الغابة تخفي الشجرة!

كيف نفهم ارتباطاتنا الدائمة بالأشجار منذ الولادة حتى الموت؟ يعمل مؤرِّخ الحساسيات «ألان كوربان Alain Corbin» على تحليل العلاقة الوجدانية التي نقيمها -أحياناً- مع الأشجار التي تمثِّل شواهد جليلة على الزمن الذي يمرّ.

هل كانت لبعض الأشجار مكانة في حياتكم؟

– ألان كوربان: في بيت العائلة، وقد كان ديراً في السابق، توجد أربع شجرات «زيزفون» يعود تاريخ غرسها إلى سنة 1870، وكانت تشكِّل ممراً يشبه الزقاق، وهي لا تزال موجودة هناك إلى الآن. لقد ارتبطت بها منذ طفولتي. أذكر كذلك بعض أشجار الكستناء، وشجرة كرز ما زالت صامدةً، على الرغم من أنها متداعية. هذا التردُّد المُتكرِّر على الأشجار المُعمِّرة لعب، من دون شكٍّ، دوراً في تعلُّقي بدراسة علم التاريخ. كما أنني في الغالِب أكتب كتبي في هذا البيت.

والغابة؟هل هي مصدر إلهام بالنسبة إليكم؟

– أقول دائماً إن الغابة تخفي الشجرة وليس العكس. الغابة تلفت الانتباه. إلّا أنني أفضّل شجرة الحقل، شجرة الغابة الصغيرة. أما الغابة الكبيرة فهي ليست مألوفة لديّ، ولست على معرفة جيِّدة بها. وقد شكّلت مكاناً يُثير القلق والخوف في قصص وحكايات القرن الثامن عشر، والتي تكون نهايتها سيئة أو مأساوية. كما أنها تمثل قوة طبيعية وجب على الإنسان مقاومتها من خلال اقتطاع أجزاء منها حتى يجد لنفسه مكاناً. بالنسبة لي، ليس للغابة ذلك السحر والجمال اللذان للشجرة الوحيدة وسط البراري. لكن البعض، مثل «جان موطي Jean Mottet»، الأستاذ السابق بالسوربون، والذي كتب مؤخراً سيرته الغابوية «من أجل الشجرة ومن أجل العصفور»، تقديم «ألان كوربان»، كأنهم أبناء الغابة، منها ولدوا وفيها يعيشون وسط الأشجار. ومعلوم أن «موطي»، الصديق الفرنسي الوحيد لـ«ميازاكي Miyazaki»، يمتلك العديد من الهكتارات في منطقة الدوردوني (Dordogne). إنه يهتم بالخصوص بالغابة الصوتية، وعلى العموم بكل ما له علاقة بما هو محسوس في الغابة.

كيف تفسِّرون هذا الارتباط الوجداني بين الإنسان والأشجار؟

– إنه ارتباط موغل في القِدم. لقد لعبت الشجرة دوراً مهمَّاً في حياة البشر على مرِّ العصور. تحت بعضها كانت تتحقق العدالة. إلّا أن الشجرة كانت على وجه الخصوص رمزاً للفرد: في العديد من المناطق القروية (وفي منطقة «ليموج Limoge» على الخصوص) كان يتمُّ غرس شجرة تزامناً مع ولادة طفل جديد. هذا الأخير، وهو ينمو، كان يتماهى مع الشجرة ويستمر في زيارتها وتفقدها، حتى في حالة رحيله عن البلدة. تعرفون أغنية «براسنز BRASSENS» الجميلة: «بالقرب من شجرتي عشت سعيداً، لم يكن عليّ مغادرتها أبداً، بالقرب منها عشت سعيداً، ولم يكن لها أن تغيب عن عيني». هذا التماهي يحتوي على بُعد، من بين أبعاد أخرى، هو البُعد الطبي: كان الناس يعلّقون ملابس على الشجرة عندما يكون الطفل مريضاً أو جريحاً أملاً في أن الشجرة ستشفيه. والعديد من الكُتَّاب مثل «ثيوفراسط Théophraste» و«بّلين لو جون Pline le Jeune» استساغوا فكرة مقارنة الشجرة بالجسم البشري، حيث الجلد لحاء، والدم نسغ، والأطراف أغصان. أما فيما يخصُّ الرأس، فإنّ الأمر لم يكن على هذا القدر من الوضوح. هناك الجزء الأعلى من الشجرة طبعاً. لكن البعض رأوا في الجذور دماغاً على نحوٍ ما.

 ألا يمكن أن نتحدَّث حتى عن ارتباط حميمي؟

– بالتأكيد؛ وما يشهد على ذلك هو العادة المُتمثلة في تقبيل الأشجار، والتي سبق وأن أشار إليها «إميل فيرهيرن Emile Verhaeren» في قصيدته بعنوان «الشجرة» (من ديوان: الروعة المضاعفة، 1906): «أتجه نحوها ممتلئ العينين نوراً، أتحسسها بأناملي ويدي/أحس بتمايلها حتى عمق الأرض/عبر حركة فوق بشرية هائلة؛/أضغط عليها بصدري الوحشي/بكل حب، وبكل شغف/حتى إن إيقاعها العميق وقوتها الكاملة/يخترقاني ويغوصان إلى حدود قلبي».

تتمتع الشجرة إذن بهالة من الجود والعطاء على العموم؟

– إنها مصدر خيرات وأفضال عديدة. هناك الثمار طبعاً. نتذكَّر هنا «روسو Rousseau» وهو يقطف التفاح على ضفاف بحيرة «بيين Bienne». لكن ليس هذا كل شيء. فالشجرة هي أيضا مأوى وملجأ نحتمي به من الأمطار الغزيرة ومن أشعة الشمس الحارقة. هذه الشجرة التي توفِّر الظل الوارف هي شجرة الأرياف عند « فيرجيل Virgile». يتعلّق الأمر طبعاً بمكانٍ متخيَّل، مكان للراحة والسكينة. لا شيء يدلُّ على أن فيرجيل كان حقاً يتمدَّد تحت الأشجار! إن لطف الشجرة، من حيث هي ملاذ نلجأ إليه ضد قساوة عناصر الطبيعة، وأيضاً ضد اضطراب العَالَم كما عند «روسو»، يمكن أحياناً أن يكون إيروسياً. فالشجرة المُجوَّفة على نحوٍ خاص هي المكان الذي يقصده العُشَّاق للاختفاء عن الأنظار، على غرار ما كان يقوم به «فيكتور هوغو Victor Hugo». يتحدَّث «هوغو» بالفعل عن «خلوات الحب في أعماق الغابات المفقودة/والشجرة التي تحتها تنسى أرواحهم المنصهرة كل شيء…!»  (Tristesse d’Olympio,dans Les rayons et les ombres,1840). ويضيف قائلاً: «الحب مثل شجرة، ينمو من تلقاء ذاته، يلقي بجذوره عميقاً في كلية وجودنا، ويحافظ باستمرار على اخضراره في قلب مكسور». (Notre Dame de Paris,1831). والشجرة هي أيضاً ما ننقش عليه اسم المحبوب أو العشيقين معاً. ولا تزال الغابة هي وجهتنا المُعتادة في الغالب.

لكن الإنسان لا يكتفي بالاستلقاء تحت الشجرة، وإنما يتسلّقها أيضاً!

– فعلاً، مثلما كان يفعل أشباهنا من «الرئيسيات les primates». إننا نتسلّق الأشجار لأسبابٍ عديدة. من أجل قطف الثمار. من أجل بناء «كبائن cabanes»، هذا المُتخيَّل الذي أصبح يحظى باهتمامٍ كبير حالياً، وهو يرتبط طبعاً بنوعٍ من الوعي الإيكولوجي والرغبة في «العودة إلى الطبيعة». كما أن هناك مَنْ يتسلّقها فقط من أجل رؤية الأشياء من زاوية مختلفة. ولعلّ هذا ما ينطبق على حالة العَالِم الإيكولوجي «جون موير John Muir»ـ (1838 – 1914) الذي تسلّق صنوبرة يبلغ علوها عشرات الأمتار في «دوغلاس Douglas» من أجل ملاحظة الطبيعة، والإنصات للريح، واستنشاق العطور، واكتشاف رقص الأشجار، إلخ. لقد كان يشاهد بإعجاب «حركات مختلف الأشجار وهي تتمايل بفعل الريح»، «حركاتها العاطفية» (Forêts dans la tempête et autres colères de la nature). كما يتحوَّل الوصف ليأخذ منحى دينياً: «هذه الأبراج الضخمة من ستين متراً علواً، تلوح مثل سبائك ذهبية رقيقة، ترتل وتسجد كأنها تصلي».

هناك ارتباط وثيق بين الشجرة والدين؟

– لا شكّ في ذلك. فالأساطير تحفل بالأشجار المُقدَّسة كمحور للعَالَم. والعديد من الأشجار في أوروبا استُخدمت كفضاءات للعبادة الوثنية. كما أن المسيحية قامت بعملية اجتثاث عدد كبير من هذه الأشجار وعوَّضتها بعبادة القديسين المحليين. ولعلّ هذا هو ما قام به «شارلمان Charlemagne» أيضاً: فقد اجتث الشجرة المُقدَّسة لدى الساكسونيين سنة (772م)… مما أدى إلى نشوب حرب العشرين عاماً. لكن، في بعض الأحيان كان يتمُّ فقط تجويف جزء صغير من هذه الأشجار بهدف وضع تمثال للعذراء. وبعض الأشجار، خاصة في منطقة «نورماندي Normandie»، تحوَّلت إلى كنائس صغيرة للصلاة. كما أن العديد من الشعراء، بمَنْ فيهم المسيحيون، مثل «شاتوبريان Chateaubriand»، سيقارنون الغابة بالكاتدرائية. والواقع أن الأشجار ليست غائبة عن الإنجيل: شجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، أو أيضاً شجرة «يسّى Jessé»، الشكل النباتي الذي يمثل «جينيالوجيا» أو نسب المسيح، ومن ثمَّ «جينيالوجيا» الزمان والتاريخ حتى لحظة ولادة المسيح.

للشجرة علاقة خاصة بالزمان، فهل هذا هو سرُّ جلالها؟

– تتمتع الشجرة بجلال لا يُنكَر. إنها بمثابة صلة وصل أو جسر كوني بين الأرض والسماء. إلّا أن ما يدهش الناس فعلاً هو طول عُمرها العجيب. فهي تكاد تكون خالدة. وإذن فهي حاملة للزمان ولذاكرة تتجاوز بشكلٍ كبير الوجود العابِر للبشر. خذ مثلاً أشجار «شارلمان» العديدة، أو أشجار «جان دارك Jeanne d’Arc»، وهي لا زالت موجودة في فرنسا. إن الشجرة هي ارتباط بالماضي. وعندما تمَّ استكشاف الحدائق الطبيعية الأميركية الرائعة، مثل حديقة «يوسمايت Yosmite»، اندهش المُستكشفون، وقالوا بتعجب: لا شكّ أن هذه الأشجار كانت موجودة منذ زمن عيسى المسيح. الشجرة قاهرة ومطَمْئنة في الوقت نفسه.

ربما هي، لهذا السبب، مصدر إلهام للشعراء؟

– من دون شكّ. فالشجرة حُبلى بالدلالات والمعاني:ليس غريباً إذن أن يوظفها الشعراء خدمةً لأغراضهم الشعرية. في «التأملات Les Contemplations» يخصِّص فيكتور هوغو نصوصاً جميلة للأشجار: «أنا الحالم؛ أنا الرفيق/لهذه الأزهار الذهبية الصغيرة على الجدار المُتداعي/ومُحاور الأشجار والريح». وشعراء العصر إنمّا يقصدون الطبيعة من أجل سماع الأشجار. ذلك أن الأشجار لها صوت بالنسبة لهم. إنها تكلِّم بعضها البعض، تُحادِث وتُحاوِر بعضها البعض، إلخ. إنها تعبِّر كما لو كانت قيثارات هوائية طبيعية. هذه الشعرية المُرتبطة بالأشجار وعالم النبات تبلورت على نحوٍ خاص في إنجلترا، مع تركيز قوي وملحوظ على النباتات البرية. وهذه البرية هي أيضاً ما كان يعشقه «ديفيد هنري ثورو David Henry thoreau»، إنسان «والدن Walden»: إنه يقدِّر كل ما ينمو بنفسه، بحريّة، ودون أن يكون موجَّهاً من قِبل الإنسان. هكدا تصبح الشجرة تقريظاً للبرية.

لكن البرية أو الوحشية هذه تضفي عليها طابعاً مزعجاً؟

– على كلِّ حال، هناك عنفٌ متخيَّل يلازم الشجرة وقليلاً ما نقف عنده. إنّ تسلُّق الشجرة لا يخلو من مخاطرة السقوط. والشجرة لا تنفصل عن الفأس، رمز القوة والعنف الذي يتجلّى قبل كل شيء في قطع الأخشاب. علاوة على ذلك، في رواية «رولان المجنون Roland furieux»ـ (1516) لـ«أرسطو L’Aristote»، عندما كان البطل يغضب، كان يقطع الأشجار ويجتثها ويحاربها!

بغض النظر حتى عن الحديث عن العنف، فإن العُمر الطويل للشجرة يضع الإنسان وجهاً لوجه أمام مأساة موته الخاص والشخصي؟

– نعم. إن غرس أشجار على القبور أو بجانبها هو سلفاً ممارسة تقليدية. منذ بضع سنوات، خاصة في الولايات المُتحدة، يعمد البعض، حتى بعد الوفاة، إلى حقن الشجرة بحمضهم النووي (ADN) أملاً في الاستمرار في العيش بعد الموت. تجعلنا الشجرة نستحضر فكرة الخلود وتقودنا نحو نهائيتنا الخاصة. إنه تحدٍ، وربما هو التحدّي الأكبر الذي يتوجَّب على الإنسان مواجهته.

 

حوار: أوكتاف لارمانياك-ماثرون

المصدر:

Philosophie Magazine, Hors-Série N53 ,2022, pp. 70-76.

كاميلو خوسيه ثيلا.. «مذكرات التيس اسمث»

«كاميلو خوسيه ثيلا»، واحد من كُتَّاب «نوبل» الذين لم يترجموا بالقدر الكافي، وربما لم يشتهر من أعماله في العَالَم العربي سوى عمله المُبدع «عائلة باسكوال دوارتي»، حصل على «نوبل» بعد كاتبنا الكبير نجيب محفوظ بسنة واحدة، فقد حصل محفوظ على «نوبل» في عام 1988، وحصل «ثيلا» على الجائزة في عام 1989، ولذا قد نجد تشابهاً في أسباب منح الجائزة، وربما وبشكلٍ ما تمثل ثلاثية محفوظ عائلة «باسكوال دوارتي» في النسخة الإسبانية.

إننا نستطيع أن نقرأ الحكاية التي بين أيدينا على أنها حكاية للأطفال، فيها النماذج الأثيرة للحكاية الشعبية التقليدية، الذئب والماعز، وفيها العبرة والعظة.

ولكن أعمال «ثيلا» كلها لا تقف عند مستوى واحد من الأداء والتأويل، ولذلك يمكن أن نقرأ الحكاية باعتبارها حكاية تيس لا يعي ذاته، ولذا يختار اختيارات لا تناسب حياته، وقوته، فمن القص نستطيع أن نعرف أن هذا التيس لا يعرف مقدار قوته التي ظهرت من المُبارزة الأولى، حيث جعل التيس الآخر مثل الخبيزة، وأيضاً ظهرت في خوف الذئب نفسه منه، حيث كان يتركه يصعد إلى أعلى الجبال، دون أن يعرِّض نفسه لنطحاته، وربما عدم القدرة على اكتشاف الذات هي التي أفضت به إلى المُعاهدة التي لم يفد منها شيئاً كما كان يتصوَّر، لأن الذئب لم يقدِّم له شيئاً، بل العكس كان يأخذ منه نعجةً في كل أسبوع.

كما يمكن أن ننظر إلى الحكاية في مستوى آخر من التأويل، إذ يصبح الجَدي هو «فرانكو» الديكتاتور الإسباني ذاته الذي تحالف مع الذئب وولف (الألماني)، الذي يمكن أن يمثل في الحكاية «هتلر»، ولا يمكن أن ننسى أن «فرانكو» قد باع شعبه لـ«هتلر» دون مقابل، في حربه مع الألمان، ولا ننسى قرية «الجرنيكا» الإسبانية التي أراد أن يجرب «هتلر» بعض القنابل عليها قبل أن يلقيها على الحلفاء، فوافق «فرانكو» أن يكون تجريب القنابل فيها، فأصبحت أثراً بعد عين، وقد صوَّرها الفنّان الإسباني «بابلو بيكاسو»، لتكون صورةً خالدة شاهدة على فساد الديكتاتورية أينما وُجدت.

ولكن هذا ليس المُستوى الأخير للحكاية، فيمكن تفسير هذه الحكاية الرمزية على أنها مذكرات «كاميلو خوسيه ثيلا» نفسه، فـ«ثيلا» نفسه يمثل الجَدي في مستوى من المُستويات، لقد كان والده «كاميلو ثيلا إي فيرنانديز»، من كاليسية (من الجلالقة)، وكانت والدته، «كاميلا إمانويلا ترولوك إي بيرتوريني»، ذات أصول إنجليزية وإيطالية، بالإضافة إلى كونها كاليسية أيضاً، وكانت العائلة من الطبقة المُتوسطة، التي لا تميل إلى الثورة والتمرُّد، لذا تحالف مع أفكار الديكتاتور «فرانكو» في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، بل حارب في صفوف قواته، وأُصيب، وكأنه يمثل حكاية الجَدي الذي أراد أن يكون ثائراً فوقع في براثن الذئب، وقدَّم له أهله قرباناً دون أي فائدة، ولو أنه واجه الذئب لكان قد انتصر عليه، بدلاً من أن يقول له يا سيدي، ويعد إهانته له حنواً وكرامة.

لكن الحكاية تنتهي بما انتهت إليه قصة «ثيلا» نفسها، إذ أصبح من أشدِّ منتقدي «فرانكو»، وأصبحت أعماله مراقَبة من قِبل «فرانكو» وأنصاره، وربما للسبب ذاته كانت أشد أعماله إبداعاً وتأثيراً تلك التي كُتبت في هذه الفترة، التي رُوقِبَت فيها كتاباته، ومن أهم هذه الأعمال روايته «خلية النحل» التي مُنِعَتْ في إسبانيا ونُشِرَتْ في «بوينس أيرس» عام 1951.

 

 

مذكرات التيس «اسمث»

 

التيس المشهور «اسمث» – تيسٌ متمرِّد أقام مباراة بالأسلحة فوق جبال منخفضة بجوار جبال «جريدوس» الشاهقة، ورتبوا لاصطياده والنتيجة حتى الآن غير مجدية…

(1)

اسمي روبرت اسمث وخبل (الخامس)(1)، مولود في فرسنديا دي لا أوليبا دي بلاسينسيا، مقاطعة في كاسيرس(2)، بلغت الخامسة من العُمر غير العام الذي أنا فيه، إنْ لم أكن نموذجاً جيداً، فلست كذلك واحداً من الأشرار، إنني ذلك الشخص الذي لا يعيش -تقريباً البتة- الحياة التي يريد، بل يعيش فقط الحياة التي يستطيع، مبدئي أن أعيش الحياة تيساً صادقاً، أقضي الساعات الفارغة تحت ظلال الأشجار المُثمرة، أجترُّ العشب الغض، أو التبن العطري، اعتدت أن أمرر غمامات الربيع في قراءة «فراي لويس» أو «جارسيلاسو»، لكن الحياة قد أخذتني بلا تفكير أو روية، واليوم أجد نفسي مدفوعاً إلى مباراة تخيفني، مع تيس المعركة.. كم أنا عظيم!

أبي السيد «ولتر اسمث»، كان مثلاً أعلى في جبال الألب، نشأ في «دفونشير» بإنجلترا، وأُحضر في وقتٍ لاحق إلى «فرسنديا دي لا أوليبا» بوساطة شركة «أجابيتو لوبيث» وشركاه، مستوردي الماعز من المملكة المُتحدة.

رجال يصنعون الثروة الضخمة عن طريق إحضارنا ونقلنا من جانبٍ إلى آخر.

أبي كان -دائماً- جَدياً واضحاً جاداً، كان موضع إعزاز من قبيلته، ومثالاً وقدوة في مصلحة الماعز، كانت ذكراه غير مصدر فخر، واستقامته ونبل أصله كانا دائماً مبعث الحب والاحترام.

أمي السيدة «ترستيسا خبل الخامس»، كانت بالفعل شيئاً آخر، عنزة متهورة، صديقة للمرآة والزينة، السيدة «ترستيسا» كانت امرأة خطرة، بكر والديها، وأصغر من زوجها سناً، ساقت الجميع إلى طريق الحسرة والمرارة، ليس لها شجرة عائلة معروفة، كانت أمي هكذا، كم هي ضالة!

