المُنعطف الأخلاقيّ.. في علاقة المُؤلِّف بأعماله

عاد النقاشُ مجدَّداً إلى الساحةِ الفنِّيّة والثقافيّة، حول علاقة بعض المُؤلِّفين المُتورطين في قضايا سياسيّة أو أخلاقيّة، بأعمالهم وإبداعاتهم، مثل «رومان بولانسكي – Roman Polanski»، «بيتر هاندكه – Peter Handke»، «ميشيل ويلبيك – Michel Houellebecq»، «غابرييل ماتزنيف – Gabriel Matzneff»، وهو ما يذكِّر بحالات أخرى سابقة، مثل حالة «سيلين – Céline» أو حالة «هايدغر – Heidegger». ماذا عن مصير أعمال هؤلاء، وما هو الموقف الذي يجب اتخاذه إزاءها؟ هل يجب قبولها كاملةً كأعمال، بغض النظر عن التورُّط الأخلاقيّ أو السياسيّ لأصحابها، أم يجب رفضها والإعراض عنها كما يميل إلى ذلك أنصار ثقافة المحو والإلغاء؟

هل يحقّ للزوجةِ السابقة للكاتِب «إيمانويل كارير Emmanuel Carrère» منعه من استحضارها وذكرها في مؤلَّفاته؟ وهل وجب منح «رومان بولانسكي» جائزة «سيزار – César» في الوقت الذي يُتابَع فيه بتهمة الاغتصاب؟ وكذا منح جائزة نوبل لـ«بيتر هاندكه» وقد ساند الصرب خلال حرب يوغوسلافيا؟ وهل فلسفة «هايدغر» معادية للسامية؟ هل يجب منع إعادة نشر كتيبات «سيلين»، وفرض الرقابة على أغاني الراب المُروِّجة لكراهية النساء للرابور «أورلسان – Orelsan»، وسحب لوحات «غوغان Gauguin» من المتاحف بذريعة أنه أساء إلى عارضاته الصغيرات؟ هل ويلبيك معادٍ للإسلام؟ وهل كان نقَّاد الأدب مذنبين في تساهلهم إزاء بيدوفيليا الكاتِب غابرييل ماتزنيف؟ اللائحة طويلة لأمثال هذه «القضايا» التي نودُّ أن يكون لنا فيها موقفٌ أخلاقيّ سديد وحازم وقابل للتعميم. إلّا أن مثل هذا الموقف لا يمكن أن يقوم على ثنائية من «مع» ومن «ضد»، وإنما على أساس أن كلَّ حالة يجب معالجتها على حدة، رغم أنها، جميعها، تضعنا أمام السؤال الذي اختارته «جيزيل سابيرو – Gisèle Sapiro» عنواناً لكتابها الأخير: «هل يمكن الفصل بين العمل والمُؤلِّف؟»(1)، محاولة الجواب من خلال الوقوف على كلّ حالة على حدة وأيضاً استخدام كلّ معيار للحكم على حدة، توخياً للشمول والدقة، ورغبة في تجاوز الطابع الثنائي للسجالات السائدة. ورغم أننا لا نهدف إلى تقديم مراجعة لهذا الكتاب، إلّا أن ذلك لا يمنع من إلقاء الضوء على ما هو أساسيّ فيه: منطلقاته، منهجه، ونتائجه.

بعد أن تشكَّل الأدبُ منذ القرن التاسع عشر كمجالٍ مستقلّ عن الأخلاق، وقد دأب على الفصل التام والنهائيّ بين الجمال والخير «الفَنّ والأخلاق»، وجد نفسه اليوم في قبضة ما يمكن تسميته بـ«المُنعطف الإتيقي – le tournant éthique»: يفترض حتماً في الآداب أنها منتجة لقيم ومسؤولة عمّا يترتَّب عنها من نتائج. كما أن الحساسية المُعاصِرة التي يغذّيها رفض المظالم وإغراء اللجوء المنظم إلى القانون وكذا مساءلة مبدأ استقلاليّة الأعمال الجماليّة، لم تعد تستثني المُبدعين أنفسهم من هذه المسؤوليّات القانونيّة. لقد أصبح الكاتِب قابلاً للتجريم بعد أن فقد الحماية التي كان يحيطه بها ذلك التمييز الذي أقامه «مارسيل بروست Marcel Proust» بين الشخص الاجتماعيّ والكاتِب. فبعد زمنٍ طويل من التقدير والحماية التي حظي بها الكُتَّاب، نجد اليوم كاتِباً مثل «ماتزنيف»، وبعد أن تمتَّع بالامتيازات المُرتبطة بالبراديغم الحديث في الاختراق الفنّي، قد أصبح يعيش مأساة هذا التحوُّل في البراديغم، وصار خلال بضعة أسابيع فقط، رمزاً لبيدوفيليا راقية، تعامل معها بعض النُقَّاد بتسامح كبير، في حين أن المكان الطبيعيّ لصاحبها هو السجن في نظر البعض الآخر. صحيح أن هناك تخوُّفات كثيرة من انحراف طهرانية الإلزامات الإتيقية التي تستهدف الكُتَّاب والمُبدعين ووضع أعمالهم تحت مجهر التحقيق، بحيث أصبحنا نعيش اليوم حروباً، أو بالأحرى صدامات عنيفة، بين معسكر الطهرانية الإتيقية ومعسكر حرّيّة وحصانة الكاتِب والمُبدع في حياتهما الشخصيّة، ولعَلّ ظاهرة كهذه تفرض إيجاد حلّ لهذه الخلافات وتقديم أدوات إجرائيّة مناسبة لتحليلها.

يكشف هذا السجال حول إتيقا الإبداع عن توجُّهين يمثِّلان نموذجين مثاليين لعلاقة المُؤلِّف بعمله: نموذج أول يدعو إلى الفصل التام بينهما، في مقابل نموذج ثانٍ يربط بينهما ويبني على أساس ذلك حكمه الأخلاقيّ والسياسيّ، وهو ما يتجلَّى بوضوح في حالة بولانسكي والأحداث التي رافقت تسلمه جائزة «سيزار» في فبراير/شباط 2020، وكذا حالة «هايدغر» بعد نشر النصوص التي كان قد أوصى بعدم نشرها إلّا بعد وفاته، والتي صدرت تباعاً ابتداءً من 2014 تحت عنوان «الدفاتر السوداء»، الشيء الذي جعل بعض الدارسين يعتبرون فلسفته، ليس فقط معادية للسامية، وإنما إقحام للنازية في الفلسفة. إن ربط العمل بالمُؤلِّف، واعتبارهما وحدةً لا تقبل الانفصال، كان من دون شكّ أساساً لرفع العديد من الدعاوى القضائيّة، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ضدّ مجموعة من المُؤلِّفين الذين اعتُبروا غير أخلاقيّين، لأنهم كانوا واقعيّين بإفراط. هكذا سيتابع كلٌّ من «بودلير – Baudelaire» و«فلوبير – Flaubert» و«آل غونكور – les Goncourt» ليدافعوا عن أنفسهم، أي عن حقّهم في التعبير بحرّيّة. ولعَلّ هذا ما عبَّرت عنه «سابيرو» بإيجاز قائلةً: «في الأدب كما في الغناء، وفي السينما والمسرح أو الأوبرا، تشكِّل وجهة نظر السارد والشخوص فضاءً علائقيّاً معقَّداً، تصير فيه العلاقات مع شخصيّة المُؤلِّف، حياته وقيمه، محجوبةً عنّا أحياناً بفعل عمل التخييل… ومصرَّحاً بها أحياناً أخرى» (ص 56 – 57). هكذا، ومن زاوية النظر هذه، تصبح العلاقة «مؤلِّف-نصّ» أكثر تعقيداً بالضرورة.

لقد لعبت الروايةُ الحديثة والمُعاصِرة، ولا تزال تلعب اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، دور السجل أو القائمة التي تحتوي على المُمكنات المُختلفة التي تهيمن على المجال الروائيّ، خاصّة من حيث الثيمات أو الموضوعات الأساسيّة. هكذا أصبحنا نجد مؤلِّفين مثل «بروست»، و«جيد – Gide» أو «ليريس – Leiris» قد تحرَّروا بفضل إسهامات التحليل النفسيّ وتجرؤوا على طرح اكتشافهم للجنسانيّة كثيمة أساسيّة لتخييلاتهم. كما أن كاتِباً مثل «ويلبيك» يلجأ إلى الخداع والمُراوغة في معالجة العلاقة بين المُؤلِّف وشبيهه المُتخيَّل أو المُفترض، ذلك أنه يعتبر ميثاق السيرة الذاتية جزئياً فقط، ومن ثَمَّ فالتطابق بين المُؤلِّف وبطله يظلّ ناقصاً على الدوام. لا بدّ إذن من عناصر خارجيّة بالنسبة للعمل ومؤلِّفه من أجل توضيح الموقف الحقيقيّ للكاتِب، وهي عناصر ترتبط من جهةٍ، بـ«الهابيتوس» الفرديّ لهذا الأخير، «ما اعتاده من سلوكات وممارسات»، ومن جهةٍ أخرى، باختيارات ثيماتية وإستطيقيّة يجب تحديدها وتمييزها داخل متن العمل نفسه. وفي حالات أخرى يتمُّ الاستناد إلى الدوافع الداخليّة لنوايا ومقاصد العمل، من منظورٍ سارتري نوعاً ما. هكذا تمَّت محاكمة أعمال «أوجين سو – Eugène Sue» و«بودلير – Baudelaire»، والعديد من المُثقَّفين، بعد الحرب، على أساس ضلوعهم في التخابر مع العدو، مع تمتيعهم بـ«الحق في الخطأ»، وهذا الأمر يتوقَّف على المعنى والمكانة التي يعطيها هؤلاء لأعمالهم حسب اللحظة التاريخيّة أو العصر.

قد لا يتَّسع المقام لعرض مختلف النماذج التي عالجتها سابيرو في القسم الثاني من كتابها؛ وإذا نحن اقتصرنا على حالة بولانسكي فإن القضية المطروحة بحدة هي: هل تتويج العمل هو تبرئة لصاحبه؟ لا شكّ أن جواب الجمعيّات النسويّة هو «نعم»: إن تكريم بولانسكي هو تبرئة له، أو بالأحرى تحجيم وتقزيم رمزيّ لخطورة العنف الذكوريّ. فهذه الجمعيات ترفض فصل العمل عن صاحبه كشخص، أو فصل الفنَّان عن الشخص. والمُشكل بالنسبة إليها لا يكمن في العمل، وإنما في «دلالة التتويج». وتستند حجيّة هذا الموقف إلى صحة قيمة الحكم الأخلاقيّ دون الدعوة إلى إلغاء الفنَّانين والمُثقَّفين مبدئياً. إنهم لا يعيشون خارج المُجتمع، كما أنهم يتحمَّلون مسؤوليّة شخصيّة، شأنهم في ذلك شأن الجميع. إلّا أن موقفاً كهذا يمكن أن يعبِّد الطريق أمام فرض المزيد من الرقابة على الأعمال الإبداعيّة لأسبابٍ خارجيّة، سياسيّة أو أخلاقيّة، تتعلَّق إمّا بسياق التلقي أو بالحكم على الأفكار المُتضمّنة فيها أو بشخص المُؤلِّف نفسه. إن «ثقافة الإلغاء – Cancel Culture» التي تطالب بمحو وإقصاء بعض الأعمال السابقة نظراً لحساسية أخلاقيّة وسياسيّة راهنة، أو التي تحظر مثلاً على فنَّان أو مبدع أبيض أن يكتب عن العبوديّة، تمثِّل الشطط الأقصى لهذا الدمج بين العمل والمُؤلِّف. إن عدم الإقرار بأية استقلاليّة للعمل الفنّي يؤدّي إلى محاكمة الفَنّ نفسه. أمّا أنصار «بولانسكي» فإنهم يؤكِّدون على ضرورة الحكم على العمل في ذاته، والنظر إلى قيمته الداخليّة، أي الفنِّيّة، والتي لا دخل فيها للسلوكات الصادرة عن شخص المُؤلِّف. إنهم يفصلون العمل عن المُؤلِّف، ويفكُّون الارتباط بين أخلاقيّة العمل وأخلاقيّة المُؤلِّف، ويدافعون عن استقلاليّة العمل باسم حرّيّة الفَنّ. كما أنهم يفكُّون الارتباط بين الفَنّ والعدالة أيضاً، على أساس أن الحكم الفنّي يجب أن يكون مستقلاً تماماً عن الحكم القضائيّ أو الحكم الاجتماعيّ، وهذا هو ما تسمّيه سابيرو «الموقف الجماليّ الخالص – position esthète»، وهو تقليد قديم في الثقافة الغربيّة، رغم أن الهيئات المُدافِعة عن حرّيّة الفَنّ لم تحصل على أي اعتراف قانونيّ يمنح للعمل أو للفنَّان وضعاً استثنائيّاً. يظل الفنَّان خاضعاً للقواعد التي تحد وتحصر حرّيّة التعبير «التحريض على الكراهية أو العنف ضدّ أفراد أو مجموعات بسبب أصولهم أو ديانتهم أو لونهم أو غير ذلك». ربّما من حسنات هذا الموقف الجماليّ أنه يعمل على حماية الحرّيّة الفكريّة والجماليّة من أي تدخل لسلطة خارجيّة عن الحقل الثقافيّ، سواء كانت أخلاقيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة. في هذا السياق يقول الناقِد «بيير جورد – Pierre Jourde» مدافعاً عن «بولانسكي»: «يعجُّ تاريخ الفَنّ بهؤلاء الأوغاد الذين هم أيضاً فنَّانون كبار، والأخلاق لا دخل لها في الإبداع». إلّا أن تقديس الفَنّ وسيادة الحكم الذوقي بعيداً عن أي اعتراض سياسيّ أو أخلاقيّ يمكن أن يقود إلى «الشطط في استخدام السلطة»، كما حدث مثلاً مع الكاتِب «ماتزنيف» الذي ظلّ لمدة طويلة يدافع عن ممارساته المَرضيّة وفي تساهل تام من جانب النُقَّاد بذريعة حرّيّة الفَنّ. ورغم كلّ هذا فقد تمَّ قبول «بولانسكي» عضواً في أكاديمية الفنون وتقنيات السينما «أكاديمية المُتوَّجين بجائزة سيزار»، وذلك في 15 سبتمبر/أيلول 2020.

أمّا موقف «سابيرو» من هذا السجال، فيمكن أن نستشفه من خلال قولها: «لا يمكننا الفصل بين المُؤلِّف وعمله، لأن العمل يحمل أثر رؤيته للعالَم ولمواقفه الإتيقية-السياسيّة، وقد تمَّ إعلاؤها وإضفاء صورة مجازية عليها من خلال الشكل الذي يقدِّم به عمله» (ص 232). هكذا تميل «سابيرو» إلى إقرار مسؤوليّة واقعيّة للمُؤلِّف مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار قيمة الأعمال المُنجزة، فهل انتهى زمن البراءة، وهل فقد المُؤلِّف مناعته وحصانته؟ هل يكون هذا هو ثمن الحفاظ على الفَنّ والآداب كقوى فاعلة، تساهم في النقاش الاجتماعيّ كما في التربية الأخلاقيّة للأفراد؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- Gisèle Sapiro, «Peut-on dissocier l’œuvre de l’auteur ?» Seuil,2020.

إمبراطوريّة الاكتئاب.. تاريخ جديد لـ«جائِحة القرن»

يأتي كتاب «إمبراطوريّة الاكتئاب: تاريخ جديد – The Empire of Depression: A New History» لمُؤرِّخ الطب «جوناثان سادوسكي – Jonathan Sadowsky» لمُحاولة رسم الخطوط العريضة لتاريخ معاصِر لمرض الاكتئاب في علاقته بالجماعات العلميّة، المنظومة الرأسماليّة، الثورة التقنية، نمط الحياة المُعاصِرة والمرضى أنفسهم. فكيف أسهمت الثورة التقنية والصناعيّة الجديدة في تعاظم «خطر» الاكتئاب؟ وإلى أي حدّ استطاعت المنظومة الرأسماليّة الهيمنة على مخرجات الطب التجريبيّ وربط الحزن الإنسانيّ بالاكتئاب من أجل تحرير سوق الأدوية؟ وأي تأثير لصدمة الجَائِحة على الصحّة العقليّة والنفسيّّة للإنسانيّة؟

أسهمت الثورات الصناعيّة والتقنية التي عايشتها البشريّة طيلة القرون الثلاثة الأخيرة في دفع أنماط الحياة الاجتماعيّة والنفسيّّة للإنسان نحو حدودها القصوى. فمنذ ظهور التصنيع والتمدين، وصولاً إلى الحياة الدائمة الاتصال وثورة البيانات الضخمة (The Big Data)، أصبحت الإنسانيّة تتفاعل مع قدر كبير من المُعطيات، المعلومات، التقنيات وأنماط الحياة الجديدة التي لم تعايشها طيلة (316) ألف سنة من وجودها. فوحده الانتقال من نمط الحياة القروية نحو الحياة الحضرية والتفاعل اليومي مع مليارات المعلومات بعالم الأنفوسفير، كفيل بأن يغيّر نظرة الإنسان لذاته، للعالم وللآخرين. وفي نفس الوقت، يرفع من درجة وحدة «الضغوطات» الشعورية واللاشعورية التي تنتج عن هذا التفاعل المُستمر مع «العصر الجديد». إضافة إلى ذلك، وتحت ضغط رهان الرفع من القدرة الإنتاجية للتنظيمات الصناعية، تمَّ توجيه جهود البحث العلمي والطبي نحو تطوير القدرات البدنية وعلاج الأمراض والأوبئة، التي تكبح سيرورة الإنتاج والاستهلاك بالضرورة، في تغافل شبه تام عن الأمراض والاضطرابات النفسيّّة. وتبعاً لذلك، لم يكن هناك اهتمام كبير بالطب النفسيّ، نظراً لمحدودية الأثر الاقتصاديّ لهذا النمط من البحث العلمي من جهةٍ، وانتشار التمثُّلات الثقافيّة والاجتماعيّة السلبية حول هذه الاضطرابات نفسها من جهةٍ أخرى. لهذا، ورغم ترافق تطوُّر حدّة الاضطرابات النفسيّّة بضغوط العمل والحياة الحضرية الجديدة، إلّا أنه كان علينا الانتظار إلى لحظة تطور الطب التجريبي خلال النصف الثاني من القرن الماضي وانتباه المنظومة الرأسماليّة للإمكانات التي يوفّرها سوق الأدوية والأمراض النفسيّة لتزايد الاهتمام بها. نتيجة لكلّ ذلك، ستطفو على السطح «إمبراطورية الاكتئاب» بوصفها لحظة مصالحة إنسانية مع الأمراض النفسيّة في ثوب يتداخل فيه الاقتصاديّ بالعلميّ والنفسيّّ بالثقافيّ ليصنع أحد أهمّ ألغاز العصر؛ سواء فيما يخص التشخيص أو العلاج.

