الغابة تخفي الشجرة!

كيف نفهم ارتباطاتنا الدائمة بالأشجار منذ الولادة حتى الموت؟ يعمل مؤرِّخ الحساسيات «ألان كوربان Alain Corbin» على تحليل العلاقة الوجدانية التي نقيمها -أحياناً- مع الأشجار التي تمثِّل شواهد جليلة على الزمن الذي يمرّ.

هل كانت لبعض الأشجار مكانة في حياتكم؟

– ألان كوربان: في بيت العائلة، وقد كان ديراً في السابق، توجد أربع شجرات «زيزفون» يعود تاريخ غرسها إلى سنة 1870، وكانت تشكِّل ممراً يشبه الزقاق، وهي لا تزال موجودة هناك إلى الآن. لقد ارتبطت بها منذ طفولتي. أذكر كذلك بعض أشجار الكستناء، وشجرة كرز ما زالت صامدةً، على الرغم من أنها متداعية. هذا التردُّد المُتكرِّر على الأشجار المُعمِّرة لعب، من دون شكٍّ، دوراً في تعلُّقي بدراسة علم التاريخ. كما أنني في الغالِب أكتب كتبي في هذا البيت.

والغابة؟هل هي مصدر إلهام بالنسبة إليكم؟

– أقول دائماً إن الغابة تخفي الشجرة وليس العكس. الغابة تلفت الانتباه. إلّا أنني أفضّل شجرة الحقل، شجرة الغابة الصغيرة. أما الغابة الكبيرة فهي ليست مألوفة لديّ، ولست على معرفة جيِّدة بها. وقد شكّلت مكاناً يُثير القلق والخوف في قصص وحكايات القرن الثامن عشر، والتي تكون نهايتها سيئة أو مأساوية. كما أنها تمثل قوة طبيعية وجب على الإنسان مقاومتها من خلال اقتطاع أجزاء منها حتى يجد لنفسه مكاناً. بالنسبة لي، ليس للغابة ذلك السحر والجمال اللذان للشجرة الوحيدة وسط البراري. لكن البعض، مثل «جان موطي Jean Mottet»، الأستاذ السابق بالسوربون، والذي كتب مؤخراً سيرته الغابوية «من أجل الشجرة ومن أجل العصفور»، تقديم «ألان كوربان»، كأنهم أبناء الغابة، منها ولدوا وفيها يعيشون وسط الأشجار. ومعلوم أن «موطي»، الصديق الفرنسي الوحيد لـ«ميازاكي Miyazaki»، يمتلك العديد من الهكتارات في منطقة الدوردوني (Dordogne). إنه يهتم بالخصوص بالغابة الصوتية، وعلى العموم بكل ما له علاقة بما هو محسوس في الغابة.

كيف تفسِّرون هذا الارتباط الوجداني بين الإنسان والأشجار؟

– إنه ارتباط موغل في القِدم. لقد لعبت الشجرة دوراً مهمَّاً في حياة البشر على مرِّ العصور. تحت بعضها كانت تتحقق العدالة. إلّا أن الشجرة كانت على وجه الخصوص رمزاً للفرد: في العديد من المناطق القروية (وفي منطقة «ليموج Limoge» على الخصوص) كان يتمُّ غرس شجرة تزامناً مع ولادة طفل جديد. هذا الأخير، وهو ينمو، كان يتماهى مع الشجرة ويستمر في زيارتها وتفقدها، حتى في حالة رحيله عن البلدة. تعرفون أغنية «براسنز BRASSENS» الجميلة: «بالقرب من شجرتي عشت سعيداً، لم يكن عليّ مغادرتها أبداً، بالقرب منها عشت سعيداً، ولم يكن لها أن تغيب عن عيني». هذا التماهي يحتوي على بُعد، من بين أبعاد أخرى، هو البُعد الطبي: كان الناس يعلّقون ملابس على الشجرة عندما يكون الطفل مريضاً أو جريحاً أملاً في أن الشجرة ستشفيه. والعديد من الكُتَّاب مثل «ثيوفراسط Théophraste» و«بّلين لو جون Pline le Jeune» استساغوا فكرة مقارنة الشجرة بالجسم البشري، حيث الجلد لحاء، والدم نسغ، والأطراف أغصان. أما فيما يخصُّ الرأس، فإنّ الأمر لم يكن على هذا القدر من الوضوح. هناك الجزء الأعلى من الشجرة طبعاً. لكن البعض رأوا في الجذور دماغاً على نحوٍ ما.

 ألا يمكن أن نتحدَّث حتى عن ارتباط حميمي؟

– بالتأكيد؛ وما يشهد على ذلك هو العادة المُتمثلة في تقبيل الأشجار، والتي سبق وأن أشار إليها «إميل فيرهيرن Emile Verhaeren» في قصيدته بعنوان «الشجرة» (من ديوان: الروعة المضاعفة، 1906): «أتجه نحوها ممتلئ العينين نوراً، أتحسسها بأناملي ويدي/أحس بتمايلها حتى عمق الأرض/عبر حركة فوق بشرية هائلة؛/أضغط عليها بصدري الوحشي/بكل حب، وبكل شغف/حتى إن إيقاعها العميق وقوتها الكاملة/يخترقاني ويغوصان إلى حدود قلبي».

تتمتع الشجرة إذن بهالة من الجود والعطاء على العموم؟

– إنها مصدر خيرات وأفضال عديدة. هناك الثمار طبعاً. نتذكَّر هنا «روسو Rousseau» وهو يقطف التفاح على ضفاف بحيرة «بيين Bienne». لكن ليس هذا كل شيء. فالشجرة هي أيضا مأوى وملجأ نحتمي به من الأمطار الغزيرة ومن أشعة الشمس الحارقة. هذه الشجرة التي توفِّر الظل الوارف هي شجرة الأرياف عند « فيرجيل Virgile». يتعلّق الأمر طبعاً بمكانٍ متخيَّل، مكان للراحة والسكينة. لا شيء يدلُّ على أن فيرجيل كان حقاً يتمدَّد تحت الأشجار! إن لطف الشجرة، من حيث هي ملاذ نلجأ إليه ضد قساوة عناصر الطبيعة، وأيضاً ضد اضطراب العَالَم كما عند «روسو»، يمكن أحياناً أن يكون إيروسياً. فالشجرة المُجوَّفة على نحوٍ خاص هي المكان الذي يقصده العُشَّاق للاختفاء عن الأنظار، على غرار ما كان يقوم به «فيكتور هوغو Victor Hugo». يتحدَّث «هوغو» بالفعل عن «خلوات الحب في أعماق الغابات المفقودة/والشجرة التي تحتها تنسى أرواحهم المنصهرة كل شيء…!»  (Tristesse d’Olympio,dans Les rayons et les ombres,1840). ويضيف قائلاً: «الحب مثل شجرة، ينمو من تلقاء ذاته، يلقي بجذوره عميقاً في كلية وجودنا، ويحافظ باستمرار على اخضراره في قلب مكسور». (Notre Dame de Paris,1831). والشجرة هي أيضاً ما ننقش عليه اسم المحبوب أو العشيقين معاً. ولا تزال الغابة هي وجهتنا المُعتادة في الغالب.

لكن الإنسان لا يكتفي بالاستلقاء تحت الشجرة، وإنما يتسلّقها أيضاً!

– فعلاً، مثلما كان يفعل أشباهنا من «الرئيسيات les primates». إننا نتسلّق الأشجار لأسبابٍ عديدة. من أجل قطف الثمار. من أجل بناء «كبائن cabanes»، هذا المُتخيَّل الذي أصبح يحظى باهتمامٍ كبير حالياً، وهو يرتبط طبعاً بنوعٍ من الوعي الإيكولوجي والرغبة في «العودة إلى الطبيعة». كما أن هناك مَنْ يتسلّقها فقط من أجل رؤية الأشياء من زاوية مختلفة. ولعلّ هذا ما ينطبق على حالة العَالِم الإيكولوجي «جون موير John Muir»ـ (1838 – 1914) الذي تسلّق صنوبرة يبلغ علوها عشرات الأمتار في «دوغلاس Douglas» من أجل ملاحظة الطبيعة، والإنصات للريح، واستنشاق العطور، واكتشاف رقص الأشجار، إلخ. لقد كان يشاهد بإعجاب «حركات مختلف الأشجار وهي تتمايل بفعل الريح»، «حركاتها العاطفية» (Forêts dans la tempête et autres colères de la nature). كما يتحوَّل الوصف ليأخذ منحى دينياً: «هذه الأبراج الضخمة من ستين متراً علواً، تلوح مثل سبائك ذهبية رقيقة، ترتل وتسجد كأنها تصلي».

هناك ارتباط وثيق بين الشجرة والدين؟

– لا شكّ في ذلك. فالأساطير تحفل بالأشجار المُقدَّسة كمحور للعَالَم. والعديد من الأشجار في أوروبا استُخدمت كفضاءات للعبادة الوثنية. كما أن المسيحية قامت بعملية اجتثاث عدد كبير من هذه الأشجار وعوَّضتها بعبادة القديسين المحليين. ولعلّ هذا هو ما قام به «شارلمان Charlemagne» أيضاً: فقد اجتث الشجرة المُقدَّسة لدى الساكسونيين سنة (772م)… مما أدى إلى نشوب حرب العشرين عاماً. لكن، في بعض الأحيان كان يتمُّ فقط تجويف جزء صغير من هذه الأشجار بهدف وضع تمثال للعذراء. وبعض الأشجار، خاصة في منطقة «نورماندي Normandie»، تحوَّلت إلى كنائس صغيرة للصلاة. كما أن العديد من الشعراء، بمَنْ فيهم المسيحيون، مثل «شاتوبريان Chateaubriand»، سيقارنون الغابة بالكاتدرائية. والواقع أن الأشجار ليست غائبة عن الإنجيل: شجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، أو أيضاً شجرة «يسّى Jessé»، الشكل النباتي الذي يمثل «جينيالوجيا» أو نسب المسيح، ومن ثمَّ «جينيالوجيا» الزمان والتاريخ حتى لحظة ولادة المسيح.

للشجرة علاقة خاصة بالزمان، فهل هذا هو سرُّ جلالها؟

– تتمتع الشجرة بجلال لا يُنكَر. إنها بمثابة صلة وصل أو جسر كوني بين الأرض والسماء. إلّا أن ما يدهش الناس فعلاً هو طول عُمرها العجيب. فهي تكاد تكون خالدة. وإذن فهي حاملة للزمان ولذاكرة تتجاوز بشكلٍ كبير الوجود العابِر للبشر. خذ مثلاً أشجار «شارلمان» العديدة، أو أشجار «جان دارك Jeanne d’Arc»، وهي لا زالت موجودة في فرنسا. إن الشجرة هي ارتباط بالماضي. وعندما تمَّ استكشاف الحدائق الطبيعية الأميركية الرائعة، مثل حديقة «يوسمايت Yosmite»، اندهش المُستكشفون، وقالوا بتعجب: لا شكّ أن هذه الأشجار كانت موجودة منذ زمن عيسى المسيح. الشجرة قاهرة ومطَمْئنة في الوقت نفسه.

ربما هي، لهذا السبب، مصدر إلهام للشعراء؟

– من دون شكّ. فالشجرة حُبلى بالدلالات والمعاني:ليس غريباً إذن أن يوظفها الشعراء خدمةً لأغراضهم الشعرية. في «التأملات Les Contemplations» يخصِّص فيكتور هوغو نصوصاً جميلة للأشجار: «أنا الحالم؛ أنا الرفيق/لهذه الأزهار الذهبية الصغيرة على الجدار المُتداعي/ومُحاور الأشجار والريح». وشعراء العصر إنمّا يقصدون الطبيعة من أجل سماع الأشجار. ذلك أن الأشجار لها صوت بالنسبة لهم. إنها تكلِّم بعضها البعض، تُحادِث وتُحاوِر بعضها البعض، إلخ. إنها تعبِّر كما لو كانت قيثارات هوائية طبيعية. هذه الشعرية المُرتبطة بالأشجار وعالم النبات تبلورت على نحوٍ خاص في إنجلترا، مع تركيز قوي وملحوظ على النباتات البرية. وهذه البرية هي أيضاً ما كان يعشقه «ديفيد هنري ثورو David Henry thoreau»، إنسان «والدن Walden»: إنه يقدِّر كل ما ينمو بنفسه، بحريّة، ودون أن يكون موجَّهاً من قِبل الإنسان. هكدا تصبح الشجرة تقريظاً للبرية.

لكن البرية أو الوحشية هذه تضفي عليها طابعاً مزعجاً؟

– على كلِّ حال، هناك عنفٌ متخيَّل يلازم الشجرة وقليلاً ما نقف عنده. إنّ تسلُّق الشجرة لا يخلو من مخاطرة السقوط. والشجرة لا تنفصل عن الفأس، رمز القوة والعنف الذي يتجلّى قبل كل شيء في قطع الأخشاب. علاوة على ذلك، في رواية «رولان المجنون Roland furieux»ـ (1516) لـ«أرسطو L’Aristote»، عندما كان البطل يغضب، كان يقطع الأشجار ويجتثها ويحاربها!

بغض النظر حتى عن الحديث عن العنف، فإن العُمر الطويل للشجرة يضع الإنسان وجهاً لوجه أمام مأساة موته الخاص والشخصي؟

– نعم. إن غرس أشجار على القبور أو بجانبها هو سلفاً ممارسة تقليدية. منذ بضع سنوات، خاصة في الولايات المُتحدة، يعمد البعض، حتى بعد الوفاة، إلى حقن الشجرة بحمضهم النووي (ADN) أملاً في الاستمرار في العيش بعد الموت. تجعلنا الشجرة نستحضر فكرة الخلود وتقودنا نحو نهائيتنا الخاصة. إنه تحدٍ، وربما هو التحدّي الأكبر الذي يتوجَّب على الإنسان مواجهته.

 

حوار: أوكتاف لارمانياك-ماثرون

المصدر:

Philosophie Magazine, Hors-Série N53 ,2022, pp. 70-76.

كاميلو خوسيه ثيلا.. «مذكرات التيس اسمث»

«كاميلو خوسيه ثيلا»، واحد من كُتَّاب «نوبل» الذين لم يترجموا بالقدر الكافي، وربما لم يشتهر من أعماله في العَالَم العربي سوى عمله المُبدع «عائلة باسكوال دوارتي»، حصل على «نوبل» بعد كاتبنا الكبير نجيب محفوظ بسنة واحدة، فقد حصل محفوظ على «نوبل» في عام 1988، وحصل «ثيلا» على الجائزة في عام 1989، ولذا قد نجد تشابهاً في أسباب منح الجائزة، وربما وبشكلٍ ما تمثل ثلاثية محفوظ عائلة «باسكوال دوارتي» في النسخة الإسبانية.

إننا نستطيع أن نقرأ الحكاية التي بين أيدينا على أنها حكاية للأطفال، فيها النماذج الأثيرة للحكاية الشعبية التقليدية، الذئب والماعز، وفيها العبرة والعظة.

ولكن أعمال «ثيلا» كلها لا تقف عند مستوى واحد من الأداء والتأويل، ولذلك يمكن أن نقرأ الحكاية باعتبارها حكاية تيس لا يعي ذاته، ولذا يختار اختيارات لا تناسب حياته، وقوته، فمن القص نستطيع أن نعرف أن هذا التيس لا يعرف مقدار قوته التي ظهرت من المُبارزة الأولى، حيث جعل التيس الآخر مثل الخبيزة، وأيضاً ظهرت في خوف الذئب نفسه منه، حيث كان يتركه يصعد إلى أعلى الجبال، دون أن يعرِّض نفسه لنطحاته، وربما عدم القدرة على اكتشاف الذات هي التي أفضت به إلى المُعاهدة التي لم يفد منها شيئاً كما كان يتصوَّر، لأن الذئب لم يقدِّم له شيئاً، بل العكس كان يأخذ منه نعجةً في كل أسبوع.

كما يمكن أن ننظر إلى الحكاية في مستوى آخر من التأويل، إذ يصبح الجَدي هو «فرانكو» الديكتاتور الإسباني ذاته الذي تحالف مع الذئب وولف (الألماني)، الذي يمكن أن يمثل في الحكاية «هتلر»، ولا يمكن أن ننسى أن «فرانكو» قد باع شعبه لـ«هتلر» دون مقابل، في حربه مع الألمان، ولا ننسى قرية «الجرنيكا» الإسبانية التي أراد أن يجرب «هتلر» بعض القنابل عليها قبل أن يلقيها على الحلفاء، فوافق «فرانكو» أن يكون تجريب القنابل فيها، فأصبحت أثراً بعد عين، وقد صوَّرها الفنّان الإسباني «بابلو بيكاسو»، لتكون صورةً خالدة شاهدة على فساد الديكتاتورية أينما وُجدت.

ولكن هذا ليس المُستوى الأخير للحكاية، فيمكن تفسير هذه الحكاية الرمزية على أنها مذكرات «كاميلو خوسيه ثيلا» نفسه، فـ«ثيلا» نفسه يمثل الجَدي في مستوى من المُستويات، لقد كان والده «كاميلو ثيلا إي فيرنانديز»، من كاليسية (من الجلالقة)، وكانت والدته، «كاميلا إمانويلا ترولوك إي بيرتوريني»، ذات أصول إنجليزية وإيطالية، بالإضافة إلى كونها كاليسية أيضاً، وكانت العائلة من الطبقة المُتوسطة، التي لا تميل إلى الثورة والتمرُّد، لذا تحالف مع أفكار الديكتاتور «فرانكو» في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، بل حارب في صفوف قواته، وأُصيب، وكأنه يمثل حكاية الجَدي الذي أراد أن يكون ثائراً فوقع في براثن الذئب، وقدَّم له أهله قرباناً دون أي فائدة، ولو أنه واجه الذئب لكان قد انتصر عليه، بدلاً من أن يقول له يا سيدي، ويعد إهانته له حنواً وكرامة.

لكن الحكاية تنتهي بما انتهت إليه قصة «ثيلا» نفسها، إذ أصبح من أشدِّ منتقدي «فرانكو»، وأصبحت أعماله مراقَبة من قِبل «فرانكو» وأنصاره، وربما للسبب ذاته كانت أشد أعماله إبداعاً وتأثيراً تلك التي كُتبت في هذه الفترة، التي رُوقِبَت فيها كتاباته، ومن أهم هذه الأعمال روايته «خلية النحل» التي مُنِعَتْ في إسبانيا ونُشِرَتْ في «بوينس أيرس» عام 1951.

 

 

مذكرات التيس «اسمث»

 

التيس المشهور «اسمث» – تيسٌ متمرِّد أقام مباراة بالأسلحة فوق جبال منخفضة بجوار جبال «جريدوس» الشاهقة، ورتبوا لاصطياده والنتيجة حتى الآن غير مجدية…

(1)

اسمي روبرت اسمث وخبل (الخامس)(1)، مولود في فرسنديا دي لا أوليبا دي بلاسينسيا، مقاطعة في كاسيرس(2)، بلغت الخامسة من العُمر غير العام الذي أنا فيه، إنْ لم أكن نموذجاً جيداً، فلست كذلك واحداً من الأشرار، إنني ذلك الشخص الذي لا يعيش -تقريباً البتة- الحياة التي يريد، بل يعيش فقط الحياة التي يستطيع، مبدئي أن أعيش الحياة تيساً صادقاً، أقضي الساعات الفارغة تحت ظلال الأشجار المُثمرة، أجترُّ العشب الغض، أو التبن العطري، اعتدت أن أمرر غمامات الربيع في قراءة «فراي لويس» أو «جارسيلاسو»، لكن الحياة قد أخذتني بلا تفكير أو روية، واليوم أجد نفسي مدفوعاً إلى مباراة تخيفني، مع تيس المعركة.. كم أنا عظيم!

أبي السيد «ولتر اسمث»، كان مثلاً أعلى في جبال الألب، نشأ في «دفونشير» بإنجلترا، وأُحضر في وقتٍ لاحق إلى «فرسنديا دي لا أوليبا» بوساطة شركة «أجابيتو لوبيث» وشركاه، مستوردي الماعز من المملكة المُتحدة.

رجال يصنعون الثروة الضخمة عن طريق إحضارنا ونقلنا من جانبٍ إلى آخر.

أبي كان -دائماً- جَدياً واضحاً جاداً، كان موضع إعزاز من قبيلته، ومثالاً وقدوة في مصلحة الماعز، كانت ذكراه غير مصدر فخر، واستقامته ونبل أصله كانا دائماً مبعث الحب والاحترام.

أمي السيدة «ترستيسا خبل الخامس»، كانت بالفعل شيئاً آخر، عنزة متهورة، صديقة للمرآة والزينة، السيدة «ترستيسا» كانت امرأة خطرة، بكر والديها، وأصغر من زوجها سناً، ساقت الجميع إلى طريق الحسرة والمرارة، ليس لها شجرة عائلة معروفة، كانت أمي هكذا، كم هي ضالة!

كانت تُسمَّى (عنزة البلد)، تسمية غير واضحة تماماً، لكنها تدل على أنها كانت ذات دلالٍ كثير، تتشمم أخبار زرائب الآخرين، عن طريق التحدُّث إلى نمامة أو قليلة الاحتفاظ بالأسرار أو محاورة زوجة خائنة أو غير جيِّدة.

كم يحزنني أن أدلي بهذه المعلومات عن أمي، ولكن صفحاتي الخاصة هذه، التي تشبه الوصية لا يتلاءم معها الزيف.

السيدة «ترستيسا» كي تبلغ الغاية في السوء أمضت أكثر من نصف عمرها تصيب بعدوى الحمى المالطية النصارى الفقراء الذين لم يرتكبوا في حقها جريمةً قط، سوى أنهم كانوا يستهلكون لبنها في الفطور والعشاء، و(لأن من يمشِ مشياً سيئاً ينتهِ إلى نهاية سيئة)(3)، فقد ماتت بطريقةٍ مأساوية تماماً، لقد فعصتها ناقلة تحمل خمسة آلاف كيلوجرام من (عنب ثبريرو)، حمولة حلوة -بالتأكيد- لكنها ربما ثقيلة قليلاً فوق عنزة واحدة.

أصبحت مثل الرقاقة، وقليلون كان عليهم أن يتألّموا، لأن المجيء إلى مكان الحادث بعد لحظات يسيرة من الحدث، لا يدع لهم الوقت الكافي للتعبير عن الألم.

بالنسبة لي كانت مصيبة عنيفة، لم أَرَ مثلها قط، في منتصف الطريق رأيتها تشبه رقاقة من الباكلاء.

ولكن بالنسبة لأبي الذي كان عاطفياً جداً، باعتباره جَدياً طيباً من الشمال، كان الأمر مختلفاً، لقد اتَّخذتْ هيئته مسحة مأساوية تقريباً، لقد كان يمضي الأيام وربما الأسابيع يبكي مخاطاً مديداً، ونظرته مليئة بالحزن، بينما ذقنه محنية مبللة.

آه ترستيسا – ترستيسا – كان يقول السيد «ولتر» من شدّة ألمه، كم كنت حمقاء طوال حياتك!

ومضى الزمان، وأصبحت كبيراً، وازددت صلابة، والصلابة هي طوق النجاة لكل التيوس، لأنه حين نبلغ عمراً معيَّناً، فعلينا أن نعتمد على أنفسنا.

وأبي الذي كان حزيناً، تزوَّج في زفافٍ ثانٍ من خالتي (كاوتلدي) خبل الخامس الأخت الصغرى لأمي، ومن هذه الزيجة الثانية أنجب خمسة تيوس كلهم ذكور، (نابليون) الذي هو نائب الآن، (ولتر) و(أدوليتو) و(سلفستر) و(فيكتوريانو) الأخ الأصغر، الذي كان حينما تركته تيساً أبيض مرحاً.

(2)

نزحت إلى الجبل، عندما قتلت (باولينو إليسوندو) من جراء مناطحة، إنه تيس شيخ كهل -وجدني قوياً جداً- بينما نشأ ليِّنا أكثر مما تخيلت، فجعلته مثل (الخبيزة) من المُناطحة الأولى.

في الجبل كنت واحداً وحيداً متشرِّداً، كنت كيفما سرت تضايقت وتململت كما لو كنت محارة.

ولقد سلاني أنني خصَّصت بعض الوقت للاعتداء على النعاج لسرقتهن، والنعاج عندما كنت أقترب من إحداها لسرقة أمتعتها كانت تكتم أنفاسها من الخوف، وتغلق عينيها الرخوتين، المليئتين بالمياه.

وفضَّلت أن أقيم معاهدة مع الذئب، لأنه ولو أنه كان عندما يراني أجيء كان يعطيني وقتاً كي أثب فوق الأحجار العالية التي لا يستطيع صعودها، فإنه كان منتبهاً مستيقظاً، ولا أعرف لماذا لم يكن يأخذني على غرة مني! لقد كان شيئاً مقلقاً بالنسبة لي، جعلني خائفاً وقتاً طويلاً.

دنوت من معسكر الذئب، ومن فوق صخرة صحت به:

– سيدي الذئب: أنا -بالرغم من جرسي- لست جَدياً أليفاً (معزى) من زرائب القهر، ولست من دواجن الإنسان، كأصدقائك من بني جنسك.

لا.. إنني تيس متمرِّد، تيس ساخط، جئت إلى الجبل لأنني لم أحتمل العبودية، ولهذا فإنّ قروني صارت ملطخة بالدماء، ولأنك سيدي تملك أنياباً، فأنا سالم لأنني نباتي أعيش في الطبيعة عادياً كما تعيش سعادتك بعيداً عن القانون، ولهذا أريد أن أتناقش معك بخصوص مستعمرَتك الجبلية.

في الجبل عشت، كما تعيش حضرتك، وفي الجبل صنعت بيتي ومزرعتي.

– وماذا تريد مني؟ أيها التيس الأحمق؟ – سألني الذئب.

– إذن.. أريد المُعاهدة مع سيادتك، سيدي الذئب، ولهذا جئت، كم تظن مقدار الربح الذي سنخرج به لو أننا أقمنا معاهدة؟

– وماذا تهديني؟

– نعجة بيضاء في كل أسبوع، ليست عنزة، تبدو لي وكأنها خيانة أن أبيع إخواني.

– وماذا تطلب؟

– السلام مع حضرتك، ومع أمثالك، مع الذين يمكن أن يخلصوني من هذا الجرس، الذي أخضعني، وقلَّل سطوتي، ومع جرس في الرقبة مَن يقبل أن يأخذني كي أصبح تيس المعركة؟

– وهل ستوفي الهدية.

– نعم سيدي الذئب -في الوقت المُفترض بالضبط- وفي الغد سأحضر لحضرتك الحمل الأول.