كانت تُسمَّى (عنزة البلد)، تسمية غير واضحة تماماً، لكنها تدل على أنها كانت ذات دلالٍ كثير، تتشمم أخبار زرائب الآخرين، عن طريق التحدُّث إلى نمامة أو قليلة الاحتفاظ بالأسرار أو محاورة زوجة خائنة أو غير جيِّدة.

كم يحزنني أن أدلي بهذه المعلومات عن أمي، ولكن صفحاتي الخاصة هذه، التي تشبه الوصية لا يتلاءم معها الزيف.

السيدة «ترستيسا» كي تبلغ الغاية في السوء أمضت أكثر من نصف عمرها تصيب بعدوى الحمى المالطية النصارى الفقراء الذين لم يرتكبوا في حقها جريمةً قط، سوى أنهم كانوا يستهلكون لبنها في الفطور والعشاء، و(لأن من يمشِ مشياً سيئاً ينتهِ إلى نهاية سيئة)(3)، فقد ماتت بطريقةٍ مأساوية تماماً، لقد فعصتها ناقلة تحمل خمسة آلاف كيلوجرام من (عنب ثبريرو)، حمولة حلوة -بالتأكيد- لكنها ربما ثقيلة قليلاً فوق عنزة واحدة.

أصبحت مثل الرقاقة، وقليلون كان عليهم أن يتألّموا، لأن المجيء إلى مكان الحادث بعد لحظات يسيرة من الحدث، لا يدع لهم الوقت الكافي للتعبير عن الألم.

بالنسبة لي كانت مصيبة عنيفة، لم أَرَ مثلها قط، في منتصف الطريق رأيتها تشبه رقاقة من الباكلاء.

ولكن بالنسبة لأبي الذي كان عاطفياً جداً، باعتباره جَدياً طيباً من الشمال، كان الأمر مختلفاً، لقد اتَّخذتْ هيئته مسحة مأساوية تقريباً، لقد كان يمضي الأيام وربما الأسابيع يبكي مخاطاً مديداً، ونظرته مليئة بالحزن، بينما ذقنه محنية مبللة.

آه ترستيسا – ترستيسا – كان يقول السيد «ولتر» من شدّة ألمه، كم كنت حمقاء طوال حياتك!

ومضى الزمان، وأصبحت كبيراً، وازددت صلابة، والصلابة هي طوق النجاة لكل التيوس، لأنه حين نبلغ عمراً معيَّناً، فعلينا أن نعتمد على أنفسنا.

وأبي الذي كان حزيناً، تزوَّج في زفافٍ ثانٍ من خالتي (كاوتلدي) خبل الخامس الأخت الصغرى لأمي، ومن هذه الزيجة الثانية أنجب خمسة تيوس كلهم ذكور، (نابليون) الذي هو نائب الآن، (ولتر) و(أدوليتو) و(سلفستر) و(فيكتوريانو) الأخ الأصغر، الذي كان حينما تركته تيساً أبيض مرحاً.

(2)

نزحت إلى الجبل، عندما قتلت (باولينو إليسوندو) من جراء مناطحة، إنه تيس شيخ كهل -وجدني قوياً جداً- بينما نشأ ليِّنا أكثر مما تخيلت، فجعلته مثل (الخبيزة) من المُناطحة الأولى.

في الجبل كنت واحداً وحيداً متشرِّداً، كنت كيفما سرت تضايقت وتململت كما لو كنت محارة.

ولقد سلاني أنني خصَّصت بعض الوقت للاعتداء على النعاج لسرقتهن، والنعاج عندما كنت أقترب من إحداها لسرقة أمتعتها كانت تكتم أنفاسها من الخوف، وتغلق عينيها الرخوتين، المليئتين بالمياه.

وفضَّلت أن أقيم معاهدة مع الذئب، لأنه ولو أنه كان عندما يراني أجيء كان يعطيني وقتاً كي أثب فوق الأحجار العالية التي لا يستطيع صعودها، فإنه كان منتبهاً مستيقظاً، ولا أعرف لماذا لم يكن يأخذني على غرة مني! لقد كان شيئاً مقلقاً بالنسبة لي، جعلني خائفاً وقتاً طويلاً.

دنوت من معسكر الذئب، ومن فوق صخرة صحت به:

– سيدي الذئب: أنا -بالرغم من جرسي- لست جَدياً أليفاً (معزى) من زرائب القهر، ولست من دواجن الإنسان، كأصدقائك من بني جنسك.

لا.. إنني تيس متمرِّد، تيس ساخط، جئت إلى الجبل لأنني لم أحتمل العبودية، ولهذا فإنّ قروني صارت ملطخة بالدماء، ولأنك سيدي تملك أنياباً، فأنا سالم لأنني نباتي أعيش في الطبيعة عادياً كما تعيش سعادتك بعيداً عن القانون، ولهذا أريد أن أتناقش معك بخصوص مستعمرَتك الجبلية.

في الجبل عشت، كما تعيش حضرتك، وفي الجبل صنعت بيتي ومزرعتي.

– وماذا تريد مني؟ أيها التيس الأحمق؟ – سألني الذئب.

– إذن.. أريد المُعاهدة مع سيادتك، سيدي الذئب، ولهذا جئت، كم تظن مقدار الربح الذي سنخرج به لو أننا أقمنا معاهدة؟

– وماذا تهديني؟

– نعجة بيضاء في كل أسبوع، ليست عنزة، تبدو لي وكأنها خيانة أن أبيع إخواني.

– وماذا تطلب؟

– السلام مع حضرتك، ومع أمثالك، مع الذين يمكن أن يخلصوني من هذا الجرس، الذي أخضعني، وقلَّل سطوتي، ومع جرس في الرقبة مَن يقبل أن يأخذني كي أصبح تيس المعركة؟

– وهل ستوفي الهدية.

– نعم سيدي الذئب -في الوقت المُفترض بالضبط- وفي الغد سأحضر لحضرتك الحمل الأول.

– إذن انزل من فوق الصخرة، لقد قبلت شروطك، وفي المساء سأحضر لك كل ذئاب الضواحي، وأعطيهم أمراً بأن يحترموك، إذا وفيت وامتثلت، أدنُ حتى أخلع لك هذا الجرس الذي تبدو به مضحكاً، وتظهر كما العبد.

– ونزلت من فوق الصخرة، ودخلت وكر الذئب، بينما قال لي في رصانة شديدة.

– لي سمعة سيئة، أنت تعرف ذلك، ولكن كلمة صادقة أقولها لك، كلمة واحدة من ذهب القانون.. «من هذه اللحظة نحن أصدقاء»، وصداقتنا يمكن أن تطول إلى نهاية الحياة، وإذا احتجت دفاعاً -في لحظةٍ ما- أو حمايةٍ ما، فليس أكثر من أن تأتي وتراني، ولكن لا تنسَ أنه إذا أردت أن تخونني أو تحاول خداعي، فلن تبقى أكثر من تأخر العصفور عن الغناء في الصباح.

– أمهلني الوقت الذي اتفقنا عليه سيدي الذئب، لن أنسى أبداً.

– من الأفضل لك أن تمشي الآن، شد رقبتك إلى الأمام كي أقطع لك صوت هذا الجرس.

– ولكن هل تطلق سراحي من بين أسنانك؟

– لا يا عزيزي، لأنه بأسنانك قلت لي كلاماً مغرياً، ولا أحب أن أكون أنا الذي يكسر المُعاهدة، اهدأ ولا تخف، سأفرج عنك من بين أظافري، فما زال الوقت طويلاً.

– الذئب قطع لي الجرس، وبعدها أعطاني ضربة ترشيح بيده، وقال لي:

– ابقَ مسلحاً يا فارس الجبل -الآن ورأسك مرفوعة، وذقنك في موضعها تماماً، بالفعل تستطيع أن تفخر بنفسك، تفخر بقائد التيوس المُتمرِّدين – ما اسمك؟

– روبرت اسمث وخبل الخامس.

– ممتاز تيس اسمث – إنّ حياة الغابة مناسبة لك، وكم سيحافظ عليك الذئاب لمدة طويلة.

– كلمات الذئب أثّرت في كثيراً، تلك الحياة النبيلة، المليئة بالزهو كانت هي التي تستهويني كثيراً.

شكراً جزيلا سيدي الذئب، وسعادتك ما اسمك؟

– اسمي «وولف»، أنا -أضاف الذئب، كما لو كان اعتذاراً- ولو أنني أقوم بعملية في كاستيه، فأنا مولود في الغابة السوداء(4).

رأيت في عيون الذئب لمعاناً مثل بريق الحنين.

(3)

معاهدتي مع الذئب كانت نتائجها رائعة، نحن الاثنين امتثلنا للعهد كنبلاء، وأنا أشعر بزيادة اعتباري بين الجميع مثل الرغوة، ليس بين العنزات اللائي يبعدن أميالاً عنا، واللائي يتغنين باسمي، واللائي يعتززن بإقداماتي ومعاركي، بل بين الحيوانات الجبلية نفسها، الذئاب، والثعالب، والسمور، الذين يحترمونني وينظرون إليّ بافتخار.

ووقتئذ تصادف إقامة معركتي الأولى، عندها صنعت شيئاً من البروباغندا، بين قطعان الحيوانات في وادي راما، وسومسييرا، وقمت بتوحيد بضعة وعشرين تيساً مختارين يمتازون بالشهامة والشجاعة، من الذين كانوا قد أطاعوني طاعةً عمياء، وكانوا لا يناقشون أوامري أبداً، ومعهم، مع هؤلاء -ما عدا اثنين منهم تركتهما بالقرب من الذئب «وولف» موكلين بالسهر على تنفيذ الإتاوة من النعاج- تفرّغت للنهب من (إيندلاينثيا) في (وادي الآخرة) إلى (كاندلاريو) في (سلامنكا) متبعاً خط الجبال.

وكوّنت ثراءً عظيماً، ولو أنه من كل الغنائم كان يجب عليّ أن أقاسم حاشيتي، ولكن لو أن تيوسي سلكوا سلوكاً صحيحاً، وغاية في البطولة، فكيف لا أكافئهم على سلوكهم هذا لجعلهم سعداء؟

في لوحة علم نفس السلطة مكتوب بحروف من ذهب، إنّ الحاكم لا ينبغي أن يبدو طامعاً.

ولكنني في ذلك الوقت كنت شاباً جداً، والشباب مفسدة، هذا ما جعلني أدفع الثمن غالياً، فقد أسكرتني السلطة، ولم تجعلني أتصرَّف بالشكل الجيّد، إذ أقدمت على معركة مع زوج من العسكر الأهليين، الاثنان كانا يعاملاننا بداية على أننا جماعة من الماعز الأليف، ولم يصيبانا بسوء أبداً، بل لم يعنيا بنا أصلاً، ولكن عندما بدأنا نزيح الغطاء، ونأخذ على عاتقنا عناء المُصادمة، جمعا الأسلحة، وأطلقا علينا أنواعاً من الذخيرة، ومن الجيد أن أقول لك إن ذلك كان ليلة (سان بارتولومي)، أي سرعة كانوا يطلقون بها النار؟ وأي هدف كان لهم؟

هذه كانت نهاية المباراة، لا أحب أن أذكر نفسي بأي مقدار كانت هزيمتنا موغلة في العمق، أصيلة في القاعدة، حتى إننا لم نستطع أن نسترجع جثث الموتى التي تبقت تحت سيطرة العدو، لقد كانت مقتلة عظيمة!

طليقاً كنت، لم يصبني أذى، -معجزة حقيقية- وحيداً، أحمل العار، ذهبت أجأر بالشكوى في عسكر الذئب «وولف»، أحببت أن أصبح عنزة أسطورية – شيئاً هكذا مثل عنزة (أمالتيا) التي أرضعت (جوبتر) – أغثني يا إلهي- كم كنت أحمق!

في هذه اللحظة أظن أنه قد بدا عليّ لمعان هذا الدم الذي يستحق التصوير، وتلك السوداوية التي كانت تتمتع بها السيدة «ترستيسا خبل الخامس»، التي وإنْ كانت أمي، تماماً، فأنا أعترف أيضاً أنها كانت عنزة مجنونة.

الذئب «وولف» عندما قصصت عليه هذه المُغامرة المُخزية، زجرني زجراً أبوياً، كما لو كان يعنف ابناً له أو أخاً صغيراً.

– ولكن أيها التيس الغبي، قال لي:

– بأي منطق استطعت أن تقدم على معركة مع الإنسان؟ وهو الحيوان الوحيد الذي يكسب دائماً؟

إنْ كنت أنا الذئب أترقبه دائماً كي لا ألاقيه، فكيف بك أنت أيها التيس المُضحك؟ تدخل معركة معه في أرضه؟

لقد أصبحت طليقاً بمعجزة -ابني الصغير- بمعجزة حقيقية، والآن تستطيع أن تشكر الله، وسينفعك هذا في أخذ الحيطة والحذر بعد ذلك.

الحرب لا ينبغي لها أن تكون أكثر من احتياجنا أو قدراتنا.

إنني ذئب شيخ، وبإمكاني أن أؤكد لك أنه ليس هناك عدوٌ صغير، تفكّر .. مَن يهجم على رجلين مسلحين بالبنادق؟

معركتك سخيفة للغاية، معركة بلا قضية وبلا قيمة.

ولكن هذا ما يمكن أن نقوله نحن الاثنين هنا، ولا ينبغي أن نحدّث به الآخرين، لأنه لا أحد سيفهم هذا، ولكن يجب أن يفكّروا -في الوقت الذي كنت فيه أحمق- أنك كنت تحقق بطولة، وأنك كنت بطلاً.

– شكراً سيدي الذئب -رددت عليه- أشكرك سيدي شكراً جزيلاً.

– العفو -يا عزيزي- ولكن عدني ألّا تكون مجنوناً بعد ذلك، وألّا تضع جهدك فيما لا طائل من ورائه.

– أعدك سيدي الذئب، أعد بذلك.

الذئب «وولف» حنا عليّ كثيراً، وأنا امتثلت له، كل الذئاب الذين تحالفوا معي لينون، عاطفيون، لهم محبتهم، وخفّة روحهم، كما أنهم ليسوا متوحشين -أبداً- كما يتصوَّر الآخرون.

(4)

ابتداءً من هزيمتي، عشت في سلام، وفي هدوء منزل الذئب أواناً طويلاً، دون أن أشغل بشيء أكثر من أن أستعيد قوتي، لأنه حتى إعطائه النعجة الأسبوعية كان من دائرة التيسين الوفيين، اللذين بقيا لي هناك بعد المعركة، واللذين كانا في أثناء وجود الفرقة التي كانت معي يقومان بالمأمورية العسكرية، بقرب عسكر الذئب «وولف».

ومع الهدوء، والإطعام حدّ التخمة، سريعاً سأشفى، وأرجع كما كنت، ولما لم أرد أن أكون ضيفاً ثقيلاً على الذئب، فقد طردت نفسي من عنده، لأصنع الحرب بطريقتي.

قاطع طريق في عزلة، وإنْ كان شيئاً ممتعاً، فنتيجته شاقة، وعرضة للأخطار.

تيس وحيد، صاعد، هابط للجبال فيما بعد ترف العيش والمُغامرات، لقد ابتعدت كثيراً قبل أن أصل إلى هذه الأخطار التي تترصد بي.

وفي ظهر يوم كنت في القيلولة في كهف صغير في حقل (بدرو برناردو) في قاعدة جبال جريدوس.

كنت بادياً لبعض العنزات اللائي يمشين في الوادي…

– مساء الخير -ألست (المعزى) اسمث، التيس المُتمرِّد، موضع فخر كل عنزات إسبانيا؟

– هذه المُعاملة ملأتني بالعزة.

– بلى، أنا هو، هل تردن شيئاً مني؟

تكلمت العنزات فيما بينهن برهة، وبرز جدي أشهب له منظر جميل من المجموعة.

– إذن -نعم- نريد أن نقول لك إنه يحزننا أن نراك وحيداً، بغير سلطة، نحب أن نقول لك أيضاً إننا شبعنا من العبودية، وإنك إذا أمرتنا فسنمضي معك إلى أي مكان تذهب بنا إليه.

في هذه اللحظة اكتشفت معركتي الثانية، المعركة التي وُلدت من أجل أن أقودها، فقط الله هو الذي فوق الكل، وهو الذي يستطيع معرفة ذلك.

ولكنني لا أستطيع أن أجعل تجار الدم يسمعون، إن الأبطال لا ينتمون لنا.

أعرف أنه في كل الصحف سعرٌ لرقبتي، وأنهم قد رتّبوا لمُطاردتي، وأسري، ولكن لا أحد يستطيع أن يظفر بي، لقد تعلّمت كثيراً.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – فضلت أن أترجم الاسم بمعناه وليس بلفظه، للإفادة من دلالته، كما يلاحظ أن اسم الابن في الإسبانية لا يُنسب إلى الأب وحده، ولكن يُنسب إلى الأب والأم معاً.
2 – فرسنديا دي لا أوليبا مقاطعة في مدريد.
3 – مَثل إسباني.
4 – الغابة السوداء مكان في ألمانيا، سُميت بذلك لأنّ الأشجار الكثيفة تحجب الضوءَ عنها.

الفلاسفة والمال.. هل حقَّق المُفكِّرون اتساقاً بين سلوكهم وما يكتبون؟

أندريه برتون

في كتاب فريد من نوعه، يواجه «هنري دي مونفاليي» النظريات التي جاء بها كبار الفلاسفة حول المال بحياتهم وجوانبها العملية. وهي دعوة لاكتشاف العلاقة التي كانت تربط هذه الأسماء الكبيرة بمحفظتهم المالية.

«هنري دي مونفاليي» أستاذ مبرز ودكتور في الفلسفة، يسهم في تنشيط جامعة شعبية في مدينة «إيسى لي مولينو» منذ عام 2018. وقد ألَّف العديد من الكتب منها «مدلسو الفلسفة Les imposteurs de la philo» سنة 2019، كما أصدر خلال السنة الجارية كتابه الأخير «محفظة الفلاسفة Le portefeuille des philosophes» عن دار النشر (Le Passeur Editeur).

أنت تبيِّن بأن الفلاسفة لا يتصرَّفون بالضرورة بشكلٍ منسجم مع نظرياتهم الفلسفية حين يتعلَّق الأمر بالمال. ماذا عن أفلاطون الذي كانت له في موضوع المال هذا أحكامٌ بالغة القسوة؟

– في الحقيقة، الفصل الأول من الكتاب كرسته بالكامل لأفلاطون لأنه، بسيره على نسق أفلام (الوسترن) في المُعارضة بين سقراط الطيب والشرسين والقبيحين الذين هم السفسطائيون، ساهم إلى حدٍّ كبير في تأسيس الفكرة القائلة بأن الفيلسوف لابدّ أن يحتقر المال وأن الفلسفة ممارسة نقية، مجانية وغير مغرضة لا يُرتضَى لها أن تهدف سوى إلى الحقيقة وعلاج الروح. فإذا كان لفظ «سفسطائي»، ما زال إلى اليوم يعكس معنى سلبياً ويقصد به غياب الفكر أو الدفاع عن قضايا لا يمكن الدفاع عنها (الإنسان كمقياس لكلّ شيء، وإطلاق العنان للرغبات بلا حدود، والعنف ضد العقل، وما إلى ذلك)، فمردُّ هذا كلّه إلى الرؤية التي أسّسها أفلاطون.

ونحن نميل إلى الأخذ بهذه الرؤية المانوية على الرغم من وجود فكر سفسطائي حقيقي (وقد ألَّفت جاكلين دي روميلي كتاباً عن هذا الموضوع). وفيما يتعلَّق بمسألة المال، يُؤاخِذ أفلاطون على السفسطائيين تلقيهم رواتب مقابل الدروس التي يقدِّمونها في حين أن سقراط كان يقدِّم دروسه بسخاء وبالمجان (ولكن من أين كان يأتي بقوت يومه؟ أفلاطون لا يتكلَّم عن ذلك).

هنا بالذات يجب علينا أن نستعين بالسِّيَر وعلم الاجتماع. فأفلاطون ينحدر من عائلة أرستقراطية كبيرة من أثينا، حيث يمتدُّ نسبه عبر الشجرة العائلية لوالدته، إلى سولون، مؤسّس الديموقراطية الأثينية. في الواقع، لم يكن مضطراً للعمل في يوم من الأيام، ويتيح لنا ذلك أن نفهم بشكلٍ أفضل ما يسمّيه «بيير بورديو» في تأمُّلات باسكال العلاقة «المدرسية» بعالم أفلاطون، أي علاقة تأمُّلية بحتة، حرّة ومتحرّرة من أي إلحاح عملي.