في الواقع، تعد مختلف الأمراض والاضطرابات النفسيّّة، بما فيها الاكتئاب، ملازمة لتاريخ البشريّة وعايشتها جلّ الحضارات الإنسانيّة. صحيح أن الثورات التقنية والصناعية قد رفعت من حدة هذه الاضطرابات، إلّا أنها لم تصنعها بالضرورة بقدر ما فتحت المجال أمام الدماغ البشريّ للتفاعل مع ضغوطات الحياة الحضرية والتقنية الجديدة. وتبعاً لهذا، وبما أن الانتقال من نمط الزراعة إلى التصنيع قد مرّ بشكلٍ سريع، مقارنة بآلاف السنين التي قضاها الإنسان بالعيش على الصيد والثمار، فإن العلوم العصبية تذكرنا بأن التركيبة العصبية للدماغ البشري لـ«إنسان الراهن» غير قادرة على التعامل مع هذا القدر الكبير من الضغوطات والمعلومات التي ولدتها الثورات الصناعيّة والتقنية خلال القرون الثلاثة الأخيرة. إضافة إلى أن عالم الأنفوسفير قد كان له دورٌ كبير في رفع نسبة التفاعلات والبيانات التي يتلقّاها الإنسان بالعالم الرقميّ. لذلك، كان من الطبيعيّ أن تنخرط الإنسانية في «أزمة الصحة النفسيّة» طيلة القرنين الماضيين. لكن، لماذا يتمُّ ربط هذه الضغوطات والتفاعلات الرقميّة، التي يتعايشها الإنسان بشكل يومي، بمرض الاكتئاب؟

في نفس السياق، يهدف المُؤرِّخ الأميركيّ «جوناثان سادوسكي» في كتابه «إمبراطوريّة الاكتئاب: تاريخ جديد»(1) إلى محاولة وضع تأريخ معاصِر للحدود النفسيّّة والاجتماعيّة الفاصلة بين الحزن، السوداوية والكآبة ومرض الاكتئاب. أمام تطوُّر الطب التجريبيّ والقبول الاجتماعيّ لمقولات المرض النفسيّّ، ازدادت نسب الإصابة، الكشف، البحث عن العلاج والنقاشات العامة حول مرض الاكتئاب في جل أرجاء العالم. لهذا، يؤكِّد سادوسكي على أن الاكتئاب ليس وليد ثقافة المركز بقدر ما هو ظاهرة عرفتها وتعايشها جلّ المُجتمعات(2)، فضلاً عن إسهام الشروط الثقافيّة والاجتماعيّة في تعزيزه بنفس درجة المُحددات البيولوجيّة والنفسيّّة. ففي نهاية المطاف، يظل المرض بناء اجتماعيّاً مرتبطاً بالثقافة التي «تقرِّر ما هو طبيعيّ وما هو غير طبيعيّ»(3) بالنسبة للفرد. في الواقع، وفي سياق هذا القبول المُجتمعيّ لمقولات المرض النفسيّّ، أصبحت مختلف الاضطرابات النفسيّة اليوميّة والبسيطة تدرج في خانة «المرض النفسيّ»، نظراً لصعوبة التشخيص من جهةٍ، وخصوبة سوق الأدوية النفسيّة من جهةٍ أخرى. لذلك، وبقدر الخطورة التي يشكِّلها الاكتئاب على الحياة النفسيّة للإنسان المُعاصِر، فإن هذا الهوس الجمعيّ بالمرض قد أسهم في بناء «إمبراطوريّة الاكتئاب» التي يتداخل فيها الثقافيّ بالنفسيّ، العلميّ والاقتصاديّ(4) لتحويل الحزن الاعتياديّ إلى اضطراب ومرض تحت ثقل الثقافة الاجتماعيّة للمرض أكثر من المرض نفسه.

جوناثان سادوسكي

بعد أن كان الكلّ مضطرباً بالأمس من وصم المرض النفسيّ، أصبح الجميع اليوم خائفاً من هذه الأمراض في سياق مجتمع المخاطر المُنعدمة. لهذا، أضحى الناس يقبلون، بطواعية، على كشوفات نفسيّة -متغيّرة المعايير باستمرار وغير واعدة فيما يخص النتائج- من أجل البحث عن علاج لحالات كآبة وحزن ظلَّت طبيعيّة واعتيادية طيلة تاريخ البشريّة الطويل. صحيح أن حدة هذه الاضطرابات قد زادت، كما أن ثقافة المرض النفسيّ لازالت غير منتشرة على نطاقٍ واسع، إلّا أن المنظومات الرأسماليّة قد انخرطت لعقود في صراعات طويلة مع الجماعات العلمية لربط علاج الأمراض النفسيّة بالعقارات وتحرير سوق الطب النفسيّ بالضرورة. وعليه، وأمام ربط اشتغال الطب التجريبيّ والعقارات التجريبية بالمنطق الوقائي قبل العلاجي، أصبحت إمبراطورية الاكتئاب تشتغل على الحدود الفاصلة بين عالم الحزن وعالم المرض النفسيّ. وفي ظل هذه الضبابية، تزايدت حدة الانقسامات بين الجماعات العلميّة، الساسة، رجال الاقتصاد والعموم، ولم تسهم سوى في تضخيم الصورة الجمعية للمرض عوض البحث عن بناء تشخيص دقيق وعلاجات واعدة له.

ليس المرض النفسيّ دائماً سيئاً. وفقاً لهذا المنظور، تمَّ ربط مختلف الاضطرابات النفسيّة بالمقولات الفلسفيّة للإبداع. لكن، وفي الآن نفسه، تمَّ فتح المجال أمام تزكية المركزية الغربية في بناء هذه الأمراض. لطالما ساد الاعتقاد بأن الاكتئاب مقترن بالثقافة الغربيّة(5)، نمط الحياة الحضرية أو جغرافيا الفكر (الشمالي)، التقنية والثورة الصناعيّة بالضرورة. إضافة إلى ذلك، لازال الصراع القائم بين الجماعات العلميّة منحصراً حول البحث عن الشرط العضويّ أو النفسيّ للمرض. كما أن «الهوس» الرأسماليّ بالطب التجريبيّ أعاد التشكيك في مصداقية وفعالية الطب النفسيّ وتصوُّر المرض النفسيّ بالأساس. استناداً إلى هذا الوضع، يشير «سادوسكي» إلى ضرورة تجاوز هذه الثنائيات السطحية(6) والتأكيد على أن لكلّ مقاربة أو تفسير علمي ما يقدِّمه، سواء تعلَّق الأمر بالطبيعيات أو الاجتماعيات. ففي نهاية المطاف، تستهلك هذه الثنائيات جزءاً كبيراً من جهود الجماعات العلمية وتنعكس سلباً على تطوُّر المُقاربات والنظريّات العلميّة بالمجال وتسهم كذلك في مزيد من نزع الشرعية الاجتماعيّة والاقتصاديّة عن مختلف التخصُّصات القابعة على الحدود بين الاجتماعيّات والإنسانيّات.

ختاماً، اقترن الاهتمام العلميّ والمُجتمعيّ بالاكتئاب بثورة الطب التجريبيّ وانفتاحه على قطاع الأدوية والعقاقير. صحيح أن هذا المرض ملازم لتاريخ الإنسانيّة بالضرورة، في حين أن الثورات التقنية والصناعيّة لم تعمل سوى على الرفع من وتيرته وتعزيز المُصالحة الجمعية مع الأمراض النفسيّة على حساب الحالات الاعتيادية والسوية، إلّا أنه لازال إلى اليوم بلا تشخيص دقيق أو علاج واعد. لقد أسهمت الثنائيات المُحايثة لتطوُّر النظر العلميّ إلى المرض (العضويّ/النفسيّ، الاقتصاديّ/الثقافيّ، وغيرها) في تزايد الانقسام الحاصل بين الجماعات العلميّة بالشكل الذي ضخَّم من الصورة المُجتمعية للمرض. وعليه، أصبح الاكتئاب خلال القرنين الماضيين قابعاً بين حدود القلق والكآبة أكثر من الاكتئاب نفسه. اليوم، أعادت الجَائِحة تسليط الضوء على هشاشة الصحّة النفسيّة والعقليّة للإنسان المُعاصِر بالشكل الذي سيعمِّق من حدة الانقسامات الحاصلة بين الجماعات العلمية، مع ارتفاع رقم معاملات شركات الأدوية والعقارات، دون أن تنتهي هذه السجالات بتوافق فيما بينها حول النهج المُتداخل الاختصاصي والتفكير في مسابقة الزمن لعلاج المرض بالأساس. إن صراعنا الطويل مع الاكتئاب ظلّ صراعاً مع خوفنا منه. لهذا، يجب على سجالات ما بعد الجَائِحة أن تتجاوز الانقسامات والرهانات الاقتصاديّة للبحث عن علاجات واعدة لأمراض العصر (الاكتئاب، السرطان، السيدا، الزهايمر، وغيرها) التي تهدِّد صحّتنا العامة ونوعنا البشريّ في المُستقبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

  • Jonathan Sadowsky, The Empire of Depression: A New History, Polity, 2020.
  • https://www.psychiatrictimes.com/view/people-history-depression
  • China Mills, When is sorrow sickness? A history of depression : A book traces the shifting lines between sadness and illness, but not who gets to, Nature 587, pp. 541-542 (2020).
  • Jonathan Sadowsky, The Empire of Depression: A New History, Op. Cit, p : 7-8.
  • ibid, p : 51.
  • China Mills, When is sorrow sickness? A history of depression : A book traces the shifting lines between sadness and illness, but not who gets to, Op. Cit, p : 542.

لوك فيري: نحن نعيش ثورة صناعيّة ثالثة

في مقالته الأخيرة، «الثورة ما بعد الإنسانيّة» (منشورات بلون)، يرى «لوك فيري» أن الآفاق التي تفتحتها أمامنا الابتكارات التكنولوجيّة والعلميّة مبهجة ومقلقة على حد السواء. فيما يلي حوار أجريناه مع هذا الفيلسوف، في وقتٍ أصبح فيه الذكاء الاصطناعيّ يُثير العديد من الأسئلة حول مستقبل الإنسان والكوكب.

هل يجب أن نشعر بالخوف من الابتكار العلمي التقني ومن الذكاء الاصطناعي؟

– لوك فيري: إن النزوع نحو ما بعد الإنسانيّة هو ما يطرح مشكلة على نحو خاص. فهذا تيار فكري فلسفي وعلمي يأتينا من الولايات المُتحدة. وأوروبا لم تتعرَّف عليه بعد بشكلٍ جيّد. فبفضل التمويلات الضخمة اليي تمنحها العديد من الجهات من ضمنها شركة «جوجل»، والتي تعدُّ بملايير الدولارات، اتخذ هذا التيار أهمِّيّة كبرى على الضفة الأخرى من المُحيط الأطلسي، وحرّرت حوله آلاف الإصدارات وأقيمت له العديد من الحلقات الدراسية، كما دارت بشأنه مناقشات ساخنة بين كبار المُفكِّرين أمثال فرانسيس فوكوياما، ميكاييل سانديل أو يورغن ها برماس. وهو يهدف أولاً إلى الانتقال من الطب العلاجي التقليدي -الذي ظلّ لآلاف السنين يرمي إلى غرض واضح وهو العلاج أي «إصلاح» الأجسام المُصابة أو المريضة- إلى نموذج «زيادة» أو تحسين الإمكانات الوراثية للجنس البشريّ. ومن هنا جاء الطموح إلى مكافحة الشيخوخة والزيادة في أمد الحياة لدى الإنسان، ليس فقط من خلال محاولة القضاء على الوفيات المُبكِّرة، كما دأب على ذلك الأطباء منذ القرن الثامن عشر، ولكن باستخدام التطبيب التكنولوجي والهندسة الوراثية والتهجين البشري/الآلي، لجعل البشر يعيشون لفترة أطول بكثير. والهدف النهائي من ذلك هو التوفيق بين الشباب والشيخوخة.

هل هي إذن محاولة للحصول في آنٍ واحد على قوة الشباب والحكمة التي لا تتأتَّى إلّا مع التقدُّم في العمر؟

– ل. ف.: هذه النقطة تعجبني كثيراً. فإذا افترضنا أننا سنتمكن يوماً ما من أن نعيش وقتاً أطول بكثير، إذن سيكون بمقدورنا أن نشهد ميلاد إنسانية ستكون شابة ومسنة في الآن نفسه، غنية بالعديد من التجارب التي يتيحها العيش المديد، ولكنها تتمتَّع بكامل الصحة الجسديّة والفكريّة. في الوقت الحالي، لا يوجد دليل فعلي على أن هذا سيكون ممكناً بالنسبة للبشر، على الرغم من أن بعض الباحثين في جامعة «روتشستر Rochester» قد نجحوا في إطالة عمر بعض الفئران المُعدَّلة وراثياً بنسبة 50 %. ومع ذلك، فمَنْ ذا الذي يستطيع أن يتنبأ بما ستكون عليه التقانة الطبية والتكنولوجيا المتناهية الصغر والذكاء الاصطناعيّ والجراحة الحيوية في القرن المُقبل؟ يجب علينا أن نستبق منذ الآن المشاكل الأخلاقيّة والسياسيّة والميتافيزيقيّة التي ستثيرها هذه المُقاربة الجديدة لمُمارسة الطب. وأضيف أن هناك جانباً آخر من المشروع الما بعد إنسانيّ يبدو مثيراً للاهتمام بالنسبة لي: فبعد الصراع ضد عدم المُساواة الاجتماعيّة المُرتبطة بقيام دولة الرفاه الاجتماعيّ، يعتزم أنصار التيار الما بعد إنسانيّ أن يصارعوا ضد اللاتكافؤات الطبيعيّة. فاليانصيب الجيني لا يرى ولا يحس، وهو غير أخلاقيّ وغير عادل، وإذا كانت الإرادة الحرّة للإنسان قادرة على تصحيح ذلك فسيكون ذلك نعمة عظيمة.

هل يمكن أن يكون فيه تهديد للبشريّة؟

– ل. ف.: في رأيي، يكمن الخطر في المُنافسة بين الأمم والجيوش، ثُمَّ بين الأسر، وهي منافسة قد تقودنا عن غير قصد إلى تغيير الجنس البشريّ. دعونا نأخذ مثالاً على ذلك: اخترعت شركة ألمانيّة رقاقة يمكن زرعها خلف شبكية العين لإعادة البصر للأشخاص الذين أصبحوا عميان بسبب المرض، ومع أن هؤلاء الأشخاص لم يستردوا قدرتهم الكاملة على الرؤية إلّا أن حياتهم قد تحسنت بشكلٍ كبير. تخيل أن هذه الشريحة تطوَّرت في المُستقبل حتى أصبحت حدة النظر لدينا تضاهي الصقور، فإن الجيوش سوف تسابق بعضها في صنع كتائب من الجنود «المعززين». وإذا قامت إحدى الأسر بتزويد طفلها بمثل هذه الأداة، فهناك احتمالٌ كبير أن الأسرة المُجاورة سترغب هي الأخرى في فعل الشيء نفسه. ولذلك يجب أن تكون الكلمة الفصل هي «التنظيم عبر القانون»، أن يُحَدّد بالضبط ما الذي سيسمح به وما الذي سيتمُّ حظره؟

على أيّة أسس يجب أن نختار بين هذه الإمكانات المُقدَّمة للبشريّة؟

– ل. ف.: بدايةً يجب أن نعرف بأنه لا مناص لنا من القيام بذلك، ولكن الأمر سيكون من الصعوبة بمكان لأسباب أجملها في ثلاثة: التكنولوجيّات الجديدة عالية التعقيد وفائقة السرعة، وهي تقنيات مُعولمة، ممّا يجعل التشريعات الوطنيّة بالية وغير فعّالة أمامها. لذلك فالثورة التكنولوجيّة ستؤدي إلى ارتفاع مهول في حجم السياحة الطبيّة. وأي تنظيم قانوني لا يشمل مداه التراب الأوروبي بالكامل، بل التراب العالميّ سيكون دون أيّة جدوى. وقد بدأت كلّ من المُفوضية الأوروبيّة ومجلس النواب الأوروبيّ في معالجة هذه المُشكلة، من خلال تقريرين مهمَّين عمّا بعد الإنسانيّة، ولكن ذلك إن لم يتم عبر التعاون مع الدول كلّ واحدة على حدة فإن شيئاً لن يتحقَّق. وعلى مستوى فرنسا، ينبغي أن يشكِّل التفكير في مسألة الابتكار واحدة من أهمّ القضايا السياسيّة. وكما لا يخفى عليكم، ففي الوقت الحالي، شركات الجافا (جوجل وآبل وأمازون وفيسبوك) كلّها شركات أميركيّة. أمّا الأوروبيّون فلم يكتشفوا المشاكل التي تفرضها الثورة الصناعيّة الثالثة إلّا متأخرين جدّاً. ولهذا ألَّفت هذا الكتاب: لأدق على مسامعهم ناقوس الخطر.

هل أنت إذن مثل بيير رابحي تدعو إلى شكل من أشكال «القناعة السعيدة»؟

– ل. ف.: النجدة، ساعدوني! لا مطلقاً. أنا مثل فولتير، أحب العالم الحديث أكثر من أي شيء آخر، وأحب الديموقراطيّة وجوانبها الحميدة. بيير رابحي هو بالتأكيد يتحلَّى بقدرٍ كبير من المسؤوليّة، ولكن تطبيق مبادئه سيكون بالنسبة لي مثل جلب الجحيم إلى هذه الأرض. وعلاوة على ذلك، أعتقد أن كلّ هذه الكراهية للحداثة هي إلى حدّ كبير مسألة موقف، وأنه لا أحد، وخاصة النساء، يريد حقّاً أن يعود إلى العصور الوسطى، إلى تلك الظلامية الحمقاء التي يدعو إليها أنصار البيئة، وخاصة الأصوليّون منهم. فعندما تتعرَّض لحادث أو يلم بك مرضٌ خطير، فإنك تشعر بالارتياح لأنك تملك حظوة العيش في بلد متقدِّم تتوفَّر داخله التكنولوجيا العالية والوسائل التي بإمكانها أن تنقذ حياتك. وعلى النقيض من هذه الكآبة المُنتشرة بين العديد من الناس، فإنني أزعم أن حضارتنا الأوروبيّة الحديثة أكثر جمالاً من أي وقتٍ مضى. فاليوم، تبدو أوروبا الحديثة والعلميّة والعلمانيّة والتي تنعم بالرخاء ثمينة وضرورية. وما سيدمِّرها ليس هو الليبرالية، بل بالعكس، ما سيودي بها هو الافتقار إلى المزيد من الليبراليّة. ولأننا عالقون في بركة وحل اسمها مناهضة الحداثة فإننا معرَّضون لأن نفقد كلّ شيء في الوقت الذي يحسدنا فيه العالَم أجمع على نموذج الحرّيّة الذي لدينا باستثناء بعض المُتعصبين.

