جان كالبيتسر: العالم غير آمِن وعلينا التكيُّف

كان لعام 2020 استهلالٌ غير مُبشِّر: ففي يناير/ كانون الثاني، دمَّرت الحرائق المروِّعة غابات أستراليا، والتهمت النيران آلاف الحيوانات البريّة، لتصبح أزمة «التغييرات المناخية» معضلةً أكثر واقعية من أي وقتٍ مضى، بينما تواصل مئات الآلاف زحفها هرباً من الحروب والصِّراعات، ليأتي فيروس «كورونا» المُستجَد المُنتشر في جميع أنحاء العالم، خالقاً حالة من القلق وعدم الاستقرار، فأصبح الكثيرون يعتكفون في المنازل ويتقوقعون على ذواتهم جرَّاء نوبات من الهلع الاستباقي خشية ما هو آتٍ وما تحمله الأيّام القادمة. 

انطلاقاً من أهمِّية احتواء مخاوف البعض والتخفيف من تهويلات البعض الآخر، كان لموقع «دي تسايت» الألماني هذا الحوار مع الطبيب النفسي «جان كالبيتسر» الحاصل على دكتوراه الطب النفسيّ من جامعة كوبنهاغن، ورئيس وحدة العلاج النفسيّ في عيادة أوبيربرج النهارية Kurfürstendamm في برلين، الذي صدر له العام الماضي كتاب بعنوان «أن تكون مصاباً بالبارنويا الرَّقميّة/ Digitale Paranoia – bleiben»، إذ يفنِّد «كالبيتسر» في حواره أهمِّية التواصل مع الآخرين للحَدِّ من المخاوف التي تحيط بهم والتعاطي معها بصورةٍ أكثر إيجابية.

هل أصبح البشر أكثر تخوُّفاً من المُعتاد مقارنةً بالماضي؟

– نعم، بالتأكيد . لاحظت ذلك في مجال عملي سواء على الصعيد الجماعي أو الفردي، وعلى ما يبدو أن الأمر في تصاعد بحكم تزايد التهديدات العالمية التي صارت تؤثِّر حالياً على محيط حياتنا الشخصيّة. فعلى سبيل المثال، لدينا فيروس كورونا المُستجَد وما يثيره من حالة هلع لدى المواطنين، فبعض الأشخاص الذين يأتون إلينا في العيادة الخارجية والعيادة النهارية لم يعد بإمكانهم التفكير بمعزل عن هذه الأحداث، وذلك نظراً لحجم التهديدات المباشرة وتداول الأخبار السيئة، التي لم يعد بالإمكان إيقافها أو حجبها.

إذن أنت ترى أن الآلة الإعلامية تلعب دوراً حاسماً في مثل هذه الأحوال..

– بالطبع.. الصحف ووسائل الإعلام الاجتماعيّة تعد نافذة هامّة نُبصِر من خلالها العالم كلّه. كذلك هناك أهمِّية حثيثة لعنصري الصورة واللُّغة باعتبارهما عاملين حاسمين في رسم الصورة الذهنية للمُتلقِّي، ومن ثَمَّ وجب على هذه الوسائل الجماهيرية أن تنقل صورةً حقيقية تتماهى مع العالم على أرض الواقع، ولكن غالباً ما يتم ذلك بصورة يشوبها القصور. على سبيل المثال، نجد بعض التقارير التليفزيونية تتضمَّن صوراً لأشخاص من أصل آسيوي يرتدون أقنعة التنفس والسُترات الواقية، وهي صور لا تعبِّر عن واقع الحال في دولتنا الاتّحادية. المشكلة تكمن أيضاً في الإشارات الخاطئة التي تثير التحيُّزات والمخاوف.. لا يمكنني تأكيد حجم الميلودراما النفسيّة التي تخلقها مثل هذه الإيعازات غير الدقيقة في شوارع ألمانيا. ما نحتاجه بحقّ أن نعي حجم الخطر المُهدِّد للبشريّة ككلّ، ليكون بيننا نوعٌ من التراحم المطلوب تحديداً في أوقاتٍ كهذه، بحيث لا يفكِّر الجميع في خلاصهم فحسب، بل أيضاً يفكِّرون في الصورة الكبيرة للبشريّة.

في رأيك، هل الخوف مسألة نسبيّة ترتبط بالفئة العمرية، أم أن الشبابّ والكبار يتخوَّفون بالقدر نفسه ممّا يشهده العالم حالياً؟

– الخوف شعور فطري لا إرادي يعتري جميع الفئات العمرية. وإنْ كنت أرى انتشار المخاوف غير المُبرَّرة والمُبالغ فيها بالأكثر لدى كبار السن، كالخوف من اعتداءات المهاجرين أو جرائم العصابات. هنا يلعب الإعلام أيضاً دوراً هامّاً للغاية، فقد أصبح من الممكن أن تشوِّه وسائل التواصل الاجتماعي فحوى الرسالة الجماهيرية وتجعلها على النقيض تماماً. أمّا فيما يخصُّ الشباب، فهم بالطبع قلقون من إيذاء المستقبل وما يحمله لهم. ومع ذلك، فإنهم غالباً ما ينجحون في إحالة الخوف إلى شعور إيجابي من خلال ممارسة نشاط سياسيّ أو توعويّ. هذا الشعور بالقدرة على فعل شيء يساعدهم على تجاوز السياج السلبي لمشاعر الخوف والقلق.. فلا غضاضة من تعامل شريحة الشباب مع تهديدات العالم، لأنهم يستطيعون بلورة واستنفار قدراتهم. ما يؤرِّقني حقّاً كمعالج نفسيّ «الأطفال»، إذ تنبغي حمايتهم من تسلل مخاوف الآباء إليهم، كما ينبغي أن يظلّوا بمعزل عن تهديدات العالم الصاخب قدر المستطاع.

في ظلّ التصدي للتغيُّرات المناخية، يشعر الغالبية بالارتباك والعجز وكونهم بمعزل عن واضعي السياسات، ما هي رؤيتك حيال ذلك؟ 

– لكي يصبح الخوف نشاطاً إيجابياً، من المهمّ أن تكون هناك مساحة للعمل المشترك. هذه هي أفضل طريقة لمواجهة مشاعر الخوف. فإذا كانت السياسات تُوضع في الأساس من أجل الأفراد، فيمكن تطويعها أيضاً لحماية الصحَّة العقلية للسكّان وتشجيع المشاركة. فعلى سبيل المثال، يمكن تيسير شروط ولوائح البناء، ممّا يسهِّل على سكّان المنازل تثبيت أنظمة الطاقة الشمسية أو إنشاء واجهات خضراء للمنازل. من حيث التأثير الملموس، قد لا يكون هذا الأمر ذا مردودٍ كبير، ولكن حتى نتمكَّن من استيعاب مثل هذه التحدّيات، يجب على الفرد أن يكون قادراً فعلياً على القيام بشيء لتحسين بيئته المعيشية إلى جانب جهود الدولة.

هناك مصطلح مستحدَث في اللُّغة الإنجليزية؛ يُعرَف بـ«الحزن الناشئ عن تغيُّر المناخ/ Solastalgia».. ترى أي المشاعر يعكسها هذا المصطلح؟ 

– من الطبيعي أن تهيمن مشاعر الحزن والخوف والعجز على البشريّة جرَّاء تمرُّد الطبيعة الذي بات يتوعَّد الإنسان بمخاطر هو المتسبِّب فيها جرَّاء تعامله غير المُنضبِط معها. لا شكّ أن الناس يشعرون بالارتباك تجاه العديد من الأحداث المُخيِّبة للآمال، ولكن في بعض الأحيان تتطوَّر مشاعر الارتباك بصورةٍ إيجابية يمكنها أن تُحدِث انفراجاً. الأخطر هو أن يصبح الاضطراب حالةً دائمة لا تزول، لكونها تلتهم طاقة الفرد كاملةً. ثم يمكن أن تتحوَّل هذه الحالة فيما بعد إلى اكتئاب. وهو ما يصيب البعض بعدم التوازن والعجز التام إيذاء ما يواجهون، وكأنهم يريدون فقط الاختباء وسحب الأغطية فوق رؤوسهم.. لابدّ من التعامل مع الأمر قبيل الوصول إلى مثل هذه النقطة اليائسة. 

كيف يمكن التعامل مع هذه المشاعر على أرض الواقع؟

– ردود الفعل هامّة للغاية. كثيرون يفضلون الانسحاب، نظراً لاحتياجهم المُلح إلى مساحات وفرص تجعلهم يشعرون أنهم على ما يرام. ولكن من المهمّ خلق توازن صحي بين الرجوع إلى المنطقة الآمنة وبين التحدّيات التي تهدّدنا بالخارج. يحتاج البعض أحياناً إلى الانزواء والابتعاد، ولكن عليهم ألّا يطيلوا أمد ذلك، فيسقطون من حسابات العالم ويصبحون معزولين عن الواقع المُعاش. الانسحاب لا يدرأ مخاطر الأشياء السلبية فحسب، بل يجعلهم يفقدون أيضاً أولئك الأشخاص المُعضدِين لهم واللحظات الجميلة التي تسعِدهم. وبذلك يصبحون بالفعل خارج العالم وخارج الحياة. فعندما ينحصر الإطار الذي يتحرَّك فيه الشخص أكثر وأكثر بسبب المخاوف والانسحابات، يُعرَف ذلك في علم النفس بـ«فقدان التعزيز الإيجابيّ»، وهو العامل الأساسيّ المسؤول عن تطوُّر مشاعر الاكتئاب.

كيف يمكن تجنُّب الوصول إلى ذلك المنعطف النفسيّ؟

– يجب التحدُّث أوّلاً مع الآخرين حول هذه المخاوف. وإخبار الأصدقاء أو العائلة أو زملاء العمل بالحاجة إلى الخروج تدريجياً من ذلك النفق المظلم. والأفضل، بالطبع، أن يكون ذلك بمرافقة أحد المُقرَّبين، للمساعدة وقت أن تخرج الأمور عن السيطرة.. أولى الخطوات تبدأ بكسر دائرة الخوف والاشتباك الحسي مع فعل مغاير كمشاهدة سلسلة دراما تليفزيونية جديدة تساعد على الانفصال اللحظي المؤقت عن دائرة الأفكار المشتعلة، وليكن ذلك المساء وكلّ مساء هو الموعد الذي يتمُّ اختياره للامتناع عن الحديث بشأن المخاوف أو حتى التفكير فيها، وكأنه تمرين يومي لكسر الدائرة المحترقة داخل العقل.

إذا لم تتح هذه الفرصة ولم تكن هناك بيئة اجتماعيّة ثابتة تساعد على ذلك، ما البدائل الأخرى؟

– هناك ضرورة، في هذه الحالة، لإيجاد مجموعة يتمُّ الشعور بالانتماء إليها. من المهمّ وجود حلفاء في مثل هذه المرحلة. يمكن الانضمام إلى جمعية أو الاشتراك في نشاط خدمي تطوعي سواء داخل العمل، أماكن العبادة، أو غيرها من الكيانات المجتمعيّة. لابدّ من خلق أهدافٍ مشتركة مع آخرين، فهو أمرٌ حيوي وضروي لاستمرارية المقاومة النفسيّة. يمكن الاستفادة أيضاً من تقنيات الواقع الرَّقميّ للحصول على فرص جديدة للتواصل مع أشخاصٍ متطابقين في طريقة التفكير، ما يجعل الأمر أكثر نجاحاً.

وقف تغيُّر المناخ، أو منع الجرائم الفظيعة، أو تعطيل زحف فيروس قاتل، كلّها أهداف تبدو ضخمة ويصعب تحقيقها. كيف يمكن إذن خلق هدف مَرِن وإدارته…؟ 

– يجب أوّلاً تحديد الشيء أو الهدف المرجو الحفاظ عليه. بالطبع إنقاذ البشريّة هدف نبيل، لكنه غير واقعي. لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك بمفرده، حتى الشخصيات البارزة مثل غريتا ثونبرغ، المهاتما غاندي، روزا باركس، نيلسون مانديلا… لم يتمكّنوا من إحداث تأثيرٍ كبير، لكنهم بدأوا خطواتهم أيضاً على نطاقٍ فرديّ. وهذه هي نواة أي فعل عظيم أن نبدأ بأنفسنا أوّلاً.. فقط ينبغي أن يعمل كلّ فرد في بيئته للحفاظ على الإنسانيّة ككلّ. فالأمر يتعلَّق بإبقاء مسيرة الحياة رغم كلّ المخاوف والتهديدات الحقيقيّة. بهذه الطريقة، يمكن الحفاظ على مساحتنا الصغيرة داخل المنظومة الأكبر.

ألمانيا من الدول الأَقلّ تأثُّراً بتغيُّرات المناخ مقارنةً بالبلدان الأخرى. معدَّلات الإصابة بفيروس كورونا قليلة نسبيّاً في ألمانيا. تنعم دولتنا الاتّحادية بالسلام، على عكس أجزاء أخرى من العالم، تُرى.. هل تبدو مشاعر الخوف التي تعتري كثيراً من الناس في ألمانيا أمراً غير منطقي في رأيك؟

– إن المخاوف من التأثُّر المباشر بالكوارث الشديدة لتغيُّر المناخ في ألمانيا، هي أمر غير منطقي، على الأَقلّ في الوقت الحالي. كذلك لا يؤثِّر تفشي فيروس كورونا علينا بصورة مقلقة مثل البلدان الأخرى: لدينا حالاتٌ أَقلّ ونظامٌ صحي أفضل وسياسة أكثر فاعلية وشفافية ووسائل إعلام مجانية. لكن الخوف غير المُبرَّر قد يكون له معنى أيضاً. أننا نحاكي مفهوم الإدراك الجمعي لكلمة «مخاطر» حتى وإنْ لم تؤثِّر علينا شخصيّاً، فهي في النهاية تهمّنا باعتبارنا جزءاً من سكّان هذا الكوكب. والواقع أن هذا يقودنا إلى التفكير بصورةٍ أعمق في القضايا ذات البعد العالمي.

هل الخوف لدى أفراد في أجزاءٍ أخرى من العالم يختلف عن مخاوف البعض في ألمانيا؟

– هناك أشكال متطرِّفة من الخوف يمكن أن تشل حياة البشر، ونادراً ما يكون ذلك في الدول الغنيّة. ومع ذلك، نجد في مخيمات اللاجئين اليونانية، الأطفال يعيشون في حالةٍ من اليأس التام، حيث تنتاب بعضهم حالة من اللامبالاة، ويلتزمون الصمت، ولا يكادون يأكلون، فقط يحدِّقون في الفضاء. نحن جزء من الإنسانيّة التي ينتمون إليها أيضاً. ومن المهمّ أن يكون لدينا وعيٌ بأن هذه الكوارث الإنسانيّة تحدث، حتى لو لم نتمكَّن من رؤيتها مباشرة. فالأمر يتعلَّق دائماً بضرورة الانفصال عن وهم «المدينة الفاضلة». نحن نعلم أن العالم ليس آمناً. وعلينا أن نتكيَّف مع هذه الحقيقة، فدائماً ما نواجه التحدّيات. ولكن ربَّما الأحرى بنا في التعامل مع تحدّي فيروس كورونا أن نلتقط الدرس المُستفاد عندما تبدأ مشاعر الخوف والقلق في الانحسار. 

حوار: ماريا ماست

المصدر: موقع «Die Zeit/ دى تسايت» الألماني 2020/3/1.

هل أصبحنا عرضة للأوبئة مرّة أخرى؟

إن الوباء موضوع الساعة قد شغل الناس وقلب عاداتنا وأنماط حياتنا ويقيننا بشكلٍ غير مسبوق. أعاد ترتيب أولوياتنا وعطَّل حركتنا لبعض الوقت. وأصبحنا نشعر، بدرجاتٍ متفاوتة، بعجزنا عن مواجهته. والعجيب في الأمر أننا لم نعد نعرف دائماً ممَّنْ نخاف، أو حتى ما إذا كان يجب أن نخاف، خاصّة وأن الفيروس لا يعترف بالحدود. إن حالة عدم اليقين السائدة قد غذَّت أوهاماً لا حدَّ لها، وأثارت شائعات جامحة تكبر وتتسارع ككرة ثلج. 

منذ القدم، كانت الفيروسات والطفيليات والبكتيريا والكائنات الدقيقة الأخرى التي تسبِّب الأمراض المعدية تتعايش مع البشر. ورغم التقدُّم العلميّ وتطوُّر الصحَّة العامّة، لا تزال الأمراض المعروفة منذ قرونٍ تصيب البشر (كالكوليرا والملاريا) ، مع ظهور أمراض جديدة يمكن أن تنتشر على نطاقٍ واسع (كالإيدز والسارس). وبنهاية القرن العشرين، بدت إمكانية انتشار وباءٍ عالميّ حقيقي أمراً غير مستبعد ممّا فاقم شعورنا بالضعف، وأذكى المخاوف من العودة إلى «العصر الأسود» عندما كانت البشريّة عاجزةً عن مواجهة الأوبئة. لكن لماذا تظهر (من جديد) هذه الأمراض وتتحوَّل إلى أوبئة؟ وكيف يمكننا محاربتها؟ يستعرض كتاب «عودة الأوبئة»، الذي شاركت في تأليفه الباحثة في المركز الوطنيّ للبحوث العلميّة بفرنسا والمُحاضِرة في العلوم السياسيّة بمعهد الدراسات الأوروبيّة في جامعة «باريس 8»، «أوريان غيلبو»، بعض الأوبئة التي أثَّرت على سكّان العالم في بداية القرن الحادي والعشرين، ويحلِّل أبرز التحدّيات العلميّة والاجتماعيّة والسياسيّة لانتشارها. 