– إذن انزل من فوق الصخرة، لقد قبلت شروطك، وفي المساء سأحضر لك كل ذئاب الضواحي، وأعطيهم أمراً بأن يحترموك، إذا وفيت وامتثلت، أدنُ حتى أخلع لك هذا الجرس الذي تبدو به مضحكاً، وتظهر كما العبد.

– ونزلت من فوق الصخرة، ودخلت وكر الذئب، بينما قال لي في رصانة شديدة.

– لي سمعة سيئة، أنت تعرف ذلك، ولكن كلمة صادقة أقولها لك، كلمة واحدة من ذهب القانون.. «من هذه اللحظة نحن أصدقاء»، وصداقتنا يمكن أن تطول إلى نهاية الحياة، وإذا احتجت دفاعاً -في لحظةٍ ما- أو حمايةٍ ما، فليس أكثر من أن تأتي وتراني، ولكن لا تنسَ أنه إذا أردت أن تخونني أو تحاول خداعي، فلن تبقى أكثر من تأخر العصفور عن الغناء في الصباح.

– أمهلني الوقت الذي اتفقنا عليه سيدي الذئب، لن أنسى أبداً.

– من الأفضل لك أن تمشي الآن، شد رقبتك إلى الأمام كي أقطع لك صوت هذا الجرس.

– ولكن هل تطلق سراحي من بين أسنانك؟

– لا يا عزيزي، لأنه بأسنانك قلت لي كلاماً مغرياً، ولا أحب أن أكون أنا الذي يكسر المُعاهدة، اهدأ ولا تخف، سأفرج عنك من بين أظافري، فما زال الوقت طويلاً.

– الذئب قطع لي الجرس، وبعدها أعطاني ضربة ترشيح بيده، وقال لي:

– ابقَ مسلحاً يا فارس الجبل -الآن ورأسك مرفوعة، وذقنك في موضعها تماماً، بالفعل تستطيع أن تفخر بنفسك، تفخر بقائد التيوس المُتمرِّدين – ما اسمك؟

– روبرت اسمث وخبل الخامس.

– ممتاز تيس اسمث – إنّ حياة الغابة مناسبة لك، وكم سيحافظ عليك الذئاب لمدة طويلة.

– كلمات الذئب أثّرت في كثيراً، تلك الحياة النبيلة، المليئة بالزهو كانت هي التي تستهويني كثيراً.

شكراً جزيلا سيدي الذئب، وسعادتك ما اسمك؟

– اسمي «وولف»، أنا -أضاف الذئب، كما لو كان اعتذاراً- ولو أنني أقوم بعملية في كاستيه، فأنا مولود في الغابة السوداء(4).

رأيت في عيون الذئب لمعاناً مثل بريق الحنين.

(3)

معاهدتي مع الذئب كانت نتائجها رائعة، نحن الاثنين امتثلنا للعهد كنبلاء، وأنا أشعر بزيادة اعتباري بين الجميع مثل الرغوة، ليس بين العنزات اللائي يبعدن أميالاً عنا، واللائي يتغنين باسمي، واللائي يعتززن بإقداماتي ومعاركي، بل بين الحيوانات الجبلية نفسها، الذئاب، والثعالب، والسمور، الذين يحترمونني وينظرون إليّ بافتخار.

ووقتئذ تصادف إقامة معركتي الأولى، عندها صنعت شيئاً من البروباغندا، بين قطعان الحيوانات في وادي راما، وسومسييرا، وقمت بتوحيد بضعة وعشرين تيساً مختارين يمتازون بالشهامة والشجاعة، من الذين كانوا قد أطاعوني طاعةً عمياء، وكانوا لا يناقشون أوامري أبداً، ومعهم، مع هؤلاء -ما عدا اثنين منهم تركتهما بالقرب من الذئب «وولف» موكلين بالسهر على تنفيذ الإتاوة من النعاج- تفرّغت للنهب من (إيندلاينثيا) في (وادي الآخرة) إلى (كاندلاريو) في (سلامنكا) متبعاً خط الجبال.

وكوّنت ثراءً عظيماً، ولو أنه من كل الغنائم كان يجب عليّ أن أقاسم حاشيتي، ولكن لو أن تيوسي سلكوا سلوكاً صحيحاً، وغاية في البطولة، فكيف لا أكافئهم على سلوكهم هذا لجعلهم سعداء؟

في لوحة علم نفس السلطة مكتوب بحروف من ذهب، إنّ الحاكم لا ينبغي أن يبدو طامعاً.

ولكنني في ذلك الوقت كنت شاباً جداً، والشباب مفسدة، هذا ما جعلني أدفع الثمن غالياً، فقد أسكرتني السلطة، ولم تجعلني أتصرَّف بالشكل الجيّد، إذ أقدمت على معركة مع زوج من العسكر الأهليين، الاثنان كانا يعاملاننا بداية على أننا جماعة من الماعز الأليف، ولم يصيبانا بسوء أبداً، بل لم يعنيا بنا أصلاً، ولكن عندما بدأنا نزيح الغطاء، ونأخذ على عاتقنا عناء المُصادمة، جمعا الأسلحة، وأطلقا علينا أنواعاً من الذخيرة، ومن الجيد أن أقول لك إن ذلك كان ليلة (سان بارتولومي)، أي سرعة كانوا يطلقون بها النار؟ وأي هدف كان لهم؟

هذه كانت نهاية المباراة، لا أحب أن أذكر نفسي بأي مقدار كانت هزيمتنا موغلة في العمق، أصيلة في القاعدة، حتى إننا لم نستطع أن نسترجع جثث الموتى التي تبقت تحت سيطرة العدو، لقد كانت مقتلة عظيمة!

طليقاً كنت، لم يصبني أذى، -معجزة حقيقية- وحيداً، أحمل العار، ذهبت أجأر بالشكوى في عسكر الذئب «وولف»، أحببت أن أصبح عنزة أسطورية – شيئاً هكذا مثل عنزة (أمالتيا) التي أرضعت (جوبتر) – أغثني يا إلهي- كم كنت أحمق!

في هذه اللحظة أظن أنه قد بدا عليّ لمعان هذا الدم الذي يستحق التصوير، وتلك السوداوية التي كانت تتمتع بها السيدة «ترستيسا خبل الخامس»، التي وإنْ كانت أمي، تماماً، فأنا أعترف أيضاً أنها كانت عنزة مجنونة.

الذئب «وولف» عندما قصصت عليه هذه المُغامرة المُخزية، زجرني زجراً أبوياً، كما لو كان يعنف ابناً له أو أخاً صغيراً.

– ولكن أيها التيس الغبي، قال لي:

– بأي منطق استطعت أن تقدم على معركة مع الإنسان؟ وهو الحيوان الوحيد الذي يكسب دائماً؟

إنْ كنت أنا الذئب أترقبه دائماً كي لا ألاقيه، فكيف بك أنت أيها التيس المُضحك؟ تدخل معركة معه في أرضه؟

لقد أصبحت طليقاً بمعجزة -ابني الصغير- بمعجزة حقيقية، والآن تستطيع أن تشكر الله، وسينفعك هذا في أخذ الحيطة والحذر بعد ذلك.

الحرب لا ينبغي لها أن تكون أكثر من احتياجنا أو قدراتنا.

إنني ذئب شيخ، وبإمكاني أن أؤكد لك أنه ليس هناك عدوٌ صغير، تفكّر .. مَن يهجم على رجلين مسلحين بالبنادق؟

معركتك سخيفة للغاية، معركة بلا قضية وبلا قيمة.

ولكن هذا ما يمكن أن نقوله نحن الاثنين هنا، ولا ينبغي أن نحدّث به الآخرين، لأنه لا أحد سيفهم هذا، ولكن يجب أن يفكّروا -في الوقت الذي كنت فيه أحمق- أنك كنت تحقق بطولة، وأنك كنت بطلاً.

– شكراً سيدي الذئب -رددت عليه- أشكرك سيدي شكراً جزيلاً.

– العفو -يا عزيزي- ولكن عدني ألّا تكون مجنوناً بعد ذلك، وألّا تضع جهدك فيما لا طائل من ورائه.

– أعدك سيدي الذئب، أعد بذلك.

الذئب «وولف» حنا عليّ كثيراً، وأنا امتثلت له، كل الذئاب الذين تحالفوا معي لينون، عاطفيون، لهم محبتهم، وخفّة روحهم، كما أنهم ليسوا متوحشين -أبداً- كما يتصوَّر الآخرون.

(4)

ابتداءً من هزيمتي، عشت في سلام، وفي هدوء منزل الذئب أواناً طويلاً، دون أن أشغل بشيء أكثر من أن أستعيد قوتي، لأنه حتى إعطائه النعجة الأسبوعية كان من دائرة التيسين الوفيين، اللذين بقيا لي هناك بعد المعركة، واللذين كانا في أثناء وجود الفرقة التي كانت معي يقومان بالمأمورية العسكرية، بقرب عسكر الذئب «وولف».

ومع الهدوء، والإطعام حدّ التخمة، سريعاً سأشفى، وأرجع كما كنت، ولما لم أرد أن أكون ضيفاً ثقيلاً على الذئب، فقد طردت نفسي من عنده، لأصنع الحرب بطريقتي.

قاطع طريق في عزلة، وإنْ كان شيئاً ممتعاً، فنتيجته شاقة، وعرضة للأخطار.

تيس وحيد، صاعد، هابط للجبال فيما بعد ترف العيش والمُغامرات، لقد ابتعدت كثيراً قبل أن أصل إلى هذه الأخطار التي تترصد بي.

وفي ظهر يوم كنت في القيلولة في كهف صغير في حقل (بدرو برناردو) في قاعدة جبال جريدوس.

كنت بادياً لبعض العنزات اللائي يمشين في الوادي…

– مساء الخير -ألست (المعزى) اسمث، التيس المُتمرِّد، موضع فخر كل عنزات إسبانيا؟

– هذه المُعاملة ملأتني بالعزة.

– بلى، أنا هو، هل تردن شيئاً مني؟

تكلمت العنزات فيما بينهن برهة، وبرز جدي أشهب له منظر جميل من المجموعة.

– إذن -نعم- نريد أن نقول لك إنه يحزننا أن نراك وحيداً، بغير سلطة، نحب أن نقول لك أيضاً إننا شبعنا من العبودية، وإنك إذا أمرتنا فسنمضي معك إلى أي مكان تذهب بنا إليه.

في هذه اللحظة اكتشفت معركتي الثانية، المعركة التي وُلدت من أجل أن أقودها، فقط الله هو الذي فوق الكل، وهو الذي يستطيع معرفة ذلك.

ولكنني لا أستطيع أن أجعل تجار الدم يسمعون، إن الأبطال لا ينتمون لنا.

أعرف أنه في كل الصحف سعرٌ لرقبتي، وأنهم قد رتّبوا لمُطاردتي، وأسري، ولكن لا أحد يستطيع أن يظفر بي، لقد تعلّمت كثيراً.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – فضلت أن أترجم الاسم بمعناه وليس بلفظه، للإفادة من دلالته، كما يلاحظ أن اسم الابن في الإسبانية لا يُنسب إلى الأب وحده، ولكن يُنسب إلى الأب والأم معاً.
2 – فرسنديا دي لا أوليبا مقاطعة في مدريد.
3 – مَثل إسباني.
4 – الغابة السوداء مكان في ألمانيا، سُميت بذلك لأنّ الأشجار الكثيفة تحجب الضوءَ عنها.

الفلاسفة والمال.. هل حقَّق المُفكِّرون اتساقاً بين سلوكهم وما يكتبون؟

أندريه برتون

في كتاب فريد من نوعه، يواجه «هنري دي مونفاليي» النظريات التي جاء بها كبار الفلاسفة حول المال بحياتهم وجوانبها العملية. وهي دعوة لاكتشاف العلاقة التي كانت تربط هذه الأسماء الكبيرة بمحفظتهم المالية.

«هنري دي مونفاليي» أستاذ مبرز ودكتور في الفلسفة، يسهم في تنشيط جامعة شعبية في مدينة «إيسى لي مولينو» منذ عام 2018. وقد ألَّف العديد من الكتب منها «مدلسو الفلسفة Les imposteurs de la philo» سنة 2019، كما أصدر خلال السنة الجارية كتابه الأخير «محفظة الفلاسفة Le portefeuille des philosophes» عن دار النشر (Le Passeur Editeur).

أنت تبيِّن بأن الفلاسفة لا يتصرَّفون بالضرورة بشكلٍ منسجم مع نظرياتهم الفلسفية حين يتعلَّق الأمر بالمال. ماذا عن أفلاطون الذي كانت له في موضوع المال هذا أحكامٌ بالغة القسوة؟

– في الحقيقة، الفصل الأول من الكتاب كرسته بالكامل لأفلاطون لأنه، بسيره على نسق أفلام (الوسترن) في المُعارضة بين سقراط الطيب والشرسين والقبيحين الذين هم السفسطائيون، ساهم إلى حدٍّ كبير في تأسيس الفكرة القائلة بأن الفيلسوف لابدّ أن يحتقر المال وأن الفلسفة ممارسة نقية، مجانية وغير مغرضة لا يُرتضَى لها أن تهدف سوى إلى الحقيقة وعلاج الروح. فإذا كان لفظ «سفسطائي»، ما زال إلى اليوم يعكس معنى سلبياً ويقصد به غياب الفكر أو الدفاع عن قضايا لا يمكن الدفاع عنها (الإنسان كمقياس لكلّ شيء، وإطلاق العنان للرغبات بلا حدود، والعنف ضد العقل، وما إلى ذلك)، فمردُّ هذا كلّه إلى الرؤية التي أسّسها أفلاطون.

ونحن نميل إلى الأخذ بهذه الرؤية المانوية على الرغم من وجود فكر سفسطائي حقيقي (وقد ألَّفت جاكلين دي روميلي كتاباً عن هذا الموضوع). وفيما يتعلَّق بمسألة المال، يُؤاخِذ أفلاطون على السفسطائيين تلقيهم رواتب مقابل الدروس التي يقدِّمونها في حين أن سقراط كان يقدِّم دروسه بسخاء وبالمجان (ولكن من أين كان يأتي بقوت يومه؟ أفلاطون لا يتكلَّم عن ذلك).

هنا بالذات يجب علينا أن نستعين بالسِّيَر وعلم الاجتماع. فأفلاطون ينحدر من عائلة أرستقراطية كبيرة من أثينا، حيث يمتدُّ نسبه عبر الشجرة العائلية لوالدته، إلى سولون، مؤسّس الديموقراطية الأثينية. في الواقع، لم يكن مضطراً للعمل في يوم من الأيام، ويتيح لنا ذلك أن نفهم بشكلٍ أفضل ما يسمّيه «بيير بورديو» في تأمُّلات باسكال العلاقة «المدرسية» بعالم أفلاطون، أي علاقة تأمُّلية بحتة، حرّة ومتحرّرة من أي إلحاح عملي.

أمّا السفسطائيون فينحدرون من الطبقة الوسطى ويحتاجون إلى كسب لقمة العيش: معلِّمو وأساتذة الفلسفة الحاليون ينتمون إلى التقاليد السفسطائية أكثر من انتمائهم إلى التراث السقراطي أو الأفلاطوني بهذا المعنى. ولكن، عندما ننظر إلى مراسلات أفلاطون (ولا يزال لدينا بعضٌ منها)، وخاصة الرسالة الثالثة عشرة، ندرك، والأمر يبعث على الضحك، أن هذا الأخير، الذي ينعت السفسطائيين بأشنع الصفات كونهم لا يتحفَّزون، حسب اعتقاده، إلّا لغواية الربح، لم يتردَّد، عندما كان يتواجد بصقلية في سنة 367 قبل الميلاد، في طلب المال من الطاغية «ديونيسيوس الأصغر» ولا في تقديم المشورة له في أمور تتعلَّق بالإدارة السياسية…

ماذا عن «سينيكا» الذي كانت توجَّه إليه انتقادات بسبب ثروته التي تتعارض مع كتاباته؟

– يمثِّل «سينيكا» أيضاً حالة بارزة في هذا الباب. فهو من ناحية، لم يكن أبداً يكف عن احتقار المال بشكلٍ علني في كتاباته، وعن الدعوة إلى الانفصال عنه، وهو يوصي بالقناعة، بل وحتى بالفقر (حيث يذهب إلى حدّ اتخاذ مذهب الحد الأدنى لديوجين الساخر كنموذج له). ومن ناحية أخرى فهو كان واحداً من أغنى أغنياء زمنه لأنه كان يملك رابع أكبر ثروة في روما في عصره: (300 مليون سيسترس – sesterces)، كما يخبرنا بذلك المُؤرِّخ تاسيتوس، أي ما يعادل (228 مليون يورو) اليوم، وبذلك كان لا محالة سينضم إلى ثلّة الأغنياء الذين نقرأ أسماءهم في الترتيب السنوي الذي تصدره المجلة الاقتصادية «Challenges».

وكان «سينيكا» أيضاً مرابياً شرساً أشعل ثورة في منطقة بريتاني للحصول على قرض بالفائدة تأخَّر المدينون في سداده له. إذ نقرأ في تاريخ الرومان لصاحبه «ديون كاسيوس» أن مؤلِّف حوار «هدوء الروح» قد «أقرض البريتانيين أربعين مليون سيسترس، على أمل أن يُحصِّل منهم فوائد مرتفعة، ثمَّ طالبهم بالدفع الفوري مع اتخاذه لتدابير عنيفة»… في العصور القديمة، كان يتمُّ التأكيد على أن الفيلسوف يجب أن يحيا حياةً منسجمة مع كتاباته. ونحن نرى أن في حالة «سينيكا» أن هذا الأمر يبقى إشكالياً للغاية.

وفيما يتعلَّق بـ «كانط»، ماذا يمكن أن يُقال عن العلاقة بين فكره الفلسفي وموقفه تجاه المال في حياته اليومية؟

– في الفقرة (85) من مؤلَّفه «الأنثروبولوجيا»، ومن وجهة نظر براغماتية، ينتقد «كانط» الجشع، ويمكن القول بأن ممارسته كانت منسجمة مع نظريته. لقد كان على الدوام كريماً مع المُحيطين به. ففي الوقت الذي كان يمتهن ما كان يسمَّى في ذلك الوقت «Privatdozent»، أي أستاذاً في الجامعة يتلقى راتبه من طلابه مباشرة، فإنه قد سمح لـ«فازيانسكي Wasianski»، واحد من كتبته المُستقبليين، والذي كان أيضاً القائم على تنفيذ وصيته، والذي ترك لنا ذكرياته عن مؤلّف كتاب «نقد العقل الخالص»، بمتابعة محاضراته مجاناً.

وكان «كانط» أيضاً يجزل العطاء لخادمه، «مارتن لامبي Martin Lampe»، لدرجة أن هذا الأخير كان، في نهاية حياته، ينعم براحة مادية تفوق تلك التي توفَّرت لـ«كانط» نفسه! وحتى بعد فصله في ظروف عاصفة، دفع له معاشاً سنوياً مدى الحياة. مع أنه لم يكن مكرها على القيام بذلك. وبالمثل، منح «كانط» معاشاً تقاعدياً لأخته الصغرى التي كانت تشغل سريراً في دار العجزة وكان يرفع المبلغ الذي يدفعه لها بشكلٍ مطرد. كما أنه ساعد ابنها المُحتاج أيضاً. لذلك كان «كانط» أخلاقياً في هذا المجال ويتصرَّف وفق ما تمليه عليه فلسفته: كان دائماً يعتبر المال وسيلةً لا غاية.

لقد كان «سارتر» يموِّل العديد من معارفه: حيث يدفع عنهم الضرائب والاستشارات الطبية والإيجارات، إلخ. إذا نظرنا إلى ما يوجد وراء هذا الكرم، ألم تكن تلك طريقة لجعل الآخرين يعتمدون عليه؟ كيف كانت رؤيته للمال؟

– كان «سارتر» كريماً جدّاً، بشكلٍ يكاد يكون مرضياً. كان يسحب دفتر شيكاته حتى قبل أن يطلب إليه ذلك! وفي نهاية حياته، كما جاء ذلك في مذكرات «سيمون دي بوفوار»، ولكثرة ما كان يوزّع أمواله هنا وهناك دون حساب، فهو لم يعد يملك حتى ما يكفي لشراء زوج من الأحذية!

وأعتقد أن هذا الكرم المُفرط، وهذا الازدراء للمال الذي بدأ يظهره (منذ اللحظة التي كسب فيها الكثير من المال بفضل نجاح كتابه الموجز «الوجودية مذهب إنساني») يرتبط بكراهيته المُتجذِّرة للعالم البرجوازي التي شكَّلت بوصلة حياته. فـ«سارتر» كان يدعو إلى أخلاقيات الإنفاق المُفرط ضد فكرة التدبير البرجوازية، أو ما يُصطلَح عليه بسياسة «الأب الصالح» الذي يولي اهتماماً كبيراً للعلاقة بين الدخل والإنفاق.

جان بول سارتر

هل كانت تلك طريقة لجعل الآخرين يعتمدون عليه ويرتهنون به؟ في الواقع، نعم. ولكنها أيضاً وسيلة لجعل الآخرين أكثر حرّيّة، ولتعظيم ممكناتهم التي تضاءلت بسبب الإحراج المالي: وبهذا المعنى، فإن المُمارسة المالية السارترية، مهما كانت مفرطة، تتماشى مع رؤيته الإطلاقية (والتي تبقى في رأيي موضع خلافٍ كبير، ولكن هذا نقاش آخر) لمسألة الحرّيّة.

يبدو أن اهتمام العديد من الفلاسفة بموضوعة المال يزداد في الوقت الذي يزداد افتقارهم إليه. هل علاقتنا بالمال مشروطة بوضعنا المادي؟

– نعم، وكما يقول «باسكال بروكنر» في كتابه «حكمة المال» (2016)، فإن حديث المرء عن المال لا يعدو في مطلق الأحوال أن يكون حديثه عن نفسه. وأنا مثلاً أعلن عن راتبي الخاص في نهاية الكتاب لكي أبيِّن وضعي الشخصي! ولكن يمكننا أن نهتم بالمال ونفكِّر في العلاقة التي يمكن ويجب على الفلاسفة أن يكونوها معه دون أن نكون بالضرورة في حالة احتياج (لنتذكَّر مثالي أفلاطون وسينيكا اللذين تحدَّثنا عنهما). هناك أيضاً فلاسفة لم يتحدَّثوا عن المال رغم فقرهم، على غرار «هيغل» الذي عانى من الحاجة على امتداد فترة طويلة من حياته، ولم يتطرَّق للموضوع في أعماله المنشورة (باستثناء بعض المقاطع العامة جدّاً والمُجردة في كتابه «مبادئ فلسفة القانون»).

يقول «شوبنهاور»: «قبل كلّ شيء، هناك نوعان من الكُتَّاب: أولئك الذين يكتبون ليقولوا شيئاً، وأولئك الذين يكتبون من أجل الكتابة فقط»، أي لكسب المال. هل يجب بالضرورة تحرير الكتابة من أيةّ قيود مالية للحصول على القيمة؟ ألا يمكن التوفيق بين الكتابة الجيّدة والربح؟

– من الصعب التعميم بشأن هذه المسألة. فقد كان «شوبنهاور» نفسه يتقاضى معاشاً سنوياً وتمكَّن من كتابة ما يريد دون أن يبقى رهيناً بنجاح كتبه (التي لم تكن تُباع إلّا قليلاً جدّاً في حياته). إذا كنت ترغب في بيع كتبك، فالأسهل أن تستجيب لرغبات القُرَّاء وتقترح نظرية صغيرة من النظريات المُتداولة حول السعادة أو أي من هذه الكتب التي لا أعرف كيف يسمّونها (Feel good book) أو ما شابه ذلك. وأمثال هذه الكتب نرى في كلّ أسبوع نماذج جديدة منها على طاولة المُستجدات في المكتبات. ذلك أسهل من القول بأن حياتنا بلا معنى وأننا سائرون إلى العدم واليباب لا محالة. مثل هذا القول لا يساعد على بيع الكتب.

وفي الواقع، الكتب التي لها شأن حقيقي في الفلسفة لا تلاقي في الغالب رواجاً في حياة مؤلِّفيها. فقد استغرق الأمر خمس سنوات قبل أن تنفد النسخ الألف من الطبعة الأولى من كتاب «رأس المال» لـ«كارل ماركس». وهو الكتاب الذي سيصبح، بعد مرور قرن من الزمان، في قلب الخلافات الأيديولوجية خلال القرن العشرين. وفي الأدب، كان «فلوبير وبروست» غير خاضعيْن لأيّة قيود مالية ولم يكن كلاهما ينتظر الحصول على حقوق الطبع والنشر لدفع الإيجار. ومع ذلك، هناك استثناءات في هذا الاتجاه: فالكاتب «سيمونون»، الذي تمَّ ضم أعماله قبل بضع سنوات إلى مجموعة الـ«بليياد – Pléiade» المرموقة، باع ملايين النسخ في حياته، وحقَّق ثروة طائلة. لقد كان كاتباً شعبياً بسمك أدبي، وأيضاً فلسفي، وقد أُخصص في يومٍ من الأيام كتاباً آخر للحديث عنه.

ممّا جاء في كتابك حول ماركس: «لا شكّ في أننا يجب أن نبحث عن جذور ثورة ماركس على الظلم الاجتماعي والاستغلال والبؤس في محفظته ومعدته الخاويتين». هل أفكارنا انعكاس لحالتنا المادية لا غير؟

– في خمسينيات القرن التاسع عشر، أثناء وجوده في لندن، واجه ماركس صعوبات مادية ومالية كبيرة، سرد تفاصيلها في رسائله إلى «إنجلز». فقد كان هو وأسرته يعانون من الجوع والمرض حتى أن أحد أطفاله (وكان يدعى إدغار) مات من نقص التغذية خلال هذه الفترة: إن الأمر يشبه حقّاً أجواء رواية «Germinal» لـ«إميل زولا». وفي عام 1864، وافقت والدته أخيراً على منحه حصته من الميراث بعد أن ظلّت ترفض ذلك لسنواتٍ عديدة، ممّا خفَّف من ضائقته المالية. وخلال هذه الفترة بالذات بدأ بالاشتغال على كتابه «رأس المال» الذي صدر الجزء الأول منه في عام 1867.