هل نموذجنا هو النموذج الأصح؟

– ل. ف.: إن به قدراً من الغباء والابتذال. هل يقضي على القيم التقليديّة؟ هل يخلق عدم المُساواة؟ نعم، بالطبع، لكنه يترك لنا مع ذلك مساحات كبيرة لتوجيه النقد وللمقاومة، للعودة إلى الوراء وتصحيح أخطائنا، كما أنه يمنحنا الفرصة لنجد بأنفسنا معنى لحياتنا. فهل يكون هذا الحظ العظيم الذي نحظى به والذي هو فريد من نوعه على مستوى التاريخ وعلى مستوى الجغرافيا أيضاً، مخيفاً للدرجة التي تضطرنا إلى التنكُّر لما نحن عليه؟ الحقيقة هي أن ميلنا الطبيعيّ يتجه نحو التشاؤم تماماً مثل الوعي الشقي الذي يحب ألّا يحب شيئاً. على النقيض من التفاؤل، فإنه يعطي أجنحة وأسلوباً للتفكير السلبي. حيث أصبح هذا السلوك هو مرض هذا العصر الذي تكاثرت فيه أعداد المقالات التي تعلن مطولاً عن هزيمة الفكر، وتراجع الغرب، وانحسار المدنية، وانتحار القارة العجوز، والفظاعة الليبراليّة، وحماقات أخرى أسوأ من ذلك بكثير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العنوان الأصلي والمصدر:

«Luc Ferry: «Nous vivons une troisième révolution industrielle

مجلة «Presse littéraire» العدد 13، الصفحات 30 – 31.

حقيبتا «جان جينيه» السرِّيَّتان تكشفان عن نفائسهما

أيّام قليلة قبل وفاته في عام (1986)، عهد «جان جينيه» إلى محاميه وصديقه «رولان دوما» بحقبتَيْن ثمينتَيْن تمتلأان بالمسَوَّدات، من ضمنها سيناريو فيلم، كان «جينيه» قد كُلّف بإنجازه من قِبَل «دافيد بووي». هذا الكنز، الذي تنازل عنه لفائدة «معهد ذاكرات للنشر المعاصر»، يُعرَض، أخيراً، للجمهور، في مقرّ المعهد في «دير أردين»، غير بعيد عن مدينة «كون».

كان الكاتب والشاعر والمسرحي الفرنسي «جان جينيه» دائم الحرص على الاحتفاظ بحقيبتَيْه، وعدم التفريط بهما. أمّا عن محتوى الحقيبتَيْن فكان يتمثَّل في تدوينات نفيسة كتبها، بخطّ اليد، هذا الكاتب المتشِّرد الذي أمضى حياته دون أن يمتلك مكتباً، ودون أن يكون له مقرّ إقامة دائم، بل ظلّ، طيلة حياته، يتنقَّل بين غرف الفنادق هنا وهناك. وبعد مرور أربعة وثلاثين عاماً على تسليمها لمحاميه وصديقه «رولان دوما»، ها هو «معهد الذاكرات للنشر المعاصر» (IMEC)  يعرض، أخيراً، هذه الكنوز في «دير أردين»، بالقرب من مدينة «كون». وكان من المقرَّر افتتاح المعرض في 30 أكتوبر (2020)، قبل أن يتمَّ تأجيله بسبب الظروف التي صاحبت انتشار جائحة «كورونا».

جان جينيه (1985)

ولإدراك الأهمِّيّة الاستثنائية التي تحظى بها محتويات هاتَيْن الحقيبتَيْن، لا بدّ لنا من أن نستحضر أن الكاتب أكَّد، في منتصف الستينيات، أنه تخلّى عن الكتابة نهائيّاً. غير أن هذه المسَوَّدات تبيِّن أنّ الأمر لم يكن كذلك؛ فالكتابة تفيض وتتدفَّق، ولا يملك أن يحتويها، «وجينيه يكتب رغماً عنه ويكتب في كلّ مكان»، وفي كلّ وقت: على أوراق الصحف، وعلى أوراق الرسائل التي توفِّرها الفنادق، و«حتى على أوراق تغليف السكَّر»، كما يقول «ألبير ديشي»، الباحث المتخصِّص في أعمال «جينيه»، وأمين المعرض، وهو يحتفظ بكلّ شيء، مكدَّساً في حقائبه. إن الكشف عن هذه الوثائق غير المنشورة، والتي تتيح لنا النظر إلى نهاية حياة «جينيه» من زاوية مختلفة، لهُوَ حدث كبير.

ما الذي تحويه هاتان الحقيبتان؟

– في المرّة الأولى، التي فتح فيها أمين المعرض «ألبير ديشي» الحقيبتَيْن، كان يحاول تمالك نفسه من شدّة التأثُّر؛ فقد رأى «مغارة علي بابا صغيرة، وفوضى من المسَوَّدات بجميع أنواعها دفاتر من أيّام الدراسة، قصاصات صحافية دُوِّنت على هوامشها بعض الملاحظات، (…) ملصقات، منشورات، صحف خاصّة بحركة «الفهود السود». ثمّ كلّ هذه التدوينات، ما لا نهاية من التدوينات (…) هذه المادّة السير الذاتية التي ينهل منها لكتابة مؤلَّفاته». في هذه الفوضى، يمكن العثور على مقالات عن موسيقى الجاز، أو عن اليابان، ومشاريع كتب عن منظَّمة الفصيل الأحمر المسلَّح، وعن التمرُّد في السجون، وعن حزب الفهود السود، والعديد من المخطوطات التحضيرية لرواية «جان جينيه» التي نُشِرت بعد وفاته، تحت عنوان «أسير عاشق»، ثم تدوينات متناثرة من يوميّاته التي تَمَّ جمعها كاعتراف وحصيلة للحياة التي عاشها.

ولكن حقيبتَيّ الشاعر، الذي عاش على الهامش، ولم يغادر الأحياء الفقيرة، تحتويان، أيضاً، على سيناريوهين سينمائيَّيْن لم يتمّ نشرهما؛ الأوَّل بعنوان «إلهيّة – Divine» والثاني بعنوان «الليل – Nuit»، ومن المرجَّح أن يجد هذان العملان طريقهما للنشر قريباً، إذا وافق على ذلك «جاكي ماغليا» المكلَّف بتنفيذ وصيّة «جينيه». ويُعَدّ سيناريو «إلهيّة» مثيراً للاهتمام، بشكل خاصّ؛ فهو اقتباس سينمائي لرواية «جينيه» الأولى، «نوتردام دي فلور – Notre-Dame des fleurs»، التي صدرت في عام (1947). وقد كُتب هذا الاقتباس في منتصف سبعينيات القرن العشرين بناءً على طلب «دافيد بووي»، الذي كان يحلم بلعب دور البطولة في الفيلم. وقد تَمَّ التخلّي عن المشروع، الذي سمع عنه الكثيرون، دون أن يكون لدىَ أيٍّ منهم دليل على وجوده بالفعل، بسبب نقص في التمويل.

كيف تمكَّن «رولان دوما» من الحصول على هذا الكنز؟

– التقى «رولان دوما» بـ«جان جينيه» في أوائل الستينات، وقد حصل التفاهم سريعاً بين «المحامي الذي يتهافت المثقّفون على الاستفادة من خدماته» وبين «شاعر المعدمين». إذ من المعروف عن الرجلَيْن حبّهما المشترك للفنّ وللعالم العربي، وشغفهما، أيضاً، بتجاوز الحدود التي يقف عندها الآخرون عادةً. وبعد عشرين عاماً (في نيسان/أبريل «1986»)، كان «جان جينيه» منهمكاً، بكلّ طاقته، في العمل على رواية «الأسير العاشق»، مع أنه كان يستشعر، وهو في الخامسة والسبعين من العمر، بأن سرطان الحنجرة، الذي كان يعاني منه، ما كان ليمهله طويلاً، حيث وافته المنيّة في الخامس عشر من (نيسان/أبريل)، في غرفته في فندق بمدينة «باريس».

ذهب، إذاً، إلى منزل «رولان دوما» في جزيرة «سان لوي»، وهناك «وضع على المكتب حقيبتَيْن؛ واحدة مصنوعة من الجلد الطبيعي الأسود، والأخرى من الجلد الصناعي بنِّي اللون»، كانتا محشوَّتَيْن بتدوينات مكتوبة بخطّ اليد، ظلّ «جينيه» حريصاً على الاحتفاظ بهما، ثم توجَّه إلى صديقه قائلاً: «رولان، إليك كلّ أعمالي التي هي في طور الإنجاز، تصرَّف بها كما تريد!». مكثت هاتان الحقيبتان لمدّة (34) عاماً، لا أحد يدري بوجودها في مكتب المحامي الذي كان ينوي نشرها بنفسه في البداية، قبل أن يوافق، أخيراً، على مشاركتها مع آخرين، وفي نوفمبر (2019)، تبرَّع بهما إلى «معهد الذاكرات للنشر المعاصر»، وهناك تَمَّ الكشف، أخيراً، عن كلّ ما تحتويانه من كنوز، أمام الجمهور.

ما الذي كتبه «جينيه» بعد أن توقَّف عن الكتابة؟

– بين آخر إصدار نُشِر له، وهو مسرحية «المَساتِر» التي نشرت عام (1961)، ووفاته التي كانت في سنة (1986)، مرَّت خمس وعشرون سنة، وطوال هذه المدّة كلّها، لم ينشر «جينيه» أيّ شيء. صحيح أنه كان يحرِّر بعض المقالات والبيانات؛ نظراً لأنه كان، دائماً، يدعم نضال الأقلِّيّات والمستضعفين، كحركة «الفهود السود»، والمقاومة الفلسطينية…

اللافت لدى «جينيه» هو أنه في الوقت الذي بدأت فيه مسرحيَّاته تحقِّق له شهرة عالمية واسعة، وبعد انتحار رفيقه «عبد الله بنتاجا»، فنّان السيرك المغربي، بدأ الكاتب ينبذ الأدب، ويؤكِّد، أنه قد تخلَّى عن الكتابة، وأنه لن يلمس قلماً بعد ذلك.

إلامَ يصير كاتب هجَرَ الكتابة إلى غير رجعة؟ ماذا يصبح؟ بمَ يمكن تسميته؟ «ذلك هو السؤال الجوهري الذي تجيب عنه الحقيبتان، بشكل من الأشكال»، بحسب اعتقاد أمين المعرض. إنهما تشهدان على أن قريحة «جينيه» لم تجفّ، ولم ينضب معينها؛ «فرغم أنفه، ورغم ركونه إلى الصمت، غمرته الكتابة كالموج. الكتابة أقوى منه. والحقيبتان تَشِيان بسرّ هذه المعركة الفريدة من نوعها، التي انتهت بانتصار الكتابة على الكاتب». الكتابة انتصرت بالفعل؛ لأن «جينيه» سَلَّم في شهر نوفمبر، سنة (1985)، لدار النشر «غاليمار»، روايته «أسير عاشق»، وهي الرواية التي سجَّلت عودته إلى الأدب، ليحكي فيها عن نضالاته، ويتساءل عن مساره؛ كونه منحرفاً سابقاً، بدأ ممارسة الكتابة داخل أسوار السجون. هذا الكتاب الذي ترك مسَوَّدات تصحيحه على طاولة بجانب سريره، سيعرف، أخيراً، طريقه للنشر في شهر مايو/أيار، سنة (1986)، بعد مرور شهر واحد على وفاة صاحبه.

«هذا الكتاب هو سرد لأسفاره وتنقُّلاته الكثيرة لتتبُّع حركة «الفهود السود» في الولايات المتّحدة ومساندتها، ثمّ في الشرق الأوسط، بشكل خاصّ، حيث حَلَّ في عام (1970) لدعم القضية الفلسطينية»، كما يقول «ديشي». وهو لم يذهب إلى هناك بصفته مؤلِّفاً زائراً، بل بصفته مسافراً وحيداً يعبر الشرق الأدنى (الأردن ودمشق ولبنان والأراضي المحتلّة)، ويقضي فيه حوالي العامَيْن. وقد أقام «جينيه» في المخيَّمات، لأنه أخذ على عاتقه مهمّة تأليف كتاب لدعم النضال الفلسطيني، وهو ما سيتحقَّق من خلال نصّ سمّاه «جينيه» «رحلتي إلى الشرق». هل ينتمي هذا النصّ إلى أدب الاستشراق الذي يتغذّى على الغرائبية والمناظر الطبيعية؟ ألا يكون «جينيه»، في حقيقة الأمر، مجرَّد كاتب فرنسي مفتون بالشرق، الذي سكنه منذ طفولته، خاصّةً أنه كتب في «يوميّات لّص»: «لقد كانت طفولتي تحلم بأشجار النخيل»؟، يتساءل «ديشي» قبل أن يخلص إلى أن رواية «أسير عاشق» تمثِّل رائعة «جينيه» الأهم، لأنها نصّ أدبي «مصنوع من نسيج أحلامه»، بلغة «شكسبير»، وعمل سياسي لصالح الفلسطينيين، كتبه كاتب فرنسي عظيم لا يمكن أن نجادل في قيمته ومكانته، في الوقت نفسه، وهو المؤلِّف الذي يبقى، مع ذلك، على الهامش والذي لم يعثر لنفسه على وطن في أيِّ مكان كان ينتقل إليه، والذي سيقيم، نتيجة لذلك، علاقة خاصّة مع هذا الشعب المرَحّل الذي هو الشعب الفلسطيني».

تجدر الإشارة، في النهاية، إلى أن هذا المعرض قد تُوِّج بإصدار كتاب تحت عنوان «حقيبتا جان جنيه» عن «معهد ذاكرات للنشر المعاصر»، ويضمّ الكتاب مسَوَّدات «جان جينيه»، بعد أن وُضِعت في سياقها من طرف «ألبير ديشي». كما ستنشر بعض النصوص من الحقيبتَيْن في كُتَيِّب عن «دار ليرن» المرموقة والمتخصِّصة في إنجاز مونوغرافيات عن كبار الكُتّاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لور نارنيون

العنوان الأصلي والمصدر:

Les valises de Jean Genet s’apprêtent à révéler leurs trésors

https://bit.ly/3rxZfzH

الأدب الرقميّ.. نحو تدشين فنّ غريب الأطوار!

لا تزال الصورة الذهنيّة التي يكوِّنها القُرَّاء عن الشِعر والشُعراء مرتبطةً، في كثير من الأحيان، برؤية رومانسيّة للعبقريّة المُنسَلة من ذاكرة التعاطي مع العَثرات والإبداع الوليد تحت وهج الشموع.. والواقع أن هذه الصورة الذهنيّة ربَّما لم تعُد حاضرة في زمننا الرقميّ الحالي، فقد تحوَّل الشِعر اليوم إلى ما هو أبعد من مجرَّد نصّ. لقد صارت هناك مفاهيم حداثية جديدة تربط بين جماليات الأدب والخوارزميات، وهو ما يُعرف بـ «الشِعر الرقميّ» و«روبوتات تويتر»، والصور المُركَّبة عبر «سناب شات».. باختصار، صِرنا نعيش الرقمنة بمختلف مناحيها، حتى أطلّ علينا «الشعر» من شُرفَة الحداثة.

«الشِعر الرقميّ»(1) الذي يُسمَّى بـ«الشِعر الإلكتروني» هو بدعة جديدة نسبياً من الأدب، يتأثَّر بمدرسة الواقعيّة والشعر المرئيّ الذي يعتمد على البنية البصريّة، حيث يتمُّ نظمه باستخدام أجهزة الكمبيوتر بصورةٍ شبة أساسيّة، إذ تبدو سماته وخصائصه مبهمة تماماً ومتداخِلة، نظراً لتداخلها مع أنماط أخرى من الأدب والفنون مثل النصّ التَشعُبي، الفنّ الإلكترونيّ، تقنية الهولوجرام المُجسَمة، الإنشاءات الفنِّيّة المُركَّبة والشِعر الصوتي. علاوة على آلية استخدام وتوظيف مقاطع الفيديو والأفلام.

كذلك تتمحور وضعية الشعر الإلكتروني فيما يخصُّ المساحة الفاصلة بين الكتابة الإبداعيّة وإعادة صياغة الترميز والفَنّ والعلوم الإنسانيّة الرقميّة. كما أن آليات عمله تنأى عن بنية الصحافة التقليديّة المُرتكِزة على الطباعة، ممّا يجعل عملية توثيقه والحفاظ عليه أمراً صعباً، وهو ما أكسب الشِعر الرقميّ سمة التآكُل والزوال السريع من الذاكرة النصّية، إلّا أن محاولات التوثيق الدقيق بإمكانها إنقاذ العديد من النصوص من التحلل التكنولوجيّ الحتمي بفعل الوقت.

من ناحيةٍ أخرى، لا يمكن إغفال أن هناك بعض الفَنَّانين لا يجدون غضاضة في أن تختفي أعمالهم بين عشيةٍ وضحاها، ممّا يجعل قصائدهم مجرَّد مُنتَج عابر على مستوى التصميم والغرض الأدبيّ. ومع ذلك لايزال الشعر الرقميّ يواصل مسيرته في التلاعُب بالكلمات والنصوص، بل ويتطوَّر على صعيد الشكل والمضمون، خاصّة وأن بنيانه، ورموزه، وجماليّته تجعله، بشكلٍ أو بآخر، أكثر أهمِّية من الشعر التقليديّ بفضل مواكبته للواقع اللحظيّ المعيش، ومن ثَمَّ أخذت القصائد الإلكترونيّة تنأى عن الكلمات المُعتاد استخدامها في الدواوين المطبوعة، ممّا جعل الشعر الرقميّ بمثابة تجربة عميقة وملموسة ومواكبة للإحداثيات بصورةٍ يصعب إنكارها، حتى وإنْ لم ترقَ إلى نفس درجة الإبداع.

