أمام السؤال الذي اختارته «جيزيل سابيرو – Gisèle Sapiro» عنواناً لكتابها الأخير: «هل يمكن الفصل بين العمل والمُؤلِّف؟»(1)، محاولة الجواب من خلال الوقوف على كلّ حالة على حدة وأيضاً استخدام كلّ معيار للحكم على حدة، توخياً للشمول والدقة، ورغبة في تجاوز الطابع الثنائي للسجالات السائدة. ورغم أننا لا نهدف إلى تقديم مراجعة لهذا الكتاب، إلّا أن ذلك لا يمنع من إلقاء الضوء على ما هو أساسيّ فيه: منطلقاته، منهجه، ونتائجه.
بعد أن تشكَّل الأدبُ منذ القرن التاسع عشر كمجالٍ مستقلّ عن الأخلاق، وقد دأب على الفصل التام والنهائيّ بين الجمال والخير «الفَنّ والأخلاق»، وجد نفسه اليوم في قبضة ما يمكن تسميته بـ«المُنعطف الإتيقي – le tournant éthique»: يفترض حتماً في الآداب أنها منتجة لقيم ومسؤولة عمّا يترتَّب عنها من نتائج. كما أن الحساسية المُعاصِرة التي يغذّيها رفض المظالم وإغراء اللجوء المنظم إلى القانون وكذا مساءلة مبدأ استقلاليّة الأعمال الجماليّة، لم تعد تستثني المُبدعين أنفسهم من هذه المسؤوليّات القانونيّة. لقد أصبح الكاتِب قابلاً للتجريم بعد أن فقد الحماية التي كان يحيطه بها ذلك التمييز الذي أقامه «مارسيل بروست Marcel Proust» بين الشخص الاجتماعيّ والكاتِب. فبعد زمنٍ طويل من التقدير والحماية التي حظي بها الكُتَّاب، نجد اليوم كاتِباً مثل «ماتزنيف»، وبعد أن تمتَّع بالامتيازات المُرتبطة بالبراديغم الحديث في الاختراق الفنّي، قد أصبح يعيش مأساة هذا التحوُّل في البراديغم، وصار خلال بضعة أسابيع فقط، رمزاً لبيدوفيليا راقية، تعامل معها بعض النُقَّاد بتسامح كبير، في حين أن المكان الطبيعيّ لصاحبها هو السجن في نظر البعض الآخر. صحيح أن هناك تخوُّفات كثيرة من انحراف طهرانية الإلزامات الإتيقية التي تستهدف الكُتَّاب والمُبدعين ووضع أعمالهم تحت مجهر التحقيق، بحيث أصبحنا نعيش اليوم حروباً، أو بالأحرى صدامات عنيفة، بين معسكر الطهرانية الإتيقية ومعسكر حرّيّة وحصانة الكاتِب والمُبدع في حياتهما الشخصيّة، ولعَلّ ظاهرة كهذه تفرض إيجاد حلّ لهذه الخلافات وتقديم أدوات إجرائيّة مناسبة لتحليلها.
يكشف هذا السجال حول إتيقا الإبداع عن توجُّهين يمثِّلان نموذجين مثاليين لعلاقة المُؤلِّف بعمله: نموذج أول يدعو إلى الفصل التام بينهما، في مقابل نموذج ثانٍ يربط بينهما ويبني على أساس ذلك حكمه الأخلاقيّ والسياسيّ، وهو ما يتجلَّى بوضوح في حالة بولانسكي والأحداث التي رافقت تسلمه جائزة «سيزار» في فبراير/شباط 2020، وكذا حالة «هايدغر» بعد نشر النصوص التي كان قد أوصى بعدم نشرها إلّا بعد وفاته، والتي صدرت تباعاً ابتداءً من 2014 تحت عنوان «الدفاتر السوداء»، الشيء الذي جعل بعض الدارسين يعتبرون فلسفته، ليس فقط معادية للسامية، وإنما إقحام للنازية في الفلسفة. إن ربط العمل بالمُؤلِّف، واعتبارهما وحدةً لا تقبل الانفصال، كان من دون شكّ أساساً لرفع العديد من الدعاوى القضائيّة، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ضدّ مجموعة من المُؤلِّفين الذين اعتُبروا غير أخلاقيّين، لأنهم كانوا واقعيّين بإفراط. هكذا سيتابع كلٌّ من «بودلير – Baudelaire» و«فلوبير – Flaubert» و«آل غونكور – les Goncourt» ليدافعوا عن أنفسهم، أي عن حقّهم في التعبير بحرّيّة. ولعَلّ هذا ما عبَّرت عنه «سابيرو» بإيجاز قائلةً: «في الأدب كما في الغناء، وفي السينما والمسرح أو الأوبرا، تشكِّل وجهة نظر السارد والشخوص فضاءً علائقيّاً معقَّداً، تصير فيه العلاقات مع شخصيّة المُؤلِّف، حياته وقيمه، محجوبةً عنّا أحياناً بفعل عمل التخييل… ومصرَّحاً بها أحياناً أخرى» (ص 56 – 57). هكذا، ومن زاوية النظر هذه، تصبح العلاقة «مؤلِّف-نصّ» أكثر تعقيداً بالضرورة.