في عام 2015، قمتم بنشر عملٍ جماعيّ بعنوان «عودة الأوبئة»: لماذا يتزايد خطر انتشار الأمراض المعدية على نطاقٍ واسع في السنوات الأخيرة؟

– إن فكرة الظهور الدائم للأمراض المعدية في كلّ مرّة ليست جديدة: كما توقَّع تشارلز نيكول، الحائز على جائزة نوبل عام 1928، فإن الميكروبات تتكيَّف دائماً. يساهم في هذا الوضع العديد من العوامل التي ازدادت حدَّتها في السنوات الأخيرة، ولا سيما تطوُّر النقل الجماعيّ، والاحترار العالميّ، وزيادة عدد سكّان العالم، وتوسيع الزراعة وتكثيفها، والتكاثر وإزالة الغابات ممّا يعني زيادة الاتِّصال بين البشر والحيوانات، وتعزيز انتقال الفيروسات بين الأنواع.

أوريان غيلبو

هل أصبحنا أكثر عرضةً لمثل هذه الأوبئة مرّة أخرى؟

– التقدُّم العلميّ والبحث الطبيّ يقدِّمان لنا آفاقاً أرحب لمكافحة الأوبئة التي لم يكن من الممكن التفكير فيها من قبل، سواء من حيث الكشف أو العلاج. لكن هذا التقدُّم تقابله تطوُّرات مقلقة، لا سيما الاستخدام المُتهوِّر للمضادات الحيويّة في الطب البشريّ والبيطريّ الذي يعزِّز المقاومة، وعودة التناقض النسبيّ مقابل التطعيم. وقد أبرزت جميع الأوبئة السابقة أهمِّية التعاون الدوليّ.

ما هي الدروس المُستفادة التي تعلَّمناها من الأوبئة السابقة (الإيبولا، فيروس الإنفلونزا أ H1N1، السارس…)؟

– أبرزت جميع الأوبئة السابقة أهمِّية التعاون الدوليّ وعدم فعالية التدابير الجزئية والفوضوية مثل إغلاق الحدود بدون تنسيق. وقد بيَّن لنا وباء «سارز» و «H1N1» بشكلٍ خاصّ أهمِّية التواصل والشفافية بين الدول ومع الناس. بذلت الصين هذه المرّة جهوداً كبيرة في هذا الصدد بعد انتقادات لإدارتها لفيروس السارس في عام 2003. وتعمل منظَّمة الصحَّة العالميّة أيضاً على ذلك، للتكيُّف مع السياق الحالي: اجتمعت على سبيل المثال في 13 فبراير/شباط كلّ من غوغل، وفيسبوك، ويوتيوب… للحدِّ من تداول المعلومات الكاذبة.

أبرز وباء إيبولا الأخير، حيث أصبحت المعركة ضدّ المرض صعبة للغاية في البلدان التي تعاني من خلل في النظم الصحّية، أهمِّية وجود أنظمة صحّية قويّة ومرنة. في جميع هذه النقاط، لا يزال هناك الكثير الذي يتعيَّن القيام به، ولكن الحالة دقيقة بشكلٍ خاصّ فيما يتعلَّق بتعزيز النظم الصحّية، لضمان الوصول إلى الرعاية الطبيّة والبنية التحتية الوظيفيّة، القادرة على استيعاب الزيادة المُفاجئة في عدد المرضى. 

هل المؤسَّسات الصحّية العالمية مستعدة بشكلٍ أفضل ممّا كانت عليه قبل بضع سنوات؟ هل لا يزال التفاوت قائماً بين دول أو مناطق من العالم؟

– يبدو لي أن منظَّمة الصحّة العالميّة تتواصل بشكلٍ أفضل ممّا كانت عليه في الأوبئة السابقة وتظهر وجودها بحزمٍ أكبر: يمكننا أن نرى ذلك على سبيل المثال في جهودها الرامية إلى عدم التقليل من خطورة الوضع، دون التسرُّع في إعلان كورونا وباء عالميّاً. من وجهة النظر هذه، يمكننا القول إنها تعلَّمت الدرس من فيروس H1N1 السابق (حيث تمَّ انتقادها لتسرُّعها في الإعلان عن حالة وباء) ومع إيبولا (خلال وباء 2014 في غرب إفريقيا، تعرَّضت لانتقاداتٍ لإعلانها حالة الطوارئ بعد فوات الأوان).

لا تزال هناك تفاوتات عالميّة قويّة للغاية في ما يتعلَّق بمرونة النظم الصحّية، الأمر الذي يمكن أن يجعل جميع جهود التحضير باليةً. وعلى الرغم من الدروس المستفادة من وباء الإيبولا، لا يزال الوضع في غرب إفريقيا مقلقاً، على سبيل المثال، وقد أعربت منظَّمة الصحَّة العالميّة عن قلقها بشأن قدرة القارة الإفريقيّة على التعامل مع فيروس كورونا.

لقد انتقدتم التعاون الصحّيّ الدوليّ، وخاصّة منظَّمة الصحَّة العالميّة. هل ما زالت انتقاداتكم سارية في عام 2020، بينما يستعد العالم لمواجهة وباء جديد واسع النطاق؟

– لقد تعلَّمت منظَّمة الصحَّة العالميّة من تجاربها السابقة، لكنها لا تزال منظَّمة حكوميّة دوليّة، وصنَّاع القرار همّ في نهاية المطاف الدول الأعضاء. وكما هو الحال في الأوبئة السابقة، على الرغم من إلحاحية الوضع سواء السابق أو الحالي، لم تكن التمويلات بالشكل أو السرعة المطلوبة: من 61 مليون دولار طلبتها المنظَّمة لمكافحة فيروس كورونا (COVID-19)، لم تحصل سوى على 1.4 مليون حتى الآن، و28 مليون دولار في شكل وعود.

من المُفارقات أن كورونا يأتي في سياق يشكِّك في التمويل طويل المدى للمستشفيات والبحوث العامّة.

– بالنسبة لآليات التمويل البديلة التي يقترحها البنك الدوليّ، مثل الأموال المتأتّية من شراء «سندات كارثة وبائية»، حيث يخاطر المستثمرون بعدم تلقِّي فوائد أو خسارة جزء من رأسمالهم في حالة تفشيّ الوباء ولكنهم يحصلون على عائدات مرتفعة جدّاً طالما لم ينتشر الوباء) ، فقد ثبت أنها غير كافية. في عام 2018، لم يسمحوا بالإفراج عن تمويلات لوباء الإيبولا في جمهورية الكونغو الديموقراطية، لأن تعريفها كان مقيَّداً للغاية. وفيما يتعلَّق بوباء فيروس كورونا الحالي، حتى لو تمَّ الإفراج عن الأموال، سيكون ذلك في أحسن الأحوال في أبريل/نيسان – بعد فوات الأوان…

يجب الاستعداد لمكافحة الوباء في وقتٍ مبكِّر، وعلى نطاقٍ عالميّ، لا سيما من خلال الجمع بين أنظمة الصحَّة والبحوث الدقيقة مع التمويل الدائم. وهذا النسيج يقوم على دعم المصلحة العامّة الوطنيّة والعالميّة، بعد أن كشفت الأوبئة عن أوجه القصور فيها. ومن المُفارقات أن وباء كورونا يأتي في سياق يشكِّك في التمويل طويل المدى للمستشفيات والبحوث العامّة. 

حوار: بول سوجي – ترجمة: مروى بن مسعود

المصدر: le figaro عدد 27 فبراير 2020.

محمَّد سبيلا: الثّقافة صمّام وقاية من الانجرار إلى الأحكام المتسرِّعة

الدكتور محمَّد سبيلا، من المفكِّرين المغاربة المعاصرين الذين تركوا بصمة مميَّزة عميقة ونوعية في خريطة الفكر العربي المعاصر؛ فهو صاحب مقالة، وصاحب رؤية ورأي، وصاحب مبدأ، وموقف معرفي لا يلين.

ارتبط مساره المعرفي العامّ، بكثافته وتنوُّعه وغناه، بسؤال الحداثة والتحديث، انطلاقاً من رؤية فلسفية نقدية شديدة الانفتاح على العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، و، بوجه خاصّ، على التحليل النفسي.

رغم أنني تفاعلت مع كتاباته، منذ مطالع التسعينيات من القرن الماضي، وأنا طالب في الجامعة، لم أحظَ بشرف التواصل المعرفي، والتواصل الإنساني المباشرين، مع فضيلته، إلّا سنة 2004، في القاهرة، في سياق مشاركته في إحدى الفاعليّات التي نظَّمها اتِّحاد الكُتّاب المصري. 

وممّا شدّني، بقوّة، إلى مشروعه الفلسفي؛ أنني لم أشعر بأدنى فجوة بين قيمة الأستاذ محمَّد سبيلا المعرفية والعلمية؛ رصانةً وموضوعيةً، وتجرُّداً وانفتاحاً، وعمقاً، وقيمته الإنسانية؛ تواضعاً وبساطة وغيريةً وأريحية.

وقد اغتنمت هذه السانحة للشروع في إجراء هذا الحوار الفكري الماتع معه، في غرفته، في أحد فنادق القاهرة، بجزيرة الزمالك المطلّة على النيل، واستكملته هذه السنة 2017. وهكذا، فنحن بصدد حوار من نوع خاصّ، تَمَّ الشروع فيه سنة 2004، واستُكمِل السنة الجارية. ونظراً لطبيعته الفكرية، والفلسفية، ونزعته الاستشرافية، فإن هذا المدى الزمني لم يزده إلّا قيمةً وصدقيةً، مثلما لم يؤثِّر في راهنيته، قيدَ أنملة. 

– عبدالسلام طويل: الأستاذ الفاضل، المفكِّر محمَّد سبيلا، حبَّذا لو أطلعتمونا، بدايةً، عن المحطّات الكبرى لتَبَلْور شخصيَّتكم العَالِمة، وأهمّ التحوُّلات الفكرية؛ المنهجية، والنظرية، التي اغتنت بها تجربتكم المعرفية، إلى الآن؟    

– محمَّد سبيلا: لابدّ أن أرجع إلى المراحل الأولى لتكوُّن وعيي الفلسفي عبر الدراسة في الجامعة، وهو وعي تَبَلْوَر خلال الدراسة الثانوية، وكان حاسماً ونهائياً عند اختياري الفلسفة تخصُّصاً. ومنذ البداية، كنت أشعر بانجذاب خاصّ نحو الفكر الغربي. رغم أن دراستي قد تلقَّيتها بالتعليم المَعَرَّب؛ أي التعليم العصري المقدَّم بالعربية. وأستطيع أن أقول إن مرحلة الدراسة ومرحلة التدريس كانتا مرحلتَيْ تعلُّم متواصلتَيْن؛ لأن المرء لا يتعلَّم عبر الدراسة، فحسب بل عبر التدريس، كذلك.

ففي المراحل الأولى، في الستينيات، تعرَّفنا إلى الماركسية، لأنها كانت شائعة في ذلك الوقت، وكانت بمثابة أفق فكري ضابط، ثم، انفتحت أكثر، فيما بعد، على التحليل النفسي، واشتغلت بترجمة بعض نصوصه، وهيَّأت رسالة حول العلاقة بين الماركسية والتحليل النفسي؛ مفهوم الإنسان بين الماركسية والتحليل النفسي، تحديداً؛ فقد شهدت تلك المرحلة نوعاً من ذوبان الجليد بين الماركسية والتحليل النفسي، من خلال انفتاح الماركسية على التحليل النفسي بدرجة كبيرة، كما نلمس ذلك لدى «لوي ألتوسير- Louis Pierre Althusser» في استعماله لأدوات التحليل النفسي، مثلما استعملت أدوات أخرى، بنيوية وغير بنيوية، في تأويل النظرية الماركسية، وتجديدها في مرحلة لاحقة، خلال التدريس.

– في هذا الإطار، تبرز خلفيَّتكم العلمية والمعرفية فيما يتَّصل بتحليلكم للجوانب والأبعاد السيكولوجية للطبيعة الإنسانية، من خلال مقاربتكم للبعد السيكولوجي للأيديولوجيا، بشكل عميق ومبدع.

– هذا بالنسبة إلى الأطروحة. وفي مرحلة لاحقة، كما يجسِّد ذلك كتاب «السياسة بالسياسة»، تعزَّز اهتمامي بالبعد السيكولوجي للسياسة، ذلك أن هذا البعد السيكولوجي، سواء أكان في الأيديولوجيا أم كان في السياسة، يُعَدّ بعداً غائباً في الممارسة العربية، وفي الوعي العربي، وفي العلوم السياسية العربية؛ غائباً على مستوى الممارسة، وغائباً على مستوى النظر، وهو بعد أساسي مُشَكِّل للفعل السياسي وللممارسة السياسية، يتعيَّن أن لا يذهل عنه التنظير السياسي والنظرية السياسية، بل السلوك السياسي، أيضاً، على المستوى العملي.

لا ريب في أن استحضار الحقل المفاهيمي للتحليل النفسي، في دراسة المنظومات الأيديولوجية، والمنظومات السياسية، والممارسة الأيديولوجية، والممارسة السياسية، يُحدث تأثيراً شكلياً، وتأثيراً تفكيكياً للمنظومة العقدية؛ ولذلك تجد أن الفاعل السياسي، غالباً ما لا يعير هذه الجوانب الأهمِّيّة التي تستحقّها؛ لأنها تمحِّص المقولات السياسية، والشعارات السياسية، والمثل السياسية، وتكشفها وتنظر إليها من خلال الذات، من خلال الجانب العادي، والجانب الباثولوجي للذات؛ فالمُثل، كما هو معلوم، تمرّ عبر الذات واستثمارات الذات لها. وكمثال على ذلك؛ فإن تحليل خطاب المناضل السياسي، إذا لم نستحضر فيه البعد النفسي سنعتبره خطاباً صادقاً طهرانياً يوتوبياً، لا شكّ فيه، ونتعامل معه على هذا الأساس، لكن إذا استحضرنا البعد النفسي، والبعد التحليلي النفسي، فسوف نشكِّك في طهرية ادِّعاءاته، وصدقيّتها ومثاليّتها؛ أقصد المناضل السياسي، لأنه ينظر إلى هذه الادِّعاءات من خلال بنيته النفسية، ونوع العصاب الذي يعاني منه، سواء أكان عصاباً عظامياً، أم كان نوعاً من الوسواس القهري، أم نوعاً من الرغبة في الأمثلة أو في الإسقاط. 

المثل تمرّ عبر الذات، عبر شبكات من التأويلات والاستعمالات التي يعسر على من يفتقر إلى التكوين، في هذا المجال، أن يستوعبها. لكنني، على العموم، أكتفي بالقول: إن إقحام البعد السيكولوجي، وخاصّة من زاوية التحليل النفسي، يُنَسِّب الكثير من الأحكام، والكثير من المثل والادِّعاءات، سواء الأيديولوجية والسياسية. و- على الأقلّ- سيكون له فضل التنبيه إلى ذلك.

في مرحلة لاحقة (إذا استطعت أن أتحدَّث عن مساري الفكري كمحطّات، وهي مرحلة التعرُّف إلى البنيوية عبر التدريس في الجامعة لعدّة سنوات)، كانت البنيوية هي الأفق الفكري لنهاية الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، لدرجة أن النقّاد الفرنسيين كانوا يعتبرون أن الجميع مشمول بالبنيوية، وأنها تطال الجميع، بما في ذلك خصومها ومناوئيها، فحتى الذين يناهضون البنيوية لا يجدون بُدّاً من استعمال مفاهيمها.

ثم يأتي، طبعاً، التعرُّف إلى البنيوية الأنثروبولوجية عند «كلود ليفي ستراوس- Claude Lévi-Strauss»، من حيث منهجها، ونزعتها العلمية المتطرِّفة، وإقصاؤها للذات البشرية أو للفاعل البشري، وتحليل آليّات الذات والأسطورة، وآليّة القرابة، كما لو كانت آليّات ميكانيكية موضوعية، لا دخل لأيّة ذات فيها، وإنما البنية هي الذات الفاعلة. هذه البنيوية جاءت كأفق فكري مناقض للمرحلة السابقة التي كانت تمثِّلها الوجودية.

والوجودية- كما هو معلوم- هي فلسفة الذات، وفلسفة الحرِّيّة، وفلسفة الإرادة، والآمال والحلم وغير ذلك. و- ربَّما- تعود مشروعية الوجودية إلى أنها ركَّزت على الجانب الذاتي في إطار مجتمعات حديثة، تسودها نزعة ميكانيكية. فجاءت البنيوية كردّ فعل؛ لم تأت بتصميم مسبق، بل انبثقت هكذا، وتَمَّ استغلالها كاتِّجاه علمي في مجال العلوم الإنسانية، اتِّجاه ذي طابع فلسفي، لا يركِّز على الحرِّيّة والإرادة بقدر ما يركِّز على البنيات الخارجية والعلائق، والمحدِّدات الموضوعية، والحتميات التاريخية.