أمّا السفسطائيون فينحدرون من الطبقة الوسطى ويحتاجون إلى كسب لقمة العيش: معلِّمو وأساتذة الفلسفة الحاليون ينتمون إلى التقاليد السفسطائية أكثر من انتمائهم إلى التراث السقراطي أو الأفلاطوني بهذا المعنى. ولكن، عندما ننظر إلى مراسلات أفلاطون (ولا يزال لدينا بعضٌ منها)، وخاصة الرسالة الثالثة عشرة، ندرك، والأمر يبعث على الضحك، أن هذا الأخير، الذي ينعت السفسطائيين بأشنع الصفات كونهم لا يتحفَّزون، حسب اعتقاده، إلّا لغواية الربح، لم يتردَّد، عندما كان يتواجد بصقلية في سنة 367 قبل الميلاد، في طلب المال من الطاغية «ديونيسيوس الأصغر» ولا في تقديم المشورة له في أمور تتعلَّق بالإدارة السياسية…

ماذا عن «سينيكا» الذي كانت توجَّه إليه انتقادات بسبب ثروته التي تتعارض مع كتاباته؟

– يمثِّل «سينيكا» أيضاً حالة بارزة في هذا الباب. فهو من ناحية، لم يكن أبداً يكف عن احتقار المال بشكلٍ علني في كتاباته، وعن الدعوة إلى الانفصال عنه، وهو يوصي بالقناعة، بل وحتى بالفقر (حيث يذهب إلى حدّ اتخاذ مذهب الحد الأدنى لديوجين الساخر كنموذج له). ومن ناحية أخرى فهو كان واحداً من أغنى أغنياء زمنه لأنه كان يملك رابع أكبر ثروة في روما في عصره: (300 مليون سيسترس – sesterces)، كما يخبرنا بذلك المُؤرِّخ تاسيتوس، أي ما يعادل (228 مليون يورو) اليوم، وبذلك كان لا محالة سينضم إلى ثلّة الأغنياء الذين نقرأ أسماءهم في الترتيب السنوي الذي تصدره المجلة الاقتصادية «Challenges».

وكان «سينيكا» أيضاً مرابياً شرساً أشعل ثورة في منطقة بريتاني للحصول على قرض بالفائدة تأخَّر المدينون في سداده له. إذ نقرأ في تاريخ الرومان لصاحبه «ديون كاسيوس» أن مؤلِّف حوار «هدوء الروح» قد «أقرض البريتانيين أربعين مليون سيسترس، على أمل أن يُحصِّل منهم فوائد مرتفعة، ثمَّ طالبهم بالدفع الفوري مع اتخاذه لتدابير عنيفة»… في العصور القديمة، كان يتمُّ التأكيد على أن الفيلسوف يجب أن يحيا حياةً منسجمة مع كتاباته. ونحن نرى أن في حالة «سينيكا» أن هذا الأمر يبقى إشكالياً للغاية.

وفيما يتعلَّق بـ «كانط»، ماذا يمكن أن يُقال عن العلاقة بين فكره الفلسفي وموقفه تجاه المال في حياته اليومية؟

– في الفقرة (85) من مؤلَّفه «الأنثروبولوجيا»، ومن وجهة نظر براغماتية، ينتقد «كانط» الجشع، ويمكن القول بأن ممارسته كانت منسجمة مع نظريته. لقد كان على الدوام كريماً مع المُحيطين به. ففي الوقت الذي كان يمتهن ما كان يسمَّى في ذلك الوقت «Privatdozent»، أي أستاذاً في الجامعة يتلقى راتبه من طلابه مباشرة، فإنه قد سمح لـ«فازيانسكي Wasianski»، واحد من كتبته المُستقبليين، والذي كان أيضاً القائم على تنفيذ وصيته، والذي ترك لنا ذكرياته عن مؤلّف كتاب «نقد العقل الخالص»، بمتابعة محاضراته مجاناً.

وكان «كانط» أيضاً يجزل العطاء لخادمه، «مارتن لامبي Martin Lampe»، لدرجة أن هذا الأخير كان، في نهاية حياته، ينعم براحة مادية تفوق تلك التي توفَّرت لـ«كانط» نفسه! وحتى بعد فصله في ظروف عاصفة، دفع له معاشاً سنوياً مدى الحياة. مع أنه لم يكن مكرها على القيام بذلك. وبالمثل، منح «كانط» معاشاً تقاعدياً لأخته الصغرى التي كانت تشغل سريراً في دار العجزة وكان يرفع المبلغ الذي يدفعه لها بشكلٍ مطرد. كما أنه ساعد ابنها المُحتاج أيضاً. لذلك كان «كانط» أخلاقياً في هذا المجال ويتصرَّف وفق ما تمليه عليه فلسفته: كان دائماً يعتبر المال وسيلةً لا غاية.

لقد كان «سارتر» يموِّل العديد من معارفه: حيث يدفع عنهم الضرائب والاستشارات الطبية والإيجارات، إلخ. إذا نظرنا إلى ما يوجد وراء هذا الكرم، ألم تكن تلك طريقة لجعل الآخرين يعتمدون عليه؟ كيف كانت رؤيته للمال؟

– كان «سارتر» كريماً جدّاً، بشكلٍ يكاد يكون مرضياً. كان يسحب دفتر شيكاته حتى قبل أن يطلب إليه ذلك! وفي نهاية حياته، كما جاء ذلك في مذكرات «سيمون دي بوفوار»، ولكثرة ما كان يوزّع أمواله هنا وهناك دون حساب، فهو لم يعد يملك حتى ما يكفي لشراء زوج من الأحذية!

وأعتقد أن هذا الكرم المُفرط، وهذا الازدراء للمال الذي بدأ يظهره (منذ اللحظة التي كسب فيها الكثير من المال بفضل نجاح كتابه الموجز «الوجودية مذهب إنساني») يرتبط بكراهيته المُتجذِّرة للعالم البرجوازي التي شكَّلت بوصلة حياته. فـ«سارتر» كان يدعو إلى أخلاقيات الإنفاق المُفرط ضد فكرة التدبير البرجوازية، أو ما يُصطلَح عليه بسياسة «الأب الصالح» الذي يولي اهتماماً كبيراً للعلاقة بين الدخل والإنفاق.

جان بول سارتر

هل كانت تلك طريقة لجعل الآخرين يعتمدون عليه ويرتهنون به؟ في الواقع، نعم. ولكنها أيضاً وسيلة لجعل الآخرين أكثر حرّيّة، ولتعظيم ممكناتهم التي تضاءلت بسبب الإحراج المالي: وبهذا المعنى، فإن المُمارسة المالية السارترية، مهما كانت مفرطة، تتماشى مع رؤيته الإطلاقية (والتي تبقى في رأيي موضع خلافٍ كبير، ولكن هذا نقاش آخر) لمسألة الحرّيّة.

يبدو أن اهتمام العديد من الفلاسفة بموضوعة المال يزداد في الوقت الذي يزداد افتقارهم إليه. هل علاقتنا بالمال مشروطة بوضعنا المادي؟

– نعم، وكما يقول «باسكال بروكنر» في كتابه «حكمة المال» (2016)، فإن حديث المرء عن المال لا يعدو في مطلق الأحوال أن يكون حديثه عن نفسه. وأنا مثلاً أعلن عن راتبي الخاص في نهاية الكتاب لكي أبيِّن وضعي الشخصي! ولكن يمكننا أن نهتم بالمال ونفكِّر في العلاقة التي يمكن ويجب على الفلاسفة أن يكونوها معه دون أن نكون بالضرورة في حالة احتياج (لنتذكَّر مثالي أفلاطون وسينيكا اللذين تحدَّثنا عنهما). هناك أيضاً فلاسفة لم يتحدَّثوا عن المال رغم فقرهم، على غرار «هيغل» الذي عانى من الحاجة على امتداد فترة طويلة من حياته، ولم يتطرَّق للموضوع في أعماله المنشورة (باستثناء بعض المقاطع العامة جدّاً والمُجردة في كتابه «مبادئ فلسفة القانون»).

يقول «شوبنهاور»: «قبل كلّ شيء، هناك نوعان من الكُتَّاب: أولئك الذين يكتبون ليقولوا شيئاً، وأولئك الذين يكتبون من أجل الكتابة فقط»، أي لكسب المال. هل يجب بالضرورة تحرير الكتابة من أيةّ قيود مالية للحصول على القيمة؟ ألا يمكن التوفيق بين الكتابة الجيّدة والربح؟

– من الصعب التعميم بشأن هذه المسألة. فقد كان «شوبنهاور» نفسه يتقاضى معاشاً سنوياً وتمكَّن من كتابة ما يريد دون أن يبقى رهيناً بنجاح كتبه (التي لم تكن تُباع إلّا قليلاً جدّاً في حياته). إذا كنت ترغب في بيع كتبك، فالأسهل أن تستجيب لرغبات القُرَّاء وتقترح نظرية صغيرة من النظريات المُتداولة حول السعادة أو أي من هذه الكتب التي لا أعرف كيف يسمّونها (Feel good book) أو ما شابه ذلك. وأمثال هذه الكتب نرى في كلّ أسبوع نماذج جديدة منها على طاولة المُستجدات في المكتبات. ذلك أسهل من القول بأن حياتنا بلا معنى وأننا سائرون إلى العدم واليباب لا محالة. مثل هذا القول لا يساعد على بيع الكتب.

وفي الواقع، الكتب التي لها شأن حقيقي في الفلسفة لا تلاقي في الغالب رواجاً في حياة مؤلِّفيها. فقد استغرق الأمر خمس سنوات قبل أن تنفد النسخ الألف من الطبعة الأولى من كتاب «رأس المال» لـ«كارل ماركس». وهو الكتاب الذي سيصبح، بعد مرور قرن من الزمان، في قلب الخلافات الأيديولوجية خلال القرن العشرين. وفي الأدب، كان «فلوبير وبروست» غير خاضعيْن لأيّة قيود مالية ولم يكن كلاهما ينتظر الحصول على حقوق الطبع والنشر لدفع الإيجار. ومع ذلك، هناك استثناءات في هذا الاتجاه: فالكاتب «سيمونون»، الذي تمَّ ضم أعماله قبل بضع سنوات إلى مجموعة الـ«بليياد – Pléiade» المرموقة، باع ملايين النسخ في حياته، وحقَّق ثروة طائلة. لقد كان كاتباً شعبياً بسمك أدبي، وأيضاً فلسفي، وقد أُخصص في يومٍ من الأيام كتاباً آخر للحديث عنه.

ممّا جاء في كتابك حول ماركس: «لا شكّ في أننا يجب أن نبحث عن جذور ثورة ماركس على الظلم الاجتماعي والاستغلال والبؤس في محفظته ومعدته الخاويتين». هل أفكارنا انعكاس لحالتنا المادية لا غير؟

– في خمسينيات القرن التاسع عشر، أثناء وجوده في لندن، واجه ماركس صعوبات مادية ومالية كبيرة، سرد تفاصيلها في رسائله إلى «إنجلز». فقد كان هو وأسرته يعانون من الجوع والمرض حتى أن أحد أطفاله (وكان يدعى إدغار) مات من نقص التغذية خلال هذه الفترة: إن الأمر يشبه حقّاً أجواء رواية «Germinal» لـ«إميل زولا». وفي عام 1864، وافقت والدته أخيراً على منحه حصته من الميراث بعد أن ظلّت ترفض ذلك لسنواتٍ عديدة، ممّا خفَّف من ضائقته المالية. وخلال هذه الفترة بالذات بدأ بالاشتغال على كتابه «رأس المال» الذي صدر الجزء الأول منه في عام 1867.

أودُّ أن أؤكِّد على هذه النقطة، لأن الكثيرين يسخرون من ماركس بالقول إنه برجوازي لم يشتغل قط ولم يلتق البروليتاريا إلّا في المكتبات. هذا صحيح. لكنه مع ذلك شهد، خلال هذه الفترة، ظروفاً معيشية مادية صعبة للغاية يمكن أن تقرّبه من معاناة البروليتاريا في عصره وتوجِّه أيضاً تفكيره في مسألة المال والعمل والاستغلال كما نجده في الجزء الأول من كتاب «رأس المال».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أوجيني بوالي

العنوان الأصلي والمصدر:

les philosophes et l’argent: les penseurs ont-ils mis en cohérence leurs écrits et leur comportement?

https://www.lefigaro.fr/vox/culture/les-philosophes-et-l-argent-les-penseurs-ont-ils-mis-en-coherence-leurs-ecrits-et-leur-comportement-20210827

غولتين أكين «أسود أبيض»

وُلِدت الشاعرة والكاتبة التركية «غولتين أكين» في «يوزغات» عام (1933). تخرَّجت في كلّيّة الحقوق في جامعة أنقرة، عام 1955. تنقَّلت في العديد من المحافظات التركية، وعملت في مهنتَي التعليم، والمحاماة.

نشرت أولى قصائدها في صحيفة «آخر خبر» وهي في سنّ الثامنة عشرة، عام 1951، ثم في العديد من المجلّات الأدبية خلال سنوات دراستها الجامعية. يغلب على مواضيع أشعارها الأولى الحديث عن الطبيعة، والعشق، والفراق، والصبا، في حين نرى أن الاضطراب السياسي والاضطراب الاجتماعي اللذين شهدتهما تركيا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قد أثَّرا في تطلُّعاتها، فأصبحت تركِّز، في مواضيع أشعارها، على المشاكل الاجتماعية، والمشاكل السياسية في المجتمع.

عام (2008)، حصلت على أعلى الأصوات في استفتاء نظَّمته صحيفة «ميلليت» عن أفضل شاعر معاصر تركي.

توفيت عام (2015).

صدر لها، في الشعر، أكثر من عشرين كتاباً، وكتبت سبع مسرحيات، وعدداً من الكتب النثرية. تُرجمت أشعارها إلى العديد من اللُّغات العالمية، ولُحِّن لها أكثر من أربعين قصيدة.

 

أحببتُكَ

 

أحببتُكَ. أحببتُكَ بتروٍّ، ولم أحبّكَ وهلةً

ليس كاستيقاظي ذاتَ صباحٍ.. لا، ليسَ كذلك،

بل كما تنسابُ العصارةُ إلى أطراف الغصن،

وضياءُ الشّمسِ من خلف السّحبِ، إلى السّهول الحالمة.

أحببتُكَ كلمسِ شفتيّ للماءِ، بعد ظمأ.

كانقضاءِ موسمِ الكرزِ والبرقوق وحلول الصّيف.

كظبيٍ شاردٍ وجدَ أمَه بعد طول بحثٍ.

اسمُك ثغرٌ خالدٌ، مروراً بي

استنشقتُه، تنسّمتُه، تألّقَ ورقُ الشّجر، ورحل شهرُ أغسطس..

أحببتُكَ، واكتملت محبّتي مروراً بكَ.

 

أحببتُكَ. رجالٌ ضِعافٌ وضِخامٌ

ونساؤهم بأعناقٍ غليظةٍ،

قبلَ انتشارهم في طول البلاد وعرضِها..

قبل قيام سلطات مختلفة قائمة على الكذب.

الجسورُ والطّرق بحكم الصّكوك والسّندات

قبل الانفتاح على الخارج، وقبل الانفتاح على الداخل، وقبل الانغلاق

أنهارُنا وجبالُنا وكلّ ما لدينا،

قبل أن تُباع سنداً سنداً..

قبل أنْ تُصبح الشّركاتُ والوقفُ والمناجمُ مقدَّسات،

وقبل أن ينتهي تقسيم الفردوس وتوزيعه.

أحببتكَ. ما عادَ لي من أحدٍ سواك.

 

أغنية الفتاة المجنونة

 

لو أصادِفُكَ في أحد الشّوارع الواسعة.

لو أمدُّ يدي وأمسكُ بكَ وأرافِقُك..

لو أنظرُ إلى عينيكَ وحتى لو لم أحادثُ عينيك.

ليتكَ تُدرك!.

 

لو أمدُّ يدي، حتى لو لم أستطع ما استطعت الإمساكَ بك.

لو تدركُ مدى محبّتي ووحدتي.

كلّا، إذا لم تُدركْ

وإذا لم تعلمْ، البتّة،

فأنتَ لا تعلمُ أبداً.

تبدأ وتنتهي تلك الأغنية من تِلقاء نفسها.

 

المطرُ يهطلُ وتبتلُّ أشجارُ الأكاسيا

تتطاير السّحبُ ليلاً.

أنا مجنونةٌ بالمطر.. مجنونةٌ بالسّحب.

لعبةٌ كبيرة هي ما تدعوه بالحياة

عليه؛ إمّا أنْ يحبّني أو يقتلني.

 

يجب قطعُ إحدى الطرق الواسعة بما فيها،

ويجب البدءُ من جديدٍ كالحشرات.

هذا المطرُ الظّالمُ لا يعملُ في الظلام.

اِحترقْ، يا قلبُ.. اِحترقْ على غرابتِك

فالماضي قد مضى.

 

أسود أبيض

 

أخذْتَني بعيداً عن العالم،

قيّدتَ ذراعيَّ، وقلتَ قفْ.

الليالي العابقة برائحة الملح، قالت: قفْ.

وقفتُ أنتظرُ.. لا تأتِ.

 

قمرٌ ضوءٌ ليلٌ سواد

عتمةٌ مميتةٌ خلفَ عينيّ

أحياءٌ وأمواتٌ وكلُّ الموجودِ متلاصقٌ

هذه السّاعة أكثر قرباً، وأشدّ تماسكاً

الآنَ، أشعرُ بالخجل من وحدتي.

وقفتُ أنتظرُ.. لا تأتِ.

 

كنتَ تعلمُ ذلك منذ البداية.

كانت إقامتي، هنا، ستكون الأخيرة.. ذات يوم

سأمسكُ يديكَ في لحظةٍ.

سيمرُّ من السهول آخر قطارٍ في اليوم.

سأنظرُ خلف كلّ شيء

أعلمُ ذلك منذ البداية.

وقفتُ أنتظرُ، لا تأتِ.

 

ما عادَ ينبغي عليكَ التّحدُّث، ولا أحدٌ غيرك.

تجاوزنا كل القيمِ باسم العيش.

القلبُ حسَّ في منتصف البياض

هذه الرّيحُ لا تحمل طوال القامات..

هذه الرّيح متشرّدة.

الآن، خارج رياح القرارات والمفاهيم،

وقفتُ أنتظرُ.. لا تأتِ.

 

بعد هطول طويل للأمطار

 

أنتَ، تليقُ بكَ الأيّامُ الماطرة

الطرقُ تقصرُ.. الجبالُ البعيدة، البيوتُ البعيدة تصغُر

وجهُكَ يتألّقُ مثل أوراق الشّجر المبلّلة.

لا تنسَني حين يتألَّق.

 

سماؤك دافئة.. الزرقة تمضي

العصافيرُ تحلّق بعد الأمطارِ الطّويلة ذات يوم.

مكانٌ في داخلِكَ يستشعِر الدّفء بالكامل.

رغم كلّ شيء، يداك تشعران بالبرد.

لا تنسَني حين تشعر بالبرد.

 

أصدقاءٌ جددٌ.. رياحٌ جديدةٌ تأتي وتمضي.

كيف نسوا إن كنتُ طحلباً أو كنتُ صخرة!

يميل رأسُك إلى صدرك قهراً.

لا تنسَني حين يميلُ.

عرفت كيف يحن الغصن

 

 

لوِّحوا بالحطبة

 

هذه الحقول المحروقة كانت حقولكم

انظروا

وانبشوا في الرماد

قد تعثرون على وجوه كانت لكم.

 

الحطبة هناك

يدُ مزارعٍ مكسورة

والفحمة

حدقة عين

انظروا بالفحمة لوِّحوا بالحطبة

واجعلوا الورقة اليابسة لساناً ونادوا

فربَّما شبحٌ عابرٌ هناك

يرى في رماد سيجارته مزارعي تبغ

ويطفئها.

 

 

الذي عبَرَ اسمَهُ

 

كتبَ اسمَهُ على الحائط كي يتذكّر العابرون أنه مرَّ من هنا

كتبَ اسمَهُ وذهب

وحين عاد

حاول عبثاً أن يتذكَّر

من هو هذا الاسم المكتوب على الحائط.

 

 

عرفتُ كيف يحنُّ الغصن

 

عرفتُ كيف الشجرة تحنُّ

إلى غصنها المتخشّب

لكن عرفتُ أيضاً

كيف يحنُّ الغصنُ

إلى الخشبة.

 

 

رفيقان

 

رأى وجهه في النهر وظنَّ نفسه ماءً

وجرى

وجرت معه ورقة يابسة.

 

رفيقان

واحدٌ يسافر في النظرة

وواحد يسافر في العمى ويسألان:

هل الماء لحمٌ؟ هل الماء شجرة؟

 

رفيقان:

وجهٌ ذائبٌ، وورقة يابسة

يعلوان معاً، ويهبطان معاً، ويرتطمان

بصخور تظنُّ الورقةُ أنها شجر

ويظنُّ هو أنها عظامه.

 

 

دُلَّ النقطةَ إلى الطريق

 

خُذْها

خُذْها رجاءً وارمِها في النهر

هذه النقطة التي ضيَّعت طريقها

وحطَّتْ على كتفي.

خُذها

سيفتقدها النهر

سيكون البحر ناقصاً من دونها

خُذها

الشجر أَولى بها منّي

العشب أَولى

وقد يكون هناك عصفور

يبحث الآن

عن نقطة ماء.