لقد جادل «رومان برومبوشز»، وهو موسيقيّ بولنديّ وفنَّان وشاعر حداثيّ، فرضية أنه في حالة الشعر السيبرانيّ، ينبغي على المرء أن يتجاهل مفاهيم الشعر المُنتمية للقرن التاسع عشر. وذلك انتصاراً لمبدأ التفكير -بصورةٍ أكثر إغراقاً- في سياق التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر.. والسؤال الذي يطرح نفسه؛ كيف سيبدو القالب التفاعليّ بين الشِعر والتكنولوجيا بالضبط؟ وما الذي سيتمخض عن هذه التبادلية بين تلك الأطياف الإبداعيّة التي كانت في السابق وليدة الإلهام والخيال البشريّ دون تدخُّل الآلة؟

كنزعة مثالية تُذكي من قيمة الانفعال البشريّ والعواطف الإنسانيّة، تقف بعض الدعوات في وجهة اقتحام الآلة لمضمار هذه الأنماط الإبداعيّة الحداثيّة، التي تظلّ مرتكزة، في الأساس، على مُخرجات المكنونات الحسيّة، إلّا أن الإيقاع الحياتي قد اختلف وأصبح يفرض واقعاً جديداً يستلزم المُواكبة.. يمكن التوقُّف عند «الشعر الرقميّ» البولنديّ كنموذج، حيث يُصنَّف «الشعر الرقميّ» البولنديّ، بصفةٍ عامّة، إلى فئتين؛ هما: فئة «الشعر الارتجاليّ» ذات المُحتوى المُواكب للأحداث والمواقف الآنية بحسب درجة الانفعال بها، وفئة «الشعر الأكثر ديمومة» المُرتبط بـ «محفِّزات النَظْم».

يتَّسم الشعر اللحظيّ وقصائد «سناب شات» والومضات أو «تويتر بوت»(2)، بالاستعراضيّة والمُحتوى الخفيف، ولا تتكئ قصائده على قواعد مُنظِمة لعملية النشر، إذ يُنشئ الشعراء الرقميّون منشوراتهم عبر وسائط جديدة وفريدة من نوعها، وأثناء تعديل قواعد منصَّات النشر، تَسهُل إمكانية التلاعب بهذه النصوص. وغالباً ما تركِّز قصائدهم الإلكترونيّة على المشاعر العابرة والمُرتبِكة.

ابتكر شُعراء الرقمنة أيضاً، ومنهم الشاعرة البولنديّة «ناتاليا كريزمنيسكي – Natalia Krzemińska»، منصَّات برمجة، يمكنها توليد توصيات بشأن الأفلام القصيرة بناءً على المُراجعات والقراءات الموجودة بالفعل. إذا يمكن قراءة مراجعة نقديّة لفيلم مكوَّنة من جملتين فحسب، بدلاً من المُراجعات المطولة المليئة بالتفاصيل. والمُثير للدهشة أنّ النُقَّاد أنفسهم أصبح ينتهي بهم الحال إلى التعامل أيضاً مع منصَّات «تويتر بوت».

هناك أيضاً «إيوا سوبوليوسكا – Ewa Sobolewska» التي تقوم، في الوقت الحالي، بإرسال بريد إلكترونيّ عشوائي على (Twitter) بواسطة قراءات وتحليلات لا نهائية تضعها على لسان الشخصيّتين الخياليّتين «شرِك والحمار»، بطلي فيلم الرسوم المُتحرِّكة الشهير «Shrek»، فيما يحظى حسابها على تويتر المُعنون بـ (SzrekoMania / ShrekMania) بأكثر من 3000 تغريدة والعدد في ازدياد، لدرجة أن مستوى التفاعل يدفع للتصوُّر بأنه ذات يوم سيقوم الأبطال الخياليّون (Shrek & Donkey) بالتحكُّم في ردود المُتابعين، بل والمنصَّة بأكملها.. لقد نفَخت الرقمنة «الروح» في فضاءات «الخيال الإلكترونيّ»..!!

أيضاً لدى كلٍّ من الشاعرتين «آنا باناسك – Anna Banasik» و«صوفيا جنيت – Zofia Gnat» وجهتا نظر مختلفتان عن وسائل التواصل الاجتماعيّ، حيث تعكف «آنا» عبر حسابها (flarfworld @) على «انستجرام»، المُعنون بكلمة «توهج»، على إعادة اكتشاف المشاعر المُتضاربة التي يكتنفها الغموض والإرباك، وذلك من خلال قصائدها الإلكترونيّة التي تقوم بإنشائها بواسطة مُكثِّف بحث «Google». كذلك تنسج «صوفيا» قصص حب خياليّة، وتخلط، خلال سردها الشعريّ، ما بين أماكن الحياة الواقعيّة وصور تشبه سندات البورصة وأسهم الأوراق المالية، تماهياً مع مفهوم الصعود والهبوط الشعوريّ، في محاولة خلق روابط أدبيّة ابتكارية ذات مسحة واقعية مواكبة لإحداثيات العصر.

في المُقابل، يثير الشعر الإلكترونيّ على «سناب شات» مزاجاً غرائبياً. فعلى سبيل المثال، تنشر الشاعرة «Aldona Stopa» صوراً لشطائر (3)«Pierogi» التي (تتخذ شكل وجوهاً صغيرة مثل الإيموجي على فيسبوك)، وتضع بجوارها قصائد عاطفيّة تتماشى معها. تُوثِّق هذه الشطائر التعبيريّة الصغيرة، ذات الاقتباس الإلكترونيّ المأخوذ عن مواقع التواصل الاجتماعيّ، فترات مؤلمة وأخرى سعيدة وغيرها غاضبة أو قلقة – كلّ ذلك في سياق الشطيرة التي تحمل الإيموجي المُعبِّر عنها وفق التلازُم الشعريّ الجديد الذي ربط بين المعنى والصورة والرقمنة.

هناك أيضاً مولدات القصائد، وهي أيقونات تَنْظِم قصائد وفق مُدخلات المُستخدِم. هذه القصائد تمزج بين تقنية الوسائط الجديدة واللُّغة المُخلَّقة، إذ تُستخدَم برمجة الكمبيوتر في حياكة النصّ وتوليد معانيه من خلال الاستناد إلى خوارزميات تعتمد على آلية فهم اللُّغة. فهناك فنَّانون، أمثال «كاترزينا جيتسينيسكا – Katarzyna Giełżyńska» ابتكروا شعراً إلكترونيّاً يمزج بين الفَنّ الشبكي والرسوم المُتحرِّكة، حيث استخدمت «جيتسينيسكا» في شعرها ما يُعرَف بفَنّ الأخطاء الإلكترونيّة (4)«glitch art»، بالارتكاز على استخدام الخوارزميات واستدعاء المُحتوى الموجود بالفعل، فضلاً عن فكرة «القص واللصق».

أمّا مشروع الشاعر «غريغ ماروسينسكي» المُسمَّى «مشروع بيسوس»، فهو بمثابة احتفاء بالشخصيّة التليفزيونونيّة البولنديّة الشهيرة «ماجدا جيسلر»، النجمة المحبوبة ومقدِّمة برنامج الطهي البولنديّ الشهير «Kuchenne Rewolucje» (النسخة البولنديّة من برنامج الطهي العالميّ «MasterChef» -حيث ساعدتها شخصيّتها المُتوهِّجة وعلامتها التجارية الشهيرة (taglineshelped) على حشد عدد كبير من المُتابعين. كان «ماروسينيسكي» من بين هؤلاء المُتابعين لبرنامج «جيسلر»- حيث عكف في مشروعه على استدعاء عالَم مصغَّر لـ«جيسلر» بالاستعانة بمولد (5)«HTML»؛ ممّا أسهم في إنتاج مغامرات لا نهائية مع الشيف «ماجدا جيسلر» مزودة بنصوص متغيِّرة ومتنوِّعة باستمرار.

وعن «ليسيزيك أوناك» ومولده الإلكترونيّ المُعنون بـ«الفوز»، فهو يعتمد على أخبار المشاهير وقصصهم، بل ويركِّز تحديداً على المشاهير العالميّين الأكثر إثارة للجدل؛ مثل نجم الأكشن في التسعينيّات «ستيفن سيغال»، والمُمثِّل المسرحيّ الساخر «تشارلي شين»، والمُنتج ومغني الراب «كاني ويست»، وكذلك صاحب شركات الأدوية السابق «مارتن شكريلي»، حيث يعمل مولد النصّ الخاص بـ«أوناك» على خلط تويتات المشاهير مع بعضها البعض. ما يفعله مولد النصوص هو أحد أشكال العبثيّة والسخرية، وغالباً ما يكون المُحتوى عاكساً لمدى الاعتلالات الاجتماعيّة التي يعكسها البعض.

هناك أيضاً دار النشر «Wydawniczy Rozdzielczość Chleba – روزدزيلتشوي شليبا»؛ وهي عبارة عن مركز للنشر تمَّ إنشاؤه بواسطة كلٍّ من «ليسيزك أوناك»، «لوكاس بودجرنيه»، «بيوتر بولدزيان». وكان قيد العمل خلال الفترة من 2011 وحتى 2018. وهي منشأة معنية بإنتاج محتوى اجتماعيّ تكنولوجيّ. نشرت دار «روزدزيلتشوي شليبا» العديد من المجلَّدات الشعريّة. كذلك قامت بنشر روايات صغيرة ومقتطفات وعينات من تشكيلات الكلمات الخاصّة بعالَم ريادة الأعمال، فعلى سبيل المثال كانت شركة «Firmy» تبحث عن أسماءٍ مبتكرة ومبهجة للشركات البولنديّة المُسجَّلة التي غالباً ما تنتهي بكلمة «pol» أو «ex».

كذلك قامت الدار بنشر قصائد بعنوان «Pamiętne Statusy/ حالات لا تُنسى» – وهي مجموعة من المُلاحظات الفريدة من داخل عصرنا الرقميّ الحالي. يروي «لوكاس بودجرنيه»، أحد مؤسّسي الدار: «يمكن استلهام العديد من التجارب الغريبة، إذا ما كنت أحد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعيّ ومُلمّاً بكيفية التعامل معها»، حيث تتلاعب قصائد «بودجرنيه» بأنواعٍ مختلفة ممّا يعرف بـ«فنّ ما بعد الإنترنت»، وهو المزج بين فنّ الأخطاء الإلكترونيّة وفنّ تصميم الواجهات التفاعليّة وفنّ التفاعل البصريّ والموسيقيّ في آنٍ واحد. يستخدم «بودجرنيه» نصوصاً مشتقة من يوميّات (فيسبوك)، ممّا يدل على أن وسائل التواصل الاجتماعيّ يمكن أن تخلق طبقة خادعة (قابلة للتذكّر) من جانب المشاهير الزائفين. فغالباً ما تكون أنماط الشعر الإلكترونيّ غريبة وغامضة، ويمكن أن تخلق سُبلاً لإعادة التعامل مع التكنولوجيا؛ يمكنها أن تكون أيضاً الخطوة الأولى نحو تدشين فنّ رقميّ غريب الأطوار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولجا تيسكيفيتش

المصدر:

https://culture.pl/en/article/emotional-pierogi-loaves-of-literature-polish-digital-poetry

الهوامش:

1 – الشعر الرقميّ: كلّ شكل شعريّ يستعمل الجهاز المعلوماتيّ وسيطاً ويوظِّف واحدة أو أكثر من خصائص هذا الوسيط.

2 – تويتر بوت: نوعٌ من البرمجة التي يتمُّ التحكُّم فيها من خلال واجهة برمجة التطبيقات. تعملُ حسابات البوت هذه على تنفيذ مجموعةٍ من الإجراءات مثل التغريد، إعادة التغريد، الإعجاب، إلغاء متابعة أو حتّى المُراسلة المُباشرة معَ حسابات أخرى. وتحكمُ هذه البوتات مجموعة من القواعد لتفادي سوء الاستخدام.

Pierogi -3: أحد أشهر الفطائر في دول وسط وشرق أوروبا.

4 – glitch art: تقنية إلكترونيّة تعتمد على استخدام الأخطاء الرقميّة أو التناظرية لأغراضٍ جماليّة.

5 – HTML: لغة ترميز النصّ التشعبيّ، وهي لغة الترميز القياسيّة لإنشاء صفحات الويب. وتصف بنية صفحة الويب.

كيف تغيَّرت الطريقة التي نتحدَّث بها في زمن الجائحة؟

فيما تُواجه عدداً كبيراً من دول العَالَم موجاتٌ متكرِّرة من الإغلاق لتسطيح منحنى العدوى بفيروس كورونا، يعكف خبراء اللُّغويّات حول العَالَم على دراسة «لغة» الجَائِحة. في مارس/آذار 2020، دخلت حياتنا اليوميّة مصطلحات مثل «تباعُد اجتماعيّ» «حَجْر صحيّ» و«عزل». وعلى الرغم من أن تلك المُصطلحات ليست بجديدة، إلّا أنها اكتسبت معاني جديدة تؤثِّر على إدراكنا للعَالَم من حولنا.

منذ منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي تقوم «بيتسي سنيلر – Betsy Sneller» -الأستاذ المُساعد في علم اللُّغويّات الاجتماعيّّة بجامعة «ميشيجان» الأميركية (MSU)، بمُساعدة «سوزان واجنر – Suzanne Wagner» المدير المُساعد للمشروع ومعهما فريقٌ من الباحثين- بجمع رسائل صوتيّة من سكّان ولاية «ميشيجان» الأميركيّة لتتبُّع ما طرأ على اللُّغة من تغيُّرات خلال الجَائِحة. ويهدف المشروع الذي أُطلق عليه «يوميات MI» إلى تتبُّع تأثير أجواء التباعُد الاجتماعيّ والتعليم الافتراضيّ على اللُّغة، وذلك سواء على المدى القصير أو البعيد. تقول «سنيلر – Sneller»: «ولكن هناك أيضاً ذلك البُعد الإنسانيّ للأشياء (…) أنت تراقب مشاعر الأشخاص من أسبوعٍ لأسبوع، وكيف تتغيَّر بشكلٍ كبير الموضوعات التي يرغبون في الحديث بها».

في بحثٍ لجامعة «ميشيجان» الأميركيّة، تقوم «واجنر – Wagner» -الأستاذ المُساعد في علم اللُّغويّات- بوصف الحرب العالميّة الثانية بأنها تمثِّل منعطفاً حقيقيّاً في اللُّغة الإنجليزيّة لإحداثها تقارباً بين أناس لم يكن لتوجد بينهم أي علاقة. تقول «واجنر – Wagner»: «كان يتمُّ إرسال الجنود الى القواعد العسكريّة فيما دخلت النساء ساحة العمل لأول مرّة». وعلى العكس من ذلك، أجبرنا «كوفيد – 19» على التباعُد جسديّاً، جاعلاً من التعاملات الافتراضيّة شيئاً طبيعياً.

بدأت «سنيلر – Sneller» عملها في جامعة «ميشيجان» في منتصف شهر مارس/آذار 2020، وهو تقريباً نفس التوقيت الذي أعلنت فيه منظَّمة الصحَّة العالميّة حالة الطوارئ العالميّة بسبب الجَائِحة. مدفوعة بتصميمها على توثيق لحظة تاريخيّة، نجحت كلٌّ من «سنيلر» و«واجنر» في الحصول على موافقة مجلس المُراجعة المؤسَّسية في «ميشيجان» لإجراء الدراسة. وتقوم «واجنر» حالياً بلقاء فريق العمل مرّة أسبوعياً لوضع الأسئلة التي يتمُّ طرحها على المُشاركين. أمثلة لبعض الأسئلة التي يتمُّ طرحها: «ماذا كان شعورك في أول مرّة ارتديت فيها القناع خارج المنزل؟» أو «هل اضطررت أنت أو أحد المُقرَّبين إليك إلى إلغاء خطط مهمَّة؟». على الرغم من تعلُّق معظم الأسئلة المطروحة بالوضع الحالي الذي نعيشه الآن، إلّا أن بعض الأسئلة يتمُّ طرحها للتعرُّف بشكلٍ أكبر على المُشاركين، مثل «ماهي الأشياء التي تُشعرك بالامتنان؟». يقوم المُشاركون بتسجيل مدخلاتهم على هواتفهم الشخصيّة، ومن ثَمَّ تحميلها على تطبيق مشروع يوميات (MI).

تحقِّق تلك المُدخلات هدفاً أبعد من التوثيق اللُّغويّ، فهي تقوم بتتبُّع التغيُّرات الاجتماعيّة التاريخيّة التي طرأت تزامناً مع الجَائِحة. لاحظت «سنيلر» تحوُّلاً في نبرات أصوات المُشاركين خلال فترة الثلاثة أشهر التالية، تلقَّى فيها التطبيق عدداً أكبر من المُدخلات من أناسٍ يشعرون بالإحباط وفقدان الأمل. على الرغم من أن البحث مازال في بداياته، إلّا أن «سنيلر» لديها بعض التنبؤات حول الكيفية التي سيؤثِّر بها التباعُد الاجتماعيّ على طريقة الحديث، وبالأحرى فيما يخصُّ مصطلح «الجَائِحة». في بداية شهر أبريل/نيسان 2020، كان المُشاركون والعَالَم بشكلٍ عام غير متأكِّدين ماذا يطلقون على الفيروس، تقول «سنيلر» «كان لدينا أناسٌ يشيرون إلى الفيروس في جمل تتخلَّلها عبارات مثل «الأوقات السابقة» أو «الأوقات الحالية» أو كلمات مثل «إغلاق» و«حجْر صحيّ»، وأضافت أن الأغلبية متفقة الآن على استخدام مصطلح «الجَائِحة».

كلمات لعام غير مسبوق

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أصدر قاموس أكسفورد للغة الإنجليزيّة (OED) تقريراً تحت اسم «كلمات لعام غير مسبوق». بعكس الأعوام السابقة، التي كان يتمُّ فيها اختيار كلمة واحدة لتكون كلمة العام (على سبيل المثال كلمة «طوارئ مناخية» لعام 2019) شعر المُحرِّرون باستحالة تلخيص عام 2020 في كلمة واحدة. تضمَّن التقرير عشرات الكلمات مثل «عنصرية ممنهجة/ systemic racism» و«انتقاد متعلِّق بالقناع/mask-shaming» وبالطبع كلمة «فيروس كورونا/Corona virus». وجاء في تحليل التقرير أنه في فترة ما قبل يناير/كانون الثاني 2020 ظهرت كلمة «فيروس كورونا» بمعدل 0.03 مرّة كلّ مليون رمز (وهو مصطلح لُغويّ يشير إلى أصغر وحدات اللُّغة). فيما شهد شهر أبريل/نيسان 2020 قفزةً هائلة في استخدام الكلمة المذكورة -متضمِّنة مشتقاتها مثل كلمة كوفيد- ليصل إلى 1.750 مرّة كلّ مليون رمز لُغويّ، ليصبح بذلك أكثر الأسماء استخداماً في اللُّغة الإنجليزيّة. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن التقرير تضمَّن أكثر عشرين كلمة استخداماً في يناير/كانون الثاني 2020، مثل «حرائق غابات – bushfires» و«عزل الرئيس – Impeachment» و«ضربة جوية – airstrike»، أمّا في مارس/آذار 2020 فكانت جميع الكلمات الأكثر استخداماً ذات صلة بكوفيد. ومازال المُحرِّرون في (OED) عاكفين على تتبُّع التغيُّرات اللُّغويّة ذات الصلة بالجَائِحة، حتى أنهم قاموا بإصدار تحديثين إضافيين بخلاف تقريرهم ربع السنويّ المُعتاد. تجدر الإشارة أيضاً إلى وجود مزاعم بأن الكلمة الوحيدة التي تمَّ إفرازها نتيجة الجَائِحة هي الكلمة المُركَّبة «كوفيد – 19».