لقد اكتشفت أنني كنت أنخرط- بأسلوب تدريجي- في مفهوم الحداثة، وشعرت…

– (…) كمفهوم ناظم وجامع؟ (مُقاطعاً)

– نعم، كمفهوم ناظم لكلّ هذه التحوُّلات؛ ذلك أن اكتشافي لهذا المفهوم، في أبعاده السوسيولوجية والتاريخية، و-أيضاً- في أبعاده الفلسفية (ربَّما هذا ما يهمّني كثيراً) هو ما جعلني، لا أقول أتبرَّأ من هذه المراحل السابقة، وأتخلّى عنها، بل أستدمجها في إطار هذا التصوُّر الكلّي الشمولي الذي هو مفهوم الحداثة.. هذا بشكل مختصر. 

في اتِّصال بما سبق، المتابع المدقِّق لكتاباتكم واجتهاداتكم النظرية المختلفة يلحظ أن لديكم، على مستوى الرؤية التركيبية في معالجة الظواهر، نزوعا ضدّ كلّ ما هو أحادي في التحليل، وضدّ كلّ ما هو تنميطي، وضدّ كلّ ما هو مسبق وجاهز، و- من ثَمَّ- تحرصون، دوماً، على النظر للظواهر في شموليَّتها وتركيبيَّتها. نلاحظ هذا في تحليلكم، ورؤيتكم المنهجية والنقدية لمفهوم الأيديولوجيا، مثلما لاحظناه في بَلْوَرَتكم لمفهومكم للحداثة، وكذا مفهومكم للسلطة.. هذا التصوُّر المنهجي التركيبي، كيف وُلِد؟ وكيف تشكَّل؟ 

– هذا المفهوم سمَّيته «مفهوم الكلّيّة- La totalité»، وهو مفهوم فلسفي، وليد الفلسفة؛ الفلسفة كتجربة، وكنظرة شمولية وكلِّيّة، وأعتقد أن هذا المفهوم تَبَلْوَر بشكل لاواعٍ خلال التلمُّس، والتطوُّر الطبيعي في مجال الفلسفة، ولكنه تبلور لديَّ- بالخصوص- في مرحلة معيَّنة، هي مرحلة الاطِّلاع على «جولدمان- Lucien Goldmann»، و«لوكاتش- Georg Lukács»، خاصَّة أن «لوكاتش»، في كتابه الأساس «تاريخ الطبقة ووعيها- Histoire et Conscience de Classe»، يلحّ على مفهوم الكلِّيّة، حيث يعتبره السمة الأساسية المميِّزة للتناول الماركسي (المبادئ الحديثة، والمبادئ التاريخية)؛ أي أنها تتميَّز بتركيزها على مقولة الكلِّيّة، التي ترجع أصولها إلى «هيغل – Georg Wilhelm Friedrich Hegel». طبعاً هذا المفهوم يعطيه جولدمان بعدين؛ الكلّية التاريخية في سكونيَّتها، والكلّية التاريخية في ديناميَّتها.

والكلّية التاريخية هي البنية الاجتماعية الشاملة، إذا نظرنا إليها من الزاوية الدياكرونية (من زاوية السكون)، أو نظرنا إليها من زاوية التحوُّل، فهذا المفهوم يفرض نفسه- إلى حَدّ ما- في العلوم الاجتماعية وفي الاتِّجاهات التي يسمّيها «جولدمان» البنيوية النشوئية أو البنيوية التطوُّرية؛ حيث إن هناك بنيات تنشأ وتنمو وتتطوَّر وتتعدَّل، ويتعيّن النظر إليها، سواء أكانت بنية اجتماعية، أم كانت بنية أسطورية، أم بنية قرابية، أم بنية طبيعية، أم بنية نفسية، ربَّما، ويتعيَّن النظر إليها- إذن- من خلال هذين المنظورين: الدياكروني، والسانكروني.

هذا المفهوم مفهوم فلسفي، لكنه مطَعَّم بعطاءات العلوم الإنسانية المعاصرة، وفي الفلسفة، يجد المرء نفسه، دائماً، أمام مستوًى معيَّن من التجريد، لأن الفلسفة ليست علماً جزئياً، وليست دراسة تجريبية تفصيلية ميكروسكوبية لهذه الظاهرة أو تلك. وحتى إذا ما درست ظاهرة جزئية، فإنها تنظر إليها في كلّيَّتها وشموليَّتها، باعتبارها بنية شاملة من حيث ديناميَّتها وتطوُّرها، فهذا المفهوم يبدو لي، دائماً، وكأنه مفهوم وليد الفلسفة، ومرتبط ارتباطاً عضوياً بها.

– ما دمنا نتحدَّث عن الفلسفة، كإطار مرجعي عامّ، في سياق حديثنا عن مفهوم الكلّية، هناك اعتراض قديم، طُرِح مع الوضعية، ويُطرَح، الآن، حول واقع الفلسفة كعلم؛ إذا كنا نحدِّد العلم بموضوعه، فهناك اعتراف بأن الفلسفة باتت لا موضوع لها. ما موضوع الفلسفة، الآن؟ 

– لقد عانت الفلسفة أزمة منذ القرن 17، في الغرب؛ أي منذ ظهور وتَبَلْوُر العلم بمفهومه الحديث، وبخاصّة الاتِّجاهات الوضعية، والاتِّجاهات المادِّيّة، والاتِّجاهات التحليلية، التي بدت وكأنها تقول إن العلم هو النمط الوحيد والنهائي للمعرفة البشرية، لدرجة أنه حَلّ محلّ الدين، وأصبح العلم ديانة وضعية جديدة، لدرجة أنه، في إطار هذه الأيديولوجية العلمية أو العلموية، بدل أن يبرهن الشخص على قضية معيَّنة فإنه ينسبها إلى العلم.

أصبح العلم سلطة، وأنموذجاً معرفياً وحيداً، وهو ما خلق أزمة للفلسفة؛ لم يعد لها موضوع، كلّ الموضوعات تناولتها العلوم الجزئية. إذن، ما الحاجة إلى الفلسفة؟ بدأ الشعور بهذه الأزمة منذ «كانط – Emmanuel Kant»، وظهرت الاتِّجاهات الوضعية التي ألغت دور الفلسفة (والاتِّجاهات التجريبية)، والاتِّجاهات التحليلية، في إنجلترا، وقصرت دور الفلسفة على دراسة اللغة، إلى أن جاءت المدرسة الفينومينولوجية، وخاصّة مع «إدموند هوسرل- Edmund Husserl»، الذي ألَّفَ كتباً حول الفلسفة كعلم دقيق، حاول فيه أن يؤسِّس الفينومينولوجية كعلم دقيق، وهو ما يؤكِّد أنه كان لدى الفلاسفة أزمة ورغبة في التشبُّه بالعلم، ومحاولة تأسيس الفلسفة كعلم دقيق.

– (…) افتتان بالعلم!

– (…) نعم، افتتان؛ لأنه أمسى يقدِّم أنموذجاً جديداً. لكن، سرعان ما بدأ الوضع يتغيَّر منذ «هيدغر- Martin Heidegger» الذي كشف عن مسألة بسيطة، مفادها أن العلم- رغم أنه يمثِّل أنموذجاً لمعرفة دقيقة- هو غير مرتبط بأيديولوجية علموية وعلمية، بل مرتبط بأونطولوجيا؛ أي مرتبط بفلسفة دقيقة، ذلك أن العلم يفترض فلسفة، ويشتمل، في بنيته العميقة، على فلسفة كامنة، العلماء لا يمكن، طبعاً، أن يفهموها، ولا يمكن حتى أن يعترفوا بها، إن هم فهموها.

فالجهد الذي بذله «هيدغر» تمثَّلَ في الكشف عن القبليات الميتافيزيقية للعلم، تصوُّرها للطبيعة كوحدة متجانسة مثلاً، وإلى العقل كحساب ومنطق دقيق في العلم، وإلى العلم كحقيقة مطلقة ترفض كلّ أشكال الحقيقة الأخرى.. إلى غير ذلك من الأشياء التي يمكن تلخيصها في أن العلم يتضمَّن فرضيات فلسفية، وميتافيزيقية. بل ذهب به الأمر إلى حَدّ القول إن العلم يُعَدّ اكتمالاً للميتافيزيقا التي نشأت منذ اليونان، أي ميتافيزيقا الذات الإنسانية كعقل وكإرادة، وهذا العقل- بوصفه حساباً- يقيس الظواهر ولا يشتغل إلّا بما هو قابل للقياس والتعميم.

– وهو ما شكَّل منطلقاً للنقد الذي وجَّهته مدرسة فرانكفورت، بشكل أساسي، في حملها على العقل الأداتي؟ 

– نعم، إن تحليل «هيدغر» لهذا العقل الذي يحكم العلم الحديث، هو الذي مَهَّد للاتِّجاهات الألمانية، خاصّةً مدرسة فرانكفورت. نقد العلم باعتبار أن العقل السائد يُعدّ عقلاً أداتياً. وهكذا، فإن هذه الخلفيات: الميتافيزيقية، والفلسفية الكامنة، للعلم، أحدثت وضعاً جديداً، جَدَّد للفلسفة مشروعيَّتها من خلال التفكير في ميتافيزيقا العلم، والتفكير في البعد الفلسفي للعلم.

طبعاً، تغيَّرت المسألة، فمنذ، هيدغر بدأت المسألة تأخذ منحًى جديداً واتِّجاهاً جديداً، والفلاسفة، طبعاً، لم تعد لديهم هذه العقدة، ولم يظلّوا مرتهنين لهذه الأزمة؛ بحيث لابدّ من موضوع، ولابدّ من منهج، ولابدَّ من خطوات إجرائية. أمّا عدا ذلك فيندرج ضمن الأيديولوجيا.

لم تعد هذه المسألة قائمة، فاكتفت الفلسفة بكونها تفكيراً نقدياً شمولياً في القضايا الميتافيزيقية التي توجد على هامش العلم، أو مضمرة في العلم، أو سابقة على العلم، أو أيّ شيء من هذا القبيل. ولإبراز ذلك، يمكن أن أقدِّم لك مثالاً، هو التفكير في الحداثة؛ فليس هنالك علم مخصوص يُفكِّر في الحداثة.

– تفكيراً عقلياً ونقدياً منظَّماً، وفقاً لتصوُّر منهجي محدَّد؟

– بل تفكيراً شمولياً. من المعلوم أن تفتُّت العلوم وتجزُّأَها وتخصُّصها وتفرُّعها جعل الحاجة إلى النظرة الكلّية، والنظرة النقدية، والنظرة التفكيكية الفاحصة، أمراً ضرورياً أكثر من أيّ وقت مضى. ومن هنا، استعادت الفلسفة- ربَّما- حيويَّتها ودورها، وأوجدت لنفسها مجالاً جديداً للاشتغال. 

– ولذلك أصبح النظر الفلسفي في الشأن السياسي، من خلال الفلسفة السياسية وفلسفة التاريخ، بالغ الأهمِّيّة والحيوية بالنسبة إلى المشتغلين في حقل علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي، لخلق نوع من التوازن مع المقاربات القانونية الشكلانية التي تركِّز- عادةً- على الجوانب الإجرائية والفَنِّيّة.

– على كلّ حال، تظلّ هناك قضايا، لا أقول ناشزة، بل هامشية، هنا وهناك، كما أن هناك قضايا مضمرة في كلّ مجال من المجالات، لا يتمكَّن التوجُّه العلمي- باعتباره توجُّهاً تحليلياً- من التحليل الملموس للواقع الموضوعي الملموس، ولا من القياس التامّ لكلّ مفردات الظواهر؛ موضوع البحث. وأعتقد أن الفلسفة، اليوم، تشهد ازدهاراً ملحوظاً من منطلق أن التوجُّه العلمي التكنولوجي المحض، أضحى في أمَسّ الحاجة إلى الفلسفة؛ فمع أن العلم يُعَدّ تحليلاً موضوعياً دقيقاً للأشياء والظواهر، إلّا أن هذا التحليل يتمّ بمنأى عن أيّ تصوُّر شمولي معياري وقِيَمي، وهو ما جعل الفلسفة، في الغرب (إلى حَدّ ما، لدينا) تستعيد حيويَّتها ودورها.

– فضلاً عن أن المآزق التاريخية الكبرى، عادةً ما تستدعي تفكيراً فلسفياً شمولياً في المآل الإنساني.

– فعلاً، فالعلم، أكاد أقول إنه أعمى؛ بمعنى أنه ينفي القيم، ويستبعدها، ويحاول- سواء أكان ذلك في منهجه أم كان في نتائجه- أن يُؤدّي إلى معرفة موضوعية بالأشياء كما هي، أمّا ما هي قَبْليات الأشياء، وما مآلها، وما مصيرها، وما هي الأزمات الإنسانية والقضايا الحضارية الكبرى التي تواجه الإنسان المعاصر،.. وغير ذلك من القضايا، فتظلّ من اختصاص هذا النوع من التفكير الشمولي، الذي أضحى لا يجد حرجاً في التشبُّه بالعلم.

– في سياق هذه الوظيفة المعرفية الأنطولوجية، وفي سعيها للإمساك بالمغزى الوجودي لبعض الظواهر أو المآزق التاريخية، أمسى، موضوع الدين وفلسفة الدين مطروحاً بقوّة، كخيار وأفق معرفي لإيجاد تفسيرات وتأويلات بديلة لمختلف الأزمات التي شدَّد على انتقادها تيار «مابعد الحداثة». كيف تنظرون، انطلاقاً من خلفيَّتكم الفلسفية، إلى حضور الدين في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الراهنة؟

– على كلّ حال، الدين منظومة من القيم المؤطّرة للمجتمعات البشرية كلّها. والدين- على العموم، مع بداية الثورة العلمية، والصناعية- وجد نفسه في وضعية صعبة؛ حيث «الأجوبة المعرفية» التي كان يقدِّمها وجدت نفسها أمام محكّ المعرفة العلمية الحديثة وأمام مختبرها، من خلال تقديم صورة عن الكون والمادّة والإنسان، غير متلائمة- كلّياً- مع ما هو متضمّن في المدوَّنات الدينية أو المعرفة الدينية، بمختلف أنواعها. هناك أزمة، على الرغم من تواتر القول: إنه لا تعارض بين العلم والدين، هذا قول أيديولوجي فجّ.

على الرغم من ذلك، هناك نوع من التوتُّر، ونوع من الأزمة بين صورة العالم أو صورة الأشياء كما تقدِّمها العلوم المختلفة، وبين الكثير من التصوُّرات الدينية؛ لذلك هناك تشنُّجات وتوتُّرات، وهنالك رفض لنظريات معيَّنة، كما  هناك إنكار لها، فنحن نعرف- مثلاً، على مستوى الثّقافة العربية الإسلامية- أن هناك رفضاً للداروينية، ولما يسمّى «البيوأنثروبولوجية» المتعلِّقة بتطوُّر الإنسان والأنواع الحيّة.

وغير ذلك، هناك تجاهل كلّي للنظريات الكونية الكوسمولوجية، وهنالك- أيضاً- إنكار ورفض لمنظومات فكرية أخرى، ربّما تكون أقلّ علمية، لكنها تتناقض مع التصوُّرات الدينية المتوارثة، كالتحليل النفسي، والماركسية.

– إذن، هناك أزمة، على الرغم من الزعم الأيديولوجي المريح بشأن غياب أيّ تناقض بين العلم والدين.

– رغم البعد الأيديولوجي لهذا الأمر، هناك محاولة للتسويغ؛ التسويغ العلمي للدين؛ سعياً لدرء التعارض بينه وبين العلم. ألا يعكس هذا نوعاً من التمايز بين موقف الإسلام، فيما يتَّصل بتكييف العلاقة بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية، وبين موقف كلّ من المسيحية واليهودية؟

– كلّ الديانات تعرَّضت للاختبار التاريخي نفسه، لتجد نفسها- بمقولاتها وبنظامها المعرفي، وتصوُّرها للكون والإنسان والطبيعة- في حالة صدام وتعارض وعدم تلاؤم واضح مع العلوم الحديثة.

المسيحية عانت، وتمزَّقت، وحاولت أن تتكيَّف مع العلم الحديث، و- ربَّما- كانت من أكثر الديانات التي حاولت أن تتطوَّر، وأن تستوعب العلم الحديث. بالنسبة إلى اليهودية، لا أعرف كيف ديرت الأزمة، وبالنسبة إلى الإسلام هناك توتُّر، وهناك محاولات لاحتواء الدين للعلم، وإرجاع العلم إلى أصول دينية، والقول: إن كلّ الأشياء لها جذور وسند في النصّ المؤسِّس.

طبعاً، هذه المسألة ممكنة، من زاوية معيَّنة؛ بحيث إن النصّ الديني لا يُعَدّ نصّاً علمياً بقدر ما يُعَدّ نصّاً رمزياً مفتوحاً على عدّة تأويلات، تسعفنا في أن ندرج فيه ما نشاء، غير أن هذه المحاولة تخفي شيئاً آخر؛ رفضاً لعلوم أخرى، ورفضاً لنظريات علمية أخرى، بدعوى انطباعها بالنزعة المادِّيّة، والإلحاد.