أودُّ أن أؤكِّد على هذه النقطة، لأن الكثيرين يسخرون من ماركس بالقول إنه برجوازي لم يشتغل قط ولم يلتق البروليتاريا إلّا في المكتبات. هذا صحيح. لكنه مع ذلك شهد، خلال هذه الفترة، ظروفاً معيشية مادية صعبة للغاية يمكن أن تقرّبه من معاناة البروليتاريا في عصره وتوجِّه أيضاً تفكيره في مسألة المال والعمل والاستغلال كما نجده في الجزء الأول من كتاب «رأس المال».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أوجيني بوالي

العنوان الأصلي والمصدر:

les philosophes et l’argent: les penseurs ont-ils mis en cohérence leurs écrits et leur comportement?

https://www.lefigaro.fr/vox/culture/les-philosophes-et-l-argent-les-penseurs-ont-ils-mis-en-coherence-leurs-ecrits-et-leur-comportement-20210827

القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة

يحدث، أحياناً، أن تتَّسم العلاقة بين الكاتب المبدع والنقّاد، بكثير من التوتُّر، خاصّةً حين يكون مصدره سوءَ فهم شنيعاً، أو تحيُّزاً مسبقاً للقناعات الشخصية. ويعتبر أحمد الصفريوي، وهو أديب مغربي يكتب بالفرنسية (1915 – 2004)، مثالاً دالّاً على هذا الوضع؛ فقد انبرى معظم النقّاد لشخصه الوديع، باللوم والتأنيب، بدعوى «هروبيَّته» و«استقالته من الواقع»، و«الانشداه بالماضي»، وكذا لمحكيّاته الجميلة بالقدح والتثريب، بزعم أنها أدب « إثنوغرافي» و«فولكلوري» و«إغرابي».

وبالبداهة، كان لهذا التأويل المغرض أثر الجرح في وجدان أحمد الصفريوي الذي أبى، مع ذلك، إلّا أن يظلّ، في نصوصه، وفيّاً لعقيدته الأدبية، والجمالية، وهي أن ينذر نفسه، بتفانٍ وإخلاص، لتصوير المجتمع المغربي من جهة تشبُّثه، خاصّة، بالتقاليد المحلِّيّة، والطقوس الاحتفالية العريقة، وتعلُّقه بالقيم الأخلاقية السلفية؛ وهوما يجعله، في نظري، منتمياً لفصيلة أولئك الكُتّاب (الآيلين إلى الانقراض، هذا إذا لم يكونوا قد انقرضوا فعلاً) ذوي النزعة الإنسية (humaniste) بالمعنى القويّ للكلمة؛ أعني تلك التي تقوم على الاعتراف المبدئي والمطلق بإنسانية الإنسان، أي بما هو أصلي وأصيل فيه؛ فمحكيّاته كلّها تتغنّى بقيم المودّة والوفاء ونكران الذات ومحبّة الآخر والتكافل والتسامح والكفاف والبساطة والتلقائية والإيمان بالقدر والتديُّن غير المتطرِّف والتفاؤل ورؤية جوانب الخير والجمال في الأشياء؛ وذلك على خلفية كلّ ما هو عتيق ونبيل وشاعري في مدينة فاس التاريخية، مسقط قلبه.

قلتُ له، ذات زيارة له في بيته، بعد أن عبّرَ لي عن تبرُّمه من التلقّي النقدي لنصوصه:

اتَّهمك النقّاد ظلماً بالرؤية الإثنوغرافية للواقع المغربي، والحال أننا لانعدم روائيِّين مغاربة، يكتبون بالعربية، وبالفرنسية، تناولوا، في نصوصهم، ما يتفرَّد به المجتمع الفاسي، والمغربي، من عادات وتقاليد تتعلَّق بالشعائر الدينية، وبطقوس الولادة والختان والزواج ودفن الموتى، وبطرق الأكل واللباس، وبحكايات النساء الحميمة على سطوح المنازل، وفي الحمّامات التقليدية..، وغيرها. ومع ذلك….

فقاطعني بنبرة استياء واحتجاج:

«ومع ذلك، لا توصف نصوصهم بالإثنوغرافية؛ لأنها، بكلّ بساطة، لا ترقى إلى مستوى هذه القيمة السامية. اسمع: إذا كانت الإثنوغرافية تعني تصوير عادات الناس البسطاء الطيِّبين، والاهتمام بالتقاليد المحلِّيّة، وتأبيد آثار الماضي المشعّة في الحاضر، فأنا أجهر بعقيدتي الإثنوغرافية، ولا أخجل، إطلاقاً، من كون نصوصي إثنوغرافية».

أمّا أنا، فأقول إن أحمد الصفريوي يكفيه فخراً أنه أسهم في صيانة جزء من التاريخ المغربي، ومن المخيال المحلّي، وفي حفظ الذاكرة الشعبية من الامّحاء، حتى ولو كان فَعَل هذا بلغة أجنبية.

كم يغريني أن أشبّه كاتبنا بذلك الشاعر المتصوّف الحكيم، المتشرِّد والملغِز، الذي خصّه بحكاية جميلة تُلمّح أكثر ممّا تصرّح، وهي الحكاية التي قمتُ، شخصياً، بترجمتها بمتعة فائقة. في ما يلي نصّ الترجمة:

 

القاضي والمتشرِّد

 

«القاضي الحاجّ حمّاد يتذكَّر هذا جيّداً : حين جاءت الخادمة التي عنده لتخبره بأن متشرِّداً أشعث الشعر ورثيث الثياب ينتظره بالباب، كانت دادا مسعودة عاكفة على تحضير قصعة «العصيدة» احتفاءً بذكرى مولد النبي.

كان اليوم، إذن، يوم عيد المولد، وكانت العادة، في مثل هذا اليوم، أن يفطر الناس في الصباح الباكر، فيحتسون «العصيدة» بواسطة ملاعق خشبية يغمسونها في صحن من الخزف الصيني يطفح بـ «السميدة» المخلوطة بعسل داكن عَطِرِ الرائحة.

وقد خاطب الحاج حمّاد خادمته الزهرة، قائلاً لها إنه لا يعرف أيّ متشرِّد، ولا يرغب في معرفة واحد من فصيلة الناس هؤلاء، لكنها أجابته بأن مَنْ ينتظره بالباب لا شبه له، إطلاقاً، بأولئك المتسوِّلين المألوفين، وبأن النور يسطع من وجهه.

لكِ خيال جيّاش، قال لها.

ثم توجَّه نحو الباب، يحدوه في ذلك بعض الفضول، وخاصّةً رغبته، في يوم العيد هذا، في عدم معاكسة خادمته الصغيرة التي كان يعاملها معاملة ابنته، فوجد الرجل واقفاً مستنداً إلى الحائط المبنيّ بالآجر. كان طويل القامة، تشعّ عيناه بجمال فتّان، وتوحي هيأته، على رغم أسماله وآثار التعب في وجهه، بعزّة النفس والوقار. فإذا بالقاضي يتساءل مبهوتاً: هل هو في حضرة سلطان خرافيّ متنكِّر في هيئة متسوِّل انبعث، فجأةً، من أعماق زمان غابر، وأقبل إليه لينعم عليه بالمال والجاه؟

وقبل أن يفتح المتشرِّد فمه، بادره الحاجّ حمّاد القول :

– مولاي، الدار دارك، هلّا تفضَّلت بالدخول. ستأكل إذا كنت جوعان، وستشرب إذا كنت عطشان. نزِّلْني منزلة أخيك، ولا تتصرَّف في داري تصرُّف الغريب.

– إذا كنتُ طرقتُ بابك، فلأن يداً خيِّرة اقتادتني إليك. أشعر بأن ما قلتَه، قبل حين، لا لياقة فيه، ولا مجاملة. أجل، سأدخل، أ الحاجّ حمّاد، هيّا بنا، قدّم لنا «العصيدة» بالعسل حتى نحتفل معاً بالحدث الأعظم؛ مولدِ خير البشر، وأجمل نور في الكون.

ثم اتَّجه الرجلان نحو قاعة الاستقبال، وجلسا على أريكتَيْن فاخرتَيْن مكسوّتَيْن بالحرير، وتبادلا، في أثناء الأكل، أطراف الحديث على ضوء نور خافت، كرفيقَيْن متوادَّيْن عركتهما تصاريف الدهر، وخبِرا بني آدم، وأفراحهم وأتراحهم. ولمّا أنهيا الأكل، اقترح القاضي على ضيفه، بلين وتأدُّب، أن يقيم في غرفة بمؤخَّر الحديقة، حيث يمكنه، بحرّية، وبدون كلفة، أن يصلّي أو يستريح، وهو ما وافقه عليه، دونما اعتراض أو تحفُّظ.

في إثر ذلك، خرج الحاجّ حمّاد لملاقاة أصحابه وأصدقائه الاعتياديِّين، لكنه لم يخبرهم بما حدث. وفي المساء، وبعد صلاة العشاء، عاد إلى داره، حيث استفسر خدّامه عن أحوال ضيفه، فأخبروه بأنه لم يغادر الغرفة طيلة اليوم، ولم يطلب طعاماً أو شراباً. فظنّ الحاجّ حمّاد أن ضيفه، ربّما يكون آثر أن ينام ليستريح، ويستعيد عافيته، فقصد غرفة الحديقة ليوقظه، ويعرض عليه أن يشاركه طعام العشاء؛ عسى ذلك أن يخفِّف تعبه، فوجد الرجل متمدِّداً فوق الفراش، متسربلاً بقميص أبيض، طويل ومرقَّع، لكنه نظيف، فبادر في عتبة الباب إلى تحيَّته بما يقتضيه الأدب:

السلام عليكم. فردَّ عليه:

وعليكم السلام. أنا عاجز عن القيام لاستقبالك، أيُّها الأخ الكريم، فمعذرة. لقد مشيت مدّة طويلة لأجل ملاقاتك، لكنني لم أكن أتصوَّر أن موتي مقدّر عليّ في ضيافتك. أنا، الآن، موقن بذلك. أترجّاك، إذن، أن تلبّي لي رغبة أخيرة: أحضِرْ لي أوراقاً بيضاء ومداداً وريشات للكتابة،فأنا حريص على أن أترك لك تذكاراً يكون بمنزلة تعبير مني عن سعادتي بالتعرُّف إليك..

فقاطعه الحاج حمّاد:

ماذا تقول، يا مولاي؟ دعك من الكلام عن الموت، لعلَّ برد الليالي، في أثناء ترحالك، قد جمَّد الدم في عروقك، وهذا يوجعك الآن، أو لعلَّ جسدك في حاجة إلى الراحة وإلى أطعمة مقوِّية. سأطلب إحضار طبيب ليلطِّف آلامك.

لا داعي لذلك أ الحاج حمّاد، فأنا لا أتألَّم. لست مريضاً. كلّ ما في الأمر أن أجَلي قد حان. أحْضِر لي الأوراق والمداد والريشات، وستعرف سبب رحلتي إليك، ومعناها، والغاية منها. هيّا، أ الحاج حمّاد، نفِّذ طلبي بسرعة. أحسُّ أن جسدي سيسلم روحه لبارئها.

أرخى القاضي عينيه في استسلام، ينظر إلى الأرض متنهِّداً، ثم قصد دولاباً أخرج منه حزمة أوراق، ودواة، وريشات من قصب، ثم وضعها بين يدي الرجل المحتضر، وقبل أن ينصرف، سأله إن كان يريد أن يأكل أو يشرب، فأجابه بالرفض، راغباً، فقط، في كمِّية كبيرة من الشموع، وبعد أن زوَّده بها، ودّعه، والتحق بأهله.

وفي صباح الغد، زار الحاج حمّاد ضيفه باكراً، متمنِّياً له يوماً سعيداً ومستفسراً عن حاله. وبكثير من الجهد، أجابه بطيف ابتسامة، مؤكِّداً له أن ما بقي له من قوّة سيكفيه، بعون الله، لإنهاء ما تعاهد مع نفسه على إنجازه. كان مظهره يوحي بالدعة والهدوء وهو منهمك في الكتابة، رافعاً ركبته، مسنداً ظهره إلى مخدّات، وبجانبه كانت أوراق كثيرة متراكمة مكتوبة بخطّ أنيق. ومرّةً أخرى، امتنع عن الأكل والشرب.

وفي المساء، عاد القاضي إلى زيارته. كانت الأوراق تتكدَّس فوق الأوراق من غير أن يبارح الرجل فراشه.

وفي اليوم الثالث، وقبل أن يلتحق الحاجّ حمّاد بأهله، عرّج جهة الحديقة، فكان أن لفت انتباهه استغراق الغرفة في ظلام مطبق. حيَّره الأمر، ثم بدأ ينادي، مرّةً تلو الأخرى: مولاي! يا مولاي! لكن الصمت كان وحده ما يجيب، فأسرع لإحضار فانوس، واقتحم الغرفة. كانت آخر شمعة قد انطفأت، بعد أن انقضت ذبالتها في مشكاة نحاسية، وأكداس الأوراق متناثرة على الأرض، غير بعيد عن الفراش، حيث كان الرجل مضطجعاً على ظهره، فاغر العينين، مرتخية قسمات وجهه. فاقترب منه، وحقَّق النظر فيه مليّاً قبل أن يطبق جفنيه بحركة في منتهى الرقّة واللطف، ثم تربَّع مباشرةً على الأرض، وشرع في تلاوة سورة من القرآن».

***

قل لنا، أ الحاجّ حمّاد: ما اسم هذا الرجل؟، وما مصير مخطوطه؟، وهل هو صالح للنشر؟

أبداً، لم أسأل ضيف الأيّام الثلاثة عن اسمه. أمّا المخطوط الذي ملّكني إيّاه، فمعظمه أضرمتُ فيه النار في لحظة تهوّر واستخفاف، حيث لم أحتفظ منه إلا بهذا النزر اليسير. هاؤم، اقرأوا أوراقه:

يا صِحابي..

أضع بين أيديكم عصارة تجربتي الطويلة والمؤلمة في الحياة، فلا تتخذنّها هزؤاً. انظروا إليها نظرة رفق ورأفة. تعرفون كم أنا فقير، ومع ذلك أمنحكم الكثير. فهلاّ تتقبّلون هبّة قلبٍ بسيط رهيف، قلب مفعم بالمحبّة والإخاء، فلا تُعرضوا عنه بابتسامة سخرية.

مأوايَ الطيني البارد يتَّسع لاستقبالكم، أدعوكم ليلاً إلى الروابي، لتشاركوني رؤاي وهَلْوساتي. تعالوا أنّى شئتم لنتسكَّع معاً في دروبي العتيقة، ولا تنسوا أن تأخذوا ملء أيديكم، باقات صور. إذا كنتم يائسين أو مكتئبين، فسأعلّمكم أناشيد تحبّب الحياة إليكم، وتشيع البهجة في أنفسكم.

يا صِحابي..

نحن نتكلَّم اللّغة نفسها، أليس كذلك؟ فلننسَ أرذل العمر، ولنعد إلى لهونا ومرحنا. أوصيكم بإدمان الضحك. ليس في نيَّتي أن أعِظكم. حسبي أني أستعذب مخاطبتكم. فما أحلى أن يتكلَّم المرء مع أصدقائه في أوقات الشدّة والوحدة. قولوا عني إني ثرثار، قولوا عني إني كسلان، انعتوني بالبلَه أو بالهبل، فلن يهمَّني كلّ هذا. أمّا أنا، فلن أفصح عن رأيي فيكم. لن أدينكم. أنا، كما أنتم، غير معصوم من التناقض والخطأ. خليط أنا من الغرور والأنانية… ألم يُخلق الإنسان ضعيفاً؟ لكني، كما أنتم، أتطلَّع إلى الحقيقة، وأصبو، كما أنتم، إلى المحبّة والتسامح. نحن جميعاً مدعوّون إلى الوليمة نفسها. لنأكل من الصحن نفسه، ولنشرب من القدح نفسه. لا تبعدوني عنكم كما لو كنت مصاباً بالطاعون.

إن من لا يخدم عشيرته لا يمكنه إلّا أن يسيء إليها. لكن، مَن يخدم مَن؟ بل ما معنى أن تخدم أحداً؟ لماذا إكراه الشاعر على أن يهتمّ بعالم يرفضه؟ إن تمجيد الغباوة ليس، أبداً، ديدنه.

كثيراً ما تقولون لنا، نحن -زمرة الشعراء-: تكلَّموا بلغة نستطيع فهمها، أو أمسكوا عن الكلام ! أمّا أنا، فأقول لكم : مهما تحاولوا عن الكلام ردعي، فما أنا بصامت! افهموا بأنفسكم، إن كنتم ترغبون في ذلك، وإلّا فلديكم ما شاء الله من فقهاء اللّغة والأساتذة والمنظّرين والجغرافيِّين والمؤرِّخين والعلماء ليساعدوكم على الفهم.

لا شيء عندي أعلّمكم إيّاه. أنا نفسي لا أعرف شيئاً. تتحدَّثون عن الحرّيّة ! كونوا معي أسخياء، وامنحوني حرّيّة أن أحلم، وأن أغنّي في أوقات فراغي. امنحوني حرّيّة أن أتدبَّر ذاتي كما أشاء، لأكون كما أشاء. امنحوني -باختصار- حرّيّة أن أحقِّق فرحي الأسمى.

لن أحكي لكم ما رأيته بأمّ عيني، وأنتم لم تبوحوا لي بأيّة أسرار. إن عالم الكلمات هو عالمي، فالكلمات أدوات عملي. إنها موادّ حيّة، جواهر جوهرية. حاجتي ماسّة إلى كلمات تطفح بالشمس والألوان. تارةً، أنا موسيقيّ، وتارةً رسّام، لكن العالم الذي أترنَّم به، وأرسمه ليس عالمكم. بحثتُ عنه في الواقع، فوجدته في أحلامي.

كيف يمكن لي أن أسيء إلى عشيرتي؟ هي تملك السلطة… دمغتْ جسدي بالنار… قيَّدتْ اسمي في سجلّاتها الكبيرة… أمرتني بالطاعة… فانبطحتُ أمام أعيانها من أجل قسط من الراحة.. وكلّ يوم أقتل بعضاً من كياني؛ تلبيةً لنداء الواجب المقيت. فليكن. أنا راض بما يمليه عليّ قانون العشيرة. لا أتمرَّد، ولا أصرخ. إذا كنت لا أستحقّ أن آكل من الكعكة، فلن أمدّ إليها يدي، وإذا كان ماء هذه العين محبّساً على حلقوم ما، محظوظ، فلن يتطاول عليه فمي.

كلوا واشربوا -يا أصحابي- هنيئاً مريئاً، فخيرات الدنيا كلّها ملككم. عندكم شعراء ليخلّدوا مناقبكم، ويتغنّوا بلوعات الشوق في قلوبكم، ويُثنوا على آلهتكم. لديكم بهاليل يُنسُونكم ملل الاحتفالات الرسمية وقساوة الطقوس الدينية. تتفرَّجون على هرجهم الذي يستثير الضحك، وعلى مرجهم الذي يستدرّ الشفقة.

أيا صِحابي..

نهبتموني، ولمّا ينضب جشعكم. ماذا يهمّني أن أكون فقيراً؟ دعوني أخفِّف أحزاني. دعوني أغنِّ على مقام الألحان الذي يعجبني. اتركوا لي حرّيّة أن أختار موضوعات قصائدي. لا تنصتوا إلى أهازيجي، إن كانت لا تطربكم. وإذا شنَّفت إحداها آذانكم، فأنا أعرف ما ستقولونه، ستقولون: « إنه صوت شاعر آخر يدّعيه لنفسه». لا، صدِّقوني. فالصوت الذي تكونون قد استمعتم إليه، هو ما حباني الله -تعالى- إيّاه، فشكراً على نعمه.

كنت أصبحت غصناً ميِّتاً تذروه ريح الخريف، فشكراً لك، يا مولاي، على أن أرجعت لي غنائي. أحسّ برياح لواقح تسري في عروقي. يُخيَّل إليّ أن براعم تنبت، ببطء، في جسدي، وتوشك أن تتفتَّح عن أزاهير. ها قد عادت الشمس بعد طول انكساف عن كياني، طوال سباتي. هي ذي أشعَّتها تنعشني، كالسهام تخترقني، الدفء تبثّه في أعضائي، فترقص لها فرحاً روحي. فيا لروعة الفتنة التي تنبعث من هذا الضياء!

إلهي، كم يخيفني البرد والليل! ملكوتك يدعوني، الآن، إليه. لا وقت لي للحقد، ولا اقتدار لي على الخصام».

***

أخبِرنا، أ الحاج حمّاد، بما تلمّح إليه هذه الأوراق…

لا أعرف، لا أعرف، ثم ماذا عساها أن تلمّح إليه من معانٍ؟ حسْبُها أنها رسالة من صديق ائتمنني عليها.

مواطنو العالم..قراءة الأدب مابعد الكولونيالي

شهد القرن الماضي ازدهاراً غير مسبوق في الرواية، والشعر، والدراما، في بلدانٍ كانت مستعمرات بريطانية سابقة؛ الأمر الذي نتج عنه تغيّرٌ في خارطة الأدب الإنجليزي.

يستكشف كتاب «مقدّمة كامبردج في الآداب مابعد الكولونيالية Cambridge Introduction to Postcolonial Literatures» الذي ألّفته البروفسورة «لين إينيس Lyn Innes» – وهي أستاذة مميَّزة في ميدان اختصاصها – مدًى واسعاً من الكتابات مابعد الكولونياليّة من مناطق مختلفة ناطقة بالإنجليزية، منها إفريقيا، وأستراليا،والمنطقة الكاريبيّة، والهند، وإيرلندا، وبريطانيا. تقارن «إينيس» بين الطرق التي استخدمها الكُتّاب في تشكيل الهويّات الجمعية المشتركة، كما تسائلُ القيَم والتمثُّلات الخاصّة بشعوب الأمم المستقلّة التي كانت خاضعة للهيمنة الكولونيالية البريطانية.

وُلِدَت «لين إينيس» في أستراليا، وتخرَّجت في «جامعة سيدني» قبل أن تمضي اثنتي عشرة سنة في الولايات المتَّحدة الأميركية طالبة دراساتٍ عليا، ومحاضِرة جامعية، وقد أكملت أطروحتها الجامعية للدكتوراه في «جامعة كورنيل» عن (الهويّة الوطنية الثقافية السوداء، والإيرلندية)، ثم مارست التدريس في «جامعة ماساتشوستس – أمهرست»، حيث كان الروائي النايجيري «تشينوا أتشيبي» يعمل أستاذاً للآداب الإفريقية هناك، ثم أصبحت محرّرة مشاركة في مجلّة «OKIKE»، وهي مجلّة متخصِّصة بالكتابات الإبداعية الإفريقية، أصدرها «أتشيبي». انضمّت، عام (1975)، إلى التدريس في «جامعة كنت» البريطانية ضمن برنامج لتبادل المحاضرين، وبقيت في تلك الجامعة لسنوات عديدة لاحقة.

درّست «إينيس» برامج دراسية عديدة، منها: الدراسات الإفريقية، والأدب الأسترالي، والأدب الإيرلندي، كما شاركت عدداً من زملائها الأساتذة في قسم اللّغة الإنجليزية، جهودهم لتأسيس مركز للدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية، وأسهمت في تصميم برنامج دراسة الماجستير للدراسات مابعد الكولونيالية في «جامعة كنت».

المادّة الآتية، ترجمة للفقرات الأولى من الفصل الأخير من كتاب «مقدّمة كامبردج للآداب مابعد الكولونيالية» المشار إليه في التقديم. الفصل بعنوان «مواطنو العالم: قراءة الأدب مابعد الكولونيالي – Citizens of the world: reading postcolonial literature»، ويمكن للقارئ أن يشهد ذكر اسم الحاصل على «نوبل» الآدب (2021) «عبد الرزاق قرنح» في هذا الفصل، وقد ورد اسمه (عبد الرازق)، بحسب الصيغة الإنجليزية التي كُتِب بها.

 

 

 نص الترجمة:

على مدى ماينوف على الأربعين سنة الماضية، اجتذبت أعمال الكُتّاب مابعدالكولونياليين، في بريطانيا والمستعمرات البريطانية السابقة، جوائز أدبيّة مرموقة عديدة: مُنِحت جائزة «نوبل» في الآدب لكلّ من الكاتب الروائي الأسترالي «باتريك وايت»، والكاتب المسرحي والشاعر والروائي النايجيري «وول سوينكا»، والشاعر الكاريبي «ديريك والكوت»، والمؤلِّف الترينيدادي «في. إس. نايبول»، والروائية الجنوب إفريقية «نادين غورديمر»، والشاعر الإيرلندي «شيموس هيني»، (مثلما مُنِحت في وقت أبكر من القرن العشرين، للكاتبَيْن الإيرلنديِّيْن: «دبليو. بي. ييتس»، و«صامويل بيكيت»)، كما أن مايقارب نصف الفائزين بجائزة «مان بوكر» الروائية البريطانية المرموقة الأكثر حظوةً، ومنذ انطلاقتها في عام (1969)، هم كتّابٌ من مستعمرات بريطانية سابقة، من ضمنهم سلمان رشدي (الذي وصفت روايته «أطفال منتصف الليل» (1981) بأنها أفضل أعمال «البوكر» قاطبةً)، وتضمّ قائمة حائزي «مان بوكر»: (جي. إم. كوتزي (حازها مرتين) – بيتر كاري (حازها مرَّتَيْن) – في. إس. نايبول – مايكلّ أونداتشي – مارغريت آتوود – بن أوكري – كيري هولم – نادين غورديمر – توماس كينيللي – جَي. جي. فاريل – رودي دويل – جون بانفيل – أرونداتي روي – روث براور جادفالا)، وقد ظهرت أسماء العديد من هؤلاء الكاتبات والكتَّاب على قائمة «مان بوكر» القصيرة مرَّات عدّة، مثلما فعل كتّاب مابعد كولونياليين، منهم: وليم تريفور، وعبد الرازق غورناه، وروهنتون ميستري، وكارول شيلدز، ودوريس ليسنغ، وأنيتا ديساي، وأندريه برينك.