لقد لعبت الروايةُ الحديثة والمُعاصِرة، ولا تزال تلعب اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، دور السجل أو القائمة التي تحتوي على المُمكنات المُختلفة التي تهيمن على المجال الروائيّ، خاصّة من حيث الثيمات أو الموضوعات الأساسيّة. هكذا أصبحنا نجد مؤلِّفين مثل «بروست»، و«جيد – Gide» أو «ليريس – Leiris» قد تحرَّروا بفضل إسهامات التحليل النفسيّ وتجرؤوا على طرح اكتشافهم للجنسانيّة كثيمة أساسيّة لتخييلاتهم. كما أن كاتِباً مثل «ويلبيك» يلجأ إلى الخداع والمُراوغة في معالجة العلاقة بين المُؤلِّف وشبيهه المُتخيَّل أو المُفترض، ذلك أنه يعتبر ميثاق السيرة الذاتية جزئياً فقط، ومن ثَمَّ فالتطابق بين المُؤلِّف وبطله يظلّ ناقصاً على الدوام. لا بدّ إذن من عناصر خارجيّة بالنسبة للعمل ومؤلِّفه من أجل توضيح الموقف الحقيقيّ للكاتِب، وهي عناصر ترتبط من جهةٍ، بـ«الهابيتوس» الفرديّ لهذا الأخير، «ما اعتاده من سلوكات وممارسات»، ومن جهةٍ أخرى، باختيارات ثيماتية وإستطيقيّة يجب تحديدها وتمييزها داخل متن العمل نفسه. وفي حالات أخرى يتمُّ الاستناد إلى الدوافع الداخليّة لنوايا ومقاصد العمل، من منظورٍ سارتري نوعاً ما. هكذا تمَّت محاكمة أعمال «أوجين سو – Eugène Sue» و«بودلير – Baudelaire»، والعديد من المُثقَّفين، بعد الحرب، على أساس ضلوعهم في التخابر مع العدو، مع تمتيعهم بـ«الحق في الخطأ»، وهذا الأمر يتوقَّف على المعنى والمكانة التي يعطيها هؤلاء لأعمالهم حسب اللحظة التاريخيّة أو العصر.
قد لا يتَّسع المقام لعرض مختلف النماذج التي عالجتها سابيرو في القسم الثاني من كتابها؛ وإذا نحن اقتصرنا على حالة بولانسكي فإن القضية المطروحة بحدة هي: هل تتويج العمل هو تبرئة لصاحبه؟ لا شكّ أن جواب الجمعيّات النسويّة هو «نعم»: إن تكريم بولانسكي هو تبرئة له، أو بالأحرى تحجيم وتقزيم رمزيّ لخطورة العنف الذكوريّ. فهذه الجمعيات ترفض فصل العمل عن صاحبه كشخص، أو فصل الفنَّان عن الشخص. والمُشكل بالنسبة إليها لا يكمن في العمل، وإنما في «دلالة التتويج». وتستند حجيّة هذا الموقف إلى صحة قيمة الحكم الأخلاقيّ دون الدعوة إلى إلغاء الفنَّانين والمُثقَّفين مبدئياً. إنهم لا يعيشون خارج المُجتمع، كما أنهم يتحمَّلون مسؤوليّة شخصيّة، شأنهم في ذلك شأن الجميع. إلّا أن موقفاً كهذا يمكن أن يعبِّد الطريق أمام فرض المزيد من الرقابة على الأعمال الإبداعيّة لأسبابٍ خارجيّة، سياسيّة أو أخلاقيّة، تتعلَّق إمّا بسياق التلقي أو بالحكم على الأفكار المُتضمّنة فيها أو بشخص المُؤلِّف نفسه. إن «ثقافة الإلغاء – Cancel Culture» التي تطالب بمحو وإقصاء بعض الأعمال السابقة نظراً لحساسية أخلاقيّة وسياسيّة راهنة، أو التي تحظر مثلاً على فنَّان أو مبدع أبيض أن يكتب عن العبوديّة، تمثِّل الشطط الأقصى لهذا الدمج بين العمل