هناك، اليوم، تواطؤ على تبنّي نظريات معيَّنة، وهناك- أيضاً- تواطؤ على نفي نظريات بكاملها؛ الكوسمولوجيا المعاصرة، هي – تقريباً- شبه مرفوضة في الثّقافة العربية الإسلامية، والباليوأنثروبولوجيا لا مكان لها في هذه الثّقافة. هذه المسألة لديها مشروعية تأويلية هيرمينوطيقية، فيها- أيضاً- محاذير، من قبيل الحديث عن سرعة الملائكة، أو الجزم بأن مكّة هي مركز الكون. فهذه المسألة ممكنة ومشروعة، لكننا يجب أن نعرف أن لها حدوداً، حينما تدخل، هي نفسها، في تعارض مع العلم.

– كيف تنظرون إلى طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، كما هي قائمة- فعليّاً- في الدول العربية الإسلامية الراهنة، وكما ينبغي أن تكون؟

– طبعاً، في إطار المجتمعات العربية الإسلامية، يُعَدّ الدين مكوِّناً أساسياً ومركزياً وحاسماً في الفعل السياسي. هنالك، دائماً، ترابط، واستغلال سياسي للدين، واستغلال ديني للسياسة. لقد سادت مرحلة وضعية ماركسية في طريقة تناول الظاهرة الدينية، اعتبرت الدين مجرَّد أيديولوجيا فوقية زائلة، كما لو كان شيئاً عابراً، فالتطوُّر ليس، فقط، على مستوى أنثروبولوجيا الدين، وتطوُّر الأنثروبولوجيا، بل هو- أيضاً- تطوُّر المجتمعات نفسها، وتحوُّل المجتمعات العلمانية والعصرية إلى مجتمعات تقبل بالدين، كلّ هذه التطوُّرات أثبتت أن البعد الديني، يُعَدّ بُعداً أنثروبولوجياً أساسياً للكائن البشري.. إنه شرط عضوي أساسي بالنسبة إلى الكائن البشري؛ ولذلك..

– عفواً، البعد الأنثروبولوجي، هنا، هل يمكن اعتباره بُعداً وجوديّاً؟

– حينما نقول (أنثروبولوجي) نعني طبيعة الإنسان، الإنسان الذي يعيش في عالم بلا معنى، والدين يعطيه هذا المعنى.

– هناك من يعتبر أن الإنسان كائن أيديولوجي أو كائن ميتافيزيقي؟ هل يمكن اعتبار الإنسان كائناً دينياً بالفطرة أو بالطبيعة؟

– الشرط الإنساني البشري هو أن الإنسان يجد نفسه في عالم بلا معنى، عالم يحتاج إلى ضوابط ومحدِّدات وتأطير، يفسِّر معنى الحياة، ويفسِّر المآل وسرّ الموت والعالم الآخر.. وهكذا. فالكائن الإنساني كائن ميتافيزيقي، لديه تساؤلات ميتافيزيقية كبرى حول الله، وحول الموت…

مشكلة الموت هي المشكلة الأساسية التي تطرح هذه الأسئلة: لماذا نموت؟، وحينما نموت، أين نذهب؟ فهذه أسئلة ميتافيزيقية كبرى تلحّ على الطفل منذ ميلاده، وتلحّ على البشرية كلّها، ولذلك فالبعد الديني يمكن اعتباره بُعداً أنثروبولوجياً طبيعياً غريزياً، فهو محدّد جوهري وأساسي بالنسبة إلى الكائن البشري.

لقد تمَّت إعادة اكتشاف البعد الديني، وتبيَّن أن الدين ليس وهماً أو وعياً زائفاً، كما يُزعَم؛ فهو مكوِّن أصيل من بنية الكائن البشري والمتخيَّل الإنساني، ومصدراً غنيّاً للإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا يكفّ الإنسان عن طرحها، حول مغزى الوجود الإنساني، وحقيقة الحياة والموت والمصير. 

إضافةً إلى أن الدين يتحوَّل إلى مؤطِّر أخلاقي للناس كالعلاقة بالجار، والإحسان إلى الغير، وأخلاقيات التعاون والتعارف والمحبّة والصفح والتسامح، وهذا المعطى تمَّ استغلاله في السياسة، دائماً. والحاصل أن العلاقة بين الدين والسياسة علاقة جدلية معقَّدة.

انطلاقاً من الطبيعة العميقة للدين، في كلّ المجتمعات، و-خاصّة- في مجتمعاتنا، أعتبر أن مسألة العلمانية، أو الفصل بين الدين والدولة، طُرحت طرحاً خاطئاً، من طرف بعض النخَب؛ ففي مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ليس المطروح أو المطلوب هو فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن المجتمع، فهذه مسألة خلافية معقَّدة تتطلَّب أجيالاً من التطوُّر لإمكان عقلنة هذه العلاقة. 

أمّا الآن، وفي حدود مستوى التطوُّر الذي وصلت إليه مجتمعاتنا، فيتعيَّن السعي إلى محاولة عقلنة العلاقات الاجتماعية والعلاقات السياسية، ودُمَقْرَطَة الحياة السياسية، وإدخال درجة عقلانية أكبر في تدبير الشأن السياسي، وليس معنى ذلك، أبداً، القضاء على الدين أو إلغاؤه، بل عقلنة التعامل معه، ووضع ضوابط قانونية تحول دون الاستغلال السياسي للدين، لمنع أيّة جهة من الاستئثار باستغلاله، بوصفه رأسمالاً روحياً جماعياً. 

أنا أطرح- مبدئياً- هذه المسألة، كعقلنة للعلاقة بين الدين والسياسة، أمّا الفصل بينهما فلا أعتقد أنه الطرح المناسب، خاصّة أن عدداً من المجتمعات الأوروبية قد قطعت أشواطاً إيجابية في مسار عقلنة العلاقة (ولا أقول الفصل) بين الدين والدولة؛ الأمر الذي جعل المسألة السياسية مسألة عامّة وعمومية، والمسألة الدينية مسألة خاصّة وخصوصية. فنحن، في مجتمعاتنا، نحتاج إلى نوع من التفكير في هذه العلاقة الشائكة المعقَّدة، خاصّة أن استغلال الدين في السياسة لا يتمّ من طرف الأحزاب السياسية، فحسب، إنما من طرف قوى أخرى… المهمّ بالنسبة إليّ أن الشكل الوظيفي لطرح المسألة يتمّ من خلال عملية العقلنة.

– لكن، هل عملية العقلنة ستعتمد على عملية توافق بين فرقاء سياسيِّين أم فرقاء أيديولوجيِّين؟؛ ذلك أن المسألة حينما تتجاوز البعد السياسي لتناقش الخلفية المرجعية النهائية الناظمة لبنية العقل السياسي والشأن السياسي كلّه، فإنها تأخذ طبيعة صراع أيديولوجي بين مرجعية حداثية علمانية وضعية ومرجعية دينية، ولا ريب في أنه، عادةً ما يقع التصادم، في هذه الحالة.

– هذه المسألة، لا يمكن الحسم فيها بسهولة؛ لأنها ناتجة عن صراع قوى مختلفة داخل الحقل السياسي، فهنالك درجات من الانتماء للحداثة في الحقل السياسي، ودرجات من الارتباط بالدين في الحقل نفسه. أعتقد أن التطوُّر الثّقافي العامّ في المجتمع، وتطوُّر الثّقافة السياسية نحو عقلانية أكبر، ونحو تحديث أكبر، هو الحلّ، وليس هناك صيغة جاهزة، فمثل هذه الأسئلة تفترض أن الفاعل نتحكَّم فيه، في حين أن الفاعل هو ميزان القوى.

– الفاعل هنا هو التاريخ..هو قوى التاريخ؟

– نعم هو التاريخ. الحديث عن العلاقة بين الدين والسياسة يقودنا إلى أن هذه الإشكالية في الفكر العربي المعاصر، تَمَّ تناولها وفق مقاربتين أساسيَّتين: الأولى أن هناك من تناول هذه العلاقة من منظور عقيديّ، كما هو الأمر بالنسبة إلى عزيز العظمة، وعادل ضاهر، ومراد وهبة، هؤلاء الذين طرحوا إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة طرحاً علمانياً عقائدياً- ومن ثَمَّ- أخذوا موقفاً عقائدياً «دينياً» من الدين، و- بالمقابل- كان هناك تناول عقلاني تاريخي موضوعي لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، وهذا الموقف نجده لدى محمد عابد الجابري، وبرهان غليون، وعلي أومليل، وعبدالإله بلقزيز، كما نجده لدى راشد الغنوشي، وعبد الوهاب المسيري، وغيرهم ممَّن يعتبرون أن مساحة العفو أو الفراغ التشريعي، فيما يتَّصل بالنظرية السياسية، مساحة واسعة جدّاً، فالنصوص القطعية واردة على سبيل الحصر؛ ومن ثَمَّ تدبير الشأن العامّ للجماعة موكول إلى العقل والاجتهاد المقاصدي بحثاً عن المصلحة، استلهاماً لمنظومة القيم القرآنية، في الحرِّية والعدل والمساواة والشورى والغيرية، وهي قيم، لا يمكن أن تتعارض- بأيّ حال من الأحوال- مع أيّة قيمة من قيم الحداثة السياسية، سواء أكانت الديموقراطية أم العقلانية أم الحرّية أم المساواة أم التعاقد.

– هل يمكن، في هذا الإطار، أن نقيم جسراً للتقريب بين التيّارين؛ سعياً لتحقيق ما دعا إليه الجابري في إطار الكتلة التاريخية وطارق البشري في إطار «التيّار الأساسي»؟ 

– يجب التمييز بين مستويَيْن؛ مستوى الممارسة التاريخية، والفعل التاريخي المتعلِّق بتشكيل كتلة تاريخية أو تحالف، سواء لدى هذا الطرف وذاك، ومستوى مسألة الاجتهاد النظري. أعتقد أننا في مرحلة، لم نصل فيها، بعد، إلى درجة الملاءمة بين هذين المستويَيْن.

ويبدو لي أن المرحلة الحالية مرحلة تتطلَّب صراعاً ونقاشاً أكبر، على مستوى الأفكار، حتى تستوعب العلمانية العقائدية دينامية التاريخ العربي الإسلامي، وتتفهَّم الاجتهادات التي بَلْوَرَها الفكر السياسي المعاصر، وحتى يستوعب التيّار الإسلامي، ضرورات التاريخ، وضغوطاته، ويعطيها، ويستشعر بأنه مطالَب بتوسيع دائرة التفاعل الإيجابي، والتكيُّف مع معطيات العالم المعاصر، وممارسة الاجتهاد والتأويل إلى أقصى حَدّ، للخروج من دوغمائية الرفض إلى موقف أكثر انفتاحاً على معطيات العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية المعاصرة، وكذا على الفلسفة والثّقافة السياسية المعاصرتَيْن. 

وهذا جهد، يبدو أنه لايزال متعثِّراً، خاصةً في جانبه الفكري والفلسفي؛ فقد نجد لدى الغنوشي اجتهادات متقدِّمة وانفتاحاً على الآخر وتوسيعاً لمساحة الاجتهاد، غير أن اتِّجاهات أخرى لا زالت تُغَلِّب الدغمائية والقطعية والأحكام المسبقة؛ ولذلك أعتقد أن الاجتهاد النظري، والفكري يحظى بأولوية قصوى في هذه المرحلة، قبل أيّة دعوة لأية كتلة تاريخية أو تيّار أساسي. 

ومن ثَمَّ، فالحوار القومي الإسلامي- مثلاً، بوصفه حواراً فكرياً- يُعَدّ في هذا السياق التاريخي، أَوْلى من أيّ تكتُّل تاريخي. نعم، هنالك ضغوط المرحلة التاريخية، والوضع السياسي، لكنني هنا، لا أتحدَّث كحزبي، بل كشخص يهتمّ- أساساً- بالأفكار والتصوُّرات.

أعتقد أن الجانبين- كما أشرتَ- يتَّخذان مواقف عقائدية جامدة، وقد تكون الحركات الإسلامية- في تقديري- أكثر حاجة من غيرها إلى الانفتاح على معطيات العلوم الإنسانية المعاصرة، وعلى استيعاب التحوُّلات الكبرى التي حدثت في العالم، ليس، فقط، في المجال السياسي، بل في كافّة المجالات، و- بوجه خاصّ- المجالين: الفكري، والعلمي. 

حتى الآن، لا تزال مجالات الرفض أكثر بكثير من مجالات القبول. لا زال هنالك نوع من عدم الفهم للتحوُّلات التي حدثت على مستوى تصوُّر الإنسان والمجتمع والتاريخ؛ أي التحوُّلات التي حدثت في مجال العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، والفلسفة. هناك ميل لقبول الجوانب التكنولوجية الإجرائية، لكن التحوُّلات الكبرى التي شهدها الفكر الحديث لاتزال بعيدة عن الوعي والاستيعاب والتمثُّل.

وهو ما يفسِّر إلحاحي، في عملي الفكري، على مسألة الحداثة والتحديث، لإبراز الأبعاد الفكرية والميتافيزيقية والفلسفية لمسألة الحداثة؛ فالحداثة لا تحيل، فقط، إلى جملة من التحوُّلات المؤسَّسية، فالنقاش الفكري، والسياسي الدائر يدلّ على وجود محاولات لاختزال الحداثة في المستوى السياسي، والتغاضي عن الأبعاد الفكرية والفلسفية للحداثة التي يتعيَّن ليس فقط على العلمانيين، بل- أيضاً- على الإسلاميين أن يدركوها ويستوعبوها.

لن أبالغ إن اعتبرت أن هذه المناطق لازالت تشكِّل، في عمومها، مناطق ظلمة، ومناطق عتمة.

أوّلاً: في تقديري أن النظري يجب أن يحظى بأولوية عن العملي، لأن منطق العمل، غالباً ما يطغى على منطق النظر، ومنطق العمل- بالشكل العشوائي تحت ضغط الضرورة والحاجة إلى الحركة- يؤدِّي إلى كوارث، لكنا نعلم أن منطق الممارسة يغلب على منطق النظر، بتسوياته وانتهازيَّته.

أعتقد أنه من الواجب، على كلّ الأطراف (الطرف الإسلامي، بخاصّة)، النهوض بعملية الاجتهاد الفكري في التراث العربي الإسلامي، بالأدوات التي أتاحها تطوُّر العقل الإنساني المعاصر، ليس على مستوى الأدوات فحسب، بل التطوُّر الذي حصل على مستوى الفهم والتأويل والوعي المنهاجي والقيمي، واستيعاب ما تضمره التحوُّلات الفكرية العميقة الكامنة في العلوم الإنسانية، والاجتماعية، والفلسفية.

حتى لا أتحدَّث عن الإسلاميين، سوف أتحدَّث عن الحداثيين؛ عن الاتِّحاد الوطني للقوّات الشعبية، والاتِّحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية، اللذين نشآ كبنيتين سياسيَّتين تحديثيَّتين، لكن، بعد عشرين أو ثلاثين سنة، نشعر بأن الشعار يختلف- تماماً- عن الممارسة، وأن مثل هذه الحركات قد تنتج لك أشخاصاً يعكسون البنيات الاجتماعية التي نشؤوا فيها نفسها، والمفروض أن يكونوا عقلانيين ومنفتحين ومتحرِّرين، والحال أنهم شرسون ومتعصِّبون ومتحزِّبون.

أنا أحكي لك انطلاقاً من موقع تجربة ومعايشة ومعاناة. فتطوُّر التاريخ تطوُّر ماكر، ليس بدرجة الوضوح والنصاعة التي تعلن عنها النيّات؛ التاريخ لا يسير بحسن النوايا، وهناك محدِّدات تحكم. تجد الشخص يدَّعي العقلانية والحداثة، لكن ممارسته ممارسة «مافيوزية» لا علاقة لها بالعقلانية، فلا يتحرَّج في استعمال كلّ أدوات الصراع وكلّ التحايلات، واستمدادها من التقليد، ومن الحداثة.. من الماضي ومن الحاضر. 

– حديثكم عن المكر التاريخي، وعن التاريخ الخادع، تتناولونه بشحنة نفسية توحي بأن هناك بعداً ذاتياً وخبرة شخصية، تعبِّرون عنها بمرارة.

– فعلاً، أنطلق من خبرة شخصية؛ لأن مصداقية الحديث عن هذه الأمور لا تتعيَّن أن تكون، فقط، من خلال اختيارات أيديولوجية ومقولات فكرية مجرَّدة؛ فهذا أمر هيِّن، بل من خلال ديناميات التاريخ الحيّ. إن تطوُّر الفرد لا يتوقف على حسن نيَّته، وعلى الشعارات التي يرفع، بل يتوقَّف على تحوُّلات ذهنية وأخرى نفسية عسيرة، وعلى بنيات سوسيولوجية وأنثروبولوجية تحكمه ولا يشعر بها، سواء في هذا الطرف وذاك. والقول إن هذه المرارة تعبِّر عن بعد أو جانب ذاتي لا يعني أنها تعبِّر عن حكم ذاتي مقابل حكم موضوعي، وإنما تترجم خبرة وتجربة شخصية، يؤكِّدها الواقع الموضوعي، ويعضدها.

كيف يتحوَّل حزب حداثي عقلاني منظَّم إلى مؤسَّسة إقطاعية؟ إن ما نسمِّيه اليوم ظاهرة الأبوّة، أو ظاهرة الشيخ والمريد، في الأحزاب السياسية، تجد تفسيرها التاريخي والسوسيولوجي في قوّة البنيات التقليدية، واستمراريّتها، على الرغم من كلّ الشعارات الحداثية.