كان النقّاد والصحافيّون سبّاقين في الإشارة إلى حقيقة أن الجوائز الأدبيّة توفر شعبية مُرَحَّباً بها؛ لا على صعيد مموّلي تلك الجوائز، فحسب، بل لناشري الأعمال الأدبيّة للمؤلّفين على حدّ السواء، وقد صُمّمت جائزة «مان بوكر» بطريقة يتمّ معها تعظيم القبول الجماهيري، ثم مبيعات الكتب، من خلال الإعلان عن القوائم القصيرة للكُتّاب، وكذلك تشجيع تخمين القرّاء، ومشاركتهم في توقُّع الفائزين، قبل الإعلان المتلفَز عن الفائز. تَشاركَ الكثير من النقّاد (وأنا معهم) رأي «ريتشارد تود – Richard Todd» في أن جائزة «مان بوكر» شجَّعت تدعيم الإدراك المتعاظم بشأن كون بريطانيا مجتمعاً تعدُّدياً(1)، وساهمت الجائزة في تقديم التقدير اللازم والكافي للكتّاب في نطاق (الكومنولث) ؛ وبرغم هذا الأمر، شجَّعت النجاحات المرموقة التي أحرزها الكُتّاب مابعد الكولونياليّين مع هذه الجائزة، وجوائز كثيرة أخرى غيرها، على نشأة نوع من المزاح الساخر الذي يدعم الشكّ السائد لدى بعض النقّاد الذين يرون أن المركز الكولونيالي حدّد سمات الكتابة مابعد الكولونيالية بما يتلاءم مع الغايات النهائية الخاصّة به، وأنه ابتغى، من وراء الجوائز المرموقة، تحديد توجُّهات الأعمال التي ينبغي لها أن تتقدَّم على غيرها، طبقاً لرؤية المركز الخاصَّة. وعلى أساس هذه الرؤية، يدّعي بعض النقّاد الأفارقة والأفارقة الأميركيِّين أن منح جائزة «نوبل» في الأدب لِـ«وول سوينكا» و«ديريك والكوت» (حتى إلى «توني موريسون») أشّرت على حقيقة أن كتاباتهم كانت أكثر (أوروبيّة) و(نخبويّة تختصّ بالأقلِّيّة المهيمنة – elitist) بدل أن تنطوي على الأصالة المحلِّيّة الإفريقية أو الكاريبية. إن الحقيقة المؤسَّسة على كون شركة «ماكونيل – McConnell» التي تتولّى رعاية جائزة «مان بوكر» قد تأسَّست في «غويانا»، وحصلت على عوائدها المالية من إدارة مزارع قصب السكر في منطقة «ديميرارا»، إلى جانب أن واحداً من المعايير المطلوبة في منح الجائزة هو أن يكون العمل المترشِّح منشوراً في بريطانيا* – كلّ هذه العوامل عزَّزت الشكّ في أن رعاية الجوائز الأدبيّة، وتوفير التمويل اللازم لها إنْ هو إلّا شكلٌ آخر من أشكال الكولونيالية الجديدة.

من المؤكَّد أنّ الشكوك قد أثيرت بشأن التنظيم المؤسَّساتي الكامل للدراسات الأدبيّة مابعد الكولونيالية، من طرف نقّاد كثيرين، مثل «إعجاز أحمد» الذي يرى في التأكيد على الأدب المكتوب بالإنجليزية، والتعشيق بين هذا الأدب والنظرية مابعد البنيوية، عاملاً معيقاً لتطوُّر الآداب والمجتمعات المحلِّيّة الأصيلة(2)، وفي الوقت الذي رحّب فيه الكثير من النقّاد والأساتذة بالنموّ المضطرد في حقل الدراسات مابعد الكولونيالية، أبدوا علامات القلق بشأن الاعتبارات التي قد تعلق بفهمنا لتلك الدراسات من خلال التشييد المتسارع للهياكل الأدبيّة راسخة البنيان، وكذلك عبر الاعتماد على ناشرين محدَّدين، وأنتولوجيات محدَّدة لجعل الأدب مابعد الكولونيالي في متناول القرّاء. إلى جانب ذلك، تمَّ تطوير قيم ومفاهيم مثل (الأصالة المحلِّيّة – authenticity) و(الغيريّة – otherness) و(الهُجْنة – hybridity)، وتضمينها في المناقشات الخاصّة بالكتابات مابعد الكولونيالية، على نحوٍ بدت فيه النصوص الحاوية على هذه المفاهيم تختصُّ بالاهتمام المتواصل بكلّ مامن شأنه جعل الكتّاب يبدون غير متخاذلين في مساءلة الهياكل الأدبيّة موَطّدةِ الأركان، وبخاصّة تلك التي اتَّخذت سمة «نماذج فكرية – paradigms» نقدية مابعد كولونيالية محدَّدة. سبق لِـ «غراهام هوغان – Graham Huggan» أن حلَّلَ، وانتقد مأسسة الآداب مابعد الكولونيالية، وتسويقها لمحض تأكيدها على فكرة «الدخيل – The Exotic»؛ ذلك التأكيد الذي نشأ جزئيّاً؛ بسبب طغيان مفاهيم مثل (الغيرية) و(الأصالة المحلِّيّة) في النظرية مابعد الكولونيالية. يجادل «هوغان» في أن أعمال كتّابٍ مثل: حنيف قريشي، ونايبول، ورشدي، توفِّر أمثلة لِـ (التهميش المُمسرح)؛ أي التمثيل الدرامي لحالة المرؤوس التي يشعر بها هؤلاء إزاء الفوائد المتخيَّلة التي يجنيها الحضور ممّن يشكِّلون أكثرية(3). وفي الوقت الذي يعترف فيه «هوغان» بالنيّة التدميرية التي ينطوي عليها (التهميش المُمَسرح) لهؤلاء الكتَّاب، يبتغي تحدّي «النمطيات – Prototypes» السائدة لدى الأغلبية، والتي تميل إلى خلع صفة (الدخيل) على الآخر. يشير «هوغان» إلى أن أعمال هؤلاء الكتّاب، غالباً مايتمّ تسويقها وقراءتها بعونٍ من مفاهيم ( التهميش) و(الغيرية)، وهذه عملية يرى فيها «هوغان» خلقاً لِـ (الحالة الدخيلة مابعد الكولونيالية)؛ الحالة الرامية لتأهيل الآخر، أو كما عبّر «هوغان» ذاته «نمط من الإحساس الجمالي يتمّ معها تأهيل الآخر مع سياق القيم والمفاهيم السائدة، حتى لو بدا الأمر غريباً وغير معهود» (4).

يستشهد «هوغان» بمفهوم «بيير بورديو – Pierre Bourdieu» عن الرأسمال الثقافي المكتنز مركزيّاً، وهرميّاً (الذي يتمّ التفاوض بشأنه من خلال الاحتكاكات بين منتجي السلع، ومستهلكيها)، وبواسطة هذه الاحتكاكات يتمّ إضفاء الشرعية على أنواع محدَّدة من الكُتّاب، من خلال الجوائز المرموقة ومراجعات الكتب المعتبرة والمفضّلة…، وغير ذلك، ومن خلال امتلاك السلطة على تضمين كتّاب محدَّدين في المناهج والمقرَّرات الأكاديمية. يبتغي «هوغان»، في عمله المعنون بـ«الدخيل مابعد الكولونيالي – The Postcolonial Exotic» عام (2001) مساءلة مايراه (المترتّبات الإمبريالية الجديدة للصناعة الأدبيّة / النقدية مابعد الكولونيالية المتمحورة على المركز الغربي، والمعتاشة على موائده) – صناعة تعتمد، بصورة رئيسية، اللّغة الإنجليزية، ودور النشر في لندن ونيويورك، وتوفِّر المنتجات المترجمة للمستهلكين في الحواضر المدينية العالمية الكبرى، مفضّلةً (بعضاً من الكتّاب ذوي الشهرة المدَوِّية: أتشيبي، ونايبول، ورشدي)، إلى جانب (النقّاد الثلاثة المعتَبَرين نجوماً استعراضية: بابا، وسعيد، وسبيفاك) (5).

إن الأسئلة التي يطرحها «هوغان» هي في غاية الأهمِّية، ويحتاج أيّ قارئ للكُتّاب مابعد الكولونياليِّين أن يضع تساؤلات «هوغان» موضع تدقيق معمّق، رغم أنه يمنح أهمِّيّة أكبر، واعتباراً أعلى – على ماأرى – لِـ (القُرّاء الغربيين) الذين هم، على كلّ حال، جماعة مختلفة المشارب إلى حدود أبعد بكثير ممّا تفترضه محاججات «هوغان» الخاصّة: تؤكّد البيانات المنشورة بخصوص كتب «تشينوا أتشيبي»، مثلاً، أن معظم قرّائه هم أفارقة، وليسوا أوروبيِّين أو من أميركا الشمالية. ومن جانب آخر، أشار بعض الأساتذة منهم «كارين باربر – Karin Barber»، و«ستيفاني نيويل – Stephanie Newell» إلى أهمّيّة شبكات النشر والتسويق المحلِّيّة في نيجيريا(6)، في حين أشار أحمد، وآخرون إلى ازدهار الكتابة والنشر بلغات متعدِّدة في شبه القارة الهندية (تعدّ اللّغة الإنجليزية فيها محض لغة واحدة من بين لغات عدّة)، كما أشاروا إلى نموّ حضور أدبي محلِّي في تلك المنطقة.

لم يكن القبول والترحاب هو الحالة السائدة مع العديد من الأعمال المضادّة للكولونيالية ومابعد الكولونيالية في الأدب؛ بل طال الحظر تلك الأعمال، وعُدَّت غير متاحة في البلدان التي ينتمي إليها كُتّاب تلك الأعمال: في جنوب إفريقيا، طال الحظر الكثير من الأعمال التي أعتُبِرت تجريبية وحداثية بناءً على اعتبارات أخلاقية أو سياسية، وتضمّ قائمة الكتب المحظورة بعضاً من ألمع الأسماء، وأكثرها شهرةً، منها: بيتر أبراهام- برينك – غورديمر – أليكس لاغوما – لوريتا نغكوبو، كما مُنِع القرّاء في جنوب أفريقيا من قراءة نصوص لكُتّاب منهم: آي كوي أرماح – ليونارد كوهين – لانغستون هيوز – مارتن لوثر كينغ – ستيفن كينغ – نغوغي واثيونغو…، وكذلك وودي آلن !!!. ومن المثير الذي يدعو للدهشة، في هذا الشأن، أن عمل «إيرنست همنغواي» المسمّى «عبر النهر ونحو الأشجار – Across the River and Into the Trees» عام (1950) قد مُنِع في كلّ من جنوب إفريقيا، وإيرلندا !!. إن مثل هذه التحديدات عنَت أن الكثير من الحوادث تمّ قمعها، وأن الحيوات والثقافات الخاصّة بالسود أو الملوّنين في جنوب أفريقيا، كانت إمّا غير مُمثّلة على الإطلاق، أو مُمثّلة على نحو محدود أو مشوّه، وبالنسبة إلى هؤلاء الذين كان بمستطاعهم الوصول إلى الأعمال التي طالها الحظر، فإن واحداً من تأثيرات الحظر كان جعل الموضوعات (الثيمات) السياسية، والعرقية، والعنصرية تتصدّر طليعة الثيمات الروائية والشعرية السائدة والتي لولاها -ربّما- لقُرِئت تلك الأعمال بطرق أكثر تعقيداً وابتعاداً عن روح الثيمات التي أشرنا إليها.

يمضي هذا الفصل في إثارة أسئلة حول تجربة قراءة النصوص مابعد الكولونيالية، كما يقترح الفصل بعضاً من الطرق التي تتمايز بها تجربة تلك القراءة بين القرّاء المنتمين إلى المجتمع ذاته الذي ينتمي إليه الكاتب، والقرّاء غير المنتمين لذلك المجتمع: إن الإفتراض السائد، هنا، هو أن قراءة أيّ نصّ مضادّ للكولونيالية أو نصّ مابعد كولونيالي هي عمليّة قد يفترض فيها القُرّاء عدداً من الافتراضات الهوياتيّة، بما يجعلهم مدركين للعلاقات الجامعة بين تلك الافتراضات (منها الافتراضات الخاصّة بالعلاقات السلطوية). سأستكشف دور القرّاء المفترضين في قراءة نصوص مثل «يوليسيس»، إلى جانب أعمال مضادّة للكولونيالية ومابعد كولونيالية أخرى، ومن بعدها سندرسُ الكيفية التي يمكن بها، لهذه الأدوار القرائية، تشكيلُ الاستجابات المتوقّعة من جانب القرّاء الحقيقيّين في بقاع وأزمان مختلفة.

إن معظم التحليلات النقدية للكتابة مابعد الكولونيالية تفترض، بطريقة مسبقة، وعلى نحو صريح أو ضمني، أن القارئ؛ إمّا أن يكون فرداً في أمّة الكاتب (مثلما فعل بينيدكت أندرسون في عمله «مجتمعات متخيّلة Imagined Communities» المنشور عام (1983)، أو أن يكون القارئ مواطناً كوسموبوليتانياً غربياً مثلما هي الحالة السائدة، حقّاً، أكثر من سواها. نلمح، في عمل «هوغان» المعَنْوَن بـ«الدخيل مابعد الكولونيالي» أو في عمل «تيموثي برينان» المعنون بـ«في الوطن ضمن هذا العالم» (1997) افتراضاً سائداً مفروغاً منه بأن القارئ هو أميركي أو أوروبي، وثمةّ القليل، فحسب، من التفريق بين أنواع القرّاء الغربيِّين؛ وكنتيجة لهذا، نشأ افتراض ضمني آخر بأن النصوص مابعد الكولونيالية يمكن قراءتها بطريقة واحدة، وأن ثمّة قراءة عالمية موحَّدة تجمعها، ويعلن «هوغان» أن عمل «أتشيبي» المعَنْوَن بـ«الأشياء تتداعى» (1958) يتوجّه، بصورة ضمنية، لمخاطبة أنموذج من القارئ الغربي الذي تمّت هيكلة نشأته بوصفه غير مُنتمٍ لسياق البيئات الثقافية التي تفصح عنها مثل تلك الأعمال(7).

يعترف الكثير من النقّاد بأن مسألة انطواء النصوص (مابعد الكولونيالية) على تعدُّدية ثقافية أو غموض مفاهيمي هي خاصّية تتبع النصوص ذاتها بدلاً من اعتبارها نتيجة حتمية للقراءات المختلفة للنصّ، وفوق ذلك، يمكن لتلك الاستجابات المختلفة للقارئ، أن توجد بدرجات متفاوتة لدى القارئ ذاته، وسأجادل، هنا، بأن هيكلة القارئ متعدِّد الرؤى أو الهجين، هي واحدة من الخاصِّيات الفريدة التي تحوزها النصوص مابعد الكولونيالية، بغضّ النظر عمَّا إذا كانت تلك النصوص قد نشأت في إفريقيا أو شبه القارة الهندية أو إيرلندا.

من الواضح أن هناك الكثير من الأسئلة التي تثيرها التعقيدات المحيطة بقرّاء النصوص مابعد الكولونيالية، وكذلك بأشكال القراءات والاستجابات التي قد تنشأ عن تلك القراءات، ولم يُخفِ العديد من الكُتّاب والنقّاد مابعد الكولونياليِّين احتفاءهم بصفتهم ثنائية الأوجه؛ أي كونهم منتَمِين ولامنتمين للفضاء مابعد الكولونيالي؛ هنا يمكننا، وعلى نحو طبيعي، التساؤل بشأن الاختلاف المتوقَّع في الاستجابة التي يبديها قارئ منتمٍ للجغرافية مابعد الكولونيالية عن تلك التي يُبديها قارئ لامنتمٍ إلى تلك الجغرافية؛ أي: كيف تختلف القراءة النايجيرية بلغة «إغبو – Igbo» لرواية «الأشياء تتداعى» عن قراءتها باللّغة الدنماركية أو الإنجليزية أو الأميركية الشمالية؟ وكيف تختلف استجابة القارئ البريطاني لأشعار «ليز موراي – Les Murray» عن قراءتي، باعتباري أسترالية لها الخلفية الريفية ذاتها والخلفية الحضرية ذاتها التي كانت لدى موراي؟ من المهمّ، للغاية، أيضاً، توضيح الكيفية التي يمكن بها للسياق الذي يتمّ فيه نشر الكتاب وقراءته، أن يكيّف استجابات القرّاء، ويعدّلَها.

يمكن للمرء -إلى حدّ ما- أن يوفّر إجابات مجتمعية (سوسيولوجية) لأمثال التساؤلات السابقة، بوساطة إيراد مسوحات متعدّدة، وتدقيق مراجعات الكتب، وقد بدأ هذا الأمر، فعلاً، فيما يخصّ تأريخ (الكتاب مابعد الكولونيالي)، وأنماط نشره، والاستجابات التي تلقّاها (8). سيركِّز هذا الفصل على المعضلات والموضوعات مابعد الكولونيالية بدلاً من محاولة توفير مسوحات ميدانية، وتقديم بيانات إحصائية.

إن حجّتي بشأن الموضوع السابق هي أن العديد من الكُتّاب المناهضين للكولونيالية ومابعد الكولونيالية يختلفون عن الكُتّاب الأميركان، والإنجليز، والأوروبيين الحداثيِّين ومابعد الحداثيين في طريقة إحساسهم وتعاطيهم مع نوعَيْن من القرّاء: النمط الأوَّل هو الجماعة ذات الاتصال المباشر مع الكاتب، والمنتمية إلى فضاء الشعب المُستعمَر أو الموسومة بسماته. أمّا النمط الثاني فيتمثَّل بجمهرة القرّاء العالميين من خارج حدود الفضاء الكولونيالي الذي ينتمي إليه الكاتب، ولكنها مرتبطة به، غالباً، (بروابط ثقافية الطابع).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

** تمّ إبطال هذا الشرط قبل بضع سنوات.

الهوامش:

1- Richard Todd, Consuming Fictions (London: Bloomsbury, 1996), p: 83.
2- Aijaz Ahmad, In Theory: Classes, Nations, Literatures (London: Verso, 1992), p. 95–122.
3- Graham Huggan, The Postcolonial Exotic: Marketing the Margins (London: Routledge, 2001), p: xii..
4- Ibid., p: 13.
5- Ibid, p: 4.
6- See Karin Barker, ed., Africa’s Hidden Histories: Everyday Literacy and Making the Self (Bloomington: Indiana University Press, 2006), and Stephanie Newell, West African Literature (Oxford: Oxford University Press, 2006), chapter 7.
7- Huggan, The Postcolonial Exotic, p: 46.
8- See, for example, the international conference ‘The Colonial and Post-Colonial Lives of the Book 1765–2005: Reaching the Margins’,which was held at the Institute of English Studies in London from 3 to 5 November (2005).

لم يكن الأمر ليكون! قـمم يأس إميل سيوران

استغرق موت «سيوران» عدّة سنوات قبل أن يبلغ منتهاه. في البداية، ظهرت عليه بعض العلامات المزعجة فقط: ذات يوم، لم يعرف طريق العودة من المدينة إلى المنزل! طريق كان يعرفها (وهو المشَّاء الماهر) حقّ المعرفة. ثم بدأ يفقد جزءاً من الذاكرة. أحياناً، يبدو كأنه لا يعرف جيّداً من يكون، ويبدو أن آخر شيء فقده هو حسّ الفكاهة الرائع لديه. ذات يوم، سأله أحد المارّة في الشارع: «هل أنت «سيوران»؟» فأجابه: «كنت». لكن علامات الخرف أصبحت كثيرة جدّاً وخطيرة: بدأ «سيوران» ينسى بمعدَّل ينذر بالخطر، فأصبح من اللازم إيداعه المستشفى. في النهاية، خانته الكلمات: لم يعد «سيوران» (أحد أفضل كتّاب عصره) قادراً على تسمية الأشياء الأساسية، ثم جاء الدور على العقل. في النهاية، نسي من يكون، تماماً.. في مرحلة من مراحل معاناته الطويلة والنهائية، في لحظة وجيزة من الصفاء الذهني، همس «سيوران» لنفسه: «إنها الاستقالة الشاملة!». لقد كان ذلك هو الفشل النهائي الكبير، وهو لم يفشل في إدراكه على حقيقته.

يرى البعض أن «سيوران» كان أحد أكثر المفكِّرين تخريباً في عصره – «نيتشه» القرن العشرين، لكنه أكثر سوداويةً ودعابةً. وقد اعتقد الكثيرون، خاصّة إبّان شبابه، أنه مجنون خطير، بينما نظر إليه آخرون على أنه مجرَّد شابّ غير مسؤول، بشكل جذّاب، وأنه لا يشكِّل أيّ خطر على الآخرين، بل على نفسه، فقط. عندما سلَّم كتابه عن التصوّف للمطبعة، رفض الذي يقوم بالطبع -وهو رجل طيب يتَّقي الله – أن يلمسه، بعدما أدرك (التجديف) الذي يتَّسم به محتواه؛ قام الناشر بنفض يده من الموضوع، فاضطر المؤلِّف إلى نشر ذلك (التجديف) في مكان آخر، على نفقته. فمن كان ذلك الرجل؟

«إميل سيوران» (1911 – 1995)، فيلسوف فرنسي، رومانيّ المولد، ومؤلِّف بما يربو على عشرين كتاباً عن الجمال المتوحِّش والمقلق. إنه كاتب مقالات على الطريقة التقليدية الفرنسية الجميلة. ورغم أن الفرنسية لم تكن هي لغته الأمّ فإن الكثيرين يعدّونه من أفضل مَنْ كتبوا بتلك اللّغة. أسلوبه في الكتابة غريب الأطوار، غير منهجي، وشذريّ. لقد تمَّ الاحتفاء به بصفته واحداً من أعظم أرباب الحِكَم. لكن «الشذرة» لم تكن، بالنسبة إلى «سيوران»، مجرد أسلوب كتابة: كانت مهنةً وأسلوبَ حياة، وقد أطلق على نفسه اسم «رجل الشذرة».

غالباً ما يناقض «سيوران» نفسه، لكن هذا آخر شيء يثير قلقه؛ فهو لا يعتبر التناقض الذاتي ضعفاً، بل دليلاً على أن العقل حيّ. فالكتابة ليست، في اعتقاده، أن يتميَّز الكاتب بالثبات، والإقناع، أو الترفيه عن القرّاء، بل إن ذلك لا يمتّ بِصِلة حتى للأدب. للكتابة، عند «سيوران»، تماماً، كما كان لها عند «مونتيني – Montaigne» قبل عدّة قرون خلت، وظيفة أداء تُميّزها عن سواها: لا يكتب الكاتب ليبدع نصّاً، بل ليشتغل على نفسه؛ ليعيد لَمَّ شمله بعد حدوث كارثة شخصية، أو ليُخرج نفسه من حالة اكتئاب سيِّئة؛ ليتعايش مع مرض مميت، أو ليبكي على فقدان صديق حميم. يكتب الكاتب لكي لا يصاب بالجنون، لكي لا يقتل نفسه أو يقتل الآخرين.

في حوار له مع الفيلسوف الإسباني «فرناندو سافاتر – F. Savater»، قال «سيوران» في لحظة من اللحظات: «ربّما كنت سأصبح قاتلاً، لو لم أكتب». الكتابة، عنده مسألة حياة أو موت. الوجود الإنساني، في جوهره، كرب ويأس لانهاية لهما، والكتابة قد تجعل الإنسان يطيق ذلك بشكل أكبر. «الكتابة انتحار مؤجل»، يقول «سيوران».

كتب «سيوران» لينقذ نفسه من الموت مراراً وتكراراً. ألَّف كتابه الأوّل «على قمم اليأس» (1934)، وهو في الثالثة والعشرين، في غضون أسابيع قليلة، وهو يعاني من نوبة أرق مروِّعة. وقد شكَّل هذا الكتاب – والذي يعتبر واحداً من أجمل ما كتبه باللُّغتَيْن؛ الرومانية، والفرنسية – بداية الارتباط القوي والحميم في حياته ما بين الكتابة والأرق: «لم أتمكَّن يوماً من الكتابة إلّا في أتون الاكتئاب الذي أدخلتني فيه ليالي الأرق. ظللت سبع سنوات لا أكاد أنام. أحتاج لهذا الاكتئاب، ولا زلت، إلى اليوم، أستمع، قبل أن أشرع في الكتابة، إلى موسيقى الغجر [الحزينة] من المجر».

وكون «سيوران» مفكِّراً غير منهجيّ، لا يعني أن عمله يفتقر إلى الانسجام، بل -على العكس من ذلك- إنه يجعله منسجماً؛ ليس من خلال أسلوبه الفريد في الكتابة وطريقة تفكيره، فحسب، بل من خلال مجموعة متميّزة من المواضيع الفلسفية، والمواضيع العامّة والخاصيّات، أيضاً. ويحتلّ الفشل، بين هذه المواضيع، مكانة بارزة. كان «سيوران» مهووساً بالفشل: شبحه يخيِّم على أعماله، بدءاً من كتابه الأوَّل باللّغة الرومانية، ثم لم يحِد، بعد ذلك، عن جادّة الفشل طوال حياته: لقد درسه من زوايا متنوّعة، وفي لحظات مختلفة، كما يفعل الخبراء الحقيقيّون، وبحث عنه في الأماكن التي لا نتوقّع وجوده فيها، أبداً. اعتقد «سيوران» أن الفشل قد لا يكون مآل الأفراد، فحسب، بل هو مآل المجتمعات، والشعوب والدول، أيضاً. إنه مآل الدول؛ على الخصوص. […].

يصيب الفشل كلّ شيء. قد تصبح الأفكار العظيمة موصومة بالفشل، وكذلك الكتب، والفلسفات، والمؤسَّسات، والأنظمة السياسية. حتى الوضع الإنساني نفسه، يراه «سيوران» مشروعاً فاشلاً. «لم أعد أرغب في أن أكون رجلاً»، كتب في «معضلة الميلاد» (1973). إنه «يحلم بشكل آخر من الفشل». الكون عبارة عن فشل كبير، وكذلك هي الحياة نفسها. وهو يقول: «الحياة، وقبل أن تكون خطأً جوهرياً، فشل في الذوق، لا ينجح الموت، ولا حتى الشعر في تصحيحه». […].

لأنه كان يعرفه عن كثب، كان بمقدور «سيوران» أن يتحدَّث عن الفشل جيِّداً؛ فقد شارك، في شبابه، في مشاريع سياسية كارثية (وهو أمر ندم عليه طول حياته)، وغيَّر بلدان إقامته ولغاته، واضطرَّ إلى إعادة بناء كلّ شيء من الصفر. كان منفيّاً على الدوام، وعاش حياة هامشية، ولم يحصل على عمل إلّا في حالات نادرة، فعاش على عتبة الفقر. من المؤكَّد أنه قد ألِفَ الفشل ألفةً كبيرة، بل أصبح يميل إليه. كان يعرف كيف يقدّر الحالة الجديرة بالفشل، وكيف يراقب تطوُّرها، ويتذوَّق تعقيدها؛ فالفشل فريد من نوعه: الناجحون يبدون، دائماً، متشابهين. أمّا الفاشلون فيختلفون في طرق فشلهم. كلّ حالة من حالات الفشل تتَّسم بملامح وجمال خاصَّيْن، ويتطلَّب الأمر خبيراً بارعاً مثل «سيوران»، ليميّز ما بين فشل يبدو عادياً، لكنه في الواقع كبير، وبين فشل صاخب، لكنه عاديّ.