 

 

كي تشرب الذبابة

 

وضعَ نقطة ماء في صحن

كي تشرب الذبابة

وسلَّم نفسه للريح كي تأخذه الفراشات.

 

سلَّم نفسه للريح

فالتقطته الذبابة

وعاد إلى المكان الذي طار منه.تلك المسافة

 

هل تتذكرون

تلك المسافة الطويلة التي مشيناها

كي نقعد على حجر؟

المسافة الطويلة كي نطرد

الذئابَ التي تأكل الخراف في قلوبنا وكي

نبقى أبرياء من دم الأرض

ودم المسافة؟

هل تتذكرون العصافير

التي أردنا ذات يوم أن تكون بيننا وبينها قربى

فزقزقنا

وانهمر الرصاص علينا؟

 

 

تلك المسافة

 

تلك المسافة الطويلة نحو خروف

نحو عصفور

نحو حجر.

 

 

غياب

 

ظنَّ أنًّه هو ذاك الماشي في الشارع

وقفَ وناداه: هاي، أريد أن أقول شيئاً

لكنه لم يلتفت

وغاب.

ظنَّ نفسه هو ذاك الجالس في الحديقة

وقفَ ومشى إليه

ومشى الجالس في الحديقة

وغاب.

ظنَّ أنَّ المارَّة كلَّهم هو

وصاح بهم : هاي، أريد أن أقول شيئاً

لكنَّهم غابوا كلُّهم

وغاب هو

ولم يقلْ أيَّ شيء.

 

 

مكان الورقة

 

قعد طويلاً هناك

تحت الشجرة

وكان يظنُّ نفسه غابة.

حطَّت عصافير كثيرة

وطيور غريبة

على غصونه

وعلى ترابه مشت سحليات، ومشى نمل، واستلقى ناس، وغفا عشب.

 

قعد تحت الشجرة وظنَّ نفسه غابة

في الربيع يُزهر وفي الشتاء يرتجف

وفي الخريف

سقطت ورقة

وقعدت مكانه.

يدٌ على الحافَّة

 

يدٌ على الحافَّة

ويدٌ في الفضاء

ويغنّي

راسماً بلهاثه القبر الذي يحبُّ أن ينام فيه.

 

يغنّي للهواء الذي رافقه على الطرقات

للبجعة الجائعة التي نظرت إليه ورمى لها لقمة

وللبحيرة

في ذاك المساء

والأسماك التي تسبح فيها.

 

يضع يداً على الحافَّة ويداً في الفضاء ويغنّي

لرمل

دفنتْ فيه الحياةُ كلَّ موتاها

يغنّي لمِعْول

حفر طويلاً في ذاك الرمل علَّه

يجد موتى لا يزالون يتنفسُّون

يغنّي لصحراء

يغنّي لموتى.

 

يدٌ على الحافَّة ويدٌ في الفضاء وغناء

وقبرٌ من لهاث

تبدّده الريح.

يمشي يمشي

 

يمشي باحثاً عن بحر

يرقص موجُه مع السمك

عن صحراء

يغنّي رملُها مع الريح

باحثاً عن البحر الأوَّل والصحراء الأولى

وعن حقول

أوراق أشجارها عيون مزارعين

وعيون فلاَّحيها أوراق شجر

وعن عين

هي عيون الجميع.

يمشي يمشي ولا يرى بحراً

لا يسمع غناء

لا يرى رقصاً

لا حقولاً ولا مزارعين

يمشي

يمشي

بلا عين

ولا قدم

ولا مكان.

 


العدد: 46/ أغسطس 2011

“لأني، حقّاً، رأيت”.. شذرات لكريستيان بوبان

تجاوزت أعمال «كريستيان بوبان» ستِّين كتاباً، وتُرجِمت إلى أكثر من أربعين لغة. ظهر عمله الأوَّل «رسالة أرجوانية» عام (1977)، ثم أعماله الأخرى، تباعاً، في دور نشر صغيرة إلى أن تبنَّته منشورات «غاليمار» عام (1980)، لينال جائزة الأكاديمية الفرنسية على مجمل أعماله، في (2016).

هل يمكن أن نكره زهرة؟ يتساءل «أندريه دوتيل»!، فيجيب: نعم، ثم يمضي يتحدَّث عن أزهار أَخِلِيات (achillées): «رأيتُ يوماً زهرة أخيلية، كانت رمادية شاحبة، بلون أبيض مشوب، لم أحبَّها…، ثم بعد وقت قصير، ذهبت إلى حديقة أخرى ورأيت هناك أزهاراً شبيهة بذاك النوع، أزهاراً أخيلية أخرى، لكنها ملوَّنة. كانت بلون فاتح، ورائعة. فُتِنت، حقّاً، بها… عدت إلى الأولى ثانيةً؛ أعني تلك المبقَّعة الكريهة فأحببتها عن حبّ». هذه اللمسة الخاصّة في رؤية «دوتيل» للعالم؛ لمسة رجل يرى الجمال، برهافة، في أشياء لا تسمح لنا، في ظاهرها، بذلك، هي ما نقع عليه في كتابات «كريستيان بوبان» المتعدّدة (وهو المحبّ لـ«دوتيل»).

«بوبان»، الذي تجاوزت أعماله الآن ستِّين كتاباً، وتُرجِمت إلى أكثر من أربعين لغة، لم يغادر بيت أهله في مدينة «كروزو» منذ الولادة (1951) حتى سنّ الثلاثين؛ عاش حياة صامتة يتأمَّل: «عشت في مدينتَيْن؛ «كروزو»، والمدينة التي في الغيم». «كروزو»، المدينة الصناعية الصغيرة التي مرّ ذكرها عابراً في يوميّات «بول كلوديل» عام (1916)؛ مدينة لا يحلم أحد بالعيش فيها، حيث الله، والعزلة، والآخرون: «هاجرتُ من «كروزو» إلى «كروزو»».

يكتب «كريستيان بوبان» وكأنه يتكلَّم في كتبه جميعها بسلاسة عميقة، فالجملة العذبة الكاملة، هي التي «تجعلك تشعر بابتهاج عظيم إلى حَدٍّ لا تستطيع معه أن تكون أكثر ابتهاجاً ممّا أنت فيه»، متأثِّراً بجماليّات الكبار، «بروست»، مثلاً، الذي تجاوز زينة البرناسيين وأخذ جُمَلهم الطوال إلى بيت آخر، بأسلوب هو «مكاشفة لعالم خاصّ يراه كلّ واحد منّا، ولا يراه الآخرون. إن المتعة التي يمنحنا إيّاها فنَّان، هي أن يعرِّفنا إلى عالم آخر جديد». «بروست»، يكتب نصوصاً متشظِّية في أشكال مختلفة: نصوص الشذرات الشعرية القصار (Le Christ aux coquelicots)، اللوحات النثرية المطوَّلة (Mozart et la pluie،Un désordre de pétales rouges)، نصوص المشاهد السردية والنصّ الروائي (Le Très-Bas) ، اليوميّات، الشعر. بورتريهات سردية عن شخصيات أحبّها واقترب من عالمها الداخلي؛ الإنساني والشعري: القدّيس فرانسوا الأسيزي، وإميلي ديكنسون، وبيار سولاج، عدا تأثُّراته الخاصّة بكتابات «جان غروجان» و«أندريه دوتيل»، وشاعر اليابان «رايوكان» في القرن التاسع عشر: «كنت بحاجة إلى أكثر من ستِّين عاماً لأعرف ما كنت أبحث عنه في الكتابة والقراءة، وفي الحبّ، وفي الوقوف مشدوهاً أمام نبتة لبلاب، أو حجر صوان، أو غروب الشمس».

 

***

 

لا فرح أعنف من العثور على روح نقيّة: نودّ، حينها، أن نموت للتوّ..

أودُّ، حقّاً، أن أحبّ أولئك الذين أرى. لكن، لماذا هم أقلّ وجوداً حتى لأنفسهم؟

الرجل الذي يتحدَّثون عنه، حين يتحدَّثون عن كتبي، لا وجود له.

إنهم قادرون على إدخال كلّ شيء في حساباتهم سوى الاعتراف بالفضل، لهذا لا معنى لحساباتهم.

لا شيء يحافظ أكثر على يفاعة الحياة، من هدوء قلب يشتعل.

الملل يُعِدّ الدهشة مثلما نبسط غطاءً أبيض على الطاولة، أيّام العيد.

يُخطئ بعضنا كثيراً في حقّ البعض الآخر، ثم نموت.

وضعت المزهرية المليئة بأزهار صفراء على الأرض، قرب النافذة القصيرة، كي أترك الضوء يشرب.

الحقيقة في الأرض مثل مرآة مكسورة؛ كلّ قطعة تعكس السماء بكاملها.

شيء ما يأتي في كلّ لحظة لينقذنا.

أحبُّ الكتابات التي تنتزع الكاتب من العالم أيّاً كان السبب: ألم لا حدود له، فرح بلا سبب، أو-ببساطة- الشعور بأنك غريب على الأرض.

المطر يكتب مثلما يكتب طفل منحنياً على صفحته، خطوطاً مائلة وبطيئة ومهذَّبة.

لقد راهنت بكلّ شيء، على حبٍّ لا يمكنه أن يكون من هذا العالم حتى لو جعلنا كلّ تفصيل منه واضحاً.

ليس الجمال أو القوّة أو الفكر هو ما أحبُّ في شخص ما، بل علاقته الذكيّة الحياة، والتي عرف كيف تصله بها.

أكثر الكُتَّاب يصيبوني بالملل. هم، صدقاً، ليسوا السبب. أرى- تماماً- الجهد الذي يبذلونه للحصول على اهتمامي، لكن هذا -تحديداً- ما يصيبني بالملل. لا يستحوذ عليّ سوى أولئك الذين يتكلَّمون تلقائياً، دون أن يفكّروا في من يستمع إليهم؛ مثلما هو طائر الدوري، أو «أندريه دوتيل»..

أدفن كثيراً من الكُتَّاب في صناديق أُنزلها إلى القبو؛ فقلبي يتخفّف مثلما تتخفّف مكتبتي.

اليوم، أبي الذي رحل منذ فترة قريبة، يقف جانبي. ومثلي، لم يفعل شيئاً طوال النهار. كان يبتسم فحسب.

لا تصدّقوا أني طيّب، حكيم، أو حتى ذكيّ. صدّقوا، فقط، ما رأيت، لأني، حقّاً، رأيت.

«كنت وحيداً طوال ألفَيْ عام – زمنَ الطفولة. لا أحد مسؤول عن هذه العزلة. كنتُ أحتسي الصمت، وأقتات على سماء زرقاء. كنت أنتظر. بيني وبين العالم، كان هناك سور يقف عليه ملاك حارس، في يده اليسرى زهرة أرتانسيا – شيء يشبه كرة ثلج زرقاء. في الألفيّ عام، ساءلتُ كثيراً من الكتب. كنت أقرأ مثلما نكون في بلد أجنبي، ونفتح خريطة لنعرف أين نحن، قبل البحث عن المكان الذي نريد الذهاب إليه. لم أكن أدري أين أنا…».

«كنت، دائماً أتعذَّب من الذهاب إلى العالم ..»

يوما بعد يوم، كنت أختفي في بلد بلا اسم …»

مجنون، مَنْ ترك الألم يأخذ مكانه.

أجمل الحدائق هي تلك الحدائق المهملة.

الشتاء كان منقذي، والشفاعة الكبرى لثلجه الذي يغطِّي العالم.

أشتهي أن أدفن في ندفة ثلج.

في وسع فراشة أن تنقذ حياة.

مرَّات، أكون لنفسي، المتسوِّل: أجلس أمامي، وأمدّ يدي إليَّ، لكني أفتقد مزية السخاء، فتظلّ يدي فارغة.

الشاعر، يصادف، دائماً، شاعراً أكبر منه، فيأسر قلبه بالإعجاب. أنا صادفت الجليد.

حتى العميان، في مستطاعهم رؤية الضوء؛ يكفي أن يجلس شخص دمث، ويكلِّمهم.

تدهشني، كلّ يوم، حين أخرج من البيت، الثقةُ العالية للغيم.

الفقدان هو الضوء الذي مُنح للجميع.

المعرفة الكبرى ذابت من فوقك. والعتمات من جهتنا، لا من جهتك.

نحتاج إلى مئة وثلاثين زهرة لصناعة إكسير الرهبان.. ومثلها لكتابة قصيدة.

الابتسامة هي البرهان الوحيد على عبورنا فوق الأرض.

ما كنّا نقوله تلاشى في سماء الغابة، ولم يسقط منه ثانيةً سوى جزء من ألف، داخل الكتب.

أيدينا التي تشابكت على طريقة الأطفال، ستتابع تاريخها طويلاً، بعد أن كانت عظاماً ورفاتاً، ثم لا شيء.

أريد أن أقتل «كريستيان بوبان».

قطرة ماء تنتحر في المغسل، بعد تردُّد طويل.

ميتتك هي، تماماً، وراء فرحتك.

في وسع فراشة أن تنقذ حياة.

صديقتي، هي شخص ينتظرني في البهو، فيما أنا أربط خيوط حذائي.

أنا أصغر المريدين، وأساتذتي في كلّ مكان.

لأجله أحرق بعض الأشعار.

لا أحد أكثر شعوراً بالوحدة من نغمة ناي.

الحبّ طريقة عنيفة للخلاص من الموت وأسبابه.

أكتب إليك لآخذك أبعد من موتك.

كلّ ثانية ضائعة في النظر، دون انتباه من النافذة، تؤخِّر نهاية العالم.

كلّ يوم، أنتظر كلّ شيء.

أن نموت، هو كالوقوع في الحبّ: نختفي، ولا نخبر أحداً.

أنت تعبُر حياتي مثلما يعبر حريق غابة.

حكاية الكائن (إكس)

أخيراً، هأنذا أتنَعَّمُ بالطمأنينة، فالأرض تحتي هادئة كما لم تكن قبل آلاف السنوات، والسماء فوقي صافيةٌ لأوّل مرَّة منذ زمن بعيد، وباردةٌ كما ينبغي لها أن تكون. أمَّا عني، فأنا كما عهدتُ نفسي، مجرَّد ذرّاتٍ عالقة بالهواء، كما كنتُ مذ جئتُ إلى الوجود، لم أتغيَّر مطلقاً، ولم أكتسب أيّ أهمِّية تُذكَر، ما زلتُ غاز نيتروجين عاديّاً يملأ الجو، خفيّاً لا تتذكَّره إلّا قطرات المطر. غير أنَّني اليوم، ولأوّل مرَّةٍ، أشعر بقيمةٍ لوجودي؛ ذلك أنَّني فطِنتُ إلى معرفتي الثرَّة بالحكاية الأولى والأخيرة والأهمِّ في تاريخ هذا الكوكب المغمور؛ الحكاية الطويلة التي احتضنتها هذه النقطة الضئيلة السابحة في فضاء الكون المُتسِع. إنَّها حكاية مُحيِّرةٌ وبسيطة، واضحة وغامضة، ممتعة ومملّة، وعلى سلاستها، هي مأساوية وكئيبة.

لقد شهدتُ ميلاد الحكاية، ورأيتُها تترعرع، ثم تكتسب أحداثاً متتالية حادت بها إلى حيث تنتهي كلّ حكاية، إلى العدم. الحكاية متداخلة ومعقَّدة، ولأنَّ البداية مُبهَمة، فالحكاية ستُروَى من النقطة التي تسبق النهاية بقليل، حيث يتَّضح كلّ شيء، وينقشع الضباب. الزمن هنا مَرِن، يقبل المطَّ والتكوير، يقذف بالأحداث من مختلف محطّاته بلا نظام. المكان هنا بلا حدود، يأتي كعرض جانبي لا أهمِّية له. والأحداث مثل أوراق الحظّ، تتبعثر كيفما اتَّفق، ولا تخضع لتراتيبية نمطيّة. إذاً، وبعد أن عرفتم أنَّ اللعبة بلا قوانين، إليكم بالجزء الذي بين يديّ من الحكاية، قبل أن يفلت:

لقد مضى على الكائن (إكس) ما يربو على أربعة أشهر، وهو يتجوّل وحيداً في المساحات الخالية، حيث لا توجد إلّا ذرّات التراب وجزيئّات الهواء. انتهى به الحال إلى ما كانت عليه البداية قبل آلاف الأعوام، إذ وجد نفسه يطوف الأرض قلِقاً مُجرِّباً شقاءً، لا قِبَل له به. الأكيد أنّ هذا الكائن يعلم أنَّه الامتداد الطبيعي لسلالة عاشت طويلاً بين السماء والأرض، بدأت قصّتها حينما ظهر الكائن (إكس) لأوّل مرَّة، واكتسب اللغة والمهارة، وعَمَّر، وتناسل. الحكاية تعيد نفسها بطريقة ما، لكن على نحو مختلف، فآدمُ هذا الزمن نَسِي اسمه ونوعه، ونَسِي، كذلك، أنَّه يحمل رسالة. لم يعلم أنَّه صار كائناً مغموراً، على حافّة الانقراض، لكن الأسوأ، على الإطلاق، أنَّه ما عاد يعلم إجابة أهمِّ الأسئلة التي تجول بخلده: من أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ لماذا أنا؟

لقد كان قلقه من وجوده ينهش روحه، فمنذ أشهر لم يتوقّف عن تمرير أصابعه على الرمال، وتأمُّل السماء، في محاولة منه ليعرف. غير أنّ كلّ تلك المحاولات لم تُؤتِ أُكُلَها، فهو لا يعرف إلّا أنّه الكائن (إكس)، وأنّه وحيد.

لم يجرِّب (آدم الثاني) نعيم الجنّة، ولا يعرف بوجود (إبليس)، لكنه مثل (آدم) ذاق طعم الخطيئة، وبدت له سوءاتُه، غير أنّه لم يُحرِّك ساكناً ليواريها، ذلك أنّها كانت عميقاً بداخله، وتتطلَّب أكثر من رؤيا العين لتُبْصَر، كانت تتطلَّب عين البصيرة، والتي فقدها ضمن ما فقد. ولأنّه لم يذق سوى الشقاء، ظنَّ أنّ هذا هو ما عليه الحال دائماً، ولم يخطر بباله، ولو لمرَّة، أن يوجد شيءٌ ما كالنعيم أو خرافةٌ مُدَوِّخَة كالخلود. ومختلفاً عن (آدم)، لم يشعر بتلك الحوجة إلى كائن من جنسه يُشبِهه ويُكَمِّله، ولأنّه لم يعش لذّة الرفقة، ولم يجرِّب وجود آخر، يجترح وإيّاه خطيئة الاقتراب من الشجرة المُحرَّمة، كان من الطبيعي ألّا يفطن إلى ضرورة البحث عن (حوّاء)، عندما يجد نفسه تائهاً في أصقاع الأرض. (حوّاء) الثانية كانت موجودة بالقرب منه دائماً، تراقبه وتنتظر أن يبحث عنها بقلق، لتُشبِع غرورها الذي تتذكَّره في عمق فؤادها؛ فهي، على الرغم من طول الزمان وتقلُّباته التي جعلت (آدمَ) الكائن (إكس) ينسى كينونته، كانت تحتفظ بجزءٍ أصيلٍ من تكوينها، وكما كانت في أزمنة سحيقة، ما انفكّت تنتبه للتفاصيل وتصطحبها. لكنّ (آدم) ما عاد (آدم) القديم؛ فعندما ملّت (حوّاء) عَيْش دور الأهمِّيّة، وقرَّرتْ- غاضبةً- أن تظهر في أفقه، لم يُكلِّف نفسه سوى عناء الالتفات، فتفَرَّسها بنظرات غريبة، ثمّ مضى.

ولو أنّ «(حوّاء) الكائن (إكس)» لم تحاول أكثر، لكان أفضل. ذلك أنّ آدم المُغَيَّب في عوالمه الغريبة، رأى فيها ما رآه جنس الكائن (إكس) في بعضه؛ رأى فيها الأمر ذاته الذي أدَّى إلى انتهاء قرون من التاريخ والتقدُّم إلى فردَيْن فقط من جنس ذلك الكائن: كان ذلك قبل بضعة أشهر، حدث الأمر كما حدث من قبل، لكن بصورة أكثر غرابةً هذه المرَّة. كانت (حوّاء) قد جاءت إلى (آدم) للمرة السابعة، تحاول- عبثاً- تذكيره بماهيَّته. وكان آدم وقتها مشغولاً بتقطيع الأشجار، وصقل الصخور، ليصنع منها أسلحة. وقد كانت هذه هي المهارة الوحيدة التي تذكَّرها آدم بكلّ تفاصيلها، بعد أن نَسِي كلّ شيء. غرضه من صقل الصخور وتطويع الأخشاب كان بديهياً بالنسبة إليه؛ وهو ما عرفته (حوّاء)، أيضاً، لكنّها ظلَّت تتجاهله. حينما غطَّت (حوّاء) أفقه، راقبها (آدمُ) ببلاهة، وحدجها بنظراتٍ مُتَّقدة، كانت جزءاً من تاريخ الكائن (إكس) في القرون الأخيرة. عندما ابتسم (آدم) بخبث، وهو يُطالِعها، كانت (حوّاء) متوجِّسة، وتُقلِّب في رأسها خيارَيْن، فكّر آدم في أحدهما، بالتأكيد، وسيقدم عليه. دنا منها أكثر، دار حولها ثلاث دورات، تمعَّن في تفاصيلها من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها، وأخيراً لمعت عيناه بحزم، فتقدَّم نحوها بخطًى متسارعة.