ولذلك، فإن تنسيب الحكم في هذه الأشياء أمر ضروري. ربَّما تكون تجربتي قد مكَّنتني من التمييز بين البعد النظري والبعد العملي، وهو ما مكَّنني من تنسيب الحكم، والتمييز بين الأحلام والطموحات والأقوال، وبين الواقع المرّ الذي تختلط فيه كلّ أشكال التحايل، والانتهازية، والمصلحة، والنفعية.

– في إطار علاقة التقليد بالحداثة، كنتم قد أشرتم في كتابكم «الحداثة وما بعد الحداثة» إلى الأنموذج الياباني، باعتباره أنموذجاً تعامَلَ بشكل تاريخي عقلاني وإيجابي مع الحداثة، لماذا لا تراهن النخَب الحداثية في المغرب، ما دام التقليد بكلّ هذا الرسوخ، كذهنية، وتصوُّرات وبنيات ومُثُل، وما دام النظام التقليدي نظام له عمق تاريخي وعمق ديني راسخان ومتجذِّران؟ لماذا، في ظلّ الانفتاح السياسي الذي يشهده المغرب الآن، وفي ظلّ بروز مؤشِّرات إرادة سياسية واضحة للإصلاح، لا يتمّ التفكير- كما طرح محمد عابد الجابري- في أن يتمّ التحديث من داخل المنظومة التقليدية نفسها، لا من خارجها، وفي صراع معها؟

– كيف تريد من هذه المنظومة أن تمارس التجديد، وتمارس التحديث، وهي نفسها لم تفتح نوافذ تساعدها على ذلك؟التجديد والتحديث يفترضان الخروج من الدائرة الضيِّقة، وفتح كوّات ضوء، لا عن طريق استعمال التراث، فحسب؛ لأن المشكلة هو أن الاتّجاهات التجديدية والتحديثية أو الإصلاحية، حتى داخل الفكر الإسلامي، تعتقد أن بإمكانها أن تمارس هذه العملية من الداخل، في حين أن الداخل محكوم بسقف تاريخي، ومعرفي، أكاد أقول إنه لم يعد يتوفَّر على الإجرائية نفسها.

كيف تريد أن تمارس التحديث أو التجديد بأدوات تقليدية؛ هذا هو صلب المشكل. التحديث والتجديد ليسا، فقط، في المجتمع، بل داخل هذه المنظومة التقليدية، ولا يمكن أن تتمّا إلّا عن طريق استيعاب مكتسبات العقل الحديث، متمثِّلةً، ليس في التكنولوجيا، التي لم يعد للإسلاميين أيّة مشكلة معها، فحسب، بل في العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية أساساً، التي تنظر إلى الظاهرة الإنسانية نظرة أخرى غير دينية؛ نظرة واقعية وموضوعية.

مثلاً: الفهم الديني التقليدي لظاهرة الفقر بأنه قَدَر ومكتوب، في حين أن التحليل السوسيولوجي يعتبر أنه نتيجة لسوء توزيع الثروة وسوء التدبير وضعف الإنتاج… هذا هو الانتقال إلى العقل الحداثي، أو ما يسمّيه «أركون» العقل الكوني المنفتح، القادر على التفسير العصري للظواهر. المشكل هو انغلاق البنية الدينية على نفسها.

فالتعليم الديني معزول عن التعلم العمومي، ومحصَّن، ويعتبر أن إدخال علوم أخرى مع الدين هو تدنيس له، سواء عن طريق السلطة السياسية، أم عن طريق البيروقراطية الحديثة التي تحمي هذا الدين.

– لقد شاءت الألطاف أن لا ينشر هذا الحوار الماتع إلّا بعد مرور ثلاث عشرة سنة. ما رأيكم في مضامين هذا الحوار، بعد مرور كلّ هذا الزمن على إجرائه في القاهرة؟

– أوّلاً: أودّ أن أعبِّر لك عن مشاعر التقدير والإعزار التي أكنَّها لك، منذ لقائنا، في القاهرة، في حوالي 2004، وهي المشاعر التي عمَّقَتها صلاتنا هنا في المغرب.

أمّا فيما يخصّ مضمون الحوار فأقول: على الرغم من أصداء بعض الأحداث، فإن الآراء التحليلية المقدَّمة يحكمها الهم أو الهموم الفكرية، أساساً. إن للحدثية، ولقوّة الوقائع السياسية، تأثيراً آنيّاً قويّاً، ولحظات التاريخ الصغيرة تجرّك إليها، وتشدُّك شدّاً. لكن التزامات جيلنا الثّقافية كانت تجرَّنا في الاتِّجاه المعاكس؛ أيّ في اتِّجاه عدم الغرق في الآنيّ العابر، مع محاولة قراءة دلالاته البعيدة المدى، أو أصدائه التاريخية، على مدى الزمن الطويل.

فالبعد الثّقافي- حتى لا أقول (البعد الفكري)- هو صمّام وقاية من الانجرار إلى الأحكام المتسرِّعة والعابرة التي تمرّ كما السحابة السائرة.

فكلّ الشكر لك، على الحرص والمثابرة.


أسهم محمَّد سبيلا، بطريقة مباشرة، في تكوين أجيال من الباحثين الأكاديميين، في حقل الدراسات الفلسفية، كما أسهم، بطريقة غير مباشرة، من خلال كتاباته ومحاضراته العامّة، في تكوين العديد من الباحثين في حقلَي العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، كما أسهم في إنتاج العديد من الكتب المرجعية في بابها، من قبيل: 

– مدارات الحداثة، 1987م، عكاظ، الرباط.
– سلسلة كرّاسات فلسفية، توبقال، الرباط، 1991.
– الأيديولوجيا: نحو نظرة تكاملية.المركز الثّقافي العربي، الدار البيضاء، 1992.
– الأصولية والحداثة، 1998م.
– المغرب في مواجهة الحداثـة، منشورات الزمن، الرباط، 1999.
– الحداثة وما بعد الحداثة، 2000م.
– للسياسة بالسياسة، 2000م.أمشاج، 2000م.
– دفاعاً عن العقل والحداثة، 2002م.
– زمن العولمة فيما وراء الوهم، 2005م.
– في الشرط الفلسفي المعاصر، 2007م.
– مخاضات الحداثة، 2007م.
– الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان، 2010م
– في تحوُّلات المجتمع المغربي، 2011م.

وكذا، العديد من الترجمات، منها:
– الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا، ألتوسير، منشورات مجلّة أقلام، الرباط، 1974. 
– التقنية-الحقيقة-الوجود لمارتن هايدجر، 1984م.
– التحليل النفسي، بول لوران أسون، دار الأمان، الرباط، 1985.
– نظام الخطاب، ميشيل فوكو، دار التنوير، بيروت، 1986.
– تساؤلات الفكر المعاصر، مجموعة من الكُتّاب، دار الأمان، الرباط، 1987.
– حوارات الفكر المعاصر، مجموعة من الكُتّاب، سوبيادر، الرباط، 1989.
– التحليل النفسي، كاترين كليمان، 2000.

سهير وسطاوي: تسعى مكتبة قطر الوطنية لأن تكون منارة عالمية

تتجاوز خبرة الدكتورة سهير وسطاوي في إدارة المكتبات وخدمات المعلومات مدّة 40 سنة، حيث تقلَّدت مناصب عدّة في أماكن مختلفة من العالم العربي، وفي الولايات المتَّحدة الأميركية، فقد كانت أوَّل أمين لمكتبة الإسكندرية، كما تولَّت منصب (عميد) المكتبات في معهد «فلوريدا» للتكنولوجيا، ثمّ (عميد) المكتبات الجامعية في جامعة ولاية «إلينوي».

بتراكم خبرتها المهنية والمعرفية، يشكِّل تولّي وسطاوي لمنصب المديرة التنفيذية لمكتبة قطر الوطنية، رفقة الكوادر الإدارية وفريق عمل متخصِّص، إضافة نوعية؛ لتكون المكتبة، في إطار التطوير الدائم والتأهيل المستمرّ لخدمات مكتبة قطر الوطنية، ومحتوياتها، مرجعاً معتمداً للمعرفة العالمية، ومنارة فكرية تحافظ على التراث الوطني والرؤية العلمية والتنموية الخاصّة بدولة قطر.

في هذا الحوار، تحدَّتث الدكتورة وسطاوي عن الكيفية التي تَمَّ بها التخطيط لمشروع مكتبة قطر الوطنية، والمراحل الفنّيّة التي مرَّ بها، إلى حين افتتاح المكتبة. كما تحدَّتث عن شراكات المكتبة، وآفاقها، وبرامج الفاعليّات والأنشطة التي تنظِّمها المكتبة، علاوة على المسؤولية التي تتحمَّلها، بوصفها مديرة تنفيذية، بالنظر إلى حجم المكتبة ومستقبلها.

كيف تَمَّ التخطيط لمشروع مكتبة قطر الوطنية، ومراحل إنجازها، حتى افتتاحها رسميّاً؟

في البداية، أودّ أن أشير إلى أن مكتبة قطر الوطنية جزء لا يتجزّأ من رؤية صاحب السموّ الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، وصاحبة السموّ الشيخة موزا بنت ناصر، وكانت تتمحور حول منح كلّ من يعيش على أرض قطر المزيد من الخيارات، في مجال التعليم، أكثر من أيّ وقت مضى.

وعندما أعلنت صاحبة السموّ الشيخة موزا بنت ناصر، رئيسة مجلس إدارة مؤسَّسة قطر، عن مشروع المكتبة، في 19 نوفمبر (2012)، كان ذلك في إطار سعي مؤسَّسة قطر لإطلاق قدرات الإنسان، وتحقيق نهضة ثقافية وعلمية تستلهم تراث قطر، وتستشرف مستقبلها الواعد. 

بدأ العمل بعد ذلك في إنشاء المبنى الذي استغرق خمس سنوات، كانت المكتبة، خلالها، تنهض برسالتها، وتؤدّي دورها، بصفتها مكتبة وطنية وعامّة وبحثية، على خير وجه؛ بإتاحة التسجيل في عضوية المكتبة لكلّ سكّان قطر، بلا تمييز. وكان كلّ عضو في المكتبة يستطيع الوصول، إلكترونياً، إلى أشهر المصادر المعرفية وقواعد البيانات في مختلف مجالات وتخصّصات المعرفة والعلوم والآداب والفنون. يمكن القول إن المكتبة كانت كياناً إلكترونياً يتيح الاطِّلاع على نسخة رقمية من ملايين الكتب والدوريات والمقالات والدراسات، من أشهر دور النشر في العالم. 

كما كانت المكتبة تشارك في المحافل المحلِّية، والدولية، مثل معرض الدوحة الدولي للكتاب، واجتماعات ومؤتمرات الاتّحاد الدولي لجمعيات ومؤسَّسات المكتبات «إفلا»، بل استضافت، أيضاً، في أبريل/نيسان (2016)، المؤتمر الدولي للمكتبات العامّة «متلب 2016».  وكانت المكتبة تنظِّم حلقات الكتب النقاشية والمحاضرات، والفاعليّات المختلفة للأطفال، واليافعين، والكبار. 

وفي 14 ديسمبر/كانون الأول (2016)، وعندما اكتمل المبنى، وضعت صاحبة السموّ الشيخة موزا بنت ناصر أوَّل كتاب على أرفف المكتبة، وهو عبارة عن مخطوط لمصحف نادر للقرآن الكريم. 

في 7 نوفمبر/تشرين الثاني (2017)، فتحت المكتبة أبوابها للجمهور، وفي مارس/آذار (2018)، صدر قرار أميري بإنشاء مكتبة قطر الوطنية، وفي 16 أبريل/نيسان كان حفل الافتتاح الرسمي الذي شرَّفَه بالحضور حضرة صاحب السموّ الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدّى، وصاحب السموّ: الأمير الوالد حمد بن خليفة، وصاحبة السموّ الشيخة موزا بنت ناصر، بالإضافة إلى كوكبة من كبار رجال الدولة والشخصيات الدبلوماسية الرفيعة، من الدول الشقيقة والصديقة.

 بالنسبة إلى التصميم المعماري، كيف تمّ الاقتناع به؟، وما مدى موافقته للمعايير والخصوصيات البيئية والثقافية، وتلبيته لأدوار المكتبة؟ وماذا يشكِّل بوصفه هويّة بصرية ومعمارية؟ 

وضع التصميم المعماري لمبنى المكتبة المهندس المعماري العالمي «رِمْ كولهاس»، الذي له خبرة واسعة في تصميم المكتبات العامّة، مثل المبنى الشهير لمكتبة «سياتل» المركزية. ويَستلهم تصميمُ مبنى المكتبة من المعرفة اتِّساعها ورحابَتها ومن الكتاب سماتِه وشكلَه المميَّز، ومن العلم تطوُّرَه وحداثَتَه وتفاعلَه الديناميكي مع احتياجات الروّاد والمستخدمين. 

ما إن يلج الزائر مدخل المكتبة حتى يجد نفسه في قلب بهو هائل، تحيط به الكُتب من كلّ جانب، ويبدو كأنه مسرح عملاق، جمهوره من الكتب نفسها. لقد صُمِّم بهو المكتبة كمساحة واسعة مفتوحة تهيِّئ لروَّادها الأجواء التي تشجّعهم على التفاعل الاجتماعي، وتبادل الخبرات والأفكار فيما بينهم.

المبنى نفسه مستوحًى من ورقتَيْن مطويَّتَيْن من الزوايا، الواحدة فوق الأخرى، ومسحوبتين إلى الأعلى بحيث يشكِّل الفراغ بينهما ما يشبه شكَّل الصدَفة، وهو عبارة عن الفضاء الداخلي المفتوح من المبنى. وبهذا التصميم، أراد المهندس المعماري أن يجعل من مبنى المكتبة صرحاً شاهداً على القيمة الدائمة للكتاب. 

وقد صُمّم الجزء الداخلي الرئيسي ليتيح دخول ضوء النهار إلى داخل المكتبة، من الخارج؛ ما يتيح الشعور بالاتِّصال الدائم بالعالم الخارجي، وتقوم الواجهة الزجاجية المموَّجة بفلترة ضوء النهار، وتوفِّر للمكتبة ضوءاً طبيعياً مثالياً، دون وهج أو سطوع، للقراءة والأنشطة المجتمعية.

صُمّمت أرفف الكتب، في المكتبة، بما يجعلها تبدو جزءاً طبيعياً من المبنى نفسه، كأنها خرجت من الأرض، حتى تشكَّل الكتب محور المكتبة وركيزتها الأساسية. ووضعت الأرفف فوق مستوى الأرض، بما يرمز للقيمة الرفيعة للكتاب في الثقافة القطرية، والثقافة الإنسانية، بصفة عامّة. 

كما استخدم التصميم المعماري مزيجاً من المواد الكلاسيكية، مثل الرخام، في المكتبة التراثية، والمواد الحديثة، مثل الفولاذ المقاوم للصدأ، في الأجزاء الأخرى من المبنى، لتحقيق أكبر تأثير على التصميم الداخلي. وتتناغم هذه العناصر مع استخدام الأعمدة المتباينة لتؤكِّد إحدى القيم الجوهرية للمكتبة؛ ألا وهي تدرُّج مسيرة تطوُّر المعرفة من الماضي إلى الحاضر.

وقد صُنِّف مبنى مكتبة قطر الوطنية ضمن أفضل (10) مبانٍ خلال عام (2018)، وذلك حسب موقع «Dezeen» البريطاني، وهو واحد من أهمّ المواقع لمهندسي العمارة وطلّابها، لتضاف المكتبة، بذلك، إلى سجل الإنجازات القطرية المضيء، في شتّى المجالات. 

وأوضح الموقع أنه قد تَمَّ تصميم المكتبة وفق أحدث معطيات التكنولوجيا الحديثة، بما يحفِّز الزوّار على استكشاف مسيرة تطوُّر المعرفة، من الماضي إلى الحاضر، لافتاً إلى أنه روعِيَ، في تصميم المبنى، تحقيق التوازن بين توافر المحتوى المعرفي وسهولة الوصول إليه، من جهة، والمحافظة على هذا المحتوى وصونه في مكان آمن، من جهة أخرى.

 كيف تمَّت شراكات مكتبة قطر الوطنية مع المكتبة البريطانية؟، وما نتائجها؟، وما آفاقها؟

انطلاقاً من رسالتها الهادفة إلى الحفاظ على تراث الأمّة من أجل المستقبل، أبرمت مكتبة قطر الوطنية عدّة شراكات مع المكتبات والمؤسَّسات والأرشيفات الوطنية، والجامعات والمؤسَّسات لتعزيز الاطِّلاع على المحتوى الثقافي والمحتوى التراثي. وتعزِّز هذه الشراكات قدرة المكتبة على إتاحة المصادر الرَّقمية حول التاريخ والتراث والثقافة، في دولة قطر ومنطقة الخليج.  