كان أوَّل لقاء له مع الفشل، في وطنه، بين مواطنيه الرومانيّين. ولد «سيوران» ونشأ في «ترانسيلفانيا»، وهي إقليم كان، لفترة طويلة، جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي عام (1918)، أصبح جزءاً من المملكة الرومانية. وإلى حدود اليوم لا يزال سكّان «ترانسيلفانيا» يظهرون أخلاقيّات عمل قويّة، ويقدِّرون الجدِّيّة، والانضباط وضبط النفس غاية التقدير. وعندما التحق «سيوران» بالجامعة في «بوخارست»، العاصمة الجنوبية للبلاد، ولج عالماً ثقافياً جديداً عليه، تماماً. هناك، كانت المهارات التي يتطلّبها الفوز مختلفة: فن عدم القيام بأيّ شيء، والسفسطة (من المرح قليلاً إلى السخرية الصريحة) التي تفوق الاستقامة الفكرية، واتِّخاذ التسويف مهنة، واشتغال الطالب بإضاعة حياته. ولمّا كان «سيوران» طالباً جامعياً في شعبة الفلسفة، احتكَّ ببعض أفضل المشتغلين بالفلسفة في «بوخارست»، وقد نال المزيج من التألُّق الفكري، والشعور اللافت بالفشل الشخصي الذي يظهره بعضهم، وإعجابه الدائم وغير المشروط بهم: «التقيت في «بوخارست» بالعديد من الأشخاص، العديد من الأشخاص المهمِّين، والخاسرين، وعلى الخصوص، الذين كانوا يحضرون إلى المقهى ويتحدَّثون بشكل مطوَّل جدّاً، ولا يفعلون أي شيء. يجب أن أقول إن هؤلاء كانوا، بالنسبة إليّ، أكثر الناس المهمِّين هناك. أشخاص لم يفعلوا أي شي طوال حياتهم، لكنهم كانوا متألِّقين».

ظلّ «سيوران» بقيَّة حياته مديناً- سرّاً- لأرض الفشل تلك التي كانت هي بلاده؛ وحقَّ له أن يظلّ كذلك. فالرومانيون تربطهم علاقة فريدة من نوعها بالفشل؛ وكما يمتلك الإسكيمو عدداً لا يحصى من الكلمات الدالّة على الثلج، يبدو أن اللغة الرومانية لها القدر نفسه من الكلمات المرتبطة بالفشل. وإحدى العبارات الشائع استخدامها، في اللغة الرومانية، يعتزّ بها «سيوران»، هي (n-a fost sǎ fie) (تعني: «لم يكن الأمر ليكون»، وتكتسي مسحة جبريّة قويّة). هذا البلد منجم ذهب، بحقّ.

كان «سيوران» معروفاً بكرهه للبشر، وإن كان هناك نوع بشري واحد يتفهَّمه ويتعاطف معه، فهو نوع الإنسان الفاشل. في عام (1941)، وكان وقتها مقيماً في «باريس»، اعترف لصديق روماني قائلاً: «أودّ أن أكتب كتاباً أسمّيه «فلسفة الفشل»، وأضع له عنواناً فرعياً هو: يُستخدَم – حصرياً-  من طرف الشعب الروماني، ولكن لا أظنّ أنني سأستطيع فعل ذلك». كلّما تذكَّر «سيوران» أيّام شبابه، تذكَّر، بمزيج من الانجذاب والحنان والإعجاب، الخاسرين الكبار، ومشهد الفشل اللامتناهي الذي قابله في «بوخارست». لا شكّ في أن المشهد الأدبي للبلاد، قد اجتذبه حين كان كاتباً ناشئاً، ولكن ليس بقدر ما اجتذبه مشهد الفشل: «لم يكن أعز أصدقائي، في رومانيا، من الكتّاب، بل من الفاشلين».

كان أستاذ الفلسفة، في جامعة «بوخارست»، «ناي يونيسكو» (1890 – 1940)، والذي كان له التأثير الحاسم على «سيوران» الشابّ، فاشلاً فشلاً ذريعاً وفق المعايير المعتادة. لم ينشر أيّ كتاب، وغالباً ما كان ينتحل محاضراته أو يرتجلها، على الفور، يتغيَّب، أحياناً، عن الفصول الدراسية لأنه «لم يكن لديه ما يقوله». كان كسله أسطورة. وبغضّ النظر عن هذا، كان «يونيسكو» أحد أكثر نوابغ جيله – كان «عبقريّاً»، بحسب قول العديد من الذين عايشوه، بشكل مباشر، بل إنه طوَّر نظرية صغيرة عن الفشل (فَضَّلَ- وهو أمر صائب- عدم نشرها).

ومع ذلك، لم يكتفِ «سيوران» بمراقبة الفشل عن بعد، فقد شرع في ممارسته في وقت مبكِّر، وفعل ذلك بأسلوب أنيق. في عام (1933)، بعد تخرُّجه في الجامعة، مباشرةً حصل على منحة الدراسات العليا (طالب زائر من جامعة «فريدريش فيلهلم» في «برلين». وما إن وصل إلى ألمانيا، حتى وقع في حبّ النظام النازي الحديث النشأة. في نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام، كتب إلى صديقه «ميرسيا إلياد»: «أنا مفتون تماماً بالنظام السياسي الذي أقاموه هنا». وجد «سيوران»، في (ألمانيا هتلر)، كلّ ما لم يجده في «رومانيا» التي كانت لا تزال دولة ديموقراطية، نسبيّاً. كانت «ألمانيا» تعيش حالة من الهستيريا السياسية، والتعبئة الجماهيرية، وقد اعتقد «سيوران» أن ذلك أمر جيّد؛ لقد أعطى النظام النازي، للألمان، إحساساً بـأن لهم «رسالة تاريخية»، وهو شيء لن تقوم ديموقراطية «رومانيا»، أبداً، بتقديمه لشعبها. وبينما كان آخرون يرون مقدّمات حدوث كارثة ذات أبعاد تاريخية في «ألمانيا»، في ذلك الوقت، لم يرَ «سيوران» سوى وعد، وعظمة تاريخية. وما الذي جعل «هتلر»- بالتحديد- عظيماً؟ أجاب «سيوران» بأنها قدرته على إثارة «الدوافع اللاعقلانية» للشعب الألماني، محاولاً أن يبدو كأنه مراقب موضوعي. وما كاد يبلغ الثانية والعشرين من العمر حتى كان يمارس الفشل، بكلّ جدية.

بحلول خريف عام (1933)، كان «سيوران»، بالفعل، نجماً صاعداً بسرعة في الأدب الروماني، فقد ساهم، وهو، بعدُ، طالبٌ جامعي، بعدد قليل من المقالات الأصيلة اللافتة للنظر في بعض المنابر الأدبية، في بلاده، وأصبحت الدوريات تريد المزيد من مقالاته. أرادوا منه، بشكل خاصّ، تغطية المشهد السياسي الألماني. في رسالة أرسلها إلى جريدة «ﭬريميا» الأسبوعية في (ديسمبر، 1933) كتب «سيوران»، بكلّ جرأة: «إذا أحببت شيئاً عن الهتلريّة فهو عبادة اللاعقلاني، والابتهاج بالقدرة الخالصة على الحياة، والتعبير الرجولي عن القوّة، دون أيّ روح نقدية، أو كبت، أو تحكُّم». وبإفراطه في استخدام كليشيهات يحبها أعداء الديموقراطية الليبرالية في كلّ مكان، يبدي «سيوران»، هنا، شفقته على أوروبا […] مقابل ألمانيا «الرجولية»، بكلّ فخر، التي تعجّ بالعضلات، والضوضاء، والغضب. «هتلر»، هو الرجل الذي يشغل منصب المسؤولية بشكل بارز، و«سيوران» معجب به. بعد عدّة أشهر (يوليو، 1934)، وفي رسالة أخرى إلى الدورية نفسها، لم يخجل، على الإطلاق، من التعبير عن إعجابه الشديد بذلك الرجل الشجاع: «من بين كلّ السياسيّين، اليوم، «هتلر» هو الذي يحظى بحبّي وإعجابي أكثر». ولكن الأسوأ لم يأتِ بعد.

 

 

[…] يبدو أن فكرة غريبة قد تفتَّقت في ذهن «سيوران»؛ مفادها أنه لا يمكنه فصل قيمته الشخصية عن المزايا التاريخية للمجتمع القومي الذي ينتمي إليه. ثم، عند قياس قيمة هذا المجتمع، وجدها دون المستوى، وبشكل كبير. يعتقد «سيوران» أن «رومانيا» «أمّة فاشلة» تاريخياً، وفشلها هذا سينسحب -ولا شكّ- على جميع الرومانيين. الحقيقة هي (وكأن هذا لم يكن سيِّئاً بما فيه الكفاية) أن الانسحاب ليس خياراً جيّداً، ما دام «انفصال المرء عن أمّته يؤدّي إلى الفشل»، فهو يفشل داخل الأمّة، ولكنه يفشل أكثر خارجها. هكذا، تمكِّن «سيوران»، في سنّ مبكِّرة، نسبيّاً، من حشر نفسه في مأزق وجودي جدِّي. وكونه هو من تسبَّب في هذه الدراما، إلى حدٍّ كبير، فهذا لا يجعلها أَقلّ إيلاماً؛ بل- على العكس من ذلك- هذا الشيء سيجرحه، ويؤثِّر في عمله بشكل كبير. قد تكون ممارسة الفشل عملاً دمويّاً.

هذه الدراما – «دراما التفاهة» كما سيسمِّيها «سيوران»، لاحقاً -هي التي تكمن وراء الكتاب الذي نشره بعد فترة وجيزة من عودته من ألمانيا: «تغيير وجه رومانيا» (1936). […] لكن «سيوران» شديد التناقض مع نفسه، ففي مكان آخر من الكتاب، نجده «يحبّ ماضي رومانيا بكراهيّة شديدة»، وهو يحلم بأن يكون لها مستقبل زاهر. إنه يحلم بأن تكون «رومانيا تضاهي الصين من حيث عدد السكّان، ويكون قدَرُها كقدَر فرنسا». البلد جميل – وكلّ ما يحتاجه، فقط، هو دفعة، هنا، ودفعة هناك؛ وما يحتاجه في المقام الأوَّل هو «دفعة» نحو التاريخ. لا يقول لنا «سيوران» ما يعنيه هذا، بالضبط، لكنه يلمِّح، عندما يؤكِّد أن كلّ ما يستطيع فَعَله هو أن «يحبّ رومانيا وهو في حالة هذيان». ولتحقيق مثل هذه الغايات السامية، تصبح كلّ الوسائل مشروعة، أليس كذلك؟ و«سيوران» نفسه يقول: «كلّ الوسائل مشروعة لشعب يفتح أمام نفسه طريقاً في هذا العالم.[…].

في غضون بضع سنوات، عندما تمكَّنت الحركة الفاشية، في «رومانيا»، الحارسة الحديدية العنيفة لمعاداة الساميّة، من الوصول إلى السلطة التي مكثت فيها بضعة أشهر في أواخر عام (1940)، أيَّدها «سيوران»، وإن كان قد فعل ذلك بطريقته الغامضة. «رومانيا في حالة هذيان»، التي كان يحلم بها، بدأت تتشكَّل أخيراً، وقد كان منظرها قبيحاً: تَمَّ تعقُّب اليهود الرومانيين، وقَتْلهم بدم بارد، وتمَّ نهب ممتلكاتهم وحرق بيوتهم، بينما تعرَّض غير اليهود من السكّان، لغسيل دماغ وحشي، قوامه الأصولية الدينية. في ذلك الوقت، كان «سيوران» قد استقرَّ في «فرنسا»، حيث أعاد اكتشاف نفسه من خلال لغة أخرى، في أثناء عودته في رحلة قصيرة إلى الوطن ألقى كلمة مساهمةً منه في إحياء ذكرى الزعيم المؤسِّس للحركة «كورنيليو زيليا كودريانو -Corneliu Zelea Codreanu»- (المسمّى «الكابتن»: 1899 – 1938) […]. كان هذا «القبطان» يتميَّز، من بين أمور أخرى، بمعاداة مسعورة للساميّة. فقد دعا، علانيةً، إلى الاغتيال السياسي، وكان هو نفسه قاتلاً سياسيّاً. على خلفية ثقافة ديموقراطية هشّة، في رومانيا، ما بين الحربَيْن العالميَّتَيْن، دفع «كودريانو» البلاد، بشكل منفرد، مدعوماً بكاريزما شخصية وانعدام الوازع الأخلاقي، إلى الفوضى في ثلاثينيّات القرن الماضي. وها نحن نرى «سيوران» يمدحه!.

في مجال الفشل لا يمكن لأي مفكِّر – حتى ولو كان معروفاً بكونه غير مسؤول مثل «سيوران» الشابّ – أن ينحدر ​​إلى أدنى من هذا المستوى. هل تتساءلون عمّا أصابه، مثلما تساءل أصدقاؤه الديموقراطيون في ذلك الوقت؟ في السنوات التي تلت ذلك، أصبح ذلك السؤال يطرح نفسه على «سيوران»، بإلحاح يصيبه بالإحباط. عندما وُوجه، لأوَّل مرّة، بفظاعة موقفه السياسي المؤيِّد للفاشيّة، بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب، كاد ألّا يتعرَّف إلى نفسه من خلال كتابه «تغيير وجه رومانيا»، وكتاباته الصحافية السياسية. لقد أيقظته، فجأةً، أهوال الحرب، وفظاعة الهولوكوست، الذي هلك فيه بعض أصدقائه اليهود؛ لا شكّ في أن تلك النصوص قد بدت له، حينها، كالكوابيس، ثم فعل فيه الزمن فعله، فجعله يرى الأشياء بشكل أكثر وضوحاً. في عام (1973) كتب في رسالة إلى أخيه: «أحياناً، أسأل نفسي عمّا إذا كنت حقّاً أنا مَنْ كَتَب هذا الهذيان الذي يقتبسونه. الحماس شكل من أشكال الهذيان. لقد أُصبنا بهذا المرض ذات مرّة، لكن لا أحد يريد أن يصدق أننا قد شفينا منه». في نصّ صغير صدر بعد وفاته، تحت عنوان «بلادي» (1996)، يشير «سيوران» إلى محتويات كتاب «تغيير وجه رومانيا» بأنها «هذيان مجنون متوحِّش». هذه (ونقوله ذلك بشكل عابر) هي نتيجة الممارسة المكثَّفة للفشل: تجلب شخصاً آخر إلى العالم قبل أن تدرك ذلك. تبحث عن نفسك أمام المرآة، ذات يوم، فتكتشف هناك شخصاً آخر يحدِّق فيك.

ليس من السهل، أبداً، تحديد مجال اشتغال «سيوران»، وعندما يتعلَّق الأمر بماضيه السياسي يكون الأمر شبه مستحيل. وممّا لا يساعدنا على ذلك، بعيداً عن الإشارات الغامضة إلى «الهذيان» و«حماس» الشباب، رَفْضُ «سيوران»، في مرحلة ما بعد الشباب، أن يتطرَّق إلى «تلك السنوات». وهو يفعل ذلك لسبب وجيه؛ فهو يدرك جيّداً ما تنطوي عليه. فالفشل يكره السفر بمفرده: وهو عادةً ما يفضل أن يرافقه العار. في رسالة أخرى إلى شقيقه، يقول «سيوران»: «الكاتب الذي ارتكب بعض الحماقات في شبابه، في بداياته، يكون أشبه بامرأة لها ماض مشين. لا يُغفَر له ذلك أبداً، ولا يتمّ نسيانه أبداً». وقد ظلّ انخراطه السياسي في «رومانيا»، ما بين الحربَيْن العالميَّتَيْن، أكبر عار، وأخطر فشل مدمّر، يلاحقه إلى آخر أيّامه. وقد فشلت كلّ الأمور الأخرى بالمقارنة مع ذلك.

لنلْقِ لمحة أخرى على طريقة «سيوران» الغريبة في التفكير السياسي، في رسالة أرسلها إلى «ميرسيا إلياد» في عام (1935) يقول فيها: «صيغتي لكلّ الأشياء السياسية هي كالآتي: قاتلْ بكلّ تفانٍ من أجل الأشياء التي لا تؤمن بها». لا يعني هذا أن مثل هذا الاعتراف يسلِّط الكثير من الضوء على انخراط «سيوران»، بل يضع «هذيانه» ضمن منظور نفسي معيَّن. لقد تميَّز «سيوران»، لاحقاً، بهذا الانقسام في الشخصية، وإنه لمن المنطقي، بالنسبة إلى الفيلسوف الذي يرى العالم على أنه فشل كبير الأبعاد، أن يسخر من النظام الكوني (ومن نفسه في إطار هذه العملية) من خلال الادِّعاء بأن هناك معنى حيث لا يوجد أيّ معنى.[…].

عندما عاد «سيوران» من «ألمانيا» عام (1936)، قضى فترة قصيرة يُدَرِّس الفلسفة في مدرسة ثانوية في «براشوف»، وسط رومانيا. كان هذا، أيضاً، فشلاً ذريعاً، وهي آخر محاولة قام بها للاحتفاظ بوظيفة قارّة. في أثناء درس المنطق، مثلاً، كان «سيوران» يقول لطلاب المستوى الثانوي إن كلّ شيء في الكون مريض مرضاً لا يرجى له علاج، بما في ذلك مبدأ الهويّة. عندما سأله أحد التلاميذ، ذات مرّة: «ما الأخلاق، يا أستاذ؟» أجابه «سيوران» بأن طلب منه ألّا يقلق، لأنه لا يوجد شيء اسمه الأخلاق. كان تلاميذ الأقسام التي يدرِّسها في حالة فوضى دائمة، وكان التلاميذ في حيرة من أمر هذا الأستاذ البغيض، مثلهم في ذلك مثل زملائه.

في عام (1937)، قرَّر مغادرة «رومانيا» مرّة أخرى، وقد اعتبر هذا القرار «أذكى قرار» اتَّخذه في حياته. كان أوَّل بلد اختاره هو «إسبانيا»، حيث تقدَّم بطلب للحصول على زمالة في السفارة الإسبانية في «بوخارست»، شهرين، فقط، قبيل اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يتوصَّل بأيّ جواب قطّ. ثم قرَّر أن «باريس» هي المكان المناسب لشخص في مستوى تطلُّعاته: «قبل الحرب، كانت باريس هي المكان المثالي لأن يحيا المرء حياة فاشلة، وكان الرومانيون، على وجه الخصوص، معروفين بذلك».

قطع «سيوران» أواصره مع «رومانيا»، وتبنّى وجوداً جديداً، كما أنه أطلق على نفسه اسماً جديداً: «إي إم سيوران»». في وقت ما، أخذ يكتب ويتحدَّث، طول الوقت، تقريباً، باللّغة الفرنسية (كان يستخدم اللغة الرومانية للشتم فقط، وهو يعتبر أن ما يوجد في الفرنسية من عبارات الشتم لا يشفي الغليل). جاء «سيوران» إلى «باريس» بعد حصوله على منحة للدراسات العليا؛ وكان من المفترض أن يحضُر دروساً في جامعة السوربون، وينجز أطروحة دكتوراه حول موضوع فلسفي. وقد كان يعلم جيّداً، عندما تقدَّم بطلب الحصول على المنحة، أنه لن يكتب تلك الأطروحة أبداً. لقد تحقَّق له، أخيراً، ما كان يسعى إليه: أن يعيش كطفيلي! كلّ ما احتاجه ليعيش بأمان، في فرنسا، هو بطاقة الطالب، والتي كانت تمكِّنه من دخول مقاهي الجامعة الرخيصة. كان بوسعه أن يعيش على ذلك النحو، إلى الأبد. وهذا ما فعله لبعض الوقت، على الأَقلّ: «في الأربعين من عمري، كنت لا أزال مسجّلاً في جامعة السوربون، كنت أتناول الطعام في كافتيريا الطلاب، وكنت آمل أن يستمرّ هذا حتى آخر أيّامي. ثم صدر قانون يمنع الطلّاب الذين يتحاوزون السابعة والعشرين عاماً من التسجيل في الجامعة، فتمَّ إخراجي من ذلك النعيم».

بعد إخراجه من نعيم الطفيليّات، كان عليه ممارسة بعض المهن الغريبة. وكان بعض أصدقائه الرومانيِّين الميسورين، (مثل «يونيسكو») يساعدونه، أحياناً، وفي أحيان أخرى، كان يعوّل على لطف الغرباء. وقد أثبت أنه مرن إلى حدٍّ كبير، مبقياً كرهه للبشر تحت السيطرة؛ وهكذا، يصادق أيّ شخص يعرض عليه إمكانية تناول العشاء مجّاناً. وهذا هو ما جعله يتعرَّف، جيّداً، إلى عجائز «باريس». كان التكوين الصارم الذي تلقّاه في الفلسفة مفيداً له؛ إنه يُمْتِعُ من يدعوه للعشاء بمحادثته الرائعة، ويغنّي له. ثم كانت هناك الكنيسة في «باريس»: كلّما سنحت له الفرصة، كان يزور، بكلّ سرور، الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية، ويتحيَّن الفرص لتناول الطعام مجّاناً.

قد يقوم «سيوران» بأيّ شيء ما عدا تولّي وظيفة؛ فتولِّيه الوظيفة سيكون أكبر فشل في حياته. يتذكَّر «سيوران»، وقد تقدَّم به العمر، فيقول: « كان الشيء الرئيسي، بالنسبة إليّ، هو حماية حرِّيّتي. ولو قبلت، يوماً، أن أصبح موظّفاً في مكتب، لكسب لقمة العيش، لفشلت». ولكي لا يفشل، اختار مساراً قد يعتبره أغلب الناس هو الفشل بعينه، لكنه كان يعلم أن الفشل يكون أمراً معقَّداً، على الدوام: «لقد تجنَّبت، بأيّ ثمن، ما ينتج عن الوظيفة من إذلال […] فضَّلت أن أعيش كطفيلي [بدل] أن أدمِّر نفسي بالعمل موظَّفاً». وكما يعلم جميع الكسالى الكبار، ففي التقاعس كمال: لم يكن «سيوران» على وعي بذلك، فحسب، بل قام، أيضاً، برعايته طوال حياته. عندما سأله أحد محاوريه عن عمله الروتيني، أجابه: «في معظم الأوقات، لا أفعل أيّ شيء. أنا أَشدّ الناس كسلاً في باريس […].

فلا عجب أن يكون «سيوران»، بصفته شخصاً أقام مثل هذه العلاقة الحميمة مع الفشل، يشكّ في النجاح. يقول: «هناك جانب من الدجال في أيّ شخص ينتصر في أيّ مجال، كيفما كان». وقد رفض كلّ الجوائز التي منحتها له المؤسَّسة الأدبية الفرنسية، ما عدا جائزة «ريـفارول – Rivarol». وعندما حالفه النجاح العامّ، في الأخير، أجرى عدداً قليلاً من المقابلات، ولكنه ظلّ، دائماً، بعيداً عن الأنظار. «أنا عدوّ المجد»؛ تلك كانت عقيدته. وقد قال، ذات مرّة، عن «بورخيس»: «لقد أصابه سوء حظّ الاعتراف به. إنه يستحقّ أفضل من ذلك». في «معضلة الميلاد»، يتحدَّث «سيوران» عن «وجود يتغيَّر باستمرار، بفعل الفشل»، كمشروع حياة يحسد المرء عليه. ومثل هذا الوجود سيكون الصفاء بعينه، والحكمة مُجَسَّدة: عبارة عن «بذخ، وهدوء […].

كان الفشل، إذاً، رفيق «سيوران» المقرَّب، وملهمه المخْلِص، بل مصدره الرئيسي للإلهام. إنه ينظر إلى العالم – إلى الناس والأحداث والمواقف – بعيون الفشل التي لا تُحْجِم. يمكنه، على سبيل المثال، قياس عمق الحياة الداخلية لشخص ما، من خلال طريقة تعامل هذا الشخص مع الفشل: «هذه هي الطريقة التي نتعرَّف بها إلى الرجل الذي لديه ميول نحو استكشاف دواخله: إنه يضع الفشل فوق أيّ نجاح». كيف ذلك؟ لأن الفشل -كما يعتقد «سيوران»- «أساسيّ على الدوام، يكشف حقيقتنا لأنفسنا، ويسمح لنا برؤية أنفسنا […]، بينما النجاح يبعدنا عمّا هو جوهريّ في داخلنا، وفي كلّ شيء في الحقيقة». أَرِني كيف تتعامل مع الفشل، وسأخبرك بالشيء الكثير عن نفسك. «يمكنك معرفة المرء عند فشله، أو تعرُّضه لكارثة كبيرة»، فقط.

مهما يكن النجاح الذي يحقّقه «سيوران»، فإنه ينظر إليه من زاوية «مشروع الفشل» في حياته، وقد طوَّر عادة (رؤية النجاح في الفشل، ورؤية الفشل في النجاح). وأفضل النجاحات التي حقّقها لم تكن هي كتبه، التي تمَّ الاحتفاء بها، وترجمتها في جميع أنحاء العالم، لاحقاً، ولا تأثيره المتزايد بين الأشخاص الميَّالين إلى الفلسفة، ولا حتى وضعه، بصفته متقناً للُّغة الفرنسية. يقول: «النجاح الكبير، في حياتي، هو كوني تمكَّنت من العيش دون أن يكون لي عمل. لقد عشت حياتي بشكل جيّد، في نهاية المطاف. تظاهرت بأنها كانت فاشلة، لكنها لم تكن كذلك». […].

الكون «ساقط»، بالنسبة إلى «سيوران»، وكذلك العالَم الاجتماعي، والعالم السياسي. والحقيقة هي أنه لا شيء ينجو من الفشل بالنسبة إلى غنوصي القرن العشرين هذا. في محاولة منه لتجاوز ما تعرَّض له من إخفاقات سياسية، إبّان شبابه، سعى إلى فهم معانيها العميقة، ودَمْج هذا الفهم في نسيج تفكيره الناضج، وقد كانت نتيجة ذلك فلسفة أكثر دقّةً، ومفكّراً أكثر إنسانيّةً: لقد عملت تجارب «سيوران» الفاشلة على تقريبه من فئة إنسانية، لم يكن ليدخلها لو لم يعشها؛ ألا وهي فئة الخجولين والمتواضعين. إننا نصادف في كتبه المكتوبة بالفرنسية، فقرات عن الفشل، صادرة عن حكيم ملهَم: «في ذروة الفشل، في اللحظة التي يوشك فيها العار على إلحاق الضرر بنا، تجرفنا بعيداً، فجأةً، نوبةُ فخر لا تدوم سوى فترة تكفي لاستنزافنا، وتتركنا بدون طاقة، وتخفض بقوانا حدّة عارنا».