والمُؤلِّف. إن عدم الإقرار بأية استقلاليّة للعمل الفنّي يؤدّي إلى محاكمة الفَنّ نفسه. أمّا أنصار «بولانسكي» فإنهم يؤكِّدون على ضرورة الحكم على العمل في ذاته، والنظر إلى قيمته الداخليّة، أي الفنِّيّة، والتي لا دخل فيها للسلوكات الصادرة عن شخص المُؤلِّف. إنهم يفصلون العمل عن المُؤلِّف، ويفكُّون الارتباط بين أخلاقيّة العمل وأخلاقيّة المُؤلِّف، ويدافعون عن استقلاليّة العمل باسم حرّيّة الفَنّ. كما أنهم يفكُّون الارتباط بين الفَنّ والعدالة أيضاً، على أساس أن الحكم الفنّي يجب أن يكون مستقلاً تماماً عن الحكم القضائيّ أو الحكم الاجتماعيّ، وهذا هو ما تسمّيه سابيرو «الموقف الجماليّ الخالص – position esthète»، وهو تقليد قديم في الثقافة الغربيّة، رغم أن الهيئات المُدافِعة عن حرّيّة الفَنّ لم تحصل على أي اعتراف قانونيّ يمنح للعمل أو للفنَّان وضعاً استثنائيّاً. يظل الفنَّان خاضعاً للقواعد التي تحد وتحصر حرّيّة التعبير «التحريض على الكراهية أو العنف ضدّ أفراد أو مجموعات بسبب أصولهم أو ديانتهم أو لونهم أو غير ذلك». ربّما من حسنات هذا الموقف الجماليّ أنه يعمل على حماية الحرّيّة الفكريّة والجماليّة من أي تدخل لسلطة خارجيّة عن الحقل الثقافيّ، سواء كانت أخلاقيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة. في هذا السياق يقول الناقِد «بيير جورد – Pierre Jourde» مدافعاً عن «بولانسكي»: «يعجُّ تاريخ الفَنّ بهؤلاء الأوغاد الذين هم أيضاً فنَّانون كبار، والأخلاق لا دخل لها في الإبداع». إلّا أن تقديس الفَنّ وسيادة الحكم الذوقي بعيداً عن أي اعتراض سياسيّ أو أخلاقيّ يمكن أن يقود إلى «الشطط في استخدام السلطة»، كما حدث مثلاً مع الكاتِب «ماتزنيف» الذي ظلّ لمدة طويلة يدافع عن ممارساته المَرضيّة وفي تساهل تام من جانب النُقَّاد بذريعة حرّيّة الفَنّ. ورغم كلّ هذا فقد تمَّ قبول «بولانسكي» عضواً في أكاديمية الفنون وتقنيات السينما «أكاديمية المُتوَّجين بجائزة سيزار»، وذلك في 15 سبتمبر/أيلول 2020.
أمّا موقف «سابيرو» من هذا السجال، فيمكن أن نستشفه من خلال قولها: «لا يمكننا الفصل بين المُؤلِّف وعمله، لأن العمل يحمل أثر رؤيته للعالَم ولمواقفه الإتيقية-السياسيّة، وقد تمَّ إعلاؤها وإضفاء صورة مجازية عليها من خلال الشكل الذي يقدِّم به عمله» (ص 232). هكذا تميل «سابيرو» إلى إقرار مسؤوليّة واقعيّة للمُؤلِّف مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار قيمة الأعمال المُنجزة، فهل انتهى زمن البراءة، وهل فقد المُؤلِّف مناعته وحصانته؟ هل يكون هذا هو ثمن الحفاظ على الفَنّ والآداب كقوى فاعلة، تساهم في النقاش الاجتماعيّ كما في التربية الأخلاقيّة للأفراد؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- Gisèle Sapiro, «Peut-on dissocier l’œuvre de l’auteur ?» Seuil,2020.