ضربها بكلّ قوته، غرس صخرة مصقولة في أحشائها، وعندما حاولت الهرب، أحكم قبضته على منابت شعرها، وجرَّها إليه، مُراقِباً سكرات موتها. تدفَّق الدم منها حارّاً وقرمزياً، وانهالت الدموع الدافئة تجري في وجهها الدائري في شكل أربعة مسارات تلتقي عند ذقنها، لتنزل على يدي (آدم) الخشنتَيْن، وقد كان (آدم) يتلقَّف تلك الدموع متلذِّذاً بملوحتها الطاغية. كانت (حوّاء) تعلم أنّ موتها محتمل، لكنّها آثرت المغامرة على أن تعيش وحيدة، وكانت هذه أكبر غلطةٍ ترتكبها (حوّاء)؛ غلطة قديمة لطالما وقعت فيها «(حوّاء) الكائن (إكس)»، ولم تكن (حوّاء) الأخيرة بدعاً منهنّ.

أمّا آدم، فقد شعر بفرحة عميقة، وانفرجت أساريره، وبات ليلته تلك سعيداً ومرتاح البال. لقد رأى (آدم) من (حوّاء) اختلافها عنه، بل إنَّه لم يرَ غير ذلك إطلاقاً؛ فعندما دقَّق فيها النظر وجد جسدها يشبه جسده إلى حدٍّ ما، بيد أنه مختلف، رآها هزيلة بأكتاف ضئيلة، ورأى نفسه ضخماً مفتول العضلات، رأى شعرها الغزير ووجهها الخالي من الشعر، وشاهد صفات جسدية تختلف عنه؛ لذلك ارتأى أنّها- لا بُدّ- مختلفة، فقام من غير تردُّد بوضعها في قائمته السوداء. لم يكن (آدم) ليفهم سبب اختلاف (حوّاء)، إذ كان مُغَيَّباً بالكامل، ومشغولاً بفكرة أنَّه متميّز، وأنَّ من يختلف عنه لا يستحقّ الوجود؛ فهي، بشكلها الرقيق، وبشرتها الناعمة، وهيئتها الجاذبة تلك، لم تكن تعني له سوى مصدر رعب يستدعي أن يُبَاد.

قبل عام، بالضبط، وفي بقعة أخرى، كان (آدم) مُحتفِظاً ببعض ما كانت (حوّاء) تشعر به؛ بالإلفة والميل الفطري تجاه الآخر بين نوعي الكائن (إكس). وقتها، كان في عقل آدم القليل من المنطق، قبل أن يتلاشى إلى الأبد. حينها، كان على هذه الأرض كائنان آخران من نوع (إكس)، إضافةً إلى من سيصيران (آدم) و(حوّاء). وكانت الحرب تدور بين الثلاثة الذكور، بسبب اختلافهم في اللون والشكل أوّلاً؛ فأحدهم كان أبيض البشرة، والثاني كان أقرب إلى لون القمح، والأخير كان أسود بملامح مختلفة، ثم بسبب صراعهم على سبل الحياة، رغم وفرتها بما يكفيهم جميعاً في الواقع. ولم تكن حربهم سوى امتدادٍ لحرب طويلة خاضها جنس الكائن (إكس) منذ وقت غير معروف على وجه الدقّة. لقد اختلف حال هذه الكائنات كثيراً قبل أن تصير إلى ما صارت إليه اليوم، لكن الثابت الوحيد أنَّ جرثومة ما كانت مزروعة في أجسادهم، تنهش داخل قلوبهم، وتقودهم إلى شفا الانقراض. كانت تلك هي الكراهية التي حملها بعضهم للبعض الآخر، لأسباب تافهة وغريبة.

عندما مات أحد الثلاثة، توقَّفت الحرب لبرهة، قبل أن تستعر من جديد. وهذه المرّة، كان وقودها شيئاً مختلفاً تماماً؛ كان صراعاً ملحمياً من أجل حواء!.

كان التاريخ يُعيد نفسه، على نحو ما، وكان أحدهما (والذي سيكون (آدم)، فيما بعد) قد تقمَّص دور (قابيل)، وقتل أخاه، لكن الاختلاف يكمن في أنَّه لم يرَه كأخ، ولم يغالبه الندم، ولم يبكِ على خطيئته، التي كان يراها فضيلة، كما أنّه مزَّق جثّة الآخر وتركها تتعفَّن في العراء، وعندما بان له غرابٌ في الأرجاء؛ قتله، والغراب، بأيِّ حال من الأحوال، لم يكن يريد أن يعلِّمه كيف يواري سوءة الآخر، كان يريد، فقط، أن يقتات من جيفة الآخر؛ الآخر الذي لم يكن، بأيّ شكل من الأشكال، (هابيلَ) جديداً.

بعد أن توقَّفت رحى الحرب الصغيرة، كان (آدم) قد تغيَّر أكثر، ونَسِي- بالفعل- أنّه استمات، مؤخَّراً، من أجل (حوّاء)، وكانت (حوّاء)، من بُعد، تنتظر منه أن يبادر، إلى أن خاضت غمار الاحتمالات، وخرجت منها خاسرة.

قبل أربعة أعوام، كانت الكائنات من النوع (إكس) ما تزال محتفظةً بشيء من الفهم والنزعة إلى الوجود في جماعات يحتمي بعضها بالبعض الآخر. كانت هذه الجماعات، بطبيعة الحال، إثنية، لأنَّ أيّ روابط أخرى جمعتهم فيما مضى، تمزَّقت، ولم يتبقَّ سوى رباط الدم. الحرب كانت الحرب ذاتها التي سيخوضها، فيما بعد، آخر ثلاثة سيعيشون، كانت تُثَار بسبب الإثنية والبحث عن غذاء ومساحات. الأرض كانت الأرض ذاتها، غير أنّها كانت أكثر فتوّةً وشباباً ونقاءً.

وقبل مئة عام، كانوا ضمن منظومة ضخمة تجمعهم، تسمّى (حضارة)، وكانوا يستطيعون التفاهم، عبر أصوات ورموز تدعى (لغة). كانت تلك أشبه بمعجزة خالدة، وُلِدت مع تاريخهم الطويل، لكنَّهم فقدوها، بالكامل، قبل سنوات من اللحظة التي استفزَّتني لسرد الحكاية.

وللحقِّ، كانوا أعظم مخلوقات وطئت الأرض، فقد عمَّروها، وجعلوا منها مكاناً مختلفاً، أكثر أمناً وصلاحيّةً للحياة، أو هكذا خُيِّل إليهم.

لا أحد يعرف متى بدأ الأمر، لكنّ أسوأ المتشائمين لم يكن ليتوقَّع أنَّ الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه. قبل قرون، كانت حضارات الكائن (إكس) قد انصهرت جميعها في حضارة واحدة، تسعى إلى التقدُّم والارتقاء. حينها، كانت اللغة في أوج بريقها، وكان التفاهم من البداهات. كان لهم أفكارٌ مُتبَنّاة، وأديان مُعتَنَقة، وحقوق. كلّ ما يظهر على السطح كان يُنبِئ بمستقبل زاهر لتلك الكائنات والتي شرعت، بالفعل، في محاولة استكشاف عوالم أخرى. لكن ما لم يكن يعلمه إلَّا المستبصرون والحكماء هو أنَّ الكارثة قادمة لا محالة؛ ففي تاريخهم اقتتلوا أكثر من مرَّة، وتبادلوا الكره على مرِّ قرون. ورغم ما وصلوا إليه، كانوا سطحيين، لا يتقبّلون اختلافات بعضهم عن بعض، وينبذون الثقافات التي لا تروقهم، ويسعون لفرض قناعة محدَّدة وإيمان مسبوك لكلّ مجتمعات كائنات (الإكس)، على اختلافاتهم الجليَّة.

كلّ تلك التراكمات التحمت، ودفعت حضارتهم إلى الانهيار، وشيئاً فشيئاً عادت بهم أنفسهم إلى طبيعتهم الوحشية؛ التي تعشق التمييز والإقصاء، فظهرت الحروب وعاثت الكائنات (إكس) في الأرض فساداً، وتشتَّتوا في أصقاع الأرض؛ تهدف كلّ جماعة منهم إلى محو غيرها.

وانتهى الأمر بهم إلى كائنات بدائية تبحث عن الملجأ والبقاء، على الرغم من التراث الضخم الذي خلَّفوه، والمسافات الطويلة التي قطعوها في سعيهم إلى القمّة.

ما لا يخفى على جميع الموجودات أنَّ تلك الكائنات، وعندما استشرى بها الغيظ والهمجيّة، هاجمت كلّ أشكال الحياة الأخرى، وقامت بتدمير ممنهج لكلّ ما وقعت عليه أيديهم، فعذَّبوا الطبيعة كما لم تفعل كلّ الكوارث من قبل، وجعلوا من العداء نهجاً مقدَّساً يُورَّثُ إلى الأبناء كفضيلة، تستحقّ الموت في سبيلها.

كلّ تلك السنوات من الغباء والتفريط تمثَّلت في آخر من تبقّى منهم: (آدم الثاني)؛ فهو، بعد أن تخلَّص من غريمه ومن (حوّاء)، وبعد أن فرَّغ طاقات العدائية والكراهية تجاه الحيوانات والنباتات، وجد نفسه قَلِقاً، مسخاً، لا يعرف طريقة يتواصل بها مع العالم، ولا يجد ما سيُفرِّغ فيه ما تبقّى من ميراث عشيرته من كراهية وشحناء وعدائية.

أوّل الأمر، حاول الكائن (إكس) أن يُفرِّغ الأحاسيس المسمومة المكبوتة؛ فكان يجلس معظم وقته يلعن وجود الهواء، ويعيب عليه أنَّه شفَّاف، ويتقزَّز من رائحة المياه، ويسبُّ السماء لأنها بعيدة، ويشرخ التراب في محاولة لإيذاء الأرض. عندما باءت كلّ محاولاته بالفشل، رقد يتلوَّى من الألم. كانت أعضاؤه الداخلية قد بدأت في ملاحظة اختلافاتها العديدة. سَخِر القلبُ من شكل المعدة، والتي- بدورها- عابت على الأمعاء طولها، أرخى المخّ مسامعه، فقبضت العضلات على نهايات الأعصاب لتؤذيه. دارت العيون إلى الداخل لترى ما يعتمل في الجسد، فوجدت بعض الأعضاء تتبادل السخرية، وتلعن اختلافاتها، وشيئاً فشيئاً انخرطت جميع الخلايا في المعركة. كانت اللعنات تحوم في الداخل مختلطةً بالدم وبقايا الخلايا الميِّتة. لم تتوقَّف الأعضاء عن نهش بعضها بعضاً، رغم المحاولات المستميتة من الكائن إكس للسيطرة، وفي غضون دقائق، بدت بطول التاريخ العريض لوجود نوعه، كان الكائن (إكس) قد تمزَّق داخلياً، بالكامل، وبعد أن هدأ كلّ شيء، وتوقَّفت الجلبة.. مات!.

لويز غلوك.. الشاعر والقارئ (خطاب نوبل)

حصلت «لويز غلوك – louise Gluck» على جائزة «نوبل» في الآداب لعام (2020). هذه محاضرة «نوبل»، التي لم تتمكَّن من تقديمها بنفسها، بسبب جائحة (كوفيد- 19).

نص الخطاب:

عندما كنت طفلة صغيرة (خمسة أو ستة أعوام، على ما أذكر)، نظَّمتُ مسابقة في رأسي، مسابقة لتحديد أعظم قصيدة في العالم. وصل اثنان إلى التصفيات النهائية؛ «الولد الأسود الصغير – the Little Black Boy» لـ« بلايك – Blake»، و«نهر البجعة – Swanee» لـ«ستيفن فوستر – Stephen Foster»، كنت أقضي الوقت، صعوداً ونزولاً إلى غرفة النوم الثانية في بيت جدَّتي، في «سيدار هورست – Cedarhurst»، وهي قرية تقع على الشاطئ الجنوبي من «لونغ آيلند – Long Island»، أقرأ في ذهني، كما كنت أفضِّل، لا بفمي، قصيدة «بلايك» التي لا تنسى، وأغنّي أغنية «فوستر» المؤلمة في ذهني، أيضاً. كيف توصَّلت إلى قراءة «بلايك»، يبقى لغزاً. أعتقد أنّه كان هناك بعض المختارات الشعرية في منزل والدي، بين الكتب الشائعة حول السياسة، والتاريخ، والروايات، لكني أربط «بلايك» ببيت جدَّتي.

لم تكن جدَّتي امرأة كتب، لكن كان هناك «بلايك» وأغاني البراءة والتجربة (The Songs of Innocence and Experience)، وأيضاً كتاب صغير من الأغاني، من مسرحيات «شكسبير»، التي حفظت الكثير منها. وقد أحببت -على وجه الخصوص- الأغنية من «Cymberline»، التي -ربَّما- لم أفهم منها كلمة واحدة، لكنّ سماع النغمة، والإيقاعات، وضرورات الإيقاع، كلّها مثيرة لطفل شديد الخجل والخوف. «والشهرة تكون قبل قبرك»، كنت آمل ذلك.

لقد بدت المنافسات من هذا النوع، من أجل الشرف، ومن أجل المكافأة العالية، طبيعية بالنسبة إليَّ، وقد كانت الخرافات التي مثَّلت قراءتي الأولى مليئة بها. أعظم قصيدة في العالم، بدت لي، حتى عندما كنت صغيرة جدّاً، أعلى درجات الشرف. لقد كانت هذه هي الطريقة التي نشأنا بها، أختي وأنا، من أجل إنقاذ فرنسا «جان دارك»، لاكتشاف الرايديوم «ماري كوري». في وقت لاحق، بدأت أفهم مخاطر التفكير الهرمي وقيوده. لكن، في طفولتي، بدا من المهمّ منح جائزة، وشخص واحد سيقف على قمّة الجبل، مرئيّ من بعيد، الشيء الوحيد المثير للاهتمام، على الجبل. الشخص الذي كان أسفل قليلاً، لم يكن مرئياً.

في هذه الحالة قصيدة. شعرت، بالتأكيد، أنّ «بلايك»، بشكل خاصّ، كان على دراية بهذا الحدث، عازماً على حصد نتائجه. كنت أفهم أنّه ميِّت، لكني كنت أشعر أنّه لايزال حيّاً، حيث كنت قادرة على سماع صوته يتحدَّث إليّ متنكِّراً، لكنّه صوت يتحدَّث معي، فقط، أو معي (على وجه الخصوص) كما كنت أشعر. شعرت بالتفرُّد والتميُّز، كما شعرت، أيضاً، بأن «بلايك» هو من كنت أطمح إلى الحديث معه، ومن كنت -بالفعل- أتحدَّث إليه إلى جانب «شكسبير».

كان «بلايك» الفائز في المسابقة، لكنني أدركت، فيما بعد، مدى تشابُه النغمتَيْن. لقد انجذبت، في ذلك الوقت، كما الآن، إلى الصوت البشري المنفرد الذي يُثار في رثاء أو شوق. والشعراء الذين عدت إليهم، عندما كبرت في السنّ، كانوا الشعراء الذين أدّيت في أعمالهم دوراً أساسيّاً، بصفتي المستمع المختار. أعمال حميمة، مغرية، مخفيّة أوسرِّيّة، غالباً. الأمر لا يتعلَّق بشعراء الملاعب، فالشعراء لا يحادثون أنفسهم.

لقد أحببت هذا الميثاق، أحببت الإحساس بأنّ ما كانت القصيدة تقوله هو ضروري وخاص أيضاً، الرسالة التي تلّقاها الكاهن أو المحلِّل.

كان حفل توزيع الجوائز يتمّ في غرفة نوم جدَّتي الثانية، بحكم سرِّيَّته، فهو امتداد لشدّة العلاقة التي أنشأتها القصيدة: امتداد، وليس انتهاكاً.

كان «بلايك» يتحدَّث معي من خلال الطفل الأسود الصغير. لقد كان المصدر الخفيّ لذلك الصوت، ولا يمكن رؤيته، تماماً، مثلما لا يمكن رؤية الولد الأسود الصغير، أو الذي يُرى بشكل غير دقيق، من قِبَل الطفل الأبيض غير المدرك أو المزدري. لكنني عرفت أنّ ما قاله عن جسده الفاني المؤقَّت الذي يحتوي على روح النقاء المضيئة، كان صحيحاً. عرفت هذا لأن ما يقوله الصبيّ الأسود، روايته لأحاسيسه وتجربته، يتضمَّن لوماً، لا رغبةً في الانتقام لنفسه، بل الاعتقاد بالعالم المثالي الذي وُعد به بعد الموت، فحسب. سيتمّ الاعتراف بما هو عليه، وفي فورة من المرح، يحمي الطفل الأبيض الأكثر هشاشةً من الفورة المفاجئة للضوء. ذلك الأمل غير الواقعي الذي يتجاهل الواقع، يجعل من القصيدة محطِّمة للقلب، سياسية، أيضاً، بعمق. الألم والغضب اللذان لا يستطيع الطفل الأسود أن يسمح لنفسه بأن يشعر بهما، وأنّ والدته تحاول تحصينه منهما، أمران يشعر بهما القارئ أو المستمع، حتى عندما يكون القارئ طفلاً.

لكن الشرف العامّ أمر آخر.

القصائد التي استمعت إليها، طيلة حياتي، هي قصائد من النوع الذي وصفته، قصائد من الاختيار أو التواطؤ الحميم، قصائد يقدِّم فيها المستمع أو القارئ مساهمة أساسية، كمتلقٍّ للثقة أو الصراخ، وأحياناً كمتآمر مشارك. تقول «ديكنسون»: «أنا لا أحد! هل أنت لا أحد، أيضاً؟/ ثم هناك زوج منّا – لا تقلْ ذلك !»، أو كما يقول «إليوت – Eliot»: دعونا -إذن- نذهب، أنت وأنا/ عندما ينتشر المساء على السماء/ مثل مريض مثقل على طاولة…». لم يكن «إليوت» يستدعي فرقة الكشّافة، بل كان يطلب شيئاً ما من القارئ، على عكس قول «شكسبير»: «هل أقارنك بيوم صيفي؟»، مثلاً. «شكسبير»، لا يقارنني بيوم صيفي، لقد سمحت لي القصيدة بالاستماع إلى براعة مُبهرة، لكنّ القصيدة لا تتطلَّب حضوري. في الفنّ الذي هو من النوع الذي انجذبت إليه، يكون صوت أو حكم المجموعة خطيراً. هشاشة الحديث الحميم تزيد من قوَّتها ومن قوّة القارئ، الذي، من خلال وكالته، يتمّ تشجيع الصوت في مناشدة، أو في ثقته العاجلة.

ماذا يحدث لشاعر من هذا النوع، عندما تضعف الجماعة، وتقف بدلاً من عزله/ أو تجاهله/ها؟ أودّ أن أقول إنّ مثل هذا الشاعر سيحسّ بالتهديد، بأنه ليس قادراً على المناورة.

هذا هو موضوع (عمل) «ديكنسون». ليس دائماً، بل في الغالب. لقد قرأت لـ «إميلي ديكنسون» بحماس شديد، عندما كنت في سنّ المراهقة، في وقت متأخِّر من الليل، بعد الاستلقاء على أريكة غرفة المعيشة.

«أنا لا أحد. من أنت؟

هل أنت لا أحد، أيضاً؟»

وفي الإصدار، الذي قرأته حينها، ومازلت أفضِّله:

«ثم هناك زوج منا – لا تخبر عن ذلك !

سوف يبعدوننا، كما تعلم…».

«ديكنسون» اختارتني، أو تعرَّفت بي، وأنا جالسة هناك، على الأريكة.

كنّا نخبة، رفقاء في الخفاء، حقيقة معروفة لدينا نحن، فقط، تلك التي أكَّدها كلّ منا للآخر. في العالم، كنّا لا أحد.

لكن، ما الذي يمكن اعتباره نفياً للأشخاص الموجودين كما فعلنا في مكاننا الآمن تحت السجلّ؟

أنا لا أتحدَّث هنا عن التأثير الخبيث لـ «إيميلي ديكينسون» في الفتيات المراهقات، بل أتحدث عن حالة مزاجية لا تثق بالحياة العامّة، أو تعتبرها مجالاً يفتقد فيه التعميم إلى الدقّة، وتحلّ فيه الحقيقة الجزئية محلّ الصراحة والإفصاح المشحون. مثلا، لنفترض أنّ صوت المتآمر، صوت «ديكنسون»، تمَّ استبداله بصوت المحكمة: «نحن لا أحد. من أنتم؟» تصبح الرسالة شرِّيرة، فجأةً.