إن ممارسة الفشل مدى الحياة، إلى جانب التفكير فيه بهَوَس، قد غيَّرا «سيوران» في نهاية المطاف، فمع تقدُّمه في السنّ أصبح أكثر تسامحاً وتقبُّلاً لحماقات الآخرين وسلوكهم الغريب. بيد أن ذلك لا يعني أن «سيوران» الفرنسي قد أصبح، بين عشيّة وضحاها، مفكّراً «ديموقراطيّاً». فلم يكن هذا ليحدث أبداً؛ وسيظلّ، حتى النهاية، نَذِير «انحلال الغرب»، وصاحب الأفكار السوداء والمروِّعة. في كتابه «التاريخ والمدينة الفاضلة» (1960)، على سبيل المثال ، يلاحظ: كلّما زرت مدينة، كيفما كان حجمها، أتعجَّب من كون أعمال الشغب لا تندلع كلّ يوم: مذابح، مجازر، وفوضى تفوق الوصف. كيف لهذا العدد الكبير من البشر أن يتعايشوا في مكان ضيِّق للغاية، دون أن يدمِّر بعضهم البعض، دون أن يكره بعضهم البعض كراهيةً شديدة؟ إنهم، في الحقيقة متباغضون، يكره بعضهم بعضاً، لكنهم لا يترجمون تلك الكراهية إلى أفعال. وهذا الضعف وهذا العجز هما ما ينقذ المجتمع، ويضمن استمراره واستقراره.

لا. لم يصبح «سيوران» بطلاً ينافح عن الديموقراطية الليبرالية، ولكنه تعلم- ولا شكّ، بطريقة من الطرق- كيف يستمتع بلمهاة العالم – أي أن يشارك، مبتهجاً، في تشويه الفشل الكوني. يُظهِر تفكير «سيوران» اللاحق ميزة غريبة له، يمكن أن نسمّيها، في غياب مصطلح أفضل، اليأس البهيج (يعتبر «سيوران» نفسَه متشائماً بهيجاً). إنه النمط نفسه يتكرَّر مراراً: لقد تبيَّن أن هناك شيئاً فظيعاً، وشنيعاً، غير أنه، في تلك الشناعة، تكمن بذرة خلاصه، بطريقة ما. يمكن أن تكون الحياة شيئاً لا يطاق، أن يكون الأرق قاتلاً، وتستنزفك الأفكار السوداوية ببطء، بيد أن هذا شيء يمكنك معالجته من خلال الكتابة. يقول «سيوران»: «كلّ ما يتمّ التعبير عنه يصبح مطاقاً أكثر». الكتابة عمل سحري رائع يؤثِّر في ممارسيه، ويجعلهم يطيقون حياتهم أكثر. السلبي لا يأتي خالصاً، أبداً، بل هناك دائماً شيء يشوبه؛ فالكارثة تحمل، في طيّاتها، خلاصَها، في حدود ما يمكن التعبير عنه.

أحد أكثر الأشياء إثارةً للاهتمام، في كتابات «سيوران» المتأخِّرة، هو صوته بصفته ناقداً سياسيّاً. في كتابه «التاريخ والمدينة الفاضلة»، فَصْل بعنوان «رسالة إلى صديق بعيد»، وقد صيغ النصّ، في الواقع، على شكل رسالة، ونُشِر، في الأصل، في المجلّة الفرنسية الجديدة عام (1957). كان ذلك «الصديق البعيد»، الذي يعيش خلف الستار الحديدي، هو الفيلسوف الروماني «كونستانتين نويكا». لقد وجَّه «سيوران»، في رسالته، بشكل لا يدعو للاستغراب، طعنة للنظام السياسي الذي أقامته روسيا السوفياتية في أوروبا الشرقية؛ لكونها سخرت من فكرة فلسفية مهمّة. كتب يقول: «اللوم الكبير الذي يمكن أن نوجِّهه إلى نظامكم، هو كونه دمَّر المدينة الفاضلة؛ مبدأ التجديد لدى المؤسَّسات والشعوب». […].

والأهمّ من ذلك هو كون «سيوران»، في الرسالة نفسها، يوجِّه للغرب نقداً، بالقسوة نفسها، تقريباً، فقد كتب يقول: «نجد أنفسنا نتعامل مع نوعَيْن من المجتمع، كلاهما لا يطاق، وأسوأ ما في الأمر هو كون الإساءات التي تحدث في مجتمعكم تجعل المجتمع الآخر يواظب على إساءاته، ويقدِّم الفظاعات التي يرتكبها لتوازن تلك التي ترعونها في مجتمعكم». لا ينبغي للغرب أن يهنِّئ نفسه على «إنقاذ» الحضارة. فالحضارة قد بلغت درجة متقدِّمة من الانحطاط، يعتقد «سيوران»، بحيث لم يعد من الممكن إنقاذ أيّ شيء بعد الآن، باستثناء المظاهر، ربّما. ليس هناك اختلاف كبير بين «نوعَي المجتمع» هذين، ففي التحليل النهائي نجد أنها مسألة فارق بسيط، فقط. […].

وعلى الرغم من كلّ مزاياها التحليلية، والأسلوبية، اتَّضح أن رسالة «سيوران» زلّة سياسية. فالمرسل إليه، «كونستانتين نويكا»، الذي كان يحاول الابتعاد عن الأضواء في الريف الروماني، كان من عادته أخذ المراسلات على محمل الجدّ، وقد دفعه نصّ «سيوران» للردّ عليه بمقال فلسفي لاذع. كان «نويكا»، أيضاً، رجلاً ساذجاً للغاية. بعد انتهائه من كتابة المقال، وجَّهه إلى صديقه في «باريس»، واضعاً الظرف، كما يجب، في صندوق بريدي في الشارع. وقد تمكَّنت الشرطة السرِّية، من وضع يدها على ذلك الردّ. وبما أن الذوق لتلك الشرطة، كان مختلفاً قليلاً عن ذوق «نويكا»، فقد دفع ثمن مراسلته لـ«سيوران» بقضاء عدّة سنوات سجيناً سياسيّاً. ولا شكّ في أن «سيوران» قد اندهش، عندما علم بنبأ اعتقال صديقه، وسجنه، من كون الفشل لا حدود له. لا يفتأ المرء يفشل، بغضّ النظر عمّا يفعله.

توفّي «إي إم سيوران» في 20 يونيو/ حزيران (1995)، لكنه كان قد غادر، بالفعل، قبل وفاته؛ فقد عانى، طيلة السنوات الأخيرة من عمره، من مرض «الزهايمر»، وتَمّ إيداعه مستشفى «بروكا» في باريس. وبما أنه كان يخشى أن يعيش مثل هذه النهاية، فقد وضع خطّة للانتحار. لقد قرَّر، هو وشريكته التي عاشرته فترة طويلة، «سيمون بوي»، أن ينتحرا معاً مثل «أرثر كوستلر»، وزوجته. لكن المرض كان أسرع، ففشلت خطَّته، وكان عليه أن يموت بطريقة مذلّة، للغاية، ميتة استغرقت عدّة سنوات، قبل أن تبلغ منتهاها. في البداية، ظهرت عليه بعض العلامات المزعجة، فقط: ذات يوم لم يعرف طريق العودة من المدينة إلى المنزل! طريق كان يعرفها (هو المشَّاء الماهر) حقّ المعرفة، ثم بدأ يفقد جزءاً من الذاكرة. أحياناً، يبدو كأنه لا يعرف جيّداً من يكون. ويبدو أن آخر شيء فقده هو حسّ الفكاهة الرائع لديه. ذات يوم، سأله أحد المارّة في الشارع: «هل أنت هو «سيوران»؟» فأجابه: «كنت». لكن علامات الخرف أصبحت كثيرة جدّاً، وخطيرة: بدأ «سيوران» ينسى بمعدَّل ينذر بالخطر، فأصبح من اللازم إيداعه المستشفى. في النهاية خانته الكلمات: لم يعد «سيوران»، وهو أحد أفضل كتّاب عصره، قادراً على تسمية الأشياء الأساسية، ثم جاء الدور على العقل. في النهاية، نسي من يكون، تماماً.

في مرحلة من مراحل معاناته الطويلة والنهائية، في لحظة وجيزة من الصفاء الذهني، همس «سيوران» لنفسه: «إنها الاستقالة الشاملة!». لقد كان ذلك هو الفشل النهائي الكبير، وهو لم يفشل في إدراكه على حقيقته.

كوستيكا براداتان* 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كوستيكا براداتان (Costica Bradatan)، فيلسوف أميركي روماني المولد، يعمل أستاذاً للعلوم الإنسانية في «جامعة تكساس»، وأستاذاً باحث شرفيّاً باحثاً في الفلسفة، في جامعة «كونس لاند» في أستراليا. أصدر أكثر من عشرة كتب، من بينها «الموت من أجل الأفكار: حياة الفلاسفة الخطيرة» و»في مديح الفشل» (الذي تضمَّن هذا المقال المترجم هنا). ويشرف على مراجعة الدراسات الدينية والدراسات المقارنة في «مؤسَّسة لوس أنجلوس لمراجعة الكتب. lareviewofbooks.org».

المصدر:

The Philosopher of Failure: Emil Cioran’s Heights of Despair – Los Angeles Review of Books (lareviewofbooks.org).

“لأني، حقّاً، رأيت”.. شذرات لكريستيان بوبان

تجاوزت أعمال «كريستيان بوبان» ستِّين كتاباً، وتُرجِمت إلى أكثر من أربعين لغة. ظهر عمله الأوَّل «رسالة أرجوانية» عام (1977)، ثم أعماله الأخرى، تباعاً، في دور نشر صغيرة إلى أن تبنَّته منشورات «غاليمار» عام (1980)، لينال جائزة الأكاديمية الفرنسية على مجمل أعماله، في (2016).

هل يمكن أن نكره زهرة؟ يتساءل «أندريه دوتيل»!، فيجيب: نعم، ثم يمضي يتحدَّث عن أزهار أَخِلِيات (achillées): «رأيتُ يوماً زهرة أخيلية، كانت رمادية شاحبة، بلون أبيض مشوب، لم أحبَّها…، ثم بعد وقت قصير، ذهبت إلى حديقة أخرى ورأيت هناك أزهاراً شبيهة بذاك النوع، أزهاراً أخيلية أخرى، لكنها ملوَّنة. كانت بلون فاتح، ورائعة. فُتِنت، حقّاً، بها… عدت إلى الأولى ثانيةً؛ أعني تلك المبقَّعة الكريهة فأحببتها عن حبّ». هذه اللمسة الخاصّة في رؤية «دوتيل» للعالم؛ لمسة رجل يرى الجمال، برهافة، في أشياء لا تسمح لنا، في ظاهرها، بذلك، هي ما نقع عليه في كتابات «كريستيان بوبان» المتعدّدة (وهو المحبّ لـ«دوتيل»).

«بوبان»، الذي تجاوزت أعماله الآن ستِّين كتاباً، وتُرجِمت إلى أكثر من أربعين لغة، لم يغادر بيت أهله في مدينة «كروزو» منذ الولادة (1951) حتى سنّ الثلاثين؛ عاش حياة صامتة يتأمَّل: «عشت في مدينتَيْن؛ «كروزو»، والمدينة التي في الغيم». «كروزو»، المدينة الصناعية الصغيرة التي مرّ ذكرها عابراً في يوميّات «بول كلوديل» عام (1916)؛ مدينة لا يحلم أحد بالعيش فيها، حيث الله، والعزلة، والآخرون: «هاجرتُ من «كروزو» إلى «كروزو»».

يكتب «كريستيان بوبان» وكأنه يتكلَّم في كتبه جميعها بسلاسة عميقة، فالجملة العذبة الكاملة، هي التي «تجعلك تشعر بابتهاج عظيم إلى حَدٍّ لا تستطيع معه أن تكون أكثر ابتهاجاً ممّا أنت فيه»، متأثِّراً بجماليّات الكبار، «بروست»، مثلاً، الذي تجاوز زينة البرناسيين وأخذ جُمَلهم الطوال إلى بيت آخر، بأسلوب هو «مكاشفة لعالم خاصّ يراه كلّ واحد منّا، ولا يراه الآخرون. إن المتعة التي يمنحنا إيّاها فنَّان، هي أن يعرِّفنا إلى عالم آخر جديد». «بروست»، يكتب نصوصاً متشظِّية في أشكال مختلفة: نصوص الشذرات الشعرية القصار (Le Christ aux coquelicots)، اللوحات النثرية المطوَّلة (Mozart et la pluie،Un désordre de pétales rouges)، نصوص المشاهد السردية والنصّ الروائي (Le Très-Bas) ، اليوميّات، الشعر. بورتريهات سردية عن شخصيات أحبّها واقترب من عالمها الداخلي؛ الإنساني والشعري: القدّيس فرانسوا الأسيزي، وإميلي ديكنسون، وبيار سولاج، عدا تأثُّراته الخاصّة بكتابات «جان غروجان» و«أندريه دوتيل»، وشاعر اليابان «رايوكان» في القرن التاسع عشر: «كنت بحاجة إلى أكثر من ستِّين عاماً لأعرف ما كنت أبحث عنه في الكتابة والقراءة، وفي الحبّ، وفي الوقوف مشدوهاً أمام نبتة لبلاب، أو حجر صوان، أو غروب الشمس».

 

***

 

لا فرح أعنف من العثور على روح نقيّة: نودّ، حينها، أن نموت للتوّ..

أودُّ، حقّاً، أن أحبّ أولئك الذين أرى. لكن، لماذا هم أقلّ وجوداً حتى لأنفسهم؟

الرجل الذي يتحدَّثون عنه، حين يتحدَّثون عن كتبي، لا وجود له.

إنهم قادرون على إدخال كلّ شيء في حساباتهم سوى الاعتراف بالفضل، لهذا لا معنى لحساباتهم.

لا شيء يحافظ أكثر على يفاعة الحياة، من هدوء قلب يشتعل.

الملل يُعِدّ الدهشة مثلما نبسط غطاءً أبيض على الطاولة، أيّام العيد.

يُخطئ بعضنا كثيراً في حقّ البعض الآخر، ثم نموت.

وضعت المزهرية المليئة بأزهار صفراء على الأرض، قرب النافذة القصيرة، كي أترك الضوء يشرب.

الحقيقة في الأرض مثل مرآة مكسورة؛ كلّ قطعة تعكس السماء بكاملها.

شيء ما يأتي في كلّ لحظة لينقذنا.

أحبُّ الكتابات التي تنتزع الكاتب من العالم أيّاً كان السبب: ألم لا حدود له، فرح بلا سبب، أو-ببساطة- الشعور بأنك غريب على الأرض.

المطر يكتب مثلما يكتب طفل منحنياً على صفحته، خطوطاً مائلة وبطيئة ومهذَّبة.

لقد راهنت بكلّ شيء، على حبٍّ لا يمكنه أن يكون من هذا العالم حتى لو جعلنا كلّ تفصيل منه واضحاً.

ليس الجمال أو القوّة أو الفكر هو ما أحبُّ في شخص ما، بل علاقته الذكيّة الحياة، والتي عرف كيف تصله بها.

أكثر الكُتَّاب يصيبوني بالملل. هم، صدقاً، ليسوا السبب. أرى- تماماً- الجهد الذي يبذلونه للحصول على اهتمامي، لكن هذا -تحديداً- ما يصيبني بالملل. لا يستحوذ عليّ سوى أولئك الذين يتكلَّمون تلقائياً، دون أن يفكّروا في من يستمع إليهم؛ مثلما هو طائر الدوري، أو «أندريه دوتيل»..

أدفن كثيراً من الكُتَّاب في صناديق أُنزلها إلى القبو؛ فقلبي يتخفّف مثلما تتخفّف مكتبتي.

اليوم، أبي الذي رحل منذ فترة قريبة، يقف جانبي. ومثلي، لم يفعل شيئاً طوال النهار. كان يبتسم فحسب.

لا تصدّقوا أني طيّب، حكيم، أو حتى ذكيّ. صدّقوا، فقط، ما رأيت، لأني، حقّاً، رأيت.

«كنت وحيداً طوال ألفَيْ عام – زمنَ الطفولة. لا أحد مسؤول عن هذه العزلة. كنتُ أحتسي الصمت، وأقتات على سماء زرقاء. كنت أنتظر. بيني وبين العالم، كان هناك سور يقف عليه ملاك حارس، في يده اليسرى زهرة أرتانسيا – شيء يشبه كرة ثلج زرقاء. في الألفيّ عام، ساءلتُ كثيراً من الكتب. كنت أقرأ مثلما نكون في بلد أجنبي، ونفتح خريطة لنعرف أين نحن، قبل البحث عن المكان الذي نريد الذهاب إليه. لم أكن أدري أين أنا…».

«كنت، دائماً أتعذَّب من الذهاب إلى العالم ..»

يوما بعد يوم، كنت أختفي في بلد بلا اسم …»

مجنون، مَنْ ترك الألم يأخذ مكانه.

أجمل الحدائق هي تلك الحدائق المهملة.

الشتاء كان منقذي، والشفاعة الكبرى لثلجه الذي يغطِّي العالم.

أشتهي أن أدفن في ندفة ثلج.

في وسع فراشة أن تنقذ حياة.

مرَّات، أكون لنفسي، المتسوِّل: أجلس أمامي، وأمدّ يدي إليَّ، لكني أفتقد مزية السخاء، فتظلّ يدي فارغة.

الشاعر، يصادف، دائماً، شاعراً أكبر منه، فيأسر قلبه بالإعجاب. أنا صادفت الجليد.

حتى العميان، في مستطاعهم رؤية الضوء؛ يكفي أن يجلس شخص دمث، ويكلِّمهم.

تدهشني، كلّ يوم، حين أخرج من البيت، الثقةُ العالية للغيم.

الفقدان هو الضوء الذي مُنح للجميع.

المعرفة الكبرى ذابت من فوقك. والعتمات من جهتنا، لا من جهتك.

نحتاج إلى مئة وثلاثين زهرة لصناعة إكسير الرهبان.. ومثلها لكتابة قصيدة.

الابتسامة هي البرهان الوحيد على عبورنا فوق الأرض.

ما كنّا نقوله تلاشى في سماء الغابة، ولم يسقط منه ثانيةً سوى جزء من ألف، داخل الكتب.

أيدينا التي تشابكت على طريقة الأطفال، ستتابع تاريخها طويلاً، بعد أن كانت عظاماً ورفاتاً، ثم لا شيء.

أريد أن أقتل «كريستيان بوبان».

قطرة ماء تنتحر في المغسل، بعد تردُّد طويل.

ميتتك هي، تماماً، وراء فرحتك.

في وسع فراشة أن تنقذ حياة.

صديقتي، هي شخص ينتظرني في البهو، فيما أنا أربط خيوط حذائي.

أنا أصغر المريدين، وأساتذتي في كلّ مكان.

لأجله أحرق بعض الأشعار.

لا أحد أكثر شعوراً بالوحدة من نغمة ناي.

الحبّ طريقة عنيفة للخلاص من الموت وأسبابه.

أكتب إليك لآخذك أبعد من موتك.

كلّ ثانية ضائعة في النظر، دون انتباه من النافذة، تؤخِّر نهاية العالم.

كلّ يوم، أنتظر كلّ شيء.

أن نموت، هو كالوقوع في الحبّ: نختفي، ولا نخبر أحداً.

أنت تعبُر حياتي مثلما يعبر حريق غابة.

جيني أوديل: أسطورة الاعتماد على الذات (مصادفتي لمقالات إيمرسون)

توجد في الحيّ الذي أعيش فيه مكتبة، كأنها وضعت هناك بشكل ماكر، بحيث لا يمكنني مغادرة شقَّتي للذهاب إلى أيّ مكان، تقريباً، دون أن أمرّ بمحاذاتها، اسمها «والدن بوند بوكس»، وهي مجاورة للمقهى الذي أرتاده عادةً، وحتى لو لم أقرِّر دخولها عند مروري بها، للوهلة الأولى، فربَّما أفعل عند مروري بها ثانيةً. والعديد من مراجع كتابي، «تعلَّمْ ألّا تفعل أيَّ شيء: مقاومة اقتصاد الانتباه»، صادفتها هناك، في كتب، منها: «جَدْلُ العُشب الحُلو-Braiding Sweetgrass»، و«تعويذة الحسّي-Spell of the Sensuous»، و«عبقريّة الطيور – The Genius of Birds». لقد كان تأثير تلك المكتبة قويّاً جدّاً؛ إذ جعلني أعتبر كتابي، عندما أراه معروضاً هناك، فطراً نما فيها.

في تشرين الأوَّل (أكتوبر) الماضي، وجدت نفسي في المكتبة، أنظر إلى طبعة لكتاب «مقالات» لـ«رالف والدو إيمرسون»، أصدرتها «دار ﭬينتيدج بوكس»، عام (1990). وبما أنني لم أكن قد قرأت الكثير من كتب «إيمرسون»، حتى بصفتي متخصّصة في اللّغة الإنجليزية، فقد انجذبت، سريعاً، إلى ما كتبه عن الوقت والإدراك: «الطبيعة سحابة قابلة للتغيُّر، وهي هي لا تتغيَّر أبداً، ولا تكون هي نفسها أبداً»، وكانت المهمّة هي (اكتشاف) الفرد الثابت من خلال الذبابة، من خلال اليسروع، من خلال اليرقة، من خلال البيضة، والأنواعَ الثابتة من خلال عدد لا يحصى من الأفراد، والنوع من خلال العديد من الأنواع،؛ والنوع الصامد من خلال كلّ الأنواع، والوحدة الأزلية من خلال كلّ ممالك الحياة المنظَّمة. ألفيتها تحقِّق لي انتشاءً حَظِي باعترافي وإعجابي.

لم تكن قراءة مقالات «إيمرسون» تشبه قراءة كتب أخرى. لاحقاً، سألت أحد الأصدقاء، عندما حاولت وصف التجربة له: «هل سبق لك أن قرأت كتاباً جعلك تشعر كأنك في حالة سُكْر؟». أقوال «إيمرسون» قويّة، وإيقاعاته مذهلة، وجاذبيته لإرادة الفرد مغرية. أنا -عادةً- أقرأ بانتظام، أقرأ فصلاً في اليوم، وأضع وريقات ملوَّنة صغيرة كعلامة عند أهمّ الأقوال، ثمَّ أقوم، لاحقاً، برَقْن أكثرها أهمِّيّةً. لكن نسختي من كتاب «مقالات» لـ«إيمرسون» تحتوي على علامة واحد، فقط، في المقدِّمة التي كتبها «دوغلاس كرييز» (وهي اقتباس من «إيمرسون»: «يبدو أن الدرس الوحيد الذي يعلِّمنا إيّاه هذا العالم المعجز، ويعلِّمه للمقدَّس، هو أن نقف بمعزل، ولا نسمح لأيّ رجل أو أيّة عادة، ولا لأية طريقة في التفكير بأن يقتحموا علينا عالمنا، ويحرمونا من لانهايتنا»). بعد ذلك، دخلت في حالة انخطاف، أصبحت لا أفارق الكتاب، أضع خطوطاً تحت الأقوال، أو دوائر حولها، منكبّة عليه، ووجهي شديد القرب من الصفحة.

لقد كنت مهيّأة لفهم رؤية «إيمرسون» للتعالي. قبل شهر، كنت قد قمت برحلتي السنوية إلى محميّة مستنقع قرن الإلكة القوميّة عند مصبّ النهر شمال «مونتيري»، في «كاليفورنيا». كان هدفي المزعوم هو رؤية طيور الشاطئ المهاجرة، بما في ذلك طيور الرمل، التي تحتوي أسرابها الغامضة على أكثر من مجرَّد شيء قليل من المتعالي، كما كان هدفي، أيضاً، هو التعافي، وسماع نفسي وأنا أفكِّر. لم يسبق لي أن كنت أبداً شخصية عمومية، وقد فوجئت بالدعاية التي حظي بها كتابي «تعلَّم ألّا تفعل أيّ شيء». وسرعان ما وجدتني غارقة وسط كَمٍّ من الالتزامات والآراء التي أعقبت ذلك. أصبحت أشعر، أحياناً، بأنني لم أعد أعرف موضوع كتابي، أو ما الذي فكرت فيه، بالفعل، وقد شعرت بحاجة ماسّة إلى تقديم نوع من التوضيح.

بعد تجوُّلي في تلال مستنقع قرن الإلكة، إلى حين إغلاق المحميّة في الساعة الخامسة، قرَّرت -باندفاع- عدم العودة إلى المنزل مباشرةً.  بدلاً من ذلك، اتَّجهت بسيّارتي ناحيةَ الشرق، وعلى الرغم من أن درجة الحرارة كانت (100) درجة، وكنت قد مشيت طيلة اليوم، فقد شرعت في صعود طريق شديد الارتفاع بالقرب من قمّة «فريمونت» في «سان خوان باوتيستا». كنت مدفوعة بأكثر من مجرَّد فضول؛ كنت أحاول التخلُّص من شيء ما. لم تكن هناك رحمة في جانب التلّ الجافّ والعاري من الأشجار، وفيه تهبّ ريح حارّة استمدَّت صوتها الخشن والمخشخِش من قطيع بقرات حلوب غريبة المظهر. شعرت بأنني ألهث لكي أستطيع التنفُّس؛ بالمعنى المادّي، وبالمعنى المجازي. عندما وصلت إلى قمّة الطريق، كانت الشمس قد بدأت تغيب عن سلسلة جبال «ديابلو» عبر الوادي، ملقيةً عليها بظلّ أرجوانيّ من عالم آخر. كنت مفعمة بمزيج متقلِّب من المشاعر. كتبت في دفتر ملاحظاتي، وقد بدأ عَرَقي يجفّ، أن «الألم الذي أشعر به هو محاولة الرغبةِ الإقدامَ على الفعل» وأن «الذات الحقيقية، إن تَمَّ تحريرها من القفص، ترفض أن تعود إليه مرّةً أخرى».

«الإرادة» التي كتبت عنها لم تكن إرادتي أنا، تحديداً، بل كانت إرادة فنّان، وتردُّداً خارج النطاق، يجب بذل مجهود كبير للإنصات إليه. تناولَتْ «مقالات» «إيمرسون» هذه الذات المستمعة، وحفَّزتها، وخاصّة مقالة «الروح المتعالية». شعرت بالانجذاب إلى أنموذجه اللاهوتي للتخلّي عن الذات، والتجلّي، وهو ما لا يختلف عن الطريقة التي وصفت بها الكاتبة -Simone Weil» الحبّ والاهتمام، أو الطريقة التي ينتظر بها الرسّام «أغنيس مارتن»، وحيداً، طيلة أيّام وأسابيع، من أجل رؤية الكمال. كتَبَ «إيمرسون» يقول: «تَهَبُ الروح نفسَها، وحيدَة، أصليّة وطاهرة، للوحيد الأصيل والطاهر الذي، بهذا الشرط، يستوطنها بكلّ سرور، ويقودها ويتحدَّث من خلالها». لقد أدركت اشتياقي للوضوح المطلق، ورحلتي التي تقطع الأنفاس، في وصف «إيمرسون» لـ «ارتقاء الحال»، حيث «مع كلّ دافع إلهي يمزِّق العقل قشرة المرئي والمحدود الرقيقة، ويخرج إلى الخلود، ويلهم أجواءه وينهيها».