غير الناطقين باللّغة السائدة هم الأكثر عرضةً لاتخاذ قرارات أَقلّ وعياً

تعزي «الفريدا كايثلر – Elfrieda Lepp-Kaethler»، أستاذة علم النفس اللُّغويّ، هذا التغيير غير المسبوق في اللُّغة إلى السرعة التي انتشر بها الفيروس، والتي دفعتنا دفعاً إلى الفضاء الافتراضيّ. في فترة الإغلاق، بدأت «كايثلر» في إجراء أبحاث عن «الميمات»، فهي من وجهة نظرها أرضٌ خصبة لتغيُّر اللُّغة. تقول «كايثلر»: «تزدهر (الميمات) بناء على وجود أرضية من الفهم المُشترك» وتضيف أن «كوفيد» يمنحنا خلفية مشتركة تمكِّن الجميع من أن يكونوا مشمولين داخل الوضع ذاته، كما تشير إلى أن الجَائِحة أظهرت كيف يستخدم الناس الدعابة للتأقلم مع الأوضاع الصعبة.

في 2019، أنهت «كايثلر» دراستها في العلاج بالفَنّ التعبيريّ، وهو نوعٌ من العلاج يستخدم مختلف أشكال الفَنّ -كالرسم أو الكتابة- للمُساعدة في التشافي والنمو. في رأيها، الميمات شكل من أشكال الفَنّ التعبيريّ، لذلك فهي تحاول إدماج أبحاثها في الفصول التي تقوم بتدريسها. في مارس/آذار 2020، اضطرت «كايثلر» -شأنها في ذلك شأن العديد من الأساتذة- إلى استخدام نموذج التعليم عبر تطبيق «زووم – zoom». بشكلٍ عام، تسبَّب ذلك النموذج التعليميّ في عدد هائل من معوقات الاتصال، والتي أثَّرت سلباً على المُجتمعات المُهمَّشة، خاصّة إذا ما اقترن ذلك بسيل من المعلومات حول الجَائِحة والتي قد يكون معظمها غير دقيق. وقد أوضحت دراسة أميركيّة نشرتها دورية «تدريس اللُّغة الإنجليزيّة لغير ناطقيها /TOESL» في أغسطس/آب الماضي، أن التعليم الافتراضيّ أثَّر سلباً على الطلاب الناطقين بأكثر من لغة. وفي الوقت الذي تدفَّقت فيه المعلومات باللُّغة الإنجليزيّة، كانت هناك إمكانيات أَقلّ لدارسي اللُّغة الإنجليزيّة في أنظمة التعليم الأميركيّة، وذلك بسبب افتقارها للبنية التحتية التكنولوجيّة التي تمكِّنها من إدارة التحوُّل إلى التعليم عبر الإنترنت.

في الوقت نفسه، أقرَّت منظَّمة «مترجمين بلا حدود» (TWB) -والتي تعمل على ترجمة كل ما يختص بالصحَّة العامّة- في موجز سياستها العامّة، بأن المُجتمعات التي لا تتحدَّث اللُّغة السائدة قد لا تتمكن من اتخاذ قرارات واعية حول ماهية التصرُّف الأمثل خلال الجَائِحة. وأوضحت «إيلي كيمب – Ellie Kemp»، رئيس إدارة الاستجابة للأزمات في منظَّمة «مترجمين بلا حدود»، في حديث لمنصّة «ديفيكس – Devex» الإعلاميّة المعنية بمتابعة مؤشّرات التطوُّر العالميّة، أن الكلمات الاصطلاحيّة مثل كلمة «تباعُد اجتماعيّ» يمكنها أن تكون غير مفيدة على الإطلاق، لأن المُصطلح نفسه غير مألوف. وتقترح «كيمب» استخدام عبارات مثل «الحفاظ على مسافة من الآخرين» كبديل للمُساعدة على نقل التعليمات بشكلٍ أوضح. بالإضافة إلى ذلك، قامت منظَّمة «محامي كندا» بِحَثِّ سلطات الصحَّة العامّة على إتاحة كافة المعلومات المُتعلِّقة بلقاح «كوفيد – 19» لغير الناطقين باللُّغة الإنجليزيّة، وذلك نظراً لتزايد انتشار المعلومات المغلوطة حول أمان اللقاح. في الولايات المُتحدة الأميركيّة نجد أن البرنامج الخاصّ بمُراقبة اللقاح -التابع لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها- والمُصمَّم خصيصاً لتتبُّع الأعراض الجانبية للقاح «كوفيد – 19»، متاح فقط باللُّغة الإنجليزيّة.

للغة أهمِّيتها الحتمية

تقول «سنيلر» «نحن نجد أن اللُّغة مرتبطة بشكلٍ عميق بالهويّة الشخصيّة للأفراد، كما أنها غالباً ما تُظهر التاريخ الفرديّ والجمعيّ»، وتضيف مؤكِّدة «للغة أهمِّيتها!». نجد مثالاً واضحاً عندما قام الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب بتكرار كلمة «الفيروس الصينيّ». إن اللُّغة التي اختارها للإشارة إلى كوفيد أدت الى ظهور مشاعر معادية للآسيويّين عبر البلاد، وبالتبعية تزايدت حالات الاعتداء اللفظيّ والجسديّ بسبب مخاوف تتعلَّق بفيروس كورونا. واستجابة منها لذلك السيناريو، قامت منظَّمة الصحَّة العالميّة بالتغريد «إن الكلمات قادرة على تخليد أفكار وفرضيات نمطية سلبية، ممّا يعزِّز من إيجاد روابط غير حقيقيّة بين «كوفيد» وبعض العوامل الأخرى، كما تخلق حالة من الخوف واسعة الانتشار وتؤدِّي إلى تجريد المُصابين بالمرض من صفة الإنسانيّة». كان استخدام ترامب للمُصطلح متعمَّداً، وهو ما أكَّده مصوِّر صحافي تابع لجريدة «واشنطن بوست» حين التقط صورةً لمُلاحظات خاصّة بترامب خلال إحدى خطبه في مارس/آذار 2020، وكان قد شطب كلمة «كورونا» بخطٍ أسود عريض ليكتب مكانها كلمة «صينيّ».

استخدام الاستعارات/ التشبيهات ذات الصلة بفكرة «الحرب» خلال الجَائِحة ظاهرة لفتت أنظار خبراء اللُّغويّات، إذ حث أغلبهم على استخدام استعارات غير ذات صلة بفكرة الحرب لتشجيع الأفراد على اتباع احتياطات الأمان. فتشبيهات مثل «الحرب ضد فيروس كورونا» قد تؤدِّي إلى إحداث حالة من القلق لا داعي لها، الأمر الذي دعا اللُّغويّين حول العَالَم إلى التشاور بشأن إيجاد عبارات بديلة، وذلك من خلال تفعيل هاشتاج «#Reframe covid» (أعيدوا صياغة كوفيد). أعطت «كايثلر» مثالاً في استخدام لفظ «أبطال» للإشارة إلى العاملين بالصفوف الأمامية خلال الجَائِحة، مؤكِّدةً أن استخدام ذلك اللفظ يُبعد التركيز عن التحدّيات الإنسانيّة التي يواجها هؤلاء العاملون. وأخيراً، تشير «سنيلر» إلى أن حجم الدراسة النهائي مازال مجهولاً، وذلك لأنه مازال يتعيَّن عليهم الاستمرار في توثيق المزيد من المُشاركات حتى بعد إتاحة اللقاح وانتهاء فترة التباعُد الاجتماعيّ، وهو أمرٌ غير معلوم ميعاده حتى الآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

بيا آرانيتا

المصدر:

Tracking the Changing Ways We Talk in the COVID-19 Era

الحدود الحديديّة تجزئة للعَالَم

يشهد تشييد الجدران والحواجز، في القرن الحادي والعشرين، على تطوُّر الحدود في عالَم شديد الحركة، وكذلك على ازدهار سوق حقيقيّ للحدود. كتابه «تجزئة العَالَم»(1) يدرس الجغرافي «ستيفان روزيير»، دلالة الحواجز التي حلَّت محلّ الحدود في بعض المناطق من العَالَم، على غرار الجدران والفواصل في المجر، ثمَّ في الولايات المُتحدة، وإذ تهدف حواجز القرن الحادي والعشرين إلى الاستبعاد أكثر من الحماية، فإنها تعكس حالة من عدم المُساواة والظلم…

تعرض في كتابك «أقدم جدار حدودي» في سورية الحالية، الذي يرجع تاريخه إلى 2400 – 2200 قبل الميلاد، بطول 220 كيلومتراً كيف كان شكل هذا الجدار وما هي أغراضه؟

– اكتشف علماء الآثار الفرنسيّون والسوريّون هذا الجدار في سورية قبل وقتٍ قصير من انتفاضة 2011. ويعود تاريخه إلى أوائل العصر البرونزي الرابع (العصر البرونزي الذي بدأ حوالي 3000 قبل الميلاد). يتراوح عرض السور من 0.8 متر إلى 1.2 متر، وارتفاعه حوالي متر واحد، وبطول 220 كيلومترا، وكان مدعوماً في بعض الأحيان بالقلاع. هذا «الجدار الطويل جدّاً»، كما أطلق عليه علماء الآثار الذين اكتشفوه، ربّما حدَّد منطقة معيَّنة لمُمارسة أنشطة دائمة تجمع بين الزراعة وتربية الحيوانات إلى الغرب من الجدار، قبالة المناطق الواقعة إلى الشرق من الجدار، المُخصَّصة للبدو الرحل والرعاة. يشهد هذا الجدار على وجود قوّة مركزيّة قادرة على إدارة هوامشها على مسافاتٍ كبيرة. سور الصين العظيم، أو بالأحرى الجدران، تستمر في تقدُّمها في منطقة أخرى من العَالَم بأهداف متشابهة (إبقاء البدو على مسافة).

تغيّر معنى وشكل هذه الحواجز بمرور الوقت، مع ظهور الأسلاك الشائكة على وجه الخصوص. في سياق الاستعمار، يندرج الفصل ضمن إطار عالمي من الإكراه. ما هي الحواجز الحدودية التي ترمز لتلك الفترة في نظرك؟

– الحاجز الذي بناه الإيطاليّون على الحدود بين ليبيا ومصر في الثلاثينيّات من القرن الماضي يعتبر أساس التقنيات المُعاصِرة في هذه المنطقة (خط مزدوج من الأسوار المكهربة، معزَّزة بالأسلاك الشائكة، ويحدها طريق دورية). كان العَالَم الاستعماريّ مجالاً للتجارب السياسيّة. لقد نشر العَالَم أشكالاً من الهندسة العرقيّة (التهجير الاستبداديّ للسكّان) على نطاقٍ جديد (ترحيل الهنود إلى أميركا الشماليّة، وتهجير الشعوب الرافضة للنظام الاستعماريّ في الإمبراطوريّات المُختلفة، بما في ذلك ليبيا أو الجزائر، وغالباً للاستيلاء على أراضيها). في مواجهة السكّان الأصليّين المُتمردين، سلَّط الاستعمار أشدَّ أنواع العنف.

لذلك تمَّ اختبار السياج الحدوديّ كأداة للهيمنة الاستعماريّة (من بين أمورٍ أخرى). صمَّمتها دول «الشمال» القويّة للسيطرة على «الجنوب»، لكنها أصبحت لاحقاً أداةً للفصل حتى بين بلدان الشمال خلال «الحرب الباردة» (الستار الحديديّ)، ثمَّ انتشرت في القرن الحادي والعشرين كأداةٍ «سياسيّة بيولوجيّة» لإدارة التنقلات البشريّة. إن مفهوم السياسة – السياسة القائمة على بناء الجدار، يقوم على هذه الأفكار ويحيل بالتحديد إلى هذا الغرض من «الحواجز» التي هي أولاً وقبل كلّ شيء أدوات لإدارة التدفُّقات البشريّة. الغرض من الحاجز هو إجبار الأفراد على التفتيش عند نقاط العبور الحدوديّة أو في نقاط التفتيش بشكلٍ عام.

جدار برلين ترك انطباعاً بمظهره الهائل، وامتداده أيضاً تحت الأرض منذ أن تمَّ تقسيم المدينة إلى قسمين ولما يحمله من أبعادٍ رمزيّة. ومع ذلك، كان يهدف لمنع الأفراد من مغادرة المدينة بدل الدخول إليها. هل ألهم هذا «السياج» الرمزيّ للحرب الباردة الحكومات الأخرى؟

– تمَّ بناء معظم الجدران والحواجز الحدوديّة بشكلٍ فعَّال لمنع دخول محيط معيَّن (المنطق الدفاعيّ السائد في المُجتمعات المُغلقة) بدلاً من المُغادرة (منطق السجن). إذا كان للستار الحديدي في البداية غاية دفاعيّة، فقد تمَّ تحويله بشكلٍ فعَّال إلى أداة سجن، وكان الغرض من جدار برلين بالفعل هو منع هروب الألمان الشرقيّين إلى المناطق الغربيّة من برلين. اليوم، الدول التي تحظر مغادرة أراضيها قليلة جدّاً. بشكلٍ عام، تغلق العديد من الأنظمة حدودها، ليس بالضرورة من خلال بناء الحواجز، ولكن من خلال فرض أنظمة قانونيّة مقيِّدة للغاية بشكلٍ عام للمناطق الحدوديّة. لقد ألهم جدار برلين الحكومات الأخرى من وجهة نظر فنِّيّة، إنه بالفعل نموذج أولي لأسوار المدينة المُعاصِرة (القدس). لاحظ أن تكلفة بناء الجدار أعلى بكثير من بناء السور (بمتوسط ​​سعر لا يقلّ عن مليون دولار لكلّ كيلومتر)، لذلك النسخ المُقلّدة لجدار برلين نادرة.

تُظهر بوضوح أن الحواجز من المُرجَّح أن تمنع التدفُّقات غير المشروعة والإرهاب. إنها تكشف عن عدم تناسق في التنقل، وعادةً ما يكون السكّان الأكثر هشاشة هم العاجزون عن عبور الحدود. ألا يوجد تناقض بين عالَم الحركة الفائقة وتضاعُف الحواجز؟

– حواجز الحدود هي في الواقع، قبل كلّ شيء، أدوات لإدارة ومراقبة التدفُّقات البشريّة – «غير القانونيّين» هم كلّ أولئك الذين يتهرَّبون من المُراقبة. فيما يتعلَّق بانسياب التدفُّق، علينا التفكير في فئات جيّدة. العَالَم متحرِّك للغاية، نعم، ولكن فقط لفئتين من الأفراد: الأفراد «المُناسبون» (أصحاب جوازات سفر جيّدة، ومستوى معيشيّ مرتفع) و«المطلوبون» (أصحاب الدبلومات المُلائمة، والمُؤهلات المطلوبة). في تقسيمه للبشرية إلى قسمين، أشار الجغرافيّ ماثيو سبارك (2006) إلى وجود «مواطنة فئة رجال الأعمال»، تسافر بسهولة وتعبر الحدود دون صعوبة. وفي المُقابل يمكن أن نميِّز بشكلٍ ديالكتيكي فئة «المُواطنة منخفضة التكلفة» التي تتكوَّن من الأفراد الذين أصبح العَالَم بالنسبة لهم أقلّ قابلية «للتنقل والحركة».

يمكن أن يكونوا فئاتٍ اجتماعيّة متوسّطة، لكنهم بدون أوراق، وبالتالي يمكن أن يدفعوا لعصابات المُهرِّبين، أو في أسفل السلم، الفقراء الذين ليست لديهم أوراق، والذين يخضعون فعلياً للإقامة الجبريّة (أو المُحاصرون!) من قِبل نظام الحدود العَالَمي. عبَّرت «آن لوري أميلا سزاري» و«فريديريك جيراوت» (2015) عن درجة مرونة الحدود هذه التي تعتمد على طبيعة الأفراد الراغبين في عبورها، بمُصطلح «قواعد الحدود». إنّ حركيّة الأفراد، أو «قواعد الحدود» هذه، تعتمد الآن على المعلومات الشخصيّة التي نوافق على تقديمها إلى السلطات المُشرفة.

تطوَّرت الحواجز إلى سوقٍ مربح بمواد وتصميمات ومعايير محدَّدة. مَنْ هُم المُستفيدون الرئيسيّون من «تجزئة العَالَم»؟

– كتبت «كلير رودييه» (2012) عن التجارة المُربحة لـ«كره الأجانب». تتجسَّد هذه الأعمال المُتعلِّقة بمراقبة الحدود والقمع من خلال ما يمكن تسميته بالتجمُّع «الأمني ​​الصناعيّ» الذي يعدُّ الفاعل الرئيسيّ في السياسات الاقتصاديّة المُعاصِرة. تتكوَّن قاعدة هذا «المجمع»، وهو تجسيد جديد لـ«المجمع الصناعيّ العسكريّ» للحرب الباردة، من الشركات الخاصّة. في الواقع، تزامن تراجع الحروب بين الدول والتهديدات العسكرية البحتة، أو نهاية «الحروب الكبرى» حسب نظريّات المُؤرِّخ «جون مولر»، مع ظهور تهديدات جديدة: أوسع وأكثر انتشاراً ضمن مفهوم الأمن. ومن المُثير للاهتمام أن الأدوات المُستخدمة للتحكم في الحدود (عند نقاط العبور الحدوديّة وعلى طول خط الترسيم) غالباً ما تكون مماثلة للأدوات المُستخدمة لحماية المطارات والمناطق الحرّة وكلّ منطقة بدخول مقيّد. يمكن أن تكون الأسوار الحدوديّة، مثل الكاميرات وأجهزة الاستشعار، مماثلة تماماً لمناطق التسوُّق العادية. تعتبر الحدود أحد الأسواق من بين أسواق أخرى للشركات في المجمع الصناعي الأمني ​​الذي يلبي احتياجات الأفراد أو المجموعات (على سبيل المثال المُقيمين في مجتمع مسوّر) أو الشركات أو الدول (مثل شركة «Schlage» الأميركيّة التي توفِّر أجهزة الحماية للأسر، وكذلك المُعدات البيومترية لشرطة الحدود).