من أهمّ هذه الشراكات التعاون الذي بدأ مع المكتبة البريطانية في (2012)، لتنفيذ ما وصفه خبراء المكتبات بأنه أكبر مشروع لرقمنة الوثائق والمخطوطات المرتبطة بدولة قطر والخليج والحضارة العربية والإسلامية، في العالم. وقد أسفرت المرحلتان: الأولى، والثانية، عن رقمنة مليون ونصف مليون صفحة متاحة، الآن، للجميع، عبر الإنترنت، من خلال بوّابة مكتبة قطر الرَّقمية (www.qdl.qa)، التي تمّ إطلاقها في أكتوبر/تشرين الأول (2014)، وهي أرشيف رقمي مجّاني زاره، حتى الآن، أكثر من مليون مستخدم.

وقد وقَّعنا، بعد الافتتاح الرسمي للمكتبة، اتِّفاقية تمديد الشراكة مع المكتبة البريطانية، وستشهد المرحلة الثالثة، التي تبدأ في مطلع العام المقبل، رقمنة (900 ألف) صفحة جديدة من الوثائق والسجلّات حول تاريخ منطقة الخليج، بالإضافة إلى مخطوطات المؤلَّفات العربية، في مجال كلٍّ من العلوم والطب والهندسة والفلك. وستتضمَّن المواد الجديدة المرقمنة، حول منطقة الخليج، مقاطع موسيقية وخرائط وسجلّات للسفن، وتقارير وخطابات ومراسلات وأوراقاً خاصّة ومطبوعات تاريخية. 

ستسفر المرحلة الثالثة عن رقمنة تقارير وخطابات ووثائق لم تكن مُفَهْرسة، ولم تُنشر من قبل، وستسلِّط هذه الوثائق ضوءاً جديداً على تاريخ قطر، والخليج، وستقدّم للعلماء والأكاديميين والمتخصِّصين، حول العالم، الاطِّلاع على موادّ ووثائق تاريخية، من المؤكَّد أنها ستثري الدراسات الحالية والجديدة حول تاريخ المنطقة.

وبصفة عامّةأثمرت الشراكة مع المكتبة البريطانية عن النشر الإلكتروني لواحدة من كبريات مجموعات السجلّات التاريخية عن الخليج والشرق الأوسط. لقد أصبحت مكتبة قطر الرَّقمية مرجعاً ضخماً ومفيداً للباحثين في تاريخ الخليج، والعلوم العربية. فرقمنة الوثائق والسجلّات والمخطوطات المتعلِّقة بتاريخ الخليج والعلوم العربية، وإتاحتها لملايين المستخدمين حول العالم، ستفتح مجالات جديدة من البحوث والإبداع، وتُحدث ثورة في إمكانية الوصول إلى هذه المجموعات الثرية بالمعلومات التاريخية.

 فاعليّات المكتبة وأنشطتها، تستهدف الأسرة والباحث والمجتمع عامّةً، ما مدى تأثيرها على عمل المؤسَّسات الثقافية الأخرى؟، وهل هناك تنسيق في هذا الصدد؟

تسعى مكتبة قطر الوطنية لأن تكون الوجهة الأولى للأطفال واليافعين والعائلات، وملتقى للمؤسَّسات والباحثين والمتخصِّصين والطلّاب والدارسين وأساتذة الجامعات، والمعلِّمين والجهات القائمة على التعليم، وجهات رعاية الأطفال وذوي الاحتياجات وأصحاب الإعاقة. كما تهدف المكتبة لأن يجد كلّ أفراد المجتمع، في المكتبة، مع كلّ زيارة، ما يناسب اهتماماتهم وتوقُّعاتهم، بالإضافة إلى الكتب ومصادر المعلومات الرَّقمية. 

وتحرص المكتبة على أن تلبّي فاعليَّاتها المناسبات الدينية، والثقافية، والفكرية، والعلمية المختلفة، مثل أنشطتها بمناسبة شهر رمضان الكريم، واحتفالها باليوم العالمي للأسرة، واليوم العالم للكتاب، واليوم العالمي للبيئة، واليوم الأوروبي..، وغيرها، ومن أولويّات المكتبة أن تحقِّق الفاعليّات التي تنظمها التوازن بين فئات المجتمع المختلفة، وأن تكون المكتبة مكاناً محبَّباً للأطفال؛ لجذبهم للقراءة والاطِّلاع، وتشجيعهم على الإبداع والابتكار.

تنظِّم المكتبة، شهرياً، في المتوسِّط، نحو 100 فاعليّة ونشاط، بالإضافة إلى المحاضرات والندوات النقاشية واجتماعات نوادي الكتب والورش التدريبية للباحثين، والدورات التعليمية في التصميم وتحرير الفيديو، ومهارات استخدام أدوات الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. 

لا تنافس مكتبة قطر الوطنية أيّة مؤسَّسة ثقافية أخرى في قطر. فالفضاء مفتوح، بلا حدود، لكلّ الجهود والفاعليّات والأنشطة التي ترفد الثقافة، وتعزِّز الفكر والعلوم، وتشجِّع على الابتكار والإبداع، وأيّ زخم ثقافي يصبّ في مصلحة دولة قطر، وسكّانها وشعبها، فالعلاقة بين المؤسَّسات الثقافية الأخرى هيفي المقام الأوّلعلاقة تكاملية تبادلية، ولم تكن، يوماً، تنافسية، ولن تكون كذلك، بأيّ حال من الأحوال. 

سهير وسطاوي

قد لا يعرف الجمهور العامّ ما معنى أن يكون المرء مديراً تنفيذياً لمكتبة وطنية بهذا الحجم! حدِّثينا عن هذه المهمّة، وعن مدى المسؤولية فيها.

على مدار مسيرتي المهنية، في المكتبات التي تمتدّ إلى أربعين عاماً، سواء في العالم العربي أو الولايات المتَّحدة، شاهدت بعيني تطوُّر المكتبات، ومعها تطوُّر مسؤوليّات ومهامّ أمناء المكتبة ومديريها، فالمكتبات، في السابق، كانت ورقية، فقط، أمّا الآن فهي إلكترونية ورقمية، يرتادهافي الأغلبالباحثون والمتخصِّصون وطلّاب الجامعات، أمّا الآن فهي وجهة عامّة، تقصدها فئات المجتمع المختلفة، سواء للتعلّم أو الإبداع أو النقاش أو حتى، فقط، لتبادل الحديث. في السابق، كانت المكتبات هادئة وصامتة، أمّا الآن فهي مليئة بالزخم والحيوية.

لقد شرفت باختياري لإدارة مكتبة متطوّرة وفريدة مثل مكتبة قطر الوطنية، فهي أوَّل مكتبة وطنية يتمّ افتتاحها في القرن الحادي العشرين، وتطبِّق أنموذجاً مختلفاً عن الصورة التقليدية للمكتبات، فهي ليست مكاناً لقراءة الكتب، أو مبنًى يحتوي على مصادر المعرفة الورقية، فحسب، فإن خدماتها للجمهور تعتمد على المزج بين الكتب وأحدث التقنيات الرَّقمية. فالمكتبة لا تقدّم لروّادها المواد المطبوعة، فقط، بل تتيح، كذلك، مئات الآلاف من الكتب الإلكترونية والصوتية ومقاطع الفيديو والموسيقى، عبر مجموعة كبيرة من المصادر الإلكترونية وقواعد البيانات الإلكترونية الشهيرة. 

من أولويّات المكتبة، التي أحرص عليها وأتابعها بنفسي، أن تقدِّم المكتبة باقة متنوّعة من الخدمات التي تلبّي كافة احتياجات الزائرين والروّاد، وتمكِّنهم من الاستفادة المثلى ممّا تقدِّمه المكتبة من مصادر إلكترونية، في شتّى مناحي المعرفة، وكذلك من الأجهزة والتقنيات الحديثة التي تحفل بها المكتبة، وذلك بتنظيم الفاعليّات والورش التدريبية والأنشطة والبرامج المختلفة التي تشجِّع السكّان على القراءة، وعلى التعلُّم واكتساب المعرفة، وتجعلهم يصلون إلى مبتغاهم من المعرفة، بسهولة ويسر. 

ومكتبة قطر الوطنية لها سمات كثيرة تميِّزها، تجعلني أفخر بشرف إدارتها؛ فهي في بلد، يعيش فيه أناس من ثقافات ولغات مختلفة، بلد له تاريخ عميق الجذور، وثقافة عريقة ولغة متطوّرة، وينتمي إلى حضارة عظيمة هي الحضارة العربية والإسلامية. وهذه السمات الفريدة تنطوي على تحدِّيات تستلزم من المكتبة النهوض بدور نشط، محلِّياً وإقليمياً وعالمياً، لتعزيز الجهود العالمية، لدولة قطر، في نشر المعرفة ودعم التعلُّم ورعاية البحث العلمي.

 كيف تنظرين إلى مستقبل المكتبة؟

ـ لدينا طموحات كبيرة لا سقف لها، وآفاق المستقبل مفتوحة، على مصراعيها، أمام دَوْر المكتبة، بصفتها مؤسَّسة تنويرية، وثقافية، وتعليمية، في قطر ومنطقة الخليج، وستواصل مكتبة قطر الوطنية سعيها لتحقيق رؤية دولة قطر في أن تكون منارة للمعرفة في المحيط الخليجي، والعربي، والعالمي، وفي أن تقوم بالحفاظ على تراث المنطقة، وتشجيع الاستكشاف، وصقل الجانب الروحي للإنسان، كما ستبذل جهدها لتشكيل مجتمع المعرفة في قطر؛ من خلال إتاحة المصادر المعرفية اللازمة للطلبة والباحثين وكلّ من يعيش على أرض دولة قطر، على حدٍّ سواء، لتعزيز فرص التعلُّم مدى الحياة، وتمكين الأفراد والمجتمع، والمساهمة في توفير مستقبل أفضل للجميع.

ناتالي إينيك: قيمة العمل الفَنّي تحدّدها جهات متعدّدة

في هذا الحوار الخاص لـ(الدوحة)، تناولت إينيك مجموعة من النقاط التي تساعد على توضيح أفكارها، وفهم بعض المقاطع التي أثارت نقاشات حادة مباشرة بعد صدور كتابها «براديغم الفنّ المعاصر».  في نقطة أولى دافعت عن مشروعية استخدام البراديغم كمفهوم إبستملوجي في مجال تاريخ وسوسيولوجيا الفنّ، رغم اختلاف هذا الأخير عن العلم وتاريخه. ثم أوضحت، في نقطة ثانية، إمكانية تعايش براديغمات فنية متعدّدة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في مجال العلم لاعتبارات عديدة تشرحها بتفصيل في هذا الحوار. كما عرجت على نقطة هامة تتعلّق بجدلية القيمة الفنّيّة الجمالية والقيمة المادية للعمل الفني، وأهم المتدخلين في تحديدهما. هذا دون أن يفوتها إبراز موقع وأهمية كتابها الأخير بالقياس إلى إسهاماتها السابقة، خاصة كتاب «اللعبة الثلاثية للفنّ المعاصر». وأخيراً شرحت فهمها الخاص للموضوعية وحدودها من خلال مفهوم الحياد الملتزم، لينتهي الحوار بحديث عن طموح أو هدف الفن. 

– هل يمكن استخدام مفهوم البراديغم في مجال سوسيولوجيا الفنّ دون أن يثير ذلك مشاكل وصعوبات إبستملوجية أو معرفيّة؟

– في كتابه الشهير عن «بنية الثورات العلمية»، استخدم مؤرخ العلوم توماس كون Thomas Kuhn مفهوم «البراديغم» باعتباره يمثل حالة للمعرفة، تشكّل نموذجاً أو بالأحرى قاعدة معرفيّة يتقاسمها الجميع، مادام مفهوم النموذج يحتوي ضمنياً على فكرة اتباعه بطريقة واعية. وهذه القاعدة لا تستطيع فرض نفسها إلا عبر القطيعة مع الحالة السابقة للمعرفة، وتكون هي بدورها معرضة بالتأكيد للإزاحة من طرف تصور آخر؛ هكذا تعمل الثورات العلمية، كما يفسر ذلك، أي ليس من خلال تقدم خطي ومتصل للمعرفة، وإنما من خلال سلسلة من القطائع، أو بعبارة أخرى، سلسلة من «الثورات». 

بالنسبة لي، لم يكن هدفي هو مقارنة العلم بالفنّ، أو الفنّ بالعلم (أي البحث عن التشابهات بين هذين المجالين)، وإنما قارنت أحدهما بالآخر (أي وقفت على التشابهات والاختلافات)، وهكذا، فعلى مستوى الاختلافات، يمكن القول إن الفنّ ليس بحثاً عن الحقيقة، بل هو بحث عن تجربة متميزة قائمة على الإدراك الحسي، سواء من جانب المنتج أو من جانب المتلقي، وبغض النظر عن طريقة تحديد موضوع هذه التجربة: الجمال، الروحانية، الرضا والارتياح، التطابق مع الغير أو التعاطف، الانفعال، الإثارة، إلخ. ثم إن مفهوم التقدم لا يحتل إلا مكانة محدودة في الفن؛ لا معنى له إلا داخل نفس المدرسة الفنّيّة، حيث يمكن أن تتطور وتكتمل المناهج والتقنيات والمهارات. تجب الإشارة أيضاً، إلى أن الممارسة العلمية، على الأقل في العصر الحديث، هي ممارسة جماعية، في حين أن الممارسة الفنّيّة تبدو، عكس ذلك، فردية؛ فالباحثون يشتغلون في المختبرات كفريق، بينما يشتغل الفنانون في الغالب كأفراد في ورشاتهم. كما أن حل الألغاز العلمية يعتمد على الاستدلالات والبراهين، في حين لا نقدم أي شيء من ذلك في الفنّ، بقدر ما ننتج أحكاما قيمة. وهذه الأحكام، كفرق أخير بين المجالين، يمكن أن تصدر، ليس فقط عن المتخصصين (كما هو الحال في العلم، حيث تقدم البراهين من طرف المتخصصين)، وإنما أيضاً عن جمهور عريض، يعطي لنفسه حق الإدلاء بالرأي، حتى وإن كان هذا الأخير غير ذي قيمة ولا يحظى باعتراف المتخصصين. 

ورغم هذه الاختلافات، توجد تشابهات عديدة بين الفنّ والعلم، على الأقل من وجهة نظر «بنية الثورات»، كما وصفها توماس كون؛ ففي نظره لا بد من توفر مجموعة من الشروط كي تحدث ثورة علمية: أولاً، وجود جماعة، لأن وجود مجرد أفراد معزولين لا يكفي لتشكيل براديغم جديد؛ ثم أن تأخذ هذه الجماعة شكل مجموعة ضيقة أو محدودة وليس «مجتمعاً» موسعاً؛ وأن يظهر جدال أو سجال، لا يمكن اختزاله في مجرد اختلاف في الآراء وإنما يشكل خلافاً، أي عدم اتفاق كلي ليس فقط حول طريقة حل المشكل، وإنما أيضاً حول كيفية طرحه؛ وأخيراً، وبناء على هذا الخلاف، حدوث تحول فعلي في التمثلات الجماعية. والواقع أن هذه الشروط مجتمعة توجد في تحول «البراديغمين الكبيرين» اللذين أحللهما في كتابي: التحول من البراديغم الكلاسيكي إلى البراديغم الحديث، ثم من البراديغم الحديث إلى البراديغم المعاصر. 

– كيف نفسر تعايش وتزامن براديغمات مختلفة؟

– هناك بالفعل فرق كبير بين «العلم السوي» بالمعنى الذي يستعمله توماس كون، وبين «الفنّ السوي»، حيث لا يقبل الأوّل تواجد وتعايش براديغمين مختلفين، ولا يسمح بوجود خلافات ونزاعات إلا في لحظات جد محدودة زمنياً. في حين نجد أن الفنّ الحديث قد تعايش لأجيال عديدة مع الفنّ الكلاسيكي، وكذلك الأمر بالنسبة للفنّ المعاصر، فقد تعايش لحوالي جيلين مع الفنّ الحديث. وهذه الوضعية أصبحت ممكنة بالنظر إلى أن الحقيقة التي يستهدفها العلم، لا يمكن إلا أن تكون واحدة ووحيدة-على الأقل من وجهة نظر الإبستملوجيا التلقائية التي قد لا تحظى باعتراف مؤرخي العلم-في حين أن التجربة المستهدفة من طرف الفنّ تحتمل التعدُّد، شريطة أن ترتبط بأطر اجتماعية هي نفسها متعدّدة. والواقع أن هذه هي وضعية وحالة الفنّ، حيث ترسخ بالفعل، تعايش مؤسسات وأسواق وجماهير مختلفة بشكل واضح وصريح، وذلك ضمن تراتبية هي أيضاً واضحة اليوم، بين المتخصصين ومؤسسات الدولة، والفاعلين المؤثرين بقوة في السوق، وأيضاً الجماهير ذات الكفاءة العالية والمتميزة؛ فكل هؤلاء يميلون إلى جانب الفنّ المعاصر. 