رالف والدو إيمرسون
(1803-82)

«الروح المتعالية» هي مقالتي المفضَّلة، لكن «إيمرسون» اشتُهر بـمقالة «الاعتماد على الذات»، تلك المقالة الشهيرة التي يمجِّد فيها الفردانية، المقالة التي يعلنُ فيه «إيمرسون» أنه «مَنْ يريد أن يكون رجلاً عليه أن يكون مخالفاً للآخرين»، ويحتقرُ المجتمعَ، باعتباره «شركة مساهمة، يتَّفق فيها الأعضاء، من أجل تأمين الخبز، بشكل أفضل، لكلّ مساهم، على أن يتنازل الآكِلُ عن حرِّيّته وثقافته». مرّة أخرى، نجد الكتابة هنا مغرية، فأيّ شخص يمضي على غير هدى، في هذا العالم، سيشعر بالطمأنينة حين يسمع: «لا شيء يمكن أن يجلب لك السلام غير نفسك»، أو أن الإرادة العقلية يمكن أن تنتصر على القدر. يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة حقّاً: «في الإرادة، اعمل واكتسب، فبذلك تقيِّد عجلة الحظّ، وبعد ذلك ستركن للجلوس خوفاً من أن تعود للدوران». لم أكن محصَّنة ضدّ هذا المقال. لقد وضعت سطراً تحت «الرجل العظيم هو الذي في وسط الحشد يحافظ، بكلّ لطف، على استقلالية العزلة». ولكني كلّما نظرت إلى هذه الكلمات، لاحقاً، دخلت في صراع مع نقطة المقال الغامضة. لم أدركها على الفور، لأن تلك النقطة الغامضة كانت نقطتي أنا، أيضاً.

بدأ الصراع عندما عدت إلى المنزل للاحتفال بعيد الشكر. تكون تجمُّعات عائلتي صغيرة: نجتمع أنا ووالدي وعمّي في منزل جدَّتي، وهو واحد من مجموعة منازل صغيرة مخصَّصة للمسنِّين. هذا العام. ما إن دخلنا إلى المنزل حتى واجهتني معضلة. التحقت والدتي، على الفور، بجدَّتي في المطبخ، بينما عبر والدي فناء المنزل إلى غرفة كان يجلس فيها عمّي. عندما سألت أمّي عمّا إذا كانت تحتاج إلى المساعدة في المطبخ، طردتني؛ لذلك توجَّهت إلى الفناء الضيِّق لأنتظر على هامش حديث يدور حول الانتخابات التمهيدية المقبلة. هذا التقسيم مألوف لدى الكثيرين: النساء يعملن في المطبخ، والرجال يتحدّثون عن السياسة في الغرفة المجاورة.

اتَّكأتُ، بشكل محرج، على الجدّار، لأنه لم يكن هناك كرسيّ ثالث، واستمرَّ الحوار كما لو أنني غير موجودة هناك. جُلت بنظري في الغرفة، فوقع على لوحة مهمّة. كان هناك، على الرفّ، شيء لم أنتبه لوجوده أبداً: نسخة من رواية «النافورة» لـ«آين راند»، الرواية المفضَّلة لدى معتنقي الحرِّيّة الفردية. الشخصية الرئيسية هي مهندس معماري متمرِّد، عنيد، عصامي وحداثي، شاركه «إيمرسون» ازدراءه للمجتمع، واتَّبع نصيحته بكلّ تأكيد: «لا تسمح لأيّ رجل أو أيّة عادة، ولا لأيّة طريقة في التفكير أن تقتحم عليك عالمك وتحرمك من لانهايتك».

بجانب «النافورة»، كانت هناك، وسط إطار، صورة لنورَس أسود الرأس، مرسومة، بعناية، بقلم رصاص. بعد التحديق فيها لبضع لحظات، أدركت -أخيراً- أنني أنا التي رسمت تلك الصورة. تساءلت عمّا قد يكون دفعني لأن أرسم لجدَّتي طائر نورس أسود الرأس، طائر الساحل الشرقي الذي ربَّما لم أره أبداً، ثم أدركت أنني رسمته منذ سنوات، قبل أن أصبح مولعة بمراقبة الطيور. ربَّما كنت أبحث عن موضوع لطيف وعامّ للرسم، وبحثت عن «نورس بحري» على «جوجل»، فرسمت طائراً، بناءً على إحدى نتائج البحث، دون التمييز بين الطيور. (من الناحية الفنِّيّة، لا يوجد شيء اسمه «نورس بحري». هناك، فقط، أنواع مختلفة من النوارس.

بشكل غير متوقَّع، تجمَّد كلّ شيء في تلك اللحظة: الغرف المختلفة، الرسم، «النافورة»، «الاعتماد على الذات»، والنقد الذي رأيته حول كتابي «تعلَّم ألّا تفعل أيّ شيء». تماماً كما كنت قد أعدت رسم شكل النورس دون أن أعرف ما هو، رأيت أنني قد أخذت من عائلتي، ومن طريقة تنشئتها لي، نوعاً معيَّناً من الفردانية، وأنني أقوم بتثمينها ونقلها للآخرين دون أن أعلم. لقد فعلت ذلك طوال حياتي، وخاصّةً في كتابي « تعلَّم ألَّا تفعل أي شيء». حول صيغ العزلة التأمُّلية المفضَّلة لديّ، الشبيهة -إلى حَدٍّ بعيد- بعزلة «إيمرسون» التأمُّلية، برزت مجموعة كاملة من الظروف، مثل شيء أخذ يحتلّ بؤرة التركيز. وجود النساء في المطبخ جعل محادثة الرجال ممكنة، تماماً، كما ارتكزت رحلتي إلى الجبل، وكلّ الوقت الذي قضيته في المشي، والمراقبة، ومراودة «الروح المتعالية»، على قائمة طويلة من الامتيازات؛ من الخاصّة (امتلاك سيارة، امتلاك الوقت)، إلى العامّة (امتلاك قدرة جسدية، الانتماء لطبقة متوسطة عليا، نصفي من عرق أبيض والنصف الآخر «من الأقلِّيّة الناجحة»، وأن أقطن حيّاً أمشي فيه، بأمان، في المدينة التي أريد، وأكثر من ذلك). كانت هناك بنية تحتية أحاطت بتجربتي للحرّيّة، وكنت مشغولة جدّاً بالسعي وراءها إلى درجة أنني لم أرَها.

كنت قد شاهدت، في الليلة السابقة، وثائقي «حياة تحت المجهر» لـ «أسترا تايلر»، وهي سلسلة من المقابلات مع فلاسفة معاصرين، في أماكن مختلفة. بينما يظهر ضيوف الفيلم الوثائقي الآخرين بمفردهم، تتجوَّل «جوديث بُتلر» في مقاطعة «ميشن» في «سان فرانسيسكو» مع «سونورا تايلر»، الناشطة في مجال الإعاقة وحقوق الحيوان. وُلدت تايلور مصابة بمرض التهاب المفاصل، وهي تستخدم كرسيّاً متحرِّكاً للتنقُّل. في لحظة ما، تقول «بُتلر»، «أفكِّر، فقط … في أنه لا أحد يذهب في نزهة دون أن يكون هناك شيء يدعم ذلك الذهاب خارج أنفسنا، وأنه  كانت لدينا -ربَّما- فكرة خاطئة، مفادها أن الشخص القادر، جسديّاً، يتمتَّع بالاكتفاء الذاتي بشكل كلِّي».

«تايلر»، التي تؤثِّر إعاقتها في استخدامها ليديها، أخبرت «بتلر» عن الوقت الذي عاشت فيه في «بروكلين»، وكيف تجد نفسها ملزَمَة بأن تقضي، في حديقة ما، ساعات من الإعداد النفسي؛ قصد الحصول على قهوة دون مساعدة. تقول: «إنه نوع من الاحتجاج السياسي، بالنسبة إليَّ، أن أدخل إلى المقهى، فأطلب قهوة، وأطلب المساعدة، لأن المساعدة -بكلّ ببساطة، في رأيي- هي شيء نحتاجه كلُّنا». بعد توقُّفهما في متجر لبيع الملابس العتيقة لشراء سترة لـ«تايلر»، لأن البرد أصبح قارساً، تعود «بتلر» للحديث عن هذه القصّة:

«أرى أن ما هو على المحكّ، هنا، حقّاً، هو إعادة التفكير في الإنسان كنوع يعتمد أفراده، بعضهم على بعض. وأعتقد أنه عندما تدخل المقهى… وتطلب القهوة، أو تطلب المساعدة للحصول على القهوة، فأنت -أساساً- تطرح السؤال التالي: هل نعيش في عالم، يساعد فيه بعضنا بعضاً، أم لا؟ هل يُساعد بعضنا بعضاً بخصوص احتياجاتنا الأساسية، أم لا؟ وهل الاحتياجات الأساسية قد وُجدت لنتَّخذ القرار بشأنها كشأن اجتماعي، لا كمسألة شخصية أو فردية تخصّني أنا أو تخصّك أنت، فحسب؟ إذن، هناك تحدٍّ للفردانية، يحدث في اللحظة التي تطلب فيها شيئاً من المساعدة مع فنجان قهوة. أتمنّى أن يتبنّى الناس ذلك، فيقول أحدهم: نعم. أنا، أيضاً، أعيش في هذا العالم… الذي أدرك فيه أن بعضنا بحاجة إلى البعض الآخر لتلبية احتياجاتنا الأساسية. وأريد تنظيم عالم اجتماعي، وسياسي على أساس هذا الاعتراف».

تذكَّرت هذا الحوار في ذلك المنزل الصغير، في عيد الشكر. جدَّتي، التي تتمتَّع بصحّة جيّدة، تَمَّ -مؤخَّراً- تشخيص مرض «باركنسون» لديها. بعد أن اجتمعنا كلّنا في غرفة المعيشة، أرتني جهاز الإنذار الطبّي (المعروف، أيضاً، باسم «زر الذعر») المعلَّق حول رقبتها، وأشارت إلى وحدة تحكُّم صغيرة في زاوية الغرفة، يمكن الاتصال بوالديّ، من خلال الضغط على الزرّ. قبل ذلك بأسابيع كانت قد سقطت في غرفة المعيشة هذه، وبما أنها لم تتمكَّن من التحرُّك أو الوصول إلى الهاتف، فقد ظلَّت مستلقية على الأرض، لساعات عديدة، إلى أن جاء والدي ليزورها كعادته.

فور علمي بقصَّتها، وبذلك الزرّ، انتابني الرعب ممّا قد يحدث كلّه. لقد جعل هذا جدّتي تبدو معتمدة على غيرها، بشكل فريد. ولكن، عندما فكَّرت في (زرّ الذعر) في سياق «تحدّي الفردانية» الذي طرحته «بتلر»، بدا لي وكأنه نسخة متقدِّمة وملموسة من حالة الاعتماد على الآخرين، بشكل أو بآخر، التي نعيشها منذ الولادة. إذا كانت جدَّتي، الآن، معلَّقة بهذا الخيط المحدَّد، فقد سلَّطتِ الضوء، ببساطة، على العديد من الخيوط الأخرى التي تبقينا كلّنا مرفوعين عالياً. لقد كان، أيضاً، توضيحاً مادِّيّاً قويّاً للطريقة التي يتمّ بها تقييد الحرِّيّة بواسطة عوامل خارجة عن سيطرة الفرد – «عجلة الحظّ» ذاتها، التي اعتقد «إيمرسون» أنه بوسعنا تجاهلها.

في عام (1930)، كتب «جيمس تروسلو آدامز»، الكاتب الذي ابتكر مصطلح «الحلم الأميركي»، مقالاً بعنوان «إعادة قراءة إيمرسون»، حاول فيه تفسير سبب إعجابه بمقالات «إيمرسون»، عندما كان شابّاً، ولكنه لمّا أصبح رجلاً وجدها فارغة. ويقول إن صورة الاستقلالية هذه تبدو سهلة للغاية، مشيراً إلى أن «الشرور الاقتصادية لا تزعج حكيمنا بتاتاً». يشير «آدامز» إلى أن اعتماد «إيمرسون» على نفسه كان جزءاً من تيَّار متفائل في الفكر الأميركي، كان مواكباً للوفرة المادِّيّة، والتوسُّع في اتِّجاه الغرب. وقد تمَّت، بالفعل، كتابة «الاعتماد على الذات» قبل خمس سنوات من ابتكار مصطلح «القدَرُ الواضح»، وهي حقبة مجَّدت المستكشف القادر الذي ينطلق وحيداً لترويض برية (مفترضة). غالباً ما كان التقليد التأمُّلي يحظى بالدعم من الخارج، وهي ميزة يتيحها للناس وقت الفراغ (تماماً، كما كانت الفلسفة تعتمد، في اليونان القديمة، على طبقة العبيد)، ومفهوم الاعتماد على الذات قد اعتمد، دائماً، على شيء آخر.

لا يعني أيُّ شيء من هذا أن «الاعتماد على الذات» ليس مفيداً، بوصفه أنموذجاً للرفض والالتزام. كان «إيمرسون»، في زمانه، معارضاً صريحاً للعبودية، وللحرب المكسيكية الأميركية، ولطرد الأميركيِّين الأصليِّين من أراضيهم. في عصرنا، يمكننا -بكلّ تأكيد- استخدام ما يُذكِّرُنا من أجل فحص علاقتنا بالرأي العامّ، والحفاظ على شعور بالحدس المبدئي. أفضل صيغة لفردانية «إيمرسون» تنعشنا، كرَشِّ الماء البارد على الوجه، أو كهزّ صديق لكتفينا، ليخرجنا من غيبوبة. بالنسبة إليَّ، كما بالنسبة إلى الكثيرين غيري، كلّ شيء خارج الذات يتلاشى، بسرعة كبيرة، داخل «الاعتماد على الذات»؛ كلّ الظروف، وكلّ الأشخاص الذين أثَّروا في تجربة الاستقلالية لديَّ، وتصوُّري لنفسي، وحتى في المصطلحات التي أستخدمها في تفكيري. وهذا يخفي الخسائر التي تبدو كمكاسب حقَّقتُها. وبرفع الإرادة مقاماً عالياً فوق الظروف، يَعْرِضُ صورة غير صادقة لتكافؤ الفرص، الذي كان على التعساء أن يبذلوا معه جهداً أكبر.

لم يكن من السهل، أبداً، إيجاد حلّ للتوتُّرات بين الفاعل والوضع، وبين الفرد والجماعة. إنني أحاول أن أتعلَّم كيف أعيش في الفضاء الموجود بينهما، وهزّ فضاء تعمّه الفوضى. هنا، يمكنك أن تكون مملوكاً لنفسك وغير مملوك لها، أن تكون مسؤولاً أمام الجماعات، دون أن تبرز التفكير الجماعي المخيف، وتتقيَّد بالتزام واحد: التحقُّق من التزاماتك، على الدوام.  في بعض الأحيان (أحيان عديدة)، أكون مخطئاً، وعندها يكون الوقت مناسباً للإنصات إلى الآخرين، وليس لـ«الحفاظ على استقلاليّة العزلة، بعذوبة تامّة». يذكِّرني هذا بمعنى قديم لاسم «الاعتماد»، حيث يعني عكس المعتمِد؛ كان الاعتماد هو الشخص الذي تعتمِد عليه. عندما أفحص هويَّتي، أرى روحاً غير قابلة للتصرُّف تتشبَّث باللانهاية. لكني، في تلك الهويّة نفسها، أرى كذلك تقاطع قوًى موجِّهة، تاريخية وثقافية، تعيقها شبكة لا نهاية لها من اعتماد بعضها على بعض.

تحتوي كتابات «إيمرسون» على نسخة من مفارقة الذات غير الذاتية، حتى لو كانت عيناها موجَّهتَيْن نحو الأعلى والداخل، لا نحو الخارج. في نهاية المطاف، الشيء الآخر المرتبط أكثر بـ«إيمرسون»، إلى جانب «الاعتماد على الذات»، هي الفلسفة المتعالية، والتي يمكن أن تستلزم تعالي الذات بقدر استلزامها للتعالي على المجتمع؛ هذا هو الشيء الذي جعلني أشعر بالانتشاء، إنه اختراق حدود الذات عند الالتقاء بشيء آخر. في «الروح المتعالية» «تنزل علينا كينونتنا من حيث لا نعلم … أجدني مضطرّة، في كلّ لحظة، للاعتراف بأنَّ أصل الأحداث أسمى ممّا أدعوه (إرادتي). في «الدوائر». نجد الكون «مائعاً ومتقلِّباً»؛ الروح «تنفجر متجاوزة ذلك الحدّ من كلّ الجوانب»؛ والقلب «يرفض أن يكون سجيناً؛ ففي أولى نبضاته، وأضيَقها، نجده يميل -بالفعل- نحو الخارج، بقوّة هائلة، ونحو توسُّعات هائلة لا حصر لها». في «التاريخ»، لا نجد الفرد كياناً واحداً، بل «باقة علاقات، وعُجْرَة جُذور، زهرتها وثمرتها هي العالم».

عندما يكتب «إيمرسون» أن «الأفكار تأتي إلى أذهاننا، من خلال طرق لم نتركها مفتوحة أبداً، و… تغادر عقولنا من خلال طرق لم نفتحها طوعاً، أبداً»، يبدو كأنه يصف ذلك اليوم في مكتبة «والدن بوند بوكس»، يوم وجد كتابُه «مقالات» طريقَه إلى يديَّ اللتَيْن لم تستشعرا الخطر. أفكِّر في فِطْر كتابي الذي ينمو هناك، «زهرة وثمار» لقاءاتي حتى الآن. إنها قصَّتي وقصّة من اعتمدت عليهم. سأستمرّ في العودة إلى المكتبة، والانعزال في الجبل، وإجراء مقابلات، والجلوس وحيدة، متتبِّعة مساراً هو حلزونيٌّ أكثر من كونه خطّاً مستقيماً. ومهما يكن اجتهادي في العمل كبيراً، فإنني لن أكون، بذلك، عصامية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*«جيني أوديل – Jenny Odell»: هي مؤلفة كتاب «تعلَّم ألّا تفعل أيَّ شيء: مقاومة اقتصاد الانتباه»، وهي أستاذة تُدرِّسُ «فنّ الاستوديو»، في جامعة «ستانفورد» الأميركية.

العنوان الأصلي والمصدر:

The Myth of Self-Reliance

مجلّة The Paris review، خريف (2020).

https://www.theparisreview.org/blog/2020/01/15/the-myth-of-self-reliance

لويز غلوك.. الشاعر والقارئ (خطاب نوبل)

حصلت «لويز غلوك – louise Gluck» على جائزة «نوبل» في الآداب لعام (2020). هذه محاضرة «نوبل»، التي لم تتمكَّن من تقديمها بنفسها، بسبب جائحة (كوفيد- 19).

نص الخطاب:

عندما كنت طفلة صغيرة (خمسة أو ستة أعوام، على ما أذكر)، نظَّمتُ مسابقة في رأسي، مسابقة لتحديد أعظم قصيدة في العالم. وصل اثنان إلى التصفيات النهائية؛ «الولد الأسود الصغير – the Little Black Boy» لـ« بلايك – Blake»، و«نهر البجعة – Swanee» لـ«ستيفن فوستر – Stephen Foster»، كنت أقضي الوقت، صعوداً ونزولاً إلى غرفة النوم الثانية في بيت جدَّتي، في «سيدار هورست – Cedarhurst»، وهي قرية تقع على الشاطئ الجنوبي من «لونغ آيلند – Long Island»، أقرأ في ذهني، كما كنت أفضِّل، لا بفمي، قصيدة «بلايك» التي لا تنسى، وأغنّي أغنية «فوستر» المؤلمة في ذهني، أيضاً. كيف توصَّلت إلى قراءة «بلايك»، يبقى لغزاً. أعتقد أنّه كان هناك بعض المختارات الشعرية في منزل والدي، بين الكتب الشائعة حول السياسة، والتاريخ، والروايات، لكني أربط «بلايك» ببيت جدَّتي.

لم تكن جدَّتي امرأة كتب، لكن كان هناك «بلايك» وأغاني البراءة والتجربة (The Songs of Innocence and Experience)، وأيضاً كتاب صغير من الأغاني، من مسرحيات «شكسبير»، التي حفظت الكثير منها. وقد أحببت -على وجه الخصوص- الأغنية من «Cymberline»، التي -ربَّما- لم أفهم منها كلمة واحدة، لكنّ سماع النغمة، والإيقاعات، وضرورات الإيقاع، كلّها مثيرة لطفل شديد الخجل والخوف. «والشهرة تكون قبل قبرك»، كنت آمل ذلك.

لقد بدت المنافسات من هذا النوع، من أجل الشرف، ومن أجل المكافأة العالية، طبيعية بالنسبة إليَّ، وقد كانت الخرافات التي مثَّلت قراءتي الأولى مليئة بها. أعظم قصيدة في العالم، بدت لي، حتى عندما كنت صغيرة جدّاً، أعلى درجات الشرف. لقد كانت هذه هي الطريقة التي نشأنا بها، أختي وأنا، من أجل إنقاذ فرنسا «جان دارك»، لاكتشاف الرايديوم «ماري كوري». في وقت لاحق، بدأت أفهم مخاطر التفكير الهرمي وقيوده. لكن، في طفولتي، بدا من المهمّ منح جائزة، وشخص واحد سيقف على قمّة الجبل، مرئيّ من بعيد، الشيء الوحيد المثير للاهتمام، على الجبل. الشخص الذي كان أسفل قليلاً، لم يكن مرئياً.

في هذه الحالة قصيدة. شعرت، بالتأكيد، أنّ «بلايك»، بشكل خاصّ، كان على دراية بهذا الحدث، عازماً على حصد نتائجه. كنت أفهم أنّه ميِّت، لكني كنت أشعر أنّه لايزال حيّاً، حيث كنت قادرة على سماع صوته يتحدَّث إليّ متنكِّراً، لكنّه صوت يتحدَّث معي، فقط، أو معي (على وجه الخصوص) كما كنت أشعر. شعرت بالتفرُّد والتميُّز، كما شعرت، أيضاً، بأن «بلايك» هو من كنت أطمح إلى الحديث معه، ومن كنت -بالفعل- أتحدَّث إليه إلى جانب «شكسبير».

كان «بلايك» الفائز في المسابقة، لكنني أدركت، فيما بعد، مدى تشابُه النغمتَيْن. لقد انجذبت، في ذلك الوقت، كما الآن، إلى الصوت البشري المنفرد الذي يُثار في رثاء أو شوق. والشعراء الذين عدت إليهم، عندما كبرت في السنّ، كانوا الشعراء الذين أدّيت في أعمالهم دوراً أساسيّاً، بصفتي المستمع المختار. أعمال حميمة، مغرية، مخفيّة أوسرِّيّة، غالباً. الأمر لا يتعلَّق بشعراء الملاعب، فالشعراء لا يحادثون أنفسهم.

لقد أحببت هذا الميثاق، أحببت الإحساس بأنّ ما كانت القصيدة تقوله هو ضروري وخاص أيضاً، الرسالة التي تلّقاها الكاهن أو المحلِّل.

كان حفل توزيع الجوائز يتمّ في غرفة نوم جدَّتي الثانية، بحكم سرِّيَّته، فهو امتداد لشدّة العلاقة التي أنشأتها القصيدة: امتداد، وليس انتهاكاً.

كان «بلايك» يتحدَّث معي من خلال الطفل الأسود الصغير. لقد كان المصدر الخفيّ لذلك الصوت، ولا يمكن رؤيته، تماماً، مثلما لا يمكن رؤية الولد الأسود الصغير، أو الذي يُرى بشكل غير دقيق، من قِبَل الطفل الأبيض غير المدرك أو المزدري. لكنني عرفت أنّ ما قاله عن جسده الفاني المؤقَّت الذي يحتوي على روح النقاء المضيئة، كان صحيحاً. عرفت هذا لأن ما يقوله الصبيّ الأسود، روايته لأحاسيسه وتجربته، يتضمَّن لوماً، لا رغبةً في الانتقام لنفسه، بل الاعتقاد بالعالم المثالي الذي وُعد به بعد الموت، فحسب. سيتمّ الاعتراف بما هو عليه، وفي فورة من المرح، يحمي الطفل الأبيض الأكثر هشاشةً من الفورة المفاجئة للضوء. ذلك الأمل غير الواقعي الذي يتجاهل الواقع، يجعل من القصيدة محطِّمة للقلب، سياسية، أيضاً، بعمق. الألم والغضب اللذان لا يستطيع الطفل الأسود أن يسمح لنفسه بأن يشعر بهما، وأنّ والدته تحاول تحصينه منهما، أمران يشعر بهما القارئ أو المستمع، حتى عندما يكون القارئ طفلاً.

لكن الشرف العامّ أمر آخر.

القصائد التي استمعت إليها، طيلة حياتي، هي قصائد من النوع الذي وصفته، قصائد من الاختيار أو التواطؤ الحميم، قصائد يقدِّم فيها المستمع أو القارئ مساهمة أساسية، كمتلقٍّ للثقة أو الصراخ، وأحياناً كمتآمر مشارك. تقول «ديكنسون»: «أنا لا أحد! هل أنت لا أحد، أيضاً؟/ ثم هناك زوج منّا – لا تقلْ ذلك !»، أو كما يقول «إليوت – Eliot»: دعونا -إذن- نذهب، أنت وأنا/ عندما ينتشر المساء على السماء/ مثل مريض مثقل على طاولة…». لم يكن «إليوت» يستدعي فرقة الكشّافة، بل كان يطلب شيئاً ما من القارئ، على عكس قول «شكسبير»: «هل أقارنك بيوم صيفي؟»، مثلاً. «شكسبير»، لا يقارنني بيوم صيفي، لقد سمحت لي القصيدة بالاستماع إلى براعة مُبهرة، لكنّ القصيدة لا تتطلَّب حضوري. في الفنّ الذي هو من النوع الذي انجذبت إليه، يكون صوت أو حكم المجموعة خطيراً. هشاشة الحديث الحميم تزيد من قوَّتها ومن قوّة القارئ، الذي، من خلال وكالته، يتمّ تشجيع الصوت في مناشدة، أو في ثقته العاجلة.

ماذا يحدث لشاعر من هذا النوع، عندما تضعف الجماعة، وتقف بدلاً من عزله/ أو تجاهله/ها؟ أودّ أن أقول إنّ مثل هذا الشاعر سيحسّ بالتهديد، بأنه ليس قادراً على المناورة.

هذا هو موضوع (عمل) «ديكنسون». ليس دائماً، بل في الغالب. لقد قرأت لـ «إميلي ديكنسون» بحماس شديد، عندما كنت في سنّ المراهقة، في وقت متأخِّر من الليل، بعد الاستلقاء على أريكة غرفة المعيشة.

«أنا لا أحد. من أنت؟

هل أنت لا أحد، أيضاً؟»

وفي الإصدار، الذي قرأته حينها، ومازلت أفضِّله:

«ثم هناك زوج منا – لا تخبر عن ذلك !