لقد كانت مفاجأة لي، صبيحة الثامن من أكتوبر؛ أن اشعر بنوع من الذعر الذي كنت أصفه. كان الضوء شديد السطوع، السلَّم شديد الاتِّساع. البعض ممَّن يكتبون الكتب يتمنّون أن تصل إلى الكثيرين، لكنّ بعض الشعراء لا يصلون إلى الكثيرين من الناحية المكانية، مثلما هو عليه الأمر في المدرج المملوء، فهم يصلون إلى الكثيرين مؤقَّتاً، بشكل متتابع. مع مرور الوقت، في المستقبل. لكن، وبشكل عميق، يأتي هؤلاء القرّاء، دوماً، منفردين، واحداً تلو الآخر.

أعتقد أن الأكاديمية السويدية، بمنحي هذه الجائزة، اختارت الصوت الحميم والخاصّ الذي يمكن أن يحسنه الكلام العامّ، وقد يجعله يمتدّ أحياناً، لكنّه لا يحلّ محلَّه أبداً.

 

المصدر:

Louise Gluck, The Poet and the Reader, The New York Review of Books, V. LXVIII, N°1 (January 14th, 2021): p.29

ما بعد المئة

يأخذ نفساً عميقاً، ويخرجه قائلاً: «أستغفرُ الله العظيم»

شيء في فؤاده يضطرب، تتلكَّأ الكلمات وهي خارجة بلهفة الولهان: أستغفرُ الله العظيم، وأتوب إليه.

صراخ الشمس في وسط النهار، يجلب الصداع، وينهك الأعصاب. المدى يبدو خالياً متعباً، صحراء بلا ذرِّيّة، تلعب فيها الرياح مع الرمال لعبتها الأبدية، وتنصب الجنّ عروشها من شجيرات جافّة، ثم تتركها تدور مع الزوابع؛ لتثبت سيطرتها على العراء، وتسقي المدى بالسراب، مستنبتةً مزيداً من الخواء.

شجرة سنط يتيمة، يجلس تحتها رجل وناقة. يُخرج الرجل بعض الماء من جعبته، يشرب، ثم يبلِّل شفتي ناقته الجافَّتين بقليل منه، ويمسح وجهها، فتلوي رقبتها كأنها تعانقه. يبتسم لها بحبّ، ويربِّت على رقبتها الطويلة الغليظة، يعانقها بلطف فتضع رأسها الضخم على كتفه.

– حبيبتي، أنتِ حبيبتي.

الرموش الطويلة والأهداب الكثيفة، تنظر إليه، من خلالها، أنثى رحيمة، أمّ عطوف، نظرات حبّ ورأفة.

– منذ متى تعرفينني، يا (وضحا)؟

– منذ زمن طويل.. فتحت عينيّ على الدنيا لأراك.

– أتراك سعدت عندما رأيتني؟

– طوال عمرك كنت حبيبي ووليّ نعمتي.

– أستغفرُ الله!

أنزلَ عنها حملها لترتاح:

– حملي خفيف، دعه حتى لا تتعب وأنت تعيده.

– وأترككِ ليزيد عليك الحرّ؟! أستغفر الله!

ترك لها الحبل على الغارب.. لن ترحل، يعرف أنها تحبّه أكثر من حوارها.. استلقى إلى جوارها، وغفا.

نسمات مسائية لذيذة؛ أغرت بعض أوراق الشجرة بمداعبة وجهه المغبّر.. استيقظ جافلاً.. هربت الأوراق بشقاوة، عندما رفع رأسه، وضحكت النسمات على شكله المرعوب من لمسة ورقة.

جلس في مكانه متوجِّساً. نظر حوله، فإذا ناقته واقفة تأكل بعض الأوراق من الشجرة، والشمس في زوالها تمطّ ظلّه حتى جعلته طويلاً كرمح بلا ملامح.

شعر بالجوع، وقف يبحث عن طعام في رحاله. أدخل يده في الرحال يفتِّش، ويحاول أن يتذكَّر: هل بقي معه شيء من الزاد؟ وقع في يده قدح نحاسيّ صغير، أخذه ومسَّد ضرع الناقة، الضرع مليء بالخير، حَلَب في القدح قليلاً من اللبن، وشرب حتى ارتوى.

مسح شاربيه اللذين ابيضَّا بفعل السنين لا بفعل اللبن، ومسّد لحيته المشذَّبة، نظرإلى انعكاسه في القدح: العينان السودوان الكحلاوان الواسعتان، الأنف الأشمّ، التقاطيع القويّة الصلبة، الطول الفارع، المنكبان العريضان، القوّة الجسدية الهائلة: كان حريّاً به أن يكون زعيماً لولا… هزّ رأسه بسرعة، ينفض منه الذكريات التي تواردت، ويمنعها من العبور أمام قلبه.

أفرغ ما بقي من لبنٍ في جوفِه، ثم أعاد القدح إلى الرحال. عاد إلى ناقته يمسح رقبتها.

– أستغفرُ الله العظيم! علينا أن نسرعَ لنصلَ إلى صغيرك، لا بدّ أنه جائع جدّاً!

– نسيتَ أنه معنا؟

– صحيح! أتدرين أنني نسيتُ تماماً!؟

استدار لينظر خلفها؛ وإذا بالصغير يعبث ببعض الأغصان، يحاول أن يلوك أوراقها؛ فتستعصي على أسنانه الصغيرة،

– أستغفرُ الله العظيم! ما الذي كنتُ أفكِّر فيه، عندما اصطحبته معنا؟

– كنتَ تفكِّرُ بي.. خِفْتَ أن أحزنَ على فراقه.

– الطريق طويلة.. لا بدَّ أنه تعب!

– لا تخفْ عليه، مادام إلى جواري فإنه لا يشعر بالتعب.

– لكنه رأى ما لا ينبغي لصغير أن يراه.

دمعت عيناها:

– عليه أن يتعوَّد.

– صدّقيني. هذا الأخير.. لم أكن أقصد..

قاطعته:

– أعلم، أعلم، هو استفزَّك.

سمعا قهقهة ساخرة ممطوطة، إنه ظلّه الممتدّ إلى جواره، غريباً طويلاً وهو يلوك الكلمات:

– لا تقلقي. لا يحتاج الى استفزاز ليقتل.

– أستغفر الله العظيم! ما الذي أتى بك إلى هنا؟

– أنا موجود دائماً. أنت تنساني كما نسيت الحوار.

– ولماذا تضحك؟

– على خيبتك الثقيلة!

– أنت لا تعلم شيئاً.

– أعلم، على الأقلّ، أنك تضحك على نفسك بمداومة الاستغفار، أخطاؤك- يا رجل- لا يمحوها استغفار.

– لن أيئس.. لا بدّ لي من مخرج، لا بدّ من أن أرى النور وأتخلَّص منك إلى الأبد.

– تتخلَّص مني؟ ألا تبالغ في تقدير نفسك، عندما تظنّ أن باستطاعتك الخلاص مني؟

سترى!

– بل أنت من سيرى، أنا موجود ما دمتَ أنت موجود.

اخرس، سأروِّضك أيُّها البغيض.

– إن اتَّجهتَ إلى النور بوجهك؛ أكُنْ خلفك، أعبث بما تبقّى لك من ضمير. وإن أوليت النور ظهرك؛ تجدني أمامك أخفي عنك معالم الطريق، وأتركك للتيه.

– أستغفر الله العظيم. قلت لك: اخرس!

– من أنت حتى تجد في نفسك الجسارة كي تستغفر؟

– هذا بيني وبين الله، ما دخلك أنت؟

– يا أخي، صاروا مع قتيل اليوم مئة، وقتيل اليوم لم يكن عاديّاً.

– نعم، لم يكن عاديّاً.

– تقتل عابداً عالماً؟

– هو عابد نعم، لكنه ليس عالماً، بالتأكيد.

– وكتبه التي كانت تملأ الصومعة؟

– ولو قرأ ألف كتاب.

– ألأنه أخبرك بما لا تريد سماعه؟

– ربَّما، أنا مشَّوش. أنا لا أدري لماذا قتلته.

– الغريب أنك، في كلّ مرّة، تخرج منها كالشعرة من العجين.

– أنا دائماً معي حقّ؛ لذلك أنجو.

– بل أنت محظوظ، فقط.

– قد يكون لأنني أستغفر؟

– قلت لك، يا رجل، إن استغفارك كالنافخ في نار الجحيم ليطفئها.

– استغفر الله. أستغفر الله. سأظل أستغفر ولو لأغيظك فقط. هيّا، يا (وضحا)، علينا أن نصل إلى القرية قبل الغسق، أمّا أنت فسوف تأتي العتمة وتبتلعك.

– انتظر، يا سيدي، نتحدَّث قليلاً. أنا لا أريد لك إلّا الخير.

– اخرس!

وضع الرحل على ظهر الناقة، وتأكَّد من إحكامه فوقها، بينما كان الظلّ يثرثر، محاولاً أن ينال منه انتباهة، وهو أصمّ لا يسمع.

غذَّ السير مغرِّباً، والشمس تكاد تعمي عينيه. يشدّ على الناقة فتسرع، فينتبه إلى رغاء حوارها ينادي أمّه، فيسير الهوينى حتى يلحق بهما الصغير، ثم يجلده ضميره بسوطه فيعجِّل. ظلّ هكذا بين شدّ وجذب، حتى وصلا القرية، والنهار يجود بنَفَسِهِ الأخير.

سأل عن عالم القرية فدلّوه على صومعته. أناخ الناقة وحوارها، ثم أخذ سيفه:

– خير لك أن تترك سيفك عندي.

هزَّ رأسه معترضاً:

– أستغفر الله العظيم! خائفةٌ من أن أفعل شيئاً؟

– بل أخاف أن لا تعود إليّ!

– لا تقلقي! سأعود بإذن الله. استغفري ألف مرّة، وستجديني عندك.

– أستغفر الله العظيم. أستغفر الله العظيم. ربَّت على رقبتها الغيداء، ومضى.

في الصومعة رجال دين وطلّاب علم. سأل عن عالم القرية، فمضى به بعض الناس إليه.

كان الشيخ يجلس مع زمرة من مريديه، يتحدَّث عن التوبة. استمع قليلاً ثم سأل:

– أرأيت، يا شيخي، لو أذنبت مئة ذنب؛ أيغفر الله لي؟

– وما يمنع عنك مغفرة الله؟

– مهما كان حجم الذنب، يا شيخي؟

تفرَّس فيه الشيخ، ثم نظر بحنان:

– حتى لو قتلت مئة نفس!

أوجس في نفسه خيفةً: «أتراه عرفني؟ أنا لم أعد أحصي بعد الخمسين، ولولا ذلك الظلّ اللعين؛ لما انتبهتُ إلى أنني وصلتُ اليوم إلى مئة. كيف عرف الشيخ؟» استجمعَ رباطة جأشه لمّا رأى الناس حوله ينتظرون إكمال الحوار:

– وأين أجد باباً لله، أطرقه لأتوب؟

– أكنتَ يوماً في الصحراءِ، وحدك، تقودُ ناقتك وحوارها، حتى إذا صلتكم الشمس، استظللتم بشجرة يتيمة في أرض خلاء؟

زاد الخوفُ في قلبه.. هذا الشيخ يعرف الكثير عنه! وضع يده على مقبض سيفه مستعدّاً لأيّة مباغتة:

– ربَّما!

– هل رأيت للصحراء حولك باباً؟

– كلّا!

– هل رأيت حرساً وحُجَّاباً؟

– أبداً!

– أكنت تشعر بها- رغم اتِّساعها- تضيق بأنفاسك؟

– نعم.

– من أين جاء الضيق؟

– من نفسي، من داخلي.

– وما الذي ضيّق عليك نفسك؟

فكَّر مليّاً، ثم طأطأ رأسه معترفاً:

– ذنبي، يا شيخي، ذنبي.

– ذنبك طوقّك، وأسَرَك!

– وماذا أفعل إذا كنت أنا مَنْ قيَّدت نفسي بذنبي؟

– فكَّ الطوق! تحرَّر من الأسْر، ترَ كل الدنيا مفتوحة إلى الله، بلا أبواب أو حجاب.

– وكيف، يا شيخي، أفكّ القيد وأكسر الطوق؟

– بالمفتاح.

– أيّ مفتاح، يا سيِّدي؟ أنا عاجز تائه! لو كان عندي مفتاح لاستخدمته، ولما جئتك في سفر لأسأل.

– المفتاح هو الذي جاء بك إلينا!

– أستغفر الله العظيم. والله، ما جاء بي إليك، يا شيخي، إلّا عجزي عن إيجاد المفتاح، فكيف تقول إنه جاء بي إليك؟

– إنه معك، وأنت لا تدري.

– أستغفر الله العظيم! أتسخر مني، يا شيخي؟

– ألم تستغفر؟ ألم تندم؟ هذا أوَّل مفاتيح القيد. قل لي، يا بُنيَّ: لماذا تستغفر، مع أنك تذنب في الغدوّ وفي الرواح؟

– أرتاح، يا شيخي.. أرتاح!

– ألا تشعر بأنك تخدع الله بذلك؟

– أستغفر الله العظيم! كلّا، يا شيخي. أنا أستغفر وأنا عازم على ترك الذنب، ثم لا أجد نفسي إلا وهي تعيد فعلتها، مرّةً بعد مرّة.

– هذه ميزة الاستغفار؛ تخطئ، فتستغفر، فتُنقّى، ثم تعود للخطأ يلوِّثك؛ فتستغفر، ثم يعود النقاء.

– ألا يتركنا الله لأنفسنا؟

– كلّا! لا يملّ حتى تملّوا.

– ويغفر لنا؟

– بل يحبّكم على علّاتكم، وينتظر استغفاركم ليقرِّبكم.

– وهذا الظلام الذي يهدِّدني من بين يديَّ، ومن خلفي؟

– سيختفي هذا السواد.

– كيف؟

– إذا أخرجته من قلبك.

– هو أمامي، هو خلفي، عكس النور.. كظلّي لا في قلبي.

– بل إن بدايته من قلبك، وإلّا لما كان غير ظلّ، لا قيمة له.

– ومتى، يا شيخي، أتخلَّص منه؟

– عندما تكون أنت النور!

– أكون نوراً؟

– نعم. بالاستغفار تصبح نوراً، لأنك تتَّصل بالله، النور.

شعر كما لو أنه كان ميِّتاً فعاش، كما لو أنه أصبح نوراً فعلاً. دمعت عيناه.. منذ زمن بعيد لم يحظَ بدمعة في عينه. قلبه طريٌ كالوجد، روحه محلِّقة كالبراءة، سعيد كطفل في يوم عيد. الشيخ يكمل كلاماً جميلاً، يشدّه إلى مكانه.. روحه تطلب المزيد، شعر بالندم على أخطائه، لم يعد يستطيع الجلوس، يريد أن يبدأ من جديد، يريد أن يتنفَّس الحرّيّة بعد عبودية الذنب الطويلة. استأذن الشيخ بالخروج، وهو سعيد كما لم يشعر في حياته. استوقفه الشيخ:

– يا بُنيَّ، لا تعد إلى قريتك التي كنت فيها، إنها قرية سوء.

لا بدّ أن هذا الشيخ يعرفني. هل أقتله؟ كيف أحدث نفسي بالقتل، وأنا- للتوّ- عرفت طريق المغفرة؟ تبدّى الظلّ في خياله، يبتسم ساخراً: «أستغفرَ الله، أستغفر الله»، فاختفت صورة الظلّ الخبيث! «كلّا، سأهرب قبل أن ينادي الحرّاس».

– أستغفرُ الله العظيم! أين أذهب، وكلّ الديار متشابهة؟

– كلّا، ليست كذلك!

– وأين توصيني أن أذهب؟

– إلى الشام، فإلى هناك يأرز الإيمان.

لعلّ الشيخ يريد أن يسقطني في فخّ:

– قريبة هي أم بعيدة؟

– قريبة بقدر شغفك، بعيدة بقدر تسويفك.

– توصيني بشيء، يا شيخي؟

– لا تفقد المفتاح.

– لن أفقد المفتاح.

خرج من عند الشيخ، عجولاً إلى رحاله. جلَبة غير عاديّة في الليل البهيم. «أتراه أرسل الحرّاس ليأخذوني من رحالي كي لا يدنَّسوا الصومعة؟ « بعض مشاعل تغذّي النار، تصنع من ظلال الناس وحوشاً راقصة. تلثّم جيّداً، ووضع يده على مقبض سيفه متأهِّباً، ونادى في الناس المجتمعين، ممثّلاً دور صاحب السلطة:

– ماذا هناك؟ ما الذي يحدث؟

– ناقة! ناقة متوحِّشة عضَّت رأس رجل!

حدَّثَ نفسه، وهو يتخلّل الحشد: «معقول؟ (وضحا) تفعل ذلك؟ (وضحا) لم تؤذِ أحداً في حياتها!».

اخترق الحشد ليجد رجلاً يحاول تخليص رأسه من بين فكَّيْ (وضحا)، بينما تمسك هي به بأسنانها الكبيرة، وترفعه عن الأرض، وحوارها إلى جانبها، خائفاً، يلوذ بساقيها. أناخها بسرعة، واعتلى ظهرها، وهو ينهرها:

– (وضحا)! ضعي الرجل أرضاً بهدوء!

طوَّحت به، تريد أن تلقي به بعيداً، فصرخ فيها:

– بهدوء! قلت بهدوء!

تركت (وضحا) الرجل، فهرع الناس إليه يتفقَّدون إصابته، و يضمِّدون جراحه، بينما أسرعت هي تخبّ بصاحبها، وخلفها الحوار الخائف، يركض جزعاً راغياً. دخل بها إلى سوق القرية الذي ما زال عامراً بالرّواد، ليضلّل أيّة مطاردة محتملة:

– هل كان هذا حقيقة، أم كنت أتخيَّل؟

– لا أدري! أنت أدرى!

– أستغفر الله العظيم! كيف أكون أنا الأدرى؟ أخبريني.. ما الذي حدث؟

– جاء الرجل يخطف حواري، فرفعت صوتي أستنجد بالناس، فلم يجبني أحد. ناديتك، فلم تسمعني، حاولت أن أخيفه فلم يرتدع، فعضضته.

– يستحقّ ما جرى له.

– هل مات؟

– كلّا. لكنه أصيب إصابة بليغة، وأضفتِ إلى مئتي سبباً آخر ليطاردنا العالم.

ماذا حدث معك، عند الشيخ؟

– لم أقتله.

– أعلم.

– تعلمين؟

– لو فعلت لخرج الناس صارخين. إلى أين نذهب الآن؟

– إلى أمّي.

غذّت الناقة السير إلى مكان تعرفه جيّداً. النجوم تسامر الليل، والسماء الصافية تزيِّنها مجرّات رائعة الجمال، وقمر رفيع في آخر عمره، محدودب الظهر، سقيم كعرجون قديم.

بدت قريته، في الأفق، كآثار الجدري في ظهر شيخ أسود. بركت الناقة على حدود القرية، ونزل عنها يتحسَّس مكان سيره، بصعوبة. القبر الذي وقف عنده يسمع منه صوت استغفار!

– هل سمعتِ شيئاً؟

– ربَّما كان جنّاً!

– ربَّما!

– لستُ مجنوناً!

– كلّا، لستَ كذلك.. أنتَ تبالغ في التفكير وتحليل الأمور، فقط.

جلس إلى جانب القبر، وقال: سلام الله عليك يا أمّي. اليوم، فقط، علمت أنك لم تخدعيني، لم تعلِّقيني بأمل زائف أو مخدِّر يوهمني بزوال الألم، والعلّة كامنة لم تزل. الشيء الوحيد الذي علَّمتني إيّاه، يا أمّي، كان هو المفتاح. لم تخبريني، أبداً، أنك أعطيتِني إيّاه، لكني أظنّ أنك لم تكوني تعلمين أنه كذلك.

أتذكرين، يا أمّي، يوم كنتِ ضعيفة صغيرة؟ كنتِ جميلة غضّة، بيضاء كالحليب، وكانت جدَّتي طينية اللون. تحبّك، لكنها تغار من جمالك وبياضك. كانت تسمِّيك (بهاق)! ربَّما نسيتِ، لكن الطفل الذي كنتهُ لم ينسَ كرهه لضعفك، ساعتها. أنا ورثت عنها لونها الموحل؛ فكانت لا تناديني إلّا (الغالي). وأبي؟ هل تذكرين كيف كان يسخر من ضآلة حجمك، وقصر قامتك، ويتفاخر بي لأنني ضخم الجثّة مثله؟ لم أنسَ كيف كنت أشعر بالقهر منكِ، لأنك لم تكوني تردِّين عليهم، أبداً. أحياناً قليلة، كنتُ أضبطك فيها تمسحين أثر الدموع، وأنت تستغفرين، فأسألك: أنت تستغفرين، يا أمّي؟ هم الذين عليهم أن يستغفروا! هم المذنبون، لا أنتِ! كنت تبتسمين وتقولين: كلّنا بحاجة للاستغفار، الاستغفار يجعلني أرتاح، يجعلني أتذكَّر أن لي ربّاً يحميني، ويقف معي، الاستغفار يحييني بعدَ أن يقتلوا في داخلي الرغبة في الحياة.. ثم تمسكين خديّ بيديك قائلة: يكفيني من الاستغفار أنه أتى بك.