– بالنسبة للعمل الفني، من يحدد قيمته الفنّيّة وسعره في السوق؟

  في الجواب عن هذا السؤال، يجب أن نلاحظ، أولاً، أنه لا توجد قيمة «واحدة» (اقتصاديّة)، بل قيم متعدّدة من شأنها أن تحول العمل الفني إلى شيء ذي قيمة مادية؛ثانياً، أن هناك جهات وسلطات متعددة تمنح قيمة للعمل الفني، ثالثاً، أن هناك ظروفاً زمنية مختلفة ومتعددة، بالقياس إليها تكون للعمل الفني قيمة أو العكس؛ورابعاً وأخيراً، أنه، فيما يتعلق بسعر السوق، وسعر العمل الفني، وخاصة في الفنّ المعاصر، يخضع هذا السعر لقانون العرض والطلب، وبشكل لافت بعد بروز نزعة ميركانتيلية في قطاع واسع من عالم الفنّ خلال الجيل الأخير. وهذه الملاحظات لن تبدو غريبة إلا بالنسبة للذين يعتقدون بوجود قيمة داخلية(ذاتية)للأعمال الفنّيّة. 

يوجد قانون، بصدد سعر السوق، يطبق ويحكم كل شيء، بما في ذلك عالم الفنّ، ألا وهو قانون العرض والطلب. وبالفعل، فالسعر يرتفع أو ينخفض تبعاً لعدد الراغبين في اقتناء العمل(ينخفض السعر كلما كان الراغبون قلة أو مترددين، ويرتفع كلما كان الراغبون كثراً ومصممين على الاقتناء)، وأيضاً حسب كمية العرض(وهذا ما يفسر ميل أصحاب الأروقة إلى عرض أعمال محدودة وقليلة لفنانيهم البارزين). قانون العرض والطلب هذا، الذي يحظى بالقبول في الاقتصاد العادي الخاص بالمنتوجات والأعمال والخدمات، يصدم الحس المشترك حين يتعلق الأمر بتطبيقه على مجال الفن. فالمفروض في هذا الأخير امتلاك قيمة داخلية، مستقلة عن احتمالات وتقلبات السوق؛ يرجع ذلك على وجه التحديد، إلى أن القيمة المادية (السعر) تصبح هي المعيار في قياس وتحديد «القيمة» غير المادية، أي القيمة الفنّيّة، التي هي حصيلة «قيم» الجمال، الأصالة، الدلالة، إلخ. من هنا يأتي الشعور بالتذمر إزاء عدم استقرار الأسعار؛ كما أن تحديد سعر ثابت لعمل فني متميز، يعتبر، في بعض الحالات، اختزالاً له في قيمته المادية وتقليلاً وانتقاصاً من قيمته الفنّيّة الخالصة. 

وفيما يخص الفنّ المعاصر، فقد احتد كثيراً هذا الحذر إزاء السوق، وبالتالي إزاء اختزال قيمة الأعمال الفنّيّة في سعرها، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث طفت على السطح، في منتصف التسعينيات، فئة جديدة من الفاعلين في المجال. إن البروز القوي للمتاجرين في الأعمال الفنّيّة، وصناديق الاستثمار في الدول المتقدمة، وأيضاً الثروات الهائلة للدول الناشئة، كل هذا خلق فئة من المشترين ذوي الإمكانات المالية الكبيرة، والخبرة الطويلة في المضاربة أيضاً بصدد الأعمال القائمة على الإبهار(نشير مثلاً وبشكل خاص، إلى مجموعة «الفنانون الإنجليز الشباب» وممثلهم الرئيسي ضاميان هيرتس Damien Hirst)، واللعب على تأثير الاختراق أو إنتاج أعمال تنال رضا وإعجاب المحبين والعشاق مباشرة، وهم غير مثقّفين في الغالب. 

كان الفنّ المعاصر سابقاً وإلى عهد قريب، متواضعاً من حيث القيمة المادية مقارنة مع الفنّ الكلاسيكي والفنّ الحديث. واليوم تضاعفت قيمته إلى حد كبير؛ هناك، من جهة أولى، فئة قليلة من النجوم العالميين (كاتلان Cattelan، هيرست Hirst، كونز Koons… )، مدعومة من طرف أروقة ذات صيت عالمي، حطمت أعمالهم أرقاماً قياسية وكانت موضوع قراءات وتحليلات في عدد كبير من وسائل الإعلام، وهناك، من جهة أخرى، فئة عريضة من الفنانين المغمورين، لا يعرفهم إلّا المتخصصون والمهتمون، والذين لا يعرضون أعمالهم، وأحياناً لا يبيعونها إلا باعتماد وساطة شبكة من المؤسسات العمومية الخاصة بالفنّ المعاصر: المراكز الجهوية للفن، الصناديق الجهوية للفنّ المعاصر(FRAC)، جمعيات الأروقة، وفي أحسن الحالات، المتاحف. هذا الوسط المؤسساتي هو المدخل إلى الشهرة والثروة في سوق الأروقة القوية، ولدى مجمّعي الأعمال، وكذا المعارض الراقية. وفي أسوأ الحالات، لا يبقى للفنان سوى مساره ورصيده الخاص المدعوم والخاضع لتقديرات المتخصصين (نقاد الفنّ، مندوبي المعارض، الذين ما فتئ تأثيرهم يتعاظم-على غرار القطب الشهير هارالد زيمان Harald Szeemann)، وكله أمل في أن يتم انتقاء أعماله في بينالي دولي، وأن يجذب إليه انتباه صاحب رواق يحظى بثقة المؤسسات. 

– ما العلاقة التي يمكن إقامتها بين كتاب «براديغم الفنّ المعاصر» وكتاب «اللعبة الثلاثية للفنّ المعاصر»؟

  قام كتابي الأوّل عن الفنّ المعاصر(اللعبة الثلاثية للفنّ المعاصر Le triple jeu de l’art contemporain) على أساس مزدوج، براغماتي وأنطلوجي؛ هناك من ناحية أولى، بحث ميداني حول ردود الفعل إزاء الفنّ المعاصر، منظوراً إليه هكذا، من الخارج. ومن ناحية أخرى، هناك تحديد وتمييز أنطلوجي لخصائصه، من خلال استقراء أفعال وردود أفعال الوسطاء والجمهور. في حين، يقوم كتابي الأخير (براديغم الفنّ المعاصر:بنيات ثورة فنية Le paradigme de l’art contemporain :Structures d’une révolution artistique) على التحليل النسقي المنظم، ومن الداخل، للنتائج العملية المترتبة عن تلك الخصائص، ليس فقط من خلال الأعمال في حد ذاتها، وإنما من خلال نمط اشتغال عالم الفنّ المعاصر في مجموعه. يتعلق الأمر بصياغة نظرة أخرى عن الموضوع؛ ليس نظرة مباشرة عن الأعمال، بل نظرة غير مباشرة؛نظرة خاطفة وشاملة، تسمح بمعرفة وإدراك العالم الذي توجد فيه تلك الأعمال وتخلقه في نفس الوقت. 

– بأي معنى تتحدثين عن «الحياد الملتزم»؟

– كما أوضحت في كتابي («ما يفعله الفنّ لعلم الاجتماع» Ce que l’art fait à la sociologie ,Minuit,1998)، أحاول، في كل أعمالي، مراقبة الابتعاد عن أي حكم قيمة حول الأعمال التي تثير مواجهات بين الفاعلين. هذا الابتعاد أو الانفصال له تعبير خاص في التقليد السوسيولوجي: يتعلق الأمر بـ«الحياد الأكسيولوجي(القيمي)» للعالِِم، والذي فرضه ماكس فيبر Max Weber. وضعية الحياد هذه تسمح بالتنقل بين مختلف الحجج والبراهين، وهو ما يتيح أيضاً تقديم نظرة أخرى للفاعلين، أي طريقة أخرى في فهم أعمالهم. إن عالم الاجتماع الذي يتخذ موقفاً- مثلاً من تميز وعظمة فان غوغ Van Gogh أو من طبيعة «مبولة» مارسيل دوشان Marcel Duchamp-إنما يقوم بنفس ما يقوم به الفاعلون، أو لا يتعدى، في أحسن الحالات تدوين وتدعيم حججهم ومبرراتهم. وعندما يقوم بذلك، يحرم نفسه من أداته الأساسية للتدخل في الجدال أو النقاش، أي هذه القدرة على التنقل باعتبارها أهم ما يمكن أن يقدمه السوسيولوجي كشيء خاص به، لأن الفاعلين مستغرقون جداً في عالم قيمهم ولا يستطيعون تحقيق وبلوغ ذلك؛ إن الحياد هو المصدر الوحيد في الغالب، لفهم منطق هؤلاء وأولئك، وأحياناً إفهام هذا المنطق لهما معاً. 

إذا كان الحياد هو الأداة الضرورية للتنقل بين الأحكام، فإن هذا التنقل هو نفسه أفضل طريقة للربط وإعادة بناء العلاقة بين العوالم المنفصلة، وجعل البعض يفهم أن البعض الآخر له أيضاً حججه ومبرراته، والسماح لأشكال منطقية متعارضة بالتعايش والمواجهة دون التمزق حتماً، أو الاحتقار والانهيار. لذلك فالحياد لا يتعارض بالضرورة مع الالتزام. وبعيداً عن أن يكون هذا الحياد مجرد أمر يفرضه الاهتمام بالموضوعية واتخاذ مسافة إزاء الموضوعات التي ينتجها الفاعلون، فإنه يسمح، عكس ذلك، بالاقتراب مما يثير اهتماماتهم ونقاشاتهم، ليس من أجل اتخاذ موقف معين من ذلك، وإنما من أجل فهم لماذا يتمسكون بمواقفهم ويتحمسون لها، وكيف يواجه بعضهم بعضاً. إن الحياد، بدل أن يكون هروباً خارجاً عن اهتمامات الفاعلين، له وظيفة بالنسبة لعالم الاجتماع، هناك حاجة إليه، أو كما نقول: له «دور اجتماعي»؛ فهو الذي يعيد إمكانية التنقل بين عوالم مختلفة، ويساهم في توثيق الصلات حين يكف الناس عن التخاطب والتواصل، كما يعيد بناء الإجماع حين لا تكون هناك سوى فرق وجماعات تتواجه، تنتقد أو يتجاهل بعضها البعض. 

– هل لا يزال للفنّ دور أو وظيفة ما؟

– يبدو أن السؤال يدور حول ما إذا كان للفنّ المعاصر طموح أو هدف ما، أو أنه يميل إلى قيمة عامّة معينة. وسيختلف الجواب عن هذا السؤال تبعاً للبراديغم الفني الذي نتواجد في إطاره: فأنصار الفنّ الكلاسيكي، وكذلك أنصار الفنّ الحديث، يمكن أن يعتبروا أن الفنّ المعاصر لا يهدف إلى شيء ما، ما دام لا يستجيب للقيم التي يتشكل منها هذان البراديغمان، في حين أن من ينتصر للفنّ المعاصر سيرى، عكس ذلك؛ إن هذا الأخير يمكن تأويله تبعاً لأهداف وقيم متميزة، خاصة قيمة النقد critique، الحاضرة بقوة وكثافة في الخطابات المؤولة لهذه الأعمال الفنّيّة المعاصرة. يتوقف كل شيء إذن، على البراديغم المعتمد في التقييم والحكم والتأويل.

تزفيتان تودوروف: نحن غالباً ما ننسى دروس التاريخ

يُلخِّص هذا الحوار الأخير والحصري الذي أُجري مع المُفكِّر الفرنسي تزفيتان تودوروف (1939 – 2017) قُبيل رحيله، مشاكل العالم الحالية والمتراكمة منذ عقود، فإلى آخر أيامه كان صاحب «أعداء الديموقراطيّة الحميمون» غير متفائل ولا متشائم في آنٍ؛ يُصرِّح بصوت مرتفع أن رأي الشعب، في الوقت الحاضر لم يعد مفهوماً نبيلاً، كما رسَّخت ذلك الفلسفة السياسيّة الكلاسيكية، بل إن تودوروف يصف الصورة الراهنة للشعوب بالكتل البشريّة الجماعية التي يمكن التلاعب بها وجرها إلى هذا الاتجاه أو ذاك بواسطة وسائل الاتصال الجماهيري المُعاصِرة. وعلى هذا المحك يدعونا للتساؤل: كيف يكون ممكناً، باسم حرّيّة الشعب ذاته وباسم التقدُّم، تحريف فكرة الديموقراطيّة وإفراغها من محتواها؟ الخطر السياسي كبير في نظر تودوروف ويمكن أن يقودنا إلى العيش في عالم تهيمن فيه فقط المطالب الاقتصاديّة وأهواء اللحظة، المُهَيجة والمتلاعب بها من طرف الأدوات التكنولوجية، والتي لم نتعلَّم بعد السيطرة عليها بشكلٍ صحيح.. فهل يوجد حلّ في جيوبنا؟ 

يقول تودوروف: إذا كنّا نحن من جلب جزءاً من هذه المشاكل، فإننا من الناحية المبدئية قادرون أيضاً على إيجاد الحلّ لها. ليس تاريخ البشريّة بطريق مُزيَّن بالورود. لا أظنّ أنه ينبغي الحلم بعالم مُتحرِّر نهائياً من تناقضاته ومن صراعاته الداخلية. إن القيام بذلك الحُلم الكامل والخالص إلى حَدٍّ مبالغ فيه، هو تحديداً ما يُهدِّد عالمنا بأن يصير أكثر جنوناً مما هو عليه الآن…

– مجلّة ماريان: يتصدَّى منجزك لمساءلة الأحداث الجارية المباشرة والواقعية، وللتأمُّل التاريخي بالتناوب مع مزيد من التراجع والمسافة النقديّة. كيف تجمع بين المقاربتين؟

– تزفيتان تودوروف: أحاول بالفعل التأرجح بين منحدرين، إذا أمكن ذلك. أحدهما تاريخي، تاريخ الأفكار بالأساس في حالتي، والثاني سياسي، موجَّه أكثر نحو الأحداث الجارية والعالم المُعاصِر. يتعلَّق الأمر بفهم الأحداث التي تقلب أوضاعنا، سواء على المستوى الوطني أو العالمي والاجتماعي أو الثّقافي. هذه هي طريقتي في العمل. بعد تأليف كتاب تاريخي مُعمَّق، أشعر بأني محتاج إلى الاهتمام بأحداث الساعة. وبالعكس، فبعد بحث حول العالم المحيط بنا، أعود إلى التاريخ وأغوص في الماضي. سنة 2011 مثلاً، كان بحثي حول الرسام غويا Goya انغماراً في الماضي، حتى وإن كنت أنظر إلى تشكيل عالم قديم بعينيّ رجل من القرن 21. أنا لا أتردَّد في استحضار الأصداء التي يمثِّلها منجز غويا بالنسبة إليَّ وتردُّدها مع العالم الذي نعيش فيه، لكن كتاب «في ظل الأنوار» يبقى مع ذلك، بحثاً حول رسَّام إسباني من القرنين 18م و 19م. لقد كنت أثناء كتابته غارقاً في مئتي سنة من تاريخ إسبانيا. وهي مادة لم يكنْ لي علم بها في البداية. كنت أعرف طبعاً بعض الأشياء عن منجز غويا، مثل جميع الناس، لكن في دراستي، كان ينبغي الغوص فعلاً لعِدّة سنوات في هذا التشكيل والتفرُّغ له. في النهاية، شعرت فجأة بتعطُّش وحاجة إلى الربط بين أهمِّية أفكار ذلك الزمان وبين العالم المُعاصِر. من هنا هذا الذهاب والإياب، إن صدور كتاب «غويا» جاء بعد مُؤلَّف عن «جيرمين تيليون- Germaine Tillion» اشتغال التفكير، ومتبوعاً بـ«أعداء الديموقراطيّة الحميمون».

– «أعداء الديموقراطيّة الحميمون» هو تحديداً بحث سياسي أوردت فيه، منذ 2012، أن «الديموقراطيّة مريضة بغلوها: إذ صارت الحرّيّة فيها استبداداً، وتحوَّل الشعب إلى كتلة مُعرَّضة للتلاعب، وتغيّر شكل الرغبة في ترويج التقدُّم ليصبح شبيهاً بغزوة صليبية» في الوقت الذي يضرب الإرهاب مجتمعنا بشكلٍ مرعب، كيف تضعف قوة أوروبا أيضاً من الداخل؟

– لقد تغيَّر العالم منذ سقوط جدار برلين، فهذه اللحظة التاريخية تبقى مهمّة بما ترمز إليه بالنسبة للتاريخ القريب: لقد لعبت أطوار نهاية اليوتوبيا الشيوعية ما بين 1989. وعلاوة على ذلك هو إعلان بكيفية ما، عن نهاية القرن العشرين. لقد فتح اختفاء الدول الشيوعية الطريق أمام التحوُّل العميق للبلدان المعنيّة بهذا النظام في أوروبا وبقيّة العالم. لم يعد بالإمكان اليوم، في البلدان التي لا زال حكم الدولة الشيوعية موجوداً فيها، الحديث حقّاً عن دولة شمولية بالمعنى الكلاسيكي… انظروا إلى ما صارت إليه الصين أو فيتنام مثلاً، في مقابل تبقى حالة كوريا الشمالية مختلفة؛ إن هذه الديكتاتورية تُمثِّل تهديداً، وإِنْ كان بشكلٍ معزول. إنها ليست نموذجاً للتطوُّر كما جرى مع شيوعية القرن 20. لقد تميَّز هذا الأخير في أوروبا بمواجهة مُتعدِّدة الأوجه بين الديموقراطيّة والشمولية. من بينها تقديم المذاهب الشمولية التي ظهرت خلال الربع الأول من القرن لنفسها كصنف من الدواء لأمراض العالم البورجوازي، وهو اللفظ الذي كان مستعملاً آنذاك، دواء ضدّ الديموقراطيّة العجوز والمنهكة والرخوة والضعيفة. انهال الكثير من المؤاخذات والمعاتبات على الديموقراطيّة طيلة النصف الأول من القرن وإلى حدود الحرب العالمية الثانية. كثيرة هي الأذهان التي كانت، للأسف، ضحية إغواء الصورة الذكورية للمذاهب الشمولية، الفاشية والنازية، في غرب أوروبا، أو الشيوعية في الشرق، في روسيا وفي بلدان أخرى. انتهت هذه المرحلة رمزياً وبكيفية مُعيَّنة مع انهيار جدار برلين.