سوف يبعدوننا، كما تعلم…».

«ديكنسون» اختارتني، أو تعرَّفت بي، وأنا جالسة هناك، على الأريكة.

كنّا نخبة، رفقاء في الخفاء، حقيقة معروفة لدينا نحن، فقط، تلك التي أكَّدها كلّ منا للآخر. في العالم، كنّا لا أحد.

لكن، ما الذي يمكن اعتباره نفياً للأشخاص الموجودين كما فعلنا في مكاننا الآمن تحت السجلّ؟

أنا لا أتحدَّث هنا عن التأثير الخبيث لـ «إيميلي ديكينسون» في الفتيات المراهقات، بل أتحدث عن حالة مزاجية لا تثق بالحياة العامّة، أو تعتبرها مجالاً يفتقد فيه التعميم إلى الدقّة، وتحلّ فيه الحقيقة الجزئية محلّ الصراحة والإفصاح المشحون. مثلا، لنفترض أنّ صوت المتآمر، صوت «ديكنسون»، تمَّ استبداله بصوت المحكمة: «نحن لا أحد. من أنتم؟» تصبح الرسالة شرِّيرة، فجأةً.

لقد كانت مفاجأة لي، صبيحة الثامن من أكتوبر؛ أن اشعر بنوع من الذعر الذي كنت أصفه. كان الضوء شديد السطوع، السلَّم شديد الاتِّساع. البعض ممَّن يكتبون الكتب يتمنّون أن تصل إلى الكثيرين، لكنّ بعض الشعراء لا يصلون إلى الكثيرين من الناحية المكانية، مثلما هو عليه الأمر في المدرج المملوء، فهم يصلون إلى الكثيرين مؤقَّتاً، بشكل متتابع. مع مرور الوقت، في المستقبل. لكن، وبشكل عميق، يأتي هؤلاء القرّاء، دوماً، منفردين، واحداً تلو الآخر.

أعتقد أن الأكاديمية السويدية، بمنحي هذه الجائزة، اختارت الصوت الحميم والخاصّ الذي يمكن أن يحسنه الكلام العامّ، وقد يجعله يمتدّ أحياناً، لكنّه لا يحلّ محلَّه أبداً.

 

المصدر:

Louise Gluck, The Poet and the Reader, The New York Review of Books, V. LXVIII, N°1 (January 14th, 2021): p.29

مو يان: «العمّ فوكنر، كيف حالك؟»

يصادف هذا اليوم، الذكرى الـ 123 لميلاد الكاتب الأميركي «ويليام فوكنر» (25-9-1897 /6-7-1962). ويعتبر «فوكنر» الشخصية التمثيلية لتيّار أدب الوعي في الولايات المتَّحدة، فقد حاز على جائزة «نوبل» في الآداب عام 1949، وتمثِّل رائعته «الصخب والعنف» أشهر أعماله.
ذكر «مو يان» «فوكنر» عدَّة مرّات، في خطاباته ومقالاته، ويمكن القول إن «فوكنر» كان معلِّماً مهمّاً، للغاية، في مسيرة «مويان» الإبداعية، يتذكَّر «مويان»، بوضوح، لقاءهما الأوَّل، قائلاً: «كان عصر يوم، تتساقط فيه نُتف الثلج بغزارة في كانون الأوَّل/ ديسمبر، من عام 1984، حيث استعرت من زميل لي كتاب «الصخب والعنف» لـ«فوكنر».
وفي مارس، عام 2000، ألقى «مويان» كلمة في جامعة «كاليفورنيا» بعنوان «أيُّها العمّ «فوكنر»، كيف حالك؟». وفي تلك الأثناء، لم يكن المعلِّم «مويان» حتماً، يتوقَّع أنه سيحصل على جائزة «نوبل» في الآداب، بعدها باثنَىْ عشر عاماً.
عندما كنت ألقي خطاباً في جامعة «ستانفورد»، قبل بضعة أيّام، قلت إن قراءة كاتب لأعمال كاتب آخر، هي في الواقع بمنزلة محادثة، حتى أنها قد ترتقي إلى عاطفة حبّ، فلو نجحت المحادثة لغدا من المرجح أن يصبحا رفيقَيْن، مدى الحياة، ولو كانت محادثة مزعجة، فسيمضي كلٌّ منهما في دربه الخاصّ.
واليوم، سأتحدَّث، على وجه التحديد، عن محادثاتي مع الكُتّاب من جميع أنحاء العالم، حيث يمكن الحديث، أيضاً، عن مسيرة الحبّ التي جمعتني بهم. في رأيي، الكاتب الجيّد خالد أبداً، وسيتحوَّل جسده، بالطبع، إلى تراب كما الأشخاص العاديِّين، تماماً، إن عاجلاً أم آجلاً، بينما تبقى روحه خالدة، ما انتشرت أعماله.
من الواضح أنه من غير المناسب قول مثل هذه الكلمات في مجتمع اليوم، الغارق في البذخ والترف، ذلك أن ثمّة الكثير من المغريات التي تطغى على القراءة، بينما تدفعني رغبتي في طمأنة ذاتي، وحثِّها على مواصلة مسيرة الإبداع، حتماً، لقول ذلك.
بدأت مسيرتي في القراءة قبل عدّة عقود، عندما كنت طفلاً مشاكساً أرعى الأغنام والماشية في الأراضي العشبية، في مسقط رأسي. وفي موضعنا النائي المتخلِّف، آنذاك، كانت الكتب من الكماليّات شديدة الندرة. كنت على دراية تامّة بكلّ أسرة لديها أيّ نوع من الكتب، في محيط يضمّ عشرات القرى، في بلدة «شمال شرق قاومي».
ومن أجل الحصول على الحقّ في قراءة هذه الكتب، غالباً ما كنت أعمل لدى هؤلاء الأشخاص ممَّن لديهم الكتب. وفي منزل حجّار من جيراننا، بدت مجموعة «تنصيب الآلهة» المصوّرة، كأنها تحكي تاريخ الصين قبل ثلاثة آلاف عام، لكنها كانت تحكي -في الواقع- قصصَ العديد من الأشخاص الخارقين. على سبيل المثال، القول بأن عينَيْ شخصٍ قد اقتلعتا بفعل آخر، فنَمَت في محجرَيْ عينيه يدان، وقد تبرعمت بهاتَيْن اليدَيْن عينان، يمكن لهاتَيْن العينين رؤية الأشياء على بعد ثلاثة أقدام تحت سطح الأرض؛ ثمّة آخر، يمكنه عزل رأسه عن رقبته ليغنّي في الهواء، حدث أن تحوَّل عدوُّه إلى نسر، فأعاد وضع رأسه على رقبته، بشكل معكوس، ونتيجة ذلك أنَّ ركْضَ هذا الرجل، إلى الأمام، كان، في الواقع، تحرُّكاً للخلف، وركضه إلى الخلف كان يدفع به، في الواقع إلى الأمام.
مثل هذه الكتب لها جاذبية لا تُقاوم، لأطفال مثلي، منغمسين في الخيال طوال اليوم. ومن أجل قراءة هذه المجموعة، كنت أطحن له الدقيق بدفع الرحى، في منزله، طوال فترة الصباح، لأتمكَّن من قراءتها لمدَّة ساعتَيْن، على أن أقرأها في ممرّ الطاحونة، بمنزله.
وعند القراءة، كانت بنت الحجّار تقف خلفي لتراقبني، وبانقضاء الوقت، تأخذها على الفور. ولو كانت لديَّ الرغبة في مواصلة القراءة، فعليَّ الاستمرار في دفع الرحى. لم يكن هناك ساعات في ذلك المكان، آنذاك، فكانت مدّة الساعتَيْن تعتمد على مزاج ابنة الحجّار، فإذا كانت حالتها المزاجية جيِّدة، مَرَّ الوقت متباطئاً، بينما لو كانت في مزاج سيِّئ، فسيمرّ خاطفاً.
ومن أجل إبقاء هذه الفتاة الصغيرة في مزاج سعيد، كان عليّ أن أرتقي شجرة المشمش لدى الجيران، لأسرق ثمارها وأطعمها إيّاها. إن منح شبح جشع مثلي الآخرين مشمشاً مسروقاً، لهو أشبه ما يكون بدفع قطّة جشعة لبصق السمك من فمها، لكنني ظللت أعطي المشمش، الذي أناله بشقّ النفس، للفتاة، وبالطبع، كان جمال ابنة الحجّار الفاتن سبباً مهمّاً، كذلك.
باختصار، لقد دفعت ثمناً باهظاً، في طفولتي، لقراءة كلّ الكتب في عشرات القرى من حولنا. كانت ذاكرتي جيّدة جدّاً آنذاك، إذ لم تكن سرعة القراءة مذهلة، فحسب، بل كنت موهوباً بذاكرة استثنائية. أمّا بالنسبة إلى فكرة التواصل بين المؤلِّف والقارئ، فلم تكن قد تبرعمت آنذاك. في ذلك الوقت، كان الأمر متعلّقاً بشكل محض بقراءة القصّة، فحسب، فقد كنت غارقاً في ثناياها، وغالباً ما أبكي، بحرقة، لمعاناة شخصيات القصّة، بل أقع، في كثير من الأحيان، في حبّ أولئك النسوة الجميلات اللاتي يضمهن نسيجها.
وبعد الانتهاء من قراءة عشرات الكتب في القرى المجاورة، لم أقرأ كتباً، تقريباً، لعدّة عقود. فقد اعتقدت أن تلك العشرات من الكتب هي كلّ ما في العالم من كتب، وإنجاز قراءتها يعادل الانتهاء من قراءة كتب العالم كافّةً. وخلال هذه الفترة، كنت أعمل في الريف، فكان تواصلي مع الأغنام والماشية أكثر كثيراً من تواصلي مع الناس، حتى كدت أنسى تلك الكلمات التي تعلَّمتها في المدرسة. بيد أن قلبي كان مفعماً بالخيال، وتمنَّيت أن أكون كاتباً، أحيا حياة ملؤها السعادة.
عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، كبرت ابنة الحجّار، فصارت فتاة بالغة، فائقة الجمال، تعقد جديلة كبيرة تتدلّى حتى ردفها، ولها عينان برموش كثيفة، تنبعث منهما نظراتها الناعسة المبهمة. كنت مفتوناً بها، للغاية، وكنت غالباً ما أشتري لها الحلوى، بنقودي الزهيدة التي أجنيها من عملي الدؤوب. كانت حديقتا بيتَيْنا متجاورتَيْن، فكنّا نذهب، عند الغسق، إلى النهر، لجلب الماء وسقي الخضروات. وعندما كنت أراها تحمل دلو الماء، وقد أطلقت لجديلتها العنان لتتراقص خلفها، وتهفو في سبيلها من أعلى ضفّة النهر، تجيش في صدري شتّى الأحاسيس، ويخالجني شعور بأنها أجمل مخلوق على وجه الأرض. كنت أسير خلفها، فأطأ بقدميَّ العاريتَيْن ما تخلِّفه خطواتها من أثار على شاطئ النهر، فيبدو وكأن تيّاراً يسري، عابراً بدني من أخمص قدميَّ وحتى أعلى رأسي، فيفيض قلبي بالسعادة.
استجمعت شجاعتي، ذات غسق، وقلت لها إنني أحبها، وأتمنّى أن تصير زوجة لي. اعترتها الدهشة، ثم انفجرت بالضحك. قالت: «أنت، ببساطة، ضفدع يشتهي لحم بجعة!» شعرت بجرح كبير قد أصاب كرامتي، غير أن افتتاني بها لم يتبدَّل؛ لذا طلبت من زوجة أخي الذهاب إلى منزلها، وعرض الزواج عليها. حملت زوجة أخي رسالة لي؛ فحواها أنها ستتزوَّجني، طالما أمكنني كتابة عمل مثل «تنصيب الآلهة». ذهبت إلى منزلها لأعبِّر لها عن تطلُّعاتي السامية، وأهدافي العظيمة، فلم تخرج لرؤيتي، بل هرع إليَّ كلبهم المتوحِّش الضخم مندفعاً كالنمر.
قلت، قبل بضعة أيّام، في محاضرتي في «ستانفورد»، إنني تحمَّست للكتابة؛ رغبةً في عيش حياة سعيدة، أتناول فيها (الجياوتسي) ثلاث مرّات في اليوم، وفي حقيقة الأمر، وباستثناء (الجياوتسي)، لقد ألهمتني تلك الفتاة في منزل الحجَّار، بعينيها الناعستَيْن. لم أتمكَّن، حتى اليوم، من كتابة مثل هذا الكتاب المشابه لـ «تنصيب الآلهة». وبالفعل تزوَّجت ابنة الحجّار من ابن الحدّاد، وغدت أمّاً لثلاثة أطفال.
كانت معظم قراءاتي عندما كنت أدرس في قسم الآداب بالجامعة، وقد كتبت، آنذاك، الكثير من القصص الرديئة، للغاية. شُدهت عند دخولي الأوَّل إلى مكتبة الجامعة، لم أتوقَّع، حتى في أحلامي، أن العالم -بالفعل- زاخر بالكُتّاب، وملآن بكتبهم. لكنني كنت قد تجاوزت سنّ القراءة في ذلك الوقت، حيث وجدت أنني ما عدت قادراً -بالفعل- على الصبر لقراءة كتاب من أوَّله حتى آخره، وقد انتابني شعور بأن أيّاً من القصص التي تضمُّها هذه الكتب لم تتجاوز مخيِّلتي. فقد كنت أرى المؤلِّف بتصفُّح ما يربو عشر صفحات من الكتاب.
اعترف أن الكثير من الكُتّاب رائعين جدّاً، لكن ليس ثمّة الكثير من اللّغات المشتركة تجمعنا معاً، و-من ثَمَّ- لا تحمل كتبهم لي الكثير من الفائدة، فقراءة كتبهم أشبه ما يكون بتعاملي مع ضيف بشكل مهذَّب وراقٍ، كان ذلك هو الحال حتى وصلت بقراءاتي إلى «فوكنر».
أتذكَّر، بوضوح، أنه كان عصر يوم، تتساقط فيه نُتف الثلج بغزارة في كانون الأول/ ديسمبر، من عام 1984، حيث استعرت من زميل لي كتاب «الصخب والعنف» لـ«فوكنر»، وأمعنت النظر في صفحة الغلاف، فكان ثمّة رجلٌ عجوزٌ يرتدي زيّاً غربيّ الطراز، يُحكِم عليه برابطة عنق، ويقبض بفمه على غليون، لم ترُقْ لي الصورة. ثم بدأت في قراءة تلك المقدِّمة المطوَّلة التي خطَّها مترجم مشهور في الصين. كنت أقرأ فيغمرني الفرح، وتفهَّمت، بشدّة الكثير من سلوكات هذا العجوز الأميركي غير المواكبة للعصر، كما شعرت بالودّ الشديد حيالها، منها -على سبيل المثال- أنه كان لا يقرأ الكتب بجدِّيّة، منذ أن كان طفلاً، وكذلك أنه كان محبّاً للتفوُّه بالترّهات، كما كان يحبّ الكذب، حيث لم يخُض الحرب، بينما ادّعى أنه كان يقود الطائرة ويشتبك مع العدو في السماء، وقد أصيب، جرّاء ذلك، بشظيَّة كبيرة جدّاً في رأسه، وأن هذه الشظيّة، التي اقتحمت دماغه، قد تمخَّضَ عنها أسلوبه اللّغوي المبهم والمتحذلق.
كان مخموراً حينما ذهب لتسلُّم جائزة «نوبل»، حتى أنه ألقى بالميدالية الذهبية في سلّة المهملات؛ ولمّا دعاه الرئيس «كيندي» إلى مأدبة عشاء في البيت الأبيض، قال إن تناول وجبة لا يستحقّ الهرولة إلى البيت الأبيض. لم يكن يعتبر نفسه، في الأساس، كاتباً، بل اعتبر نفسه مزارعاً، بينما فتنتني «مقاطعة يوكناباتوفا» وليدة مخيِّلته. داخلني شعور بأن «فوكنر» يشبه المزارعين القدامى في مسقط رأسي، فقد علَّمني، بنبرة نافذة الصبر، كيف ألجم المِهار بالرسن.
ثم بدأت في قراءة كتبه. اعتقد كثير من الناس أن كتبه غامضة، يصعب فهمها، بينما قرأتها بسهولة بالغة. أشعر أن كُتبه دافئة لطيفة مثل أحاديث أولئك المزارعين القدامى غريبي الأطوار في مسقط رأسي، فلا يهمّني القصص التي يرويها لي، لأن قدرتي على تأليف القصص ليست دون قدرته، لكنّ ما أعجبني هو تلك النبرة، وتلك الطريقة التي يسرد بها القصص.
كان يتصرَّف كما لم يكن، في الساحة، غيره، فيتحدَّث عن ذاته، فحسب، تماماً، مثلما كنت أفعل عندما أرعى الماشية في مراعي مسقط رأسي، حيث أتحدَّث إلى الماشية وطيور السماء، فحسب. قبل ذلك، كنت، دائماً، أكتب الرواية وفقاً للأسلوب المتَّبع في مناهجنا لتعليم الرواية، والتي كانت، حقّاً، عملاً شاقّاً. شعرت بافتقاري لما أودّ كتابته، وفقاً لمناهجنا التعليمية، وإذا انتابني هذا الشعور، فإنه ينبغي عليَّ مواصلة خوض غمار الحياة والتعمُّق فيها.
بعد قراءة «فوكنر»، شعرت كأنني قد استيقظت من حلم، ليتَّضح أمامي أن الروايات يمكن أن تتناول الترَّهات هكذا، وأن الأشياء التافهة التي تحدث في الريف، يمكن أن تنسج خيوط رواية بشكل رائع، فالكاتب لا يمكنه أن يختلق الشخصيّات، ويبتكر القصص، فحسب، بل يمكنه، أيضاً، أن يختلق الجغرافيا.
لذا، ألقيت كُتبه جانباً، والتقطت قلماً لكتابة روايتي الخاصّة. وقد كتبت، بجرأة، على الورقة: «بلدة شمال شرق (قاومي)»، مستوحياً إيّاها من اختلاقه الجغرافي «مقاطعة يوكناباتوفا». إن مقاطعة «يوكناباتوفا» خاصّته هي اختلاق خياليّ محضّ، بينما بلدة «شمال شرق قاومي»، خاصَّتي، هي مكان حقيقيّ. لقد اتَّخذت قراراً بالكتابة عن مسقط رأسي، تلك الرقعة من الأرض التي تشبه، في حجمها، حجم طابع بريد.
كان ذلك، ببساطة، أشبه ما يكون بفتح هوس الذاكرة المتدفِّقة، حيث أنعش حياة الطفولة كاملة، فتذكَّرت ما قلته في تلك السنوات الخوالي، وأنا مستلقٍ على العشب، قبالة الأبقار، والسحائب، والأشجار وطيور السماء، ثم كتبته في رواياتي، كما هو تماماً. ومنذ ذلك الحين، تبدَّد قلقي بشأن عدم العثور على ما أودّ كتابته، وانحصر حول عدم قدرتي على الكتابة. غالباً ما يحدث ذلك، فعندما أكتب رواية، تصرخ في عقلي الكثير من الأفكار الجديدة، كما لو كانت كلباً ينبح خلفي.
وفي وقت لاحق، تعرَّفت إلى أستاذ جامعي أميركي في ندوة «فوكنر» الدولية التي عُقدت في جامعة «بكين»، وكان يدرِّس في جامعة قريبة من مسقط رأس «فوكنر». وقد دعاني هو ورئيس الجامعة لزيارتهما، لكنني لم أذهب، فأرسل إليَّ ألبوم صور لـ«فوكنر»، يحتوي الكثير من الصور الثمينة، من بينها صورة لـ«فوكنر» وهو يقف أمام إسطبل للخيل، مرتدياً ملابس مهترئة، وحذاءً طويل الساق، بالياً. أعادتني صورته هذه، على الفور، إلى بلدة «شمال شرق قاومي»، فذكَّرني بجدّي، وبأبي، وبالكثير من القرويِّين القدامى.
في ذلك الحين، تفكَّكت صورة «فوكنر» بعقلي، باعتباره كاتباً عظيماً تماماً، لأشعر بتلاشي المسافة بيني وبينه. وقد انتابني شعور بأننا قلبان متناغمان، وصديقان حميمان من جيلَيْن مختلفَيْن، لا تنطوي علاقتنا على أسرار. فقد تحدَّثنا معاً عن الطقس، والمحاصيل الزراعية، والماشية، كما دخَّنّا التبغ سويّاً، واحتسينا الخمر، وسمعته يوبِّخ النقّاد الأميركيين أمامي، ويسخر من «همنغواي».
كما سمح لي بتلمُّس تلك الندبة برأسه، وقال إنها نتيجة عضّة فرس أبقع، لكن بالنسبة إلى هؤلاء الحمقى، لابدَّ من القول إنها كانت جرّاء انفجار طائرة ألمانية. ثم انفجر بالضحك منتشياً، وقد علت وجهه ابتسامة مشاكسة وممازحة. أخبرني أن الكاتب يجب أن يكذب بجرأة، ودونما خجل، ليس لإبداع الروايات، فحسب، بل لابتكار تجارب شخصية، أيضاً.
علَّمني، أيضاً، أن الكاتب يجب أن يتجنَّب المدينة المزدهرة، ويستقرَّ في مسقط رأسه، تماماً، مثلما يجب أن تتجذَّر الشجرة في الأرض. وأنا أرغب، حقّاً، في السير على هداه. لكن، في مسقط رأسي، غالباً ما ينقطع التيّار الكهربي، كما يفتقر إلى وسائل التدفئة في الشتاء، علاوةً على مرارة المياه، وطعمها القابض، وأنا أخشى المصاعب؛ لذا، لم أعُد إليها حتى اليوم.
ينبغي أن أعترف، بصراحة، أنني لم أنتهِ من قراءة رواية «فوكنر» «الصخب والعنف» حتى الآن، لكنني أضع ألبوم صوره، الذي أهداني إيّاه ذلك الأستاذ الجامعي الأميركي، على مكتبي، حيث أتحدَّث إليه، حينما أفقد الثقة بنفسي.
أعترف أنه معلِّمي، لكنني قلت له، ذات مرّة، دون خجل: «مرحباً، أيُّها العجوز، ثمّة موضع قد تجاوزتك فيه!»، فرأيت ابتسامة ملؤها السخرية، قد فاض بها وجهه، وعقَّب قائلاً: «قل لي: ما المواضع التي تفوَّقت عليّ فيها؟».
قلت: «مقاطعة يوكناباتوفا، خاصَّتك، هي مقاطعة من البداية وحتى النهاية، بينما بلدة «شمال شرق قاومي»، خاصَّتي، قد حوَّلتها إلى مدينة حديثة، للغاية، في غضون أقلّ من عشر سنوات. ففي عملي «الصدور المرتفعة والأرداف العريضة» جعلت بلدة «شمال شرق قاومي» تشيِّد العديد من المباني الشاهقة، وتضيف المرافق الترفيهية الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، أنا أكثر شجاعة منك، فما كتبته أنت كان قاصراً على حدود ذلك المكان، بينما تجرَّأت أنا على نقل أشياء من جميع أنحاء العالم، وتغيير وجهها، وضمّها إلى بلدة «شمال شرق قاومي»، وكأن هذه الأشياء قد حدثت فيها، بالفعل.
لا توجد جبال في بلدة «شمال شرق قاومي» الحقيقية، لكنني حرَّكت جبلاً إليها، بالقوّة، كما أنها لا تضمّ أرضها صحراء، فخلقت لها، بالقوّة، صحراء، ولا يوجد فيها المستنقعات، فجلبت إليها مستنقعاً، علاوةً على الغابات، والبحيرات، والأسود والنمور… وكلّ تلك الأشياء صنعتها من أجلها. وفي السنوات الأخيرة، توالى ذهاب بعض الطلّاب الأجانب والمترجمين إلى بلدة «شمال شرق قاومي»، لرؤية الأشياء التي وصفتها في رواياتي، وعندما وصلوا إلى هناك، أصيبوا جميعاً بخيبة أمل، فما من شيء هنالك، إلّا سهل مقفر، وعلى السهل بعض القرى عديمة الملامح».
قاطعني «فوكنر»، وقال ببرود: «اللصوص الصاعدون، غالباً ما يكونون أكثر جرأةً من اللصوص القدامى!».
تُعَدّ بلدة «شمال شرق قاومي» جمهورية أدبيّة من اختراعي، فهي مملكة، أنا مَلِكها. وكلَّما أُمسك بالقلم، وأكتب قصّة بلدتي «شمال شرق قاومي»، أتذوَّق سعادة الإمساك بتلابيب السلطة؛ فعلى هذه الأرض، يمكنني تحريك الجبال، وملء البحور، وتسيير الرياح، واستدعاء المطر، أُميت من أودّ موته، وأُحيي من أشاء له الحياة. بطبيعة الحال، ثمّة بعض اللصوص الجريئين، أوجدتهم لمعارضتي، بينما يجب عليَّ أن أستسلم لهم.
وبعد ظهور سلسلة رواياتي، التي تدور أحداثها في بلدة شمال «شرق قاومي»، احتجَّ ضدِّي بعض السكّان المحلِّيّين، ووصفوني بالخائن لبلدتي؛ وهو ما دعاني لكتابة عدّة مقالات لشرح الأمر. قلت لهم: بلدة «شمال شرق قاومي» هي مفهوم أدبي، وليست مفهوماً جغرافياً، وهي مفهوم منفتح وغير منغلق، يعتمد على تجربة طفولتي لبناء صرح أدبي خيالي؛ عملت جاهداً لتكون صورة مصغَّرة للصين، واجتهدت لصياغة الفرح والألم هناك، بما يتماشى مع الفرح والألم للبشرية جمعاء، واجتهدت لتؤثِّر القصص التي أنسج أحداثها في بلدة «شمال شرق قاومي»، في القرّاء من جميع البلدان، وسيكون هذا هدفي مدى الحياة.
والآن، وطئت قدماي، أخيراً، أرض معلِّمي، العمّ «فوكنر»، وأتمنّى أن ألمح طيفه في الشارع الصاخب، فأنا أعرف ملابسه المهترئة تلك، وغليونه الكبير ذاك، كما أعرف، جيّداً، رائحة روث الحصان المختلطة برائحة التبغ، التي تفوح منه، وأنا على دراية بخطواته المترنِّحة على إثر سكره.
فلو وجدته، سأصرخ خلفه قائلاً: «أيُّها العمّ «فوكنر»، هأنذا!»

هوامش:

تَمَّ تضمين هذا المقال كتاب «راوي القصص» بـ (المجموعة الكاملة لخطابات مويان)
المصدر:
https://mp.weixin.qq.com/s/3KjMaF6Tc7M6CH-Bv65f8w