من استسلامك هذا؛ تعلَّمت أن أبطش لأكون محترماً. الناس لا يحترمون الضعفاء، ربَّما يشفقون عليهم، لكن لا يقيمون لهم وزناً.

أتذكرين يوم صرتُ فتًى يقف في وجوههم، ويجعلهم يحترمونك، كيف صارت جدَّتي تناديك: الغالية أمّ الغالي، بينما صار أبي يعاملك كدميته؟ يومها، فهمت أن استغفاركِ جعلني أعمل لحمايتك، وأنني، أنا القويّ الكاسر الذي جئت باستغفار، مسخَّر لتعيشي أنت، الضعيفة المسكينة، كريمة باستغفار.

يومها، يا أمّي، قرّرت أنني مهما فعلتُ فلن أترك الاستغفار. وها قد أثبتت الأيّام أنك كنت على حقّ. سأرحل، يا أمّي، بعيداً كما لم أبعدْ من قبل، وربَّما لن أعود مرّة أخرى. سامحيني، يا أمّي. أحبّك، يا أمّي، أحبّك!.

أنهى كلماته، ثم أخذ بعضاً من تراب القبر، عَفَّر بها رأسه، ثم قام واقفاً.

نظر إلى القرية الغارقة في سباتها، وأشار بيده مودِّعاً:

وداعاً، يا أبي. كنتَ تحبُّني أكثر من نفسك، لكنك كنتَ تسيء في الحبّ التعبير. أنا هنا، يا أبي، كلّما حاولت الوقوف وجدت من يعرقلني، يستكثر عليَّ موقفاً جيّداً، أو نخوة صادقة. أنا في نظرهم، ما عدت إنساناً، أنا وحش متعطِّش للدما،ء فقط. لا يتوقَّعون مني إلّا الأذى، ولا يقابلونني إلّا بالخوف والرهبة، لم يعطني أحد فرصة، لم تسمح لي أيّة جماعة بالانضمام إليهم. لماذا، إذن، آسى على فراقهم؟ أنت، فقط، بعد موت أمّي، كنت ما زلت ترى فيَّ النور الذي اختفى تحت طبقات من خطايا ارتكبتها على مدار عمري. أنت، فقط، الذي نظرت إلى الطيبة الكامنة خلف هذه القشرة العنيدة. أنا راحل يا أبي. اعذرني، فلن أعود. هنا كنتُ مجرماً بسبب أخطاء لم أرتكبها، وأخطاء أصررت عليها. أنا أرحل اليوم، خالعاً كلّ هذا الحمل الثقيل عن كاهلي، باحثاً عن أرض نقيّة، تفتح لي صفحة جديدة، بدون أحكام مسبقة، ولا توقّعات متفوّقة.

وقف ساهماً لحظةً، ثم وضع يده على موضع قلبه كأنه يمنعه من الهروب، وأخذ نفساً عميقاً.. ثم غادر.

رأته الناقة قادماً، فتهيَّأت، وانتظرته حتى اعتلى ظهرها، فقامت.. هرع إليها الحوار يريد أن يرضع:

– يا له من شره!

– مسكين.. لم يرضع كثيراً، سنمشي في الليل؟

– نعم، فكُحْله أرحم من أتون النهار.

– إلى أين ؟

– إلى الشام.

– ماذا في الشام؟

– أستغفر الله العظيم! تسألين كثيراً، اليوم.

– لن أسألك أيّ سؤال بعد الآن، لكن قلبي يكاد ينخلع من فرط ندمي على إيذاءالرجل، فأشغل نفسي بالحديث.

أخذ نفساً عميقاً من هواء الصحراء الساكن في لياليها الساهرة. أصوات غريبة لكائنات لا تبدو للعيان، خشخشات قريبة لحيوانات تبحث عن زادها، تجعل الجوَّ مليئاً بالرهبة والترقُّب. الحديث في هكذا جوّ، يبعد التفكير في المخاوف:

– سأحدّثك عن أوَّل قِتلة قتلتها.

– ألا يكفيني وجعي؟

– الحديث سيسلِّيك.

– حدثِّني.. على الأقلّ، نقطع الطريق الطويلة!

كانت السوق ممتلئة بالناس، يبيعون ويشترون ويتنادرون. لم أكن أتممت عقدي الثاني بعد. شابٌّ بكلّ العنفوان والقوّة. كنت قد تزوَّجت، حديثاً، من فتاة كالقمر. أمّي وأبي يعيشان معي بعد أن توفِّيت جدِّتي قبلها بثلاث سنوات، وأمارس تجارة واعدة، والحياة تبدو أمامي مفتوحة بالطول وبالعرض.

وكعادتي؛ كنتُ، في ذلك الصباح، أنتظر زبونيَ الأوَّل، وأقضي الوقت بمشاكسة جاري العجوز، سليط اللسان الذي يعرف في كلّ الأمور. مرَّت أمامنا فتاة تتلفَّت حولها قلقةً، وتابعتها بنظري، وإذا بشابّ يتحرَّش بها. في البداية، حاولت أن تتفلَّت منه لكن من غير فائدة. لاحظ الناس ما يفعله ذلك الشابّ، وصاروا يضحكون ويتندَّرون، والفتاة تحاول التخلُّص منه. في النهاية، استنجدت بالحاضرين، الجميع أشغلَ نفسه بشيء ما، ليبدو أنه لم ينتبه لاستغاثتها. تصوَّرت أن هذه الفتاة هي عروسي الجميلة، ففار الدم في عروقي، واندفعت إليه زاجراً:

– اترك الفتاة!

– ما دخلك أنت؟

«لماذا يبدو أصحاب الباطل أقوياء بوقاحة، رغم أنهم يعرفون أنهم على باطل؟»

– لأن الفتاة استنجدت بنا!

قال مستهزئاً:

– وكلّ من استنجد بك تلبّيه؟

– نعم!

– إذن، أنجدني وأعطني هذه الفتاة!

لم أتحمَّل وقاحته فوكزته، فَقُضِيَ عليه. تجمَّع الناس وهربت أنا. عدت إلى البيت سريعاً وأخبرتهم بما حصل. أخذت أجمع الضروري من أغراضي وبعض الزاد. أبي يصرخ بي مؤنِّباً، أمّي تبكي، وعروسي تلطم، أمسكت يديها كي لا تؤذي الوجه التفّاحي الجميل، وضممتها إليّ، بشدة، أريد أن اعتصرها لتبقى معي، ونظرت إليها بوَلَهٍ، وقلت: لا أريد أن أظلمك. إن لم أعد خلال سنة، فأنت طالق. شهقت وأعولت، وتمسَّكت بيدي بشدّة، قائلة: خذني معك، ما يحدث لك يحدث لي. تفلَّتُّ منها، وأشحت بوجهي مهرِّباً دموعاً اغرورقت بها عيناي. ركبت فرساً لي سبّاقة، وهربت من القرية. وهكذا، بدأت جرائمي!

الثانية كانت دفاعاً عن فرسي: نزلت أشتري شيئاً، فسمعت صهيلها، عدت وإذا بالسارق قد سار بها، فلحقته. رفض أن يعيدها لي؛ فأرديته.

وإذا أردتِ الحقيقة لم أكن، دائماً، على حقّ، لكنني، في كلّ مرّة، أكون ساعتها على حقّ. الحقّ، يا عزيزتي، نسبيٌّ ما لم يكن إلهيّاً. ما ترينه سرقة أراه استعادة مال، وما ترينه اعتداءً أراه تأديباً. من يملك القوّة يملك الحقّ.

بعد القتيل العاشر (وربَّما التاسع)  صار الأمر أسهل. لم أعد أفكّر في الأمر مرَّتَيْن، ولم أعد أسأل عن دافع المخطئ قبل أن أقتله. النقاش، دائماً، عقيم في ظلّ أناس لا يرون في الحقّ إلّا ما يرونه هم. لماذا أفتح نقاشاً وأرهق نفسي بـ(قيل وقال)؟ القتل أسهل.

سكتَ بعدها طويلاً، وهو يفكِّر بعذاب الضمير المستديم الذي يلازمه. كلّا إنه يغالط شعوره.. لم يصبح أسهل! ربَّما بحكم الخبرة والتعوُّد صار القتل أسرع وأنظف وأتقن، لكن الألم صار أكبر، صار له ألوان وأشكال جديدة، ينسى بعضها فيذكِّره بها عابر سبيل، أو كلمة غير مقصودة، أو لحظة صفاء. أيّ صفاء؟ حياته أبعد ما تكون عن الصفاء.

لمع الخيط الأبيض في أفق السماء، وأعلن الفجر للكائنات فكّ الحصار الذي ضربه عليهم الليل الضرير، فقامت الكائنات إلى حاجاتها سعيدة، آملة بيوم جميل.

– تستطيعين السير بعد؟ حتى ترتفع الشمس، فقط. أعدك.

– لا تقلق. أنا بخير، لكنني خائفة على الصغير.

– أستغفر الله العظيم. نسيته، تماماً.

– تظلّ تنساه!

– يبدو أنني كبرت في العمر.

سارا، والشمس تلعب بظلِّه الذي انشغل، بعبثها، عن الحديث مع صاحبه. الحُوار يجرّ نفسه جرّاً، حتى الناقة صارت خطواتها متقاربة.

– في طريقنا بئر ماء عذبة، أظنّنا نصله قبل الزوال.

– إنه بعيد!

– أستغفر الله العظيم! كلّا. ليس بعيداً جدّاً.

– دعنا نسترحْ قليلاً.

– أين؟ هل ترين، على المدى، مكاناً يصلح لذلك؟

الصحراء كما هي دائماً؛ قاسية ملساء كسكّين. في الأفق، بدت بعض الشجيرات الباهتة الاخضرار.

– أتصلح هذه طعاماً لك؟

قالت، والتعب يهدّها:

– تصلح، تصلح. المهمّ أن أجلس قليلاً!

– أستغفر الله العظيم! قلت لك إن المكان ليس بعيداً!

– لكن هذه صالحة، حقّاً!

سارت به حيث الشجيرات القاسية. نزل عنها، بينما أخذ الحوار يرضع مغتبطاً. أخرج قدحه، وحلب شيئاً من اللبن وشرب. رفع يده اليمنى يظلِّل حاجبيه. هذه الصحراء يعرفها ككفّ يده، تصادقت معه لكثرة ما هرب والتجأ إليها، يحبّها وتحبّه. لم يتُهْ فيها مرّة، شيء ما فيها يدلّه على معالمها، ويسوقه إلى هدفه في كلّ مرّة. يظنون أن لديه موهبة، وهو يعلم أن تقديره لهذه الصحراء؛ حبّه لها؛ جعل قلبها ينبض من أجله. الصحراء القاسية اللئيمة، في ظاهرها، تخفي قلباً مليئاً بالكنوز. الرمل الذي يكوِّن تلالها، ويطغى كالموج العاتي على كلّ حياة فيها.. حبيباته جواهر صغيرة، وقلبها يحفظ الماء للأحباب وكنوزاً أخرى.

الصحراء أكبر شيء يدلّك على أن المكتوب ليس، دائماً، يدلّ عليه عنوانه، وأن الحكم الأوليّ على الأشياء ليس صادقاً دائماً، وليس صحيحاً حتماً، بل يحمل كثيراً من التجنّي والأحكام المسبقة.

شعر بالنشاط والحيوية:

– نسير؟

– نسير. هيّا بنا، قالتها بكسل.

– أستغفر الله العظيم! إذا أردتِ أن نبقى قليلاً بعد؛ فلنبقَ.

– كلّا، كلّا. أخاف أن يبدأ ظلّك بالحديث.

– أستغفر الله العظيم! لا تذكِّريني به، أظنّه، الآن، مشغولاً بخوفه وهو يتناقص.

– أنا هنا، أسمعكم.

– ما الذي أيقظك، أيُّها التافه؟

– لم أكن نائماً، بل كنت مشغولاً!

– بالقلق على مستقبلك؟

– لا تدّعي أنك لا تقلق على مستقبلك!

– أنا أحمل روحي على راحتي، وسكني على راحلتي، فممَّ أقلق؟

– وأنا مثلك؛ الشمس تهبني حياة غير كاملة، تعطيني وتنمِّيني، فأظنّ أنني أثيرٌ لديها، ثم ما تلبث أن تأخذ مني طولي وتقزِّمني، حتى لا أكاد أظهر. وعندما أيْئس؛ تعود لتعطيني وتمدّني، فأظنّها ابتسمت لي من جديد، فتسلِّمني للعتمة تزهق روحي. هذه حياتي: دورة تتكرَّر كلّ يوم، لا تملّ هي من العطاء ثم الأخذ، وصولاً إلى الخيانة، ولا أملّ أنا من الأمل واليأس، وصولاً إلى الرضا بما أنا عليه.

– هيّا، يا (وضحا).. هيّا قبل أن نعلق معه.

مشت الناقة تخبّ مسرعةً؛ ليس بسبب الشبع، بل بسبب العطش، صارت أحرص منه على الوصول إلى تلك البئر التي أخبرها عنها. وكانت كلَّما جرت أكثر، عطشت أكثر، فأسرعت أكثر، حتى صار هو يلجمها لتنتظر صغيرها.

وصلا البئر، وهما لا يكادان يريان الظلّ:

– هل يعقل أن هذه بئر حيّة.. انظر حولك، لا بشر ولا حيوانات، ولا حتى نباتات!

– أستغفر الله العظيم! ألا تصدِّقينني؟

– ليس كذلك، ولكني لا أرى علامات الحياة التي يجلبها الماء معه.

– هذه البئر مياهها عميقة، لكنك لن تذوقي مثل عذوبتها، أبداً. انتظري وسترين.

دلو قديم ظمآن معلَّق على البئر، كمشنوق ليس له من أنشوطته فكاك، ألقاه في البئر فخرج مليئاً بالماء العذب، تتراقص على سطحه شمس الصحراء، فيبدو كرحيق الجنّة. يقولون إن فاقد الشيء لا يعطيه، لكنهم نسوا أن فاقد الشيء هو أكثر شخص يشعر بقيمته. مدَّت رأسها لتشرب قبله، ابتسم لها وأمسك بالدلو، بشدّة، ليمكِّنها من الشرب، دون أن ينسكب الماء، سبقها حوارها، فتركته يشربه في ثوانٍ، أنزل الدلو ثانيةً، وثالثةً، وفي كلّ مرّة يطلب الحوار المزيد. في الدلو الرابع منعه، وأعطاه للناقة،

– أستغفر الله العظيم! يا لأنانيَّته! اشربي أنت.

– بل اشرب أنت!

– تعلمين أن قدحاً صغيراً يكفيني.

– إذن، أحضر قدحك!

– بل أشرب من الدلو مباشرةً.

شربَ قليلاً. شعر بأن حلقه أرض طينية جافّة متشقَّقة، جاء إليها الماء يملأ شقوقها، فأينعت. الماء بارد كأنه ليس في الصحراء، ويكاد يقسم أن هذا الماء حلو «حلاوة» العسل. شرب، ثم أعطاه لها. أنعشها الماء.

– المزيد. المزيد. المزيد.

ظلَّ يدلي بدلوه ويسقيها حتى ارتوت. نظرت إليه؛ فإذا هو مبتلّ بعرقه تماماً.

– الحمد لله، لقد ارتويت.

أدلى بالدلو مرَّة أخيرة، وشرب شرب شرب حتى ظنّ أنه سيأتي على ما في الدلو، وعندما ارتوى سكب باقي الماء على جسده.

أحياه الماء.. نظر حوله.. يبدو أن العطش كان يعميه ويعشي ناقته،، كان هناك بضع شجرات صبورة تتناثر في المكان، لم يرياها ساعة وصولهم، أكثر ممّا هو شائع في هذه الصحراء. أناخ راحلته عند أقرب شجرة.

– انظر! تلك الشجرة أكبر، وظلّها سيمتدّ، الآن، باتِّجاه الشام.

– أستغفر الله العظيم! ما بالك تعترضين كثيراً، هذه الأيّام؟

– لست أعترض. كلّ ما هنالك أنها أقرب إلى الشام!.

ضحك منها.

– أقرب بمئة خطوة؟

– نعم!

– كما تريدين. دعيني أملأ القربَ بالماء.

شجيرة عوسج جميلة ممتدّة الأغصان، قريبة من شجرة السنط التي اختارتها (وضحا).. ابتسمَ. ربَّما ترغب فيها طعاماً، لذلك أغرتني بجارتها.

أناخ راحلته وحوارها، الذي صار نشيطاً مرحاً يلفّ ويلعب، بعد أن ارتوى.

ترك لها الحبل على الغارب. لن ترحل، يعرف أنها تحبّه أكثر من حوارها. استلقى الى جوارها، وغفا.. لكنه، هذه المرّة، لم يستيقظ.

يتحدَّث الناس، في بلادنا، منذ ألف سنة، عن شجرة سنط مزهرة على مدار العام، تحتها رجل نائم، وقربها بئر ماء، وعندها ناقة وحوار، يحرسانها من مئة ظلّ، ومئة خطيئة.

مو يان: «العمّ فوكنر، كيف حالك؟»