لا تتوقَّف هذه الحواجز عن التطوُّر حتى أصبح «من غير الممكن اجتيازها»، ولكنها تشكّل أساس إستراتيجيّة كاملة من الحلول البديلة للعابرين. هل الحدود المُغلقة تماماً موجودة حقّاً؟

– لا. لا توجد حواجز يتعذَّر اجتيازها، ولكن مثل الباب الأمامي للمنزل، يمكن أن يكون الاقتحام (أو تجاوز الحواجز) مسألة وقت أطول أو أقصر. إذا استمر الضغط على الممر وقتاً طويلاً، فإنّ «غير القانونيّ» أو السارق يأخذ المزيد من المخاطر. لقد صُدِمت لسماع مدير شركة «Eurotunnel» أثناء زيارة جماعيّة مع الجغرافيّين الآخرين من موقع «Coquelles»، وهو يبيّن أن الأنظمة التي تمَّ إنشاؤها مصمَّمة للإبطاء، للردع، لكن المُهاجر الذي يريد حقّاً المرور، سوف يمر في النهاية. هذا ما يجعلني أعتقد أن الحواجز، التي يتمُّ بناؤها دائماً على حساب دافعي الضرائب، قد لا تكون ضرورية. في الواقع، أنا أتفق مع مفكِّرين مثل «كاثرين ويتول دي ويندين» أو «فرانسوا جيمين» الذين يدافعون عن حرّيّة التنقُّل وفتح حقيقي للحدود، وهو الانفتاح الذي يسمح أيضاً للمُهاجرين بالعودة إلى بلدانهم، بدلاً من حبسهم داخل البلدان المضيفة.

أي الحدود يجسّدها كتابك بشكلٍ أفضل ولماذا؟

– سؤال صعب. يجب أن نختار نموذجاً أصلياً. الآن، ما هو الحاجز الحدودي اليوم؟ بشكلٍ عام، يعدُّ هذا أولاً وقبل كلّ شيء عقبة أمام كبح الهجرة غير المرغوب فيها. تستهدف الحواجز أو «الجدران» تدفُّق المُهاجرين في طريقهم إلى منطقة أكثر فرصاً من تلك التي يأتون منها. في الوقت نفسه، نلاحظ أن البضائع من نفس المناطق مرحب بها (التجارة الحرّة هي عقيدة عالميّة، فقط الحركة الحرّة هي المُشكل، كثيراً ما أكرّر لطلابي أن الإنسان هو حبة الرمل التي تعطّل تروس عولمة البضائع). وبالتالي، أودُّ أن أقول إنّ حدود الاتحاد الأوروبيّ في المُستوطنة الإسبانيّة المُحصنة سبتة ومليلية، بالأسوار العالية والمذهلة (لكن رغم كلّ ذلك تقطعها بانتظام موجات من المُهاجرين) ستكون بلا شكّ أفضل مثال، بالإضافة إلى ذلك، إنها تعكس بشكلها المُذهل للغاية مشهد «تجزئة العَالَم» الحالي (بعبارة العنوان الفرعي لكتابي).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: أنتوني غيون

المصدر:

https://www.nonfiction.fr/article-10716-cloisonner-le-monde.htm

الهامش:

1 – Stéphane Rosière, Frontières de fer: Le cloisonnement du monde, 2020, Syllepse, 181 pages.

البطيئون في مواجهة الحداثة

البطء ليس نقصاً في السرعة، بل هو أعلى درجات المُقاومة ضدّ عالَم محموم يسعى إلى حشد الرجال في سباق لا نهاية له من أجل التسارُع. كتاب «الرجال البطيئون: في مواجهة الحداثة»، Flammarion ،2020 ، يكمل بشكلٍ جيِّد العملَ الذي ركَّز على التسارُع أو السرعة، وينقل تركيزنا من أوروبا إلى المُحيط الأطلسيّ، كما يحيلنا بشكلٍ مبسَّط على تاريخٍ طويل من الصراع الاجتماعيّ في حدود مئتي صفحة فقط. كما يكشف أخيراً براعة «الرجال البطيئون» في التصدِّي للتمييز الزمنيّ للحداثة.

تلخِّص لوحة «المطر، والبخار والسرعة» التي رسمها «تيرنر» عام 1844 موضوع الكتاب الأخير لـ«لوران فيدال»، المُؤرِّخ المُتخصّص في حركة المرور عبر المُحيط الأطلسيّ والمدن البرازيليّة. الصورة معبِّرة: على جسر يمتدُّ عبر نهر، تتقدَّم قاطرة قويّة وسط خلفيّة ضبابية لتفرض حركتها على المشاهد. على الجانبين في الأسفل، بالكاد يبرز بعض الأفراد، وكأن سرعة الآلة قذفت بهم جانباً، على قارب صغير، يرقصون أو ينقلون الحيوانات إلى الشاطئ. عندها يلاحظ المُؤلِّف التناقض: «فوق جسر السكك الحديديّة، المُهيمن والرائع، ينتصر العصر الجديد بالفعل، متجاهلاً أولئك الذين لا يستطيعون التكيُّف مع الإيقاع الذي يفرضه».

هؤلاء المُهملون أو المُتخلِّفون عن الإيقاع الحديث للحياة هُم الرجال البطيئون الذين يستعرض تاريخهم «لوران فيدال» بشكلٍ مبسَّط في هذا الكتاب. باعتماد اللوحات والأعمال الفلسفيّة والقصائد، يقودنا إلى فهم ظاهرة البطء عبر التاريخ وكيف تحوَّلت إلى صفةٍ اجتماعيّة مميَّزة، تُنسب إلى شخصيّات مختلفة من العصور الوسطى حتى يومنا هذا: «الهندي الكسول» والأسود «المُتراخي»، والعامل «الباهت»، و«الكسول» أو «الغافل»، المنفيّ المُعاصِر، إلخ. ويشرح المُؤلِّف التطوُّرات الدلاليّة لهذه الصفات المُتعدِّدة التي تحوم حول المُصطلح المركزيّ للبطء. واختار كلماته بعناية ووضوح بعيداً عن العبارات الطنانة، لكنها لا تخلو من بُعدٍ سياسيّ واضح («في مواجهة الخطاب السائد؛ خطاب تمجيد الكفاءة والسرعة»). وبالتالي، جاء العمل امتداداً لحركة هؤلاء الرجال البطيئين الذين تصدّوا لوتيرة الأزمنة المُعاصِرة التي لا ترحم من خلال تغيير الإيقاع، وإبطاء وتيرة العمل بالمصنع، أو تجربة موسيقى جديدة، أو شغل الوقت الميِّت في «مناطق الانتظار»، وهي عادةً أرصفة المدن الساحليّة الأطلسيّة.

تاريخ من التمييز ضدّ البطيئين

في مقدِّمة كتابه، استلهم «لوران فيدال» أفكاره من الجغرافيّ البرازيليّ «ميلتون سانتوس» والشاعر «إيمي سيزير» لكشف مغالطات فكرة «عدم التناسق البديهيّ بين البطيئين والعَالَم الحديث». وقد خصَّص الفصل الأوّل لاستعراض أوجه هذا الاختلال، بدءاً من بيان أصل المُصطلح اللاتينيّ «lentus»: في الأصل يعني شكلاً ناعماً ومرناً، في عالَم النبات، ثمَّ انطلاقاً من القرن السادس عشر اقتصر معناه على الإشارة لقيمة زمنيّة. ومنذ القرن الثالث عشر، ربط اللاهوتيّون أمثال الدومينيكانيّ «غيوم بيرود»، خطيئة التلاشي بالكسل والبطء. وإلى جانب محاربة الدين للكسالى الآثمين يضاف الهاجس التجاريّ في علاقته بالسرعة ضمن المجال الاقتصاديّ.

وهكذا ظهرت أوّل شخصيّة اجتماعيّة «للرجل البطيء»، وقد تجسَّدت بشكلٍ مثالي، لدى الأوروبيّين في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، في هذا «الهنديّ الكسول» في العَالَم الجديد. لكن الرجل البطيء يمكن أن يكون أيضاً من الأوروبيّين والبيض، على غرار «رجال لندن البطيئين»، الأبطال غير السعداء في أغنية إنجليزيّة شهيرة تسخر من عدم استيعاب الوافدين الجدد لقوانين العاصمة. وفي كلّ الحالات، بدءاً من القرن الثامن عشر وما بعده، اكتملت كلّ العوامل التي شكَّلت فكرة اجتماعيّة ترى بأن «البطء في جميع أشكاله عقبة أمام تطوُّر المُجتمع».

وفي الفصل الثاني من الكتاب عودة على السرعة غير المسبوقة للبخار وتطبيقاته الصناعيّة التي تغذِّي «حرباً على البطء». فرضت الآلات وتكاثر السّاعات بجميع أنواعها نظاماً زمنيّاً جديداً على العُمَّال. منذ نهاية القرن الثامن عشر، كان مصطلح «بطيء» و«بطيئة» وصماً للعُمَّال البطيئين للغاية. وبعد قرن من الزمان، أصبحت عبارة «الرجل الغافل» ملتصقة بالرجال غير المُناسبين للعمل الصناعيّ. الهنود الأميركيّون والسود المُستعمرون متهمّون أيضاً بـ «التراخي»، ولذلك استبعدوا إلى أسفل التسلسل الهرميّ الاجتماعيّ والعرقيّ الذي يعتمد بشكلٍ خاصّ على السرعة التي مجَّدها «جورج سيميل» و«فيليبو مارينيتي» و«مارسيل بروست». وفي فرضيّة جريئة تستحق التوضيح بشكلٍ أفضل، يرى «لوران فيدال» أن وضع عدد معيَّن من غير المرغوب فيهم اجتماعيّاً من قِبل النظام النازيّ «رهن الاعتقال» يعتبر «تتويجاً لهذا الحبس المجازيّ والتمييزيّ الذي يحشر فيه كلُّ مَنْ كانت حركاته في العمل ونمط حياته غير متكيِّفة مع المعايير الإيقاعيّة الجديدة للمُجتمع».

القوة التخريبيّة لتغييرات الإيقاع

الفصل الثالث اختار له الكاتِب، بشكلٍ متناسق، عنوان «الارتجال». هذا الإيجاز يعكس بشكلٍ مباشر الانقطاعات في إيقاع «الرجال البطيئين»، انقطاعات «يمكن أن يصبح استخدامها غير المُتوقَّع وغير المُخطَّط له أداةً لمُعارضة استبعاد البطيئين». وفي الفصل الرابع، تتخذ هذه التمزُّقات والانقطاعات أشكالاً مختلفة. من القرن الثامن عشر فصاعداً، على سبيل المثال، عمد العبيد إلى تخفيض وتيرة العمل في المزارع في كلٍّ من الولايات المُتحدة والبرازيل. وقام العُمَّال الأسكتلنديّون بالشيء نفسه في نهاية القرن التاسع عشر للحصول على زيادة في أجورهم. كذلك أطلقوا حركة الـ«Go Canny» («تحرك ببطء»). لكن في بعض الأحيان هناك تحويل متعمَّد لمعنى بعض المُصطلحات التحقيريّة، على غرار كتاب «بول لافارج» «الحق في الكسل» (1880) أو «روبرت لويس ستيفنسون» «اعتذار الخاملين» (1877).

لكن المُدن الساحليّة في المُحيط الأطلسيّ و«ريو دي جانيرو» و«نيو أورليانز» في المُقدِّمة، وسكّانها من العُمَّال ذوي المهارات المُتدنيّة، الحمَّالون، هو ما يُثير اهتمام «لوران فيدال» بالأساس. يتكوَّن هؤلاء السكّان من نازحين سود وأوروبيّين وعبيد سابقين ومهاجرين، وهم يتناوبون بين النشاط المحموم وأوقات الراحة. كما أنهم يتردَّدون على «هونكي تونكس»، حيث يتمُّ اختراع موسيقى الراغتايم والكريوليوس والمُوسيقى الكريهة، والعديد من الأشكال الثقافيّة، الماديّة والحسيّة، التي تتصوَّر «فرضيّة لعلاقة أخرى بالزمن، ليس الزمن السّائد، بل الزمن المُحرِّر».

ولئن سعى المُؤلِّف إلى التمييز بين شخصيّات مختلفة من «الرجال البطيئين» في التاريخ، فقد طرح، قبل صياغة استنتاجه، سؤالاً أساسيّاً: «ماذا لو كانت فئة الرجال البطيئين هي التي تشكِّل هياكل المُجتمعات البشريّة بحدِّ ذاتها بدل أن تكون نتاج سياقات معيَّنة؟».. إن الأمثلة العديدة على التصنيف الاجتماعيّ بين السريعين والبطيئين، خاصّة بين قبائل السكّان الأصليّين الأستراليّين التي درسها عالِم الأنثروبولوجيا كارل جورج فون برودينشتاين، تشير إلى هذه الفكرة. ومع ذلك، يسارع «لوران فيدال» إلى تجاوز المُواجهة بين الظرفيّة والهيكليّة: «إذا بدا وصف أفراد معينين بالبطيئين عادة ثابتة (نجدها في ثقافاتٍ مختلفة وفي أوقاتٍ مختلفة) ، فقد تحوَّلت (في العَالَم الغربيّ على الأَقلّ) لتصبح من خلال تطوُّرها الزمنيّ […] شكلاً من أشكال التمييز الاجتماعيّ».

ماذا عن المرأة البطيئة؟

يرسم «لوران فيدال» ملامح الشخصيّات المُعاصِرة للرجال البطيئين، والمنفيّين وأصحاب السترات الصفراء، من الرجال والنساء. لكن لماذا لم نتحدَّث عن النساء من قبل؟ بالنسبة للمُؤلِّف، «الخطابات المُتعلِّقة بالعمل موجَّهة للرجال بشكلٍ أساسيّ». ولكن المُفارقة أن المرأة لم تكن غائبة عن العمل بأجر، حتى في الصناعة. وبتركيزه على العمل بأجر في المناطق الحضريّة، يتجاهل المُؤلِّف جميع الفروق الدقيقة للعمل في العصر الحديث، حيث تحتلُّ المرأة مكانةً مركزية في الحقول أو في الورش المنزليّة. ورغم استبعادها من معظم الشركات، تمارس المرأة التجارة بحرّيّة إلى حدٍّ ما، لا سيما في الأنشطة التجاريّة الصغيرة والكبيرة، وحتى في الأعمال التجاريّة الخاصّة في بعض الأحيان. لذلك، لا نرى أنه كان من المُمكن أن تفلت المرأة من أوامر السرعة أو وصمهن بالبطيئات على غرار الرجال. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الاتهام بالكسل، الذي يظهره «لوران فيدال» بوضوح في التسلسل الهرميّ الاجتماعيّ والعرقيّ، يغذِّي أيضاً التسلسلات الهرميّة الجنسانيّة في الأماكن العامّة والمنزليّة. في عام 1531، حصل رجل قتل زوجته على عفوٍ ملكيّ بعد إدانته لحالة الخمول والكسل التي كانت عليها في المنزل! باختصار، كان هناك تمييزٌ وهميٌّ حول النساء البطيئات، الضعيفات، الكسولات… وقد خصّص له حيّزاً في هذا الكتاب.

تشبيه أدبيّ أم علاقة سببيّة؟

أخيراً، هناك مسألة أثارها استخدام القياس في الكتابة، ولا نعرف دائماً ما إذا كانت استحضاراً أدبيّاً أو عرضاً علميّاً. يعتقد «لوران فيدال»، على سبيل المثال، أن الإغماء المُوسيقيّ، الذي يُعرَّف على أنه تحوُّل سريع من الإيقاعات الضعيفة إلى إيقاعات قويّة، يميِّز جزئياً المُوسيقى التي تمَّ اختراعها في «هونكي تونكس» لمدن الموانئ الأطلسيّة: «هناك تشابه واضح بين وضع الرجال البطيئين في مجتمع «نيو أورليانز» أو «ريو دي جانيرو»: هؤلاء المُستبعَدون والمُهمَّشون يمنحون أنفسهم، من خلال الاستخدام الخفي للإغماء المُوسيقيّ، قوة تسمح لهم بإحباط الزمنيّة الجديدة التي تدَّعي التحكُّم فيهم، جسديّاً وروحيّاً».

ماذا نفعل بهذا التشابه بين السيرورة المُوسيقيّة للإغماء ومواقف الحمَّالين فيما يتعلَّق بالأزمنة المُهيمنة، وخاصّة لعُمَّال الموانئ؟ هل نستنتج أن الخصائص الزمنيّة لهذه المُوسيقى يجب أن تفسَّر على أنها علامات مقاومة لهذه الفترات الزمنيّة؟ فرضية غير مستبعدَة، لكن الدليل غير كافٍ. ربّما نكون هنا ضمن الحدود المُتأصِّلة لمُمارسة المقالة في التاريخ، حيث تترك الكتابة، التي تبتعد قليلاً عن الشكُّل الرسميّ مقارنة مع المقالة العلميّة، مساحة أكبر للتفسير.

لكن هذا التحفُّظ لا يجعلنا نشكّك في الفائدة العلميّة لكتاب «الرجال البطيئون: في مواجهة الحداثة». إنه يكمل بشكلٍ جيِّد العمل الذي ركَّز على التسارع أو السرعة، وينقل تركيزنا من أوروبا إلى المُحيط الأطلسيّ، كما يحيلنا بشكلٍ مبسَّط على تاريخ طويل من الصراع الاجتماعيّ في حدود مئتي صفحة فقط. وبعيداً عن الحدود المُوضَّحة أعلاه، كشفت كتابات «لوران فيدال» عن براعة «الرجال البطيئون» في التصدِّي للتمييز الزمنيّ للحداثة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كوم سوشيير

المصدر:

https://laviedesidees.fr/Vidal-Les-hommes-lents.html

نقَّاد يوتيوب.. «صديق الأفلام» المُتهم بإفساد النقد السينمائيّ

منذ أيام ظهر المُخرج «مارتن سكورسيزي» بمقالٍ يتناول أوضاع السينما في عصر المنصَّات الإلكترونيّة، أبدى فيه استياءه من عبارة «محتوى» التي صارت تتردَّد بكثرة في وصف الأفلام والمُسلسلات التي تبثها المنصَّات، بكلِّ ما تحمله الكلمة من هلاميّة.

والحقيقة أن استخدام العبارة تجاوز ما يغضب «سكورسيزي»، فباتت تشمل أي منتج ترفيهي صوت-مرئي، شركات الإنتاج تبحث عن محتوى للبث، والجمهور يبحث عن محتوى لملء ساعات الفراغ، ومواقع التواصل تكافئ صُنَّاع «المُحتوى»، ومن ضمنهم مدوِّنو الفيديو ونقَّاد (اليوتيوب) أصحاب المُراجعات النقديّة المُصوّرة للأفلام. المُحتوى هو عملة العصر إذن، لدرجة أنه باتت هناك مهنةٌ تسمَّى «صانع محتوى».

أحياناً أفكِّر فيما كنَّا نقدِّمه ونستهلكه قبل ظهور مفهوم المُحتوى، وأخرج بأنه على الأرجح كان «محتوى» أيضاً مع الفارق أنه لم يكن بغرض الملء!