إلّا أنه لم يعد يكفي، في الوقت الحاضر، تأكيد تفوُّق الديموقراطيّة على الشمولية، وهو ما قمت به طويلاً خلال عقود، إذ كان كفاحي الأساسي والمستمرّ منذ أن هربت من بلغاريا ووصلت إلى فرنسا. صار انتصار الديموقراطيّة الآن شيئاً بدهياً. ومع ذلك فالمشكل يبقى كاملاً، بل يبدو أكثر تعقيداً مما قبل. ليست الديموقراطيّة، في أيامنا هذه، مُهدَّدة فقط من أعدائها الخارجيين: إرهاب وتيوقراطية في حالة جنينية، في البلدان التي تسعى إلى فرض ذاتها كقوى إقليمية، لكن التهديد ينخر أيضاً الديموقراطيّة من داخلها.

– كيف يمكن قياس الأخطار التي تثقل كاهل الديموقراطيّة من الداخل، والتي تُهدِّد حتى وجودها، مثل الانحراف الشعبوي الغربي والأوروبي، أو التنامي الخطير لإرهاب الأجانب؟

– إذا كان يجب على الديموقراطيّة إيجاد وسائل حماية نفسها ضدّ هجمات الخارج الإرهابية، فإنه من المفروض عليها أيضاً تفادي الأخطار الداخلية، المختلفة جدّاً، مثل الشعبوية والليبرالية المُتطرِّفة أو عقيدة الخلاص ( Le messianisme )، والتي هي أعداء حميمة للديموقراطية. لنأخذ مثالاً عن هذا الصنف من التهديد. تكمن قيمة الديموقراطيّة أو مبدؤها المكون في إمكانية تحسين الوضعية الحاضرة، من أجل الرفاهية الجماعية أو الازدهار الفردي. أجل، هذا أكيد، لكن ينبغي تمييز أيديولوجيا التقدُّم عن مفهوم «قابلية الاكتمال»، ذلك المصطلح العزيز على روسو، والذي اُستعمل كثيراً خلال القرن 18م: دائماً ما تكمن حدّة الذهن في جعل تحويل الحاضر، إلى مستقبل جيد، ممكناً، من دون التسليم مع ذلك بالأيديولوجيا المفرطة لحركة خطية للتاريخ البشري الذي قد يكون تطوُّراً دائماً وبلا عيوب. انظروا على سبيل المثال إلى الأضرار الإيكولوجية أو البيئية. في حركة «القابلية للاكتمال» الممكنة دائماً، والتي ينبغي دعمها طبعاً، هل هو مطلب يتمّ فرضه على الآخرين، أم يجب بداية توجيهه للذات نظراً للاكتراث بالتراجع وبالرفاهية الجماعية؟

– لكن كيف نُفسِّر هذا التراجع وهذا الشكل من العمى بداخل نموذجنا، وإن كنّا اليوم بصدد الوعي به أكثر؟

– إن هذا يربطنا مجدَّداً بخاصية قديمة للعالم الغربي، تلك التي تريد دائماً وبشكلٍ مفارق، أن تكون مسؤولة عن الإشعاع في العالم. في هذا الوهم، يوجد الكثير من الأضرار التي لحقت بالمُعاصِرين. إنها ما أُسمِّيه عقيدة الخلاص السياسيّة، التي تتأتَّى من بنية للتفكير: فكرة أننا نتقدَّم بالضرورة نحو مستقبل زاهر، وأنه ينبغي التدخل لتسريع حدوث هذا المستقبل الذي يُقيم نوعاً من الجنّة على الأرض. لقد عاشت عقيدة الخلاص الدينية، والمسيحية خاصّة، زمن مجدها عبر الألفيات المختلفة للمرحلة الكلاسيكية، للقرنين 16م و17م . كان يعتقد أن الرب يفرض هذا السير للجنّة على الأرض، وأنه من الواجب مساعدته لتسريع حركة التاريخ. لم يعد وارداً، مع الثورة الفرنسية، التسليم بسير مطلق للعناية الإلهية، لكن فُرض قانون للتاريخ يلعب الدور نفسه. وهكذا أخذ الإنسان، في انحرافه وتخطِّيه للحدود، يتخيَّل قوانين للتاريخ المحكوم أو المُوجَّه بالإرادة البشريّة… إنه يختار الآن تشكيل العالم على صورته، تبعاً لإرادته الخاصّة، ويعتبر نفسه إلهاً. من المُؤكَّد أن عقيدة الخلاص السياسيّة منفصلة عن القوة الإلهية، لكن فعلها يقتصر على تعويض القانون الإلهي في مركز الكون بإرادة البشر في تحقيق مصيرهم. وبمجرَّد تحقيق مصيرنا في بلدنا، نفرض مشروع التكميل المذكور على الخارج. من بين المراحل التاريخية الكبرى لهذه السيرورة، هناك تصدير الحروب الثورية والنابوليونية، وهكذا يتحوَّل المثل الأعلى إلى أيديولوجيا مفروضة بالقوة. يُمكن لمشروع ديموقراطي عميق، مُكوَّن من حرّيّة ومساواة، أن يغرق في ضدّه: نفي حرّيّة الآخرين والمساواة بين الشعوب والإخاء بين البشر، الوسيلة المُستعمَلة تلغي الغاية المُستهدَفة. 

– هل تعتقد أن هذا الانحراف لا زال قائماً اليوم؟

– لقد ساد لزمنٍ طويل، وربما أنه لا زال مستمراً. تصوَّروا أنه خلال القرنين 19م و 20م كان هناك نوع من الإلزام المفروض على الأمم الأكثر استنارة، وأساساً الفرنسيون والبريطانيون الذين كان واجبهم «الأخلاقي» يتمثَّل في جلب السعادة ومعرفة العالم إلى الشعوب الأدنى: إلزام تربية الآخرين كما لو كانوا أطفالاً. هذه التربية عينها، المجانية والإجبارية التي نمدح طبعاً آثارها على التعليم في فرنسا وما تجلبه من تقدُّم، هل كان ينبغي فرضها بتلك الطريقة على نصف إفريقيا وجزء من آسيا؟ كانت فرنسا وبريطانيا العظمى، في وضعيات مختلفة، تدَّعيان أن لهما حقّ فرض نموذج عيشهما كرسالة. من هنا جاءت المغامرة الاستعمارية.

بعد طور التحرُّر من الاستعمار، الذي اُعتبر كشيء مفروغ منه، وإنْ كانت الأضرار لا تزال حاضرة، ومع نهاية الحرب الباردة وتوازن الرعب اللذين هيمنا على العالم غداة الحرب العالمية الثانية، ما زلنا نعثر على مجازفة فرض «الخير»، الذي يعتبر الغرب نفسه أحياناً تجسيداً له. لحسابنا الخاص، ينبغي مساءلة ممارسة التدخل الإنساني من جهةٍ أولى، ومساءلة ممارسة الديموقراطيّة للحرب على ذاتها من جهةٍ ثانية. يجب ألّا ننسى أن الحرب في ذاتها ليست أبداً ديموقراطيّة أو إنسانيّة، كما لا يمكنها إطلاقاً خلق شروط ازدهار ما. ينبغي أن نحاول الاقتراب من الحاضر، وأن نُحلِّل الأحداث التراجيدية منذ بداية القرن 21م، وأن نفهم معنى الحروب على أفغانستان والعراق وليبيا.

– ما هي نظرتك إلى الشعبوية المتعاظمة في الغرب حالياً؟

– لا بدّ من التذكير أولاً بأن الديموقراطيّة في معناها الاشتقاقي، هي نظام يمتلك الشعب فيه الحكم. لكن إذا كان الشعب أساساً أوليّاً ومطلباً ديموقراطيّاً، فإن لدينا انطباعاً بأن الحرص على التوازن مع قيم ديموقراطية أخرى قد ضاع، وأنه بنوع من الإفراط، لم يعد هناك سوى مبدأ واحد نشط في العالم. إن الخصم الأول للديموقراطية هو التبسيط الذي يختزل المُتعدِّد في الوحيد، وبهذا الشكل يفتح الطريق للغلو الشعبوي. للأسف، لم يعد رأي الشعب، في الوقت الحاضر، مفهوماً بالمعنى النبيل، ذاك الذي أعطته الفلسفة السياسيّة الكلاسيكية، بل بمعنى كتلة جماعة بشريّة يمكن التلاعب بها بواسطة وسائل التواصل المُعاصِرة، والتي يمكن بسهولة، للأسف، جرّها إلى هذا الاتجاه أو ذاك. انظروا إلى وسائل الاتصال الجماهيري وإلى أدوات مثل «تويتر». ينبغي التساؤل: كيف يكون ممكناً، باسم حرّيّة الشعب ذاته وباسم التقدُّم، تحريف فكرة الديموقراطيّة وإفراغها من محتواها؟ بالفعل إن الخطر السياسي كبير ويمكن أن يقودنا إلى العيش في عالم تهيمن فيه -فقط- المطالب الاقتصاديّة وأهواء اللحظة، المُهَيجة والمتلاعب بها من طرف الأدوات التكنولوجية، والتي لم نتعلَّم بعد السيطرة عليها بشكلٍ صحيح.

– كيف تستطيع الديموقراطيّة، في رأيك، استعادة توازنها وتفادي المزيد من الغرق في الديماغوجية والتلاعب بالعقول؟

– إذا كنا نحن من جلب جزءاً من هذه المشاكل، فإننا من الناحية المبدئية قادرون أيضاً على إيجاد الحلّ لها. ليس تاريخ البشريّة بطريق مُزيَّن بالورود. لا أظنّ أنه ينبغي الحلم بعالم مُتحرِّر نهائياً من تناقضاته ومن صراعاته الداخلية. إن القيام بذلك الحلم الكامل والخالص إلى حَدٍّ مبالغ فيه، هو تحديداً ما يُهدِّد عالمنا بأن يصير أكثر جنوناً مما هو عليه الآن. جميع المشاكل السياسيّة والاقتصاديّة والإيكولوجية هي من إنجاز البشر. لكن كيف نؤثِّر فيها؟ إن الأكيد هو عدم امتلاك فرد ما أو شخصية سياسيّة لوصفة جاهزة وفعّالة بكيفية آلية. علينا ألّا ننسى أن هناك أُطراً ديموقراطية. هذه المًؤسَّسات لا تزال موجودة عندنا. يجب اعتمادها من أجل محاربة الانحرافات المُتطرِّفة وإظهار درجة تهديدها البالغ. من المُهم جدّاً نشر الأفكار الإنسانيّة وإيجاد الأشكال المناسبة لفعل ذلك.

نحن غالباً ما ننسى دروس التاريخ. أنا أُؤكِّد مثلاً على فضح التعذيب: ينبغي الابتهاج من كون التعذيب صار مبعداً من ديموقراطياتنا، مبدئياً على الأَقلّ، لأنه إذا غدا التعذيب، في الديموقراطيّة الأولى في العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية، قانونياً وشرعياً أو مقبولاً، فمعنى ذلك أننا أمام تراجع قوي. من المُهم أن يتجنَّد ديموقراطيو جميع الدول ويندِّدوا بهذا النوع من الانحراف ويفضحوه. يتوجَّب على الأمم الأوروبية، وهي بلدان حليفة للو.م.أ.، إعلاء صوت الاحتجاج، عوض الاستفادة من معلومات منتزعة بالتعذيب في الو.م.أ. ليس دور الحلفاء هو الموافقة على ما يفعله أقواهم، أو التأكيد عليه، لكن التبليغ أيضاً عن الانحرافات الموجودة.

– كيف يمكن المحافظة على تعدُّدية وجهات النظر وانفتاح النقاش والمبادلات في ديموقراطية حقيقية؟

– بالفعل، فإذا لم تكنْ ثمّة وصفة جاهزة مُطبَّقة في الديموقراطيّة، فهناك على الأَقلّ سلسلة من التدخلات والأفعال الديموقراطيّة بإمكانها الاتكاء على ما هو أكثر رسوخاً في مؤسَّساتنا: استقلالية العدالة، الحوار الإعلامي والمحادثة العمومية، تعدُّدية الصحافة، وسائل التواصل المُتنوِّعة، تعدُّدية الأحزاب وتنوُّع الآراء. نعم، إن كلّ ما ذُكِرَ يُشكِّل مكتسبات الديموقراطيّة الأكثر وَطَدَاً في العالم. ينبغي الاستناد إلى ذلك من أجل الفعل والدفاع ضدّ الأخطار الحاضرة، في انتظار أخطار الغد. بيد أنني أحب العبارة التالية لـ«بنجامان كونستان Benjamin Constant»، الذي قال وهو يتحدَّث عن الحياة الحميمة للأفراد: «إن ما يفلت من بين يديك هو مختلف بالضرورة عن الشيء الذي يتبعك». هي أيضاً مفارقة سياسيّة: إن الديموقراطيّة التي تنقصنا هي أكثر روعة من تلك التي نتوفَّر عليها الآن. من الواجب إذن محاربة الإرهاب اليوم كما حاربنا الشمولية بالأمس، بالقوة نفسها وبالحماس نفسه. ينبغي أيضاً، وفي أبعاد أخرى، مراقبة ما يحدث أمام أعيننا. فإخضاع مجتمعنا للنقد هو جزء من مكتسبات هذا النظام السياسي عينه وفكر الأنوار الذي يلهمه. لا مبدأ يكفي بمفرده لضمان جودة الدولة. لقد جاء شافيز إلى السُّلطة بالانتخابات، وكذلك الأمر بالنسبة لبرلسكوني في إيطاليا، بل حتى عِدّة مرّات. إن الديموقراطيّة لا تُختزَل في خاصية وحيدة، بل إنها تتطلَّب تمفصل وتوازن العديد من المبادئ المنفصلة.

– ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الديموقراطيّة على المستوى الدولي؟ وما هي في نظرك حصيلة سياسة فرنسا العالمية خلال مُدّة حكم فرنسوا هولاند، منذ انتخابه في مايو/أيار 2012؟

– في الوقت الحاضر، السياسة الفرنسيّة مجازفة كثيراً على المستوى العالمي. إنها تقريباً على خط عقيدة الخلاص السياسيّة ذاته. ويأتي ضعفها من سلبية عدم اعتبار الإطار الأوروبي. رغم التقدُّم الذي أحرزته، تبقى أوروبا منقسمة وضعيفة. في بعض الأحيان تجد فرنسا نفسها وحيدة، وتتصرَّف أو تفعل مثل قوة استعمارية قديمة لا تزال محتفظة بمصالحها في إفريقيا، ولاسيما في بلدان الغرب. ففي حين أن الاضطرابات والأحداث مُقلقة بشكلٍ خاص، في هذه المنطقة من العالم، ينبغي ألّا تتدخل فرنسا فقط بمنطق وإلزام الحفاظ على مصالحها. استعادة السلم، نعم، لكن ليس لإعادة تأسيس النظام والتاريخ الماضيين، حينما كانت فرنسا تلعب دوراً بصفتها قوة استعمارية. إذا كان لزاماً على فرنسا أن تتدخل من أجل منع تكاثر الإرهاب في هذا الجزء من إفريقيا، فإنه يجب عليها ألّا تحارب لوحدها الإرهاب الذي يضرب ويستهدف كلّ البلدان الأوروبية. هل من الممكن أن تبقى بعض بلدان أوروبا عديمة الشعور بالتهديد الإرهابي ولا تعمل بشكلٍ منسجم مع الأمم الأخرى؟! أمام رعب الإرهاب، ما هو نمط الحماية الاجتماعيّة التي ينبغي إقامتها؟ سؤال صعب. تذكَّروا الجواب الرمزي الذي شكَّله القيام بحربي أفغانستان والعراق. لقد وُلِدَ الإرهاب الأفغاني وحرب أفغانستان التي تلته لاجتثاثه، انطلاقاً من تواجد قوة عسكريّة مُسلَّحة على أرضه. ألا يزيد العلاج المُختار من حِدّة الشر الذي من المفترض أنه جاء لمحاربته؟! يبدو حقاً أن ذلك جدير بالمناقشة. في وقت يُجسِّد الإرهاب تهديداً واقعياً، ينبغي التساؤل رغم كلّ شيء عمَّا إذا لم يكنْ تدخل بلد ما على الصعيد العالمي يُخفي إرادة هيمنة أو إرادة التحكُّم في السلطة في جزء من العالم. لا يجب أبداً أن يكون تدخل الديموقراطيّة من أجل ذلك، بل من أجل حماية حرّيّة الأفراد والسكان ضدّ التعصُّب والتطرُّف.


المصدر:

مجلّة ماريان (Marianne) عدد 1039 ، 24 فبراير2017

حوار: أليوشا فلاد لاووسكي