يصادف هذا اليوم، الذكرى الـ 123 لميلاد الكاتب الأميركي «ويليام فوكنر» (25-9-1897 /6-7-1962). ويعتبر «فوكنر» الشخصية التمثيلية لتيّار أدب الوعي في الولايات المتَّحدة، فقد حاز على جائزة «نوبل» في الآداب عام 1949، وتمثِّل رائعته «الصخب والعنف» أشهر أعماله.
ذكر «مو يان» «فوكنر» عدَّة مرّات، في خطاباته ومقالاته، ويمكن القول إن «فوكنر» كان معلِّماً مهمّاً، للغاية، في مسيرة «مويان» الإبداعية، يتذكَّر «مويان»، بوضوح، لقاءهما الأوَّل، قائلاً: «كان عصر يوم، تتساقط فيه نُتف الثلج بغزارة في كانون الأوَّل/ ديسمبر، من عام 1984، حيث استعرت من زميل لي كتاب «الصخب والعنف» لـ«فوكنر».
وفي مارس، عام 2000، ألقى «مويان» كلمة في جامعة «كاليفورنيا» بعنوان «أيُّها العمّ «فوكنر»، كيف حالك؟». وفي تلك الأثناء، لم يكن المعلِّم «مويان» حتماً، يتوقَّع أنه سيحصل على جائزة «نوبل» في الآداب، بعدها باثنَىْ عشر عاماً.
عندما كنت ألقي خطاباً في جامعة «ستانفورد»، قبل بضعة أيّام، قلت إن قراءة كاتب لأعمال كاتب آخر، هي في الواقع بمنزلة محادثة، حتى أنها قد ترتقي إلى عاطفة حبّ، فلو نجحت المحادثة لغدا من المرجح أن يصبحا رفيقَيْن، مدى الحياة، ولو كانت محادثة مزعجة، فسيمضي كلٌّ منهما في دربه الخاصّ.
واليوم، سأتحدَّث، على وجه التحديد، عن محادثاتي مع الكُتّاب من جميع أنحاء العالم، حيث يمكن الحديث، أيضاً، عن مسيرة الحبّ التي جمعتني بهم. في رأيي، الكاتب الجيّد خالد أبداً، وسيتحوَّل جسده، بالطبع، إلى تراب كما الأشخاص العاديِّين، تماماً، إن عاجلاً أم آجلاً، بينما تبقى روحه خالدة، ما انتشرت أعماله.
من الواضح أنه من غير المناسب قول مثل هذه الكلمات في مجتمع اليوم، الغارق في البذخ والترف، ذلك أن ثمّة الكثير من المغريات التي تطغى على القراءة، بينما تدفعني رغبتي في طمأنة ذاتي، وحثِّها على مواصلة مسيرة الإبداع، حتماً، لقول ذلك.
بدأت مسيرتي في القراءة قبل عدّة عقود، عندما كنت طفلاً مشاكساً أرعى الأغنام والماشية في الأراضي العشبية، في مسقط رأسي. وفي موضعنا النائي المتخلِّف، آنذاك، كانت الكتب من الكماليّات شديدة الندرة. كنت على دراية تامّة بكلّ أسرة لديها أيّ نوع من الكتب، في محيط يضمّ عشرات القرى، في بلدة «شمال شرق قاومي».
ومن أجل الحصول على الحقّ في قراءة هذه الكتب، غالباً ما كنت أعمل لدى هؤلاء الأشخاص ممَّن لديهم الكتب. وفي منزل حجّار من جيراننا، بدت مجموعة «تنصيب الآلهة» المصوّرة، كأنها تحكي تاريخ الصين قبل ثلاثة آلاف عام، لكنها كانت تحكي -في الواقع- قصصَ العديد من الأشخاص الخارقين. على سبيل المثال، القول بأن عينَيْ شخصٍ قد اقتلعتا بفعل آخر، فنَمَت في محجرَيْ عينيه يدان، وقد تبرعمت بهاتَيْن اليدَيْن عينان، يمكن لهاتَيْن العينين رؤية الأشياء على بعد ثلاثة أقدام تحت سطح الأرض؛ ثمّة آخر، يمكنه عزل رأسه عن رقبته ليغنّي في الهواء، حدث أن تحوَّل عدوُّه إلى نسر، فأعاد وضع رأسه على رقبته، بشكل معكوس، ونتيجة ذلك أنَّ ركْضَ هذا الرجل، إلى الأمام، كان، في الواقع، تحرُّكاً للخلف، وركضه إلى الخلف كان يدفع به، في الواقع إلى الأمام.
مثل هذه الكتب لها جاذبية لا تُقاوم، لأطفال مثلي، منغمسين في الخيال طوال اليوم. ومن أجل قراءة هذه المجموعة، كنت أطحن له الدقيق بدفع الرحى، في منزله، طوال فترة الصباح، لأتمكَّن من قراءتها لمدَّة ساعتَيْن، على أن أقرأها في ممرّ الطاحونة، بمنزله.
وعند القراءة، كانت بنت الحجّار تقف خلفي لتراقبني، وبانقضاء الوقت، تأخذها على الفور. ولو كانت لديَّ الرغبة في مواصلة القراءة، فعليَّ الاستمرار في دفع الرحى. لم يكن هناك ساعات في ذلك المكان، آنذاك، فكانت مدّة الساعتَيْن تعتمد على مزاج ابنة الحجّار، فإذا كانت حالتها المزاجية جيِّدة، مَرَّ الوقت متباطئاً، بينما لو كانت في مزاج سيِّئ، فسيمرّ خاطفاً.
ومن أجل إبقاء هذه الفتاة الصغيرة في مزاج سعيد، كان عليّ أن أرتقي شجرة المشمش لدى الجيران، لأسرق ثمارها وأطعمها إيّاها. إن منح شبح جشع مثلي الآخرين مشمشاً مسروقاً، لهو أشبه ما يكون بدفع قطّة جشعة لبصق السمك من فمها، لكنني ظللت أعطي المشمش، الذي أناله بشقّ النفس، للفتاة، وبالطبع، كان جمال ابنة الحجّار الفاتن سبباً مهمّاً، كذلك.
باختصار، لقد دفعت ثمناً باهظاً، في طفولتي، لقراءة كلّ الكتب في عشرات القرى من حولنا. كانت ذاكرتي جيّدة جدّاً آنذاك، إذ لم تكن سرعة القراءة مذهلة، فحسب، بل كنت موهوباً بذاكرة استثنائية. أمّا بالنسبة إلى فكرة التواصل بين المؤلِّف والقارئ، فلم تكن قد تبرعمت آنذاك. في ذلك الوقت، كان الأمر متعلّقاً بشكل محض بقراءة القصّة، فحسب، فقد كنت غارقاً في ثناياها، وغالباً ما أبكي، بحرقة، لمعاناة شخصيات القصّة، بل أقع، في كثير من الأحيان، في حبّ أولئك النسوة الجميلات اللاتي يضمهن نسيجها.
وبعد الانتهاء من قراءة عشرات الكتب في القرى المجاورة، لم أقرأ كتباً، تقريباً، لعدّة عقود. فقد اعتقدت أن تلك العشرات من الكتب هي كلّ ما في العالم من كتب، وإنجاز قراءتها يعادل الانتهاء من قراءة كتب العالم كافّةً. وخلال هذه الفترة، كنت أعمل في الريف، فكان تواصلي مع الأغنام والماشية أكثر كثيراً من تواصلي مع الناس، حتى كدت أنسى تلك الكلمات التي تعلَّمتها في المدرسة. بيد أن قلبي كان مفعماً بالخيال، وتمنَّيت أن أكون كاتباً، أحيا حياة ملؤها السعادة.
عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، كبرت ابنة الحجّار، فصارت فتاة بالغة، فائقة الجمال، تعقد جديلة كبيرة تتدلّى حتى ردفها، ولها عينان برموش كثيفة، تنبعث منهما نظراتها الناعسة المبهمة. كنت مفتوناً بها، للغاية، وكنت غالباً ما أشتري لها الحلوى، بنقودي الزهيدة التي أجنيها من عملي الدؤوب. كانت حديقتا بيتَيْنا متجاورتَيْن، فكنّا نذهب، عند الغسق، إلى النهر، لجلب الماء وسقي الخضروات. وعندما كنت أراها تحمل دلو الماء، وقد أطلقت لجديلتها العنان لتتراقص خلفها، وتهفو في سبيلها من أعلى ضفّة النهر، تجيش في صدري شتّى الأحاسيس، ويخالجني شعور بأنها أجمل مخلوق على وجه الأرض. كنت أسير خلفها، فأطأ بقدميَّ العاريتَيْن ما تخلِّفه خطواتها من أثار على شاطئ النهر، فيبدو وكأن تيّاراً يسري، عابراً بدني من أخمص قدميَّ وحتى أعلى رأسي، فيفيض قلبي بالسعادة.
استجمعت شجاعتي، ذات غسق، وقلت لها إنني أحبها، وأتمنّى أن تصير زوجة لي. اعترتها الدهشة، ثم انفجرت بالضحك. قالت: «أنت، ببساطة، ضفدع يشتهي لحم بجعة!» شعرت بجرح كبير قد أصاب كرامتي، غير أن افتتاني بها لم يتبدَّل؛ لذا طلبت من زوجة أخي الذهاب إلى منزلها، وعرض الزواج عليها. حملت زوجة أخي رسالة لي؛ فحواها أنها ستتزوَّجني، طالما أمكنني كتابة عمل مثل «تنصيب الآلهة». ذهبت إلى منزلها لأعبِّر لها عن تطلُّعاتي السامية، وأهدافي العظيمة، فلم تخرج لرؤيتي، بل هرع إليَّ كلبهم المتوحِّش الضخم مندفعاً كالنمر.
قلت، قبل بضعة أيّام، في محاضرتي في «ستانفورد»، إنني تحمَّست للكتابة؛ رغبةً في عيش حياة سعيدة، أتناول فيها (الجياوتسي) ثلاث مرّات في اليوم، وفي حقيقة الأمر، وباستثناء (الجياوتسي)، لقد ألهمتني تلك الفتاة في منزل الحجَّار، بعينيها الناعستَيْن. لم أتمكَّن، حتى اليوم، من كتابة مثل هذا الكتاب المشابه لـ «تنصيب الآلهة». وبالفعل تزوَّجت ابنة الحجّار من ابن الحدّاد، وغدت أمّاً لثلاثة أطفال.
كانت معظم قراءاتي عندما كنت أدرس في قسم الآداب بالجامعة، وقد كتبت، آنذاك، الكثير من القصص الرديئة، للغاية. شُدهت عند دخولي الأوَّل إلى مكتبة الجامعة، لم أتوقَّع، حتى في أحلامي، أن العالم -بالفعل- زاخر بالكُتّاب، وملآن بكتبهم. لكنني كنت قد تجاوزت سنّ القراءة في ذلك الوقت، حيث وجدت أنني ما عدت قادراً -بالفعل- على الصبر لقراءة كتاب من أوَّله حتى آخره، وقد انتابني شعور بأن أيّاً من القصص التي تضمُّها هذه الكتب لم تتجاوز مخيِّلتي. فقد كنت أرى المؤلِّف بتصفُّح ما يربو عشر صفحات من الكتاب.
اعترف أن الكثير من الكُتّاب رائعين جدّاً، لكن ليس ثمّة الكثير من اللّغات المشتركة تجمعنا معاً، و-من ثَمَّ- لا تحمل كتبهم لي الكثير من الفائدة، فقراءة كتبهم أشبه ما يكون بتعاملي مع ضيف بشكل مهذَّب وراقٍ، كان ذلك هو الحال حتى وصلت بقراءاتي إلى «فوكنر».
أتذكَّر، بوضوح، أنه كان عصر يوم، تتساقط فيه نُتف الثلج بغزارة في كانون الأول/ ديسمبر، من عام 1984، حيث استعرت من زميل لي كتاب «الصخب والعنف» لـ«فوكنر»، وأمعنت النظر في صفحة الغلاف، فكان ثمّة رجلٌ عجوزٌ يرتدي زيّاً غربيّ الطراز، يُحكِم عليه برابطة عنق، ويقبض بفمه على غليون، لم ترُقْ لي الصورة. ثم بدأت في قراءة تلك المقدِّمة المطوَّلة التي خطَّها مترجم مشهور في الصين. كنت أقرأ فيغمرني الفرح، وتفهَّمت، بشدّة الكثير من سلوكات هذا العجوز الأميركي غير المواكبة للعصر، كما شعرت بالودّ الشديد حيالها، منها -على سبيل المثال- أنه كان لا يقرأ الكتب بجدِّيّة، منذ أن كان طفلاً، وكذلك أنه كان محبّاً للتفوُّه بالترّهات، كما كان يحبّ الكذب، حيث لم يخُض الحرب، بينما ادّعى أنه كان يقود الطائرة ويشتبك مع العدو في السماء، وقد أصيب، جرّاء ذلك، بشظيَّة كبيرة جدّاً في رأسه، وأن هذه الشظيّة، التي اقتحمت دماغه، قد تمخَّضَ عنها أسلوبه اللّغوي المبهم والمتحذلق.
كان مخموراً حينما ذهب لتسلُّم جائزة «نوبل»، حتى أنه ألقى بالميدالية الذهبية في سلّة المهملات؛ ولمّا دعاه الرئيس «كيندي» إلى مأدبة عشاء في البيت الأبيض، قال إن تناول وجبة لا يستحقّ الهرولة إلى البيت الأبيض. لم يكن يعتبر نفسه، في الأساس، كاتباً، بل اعتبر نفسه مزارعاً، بينما فتنتني «مقاطعة يوكناباتوفا» وليدة مخيِّلته. داخلني شعور بأن «فوكنر» يشبه المزارعين القدامى في مسقط رأسي، فقد علَّمني، بنبرة نافذة الصبر، كيف ألجم المِهار بالرسن.
ثم بدأت في قراءة كتبه. اعتقد كثير من الناس أن كتبه غامضة، يصعب فهمها، بينما قرأتها بسهولة بالغة. أشعر أن كُتبه دافئة لطيفة مثل أحاديث أولئك المزارعين القدامى غريبي الأطوار في مسقط رأسي، فلا يهمّني القصص التي يرويها لي، لأن قدرتي على تأليف القصص ليست دون قدرته، لكنّ ما أعجبني هو تلك النبرة، وتلك الطريقة التي يسرد بها القصص.
كان يتصرَّف كما لم يكن، في الساحة، غيره، فيتحدَّث عن ذاته، فحسب، تماماً، مثلما كنت أفعل عندما أرعى الماشية في مراعي مسقط رأسي، حيث أتحدَّث إلى الماشية وطيور السماء، فحسب. قبل ذلك، كنت، دائماً، أكتب الرواية وفقاً للأسلوب المتَّبع في مناهجنا لتعليم الرواية، والتي كانت، حقّاً، عملاً شاقّاً. شعرت بافتقاري لما أودّ كتابته، وفقاً لمناهجنا التعليمية، وإذا انتابني هذا الشعور، فإنه ينبغي عليَّ مواصلة خوض غمار الحياة والتعمُّق فيها.
بعد قراءة «فوكنر»، شعرت كأنني قد استيقظت من حلم، ليتَّضح أمامي أن الروايات يمكن أن تتناول الترَّهات هكذا، وأن الأشياء التافهة التي تحدث في الريف، يمكن أن تنسج خيوط رواية بشكل رائع، فالكاتب لا يمكنه أن يختلق الشخصيّات، ويبتكر القصص، فحسب، بل يمكنه، أيضاً، أن يختلق الجغرافيا.
لذا، ألقيت كُتبه جانباً، والتقطت قلماً لكتابة روايتي الخاصّة. وقد كتبت، بجرأة، على الورقة: «بلدة شمال شرق (قاومي)»، مستوحياً إيّاها من اختلاقه الجغرافي «مقاطعة يوكناباتوفا». إن مقاطعة «يوكناباتوفا» خاصّته هي اختلاق خياليّ محضّ، بينما بلدة «شمال شرق قاومي»، خاصَّتي، هي مكان حقيقيّ. لقد اتَّخذت قراراً بالكتابة عن مسقط رأسي، تلك الرقعة من الأرض التي تشبه، في حجمها، حجم طابع بريد.
كان ذلك، ببساطة، أشبه ما يكون بفتح هوس الذاكرة المتدفِّقة، حيث أنعش حياة الطفولة كاملة، فتذكَّرت ما قلته في تلك السنوات الخوالي، وأنا مستلقٍ على العشب، قبالة الأبقار، والسحائب، والأشجار وطيور السماء، ثم كتبته في رواياتي، كما هو تماماً. ومنذ ذلك الحين، تبدَّد قلقي بشأن عدم العثور على ما أودّ كتابته، وانحصر حول عدم قدرتي على الكتابة. غالباً ما يحدث ذلك، فعندما أكتب رواية، تصرخ في عقلي الكثير من الأفكار الجديدة، كما لو كانت كلباً ينبح خلفي.
وفي وقت لاحق، تعرَّفت إلى أستاذ جامعي أميركي في ندوة «فوكنر» الدولية التي عُقدت في جامعة «بكين»، وكان يدرِّس في جامعة قريبة من مسقط رأس «فوكنر». وقد دعاني هو ورئيس الجامعة لزيارتهما، لكنني لم أذهب، فأرسل إليَّ ألبوم صور لـ«فوكنر»، يحتوي الكثير من الصور الثمينة، من بينها صورة لـ«فوكنر» وهو يقف أمام إسطبل للخيل، مرتدياً ملابس مهترئة، وحذاءً طويل الساق، بالياً. أعادتني صورته هذه، على الفور، إلى بلدة «شمال شرق قاومي»، فذكَّرني بجدّي، وبأبي، وبالكثير من القرويِّين القدامى.
في ذلك الحين، تفكَّكت صورة «فوكنر» بعقلي، باعتباره كاتباً عظيماً تماماً، لأشعر بتلاشي المسافة بيني وبينه. وقد انتابني شعور بأننا قلبان متناغمان، وصديقان حميمان من جيلَيْن مختلفَيْن، لا تنطوي علاقتنا على أسرار. فقد تحدَّثنا معاً عن الطقس، والمحاصيل الزراعية، والماشية، كما دخَّنّا التبغ سويّاً، واحتسينا الخمر، وسمعته يوبِّخ النقّاد الأميركيين أمامي، ويسخر من «همنغواي».
كما سمح لي بتلمُّس تلك الندبة برأسه، وقال إنها نتيجة عضّة فرس أبقع، لكن بالنسبة إلى هؤلاء الحمقى، لابدَّ من القول إنها كانت جرّاء انفجار طائرة ألمانية. ثم انفجر بالضحك منتشياً، وقد علت وجهه ابتسامة مشاكسة وممازحة. أخبرني أن الكاتب يجب أن يكذب بجرأة، ودونما خجل، ليس لإبداع الروايات، فحسب، بل لابتكار تجارب شخصية، أيضاً.
علَّمني، أيضاً، أن الكاتب يجب أن يتجنَّب المدينة المزدهرة، ويستقرَّ في مسقط رأسه، تماماً، مثلما يجب أن تتجذَّر الشجرة في الأرض. وأنا أرغب، حقّاً، في السير على هداه. لكن، في مسقط رأسي، غالباً ما ينقطع التيّار الكهربي، كما يفتقر إلى وسائل التدفئة في الشتاء، علاوةً على مرارة المياه، وطعمها القابض، وأنا أخشى المصاعب؛ لذا، لم أعُد إليها حتى اليوم.
ينبغي أن أعترف، بصراحة، أنني لم أنتهِ من قراءة رواية «فوكنر» «الصخب والعنف» حتى الآن، لكنني أضع ألبوم صوره، الذي أهداني إيّاه ذلك الأستاذ الجامعي الأميركي، على مكتبي، حيث أتحدَّث إليه، حينما أفقد الثقة بنفسي.
أعترف أنه معلِّمي، لكنني قلت له، ذات مرّة، دون خجل: «مرحباً، أيُّها العجوز، ثمّة موضع قد تجاوزتك فيه!»، فرأيت ابتسامة ملؤها السخرية، قد فاض بها وجهه، وعقَّب قائلاً: «قل لي: ما المواضع التي تفوَّقت عليّ فيها؟».
قلت: «مقاطعة يوكناباتوفا، خاصَّتك، هي مقاطعة من البداية وحتى النهاية، بينما بلدة «شمال شرق قاومي»، خاصَّتي، قد حوَّلتها إلى مدينة حديثة، للغاية، في غضون أقلّ من عشر سنوات. ففي عملي «الصدور المرتفعة والأرداف العريضة» جعلت بلدة «شمال شرق قاومي» تشيِّد العديد من المباني الشاهقة، وتضيف المرافق الترفيهية الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، أنا أكثر شجاعة منك، فما كتبته أنت كان قاصراً على حدود ذلك المكان، بينما تجرَّأت أنا على نقل أشياء من جميع أنحاء العالم، وتغيير وجهها، وضمّها إلى بلدة «شمال شرق قاومي»، وكأن هذه الأشياء قد حدثت فيها، بالفعل.
لا توجد جبال في بلدة «شمال شرق قاومي» الحقيقية، لكنني حرَّكت جبلاً إليها، بالقوّة، كما أنها لا تضمّ أرضها صحراء، فخلقت لها، بالقوّة، صحراء، ولا يوجد فيها المستنقعات، فجلبت إليها مستنقعاً، علاوةً على الغابات، والبحيرات، والأسود والنمور… وكلّ تلك الأشياء صنعتها من أجلها. وفي السنوات الأخيرة، توالى ذهاب بعض الطلّاب الأجانب والمترجمين إلى بلدة «شمال شرق قاومي»، لرؤية الأشياء التي وصفتها في رواياتي، وعندما وصلوا إلى هناك، أصيبوا جميعاً بخيبة أمل، فما من شيء هنالك، إلّا سهل مقفر، وعلى السهل بعض القرى عديمة الملامح».
قاطعني «فوكنر»، وقال ببرود: «اللصوص الصاعدون، غالباً ما يكونون أكثر جرأةً من اللصوص القدامى!».
تُعَدّ بلدة «شمال شرق قاومي» جمهورية أدبيّة من اختراعي، فهي مملكة، أنا مَلِكها. وكلَّما أُمسك بالقلم، وأكتب قصّة بلدتي «شمال شرق قاومي»، أتذوَّق سعادة الإمساك بتلابيب السلطة؛ فعلى هذه الأرض، يمكنني تحريك الجبال، وملء البحور، وتسيير الرياح، واستدعاء المطر، أُميت من أودّ موته، وأُحيي من أشاء له الحياة. بطبيعة الحال، ثمّة بعض اللصوص الجريئين، أوجدتهم لمعارضتي، بينما يجب عليَّ أن أستسلم لهم.
وبعد ظهور سلسلة رواياتي، التي تدور أحداثها في بلدة شمال «شرق قاومي»، احتجَّ ضدِّي بعض السكّان المحلِّيّين، ووصفوني بالخائن لبلدتي؛ وهو ما دعاني لكتابة عدّة مقالات لشرح الأمر. قلت لهم: بلدة «شمال شرق قاومي» هي مفهوم أدبي، وليست مفهوماً جغرافياً، وهي مفهوم منفتح وغير منغلق، يعتمد على تجربة طفولتي لبناء صرح أدبي خيالي؛ عملت جاهداً لتكون صورة مصغَّرة للصين، واجتهدت لصياغة الفرح والألم هناك، بما يتماشى مع الفرح والألم للبشرية جمعاء، واجتهدت لتؤثِّر القصص التي أنسج أحداثها في بلدة «شمال شرق قاومي»، في القرّاء من جميع البلدان، وسيكون هذا هدفي مدى الحياة.
والآن، وطئت قدماي، أخيراً، أرض معلِّمي، العمّ «فوكنر»، وأتمنّى أن ألمح طيفه في الشارع الصاخب، فأنا أعرف ملابسه المهترئة تلك، وغليونه الكبير ذاك، كما أعرف، جيّداً، رائحة روث الحصان المختلطة برائحة التبغ، التي تفوح منه، وأنا على دراية بخطواته المترنِّحة على إثر سكره.
فلو وجدته، سأصرخ خلفه قائلاً: «أيُّها العمّ «فوكنر»، هأنذا!»

هوامش:

تَمَّ تضمين هذا المقال كتاب «راوي القصص» بـ (المجموعة الكاملة لخطابات مويان)
المصدر:
https://mp.weixin.qq.com/s/3KjMaF6Tc7M6CH-Bv65f8w