كلُّ شيءٍ يتغيَّر في عالَم الأفلام والترفيه المرئي، شكل السوق، أقطاب الإنتاج، وسائط المُشاهدة. الجمهور نفسه يتغيَّر. فلا عجب من تغيُّر شكل النقد الفنّيّ والسينمائيّ.

«نقَّاد يوتيوب»: شبَّان من نفس عُمر الجمهور يقفون أمام كاميراتهم المنزليّة ليتحدَّثوا عن آخر ما شاهدوه أو قرأوه أو سمعوه ويشاركوا تلك المقاطع على موقع «YouTube»، يفعلونها بطبيعيّة، الناجح منهم يتمتَّع بحدٍّ أدنى من القبول وخفَّة الظلّ والطلاقة. سلاحهم الجرأة والتحرُّر من الحواجز القديمة بين الكاتِب والقارئ، فلا رقابة، ولا محرِّرين ومدقِّقين، ولا توازنات، ولا نحو ولا صرف، ولا معيار .. وفي أحيانٍ لا نَصّ.

أعطت مواقع التواصل الاجتماعيّ صوتاً حُراً للجميع، ديموقراطيّة في التعبير وديموقراطيّة في جني المكاسب الماديّة عن طريق الإعلانات التجاريّة التي تتخلَّل مقاطعهم، فصانع المُحتوى/ناقد «اليوتيوب» لا يربح بمرتَّب مضمون ينفقه ربّ العمل، بل يربح مباشرةً عبر مستهلكي محتواه، ضغطة منك على مقطع بعينه بمثابة توجيه من المُعلنين أو الرعاة للدفع لصاحب المقطع.

عملية تبدو أكثر عدالة وشفافية في توزيع العوائد، وقد تكون حافزاً لصانع المُحتوى بالاجتهاد، لأنه لن يأكل إلّا من حصيلة إنتاجه الفعليّة. لكن الخطورة تكمن في أن الحصيلة التي يبحث عنها صانع المُحتوى تتمثَّل في أرقام مشاهدات، أرقام معبِّرة عن حجم تأثيره والطلب عليه. إغواء الأرقام لن ينال من قِلّة تؤمن بما تفعله، لكن الغالبية ستدفعها الأرقام للسعي وراء زيادتها، وبالتالي سيكون عليهم تقديم مزيد من المُحتوى، حتى لو انتهى أحدهم من مراجعة كلّ الأفلام تجده يبدأ في مراجعة إعلانات الأفلام ثمَّ ملصقاتها الدعائيّة، كلّ ذلك بغرض جذب مزيد من المُتابعين وهو حقٌّ مشروع، لكن التجميع اللاانتقائيّ للمتابعين يزيد من الضغوطات عليه لإرضاء الجميع، فتتآكل الحرّيّة شيئاً فشيئاً ويفقد صانع المُحتوى أهمّ مزاياه.

كثير من نقَّاد «اليوتيوب» اعترفوا بأنهم جرَّبوا ممارسة النقد المكتوب، لكن اتَّجهوا بعدها للنقد المُصوَّر، لأنهم لم يجدوا أصواتهم في الكتابة، ولم تلقَ كتاباتهم رواجاً. ولا ننسى أن المساحات النقديّة التي تمنحها الصحف والمجلّات المطبوعة أصبحت في نقصانٍ مستمر، مع قِلّة مَنْ يفضِّلون القراءة على المُشاهَدة بصفةٍ عامّة، وهي من أسباب تشكّل تلك الظاهرة.

من ناحيةٍ أخرى، فلا شكّ أن طريقة الإلقاء عبر اللُّغات العامّية أسهل، وتدعمها وسائل مساعدة مثل التمثيل والانفعالات والإيماءات ولغة الجسد. أي أنها موهبة خاصّة بمعزل عن موهبة الكتابة وثقل الثقافة السينمائيّة.

من حينٍ لآخر، يحاول بعض النُقَّاد التقليديّين ركوب حافلة الحداثة وتأسيس قنواتهم الخاصّة على «يوتيوب»، لكن رغم خبراتهم وتفوُّقهم الثقافيّ لم يستطيعوا مجاراة السكّان الأصليّين لـ«اليوتيوب»، أبرز مثال على ذلك ناقد صحيفة الغارديان اللامع «بيتر برادشو» مؤلِّف كتاب «الأفلام التي صنعتني»، والذي اتّجه مؤخَّراً لتقديم بعض مراجعاته بالطريقة المُصوَّرة، لكنها لم تلقَ الإقبال المُناسب، مراجعته للجزء الثاني من فيلم «Wonder Woman» حقَّقت حوالي 500 مشاهدة، أما ما حقَّقته مراجعة «كريس ستاكمان»، أحد نجوم النقد على «يوتيوب»، لنفس الفيلم فتجاوزت المليون و800 ألف مشاهدة. رغم تفاوت القيمة والخبرة بين النَّاقِدَيْن.

جزءٌ كبيرٌ من نقَّاد «اليوتيوب» لهم خلفيّات مع مهن العروض والإلقاء، ممثِّلون وكوميديانات لم يجدوا الفرصة، مدرِّسون أو إعلاميّون ناشئون …إلخ، وهو ما يمنحهم التفوُّق كمُقدِّمي عروض مرئية قبل أن يكونوا محلِّلين جادين للأفلام.

ولنعطيه حقَّه، وسيط الفيديو أكثر صلةً بفَنّ السينما مقارنةً بالتدوين النثريّ، حيث يُمكِّن صانعه من الاستعانة بمواد صوتيّة وبصريّة ملائِمة للموضوع ومصاحِبة له بشكلٍ يجعل المُراجعة النقديّة أكثر تكاملاً.

لكن عدد محدود من نقَّاد «اليوتيوب» مَنْ أحسنوا استغلال تلك الإمكانيات، على رأسهم قناة بعنوان «Every Frame A Painting»، كانت تقدِّم النموذج الأمثل للمقالة المُصوَّرة، وتعمَّقت في تفاصيل وتاريخ فنّ السينما فاهتمَّت بإبراز لغة الصورة وشرح وظيفة كلّ حرفة سينمائيّة من المُونتاج للتكوين للصوت، وقدَّمت مراجعات لعددٍ من الأفلام بطرحٍ متعمِّق، لكنها توقَّفت عن العمل منذ سنوات مصيرها مثل القنوات التي تسلك الطريقة الجادة في استغلال هذا الوسيط النقديّ، فالجهدُ الذي تتطلَّبه صناعة مقطع واحد بالمعايير الصحيحة أكبر ممّا يظن كثيرون، المادة تحتاج لإنتاج وتجميع ومونتاج وتعليق وهندسة صوتيّة وتفكير بمرجعيّة بصريّة، وقبل كلّ ذلك تسويات مع شركات الأفلام المالِكة لحقوق المواد المعروضة.

عملية شاقة أكبر من قدرات المُتطوِّعين مهما كان العائد، لدرجة تدفع بالآخرين لطريق الاستسهال، فتصير مع الوقت مراجعاتهم مجرَّد وصلة من الكلام، انطباعات عن الأفلام أغلبها سطحي، كثير من النعوت على طريقة «… القصّة جيّدة لكن التمثيل سيئ..»، خوف من التعمُّق في أي تفاصيل فكريّة أو حرفيّة عن موضوع العمل، لأن هذا قد يعرِّض أحداث القصّة للحرق، أو لأن الناقد لا يتمتَّع بحصيلة ثقافيّة ومعرفيّة كافية تسمح له بتقديم مزيد من الإضاءات.

من هنا يصبح الهدف الأول للمُراجعة هو ترشيح الفيلم للمُشاهدة أو عدم ترشيحه، تلك واحدة من الوظائف الكلاسيكيّة للناقد، لكنها ليست الوظيفة الأهمّ أو الوحيدة.

 

روجر ايبرت وجين سيسكل

الراحل «روجر إيبرت»، وهو أحد نقَّاد السينما المُخضرمين، سبق أن كتب: «وظيفة الناقد أن يشجِّع الحاسة النقديّة لدى قرَّائه، يعرِّفهم بأحدث تطوُّرات الفَنّ، يهتمُّ بالمشهد المحليّ، يتجاوز اهتمامات المُعجبين بفنَّانين وأفلام بعينها، يستشعر الظواهر الاجتماعيّة، يستحضر السياقات الأشمل للأعمال الفنِّيّة، يُعلِّم، يُخبر، يُسلِّي، ويُلهم».

المُفارقة أن معظم مَنْ نتحدَّث عنهم ليسوا لاهثين خلف رتبة «الناقد» التي يمنحها «إيبرت»، على العكس، يتنصَّلون من الكلمة في كلِّ مناسبة، وهي وسيلة ماكرة للتحرُّر من أي إلزامات يفرضها حرَّاس المهنة القدامى، لذا تنوَّعت إجاباتهم عن سؤال: هل تعتبر نفسك ناقداً؟ يقول «كريس ستاكمان»: «على الورق أُعتبر ناقداً، لأنني أتحدَّث بشكلٍ نقديّ عن الأفلام، لكن حلمي أن أُقدِّم نفسي كعاشق للأفلام». وتقول «هايزل هايز»: «لا أعرف إنْ كنت سأطلق على نفسي ناقدة، لكنني بالأحرى متفرِّجة نشطة». وتقول «أليشيا كوين»: «لم أدَّعِ يوماً أنني خبيرة سينمائيّة، أو محلِّلة للأفلام. التقييمات التي أعطيها مبنيَّة على شعوري تجاه الأفلام».

النقدُ المُصوَّر له إرهاصات وتاريخ قبل «اليوتيوب»، ويرجع تأسيسه في الأغلب لـ«روجر إيبرت» نفسه، فبالتوازي مع كتاباته لصحيفة «شيكاغو صن تايمز» منذ ستينيّات القرن الماضي، بدأ ظهوره في منتصف السبعينيّات على القنوات التليفزيونيّة مع زميله «جين سيسكل»، حيث قدَّما برامج تناقش وتحلِّل الأفلام مثل «Sneak Previews» على قناة «PBS»، وبرنامج «At The Movies» على شبكة قنوات «ABC».

ورغم الشعبيّة الكبيرة التي حقَّقتها تلك البرامج، تظلّ كتابات «إيبرت» الصحافيّة وما نُشر في كتبه هو المرجع الذي يذهب له دارسو السينما والسينيفيل وصُنَّاع الأفلام. شئنا أو أبينا لازالت الكلمة المطبوعة أسهل في الأرشفة وأنسب لمرجعيّة الأبحاث، مقارنة بساعاتٍ متلفزة أكثر تعرُّضاً للتلف عبر الزمن وأصعب في التنقيب بداخلها بالنسبة للباحثين.

نفس الظاهرة موجودة بالنقد السينمائيّ العربيّ، فحين ترغب في معرفة ما كُتب عن فيلم منذ ثلاثة عقود، الأرجح أنك ستراجع كتابات سامي السلاموني أو إبراهيم العريس أو سمير فريد، لكن من الصعب أن تعرف ما قاله يوسف شريف رزق الله مثلاً، رغم كونه الناقد المصريّ الأكثر شهرة ونجوميّة بين أقرانه لظهوره المُكثَّف على القنوات التليفزيونيّة وصناعتها وإعدادها، لا أحد يعرف مصير تلك الساعات التي سجَّلها أو يستطيع الاطلاع عليها بسهولة.

ليس الزمن وحده ما يقف في صف النقد المكتوب، شركات الإنتاج أيضاً مازالت لا تعترف إلّا بالنقد المكتوب، والدليل أنها تستعين بجُمل وفقرات مأثورة من المُراجعات المكتوبة لتعيد طبعها على ملصقات الأفلام الدعائيّة. ببساطة الجملة المنثورة بتركيب بلاغي وتنظيم لغويّ لازالت الوسيلة المُفضَّلة للتواتر، مقارنةً بالإيماءة ولغة الجسد!

الحديث عن الأفلام له ألف شكل وغاية، وهو في العادة مُسلٍ ومثير للفضول. من الجميل معرفة مَنْ يشاركون تفضيلاتك حتى لو لم يضيفوا شيئاً لثقافتك السينمائيّة. ربَّما التوصيف الأقرب لنُقَّاد «اليوتيوب» هو توصيف «أصدقاء الأفلام»، أولئك الذين تفضِّل الذهاب للسينمات بصحبتهم تحديداً، وما أن تُضاء الأنوار بعد نهاية الفيلم يبدأ النقاش الحماسيّ حول ما شاهدتموه، والفرحة الصبيانيّة بأنّ ملاحظاتكم واحدة، وتفضيلاتكم واحدة. لنتجاهل فقط أنهم صاروا الآن أصدقاء بالأجر وتتخلَّل مناقشاتكم بعض إعلانات الرعاة.

ديفيد فينشر.. الأفلام على طريقة بيكاسو

منذ فيلمه «Gone Girl»، غاب، «ديفيد فينشر» عن السينما لمدّة ستّ سنوات، بدت كالدهر. ستّ سنوات، صنع خلالها «فينشر» عدّة مسلسلات، لكنه توقَّف، عمليّاً، عن كونه صانع أفلام. وحتى عودته، مؤخَّراً، بفيلم «Mank»، كانت بفضل «نتفليكس»، مع عرض الفيلم، بالتوازي، في دور السينما، وبذلك عاد «فينشر» لصناعة الأفلام، بموضوع يمنحه فرصة جديدة ليتناول علاقته بصناعة السينما، والصراع الأزلي فيها بين ما يُكتَب في نصوص السيناريو وما يتمّ تصويره فعلاً.

إنها محاورة شاملة مع عملاق الإخراج، ومُخرج التحدِّيات، وسكّين الجيش السويسري في «هوليوود»، وسبّاك الطوارئ، والخطّ الساخن على مدار (24) ساعة، والدواء الشافي لجميع الوعكات. إنه مخرج كبير، لكنه، أيضاً، وقبل كلّ شيء، أكبر محترف في السينما الأميركية اليوم، ليس اليوم، فقط، بل الأمس، وحتى قبل ذلك.

اختفى «فينشر» من الشاشة (الكبيرة) بعد «Gone Girl» عام (2014)، بعد أن أطلق «House of Cards»، المسلسل الذي وضع «نتفليكس» على خريطة منصّات البثّ، ثم وجدناه مخرجاً ومشرفاً فنِّيّاً لعدة حلقات من «Mindhunter»، ومنتجاً تنفيذيّاً لسلسلة الرسوم المتحركة والخيال العلمي «Love, Death & Robots». قال عنه صديقه المخرج «ستيفن سودربيرغ» في أحد أعمدة هذه المجلّة، قبل عامين: «ديفيد لم يعمل بجدّ، أبداً، في السابق. لقد اعتاد أن يأخذ فترات راحة طويلة بين مشاريعه، لكنه الآن يعمل بجد أكثر، ففي «Mindhunter» أعطى %2000 من طاقته، على جميع مستويات الإنتاج، وانغمس، تماماً، في العمل»، وهو محقّ بشأن الانغماس، لكنه كان انغماساً في جزيرة المسلسلات، بعيداً عن شواطئ السينما. منفى طوعيّ يكشف عن توعُّك وخيبة أمل في نظام الاستوديو، بطفرته الحديثة.

لا يمكن فصل فيلم «مانك» عن هذا السياق، تحديداً، بل لا ينبغي ذلك، وهو الفيلم المبني على كواليس صناعة الفيلم الكلاسيكي «المواطن كين» (1941)، للمخرج «أورسون ويلز»، الذي ظلّ، لوقت طويل، يصنَّف باعتباره «فيلم الأفلام»، وبالاستناد إلى سيناريو بتوقيع والده الراحل «جاك فينشر»، الصحافي السابق وعاشق الأفلام، حيث يقدِّم «مانك» إعادة نظر حول «هوليوود الماضي» بدقّة، وبطريقة مفتونة مثلما فعلها «كوينتن تارانتينو» في فيلمه الأخير حول المشهد السينمائي في عام (1969)، أو مثلما فعلها «ألفونسو كوارون» مع أحياء المكسيك، حيث نشأ.

في «مانك»، يضع «فينشر» نفسه في خطر، حيث تجرَّأ على خوض مغامرة نفسية تخصّه، ففي الطبقة الثانية من قصّة «مانك»، يواجه «فينشر» طموحاته الخاصّة، بوصفه فنّاناً، والطريقة التي يمارس بها حرفته، وذكريات طفولته، وشغفه، وأقرانه، ومُلهميه، وكذلك والده نفسه. لم يعد هناك «حِرفيّون خارقون» يصمدون عبر الزمن. لا مكان للتراجع أو التردُّد، لا زال موقف «فينشر» المطبق هو نفسه، كما كان سابقاً مع سيناريو بواسطة «آرون سوركين» (الشبكة الاجتماعية)، أو «إريك روث» (الحالة الغريبة لبنجامين باتون)، أو «ستيفن زيليان» (الفتاة ذات وشم التنين).

«مانك» هو مشروع شخصي، مشروع عائلي، علاج نفسي، وغوص عميق في دماغ الصانع، حيث تتحدّ كلّ العدسات معاً، علاقته بالأفلام، علاقته بالآخرين، الحقيقي منها والزائف، وعلاقته بالكلمات، وتلك الخاصة بأبيه، وتلك الخاصة بكُتابه، وتلك المكتوبة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وما لن يكتبه أحد، بعد، الآن، لأن الكتابة لم تعد مسموحة.

المحاور: بين الفيديو الموسيقي لـ«مادونا» «يا أبي» وحصون العزلة التي نجدها في جميع أفلامك تقريباً، يبدو أنك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ «المواطن كين»

– ديفيد فينشر: نعم، يرجع الأمر لسنوات بعيدة. صناعة هذا الفيلم في الواقع تمت بفضل تقاعد والدي «جاك فينشر». كان لديه مسيرة مهنية جيِّدة في الصحافة (كان رئيس تحرير مجلّة لايف). في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي جرب كتابة السيناريو، لكن الأمر لم ينجح. ومع تقاعده، فجأةً، وجد لديه الكثير من الوقت، وليس هناك الكثير للقيام به للاعتناء بنفسه، وسألني إذا كان هناك أيّ مواضيع يمكنه اختبارها بنفسه.

متى كان ذلك؟

– بين (1990) و(1991)، شيء من هذا القبيل. بعد أن انتهيت من تصوير فيلم «Alien 3» مباشرةً، عدت إلى التفكير في مقالة كتبتها «بولين كايل» بعنوان «نشأة كين» والتي كنت ناقشتها مع والدي كثيراً، وأنا صغير. يجب أن تعلم أن والدي كان مجنوناً بالسينما. عندما كنت طفلاً، كنت دائماً أشعر بالفضول لمعرفة من يعتبره أفضل ممثِّل أو أفضل مخرج أو أفضل مهندس صوت أو أفضل مخرج للتصوير الفوتوغرافي. بالنسبة إليه، كان أفضل فيلم أميركي، على الإطلاق، هو فيلم «المواطن كين»، دون أدنى شك. عندما كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، لم يكن لديَّ أيّة فكرة عمّا تعنيه عبارة «المواطن كين»!. لقد لاحظت، مؤخَّراً، أن الأمر يتعلّق بقصّة صحافي، مثل جميع أفلام والدي المفضَّلة طوال حياته: مساعدته، كلّ رجال الرئيس، الصفحة الأولى. وقتها، بين عامَيْ (1970) و(1971)، كي أتمكَّن من مشاهدة فيلم عمره ثلاثين عاماً، كان لابدّ من عرضه على التلفزيون أو في سينما خاصّة. والفرصة أتت، أخيراً، في المدرسة، عندما كنت في الصف السابع، وكانت هناك رحلة مدرسية لمشاهدة نسخة (16 ملم) من «المواطن كين». كان والدي متحمّساً جدّاً. في ذلك العمر، كنت قد شاهدت -بالفعل- أفلام «سبارتاكوس» (2001)، و«لوليتا»، و«الدكتور سترينجلوف». بالنسبة إليَّ، كانت «الأفلام القديمة» تعني الأشياء من عام (1962) إلى العام الذي ولدت فيه؛ لذلك بدا لي فيلم يعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً مثل الكتابة الهيروغليفية أو الجدّاريات في الكهوف. لم يكن لديَّ أيّة فكرة عمّا سأختبره.

ثمَّ..؟

– لقد كان عيداً حقيقياً، وصدمة مدمّرة. شعرت بكلّ من حداثة الفيلم، وكلاسيكيَّته، وحدَّته، ودقَّته. وكانت هناك هذه الجمل: «لو لم أكن بهذا الثراء، لكان بإمكاني أن أصبح رجلاً عظيماً». حتى في سنّ الثانية عشرة، قلت لنفسي: «ربّاه، هذا جيّد!».

من المؤكَّد المؤكَّد أن والدك كان سعيداً.

– عندما وصلت إلى المنزل، تحدَّثنا عنه طويلاً. لقد شرح لي طبيعة (الكلاسيكية) ذاتها، ولماذا ظلَّت تلك التيمات صالحة لعصرنا، ولماذا أدهشتني، وهي لم تُصنع، نظريّاً، لمراهق في شمال كاليفورنيا، في حقبة السبعينيات. باختصار، كان هذا الفيلم جسراً للتحدُّث، بشكل أعمق، عن السينما. بعد مدّة، قرأت كتاب «بولين كايل» عبر الميكروفيلم، في المكتبة. حتى ذلك الحين، لم أكن قد سمعت عن «هيرمان مانكويتس»، ولم أتخيَّل أن إسهام كاتب السيناريو يمكن أن يكون له مثل هذا التأثير في أسلوب الفيلم. لم أكن أدرك، ببساطة، حقيقة أن الكتابة والإخراج هما تخصُّصان منفصلان، لكنهما متساويان (وحاسمان، أيضاً) في نجاح العمل السينمائي.

من هنا بدأ والدك في كتابة النصّ؟

– نعم. في وقت لاحق، جعلني أقرأ مسوَّدته الأولى. من الصعب وصف ذلك. لقد كان ذلك مثل قراءة عريضة من نقابة الكُتّاب الأميركية للتنديد بالظلم الذي عانى منه كُتّاب السيناريو، الذين تعرَّضوا لسوء المعاملة، دائماً، من قِبَل المخرجين الذين لم يتردَّدوا في استغلال مناصبهم للحصول على الملكية من عمل الكُتّاب. حسناً، حسناً… كنت عائداً، للتوّ، من تصوير «Alien 3»، وكانت لديَّ تجربة شخصية مناقضة، تماماً، مع مجموعة من الكتّاب المرتزقة، مرَّ الواحد منهم تلو الآخر دون أن يأخذ أيّ كاتب منهم الأمور على محمل الجدّ، بما يكفي لجعل الفيلم متماسكاً. أمّا النصّ الذي كتبه والدي فكان عن شخص مغرور، يمسح حذاءه على كاتب سيناريو مسكين. أمر مفرط في التبسيط بالنسبة إليَّ.

هل تلقّى ملاحظاتك بطريقة خاطئة؟

– لا. كان يعلم أنه لم يخترع الذرَّة.

 

 

إذاً، أنت من أحدثت التغييرات، خاصّة الخلفية السياسية للفيلم، فيما يتعلَّق بقصّة الناشط «أبتون سنكلير» وانتخابات «كاليفورنيا» لمنصب حاكم الولاية، في عام (1934)؟

– لا. بعد عامين من مسوَّدته الأولى، صادف «جاك» فيلماً وثائقياً يتحدَّث عن مشاركة المنتجِيْن «لويس بي»، و«ماير»، و«إيرفينغ ثالبرج» في هذه الحملة الدعائية، بتسخير موارد استوديو «MGM» في خدمة آرائهم السياسية. تخيَّل صدمة والدي المتحمِّس للسينما، والذي كان، حتى ذلك الحين، يوقِّر «MGM»، ويضعها في مكانة «روزل رويس» الستوديوهات. لقد افتتن بقصّة «سنكلير» وحركته الاجتماعية «EPIC» (إنهاء الفقر في كاليفورنيا)، وكيف فبركت «MGM» الأكاذيب من أجل تشويه سمعته. كان ذلك نوعاً من الأخبار المزيَّفة. ومن خلال تطعيم ذلك في قصّة، بالتوازي مع صناعة «المواطن كين»، توصَّل إلى مسوَّدة جديدة امتدت قليلاً، في كلّ مكان، لكنها فتحت منظوراً شائقاً حول ما يمكن أن يحدث في العلاقة بين رجل الأعمال «William Randolph Hearst» (واحد من أقوى الرجال)، وبين السيناريست «هيرمان مانكويتس»، أحد أذكى العقول في ذلك الوقت، رجل اتَّفق على براعته «ببن هيكت» وجميع رجال مائدة «ألجونكوين» المستديرة في «هوليوود» (مجموعة مؤثِّرة من الكتّاب وكتّاب السيناريو). بصراحة، إذا كان «بين هيكت» يعتقد أنك عبقريّ، فعليك أن تكون واحداً. أليس كذلك؟ لم أكن متأكِّداً تماماً من كيفية ترجمة هذا من وجهة نظر درامية حتى تلك اللحظة، لكنني أحببت فكرة هذا الرجل الذي كانت مساهمته الوحيدة في كتابة فيلم «ساحر أوز» اقتراحه بأن تكون «كانساس» بالأبيض والأسود، و«مونشكينلاند» بالألوان. وهو أحد أكثر تأثيرات الأفلام التي لا تُنسى. إنه مثل القنّاص المحترف الذي هبط على مشروع متأزم، فألقى بفكرة رائعة ثم غادر، بهدوء، لتناول مشروبه، مقتنعاً أنه أفضل بكثير من ذلك؛ من هنا، وضعنا الملامح الرئيسية للشخصية.

لكن المشروع لم يؤتِ ثماره.

– لقد أجرينا الكثير من التصحيحات، ورمينا بالأشياء، ذهاباً وإياباً. وبعد ذلك، في بين عامَيْ (1997)، و(1998)، بعد انتهائي من فيلم «The Game» مباشرةً، كدنا أن ننفِّذ المشروع بالتعاون مع «بوليجرام»، وهي شركة إنتاج مستقلّة، لكنهم انسحبوا في اللحظة الأخيرة، قائلين: «لمن توجِّهون هذا الفيلم؟» حسناً. لا يمكننا أن نلومهم تماماً، أيضاً. وها نحن نوقف المشروع. وضعنا العمل على الرفّ، ليجمع الغبار، منذ ذلك الحين. توفِّي «جاك» عام (2003)، بعد عامَيْن من محاربة المرض. فقدت الأمل، وقلت: ربَّما ستقرؤه ابنتي يوماً ما. بعد ذلك، في نهاية الموسم الثاني من «Mindhunter»، ذهبت لرؤية «تيد ساراندوس»، و«سيندي هولاند»، مديرَيْ برامج نتفليكس، وقلت لهما: «انظرا. لا أرى نفسي أعود، مرّة أخرى، لمدّة عامين، في موسم ثالث، أفضِّل قضاء عام في مشروع أكثر تواضعاً، مع رفاهية قضاء ستّة أشهر من مرحلة ما قبل الإنتاج؛ بهدف تصميم ساعتين، فقط، من المحتوى بدلاً من عشر ساعات، فقالوا: «حسناً. ماذا لديك؟، فمرَّرت لهم نصّ «Mank»، دون الكثير من الأمل، لكنهم كانوا متحمِّسين لذلك، فأجبتهم: «متى نبدأ؟».

لقد اعتدنا على اعتبار المخرج «أورسون ويلز» رجلاً خارقاً، فرقةً مختصرة في رجل واحد، عبقريّاً، قوّةً من قوى الطبيعة…

– هل ذلك حقيقي؟ لا، لم يعد كذلك. مع مرور الوقت، أدركنا أنه كان، قبل كلّ شيء، رجل استعراض يتمتَّع بموهبة غير متكافئة، استغلَّ فرصته، ولكن…

المعذرةً لقد قاطعتك.

نعم، لكنني، الآن، أريد أن أعرف ما كنت ستقوله…

– حسناً… أعتقد أن مأساة «أورسون ويلز» تكمن في مزيج من الموهبة الهائلة وعدم النضج البائس. بالطبع، هناك عبقريّة في «المواطن كين»، فمن يمكنه أن يجادل في ذلك؟ ولكن، عندما يقول «ويلز»: «لا يستغرق الأمر سوى فترة ما بعد الظهيرة لتتعلَّم كلّ ما تحتاج معرفته حول إخراج الصورة»،… يمكنك القول إن التعليق يأتي من شخص محظوظ بما يكفي لجعل مدير التصوير «جريج تولاند» على بُعد ياردة منه، مستعدّاً لتصوير اللقطة التالية… «جريج تولاند»! يا إلهي! إنه عبقري لا يُصدَّق! أقول هذا دون تعمُّد التقليل من «ويلز». أعرف ما أدين له به، كما أعرف ما أدين به لكلٍّ من: ألفريد هيتشكوك، وريدلي سكوت، وستيفن سبيلبرغ، وجورج لوكاس، وهال آشبي. ولكن في الخامسة والعشرين من عمرك، أنت لا تعرف ما لا تعرفه. سواء أكنت «ويلز» أم أيّ شخص آخر. لا أسلبه من شيء، ولا سيّما مكانته بين عمالقة السينما الذين أثَّروا في أجيال كاملة من صانعي الأفلام. لكن الادِّعاء بأن «أورسون ويلز» جاء، مباشرةً، من الخلاء، ليصنع «المواطن كين»، وأن بقية أفلامه قد أفسدتها تدخُّلات من أشخاص لديهم نوايا خاطئة، ليس أمراً معقولاً. إنه نوع من التوهُّم والغطرسة.

 

 

لديك طرح متوازن، للغاية، بالنسبة إلى كونك مخرجاً، لم يكن -أبداً- كاتباً لنصوصه الخاصّة.

– أنا ابن رجل كان يكتب من أجل لقمة العيش. أعلم ما يعنيه ذلك. طوال طفولتي وأنا أراه ينقر، بأصابعه الكبيرة، على آلته الكاتبة، ليخرج بعشر صفحات أو اثنتي عشرة صفحة في اليوم، في عزلة شديدة، ليستطيع دفع الفواتير. هذا ليس مفهومي عن الرفاهية… مهما كرهت الإخراج ومشقَّته الإجرائية، حيث يتعيَّن عليك اتِّخاذ قرارات «فنّيّة» في أربع دقائق؛ لأن هناك استراحة غداء. أعرف حقيقة أنه لا شيء يقارن بكونك عالقاً في مكتبك طوال اليوم، في محاولة للخروج بشيء قيّم من جعبتك.

هل تعرف مكانتك عند النقّاد، والمهووسين بالسينما، اليوم؛ الأشخاص المستمرِّين في اعتناق «نظريّة سينما المخرج المؤلِّف»، الذين يبقى الإخراج -بالنسبة إليهم- هو القيمة الأساسية للسينما؟

– لا تنسَ، أبداً، أن هذه النظرية قد صنعها النقّاد الذين حلموا بأن يصبحوا مخرجين! بالمناسبة، أحبّ قراءة «بولين كايل»، وأنا أقدِّر مساهمتها في السينما الأميركية، لكن يمكننا ملء عدّة مجلَّدات بما لم تكن تعرفه عن حرفة صناعة الأفلام، وهذا أفضل بكثير، لأنه ليس من المفترض أن يعرف النقّاد، فقط، لأن ذلك سيضرّ، بشكل كبير، بالغموض الذي يحيط بهذه الحرفة.

لكنك تصنع فيلما يتعارض، كلِّيّاً، مع هذا اللغز.

– السينما هي مشروع إنساني، بدرجة فائقة، بكلّ ما تدلّ عليه الكلمة من الهشاشة والفوضى والشفقة. لطالما حاولنا عسكرة هذا النشاط الفنّي، لكن مع الاعتذار لاستوديوهات الماضي والحاضر، فهذان مفهومان لا يمكن أن يحضرا معاً. هذا هو الخطأ الأساسي في كلّ ما يتعلَّق بنظرتنا للسينما – يمكنك التعامل معها كعملية شبه عسكرية، كما يمكنك اعتبارها خطّ إنتاج تجميعي، لكن هذا لن يمنع، أبداً، وجود ذلك الشخص الواحد المسؤول عن التحكُّم، الشخص الذي يتحمَّل مسؤولية اختيار الزوايا وتسجيل المواد، ويكون جاهزاً بالحلول مع الظروف غير المتوقَّعة. أستطيع أن أخبرك أن لا أحد يملك فيلمه، بالكامل، في رأسه.. لا أحد، وإلا سيكون هذا فيلماً خفيفاً للغاية… لا تصدِّق مخرجاً يقول: «هذا ما أريده»، فبعدها ستسقط قطع الدومينو، تماماً، في الأماكن المخطَّط لها.. هذا هراء. كما تعلم، إني أعقد اجتماعات مع ستّة وعشرين شخصاً، حيث ندرس النصّ صفحةً بصفحة، «حسناً، هناك هذا المشهد، من المفترض أن يعبِّر عن هذا -سنحتاج ذلك- سيتعيَّن على الفتاة أن يكون شعرها في حالة من الفوضى، وسنحتاج التجهيز لملابس إضافية بسبب التعرُّق… «بالطبع، هذه الأشياء ستحتاج، وقتها، إلى تدبير من نوع آخر، ولكن علينا أن نضعها في حسباننا. نحن لسنا وكالة «ناسا». وعلى الرغم من أنني قويّ جدّاً ومستعدّ للغاية، إلّا أنني لن أتمكَّن من تحديد مرادي في كلّ لحظة صغيرة من الفيلم.

هل كان لحقيقة أنه سيناريو والدك، أيّ تأثير في طريقتك في التعامل مع المشروع؟ تشير بعض الأقاويل إلى أنك تعاملت مع النصّ باحترام أكثر من المعتاد.

– أشعر بأنني تعاملت مع كُتّابي، دائماً، باحترام كبير. لكني أحتفظ بحقّي في التساؤل عن اختياراتهم، عندما يعرضون عملهم عليّ، سواء أكان الكاتب أبي أم غيره. أتخيَّل أنه لم يكن من السهل، حينها، على «جاك» سماع ملاحظات ابنه، الذي لم يكن قد أخرج، بعد، سوى «Alien 3» وبعض الأغنيات المصوَّرة والإعلانات. هذا صحيح، كانت هناك، أيضاً، مناسبات قليلة في أثناء التصوير، حيث تمسَّكت بما كان على الورق، بينما، في الأوقات العاديّة، كنت سأستجوب كاتب السيناريو. لكن، لسوء الحظّ، لم يكن ذلك متاحاً…؛ لذا، لن أكذب عليك، ولا أوصي المخرجين الآخرين بعمل أفلام كتبها والدوهم!.

هل تحلم أن يفوز بجائزة الأوسكار، بعد وفاته؟

– أوه.. لا. بصراحة، لا أحبّ التفكير بهذه الطريقة، على الإطلاق. أعتقد أن الهدف الحقيقي كان إخراج المشروع من الدرج، وجعله موجوداً. هذا كلّ ما أحتاجه.

هل أنت مرتبط مع «نتفليكس» بنسبة %100، الآن؟

– نعم، لديَّ عقد حصريّ معهم لمدّة أربع سنوات أخرى. واعتماداً على الطريقة التي سيتمّ بها استقبال «مانك»، سأذهب وأسألهم، بخجل، عمّا يمكنني فعله لإثبات نفسي، أو أقدِّم نفسي على أنني أحمق متعجرف يطالب بصنع المزيد من الأفلام، بالأبيض والأسود. (يضحك). لا. أنا هنا لتقديم «محتوى» (مهما كانت تعنيه هذه الكلمة) يجلب لهم مزيداً من المتفرِّجين، في مجال تأثيري الصغير.

في النهاية، لا يزال هناك عدد قليل من الأفلام بتوقيع «ديفيد فينشر».

– أنا بطيء. فقط، عندما ينتابني شعور بأن شيئاً ما جاهز للتصوير، يمكن أن يتمّ تصويره بسرعة كبيرة. هذا حدث في فيلم «الشبكة الاجتماعية»، إذ كان كلّ شيء في مكانه، وكان علينا، فقط، اختيار الممثِّلين. لكن هذه الشروط نادرة التحقُّق، والحالات التي تقرأ فيها نصّاً وتقول: «حسناً، يا رفاق، خذوا أماكنكم، ولنبدأ»، تراوحت بين عامَيْ (2007) و (2008)، ثمَّ في عامَيْ (2010) و(2011)، كان إيقاعي في العمل أسرع نسبيّاً، على الأقلّ، وفقاً لمعاييري المعتادة، فمن «زودياك» إلى «بنجامين باتون» إلى الشبكة الاجتماعية للفتاة ذات وشم التنّين، لكنني لست متأكّداً من أن ذلك كان شيئاً جيّداً في حينها. على أيّ حال، كنت بحاجة لإعادة شحن بطّارياتي. الآن، وقَّعت صفقة «Netflix» هذه، لأنني أردت العمل بالطريقة التي رسم بها «بيكاسو»، لتجربة أشياء مختلفة جدّاً، لمحاولة كسر الأنموذج أو تغيير طريقة العمل. أحبّ فكرة الحصول على «عمل». نعم. أعترف أن سؤالك جعلني مرتبكاً: بعد أربعين عاماً في هذه المهنة، لديّ فقط عشرة أفلام في رصيدي. حسناً. أحد عشر فيلماً، لكنّ عشرةً منها، فقط، يمكنني القول أنها تعبِّر عني من الناحية الموضوعية. إنها ملاحظة مرعبة إلى حَدٍّ ما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حوار: ليونارد حداد

المصدر:

https://bit.ly/37KbSjn